شهادات ومذكرات

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي (2-27)

لطيف عبد سالمفِي نهاية عام 2017م، وَعَلَى هامش حضور السَماويّ يحيى مهرجان النور الثامن للإبداع الَّذِي أقامته مؤسسة "النور" للثقافة والإعلام فِي مدينة مالمو السويدية وحمل اسْمه " دورة الشاعر الكبير يحيى السماوي "، نظم لَه تيار الديمقراطيين العراقيين فِي الدنمارك أمسية ثقافية فِي " بيت النخلة " بكوبنهاجن، وقد استثمر الكاتب وَالصحفي العراقي الرائد رعد اليوسف المقيم فِي الدنمارك، وَالمشرف على " شبكة الإعلام فِي الدنمارك " فرصة وجود السَماويّ يحيى هناك، فأجرى مَعه حواراً نشر بشبكة الإعلام فِي الدنمارك ومجلة الف باء وجريدة المشرق. وقد وجدت مِن المناسب أنْ أقتطف مِنْ مقدمته ما أعده شهادة لليوسف فِي السَماويّ، وَالَّتِي نصها " لم يهرب من الطرقات، ولَم يتخلّ عن الارصفة والحارات وبساتين السماوة ونخيلها.. ولم يترك بغداد ومقاهيها وأحباءه فيها؛ فهو الوفي الذي طالما سجل وفاءه في قصائده شعرا، ونسجه في علاقاته واقعا ". وَيضيف اليوسف فِي مقدمته أيضاً " القسر غير الاختيار، وفِي لجة الغرق وجد نفسه مضطرا لقبول النجدة من زورق عابر يقيه شر الموت، فركب بعد أن حملَ الوطن .. كل الوطن في قلب بحجم قبضة اليد، ليكون له الفضاء الذي تسبح فيه روحه اللائبة في غربةٍ لم تعتد عليها...انه الشاعر العراقي الكبير الاستاذ يحيى السماوي الذي قطع البحار ليلتقي أصدقاءه وشركاءه في الغربة وحب الوطن، في مالمو السويدية قادما من استراليا؛ ليتلو بشيء من القداسة بعض قصائد الحب والجمال، وليصب جام غضبه وسخطه على الذين حطموا الأمل في العراق ". وَفِي السياق ذاته يشير الدكتور ابراهيم الخزعلي إلى شخصية السَماويّ يحيى بالقول " تحية لنبضات قلبك التي لم ارها يوماً، إلاّ شعراً ومحبة وجمالاً سماويا، يحيى الأنسان الخلاق، ويحيى الأنسان المبادئ والقيم والمثل العليا، فتحية وسلاماً لك من قلب انت فيه ". وَعَنْ انبهاره بإحدى قصائد السَماويّ الموسومة " ثلاثة أرغفة من طحين النبض "، يخاطبه الدكتور جودت صالح بالقول " لقد أنعشتني رائحة أرغفتك الشهية، ولكنها لم تشبعني أبداً ". وتدعيماً لما ذكره اليوسف، يصفه الناقد المسرحي نعمة السوداني بالقول " السَماوي رجل ثائر مناضل, يحلق بلغته بأجنحة قوية في عالم الواقع والنضال في الدفاع عن كل شيء يراه يستحق, في عالم الشعر واللغة, يحلق في اللامحدود وهو العليم المكين في ادواته حيث لا يقيده شيء اطلاقا سوى الهواجس التي تؤلمه ويتفاعل معها لينتج لنا ما ينتج من كلمات تحمل فسحة من الاستعارات الشعرية في نصوصه أو لوحاته الشعرية وتستقر اخيراً في قلوبنا ". وَعَن أبويته وَجمال روحه تقول الأديبة عبير آل رفيع " من يوم فقدي أبي لم أجد إنسانا اقول له أبي ..لأنني لا أرى أحدا يشبهه، وفجأة وأنا اقرأ كلماتك أحسست بشعور جارف يدفعني لأناديك بأبي؛ ليس لكبر سنك، بل لروح الأب لكل الموجودين، وفي حضرة أبي واستاذي يحيى السماوي تتقيد حروفي ويستسلم القلم لأنه لا يجد ما يسطره أمامك، حفظك الله ورعاك أبي واستاذي الفاضل يحيى السماوي ". وَمَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ كُلّ الذي سجلته مِنْ شهاداتٍ ليس بوسعِها انصاف السَماويّ يحيى الَّذِي خاطب ذات منفى صديقه الحميم الأديب حمودي الكناني مبيناً محبته لَه قدر إعجابه بمقولةِ صديق كتب الى صديقه ذات زمان قائلاً : " إذا كنت ستعيش مئة عام، فإنني أتمنى أن أعيش مئة عام تنقص يوما واحداً؛ كي لا أضطر للعيش بدونك "

لـكِ الألـقُ الـبـهـيُّ ولـيْ الـظِـلالُ

فـنـحـنُ مـعــاً صَـلاةٌ وابــتـهــالُ

*

ونـحـنُ إذانُ مِـئـذنـةٍ تــمـاهـى

بهـا قـلــبــاً وأحـداقـاً " بـِـلالُ "

*

بَـلـغـتُ مـن الـنـدامَـةِ أنَّ قــلـبـي

بـهِ مـن صـخــرِ مـنـدمـةٍ جـبـالُ

*

تـبـاعَـدْنـا فـصـرتُ الـى مـحـاقٍ

وعـدتِ إلـيَّ فـاكـتـمـلَ الـهــلالُ

***

رسالة مقتضبة بعثتها بالمِرْسال الإلكتروني " ماسنجر " إلى الشاعر العراقي الدكتور أفضل فاضل المقيم فِي أستراليا نصها : " سيدي الكريم، وقد طال انتظاري لوصول شهادتكم الكريمة بخصوص الأستاذ يحيى السَماويّ، أملي أنْ تشرفني بمداد قلمك عَن السَماويّ إنساناً مَعَ فائق احترامي "؛ ظناً منيّ أني قد رجوته سابقاً التفضل بتسجيل شهادته فِي الشاعر السَماويّ، فما كان مِنه إلا التعبير عَنْ دماثة خلقه واحترامه لقدسية القلم وَفضاء الأدب؛ إذ اجابني بعد خمسة عشر دقيقة فقط بِما نصه " اهلًا بك استاذي الفاضل، سأفعل بأقرب وقت وتقبل شديد اعتذاري "، مَعَ العرض أنَّ الشخص المكلف سابقاً بهَذِه المهمة، وَالَّذِي لا أرى ضرورة لذكر اسْمه، لَمْ يجبني حتى اللحظة عَلَى الرغمِ مِنْ وعده بتلبية مَا مطلوب خلال أيام. وَفِي وقت تتسابق الكلمات وتتزاحم العبارات لتنظم عقد الشكر وَالامتنان إلى الدكتور أفضل فاضل الَّذِي بعث ليّ بعد يومين رسالة رقيقة كتب فِي مقدمتها " استاذي الكريم إليك هذه السطور كتبتها بجرة قلم واحدة .. هذه شهادتي عن الكبير يحيى السماوي تقبل تقديري واحترامي ". وَأسجل تالياً شهادة فاضل فِي السَماويّ يحيى الموسومة هكذا تكلم صوفائيل " طِرْ بهِ، للسماوة ....! "، وَالَّتِي نصها فِي ما مبين تالياً :

( لاينضج من الثمار، ويبقى، كتلك التي لا تطالها يد، المشرئبّة نحو الشمس، المسفرة فوق غصنها في وجه الريح والضوء ...

صوفائيل يعرف أنَّ الوَجد موقد، فما اقتبس نارا من موقد غيره، صوفائيل يصطلي ناراً فيوقدُ أصابعهُ العشرة ليُنيرَ ظلمة البياض فوق أوراقه الناصعة .

وهكذا كان، صوفائيلُ السماوة، يكتبُ على الأرض عن القبر فيومض البرق في السماء. كلّما أكثرَ من الشعر زاد مَهيلُ الغمام ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله، أقصد من خلال صوفائيل لا الغمام ...

صوفائيل السماوة قديم الحزن، عتيقُهُ، تخمّرَ قلبه طويلاً في نقيع الأيام الظالمة ... هطلت على روحه عصور من الألم وتمرَّغ جسدهُ في أصقاع شاسعة من التعذيب والاغتراب والفَقد الممضّ حزناً وجورا .. هو يرفلُ بإزارٍ من وهجٍ ترصّعهُ الكلمات، لا رفاهيّة لديه غير هذا القلب الطيب الذي يشي بسومريٍّ قديم تناسلَ صنواً لنخل السماوة، وها هو يعذق محبّةً وخيراً وشعرا ...

لتعرفَ صوفائيل، ليس عليك أن تجلس معه، وليس من الضرورة أن تستمع إليه، عليك فقط، حين تراه أن تنظر بقلبك ... هو بسيط، مثل دورة المطر في الطبيعة، تماماً؛ مُفَسَّرٌ مثل تراتيل مقدَّسة، وواضح مثل حقل في ربيع؛ وهو كثير، كثيرّ جداً، روحه أخاديد تملؤها الحكايا، عن السكارى والعيّارين والحالمين والموهومين والماضين، وحتى الآتين !

صوفائيل هذا، من السماوة، سومريٌّ ضلَّ عن ( أور )، وما وصل الى ( أكد ) ، ولا حتّى ( سومر )، بل وصل إلينا، فاعْتُقلَ، وعُذِّبَ، وطُردَ، واغترَبَ، وصار أوَّل سومريٍّ يصل أقصى الأرض، بعيداً عن سومر، وسيكون الأخير ...

في شعره، وهو يكتب عن الحياة والموت والقبر والصبابات، طعمُ البلَح؛ ونخيل، يمخر شوارعاً من ماء؛ في شعره، وهو يدوّن اللوعة أمام جبروت الرحيل، لآلئ، تكنُّ عصوراً من أسىً شفيف، يتكوّر مثل مُضغات أجنّة تشعر بالبرد، أو مثلما كان يتكوّر هو في ليالي سجنه الباردات على نفسه ... لا دفء لصوفائيل إلا من حناياه !

أتمتع الى حدّ السُكر حين أقرأ قصيدة صوفية ليحيى السماوي؛ أقصد صوفائيل ......!

فمرحى لهُ ولي، بمعرفته ورفقته وشعره .....)

شـفـيـعـي لـو جَـنـحـتُ عـن الـصَّـوابِ :

