آراء

عبد السلام فاروق: الموجة الأخيرة

التاريخ بحر تتلاطم أمواجه على مرفأ الحاضر.. إنها أحداث مفصلية ومنعطفات تاريخية قلبت الموازين وبدلت خريطة العالم الجيوسياسية..بدءاً من البعثة النبوية وما تلاها من سقوط إمبراطوريتي الفرس والروم.. لعنة التتار.. وتوسع رقعة الاستعمار الأوروبي فى آسيا وإفريقيا تزامناً مع سقوط الخلافة العثمانية..سايكس بيكو وتقسيم كعكة الشرق الأوسط مع صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية، ولعل أشد وأسوأ موجات التاريخ المدمرة ما حدث من قيام دولة إسرائيل كشوكة مغروسة فى صدر الأمة العربية..فهل ما نشهده من أحداث ينبئ باقتراب إحدى موجات التاريخ الكبري التى تتغير على إثرها صفحة الأرض؟ وهل تكون هى الموجة الأخيرة؟

البوصلة تتجه شرقاً

شمعة الغرب توشك أن تذوب..البريق الأمريكى يكاد يخبو ويذوى..والقارة الأوروبية العجوز تستند على عصا نفوذها الاستعمارى القديم وتكافح كى لا تسقط..

أمريكا تتآكل من داخلها تآكل الرميم..الشباب الأمريكى غارق حتى أذنيه فى الملذات والمخدرات حتى لا تكاد تجد من بين كل مائة منهم واحداً صالحاً للعسكرية، وقد تفشى بينهم التهرب والفرار من التجنيد.وانتشرت عدوى اقتناء السلاح بينهم لدرجة أن عدد قطع السلاح فى شوارع وبيوت أمريكا يزيد عن ربع مليار قطعة؛ ولهذا انتشرت الجريمة بأنواعها فى ربوع الولايات تقودها عصابات منظمة زاد عددها عن 500 منظمة إجرامية، وارتفعت حالات الاعتداء الجنائى على تلاميذ المدارس عن عشرة آلاف حالة سنوياً، واكتظت السجون الأمريكية بسجناء بلغ تعدادهم أكثر من مليون سجين! واختفى الوازع الدينى تماماً ، فلولا الآلاف من رجال الشرطة لتحولت أمريكا إلى غابة تسيطر عليها جرائم السرقة والقتل والنهب والاغتصاب.

أزمة الاقتصاد العالمية أصابت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بضربات مهلكة، أشدها ضربة الحرب الروسية الأوكرانية التى ما فتئت تستنزف خزائن حلف الأطلسي ومستودعات أسلحته، والدين الأمريكى تجاوز حد 33 تريليون دولار، وباتت أية هزة اقتصادية بسيطة كافية لتدمير الاقتصاد الأمريكى ومن خلفه اقتصاديات الدول والبلدان المعتمدة على الدولار.

وبينما أوروبا وأمريكا مشغولتان بحروب وصراعات لا تنتهى ينطلق التنين الصينى فى مساره الاقتصادى كالصاروخ لا يعبأ بأمريكا ومخططاتها ومؤامراتها. إنها مسألة وقت حتى يصبح الاقتصاد الصينى هو الأول عالمياً . ولا شك أننا على أعتاب مرحلة تاريخية تنعكس فيها البوصلة من الغرب إلى الشرق..

البداية من الشرق الأوسط

لطالما كانت بؤرة الأحداث الكبري عبر التاريخ تنطلق من ها هنا..  أرض الشام بالتحديد كانت أهم بؤرة تدور حولها الصراعات منذ تم فتحها على عهد عمر بن الخطاب وحتى تسليمها لليهود بعد وعد بلفور..والمقاومة الفلسطينية لم تتوقف منذ عهد ياسر عرفات و أبو جهاد وحتى كتائب عز الدين القسام التى صنعت ملحمة السابع من أكتوبر باقتحامها لمستوطنات غلاف غزة وبدء معركة حاسمة ما زال مداها يتسع، وقد تصل إلى حد الحرب الشرق أوسطية متعددة الأطراف..

الإعلام الغربي يريد إعلانها حرباً دينية تلمودية من أجل إشعال فتيل شرارة هرمجدون ..تلك الحرب التى لها فى نفوس اليمين الأمريكي المتطرف قداسة خاصة..ولعلك تندهش إذا علمت أن السياحة الدينية فى إسرائيل حققت فى عام واحد ما زاد عن 4 مليارات دولار أغلبها أنفق على زيارة أرض الميعاد "مجيدو" المذكورة فى أساطير اليهود حول معركة هرمجدون.

الوضع فى فلسطين المحتلة يشتعل أكثر فأكثر..تل أبيب يتم قصفها يومياً بصواريخ تنطلق من الجنوب الغزاوى، وقد تم إجلاء أكثر من 60 ألف إسرائيلي من مناطق القصف المتاخمة للشواطئ إلى الداخل الإسرائيلي..وحزب الله بدأ مناوشات على الحدود الشمالية مهدداً باقتحام الحدود والاشتراك فى المعركة حال بدء الاجتياح البري لغزة..وأمريكا بدأت إجلاء رعاياها عبر ميناء حيفا..فى الوقت الذى يضغط فيه الرأى العام الإسرائيلي على حكومة نتنياهو من أجل استرداد الأسرى وإنهاء الحرب.

وجهة النظر الغربية تتفق مع توجهات الحكومة الإسرائيلية فى الرد العنيف الحاسم رغبة فى القضاء على عناصر المقاومة وللثأر لكرامة الجيش الإسرائيلي التى أهدرت فى السابع من أكتوبر بعملية طوفان الأقصى، ولهذا تحرك الأسطول الأمريكى متمثلاً فى حاملتى الطائرات الرابضتين فى شرق المتوسط.

وبالرغم من نبرة التهديد وحماسة الغضب لدى إسرائيل ومن خلفها أمريكا، يبدو خوفهما واضحاً بادياً من تردد إسرائيل فى اقتحام غزة برياً خوفاً من توسع دائرة الصراع. بل إن ماكرون أعلنها من فرنسا أنهم يخشون انتقال الصراع خارج الحدود. وأن جرائم الكراهية قد تنتشر وتتفشي كما حدث فى أمريكا من جريمة قتل مريعة نفذها مسن يهودى ضد طفل فلسطينى مقيم بأمريكا!

كل جرائم القتل التى ارتكبها اليهود فى فلسطين المحتلة لن تمر دون قصاص.. ولعلنا نشهد اليوم بدايات المعركة الفاصلة التى تنهدم فيها الجدران والحواجز..

لعنة العقد الثامن

ثمة أدلة متكررة من التاريخ أن العِقد الثامن من حياة كثير من الأمم يحمل نذيراً بقرب نهايتها..

إسرائيل الآن تعيش لعنة جيل الأحفاد؛ أولئك الذين يحدث بينهم الشقاق والتشظى بما ينذر بالأسوأ.. هناك انقسام حتى فى دوائر الحكومة الإسرائيلية ذاتها ما بين حكومة نتنياهو وأنصار بن غفير، وبدا هذا فى الخطاب الذى أراد نتنياهو إلقاءه على مسامع الضباط فى غلاف غزة فواجهوه بالسباب والصراخ ولم يستطع إلقاء الخطاب! أكثر من هذا أن كثيراً من المستوطنين باتت لديهم قناعة أن الحياة فى إسرائيل باتت مستحيلة، وتزداد تلك القناعة رسوخاً كلما توسعت دائرة المعارك وطال أمدها..ولأنهم جميعاً من مزدوجى الجنسية، فقد فر الكثير منهم إلى بلدانهم الأصلية فى أوروبا والأمريكتين خاصةً الأثرياء ورجال الأعمال منهم.

على الناحية الأخرى، أمريكا تعانى اقتصادياً بسبب دعمها لإسرائيل. وهناك أصوات تنادى برفع الدعم عنها وأن أمريكا تورطت فى صراع لا تريده، خاصةً وأنها تحقق لروسيا مكاسب غير مباشرة بفتح جبهات قتال متعددة بما يضر بمصالح أمريكا ضرراً كبيراً يزداد كلما استمرت الحرب.

اتساع نطاق الحرب ليس فى مصلحة إسرائيل. وخطة الاجتياح البري لغزة التى تنوى إسرائيل تنفيذها ستكون وبالاً عليها، وسوف تنفتح عليها أبواب الجحيم من كل جانب.. ولعل لعنة العقد الثامن قد أصابت جيل الأحفاد المترف المهزوم.

أحداث عظيمة قادمة

منذ عام 2020 ومع تفشى وباء كورونا وهناك نبرة تتصاعد أننا قادمون على أحداث النهاية!

مع كل تهديد بحرب نووية بين روسيا والناتو يقال إنها مقدمات للحرب العالمية الثالثة..ومع كل زلزال أو طوفان أو إعصار مدمر تصحو الهواجس وتنتشر الدعاوى أننا نشهد علامات آخر الزمان، وأن النبوءات والآيات تأتى تترى لتؤكد أن ما يحدث ليس إلا بدايات النهاية.

المؤكد أننا نشهد إرهاصات أفول الأحادية الأمريكية، وبداية موجة عظمى من موجات التاريخ التى من شأنها أن تغير وجه العالم..ولعل ما يحدث فى الشرق الأوسط هو الشرارة التى تنطلق منها أحداث عظيمة قادمة تجعل ما يأتى بعدها لا يشبه أى شئ مما كان قبلها.. فلا نظام عالمى، ولا مجتمع دولى، ولا شرطى كونى اسمه أمريكا، ولا شوكة فى خاصرة الأقصى اسمها إسرائيل.. وإنما خريطة سياسية جديدة وقواعد عالمية تختلف عما عهدناه ..والتاريخ يعلمنا أن الصراعات والحروب بدايات لموجة تاريخية عاتية تندثر على إثرها أمم وتنهض بدلاً منها أمم غيرها.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم