آراء

عبد السلام فاروق: نحن والهند

زرت الهند فيما زرت من بلدان.. حدث هذا منذ نحو 20 عاماً فى أجواء مختلفة وفى ذاكرتى لها أطياف ناصر ونهرو وتيتو وشعار عدم الانحياز وطاغور ومحمد إقبال..اليوم تغير كل هذا وباتت الهند بل والعالم فى مفترق طرق..

علاقة مصر بالهند قديمة لكنها للأسف لم تتوطد إلا مؤخرا ..الآن ثمة فرصة مؤكدة أننا نستطيع الاستفادة من توطيد علاقتنا بالهند أشد استفادة، لاسيما وقد حققت الهند فى مضمار الفضاء منذ أسابيع  ما تفوقت به على رواد الفضاء الروس أنفسهم! انضمام مصر للبريكس سوف يمنحنا فرص أعظم لتنمية علاقتنا الاقتصادية بمختلف دول البريكس ومنها الهند..والسؤال الآن: لماذا الهند؟

الهند تطير نحو الشمس والقمر

لم يكد يمر أسبوع واحد على نجاح هبوط المركبة الفضائية الهندية على القمر عند قطبه الجنوبي، حتى قررت إرسال مسبار فضائى يتجه رأساً نحو الشمس!هكذا أطلقت وكالة الفضاء الهندية مسبار "أديتيال1"يوم السبت (الثاني من سبتمبر 2023) لدراسة الشمس في أول مهمة من نوعها للوكالة بعد نجاح الهبوط على القمر بمركبة "تشاندرايان-3" غير المأهولة.

لم تسبق الهند فى الأبحاث الخاصة بدراسة الشمس سوى ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، وفى حالة نجاح المهمة الهندية سوف تسبق الهند كل آسيا كونها أول مهمة آسيوية تتمكن من بلوغ المدار حول الشمس.

هذا الحدث المهم تابعه الآلاف من الهنود سواء فى صالة العرض أو على الشاشات..وهو ليس مجرد فعالية غرضها التفاخر والزهو، بل إن المركبة معدة خصيصاً لدراسة الكتلة الإكليلية المتسببة فى انبعاثات البلازما والطاقة الكهرومغناطيسية من الشمس والتى تؤثر بدورها على المجال المغناطيسي الأرضى وعلى سائر الأنشطة الإنسانية والصناعية المرتبطة بهذه الطاقة..هناك اضطرابات تنتاب كوكب الأرض بفعل الانفجارات الشمسية وألسنة اللهب الناجمة عن هذه الانفجارات والتى قد تصل إلى حد تثبيط طاقة المجال الأرضى فى بعض نقاطه..كما تظهر تلك التأثيرات بجلاء من خلال ظاهرة الشفق القطبي..

تأتى البعثة المتجهة نحو الشمس لتؤكد على تفوق الهند على روسيا أواخر الشهر الماضي لتصبح أول دولة تهبط على القطب الجنوبي للقمر، فرغم أن روسيا لديها مركبة أكثر قوة، فقد تفوقت مركبة تشاندرايان-3 الهندية على لونا-25 الروسية ونفذت هبوطاً نموذجياً.

لقد تم تصميم المسبار الهندى أديتيال المأخوذ اسمه من كلمة هندية تعنى الشمس ليتمكن من قطع مسافة تصل إلى 1,5 كم خلال أربعة أشهر من أجل الوصول لنقطة مدارية تشبه ساحة انتظار فضائية تميل فيها الأجسام للبقاء فى مدارها بسبب توازن قوى الجاذبية، ما يقلل من الحاجة للوقود، وتسمى تلك المناطق نقاط لاغرانج نسبة إلى عالم الرياضيات الإيطالي الفرنسي جوزيف لوي لاغرانج.

الغريب أن الهند حققت هذا الإنجاز بميزانية منخفضة بالنسبة لسائر وكالات الفضاء، وأن المهندسين المهرة من الهنود قنعوا بمرتبات ضئيلة نوعاً بالمقارنة لنظرائهم من الأجانب. وسوف تقوم الهند بالاشتراك مع اليابان فى إطلاق مسبار ثان إلى القمر عام 2025، ومسبار آخر إلى كوكب الزهرة خلال العامين القادمين..كل هذا من شأنه أن يشير إلى مدى ما وصلت إليه الهند من تقدم وتطور فى شتى المجالات.

النموذج الهندى فى التقدم

حتى خمسينيات القرن الماضى لم تكن الهند إلا دولة نامية معدمة يعانى سكانها من البطالة وضيق الحال، وتبلغ نسب الفقر فيها معدلات ضخمة..فما الذى حدث خلال سبعين عاماً لتصل إلى مثل هذا المستوى من التقدم والنمو؟!

