كتب واصدارات

فرات المحسن: "هارب من الإعدام".. ذاكرة شيوعي بين الموصل وموسكو

من ضمن إصدارات مكتبة النهضة العربية صدر في بغداد كتاب بعنوان "هارب من الإعدام" بالقطع الكبير وبعدد صفحات بلغت 437 وزعت على خمسة فصول ومجموعة من الصور التوثيقية. قدم للكتاب بمقدمة وشرح مسهب المرحوم الدكتور كاظم حبيب.

الكتاب بفصوله الخمسة، سفر مفعم بالحيوية والغنى المعرفي والمعلومة القيمة.

يحتوي الكتاب على سيرة ذاتية للدكتور خليل عبد العزيز، ومن خلال هذه السيرة، يوثق الدكتور خليل بذاكرته الحية اليقظة الكثير من الأحداث. حيث نشأ في الموصل وعاصر منذ طفولته الكثير من وقائع جرت على أديم أرض تلك المدينة المعطاء. وقادته مشاركاته في تلك الأحداث إلى حافة الإعدام بعد أن كان واحدا من قادة الحركة المضادة لمؤامرة العقيد الشواف،مما اضطر الحزب الشيوعي لاتخاذ قرار بتهريبه إلى موسكو ، لتبدأ برحلته تلك فصول مرحلة جديدة بالغة الأهمية مليئة بالأحداث والصراعات والتقاطعات، حيث ابتدأت بتوتر العلاقة مع حزبه بسبب عناده وعصاميته ورغبته بالدراسة في موقع غير ما اختاره الحزب له.

خلال وجوده في الاتحاد السوفيتي عاصر الدكتور خليل أغلب قيادات الحزب الشيوعي العراقي ورافقهم في الكثير من مراحل وجودهم هناك على عهد الشهيد سلام عادل ومن ثم الرفيق عزيز محمد وباقي قيادة وكوادر ح ش ع.

أكمل الدراسة في كلية الصحافة وعمل خلال تلك الفترة في الصحافة السوفيتية مثل صحيفة برافدا ووكالة أنباء نوفوستي وغيرهما. ومن ثم توجه إلى القاهرة للإعداد لشهادة الدكتوراه في أطروحة عن الصحافة المصرية. وخلال تلك الفترة أقام علاقات كثيرة سمحت له بالاطلاع على وقائع الأحداث والخلافات التي شابت علاقات القوى السياسية هناك ومن بعضها الضغوط التي تعرض لها الحزب الشيوعي المصري خلال فترة تشكيل الاتحاد الاشتراكي، ليعود بعدها إلى موسكو .

نيله الدكتوراه أهله ليكون موظفا في واحد من أهم مراكز البحث والقرار في موسكو. فقد نال إعجاب بابا جان غفوروف الرئيس التنفيذي لمعهد الاستشراق، الذي وجد في الدكتور عبد العزيز سمات جيدة وتفكير سليم إضافة للنشاط والجدية ،والتي تؤهله ليكون موظفا في المعهد. ويعد هذا المعهد على عهد السوفيتات أحد أهم مراكز الاستشارة والدراسات ذات التأثير الفاعل فيما تتخذه السلطة السوفيتية من قرارات . ومن خلال مركزه في معهد الاستشراق استطاع الدكتور عبد العزيز الحصول على كم هائل من المعلومة والاطلاع على أسرار وخفايا السياسة السوفيتية والعلاقات الدولية.فكان شاهدا حيا على الكثير من الوقائع والمباحثات وشارك بالعديد من النقاشات والبحوث التي كانت تعد أو تطرح في عموم المقابلات واللقاءات والدراسات داخل البعض من أروقة السلطة السوفيتية أو في اللقاءات بين الحزب الشيوعي السوفيتي وباقي الأحزاب العربية وغير العربية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العراقي.

وبسبب قدراته واجتهاده وحيويته، اقترب كثيرا من شخصيات سياسية سوفيتية ودولية، وسنحت له الفرصة اللقاء بهم ومحاورتهم لغرض التحقيقات الصحفية أو لغرض إجراء حوارات شخصية .ورافق العديد منهم، وبات شاهدا على الكثير من الحوادث والأسرار الخاصة بتلك الشخصيات

وصل الدكتور خليل عبد العزيز إلى موسكو على عهد قيادة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي نيكيتا خروتشوف وعاصر أيضا قيادة ليونيد برجنيف ومن ثم يوري أندروبوف وقسطنطين تشيرينتكو وأخيرا ميخائيل غرباتشوف. ولم تنقطع علاقته بموسكو حتى بعد خروجه منها وذهابه إلى اليمن الديمقراطي كمستشار للأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني عبد الفتاح إسماعيل، ثم خروجه من اليمن بعد الأحداث الكبيرة التي حدثت هناك وسفره إلى ألمانيا الديمقراطية ثم وصوله إلى السويد.

كان عهد السوفيتات عهدا له طابعه وسماته الخاصة. فكان ذلك الكيان القوي باشراقاته وجاذبيته يتمتع بمكانة كبيرة عند الملايين من البشر في جميع أنحاء الكون، وكان تأثيره شديدا لدرجة استحوذ على العقول والأفئدة، وصل في بعضها حد القدسية، وبات ينظر له كقوة ولدت لتكون المنقذ والمخلص للبشرية من لوثات لطخت وجه العالم جراء ما أحدثته حروب الرأسمالية من بشاعات. وبات الطريق الاشتراكي الذي سلكه الاتحاد السوفيتي يستهوي شعوبا بكاملها، وعممت صور باذخة عن حياة الرخاء والسعادة والطمأنينة التي تغمر حياة شعوبه ودوله، الممتدة على رقعة كانت تستحوذ على ما يقارب سدس المساحة الإجمالية للكرة الأرضية. وكانت رسالته إلى العالم تحث على تحولات عظيمة في الحياة الروحية والاجتماعية والاقتصادية لعموم البشرية، رسالة الاشتراكية بتطبيق النموذج اللينيني للماركسية . استمر هذا الكيان العظيم يرفد البشرية بالعديد من الابتكارات والأفكار والتقنيات، ويقدم الدعم والتأييد للكثير من الدول وحركات التحرر الوطني وقواها السياسية.

ولم يفت الدكتور خليل عبد العزيز أن يؤشر ويكشف في كتابه (هارب من الإعدام) العديد من الظواهر التي واجهها خلال وجوده هناك، فتطرق لطبيعة الدراسة في الجامعات وما حوت من وقائع بعضها كان يبدو سلبيا وغير منطقي. أيضا تحدث عن مجريات ودراسات وبحوث ووقائع عمل في معهد الاستشراق. وتناول أيضا الإعلام والصحافة السوفيتية ،كذلك سياسة ح ش سوفيتي وعلاقته بالأحزاب الشيوعية العربية ، ومآل شعار الصداقة بين الشعوب الذي طرحه لينين بداية الثورة البلشفية،وعن الإنتاج الصناعي والزراعي ومشاكله، والانهيار الذي تعرض له اقتصاد الاتحاد جراء التلاعب والسرقات والتمويه والبيروقراطية، وأبدى رأيه في أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي وسلط الضوء على الكثير من الوقائع السياسية فاضحا اسبابها وأيضا من خلالها العديد من المواقف والسياسات الخاطئة التي كانت تنخر في عمق الاتحاد وتدفع به نحو الهاوية.

أشر الدكتور عبد العزيز في كتابه بصدق وقوة ما كان يعتري الاتحاد السوفيتي من علل ومشاكل منها البيروقراطية والفساد والانتهازية والصراع داخل القيادات على المناصب والاستحواذ على المال العام وغيرها من الخطايا والموبقات. ومثل هذه المساوئ جرفت بعيدا نحو الخلف القيم الخلاقة لروح الشيوعية والمبادئ التي سبق وتبناها الحزب الشيوعي ورسختها الدولة في بداية النشوء، ومن خلال دستور ومواثيق الاتحاد.

تلك التشوهات أدت في النهاية إلى سيطرة امن الدولة  KGB على مقدرات الاتحاد وبات هذا الجهاز السياسي والأمني، الحاكم والقائد الفعلي لمفاصل الدولة، بل أصبح يتدخل بشكل سافر في أدق تفاصيل الحياة العامة والخاصة لأفراد الشعوب الاتحادية. ومع كل هذه التحولات أصبح نظام الحكم قمعيا كابحا للحريات. ووفق راية وشعار دكتاتورية البروليتاريا حسم أمر الحياة السياسية بغلق جميع المنافذ بوجه أي معارضة أو ترويج لأفكار. وأبعد وغيب الكثير من المعترضين أصحاب الأصوات التي كانت تفصح عن آرائها أو تطالب بالإصلاح وتنتقد بعض السياسات.

كل تلك العيوب والإخفاقات قادت في النهاية إلى الزلزال الذي هز العالم وليس فقط الاتحاد السوفيتي، حيث انهار البناء وانفرطت تلك الكتلة التي شيدت على أسس الفكر والروابط الاشتراكية الشيوعية .ومع انهياره تبدلت الكثير من قواعد وعقد السياسة في العلاقات الدولية .

كتاب هارب من الإعدام سجل حي لذاكرة الشيوعي المخضرم الدكتور خليل عبد العزيز، يمثل إضافة نوعية مهمة ورائدة للمكتبة العربية، وسفر مشوق يوثق واحدة من أهم مفاصل تاريخ ليس فقط الاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية وإنما يلج ويغربل البعض من العلاقات الدولية ومجرياتها بأبعادها الغريبة والحيوية والصادمة أيضا.

***

فرات المحسن

في المثقف اليوم