آراء

محمد المحروقي: العنصرية وحقيقة الإبادة كما أشرحها للطاهر بن جلون

في التاسع من أكتوبر صرح وزير دفاع الاحتلال الصهيوني معبرا بتعنت "قطعنا الكهرباء والمياه والوقود، قُطعت جميعها، نحن نحارب حيوانات على هيئة بشر ونتصرف وفقا لذلك" يأتي هذا التصريح بعد أحداث الهجوم الذي قامت به حركة المقاومة الفلسطينية، وبعدها بأيام من تصريح وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت كتب الطاهر بن جلون مؤلف كتاب "العنصرية كما أشرحها لابنتي" مقالا وصف فيه فعل المقاومة بأن "الحيوانات لم تكن لتفعل ما تفعله حماس" ما مدى اختلاف تعبير بن جلون عن الوصف العنصري الذي أدلى به وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي؟ لا اختلاف كما أرى لأنه يعزز سردية الفوقية العنصرية التي تمرر وتساند فكرة استصغار وتبديد الهوية الإنسانية للفلسطينيين.

إن من مساعي العلوم الإنسانية في العصر الحديث تفكيك كل ظاهرة في المجتمعات البشرية المتنوعة لتظهر على إثر ذلك مصطلحات تتعلق بهذه الظواهر ودراساتها، كون هذه المصطلحات تتحول استخداماتها بتحول السياقات الظرفية الاجتماعية المرتبطة بفروع العلوم الإنسانية وعلومها المختلفة، من تلك المصطلحات القائمة جدليتها إلى اليوم سواء في الرواق الأكاديمي أو حتى في السياق الثقافي الشعبي هي العنصرية، والعنصرية بطبيعة الحال هي " الاعتقاد بأن مجموعة معينة هم أرفع مستوى من مجموعة أخرى. ويمكن التعبير عن العنصرية بشكل علني على شكل نكات عنصرية، وافتراء أو جرائم كراهية" وهذا بحسب مجلس حقوق الإنسان، لذا فإن العنصرية تتكرس وتطفو بعد ممارستها من قِبل مجموعات بشرية ضد أخرى هذه الممارسات تتطور بحد ذاتها لتكون منظمة بشكل يواكب التطورات المرتبطة بالحياة البشرية فقد تُبنى على أثر الممارسات العنصرية الجدران وربما يتم في أحيان كثيرة وضع قوانين تمييزية تميز بين المجموعات البشرية بغض النظر عن تاريخية كل صراع قائم على التمييز والعنصرية، وكما هو معلوم للعالم فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي قائمة بذاتها وقوتها على نظام الفصل العنصري الذي يفصل بينها وبين الفلسطينيين، وهذه الدولة المحتلة الطارئة على العالم والمنطقة هي الوحيدة التي تمنح جنسيتها غالبا بعد إثبات يهودية مقدم الطلب. إن أنظمة الفصل العنصري على مدار التاريخ تعزل بفوقية الأعراق المستضعفة في أي بقعة كانت وما نراه في الأراضي الفلسطينية المحتلة ما هو إلّا إثبات لتكريس نظام الفصل العنصري والعمل به كالذي كان في جنوب أفريقيا من قِبل الأقلية البيضاء على السود عام 1948 للميلاد، فالاحتلال الإسرائيلي بتدابيره الخانقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على الفلسطينيين  يبرهن ممارسته للتمييز العنصري كونها دولة احتلال من ركائز قيامها تمييز رعاياها المستوطنين عن السكان الفلسطينيين الأصليين بمرجعية إثنية رجعيّة، كذلك لا ننسى التصريحات ذات السياقات المتعددة الصادرة من قِبل قيادات الاحتلال الإسرائيلي اتجاه الشعب العربي عموما والفلسطيني خصوصا التي تثبت مع مرور الزمن الخطاب العنصري والممنهج ضد الفلسطينيين والعرب.

 عرّف بن جلون العنصرية في كتابه "العنصرية كما أشرحها لابنتي" بأن العنصرية "كناية عن سلوك منتشر على نطاق واسع، تشترك فيه كل المجتمعات، وللأسف، تآلفت معه بعض الدول حيث لا يجري التنبه إليه. وهو يقوم على الارتياب، وحتى على الكراهية تجاه أناس ذوي مواصفات جسدية أو حضارية مختلفة عن مواصفاتنا" وهنا ربما نسأل المنظّر "الفرنكفوني" عمّن يزرع الكراهية والارتياب بالأراضي المحتلة عمّن يقتل ويهجّر ويسرق ويعتدي على الإنس، والشجر، والأرض، والسماء، والبحر وعلى كل ما هو فلسطيني. إن أكثر ما يغذي العنصرية هو الجهل، ولا يخرج عنوان الجهالة من مقالة بن جلون كونه برر كل هذا بسردية السابع من أكتوبر وكأن الأمر فعلا بدأ في السابع من أكتوبر متغاضيا عما سبق ذلك منذ ما يقارب القرن، متجاهلا عما دوّنه في كتابه لتسقط مقالة بن جلّون سقوطا فكريا كونه خرج مما كانت تدعو له الإنسانية بسموها الفعليّ، أيضا غابت عن مقالة بن جلون المعرفة القائمة على المعلومة والحقيقة ووقع فيما سماه باسكال إنجل بغواية إبستمولوجيتيّ الفضيلة والرذائل، فمن الغواية المعرفية استخدام سلك الفضيلة لتبرير الرذيلة لأن ذلك يشوه المعرفة ويحرّف مسار الوصول للمعلومة التي تكون أداة الوصول للحقيقة التي تكوّن فهم ودراسة الوضع الإنساني بشقيه التنظيري والتطبيقي.

إن مسلسل الإبادة الجماعية على الفلسطينيين دامٍ ومروع فإن كان فعل المقاومة في السابع من أكتوبر أبكى بن جلّون فهو بكل جدارة يتغاضى عن أفعال الصهاينة منذ القرن الماضي إلى لحظتنا هذه ، حيث إن الجماعات الاستيطانية الصهيونية عملت بشكل ممنهج ومنظم على إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم قسريا من أراضيهم فالسجلات المتعددة حول الجرائم الصهيونية ليس بقليل ولا يخفى على أحد، فقد قال بالتي سيلا: "بعد أن طهرنا المنطقة من العشائر البدوية بقي جرح بيسان المتقيح ملوَّثاً بقريتين، فرونة والسامرية. لم يبد عليهما أنهما كانتا خائفتين، واستمرتا في زراعة حقولهما واستخدام الطرقات." وهذا فقط مما تم تدوينه ونقله ولا شك هناك الكثير مما لم يستطع أن يرويه المظلوم عوضا عن رواية الظالم التي غالبا ما تكون مزركشة بالكذب والتلفيق كعادتها، ولازالت الدولة الصهيونية تستنزف نفسها بروايتها العنصرية التي ترى فيها سموها وعلويتها على باقي البشر وانتبه لهذا حتى الصهاينة أنفسهم عندما ذكر عاموس إيلون في بدايات الألفية الجديدة بأن "الصهيونية أرهقت نفسها، إن لم تكن الصهيونية الحالية قصة ناجحة، فإنه خطأ الصهاينة. إن السبب هو طائفية الصهيونية وليكوديتها (حزب الليكود الإسرائيلي)، ولأن ما كان يفترض أن يكون دولة لليهود، أصبح دولة يهودية"

لا يتوانى الكثير من المثقفين في عصرنا الحالي من تلغيم وتشويه المعاني القيمية العليا، القيم التي تتسامى من خلالها المجتمعات كقيمة التحرر وتصريفاتها المتعلقة بها، وتعاملاتها التي تعزز منها، فمن المخزي اعتبار التحرر من الاحتلال فعلا حيوانيا، كون أن المثقف الحقيقي لا يسعى إلى هدم القيم بتزييف مفاهيمها العملية بقدر ما يسعى إلى تعزيز العمل بها وتوسيع مداركها، فبدلا من أن يكون المثقف رومانسيا للظلم والاستعمار والحرب الجائرة على المستضعفين عليه أن يكون رافضا للظلم والقتل والتهجير فكما قال سارتر إبان احتلال فرنسا للجزائر "يجب أن نقف بكل قوانا ضد هذا الاحتلال الغاشم، إن المثقف الذي لا يحاول منع الحرب لا يختلف عن المجرم الذي أشعلها"

***

محمد المحروقي – سلطنة عمان

 ...................

أهم المراجع:

-  العنصرية كما أشرحها لابنتي/ الطاهر بن جلّون.

- قضيتي ضد إسرائيل/ أنطوني لوينستاين.

- التطهير العرقي في فلسطين/ إيلان بابه.

- رذائل المعرفة بحث في الأحكام الأخلاقية الفكرية/ باسكال إنجل

في المثقف اليوم