شهادات ومذكرات

علي حمدان: فرانز فانون رمز للثورة

بعد السابع من أكتوبر، وبعد طوفان الاقًصى وما صاحبها من احداث، سلطت الصحافة في الغرب  الضوء على احد ابرز المناصرين للحرية في العالم وهو المناضل فرانز فانون مؤلف كتاب "معذبو الأرض" واحد الثوار الذين التحقوا بالثورة الجزائرية.  يعزى هذا الاهتمام الى تبني افكاره من القوى اليسارية والديمقراطية وخاصة بين صفوف الطلاب المناصرين للقضية الفلسطينية في الجامعات الامريكية.

السيرة الشخصية

ولد فرانز فانون في 20 من يوليو عام 1925 في جزر المارتينيك، من عائلة ميسورة الحال نسبيا. والده كازميرا فانون، كان مفتشا في الجمارك، ووالدته، الينور ميدليس كانت تملك محلا لبيع ألمعدات في مدينة فورت دي فرانس عاصمة المارتينيك. عادة يسعى افراد هذ الطبقة الى التعرف والاندماج في ثقافة الفرنسين البيض. نشأ فانون في هذه البيئة، وتعلم تاريخ فرنسا باعتباره تاريخه، حتى في سنوات دراسته الثانوية، عندما واجه لأول مرة فلسفة الزنوجه ( (Negritude، التي تعلمها من ايمي سيزير، الناقد الشهير الاخر للاستعمار الأوروبي في المارتينيك. كان فانون حائرا بين الاندماج بالثقافة الفرنسية مع الطبقة المتوسطة وبين الانشغال بالهوية العرقية التي تروج لها الزنوجه، غادر فانون المستعمرة في عام ,1943 وهو في الثامنة عشرة من عمره، للقتال مع القوات الفرنسية الحرة في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.

بعد الحرب، بقي في فرنسا لدراسة علم النفس والطب في جامعة ليون. هنا، واجه عنصرية تبسيطية محيرة ضد السود، تختلف تماما عن التمييز المعقد المتخلل للطبقات من الوان الجلد الفاتح الى الداكن التي يجدها المرء في الكاريبي. هذا التمييز البسيط كان سبب لغضبه الشديد الذي دفعه لكتابة "مقال لتحرير السود". الذي اصبح فيما بعد عملا أساسيا   "بشرة سوداء، اقنعة بيضاء" (1952). وهنا بدأ في استكشاف أفكار الماركسية والوجودية التي ستؤثر في تحوله الجذري عن ثنائية الاندماج والزنوجه التي افتتحتها بيو نوار المناهضة للعنصرية.

على الرغم من عودة قصيرة الى الكاريبي بعد انتهاء دراسته، الا انه لم يعد يشعر بالراحة هناك. وفي عام 1953، بعد فترة في باريس، قبل منصبا كرئيس للخدمة في قسم الطب النفسي لمستشفى بليدا- جوانفيل في الجزائر. شهد العام التالي، 1954، اندلاع حرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا، وهي انتفاضة قادتها جبهة التحرير الوطني (FLN) وقمعتها القوات المسلحة الفرنسية بوحشية. وبينما كان يعمل في مستشفى فرنسي، كان فانون مسؤولا بشكل متزايد عن علاج الضغوطات النفسية للجنود والضباط في الجيش الفرنسي الذين كانوا مسؤولين عن تعذيب وقمع المقاومة المناهضة للاستعمار، وكذلك لضحايا التعذيب الجزائريين الذين عانو من الصدمات النفسية. وبالفعل، ادرك فانون بحلول عام 1956 انه لا يمكنه مواصلة مساعدة الجهود الفرنسية لقمع الحركة المناهضة للاستعمار والتي كانت تحظى بتعاطفه السياسي، فاستقال من منصبه.