جــنــونُ الــشــوقِ لا نَــزَقُ الــشـــبـابِ

*

مَـحَـضـتُـكِ فـي الـهـوى قـلـبـاً وعــيـنـاً

وحـرفــاً ـ فـي الــصَّـبـابـةِ ـ لا يُـحـابـي

*

أنـامُ عــلــى ســـريــرٍ مــــــــن هـــيــامٍ

وبـيْ شــوقُ الـضـريـرِ الــــى الـشِـهـابِ

*

لــئــنْ أنـجـيْــتِــنـي مـن جَـمــرِ يـومـي

لأغــدوَ كــالــصَّــلاةِ مــــــــن الــثــوابِ

أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ مفهومَ الوطن يرتبط بذاكرة الأماكن الَّتِي تسكن وجدان الانسان، مَا يعني أَنَّ الحنينَ إلى الأمكنة يُعَدُّ حنيناً لأشخاص ارتبطتْ بهم ذاكرة السَماويّ الَّتِي أتعبتها سنوات المحنة؛ الأمر الَّذِي ألزمني البحث عَما متاح مِنْ تلك الأسماء اللامعة فِي سماء الأدب، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَها الشاعر العراقي ناظم الصرخي الَّذِي يقول فِي شهادته مَا نصه " بداية تعرفي على الشاعر الكبير الأستاذ يحيى السماوي كانت في أحد مهرجانات الجامعة المستنصرية الشعرية في السبعينيات الميلادية، وكان قد ظُلم من قبل لجنة التحكيم لوضع قصيدته وهي من شعر التفعيلة بالمركز الثاني مع العلم أنها نالت إعجاب جميع الحضور وتستحق المركز الأول، لكنّ اللجنة ارتأت غير ذلك لسببين، أولهما أن القصيدة كانت ذا منحىً سياسي يساري، وثانيهما أن السماوي كان قد قدّم الى لجنة فحص النصوص قصيدة غزلية، لكنه قرأ قصيدة أخرى مختلفة تماماً، إلا أن تحيّز لجنة الحكام كان واضحًا، على إثرها استشاط غضبًا وهمّ بالخروج من القاعة الغاصة بمحبي الشعر، فاعترضته وأتذكر قولي له: لا عليك فلقد حصلت على إعجاب كلّ الحاضرين. وبعد ذلك تابعت نصوصه المنشورة في المجلات والجرائد، وتسير عجلة الزمن إلى بداية الثمانينيات لألتقيه في مدينة البصرة إبّان الحرب العراقية الإيرانية، كنت حينها ضابطاً في إحدى الوحدات، وقد وصلت إلينا وجبة من الجنود الاحتياط، وكان الأستاذ يحيى من ضمنها، وعند التدقيق لسحب أصحاب الحرف والمهارات التي تستفيد منها الوحدة وإرسال الباقين إلى الخطوط الأمامية، لمحت وجهه الغائم آنذاك وأيقنت أن هذا الوجه ليس غريبًا على ذاكرتي، فقلت له ما هو اختصاصك، فقال أنا مدرس خريج كلية الآداب، فقلت له ألست الشاعر ...، قال نعم ...أتذكر أنه ارتبك قليلاً وكأنه يقول في نفسه : حتى إلى هنا تبعتني البلاوي، فعينته في مكتب الوحدة، وكان نِعمَ ما اخترت؛ إذ كان دمث الخُلُق، نزيها، جاداً في عمله ومثابرا، حيث أضاف للمكتب قفزة نوعية في التنظيم والإدارة. وقد كان لخفة ظله وثقافته وأخلاقه العالية وتعاونه الأثر البالغ في التفاف منتسبي الوحدة حوله، فتقرّب أكثر إلى قلبي، ولاسيما أنّ رابطًاً سامياً كان يعزز هذا التقارب وهو محبة الشعر المشتركة، فكثيرا ما كنا نجلس سوية لمناقشة قصيدة أو قطعة أو يقوم بإبداء الملاحظات على قصيدة كتبتها، وقد استفدت كثيراً من وجوده في مجال الأدب وخاصة الشعر. كان حسن السيرة والسلوك ولا تشوبه شائبة، هذا ما كنت أكتبه عندما يُطلب مني تقييمه للمراجع العليا وهو كان كذلك، رجلٌ ملتزم بالقانون ثائرٌ على الباطل، أحمد الله أني التقيته في زياراته للعراق بعد الاحتلال المقيت وكان نعم الأخ والصديق الصدوق ". وَبالعودة إلى أيامِ امتهانه التدريس فِي مدينة السَماوة، وجدت مِن المهمِ الاطلاع عَلَى مَا تكتنزه ذاكرة أحد طلبته فِي المرحلة الثانوية وَصديقه حالياً الشاعر العراقي قاسم والي؛ لكي يدلي بدلوه فِي هذه المهمة، فبادرت إلى الاتصال بِه لِهَذَا الغرض، فكان ودوداً وَرائعا وَفرحاً بما رجوت منه؛ إذ بعث ليّ بعد أيام قليلة بشهادته فِي السَماويّ يحيى الَّتِي نصها " يحيى السماوي الشاعر الذي ملأ بالسماوة الآفاق، والشاعر الذي منحته السماوة اسمه فمنحها فخرها.. اكتب هذه الكلمات ليس لأنني من السماوة ذاتها؛ وليس لان يحيى السماوي أستاذ العربية الذي تتلمذت عليه في مقتبل الوعي والشعر؛ بل لأنني منحاز تماماً للسماوي يحيى، ولست هنا لأبرر انحيازي له شاعراً وإنسانا؛ فالسماوي الشاعر الذي أنجز عشرات المجاميع الشعرية منذ عيناك دنيا وهو في مقتبل الشعر والعمر لغاية اطفئيني بنارك مرورا بهذه خيمتي فاين الوطن ونقوش على جذع نخلة وشاهدة قبر من رخام الكلمات وضفتان ولا جسر وغيرهن من مجاميعه الشعرية، كان ملتزما بقضية الإنسان والعراق ومحارباً عنيداً للفاشية ومنحازاً للكادحين والمظلومين ومنساقاً مع هواجس ملهميه من الشعراء الثوار الفقراء منذ عروة بن الورد. ومع كل المحمولات الفكرية والعقائدية في شعر السماوي وكل الصدق والثبات المبدئي الذي هو عليه، لم ينحرف الشعر عنده باتجاه التقريرية الفجة أو المباشرة الهجينة، بل إنه في طليعة المجيدين من شعراء العربية المعاصرين في المباني والمعاني مع جزالة مذهلة وجمال يأخذ بالألباب.. لست في وارد الحديث عن شعر السماوي الكبير فلست مؤهلاً لذلك ولا املك ادوات النقد والحديث عن التجربة وغيري من عشرات المتخصصين اغنوني وأغنوا المكتبة العربية، بل ومكتبات العالم بالحديث عن شعريته المذهلة وتجربته الفريدة. لقد كتب السماوي في كل الأغراض الشعرية واستوفاها محلقاً، كما كان شعره من الناحية الشكلانية مسبوكاً بكل الأنساق البنائية المعروفة للشعر العربي كتب عمود الشعر والشعر الحر- قصيدة النثر- والتفعيلة وأجاد فيها جميعها أيّما اجادة. ومن الرائع أن تجربة يحيى ألسماوي ما زالت متواصلة، ونسأل الله أن نستمتع بها وتستمتع بها الأجيال اللاحقة ...محبة بسعة المحبة التي يحملها قلب السماوي الكبير له وللعزيز لطيف عبد سالم الذي طلب مني أن أكتب بضعة سطور عن السماوي يحيى أطال الله عمره.. شكراً كثيرا ".

بـربــيـعِ مـائِـكِ لا خـريــفِ تــرابي

نـسَـجَــتْ لـيَ الأيـامُ ثــوبَ شَــبـابِ

*

ودَّعـتْ أمـسي في السـمـاوةِ فـابْـتـلى

يــومـي بِــداءِ الــشــوقِ لــلأحــبــابِ

*

تـذكـو بـأشــذى الأغـنـيـاتِ ربـابـتـي

ويـبـلُّ طـيـنَ فــمـي رحـيـقُ رضـابِ

*

لـم يـبـقَ في الـقـنـديـلِ غـيـرُ حـثالـةٍ

مـن زَيْــتِ أيــامٍ وومْــضِ شِــهــابِ

**

عَلَى الرغمِ مِنْ زحمة أشغاله الَّتِي أدركها جيداً، وجدت أنَّ الإعلاميّ العراقي والصحفي الرائد أسعد كامل رئيس تحرير شبكة الإعلام في الدنمارك قد أبدى حماسة وهو يرحب برجائي كتابة شهادته فِي السَماويّ يحيى، مُردداً في أثناء حديثي معه بالهاتف أنَّ السَماويَّ لم يكن شخصاً عادياً، فهو يتمتع بكاريزما مشهودة، ثم مَا لبث أنْ بعث ليّ بشهادةٍ وسمها بـ " السماوي .. الانسان والشاعر ". وَالْمُلْفِتُ أَنَّ كامل اعتمد أسلوباً مستمداً مِنْ خبرة فنية واسعة فِي التصوير والمونتاج فِي تسجيلِ تلك الشهادة، وَالَّتِي بدأها بتوطئة قال فِيها " عندما تفكر أن تكتب عن شاعر وكاتب مبدع ذي شهرة واسعة، تخطر في بالك بداية فقرات متباينة مصورة من نواحِ عدة أهمها الإنسانية والوطنية والوجدانية والاجتماعية والإبداعية والفنية. ويقيناً أنَّ المجالَ في هذه الدراسة لا يتسع لتناول كل تلك الصور والكتابة عنها، حيث أنَّ بوسعكَ أنْ تأخذ جانباً من تلك الصور؛ نتيجة حاجة كل صورة لبحث مفصل أو بحوث موسعة تتعلق بشاعرية الشاعر السماوي، الأمر الَّذِي ألزمني الحديث عما لمسته من إنسانيته ولو بشكل موجز، آملاً أنْ اقترب في هذه السطور من حقيقته كشاعر وإنسان مع علمي إنَّ ذلك صعب المنال ". ويضيف كامل قائلاً " التقيت الشاعر يحيى السماوي مرتين في السويد والدانمارك، وحضرت له مهرجانا شعريا، وسمعت قصائده وهو يلقيها على المنصة في السويد أواخر عام 2017 م، فهيمن على المشهد بشاعريته وعظيم اخلاقه وطيبته، فالسماوي يتمتع بدماثة خلق رفيع، اقترنت برفعة مستوى عطائه في الشعر ". ويستمر كامل فِي شهادته بِمَا نصه " السماوي حلق في سماء الابداع والتميز منذ صباه وشبابه؛ اذ استطاع ان يجسد موهبته بطريقة لفتت الانتباه من حيث القدرة في رسم صور شعرية إنسانية - ببراعة وفن نادر - شكلت الانطلاقة الرصينة التي حققت له نجاحات عظيمة طوال رحلته مع الشعر في الوطن والغربة... هكذا قرأناه إنساناً وشاعراً راقيا، فقصائده مليئة بالحب ومتميزة بالحان وفن وروحية عظيمة تدعو الى الحب والحياة، وتحارب الفساد والظلم ". ويختم كامل حديثه بالقول " إنسانية السماوي تعبر عن معدن أصله وأصالته؛ إذ يعد نموذجاً حضارياً وإنسانياً راقيا، فهو إنسان متواضع يترك اثراً في قلب من يلتقيه، وفي كل محفل تجد له مساحة كبيرة من المعجبين؛ لأنه يلامس قلوب الجميع بما يكتب ويعالج من قضايا كثيرة في قصائده التي تحمل العبر والمواعظ والتفكير في هذه الحياة التي لن تدوم لأحد ".

بـاتَ الـمُـغــنّـي يَــتــيـمَ الـصـوتِ والـوَتَـرِ

كــيــف الـغــنــاءُ إذا الأوتـارُ مـن حَـجَــرِ ؟

*

أضـحـى يُــنـادمُـهُ صــمــتٌ ويُــؤنِــسُــهُ

مـا كـان يَـكـنـزُ فـي الأحـداقِ مـن صُـوَرِ

*

تــلـهــو بــزورقِـهِ ريــحٌ تُــشِــبُّ لـــظـىً

وقــد تــقــادَمَ عــهــدُ الـحـقـلِ بــالــمــطــرِ

*

لـيـتَ "الـسماوةَ" بُـعْـدَ الـشـمسِ عـن مُـقـلـي

لا بُـعـدَ قـلـبي ومَنْ في الـقـلـبِ عـن نظري

***

شهادةٌ ترقى لمستوى الدراسة التاريخية، أعدها الباحث وَالمفكر الإسلامي الدكتور صالح الطائي؛ مستجيباً فِيهَا لرجائي محاولة نبش الماضي الَّذِي جمعه بالسَماويّ يحيى، وَمَا يحمله مِنْ الذكريات بحلوها وَمرّهَا، بعد أنْ لمست مِن السَماويّ ذات متنبي قُوَّة آصِرَة الصداقة القديمة المعقودة بينهما عَلَى الرغمِ مِن تباين توجهاتهما وانتماءاتهما الفكرية، وَالَّتِي فرضت عَليه خلال زيارته البلاد عام 2017م، تأجيل موعد عودته إلى عائلته فِي أستراليا الَّتِي كانت تلح فِي طلب عودته، بالإضافةِ إلى إلغاء بعض نشاطاته الثقافية؛ لأجل تحقيق اللقاء بصديقه الحميم الطائي فِي منزله بمحافظة واسط.

الطائي الَّذِي كتب ذات مرة عَنْ السَماويّ يحيى واصفاً إياه بالقول " صديق العمر الرائع وزميل أيام الفرح والشباب الذي أنجز شموس فرح أشرقت في دنيانا بالرغم من حالة اليأس والغربة والعذاب التي عاشها منذ مرحلة وعيه الأولى وإلى اليوم "، يشير فِي مقدمةِ دراسته المذكورة آنفاً، وَالموسومة " تجربة الصداقة مع يحيى السماوي ذكريات من ألق الشباب "، إلى الْهَوَاجِس الَّتِي ألقت بظلالها عَلَى حياته، وكانت تؤرقه أثناء انتظامه فِي مرحلة الدراسة الجامعية، فضلاً عَنْ ظروف تعرفه عَلَى السَماويّ يحيى بالقول : " انتقلت من إحدى مدارس مدينة الكاظمية إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية الدراسات المسائية في بداية العقد السابع من القرن الماضي، كان عنفوان الشباب المنضبط بمنظومة القيم الدينية التي تشبعنا بها محركنا الأكبر مثل أي شاب ينتقل من مدينة دينية شبه مغلقة إلى عالم رحب متنوع مفتوح ومتفتح. وقد انتقلت معي إضبارتي الأمنية، لأصبح تحت رقابة الأمن الصدامي والاتحاد الوطني البعثي لطلبة العراق؛ لذا كنت حذراً في تعاملاتي، محدود العلاقة بالآخرين، متجنباً الاحتكاك، وبعيدا عن العلاقات الاجتماعية مع الطلاب والطالبات، ولكن أحد الشباب كان يحمل قسمات الطيبة الجنوبية والملامح الأوربية أخذ بتلابيب قلبي وشدني إليه، كان شاباً نحيفاً لون شعره يميل إلى الصفرة، عيونه ملونة ويرتدي بذلة لطيفة ويتكلم بهدوء شديد ولطف كبير، فتجاوزت كل المحذورات وكل الخطوط الأمنية الحمراء، لأعقد معه صداقة من نوع خاص ". وَيسترسل الطائي فِي حديثه مبيناً بعض خفايا المحنة الوطنية الَّتِي باتت مِنْ مواجع الأمس القريب البعيد، وَالَّتِي تلزم البيت الثقافي الشروع بتوثيق أحداثها بِكُلّ أمانة؛ لأجلِ أنْ تطلع الأجيال الجديدة عَلَى مَا يكتنزه زمن العذابات مِنْ همومٍ متزاحمة الصور، حيث يشير الطائي إلى تلك الحقبة بأمانة الراصد لبعض تداعيات وقائعها بالقول: " كانت ممرات المستنصرية ومساءاتها الحميمة والمليئة بالترقب تجمعنا سوية لنتناول الحديث عن هموم الشباب وهموم الأمة، وكانت عيون البعثيين ورجال أمنهم ترصدنا كأنها عيون ذئاب جائعة، وتحتار في أمرنا حيرة لا تطاق، حيرة أقلقتهم وأقضت مضاجعهم، إذ كيف يلتقي حامل الفكر الديني الذي من المفروض به أن يكون عدواً لكل ما لا يمت إلى عقيدته الدينية بصلة بحامل الفكر الماركسي، والذي يتهيب عادة من الفكر الديني بعد المواقف التي اتخذتها المؤسسة الدينية ضد الشيوعية، فأي صداقة تلك التي تجمع بين إسلامي مطلوب للأمن ومراقب من قبل الأجهزة الأمنية والطلابية، وشيوعي مشخص ومراقب أيضاً من قبل الأجهزة ذاتها ؟ّ! ". وَينتقل الطائي فِي متنِ شهادته إلى تبيان السر الناظم لصداقتهما المبهرة، وَالَّتِي أكاد أجزم بأنَّ صفاتها ترقى الى مستوى طهارة القلوب المفعمة بالمروءة وَالمودة وَنقاء السريرة، حيث يؤكد الطائي قائلاً " إن أدب واتزان وعقلانية وتميز يحيى عن باقي الطلاب لم تكن وحدها العوامل التي مهدت لي طريق الالتقاء به، فتلك المواصفات الرائعة كانت تخفي وراءها سرا لم يكن يحيى يرغب البوح به، ولكنه اطمأن إلي وباح به أمامي، السر أن يحيى كان يقول الشعر، وله ديوان مطبوع، ولذا فاجأني في اليوم التالي، بأن أهداني ديوانه الرائع - عيناك دنيا - الذي كان من خلال قصائده يتغزل بالسماوة وأهلها. وهنا وجد الحديث عن الشعر حيزا ضمن حواراتنا اليومية، وربما كان هو الشيء الوحيد الذي نتحدث عنه بصوت مسموع لنوهم الرقباء بأننا لا نهتم بغير الشعر ".

أيـن شـطـآنـكِ مـنـي ؟

جـئـتُـكِ الـلـيـلـةَ عـصـفـوراً طـريـدَ الـرَّوضِ

مـهـدورَ الـمـواويـلِ

افـتـحـي عـشَّـكِ لـلـقـادم مـن كـهـفِ الـمـراثـي ...