مرة أخرى يمكننا أن نعزو كل الأسباب إلى سبب جوهرى وحيد هو القدرة على حسن استغلال الموارد البشرية،فقط ليس إلا..لأن الهند تتمتع بكونها ثانى أكبر بلدان العالم من حيث تعداد السكان، فبدلاً من أن يتسبب التضخم السكانى فى الاكتظاظ والازدحام والتردى، تحول إلى السبب الأول لإحداث طفرة اقتصادية شملت سائر المجالات لدرجة أن يصل الناتج المحلى للهند ما يفوق 13تريليون دولار، وباتت الهند مميزة فى عدة مجالات تصديرية على رأسها مجال التقنية وتكنولوجيا المعلومات..فهل كان انضمام الهند للبريكس أحد أسباب هذا التسارع فى نموها اقتصادياً ؟ السبب الأكبر أن القوة العاملة فى الهند يبلغ تعدادها 514 مليون عامل كثانى أكبر قوة عاملة فى العالم، بخلاف 25 مليون عامل هندى منتشرين فى دول أجنبية ويساهمون بطريق غير مباشر فى دعم اقتصاد بلدهم..

هناك فائض لدى الهند فى الزراعات الأساسية كالأرز والقمح والشاى والبذور الزيتية وغيرها، ما يشير إلى تحقيقها لنوع من الاكتفاء الذاتى فى عدة محاصيل. وقد استطاعت الهند الوصول لدرجة راقية من التفوق الصناعى فى مجال المنسوجات والاتصالات والأدوية والأغذية والتكنولوجيا الحيوية والبرمجيات لترتفع حصة الهند من التجارة العالمية من 1% عام 1985 إلى 24% عام 2006. لهذا تؤكد المؤشرات أن معدل النمو الاقتصادى فى الهند بلغ 7,5% كأحد أسرع الاقتصاديات نمواً فى العالم.. تلك التجربة شبيهة بما حدث فى الصين وإن كان بمستويات أقل من حيث الكم وحجم النمو..وعلينا أن نبحث عن نقاط التماس بيننا وبين الهند والصين لنتمكن من تحقيق ما حققوه أو بعضه.

المشتركات ونقاط التماس

بالتأكيد للهند خصوصية ثقافية وعقائدية واجتماعية..حتى أنها لا تحب كرة القدم ولم نسمع أن لها فريق كرة قدم مشهور بين فرق العالم، ورياضة الكريكيت هى الرياضة الأولى فيها، ويقال إن الشطرنج نشأ فى الهند تحت اسم "شطورانجا" وهناك الكثير من أساتذة الشطرنج الهنود..والهند لها خصوصية فى فنونها وثقافتها وموسيقاها وأكلاتها التى اشتهر منها البريانى كأحد أشهر وأغلى أكلاتها، والملابس التى اشتهر منها السارى ، ورقصاتها الكلاسيكية التى تم تسجيل ثمانية منها كرقصات عالمية معتمدة.. ونحن نعلم أن السينما الهندية"بوليود" تحتل مركزاً تالياً من حيث المشاهدة عالمياً بعد هوليود الأمريكية..تلك خصوصيات للحالة الهندية كثقافة ومجتمع..لكن هناك مشتركات كثيرة تجمعها بمصر..

العمق التاريخى أول هذه المشتركات.. وآثار الحضارة فى كلا البلدين شاهد على ما نالهما من تمدن ورقى على مدى العصور التاريخية المتعاقبة. ويذكر التاريخ أن أول علاقة دبلوماسية تمت بين البلدين حدثت على عهد بطليموس الثانى فيلادلفوس، عندما أرسل له الإمبراطور الهندى أشوكا مبعوثاً رسمياً محملاً بالهدايا وقوبلت البعثة بالترحاب وتم تبادل الزيارات بين سفراء الدولتين منذ ذلك الحين الضارب فى أعماق التاريخ..

تنوع الموارد والأهمية الديموجرافية والاعتماد على الزراعة والتعدين كلها تمثل مشتركات ونقاط تماس أخرى..لكن المتغير الأخير قد يكون الأهم، وهو أننا صرنا على مقعد قريب من الهند فى منظمة البريكس.

فرصة علينا أن نستغلها

الحق أن خطوة انضمام مصر للبريكس والمشاركة في قمة العشرين فتح الباب على مصراعيه لكثير من الفرص الكبري..

أحد هذه الفرص وأهمها توطيد العلاقة مع الهند فى مختلف المجالات..لاسيما أننا نقف على أرض مشتركة فى اهتمام كلينا بالاستثمار فى المجالات الواعدة كالتكنولوجيا والتقنيات والهيدروجين الأخضر والاستثمارات السياحية..وآفاق التعاون تمتد لتشمل مجالات أخرى مهمة للغاية كالتعاون السياسي والأمنى والدفاعى والأمن الغذائى والأدوية وغيرها..ولا ننسي أن الهند لديها فائض من سلع غذائية استراتيجية قد تصلح لسد الفجوة الناشئة من أزمة الحرب الروسية الأوكرانية..إن الأرقام تقول إن التجارة الثنائية بين البلدين وصلت لمعدلات غير مسبوقة حيث قفزت إلى ما يربو على 7 مليار دولار عام 2022، وكان الهدف أن تزيد عن 10 مليار..الآن يمكن اقتناص الفرصة لرفع حجم التعاون الاقتصادى أضعاف ما سبق فى ظل شراكة البريكس.. وهو ما نأمل أن يتحقق على المدى القريب.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم