قراءة في كتاب

نبيل الربيعي: فالح مهدي ونقد المشاعر في الحيز الدائري لتاريخ الخوف (1)

الدكتور فالح مهدي مفكر عقلاني وباحث تنويري وروائي وقاص مبدع، ولج في أعماق الديانات وأفكارها، وصدر له خلال رحلته البحثية في مجال الظاهرة الدينية الكثير من المؤلفات الرصينة منها: (البحث عن منقذ.. دراسة مقارنة بين ثماني ديانات 1981م، صلوات الإنسان: ومن سومر إلى الإسلام عام 2011م، والخضوع السني والإحباط الشيعي: نقد العقل الدائري عام 2015م، وجذور الإله الواحد: نقد الإيديولوجية الدينية عام 2017م، وتاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري 2020م، وتاريخ الجنة: نقد مشاعر التفاؤل في الحيز الدائري، ومقالة في السفالة 2019.).

ولد الدكتور فالح مهدي في العاصمة بغداد عام 1947م، اكمل دراسته الأولية والثانوية فيها، وتخرج في كلية القانون عام 1970م، غادر العراق عام 1973م إلى الهند للدراسة في جامعة (بونا) وحاز على درجة الماجستير في العلوم السياسية ودبلوم في القانون الدولي عام 1976م، ثم نال شهادة الدكتوراه في جامعة باريس عام 1987. وكان موضوع أطروحته (أسس وآليات الدولة في الإسلام: العراق نموذجاً)، مارس التدريس في الجامعة ذاتها، وانتقل بعدها للتدريس في جامعة فيرساي لتدريس نفس المادة إضافة إلى مادة القانون الدستوري الفرنسي إلى عام 2003. وهو أستاذ القانون الدولي في جامعة السوربون.

في هذا المقال نسلط الضوء على كتابه (تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري)، الصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في مصر عام 2020م، الكتاب يتضمن (222) صفحة من الحجم الوزيري، وقد كُسرَ على ستة فصول. واستند في كتابه على تاريخ الخوف في العصور البدائية دون الاستناد على ايديولوجيا معينة لاعتقاده (أن الايديولوجيا مهما كان ذكاؤها مخربة لأي عمل جاد، وتُفقد العمل موضوعيته)، ففي مقدمة كتابه يطرح دائماً تساؤله (ما الخوف؟) ، فيتابع قواميس اللغة الفرنسية وقاموس أكسفورد واللغة العربية للبحث عن الاجابة، فوجد أن كل تلك التعاريف لن تفيدهُ في موضوع كتابه هذا والذي تضمن محاولة جادة لفهم موضوع الخوف الذي يصاب به الإنسان بالذعر والفزع والإرهاب وفقدان العقل، ولكن سارتر يقول (من لا يخاف ليس سوياً).

الدكتور هنا يبحث عن جذور الخوف وأصوله، وبداياته منذ عصر الصيد والعصر الزراعي والعالم الصناعي والتكنولوجي والعالم المعاصر، ففي ص6 يطرح رأيه قائلاً: (ليس هناك في الحيز الأفقي خوفٌ من عالم آخر بعد خروج الإنسان من هذا العالم، ليس هناك خوفٌ من نهاية العالم وحضور المنقذ ليخلص من نفهم برسالته وينقله إلى جنات النعيم). كما يرى الدكتور مهدي (أن من سعى إلى تخليص البشرية من الدين باعتباره مصدر كل المخاوف، جاء بنظام قائم على الخوف. وهنا أقصد النظام الشيوعي الذي قام ببنائه نظرياً لينين وشيده ستالين، حتى أصبح من أكثر الأنظمة إرهاباً في العالم) ص6. لكن لينين بالغ في ذلك ليكون بالضرورة مشتملاً على الدعاية إلى الإلحاد، (ما كتبه لينين حتى ماركس، لا يمثل نقداً للدين، بل طرداً لايديولوجيا لكي تحل محلها واحدة أخرى قائمة هي الأخرى على أوهام المستقبل الأفضل.. لكنما اعتبار الدين أفيون الشعوب كأُسّ لكل نقد، سيمنعنا من فهم حقيقة الدين!)ص8.

نقد الدين لا يعني اظهار عيوب الشيء كما قد يتبادر إلى الذهن، بل الكشف عن آليات فعله والغرض من قيامه وأهدافه المرتبطة بوجود ذلك الدين. لكن موضوع الخوف الذي يتطرق إليه الدكتور فالح مهدي في كتابه هذا في بحثه بالتفصيل وبشكل علمي وموضوعي وبحيادية، فهناك عدة اشكال للخوف منها الخوف من العائلة ومن المعتقد والتقليد والمجتمع ومن السلطة الاستبدادية في الدول الشرقية. ويبدأ الدكتور ببحثه في رحلته عبر الزمن عن مفهوم الموت في العالم القديم ومحاولة تسليط الضوء لفهم موضوع الزمن السهمي والزمن الدائري من خلال التراث الرافديني السومري والأكدي والعبري والزرادشتي والفرعوني، فيجد أن السباقون إليه السومريين في جنوب العراق ومن ثم الأكديون في وسط العراق. ليكتشف الباحث عن (أن السرقات العظيمة التي قام بها كتبة العهد القديم، تعود في جوهرها إلى بلاد الرافدين ومصر وسوريا وفلسطين... ومسيرة الزمن على شكل سهم وجد عند السومريين) ص19.

لقد قام كبار رجالات الدين السومريين وهم نخبة القوم بمراقبة السماء، ووجدوا أن الشمس تدور حول الأرض، تلك المراقبة تمثلت بوضع عصا مستقيمة في أعلى مكان الزقورة، ويجري تحريك العصا عبر مرور الشمس. وقد سمحت تلك المراقبة الدقيقة وعبر تحريك العصا بدقة في كل مرة ينتقل فيها ضوء الشمس بتقسيم السنة إلى 360 يوماً، وتقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً، يبدأ مع الربيع.... اليوم السابع الذي قدسه البابليون وتتوقف فيه الأعمال، أصبح في العبرية ومنذ السطور الأولى من السفر الثاني من كتاب التكوين؛ اليوم الذي يتوقف فيه الله عن العمل ويخلد للراحة بعد أن خلق الكون! ص20.

فيذكر الدكتور مهدي في ص21 من (أن السومريين والبابليين تصوروا وجود سبع سماوات..  وأن الميت يذهب إلى باطن الأرض بعد موته... وأن باطن الأرض موزع إلى سبعة أقسام... كما أن السومريين قسموا أيام الأسبوع إلى سبعة أيام.. وأن السبت في العربية وشابات في العبرية يشير إلى الرقم سبعة... بل ذهبت الحكايات فيه إلى أن سليمان شيد المعبد في سبع سنوات.... وعمر الإنسان قسم إلى سبعة: الولادة، الطفولة، المراهقة، سن الرشد، النضج، الشيخوخة، ومن ثم الموت. فأخذت به كل الديانات التوحيدية، وكان هذا الرقم حاضراً في معظم ثقافات العالم القديم، واستخدم هذا الرقم (77) مرة في العهد القديم، أما في ملحمة كلكامش فإن الطوفان لم ينتهِ إلا في اليوم السابع، وعجائب الدنيا سبع، والخطايا الكبرى سبع، والقارات سبع، والمحيطات سبع، والكائنات الشريرة عند البابليين تحولت في الديانات التوحيدية إلى شياطين كان عددها سبعة، وأبواب الجحيم سبعة، والافلاك سبعة، والألوان سبعة، والأذواق سبعة والروائح سبعة، وعجائب الدنيا سبعة، والحكماء عند السومريين سبعة، وابواب النار سبعة، والطوفان حول الكعبة سبعة، والسعي بين الصفا والمروة سبعة، ورمي الجمرات سبعة، واوان قوس قزح سبعة، والكون يحتوي على سبعة كواكب، والمصائب العظيمة في الثقافة الدينية الفرعونية تتألف من سبعة. وفي الصين وضعوا لأفعى الكوبرا سبعة رؤوس).

ونعود لكتاب الدكتور فالح مهدي حول الخوف في الثقافات القديمة، فنجد موت انكيدو في ملحمة كلكامش قد فقده بصيرته حتى تخلى عن مباهج الدنيا، بعدما تجشم عناء رحلة محفوفة بالمخاطر ومواجهة الأخطار في قطع البحار والمحيطات حتى يصل إلى نهاية العالم ويلتقي بـ(اتونابشتم) الذي منحته الآلهة الخلود مع زوجته، فهو الناجي الوحيد مع زوجته من عالم الطوفان. (كانت الحكمة ذات المدلولات الرفيعة التي وردت في هذه الملحمة، هي أن مصير الإنسان الموت لا محالة في ذلك. فقد عاد كلكامش بخفي حنين بعد تلك الرحلة المضنية) ص25-26. لأنه كان على يقين بأن اعمال المرء الحسنة تكمن في الخلود، فقرر العودة وبناء مدينة أوروك ونشر العدل والسلام بين ابناء شعبه. فيؤكد الدكتور مهدي أن (هذا المكان الأتونبشتي هو الذي ستحوله الديانات التوحيدية إلى الزمن الأبدي، والذي ستأتي بعد أن تنتهي الحياة فوق الأرض بأمر الله والذي يعني انتهاء الزمن الأرضي... الزمن الرافديني يتمثل بسهم خلقته الآلهة في لحظةٍ ما، وقررت أن تنهيه وتبدأ بزمن آخر هو زمن الخلود، زمن الآلهة ومن رأت أن تخلده كأتونوبشتم وزوجته) ص26.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في المثقف اليوم