مَـرَّ دهـرٌ

ومُـغَـنِّـيـكِ حـبـيـسَ الـعـطـشِ الـوحـشـيِّ

لا الـيـنـبـوعُ يـرويـهِ

ولا كـأسُ نـمـيـرٍ ومُـدامْ

*

لعلَّ المذهلَ فِي أمرِ صداقتهما أَنَّ السَماويّ - الموضوع تحت المراقبة السرية - ألزمته الظروف التحول داخل فضاء الجامعة   المستنصرية إلى رَقِـيب لِصاحِـبِه. وَعَنْ هَذِه الحقيقة أكدها ليّ السَماوي أيضاً يقول الطائي : " مساءات المستنصرية كانت تأخذنا أحياناً إلى مكان يكاد يكون خافيا عن أعين الرقباء، اتخذته مصلى، أؤدي فيه فرض المغرب، وكان يحيى السماوي يأخذ دور الحارس بعيداً عني يرقب تحركاتهم فإذا شعر بالخطر تنحنح لُيسمعني ويحذرني؛ فأقطع صلاتي وأخرج دون أن ألفت انتباههم. والظاهر أن هذا النوع من العبادة كان يمتاز بألق روحي غامر فلقد افتقدته بعد مفارقة يحيى، ولم أشعر به إلا أثناء أداء صلاتي عند السواتر الأمامية في أيام القادسية الملعونة، ولكن مصدر الخوف هذه المرة كان القناص وقذيفة المدفع التي تتطاير شظاياها من حولي فتشعرني بالخوف. المهم أن اللقاء اليومي كان السمة المشتركة بيننا إلى أن تخرجنا من الجامعة، دون أن يأخذ أحدنا عنوان صاحبه، ربما لحذرنا أو لشعورنا أن ذلك قد يشكل خطراً علينا في وقت ما ". ويتابع الطائي حديثه قائلاً : " بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية على مدى عام كامل، تكررت دعوات الأمن الصدامي الموجهة لي، حيث كان يأتيني عادة شخصان ليطلبا مني مرافقتهم إلى مديرية الأمن العامة لمدة خمس دقائق فقط، للإجابة على بعض الاستفسارات، لتمتد هذه الدقائق الخمس إلى أيام وشهور، وقد دفعني هذا الأمر إلى تقليص علاقاتي بالآخرين إلى مستوى لا يشكل خطراً علي أو عليهم، ولذا لم أتمكن من لقاء يحيى أو زيارته، بل لم أفكر جدياً بذلك حتى حينما كانت الفكرة تطرأ على بالي، نظراً للمخاطر التي كانت تحيط بي، ولاسيما أن الرقابة عليَّ كانت شبه دائمية، تنقطع لعدة أيام أو لأسابيع، لتعود من جديد، لكن تغيير محل سكناي عدة مرات، وضعف سلطة البعث بعد الهزيمة والحصار، وأخيرا عدم تزويدهم بالمعلومات التي تخدمهم في استمارة الجرد التي كانوا يوزعوها علينا ويأمرونا بملء حقولها، مكنني من التحرر من رقابتهم ".

يَبْدُو أنَّ شوقَ الطائي الشديد للقاء صديقه السَماويّ، أملى عَليه المجازفة بحياته؛ إكراماً لتلك الأيام الجميلة الَّتِي قضياها فِي رحابِ الجامعة، حيث يبين الطائي تلك الحادثة بالقول : " في عام 1996م تحديت مخاوفي، وسافرت إلى السماوة بعد منتصف الليل على أمل أن أصلها فجراً، حيث تكون عيون الأمن غير نشطة في مثل هذه الساعات؛ لأبحث عن يحيى بين أهلها. ورغم أن المدينة صغيرة، وأهلها يعرف بعضهم بعضا، إلا أني لم أعثر على من يدلني عليه، بل إن جميع الذين سألتهم عنه، أنكروا معرفتهم به، كان بعضهم ينظر إليّ بعين الشفقة، لدرجة أني كنت أتوقع أنه يريد تحذيري من شيء لا أعرف كنهه، وبعضهم ينظر إلي بعين الغضب. ولما أشتد سؤالي وإلحاحي، تبعني أحد الرجال الطيبين، وقال لي: بني لا تبحث عن يحيى، فقد نفذ فيه حكم الإعدام، لقد أعدموه، مات يحيى، فعد إلى بيتك، فسارعت حينها بالعودة إلى بغداد، وعلى طول الطريق الفاصل بينها وبين السماوة، كانت صورة يحيى ترتسم أمامي .. ضحكته .. طيبته .. أخلاقه وقيمه؛ ولذا كنت أبكي بصمت ولكن بحزن عميق يحرق الفؤاد ". وَتمر الأيام وَالطائي الَّذِي يهمس فِي قلبه حزناً صامتا حتى يكاد يحطمه، تزيده ذكرياته عَنْ السَماويّ ألماً، ولنقرأ ما كان يشعر بِه الطائي يومذاك، وَالَّذِي يصفه بالقول : " ومنذ ذلك التاريخ، أصبح يحيى عباس السماوي مجرد ذكرى أليمة تنام في خاطري، مع ذكريات إخوتي وأقربائي وإخوة زوجتي الذين أعدمهم النظام المجرم، ولكن ذكرى يحيى من دونهم كان يستفزها ذكر اسم السماوة أو اسم يحيى أمامي. وبالرغم من مرور أكثر من اثني عشر عاما على تلك الواقعة إلا أن رؤيتي عن طريق المصادفة قصيدة لشاعر أسمه يحيى السماوي في أحد المواقع بشبكة الإنترنيت عام 2008 مرفقة بصورة لا تشبه أخي الذي أعرفه، أو بقايا صورته في خيالي ولاسيما وأن عيوني كان قد أصابها الضرر الكبير على يد تنظيم القاعدة الإرهابي بعد أن خطفوني وحبسوني لمدة ثلاثة عشر يوما ساموني خلالها أسوأ أنواع العذاب، مما أفقدني إحدى عيني وألحق ضررا كبيرا بالثانية، تلك الملابسات لم تسعفني بالتدقيق في ملامح الصورة المرفقة بالقصيدة، رغم أني كنت أتوسم ملامح يحيى في الصورة التي أمامي وبشكل غريب. وقد ألحت علي الذكرى التي أيقظتها رؤية الصورة والاسم، فقمت بمراسلة الموقع لأسألهم إن كان اسم هذا الشاعر يحيى عباس السماوي فلم يجيبوني، ثم أرسلت لهم رسالة ثانية وثالثة، ولكنهم لم يعيروني اهتماما. حينها لم أكن أعرف الكثير عن الإنترنيت، ولذا لم أبحث في مواقع أخرى، لكن بعد مرور عام كنت أتصفح موقع صحيفة المثقف فعثرت على قصيدة لنفس الشاعر مع صورة جديدة، لا تختلف كثيرا عن سابقتها، فبادرت بمراسلة الموقع، مستفسرا منهم عن الشاعر صاحب الصورة، لتردني منهم في اليوم التالي رسالة يخبروني فيها أن يحيى استلم رسالتي وفرح بها وسيرسل لي الجواب. إذاً هو أخي يحيى السماوي لا زال حيا ولا زال شاعراً يا للعجب!. وهنا لا يسعني أن أصف لكم نوع المشاعر التي انتابتني حينها، كانت عيوني تذرف الدموع بشدة وجسمي يرتعش بعنف حتى خاف علي أولادي، وكنت أضحك وأبكي في الوقت نفسه. ومنذ ذلك التاريخ وعلاقتي بيحيى تزدهر وتنمو حيث عادت الحياة لجذور محبتنا القديمة وأورقت أغصانها، وكان يعدني بزيارة إلا أنه لا يحصل على فرصة لتستمر علاقتنا عبر الرسائل والمداخلات عشر سنين أخرى دون أن يرى أحدنا الآخر، لكن في بداية عام 2018 تحققت الأمنية الكبرى يوم رأيت يحيى يقف أمامي والدموع تتنافر من عيوننا ، وكأنها تذكرني بدموع سفرتي إلى السماوة ".

*

مُـطـفـأ الـضِّـحـكـةِ

طـفـلاً

شـاخَ مـن قـبـلِ الـفِـطـامْ

ضـائِـعـاً أبـحـثُ عـنـي

بـيـن أنـقـاضـي ومـا خَـلَّـفَ أمـسـي

مـن رُكـامْ

أيـن شـطـآنـك مـنـي ؟

دَورَقـي تـمـلـؤهُ الـريـحُ وكـأسـي فـاض صَـمـتـاً

والـرَّبـابـاتُ حُـطـامْ

*

يختم الطائي شهادته - الَّتِي حرصت عَلَى عدم اقتطاع أجزاء مِنها؛ لأهميةِ مضمونها مِن الناحية التاريخية - بِالحديث عَنْ بعض مآثر السمَاوي الَّتِي ازدحمت فِي ذاكرته المتعبة بالقول : " من يريد التحدث عن يحيى الشاعر والإنسان والمناضل لا يحتاج إلى جهد كبير إذ يكفي أن تقرأ أي قصيدة من قصائده لتعرف مقدار وطنيته وحبه للعراق والعراقيين، وتشعر بتلك الرغبة الجامحة التي تدفعه للعودة إلى الوطن. لقد نجح السماوي في تصوير معاناة الغربة ببكائيات ووجدانيات قلما تجد لها شبيها بالمستوى والمضمون والصنعة، رسمت حقيقة شعوره الفياض، أما باقي قصائده فتجد فيها نفس نكهة خلق ذلك الشاب الجنوبي المؤدب الخجول الطيب ابن جيل السبعينيات الذي كان يحسب للكلمة حسابها وللمفردة مداها ومساحتها ولا يلقي الكلام جزافا ولا يقول إلا ما ينفع... السماوي بعطائه الثر الغزير ثروة وطنية ثمينة جدا لم تلق من المسؤولين العراقيين من يعتني بها ويستفيد من خبراتها كما هو ديدننا في التعامل مع كل ثرواتنا الأخرى في الوقت الذي لم يبخل الآخرون في تعاملهم مع إبداع يحيى، سواء في تناول شعره بالدراسة ودواوينه بالنقد، وترجمة ما يقوله إلى اللغات الأخرى، أو في تناول تجربته في الحقل المعرفي للحصول على الدرجات العلمية في دراسة الماجستير والدكتوراه؛ لذا أعتقد أنه آن لهذه النخلة الغريبة أن تعود لبستانها ولهذا الجسد المتعب والشعور المرهف أن يستريح على ربى العراق، وآن للحكومة ووزارة الثقافة العراقية أن تحتضن هذا الرجل الشاهق الباسق وتضعه في المكان المناسب له لكي يفيض محبة للعراقيين تجلي عنهم بعض هموم يومهم القاسي ...عمراً مديداً لصاحب الكلمة الصادقة يحيى عباس السماوي ولكل من يخلص للعراق ويريد تخليد رموزه أحياء بعد أن تعودنا على تأبينهم أمواتا، وليبقى السماوي طائرا غريدا يشدو للطيبة وللعراق والعراقيين وكل الطيبين في الكون ".

ثمَّةَ سؤال يجول فِي خاطر بعض أعمدة البيت الثقافي أو المنتمين لَه حول علاقة السَماويّ يحيى بشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري " 1899 - 1997 " طيب الله ثراه، بوصفِه أحد تلامذته، مَعَ العرض أَنَّ ذلك السؤال تعرض لًه أبا الشيماء فِي أكثر مِنْ مناسبة. وَذاتَ مســـــــــاء ربيعي استثمرت مهاتفته لأسأله ذاتَ السؤال، فأجابني بالقول : " أعيد الآن مَا قلته سابقاً، إذا كنت أعتبر المتنبي العظيم جدّي الشعري، فإن الجواهري العظيم هو أبي الشعري. وقد حالفني الحظ أن ألتقي أبي العظيم هذا، وأن أكون عكازه في أكثر من لقاء، وأقسم أنني لم أعش فرحا خرافياً كفرحي حين أضاء بيتي في مدينة جدة وبصحبته نجله الأخ الدكتور كفاح وكريمته الدكتورة خيال وزوجها الفنان والأديب المناضل صباح المندلاوي، حيث كانت أياماً ولا أبهى - لا بالنسبة لي وحدي، إنما وبالنسبة لعائلتي كلها - فلازال دفء يده التي قبلتها - وأنا فخور بذلك - في دمي. ولازلت نادماً ندماً كبيرا؛ لأنني لم أحتفظ بإحدى طاقيات رأسه العظيم وَالَّتِي غسلتها زوجتي، فقد كان الغائب الحاضر أبداً يحمل معه في سفراته أكثر من طاقية ". ويستذكر السَماويّ يحيى بحزن عميق دمعة العملاق الجواهري وهما يتناولان طعام الغداء في بيته بدمشق، حين قال " لا أشعر بلذة الطعام والشعب العراقي يتضور جوعا بسبب الحصار ". وَعَن كيفية تلقى الدروس مِن الجواهري، يقول السَماويّ يحيى " يكفي أن أقول لِمَنْ يسـأل : إنني كنت أجثو على ركبتي حين أقرأ شعري أمامه، وكان إطراؤه يُثمِلني فيصل بي فرح الانتشاء حدود البكاء ". وَلَعَلَّ مِن الْمُفِيد الإشارة هُنَا إلى أَنَّ ثَمّةَ معلومة مهمة، قد تكون غائبة عَنْ البعض، وَهي أَنَّ السَماويّ يحيى هو مَنْ أطلق عَلَى الجواهري مسمّى " نهر العراق الثالث "، وقد حدث ذلك أثناء إلقاء السَماويّ كلمته فِي الحفل التكريمي الَّذِي أقامه للجواهري منتدى " الإثنينية " فِي مدينة جدة السعودية بتاريخ " 3/11/1415هـ الموافق 3 نيسان 1995م "، مَعَ العرض أَنَّ مجلةَ " الأربعاء " نشرت تلك الكلمة عَلَى صفحاتها، بالإضافةِ إلى نشرِ فقرات عدة مِنها فِي صحف عديدة مِنْ بَيْنَها صحيفة الشرق الأوسط. وَأَمْرٌ شَدِيدُ الأَهَمِّيَّة أَنَّ الجواهري قد سُرّ بهذا اللقب فقال لصهره الفنان الأديب صباح المندلاوي وبحضور كريمته الدكتورة خيال : " إنه أعزّ الألقاب إلى نفسي ".

*

لا الـنـدى يـلـثـمُ أزهـاري

ولا يُـغـوي فـراشــاتِ صَـبـاحـاتـي

أقـاحٌ وخُـزام

عـازفـاً عـن عـسَـلِ الـلـثـمِ

وتُـفّـاحِ الـكـلامْ

هـاربـا

مـن زحـمـةِ الـصَّـمـتِ الـى ثـرثـرةِ الـمـوجِ

وفـانـوسِ الـظـلامْ

أيـن شـطـآنـكِ مـنـي ؟

صـادقـاً كـان سَــرابُ الـنـخـلِ فـي الـواحـاتِ

والـكـاذبُ نـهـري والـغـمـامْ

خـبِّـئـي يـاقـوتَ عـيـنـيـكِ ...

احـذري الـنـورَ

فـأصـحـابُ الـحـسـامْ

أصـدروا الـفـتـوى بـتـحـريـم الأراجـيـحِ

وتـكـفـيـرِ أغـانـي الـعـشــقِ

أضـحـى كـلُّ مـنـبـوذٍ أمـيـراً

وســقـيـطٍ آثِـمِ الأمـسِ إمـامْ

فـادخـلـي الـكـهـفَ

وسـدِّي بـالـصـخـورِ الـبـابَ

حـتـى يـعـبـرَ الـشـارعَ أصـحـابُ الـلـثـامْ

وفـضـائـيُّـو " بـنـي الـخـضـراءِ "

فـي " وادي الـسـلامْ "

نـحـنُ فـي عـصـرٍ بـهِ الـعُـهـرُ حَـلالٌ

والـمـروءاتُ حَـرامْ

كُـلُّـنـا مُـتَّـهَـمُ الـنِـيَّـةِ فـي فِـقـهِ الـسـلاطـيـنِ

و " أصـحـابِ الـمـقـامْ "

نـهـرُنـا مُـتَّـهَـمُ الـمـوجِ بـإرواءِ الـبـسـاتـيـن

وإطـفـاءِ الـضّـرامْ

نـخـلُـنـأ مُـتَّـهَـمُ الـسَّـعـفِ

بـإيـواءِ الـحـمـامْ

قـلـبُـنـا مُـتَّـهَـمُ الـنـبـضِ

بـتـألـيـبِ الـمـواويـلِ عـلـى جـعـجـعـةِ الـحـربِ

وتـألِـيـهِ الـطـواغـيـتِ

وتـمـجـيـدِ الـلـئـامْ

جُـرحُـنـا مُـتَّـهَـمُ الـنـزفِ ...

تـعِـبْـنـا يـا عـراقَ الـدَّمِ .. والـدمـعِ .. الـسـبـايـا..

والـنـواطـيـرِ الـنـيـامْ !

***

لطيف عبد سالم

 

في المثقف اليوم