قراءات نقدية

ربيع الحياة في أشجار سعد ياسين يوسف .. أشجار خريف موحش أنموذجاً

808-sadالتجارب الابداعية لها مراحل، المبتدئ هو هذا الذي يشق طريقه وهو في أوله، وتكون كتاباته بحاجة الى الكثير من التقويم والتجربة والخبرة، والمتوسط الذي وصل وسط الطريق، فاكتسب الخبرة في مسيرته الابداعية، والمتقدم المتمكن الذي اجتاز الطريق وتجاوزه وهذا هو الشاعر الذي امتلك حرفية وخبرة، وتراكمت تجاربه وامتهن الشعر، وفي ديوان (أشجار خريف موحش) للشاعر سعد ياسين يوسف، نكتشف الاحتراف والخبرة والحرفية والمهنية، في صناعة المفردة الشعرية فنياً، وكذلك في سياق القصيدة وبنيتها، وفي اتساقها وتناسقها، فإن مفردته الشعرية في صورتها، ورمزها، ودلالتها، تنشطر، وتتشظى، وتنتشر، لتعطي اكثر من معنى، وتكون عميقة بعمق التجربة الشعرية، و التي يكون فضاؤوها واسعاً رحباً، وإيقاعها متناغم، وصوتها كبير، وتأثيرها يصل الى الهدف المبتغى، وتحمل رسائل انسانية كبيرة، حتى نكاد نشعر ان بين ثناياها تضمر انساق فطرة الانسان، الذي لا يعرف الحرب، لا يعرف الدمار، لا يعرف التفرقة، بل ان في مضمونها ذلك الانسان الذي يشد بعضه بعضاً، إنه كالبنيان المرصوص، وفيها خطاب ثقافي وإنساني واجتماعي واضح وصريح، الى الموجه في هذا البلد ان كان سياسياً، او واعظاً، او رجل دين، او معلماً، تصل الى حد التحذير، بأن توجههم آخذ بالانحراف، وان الحياة في هذه الارض فقدت صفاءها ونقاءها، وسلامها، وأمنها، وحنينها، وألفتها، وعليهم ان يعيدوا حساباتهم من جديد، وان القصيدة قطعة واحدة متراصة، متينة، لثيمتها ثلاث جذور، الامتداد حيث الماضي والموروث التراثي والحضاري وحتى الانساني، اذ أن الانسان في الماضي اكثر حضوراً في انسانيته، وتواده، وتراحمه، ثم الجذر الثاني وهو لواقع المعاش الذي هو خليط من المتناقضات الذي سيقودنا الى حافة الهلاك، والجذر الثالث هو ربيع الحياة، الامل، الحلم، روح التفاؤل نحو حياة هي البديل عن هذا الخريف الموحش، الذي اجتاح حياتنا، وأشجاره التي تتساقط منها اوراق الدمار، والحرب والهلاك، ففي قصيدة (مرثية لسائق الغمام) يذكرنا الشاعر بالجذر الأول الذي من فرط صفاءه، ونقاءه، وورعه، وطهره، حيث يستجاب الدعاء، اذا ما جفت الارض وعطشت واحتاجت الى الماء لسقيها، وما أنْ ترفع الأكف للدعاء، حتى يستجاب لها، وينهمر المطر ليروي ظمأها:

 

808-sad" منذ زمان كنا

اذا ما ولج المحل

بخاصرة الارض

خرجنا

نرفع كف الرحمة

فيجيء الغيم، المطر،

الخبز

يفيضُ النهرُ، وتعلو

سنبلةُ الارض،وتنأى اشلاءُ الليل ِ

بقاياهُ الرثة "

 

ويستمر الشاعر بتبادل أدوار الجذور ليضع أمامنا صورة الواقع المعاش، والذي تجف الارض وتتيبس، وترفع الاكف بالدعاء، لكن ليس هنالك بادرة أمل، للغيم، للمطر، للخير، حيث الارض محل ودم، وسائق الغمام هذا الرمز الكبير الذي ضمنه الشاعر في قصيدته، له أكثر من معنى وأكثر من دلالة، لأنه السبب الى ما آلت اليه حياتنا، وهو السبب في عدم هطول الأمطار، وانه يريد خراج هذا الغيم لأرضه فقط، استفاد الشاعر من الموروث التاريخي حيث انَّ هذه الصورة متناصة مع حكاية هارون الرشيد عندما كان يخاطب الغيم والمطر (أينما ذهبت فخراجك على أرضي) وهي معكوسة اليوم أذ أنَّ نسقها المضمر يشير إلى أن الغيم والمطر لسائق الغمام فقط، الخير للسرقة للفساد، فيدخل الجذر الثالث، ربيع الحياة ليعلن :

 

" يا سائق الغمام

لم تعد تقوى

على وجعي المعتق

أحلامي وموتي

يا سائق الغمام لا الغيم غيمك

لا الخراج

عجل، فالمدى صبحٌ

وإمساكٌ عن الصيام "

 

وهكذا فإن الرموز الثلاثة حاضرة في كل قصيدة، وأنَّ استخدامها يتم حسب متطلبات القصيدة، وثيمتها، ورسالتها، وهدفها الانساني، وبعمق المفردة الشعرية التي هي أيضاً لها ثلاث وجوه، ولها رموز ودلالات وصور متصلة بوحدة الموضوع، الذي هو بناء متراص متين في فضاء القصيدة، ولكل قصيدة إيقاع مختلف عن سابقتها، ففي قصيدة (من مقام الخسارات) يتوضح الأمر أكثر، ونجد هذا الارتباط يكتنف مضمون القصيدة :

 

" حين ولدتُ

لم أخرج بمشيمة

- قالت ( قابلتي المأذونة )  

بل كانت سلة

لخسارات وليدة

هكذا ..... "

 

حيث انه عاش الولادة الخاسرة بسوء طالعه، وحياته ملأى بخسارات السنين الماضيات :

 

" كم من القبلات قد خسرنا؟

كم من الأقمار آثرتِ الرحيل؟

وأغلقت شرفات ضوء اللوعة

وانثنت حزناً وغادرت السماء .

كم من الأمطار لم تروِ الغلال؟

كم من الأزهار جفتْ .

تحت أوراق الخريف؟"

 

     إنَّ الشاعر يصوغ هذه الخسارات منذ الولادة وحتى خريف العمر، بقصيدة شعرية حملت رموزها الفنية بتقنية عالية، وهو يحافظ على بنية القصيدة وعمقها الدلالي، فتأتي المفردة غارقة في عمق المعنى الدلالي . إنَّ الشاعر لم يغفل الجانب المهم في كل قصيدة وهي الهيمنة التامة على حواس المتلقي، وسحبه نحو بحر القصيدة ليسبر أغوارها ويعيشها، حالماً، هائماً، متوقداً شعلة من الإحساس، كما نرى ذلك في قصيدة (قبل أن يلقي إلى البحر شراعه) وقصيدة (أغنية من رأى) وقصيدة (دم الكرستال) أما في قصيدة (أشجار خريف موحش) نقف أمام الأبعاد الثلاثة بكل عمقها، حيث يصور لنا الشاعر هذا الخريف الموحش،شعراً يفوق الخيال وذلك في القصيدة التي أكتسبت المجموعة اسمها منه:

 

"عند ضياءٍ

يُوصف "فجراً"

وصلنا كتف كتاب البحر

نثار زوارقنا يطفو خشباً أدماه الموج،

رؤوس الأطفال المذبوحين

بنهم بني كاذب،

.......... "

 

وهكذا فأن هذه القصيدة تحتاج الى مساحة واسعة من التحليل، فأنني ساترك ذلك للمتلقي الذي سيجد فيها الكثير من الرموز والدلالات، التي تؤكد هذا الخريف الموحش وأشجاره المخيفة،وفي قصيدة (غربة نورس الصباح) المهداة إلى رفيق طفولته صباح سعيد، ينقلنا الشاعر إلى أجواء الجنوب والذكريات و) عكد التوراة) و (السراي) و (المركب الغركان) وأجواء محافظة ميسان، وفي قصيدة (ترتيلة لدمشق) يتغنى الشاعر بدمشق ومفاتنها وتاريخها الموغل في القدم، وفي قصيدة " قيامة بابل " نجد الشاعر يمسك بخيوط نسيج القصيدة، ويدعم بنيتها بايقاعها المميز وهو يستعرض حضارة بابل العريقة ليربطها بالواقع المعاش وهو يرنو إلى المستقبل حيث ربيع الحياة، ثم تأتي قصيدة عن الرسول محمد ص، التي تستعرض أخلاقه وصفاته، وهناك بقية القصائدة التي تحتاج الكثير من التحليل، الذي لا يمكن أن تضمه هذه الدراسة، إنَّ ديوان) أشجار خريف موحش) للشاعر سعد ياسين يوسف فيه العمق الفني، وفيه البناء المتماسك، وفيه المفردة الشعرية المنتقاة، وفيه الجذور الثلاثة، وفيه الخطاب الأدبي، والخطاب الثقافي، والخطاب الانساني، وفيه رؤية فلسفية عالية، انه نداء للخروج من هذا الخريف لموحش وأشجاره المخيفة الى حيث ربيع الحياة .

ضم الديوان ثلاثين قصيدة، أختلفت في ثيمتها ورسالتها وخطابها، وقد أجاد الشاعر في ابتكار قصائده برؤية عالية التشكيل والأبداع .

 

نقد / يوسف عبود جويعد

في المثقف اليوم