بمجرد استقالته رسميا من العمل لصالح الحكومة الفرنسية في الجزائر، اصبح فانون حرا في تفانيه لقضية استقلال الجزائر. كان خلال هذه الفترة يقيم في تونس حيث قام بتدريب الممرضات لصالح جبهة التحرير الوطني، بالإضافة كان يحرر صحيفة " المجاهد" الناطق الرسمي باسم الجبهة، كما انه ساهم في كتابة مقالات حول الحركة في منشورات متعاطفة، بما في ذلك كتاباته في "برزنس افريكان " ومجلة جان بول سارتر " الأزمنة الحديثة". نشرت بعض كتابات فانون من هذه الفترة بعد وفاته عام 1964 تحت عنوان " نحو الثورة الافريقية". في عام 1959 نشر فانون سلسلة من المقالات " العام الخامس من الثورة الجزائرية"، والتي تفصل كيف نظم المستضعفون الاصليون في الجزائر انفسهم في قوة ثورية. في نفس العام، تولى منصب دبلوماسي في الحكومة الجزائرية المؤقتة كسفير لدى غانا. واستخدم هذا المنصب للمساعدة في فتح طرق الامداد للجيش الجزائري. هناك في غانا تم تشخيص فانون بمرض اللوكيميا الذي كان سببا في موته. على الرغم من تدهور صحته بسرعة، قضى فانون عشرة اشهر من اخر عام في حياته في كتابة اشهر كتبه  "معذبو الأرض". وهو صحيفة اتهام للعنف والوحشية الاستعمارية الذي يختمها بنداء مشوق لتاريخ جديد للإنسانية يجب ان يبدأ من قبل العالم الثالث المنكوب بالاستعمار. في أكتوبر 1961، تم نقل فانون الى الولايات المتحدة حتي يتمكن من العلاج في مرفق المعاهد الوطنية للصحة في بشيدا، ميريلاند. توفى بعد شهرين، في 6 ديسمبر، .1961، حيث كان لا زال منشغلا بقضية الحرية والعدالة لشعوب العالم الثالث. بناء على طلب جبهة التحرير الوطني، تمت إعادة جثمانه الى تونس، حيث تم نقل جثمانه ودفن في الجزائر التي كافح من اجلها بتفان خلال السنوات  الخمس الأخيرة من حياته.

الظواهرية الافريقية

مساهمة فانون في علم الظواهر، والتي تم تسليط الضوء عليها كخطاب عرقي نقدي (تحليل لغوي لا واعي، تشكل الذات التي تنظم نفسها حول العرق كفئة مؤسسة). على الأخص استكشافه للتحديات الوجودية التي يواجهها  ذوي البشرة السوداء في عالم اجتماعي تم تشكيله للبشر البيض. هذا الموضوع يتم تناوله بالتفصيل وبالوضوح في Pea Noire Masques Blanc. الاستعارة المركزية لهذا الكتاب، هي ان السود يجب عليهم ان يرتدو "قناعا ابيض" حتى يتمكنوا من العيش في عالم ابيض، مذكرا بما كتبه W.E.B Du Bois بان الأمريكيين من اصل افريقي عليهم بتطوير وعيا مزدوجا لكي يعيشوا في ظل هيكل السلطة البيضاء. واحد  يتعايش مع هذا الهيكل (او ما شابه) ووعي اخر يتعايش فيه مع الامريكان من اصل اسود. ان تحليل فانون للطرق التي يستجيب بها السود للسياق الاجتماعي الذي يميزهم عنصريا على حساب انسانيتنا المشتركة تمتد ثقافيا عبر نطاق أوسع من مقارنة دي بويس. فانون يدرس كيف يشكل العرق (يشوه) حياة كل من الرجال والنساء في منطقة البحر الكاريبي الفرنسية، وفي فرنسا، وفي مناطق الصراع الاستعماري في افريقيا. عالم الاجتماع الافريقي باغيت هنري، يصف العلاقة بين فانون ودي بويس  في مجال الظواهرية كعلاقة امتداد وتوضيح، حيث يقدم فانون تحقيقا اكثر تفصيلا حول كيف تواجه الذات صدمة التصنيف من قبل الاخرين كذات اقل إنسانية، بسبب هوية عنصرية مفروضة، وكيف يمكن لتلك الذات ان تستعيد شعورا بالهوية وانتماء ثقافي مستقل عن المشروع العنصري لثقافة الهيمنة الاستعمارية.

فانون، يشرح في جميع اعماله الرئيسية المشروع العنصري والاستعماري للثقافة الأوروبية البيضاء، أي الرؤية العالمية الهرمية الشاملة التي تحتاج الى تصنيف الانسان الأسود باعتباره "زنجيا"، بحيث يكون لديه "اخر" يمكن تعريفه على أساسه. في حين يقدم كتاب " Peau Noire " نقاشا مستمرا حول الابعاد النفسية لهذا التصنيف "للإنسان الأسود" وامكانيات المقاومة لهذا التصنيف. بينما الابعاد السياسية تم تناولها في كتابيه "السنة الخامسة من الثورة الجزائرية" و"معذبو الأرض"  يتم فيهما تشخيص للأبعاد النفسية للعنف الظاهري ضد الزنوج، حيث يوثق الاثار المدمرة والمؤلمة للعنصرية : أولا، يعزز التعصب والمواقف السلبية تجاه السود الاخرين وافريقيا. ثانيا، انه يعمل على تطبيع مواقف الرغبة والانحطاط تجاه أوروبا، والبيض، والثقافة البيضاء بشكل عام.  وأخيرا، تقدم  نفسها على انها طريقة شاملة للوجود في العالم بحيث لا يبدو ان هناك بديلا اخرا ممكنا. ان صعوبة التغلب على الشعور بالاغتراب الذي يجعل "الزنجوه "مسالة ضرورية للإنسان الأسود تكمن في رؤيته لنفسه ليس كما يتصورها  ويقدرها (تقلل من قيمتها) من قبل الثقافة البيضاء المهيمنة ولكن في نفس الوقت من خلال منظور مبني على معارضة التيار الرئيسي العنصري، ومن منظور مواز حيث لا تكون الاحكام القيمية للرجل الأسود او المرأة السوداء -على نفسه وعلى الاخرين من مجموعته العرقية – من خلال المعايير والقيم البيضاء. يرى فانون انه فقط من خلال هذا المنظور الأخير يستطيع الرجل او المرأة السوداء التخلص من الاستعمار النفسي الذي تفرضه الظواهر العنصرية.

نظرية التخلص من الاستعمار

الابعاد السياسية للزنجوه والتي تدعو الى التحرر من الاستعمار تتصل بكتابيه "السنة الخامسة" و"معذبو الأرض". ولكن فانون لا يقوم فقط بتشخيص الاعراض السياسية للرؤية السياسية العالمية التي يتم فيها تجريم الرجال والنساء السود، بل يضع تشخيصه ضمن التزام أخلاقي واضح بالحق المتساوي لكل انسان في ان تكون كرامته الإنسانية معترف بها من قبل الاخرين. هذا التأكيد، اننا جميعا مستحقون للاعتبار الأخلاقي وان لا احد يمكن الإستغناء عنه، هو الجوهر المبدئي لنظريته المتعلقة للتحرر من الاستعمار، التي مازالت تلهم العلماء والنشطاء الملتزمين بحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.

كما يوحى العنوان الفرنسي، L’A Cinq الاستعمار يحتضر، وهو سرد شخصي لفانون عن كيفية تعبئة الشعب الجزائري لنفسه في ثورة مقاتلة، والنضال المسلح ضد الحكومة الفرنسية الاستعمارية.  يعرض فانون الدروس التي يمكن للثورات الأخرى ان تتعلمها من تكتيكات واستراتيجيات  جبهة التحرير الوطني، والتي تعبر عن الوضع الجزائري الخاص، ولكن أيضا من الممكن للثوار الاخرين الاستفادة منها.  بينما تقدم "السنة الخامسة" الأفكار التي يتوقعها الشخص من وثيقة تاريخية،  ُفإن "معذبو الأرض" هو تحليل اكثر تجريدا للاستعمار والثورة. وقد وصف بانه انجيل للثورة السوداء. يعبر الكتاب عن الدور الضروري الذي  يعتقد فانون ان العنف يجب ان يؤديه في نضالات انهاء الاستعمار، والمسارات الزائفة التي تسلكها الدول التي تريد ان تنهي الاستعمار عندما تعهد بحريتها النهائية الى المفاوضات بين الطبقة المحلية والمستعمرين، في حين فانون لا يري بديلا من تعبئة الجماهير كقوة مقاتلة شعبية. ويؤكد الى الحاجة في إعادة انشاء ثقافة وطنية من خلال حركة الفنون والأدب الثوري. وهذا ما يرفضه التقليديون في موقف فانون. كما يتطرق فانون الى المشاكلات النفسية التي يفرزها القمع الاستعماري. جزء من روعة الكتاب هو عمقه الفلسفي الذي أشار اليه جان بول سارتر في المقدمة، حيث انه يتحدث بلغة فلسفية وينشر نوع من الحجج الماركسية والهيجيلية التي  يتوقعها المرء في فلسفة التحرير، لكنه لا يتحدث الى الغرب. ان فانون يتحدث مع زملائه من العالم الثالث ويقدم لهم النصائح.

***

علي حمدان

.................................

ترجم بتصرف من:

Franz Fanon: Internet Encyclopedia of Philosophy

في المثقف اليوم