دراسات وبحوث

منى زيتون: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ

ينص القرآن الكريم على أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام، وهو من علّمه، وهناك حوارات بين الله تعالى وأبينا آدم تؤكد أنه لم تكن هناك واسطة بينهما. بل إن الحوار الذي دار في الجنة بعد خطيئة الأكل من الشجرة دال على أن الله تعالى قد كلّم أمنا حواء أيضًا. والتكليم يظهر بوضوح من استخدام الفعل ‏﴿‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا﴾.

‏﴿‏فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)﴾ [الأعراف: 22- 25].

وينص القرآن الكريم على أن الله يكلم البشر بالوحي الذي يُقذف في القلب أو تكليمًا من وراء حجاب يُتلقى بالأذن، أو يرسل ملكًا رسولًا بوحيه، وأن رسولنا عليه الصلاة والسلام تلقى عن الله وحيًا بأمره بواسطة ملك، فلم يكلمه الله لا وحيًا ولا من وراء حجاب.

‏‏‏‏﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ ‏رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا ‏إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ ‏جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ ‏مُسْتَقِيمٍ (52)‏﴾‏ [الشورى: 51- 52].

ويُفهم من آيات أخرى أن الشكل الشائع من الوحي يكون بإرسال الملائكة وليس التكليم؛ فالله تعالى يتخير الرُسل من بني آدم وفقًا لمشيئته ليبعث لهم ملائكة ينزلون عليهم بأمر الله، يوحون إليهم؛ ليُبلغوا عنه ويُنذروا خلقه.

‏‏﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ ‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)﴾ [النحل: 2].

‏‏‏‏﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ ‏عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)﴾‏ [غافر: 15].

ويُفهم من آيات أخرى –كما سنعرض- أنه يجوز أن يكون الوحي من الله بالإلهام والإفهام، وهذان الشكلان من الوحي غير مختصين بالرسل والأنبياء.

وفي آيتي الوحي في سورة النساء يؤكد الله تعالى أنه لم يكلم أحدًا من رسله تكليمًا حقيقيًا من وراء حجاب منذ أن أرسل نوحًا إلا موسى، فكان موسى عليه السلام استثناء من بينهم، بينما بقيتهم من نوح فما بعده أوحي إليهم تكليم وحي أو عن طريق ملائكة. وذكرنا أن آدم وحواء قد كلّمهما الله، وكون النص في سورة النساء لم يذكر استثناء موسى من عهد آدم عليه السلام فهذا دال على أن الله كلّمهما تكليمًا من وراء حجاب كتكليمه موسى. ويذكر النص أيضًا أن الله تعالى لم يقص على رسولنا عليه الصلاة والسلام أخبار جميع الرسل.

﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى ‏إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ ‏وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ ‏عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏‏(164)‏﴾ [النساء: 163- 164].

وفي الآية الأولى إشارة إلى أن نوحًا عليه السلام كان أول من تلقّى الوحي من خلال الملائكة، وتلقّى الرسل من بعده الوحي بالطريقة ذاتها التي تلقّى بها عن الله.  وإن كانت الآية لم تذكر إدريس عليه السلام، وهو الجد الثاني لنوح وفقًا للتوراة إن كان هو أخنوخ، وقد ذكرنا في مبحث سابق أنه غالبًا ليس هو، ولا ذكرت الآية شيثَ بن آدم عليهما السلام، وشيث لم يُذكر في القرآن مطلقًا. كما تشير الآية إلى وجود أنبياء بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، انفرد القرآن بأن ذكر لنا منهم هودًا وصالحًا. وقد ورد في الأثر أن بين نوح وإبراهيم ألف سنة.

وهناك آية في سورة البقرة لا ترجح أن يكون قد أرسل إلى الأرض رسول في زمن آدم أو بعده مباشرة، وإنما أرسل الرسل بعد أن اختلف الناس.

﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾‏ [البقرة: 213].

وقد ذكر السيوطي في "الدر المنثور" "وَأخرج الْبَزَّار وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ بَين آدم ونوح عشرَة قُرُون كلهم على شَرِيعَة من الْحق فَاخْتَلَفُوا فَبعث الله النَّبِيين".

والقرآن والسنة النبوية وإن كانا لم يذكرا أو يُشيرا إلى شيث بن آدم، ولا إلى أخنوخ، إلا أن القرآن أشار إلى أنه ربما كان هناك أنبياء من ذرية آدم قبل نوح أو معه.

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏﴾‏ [مريم: 58].

كما أن عدم استخدام القرآن الكريم تعبير (من ذرية نوح)، يفيد بأن بعض الرسل كانوا من القلة المؤمنة التي ركبت معه السفينة، ولم يكونوا من ذريته.

وهناك آيات ربما كان قصد القرآن منها أنه كانت هناك رسل مع نوح من ذرية آدم أرسلوا معه إلى قومه، وماتوا قبله فلم يكونوا ممن ركبوا الفُلك، وهو ما لم تذكره التوراة.

﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفرقان: 37]. ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105].

وهناك اعتقاد لدى كثير من المسلمين أن الله تعالى قد كلّم نبينا محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام عندما عُرج به إلى السماء لفرض الصلاة؛ كون الصلاة عروج بالروح إلى بارئها، فليست كسائر العبادات، من ثم فقد فُرضت في السماء.  ويعتقدون أن الآيات من أول سورة النجم تصف ما حدث معه في هذا العروج.

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾‏ [النجم: 1- 18].

ولكن الآيات تتحدث عن حدثين؛ أولهما رؤية نبينا لجبريل رؤية قلبية، كان فيها جبريل على صورته عاليًا في الأفق ويسده من عِظمه، ثم نزل واقترب منه إلى أدنى ما يكون الاقتراب وأوحى إليه، والثاني رؤية أخرى رآها نبينا ببصره لجبريل ولما هو أعظم من جبريل عند السدرة التي عند جنة المأوى، ومن ثم فقد كانا –نبينا وجبريل- في السماء. ولو كان قيل جنة فقط لأمكن الافتراض أنها أي جنة أرضية.

وأنا ممن يرجح أن الآيات (13: 18) من سورة النجم تصف بعضًا مما حدث في المعراج عندما عُرج بنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام مع الروح الأمين جبريل، فكانت نزلة ليست كنزلات جبريل المعتادة عليه على الأرض التي ينزلها ليوحي له بالقرآن، كما أنها ليست كنزلته التي سد فيها أفق السماء قبل أن يقترب من رسولنا ليوحي إليه، وإنما نزلة رأى رسولنا جبريلَ ببصره عند السدرة التي هي آخر ما ينبغي له أن يصل، وعندها الجنة، وقد غشي السدرة وقتها من العجائب والآيات الكبرى التي لا توصف لعظمتها، ولم ينزع رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام بصره عما يحدث عند السدرة، وكذا ما طغى بصره لأن الله تعالى لا تدركه الأبصار. ومن ثم فقدتنزل عليه جبريل هذه النزلة الأخرى التي رآه فيها ببصره وهما في السماء، وأوحى الله تعالى إليه عندها الصلاة بواسطة جبريل، فلم يُذكر تكليم واستماع قط، وإنما هو وحي. ثم ما سبب ظهور جبريل إلا أن يُتنزل عليه بواسطته؟

ولكن أنكر صلة هذه الآيات بالمعراج من أرادوا أن يكايدوا اليهود زورًا بأن محمدًا كلّم ربه عندما عُرج به، وأثبتها على أنها رؤية لله وليس لجبريل من فهم من الآيات أنه رآه!

وكان الإمام مسلم وأحمد وغيرهما قد رويا عن ابن عباس قوله إن محمدًا رأى ربه بقلبه مرتين، وروى بعضهم عنه الرؤية البصرية لله تعالى. وقد روى الإمام الترمذي في سننه (3278) عن لقاء جمع بين ابن عباس وكعب الأحبار في الحج، تحاورا فيه عن الرؤية، فقال كعب: "إن الله ‏قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين". ‏والترمذي نفسه يروي في "السنن" (3068) عن السيدة عائشة قولها: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله".

ثم إن هذا الوحي المذكور في الحدث الثاني يستحيل أن يكون بآيات القرآن لأن القرآن وسائر الكتب السماوية منزلة تنزيلًا أرضيًا،  ولم يرو مطلقًا أن نبيًا قد ارتفع ليتلقاها عن رب العزة وتتنزل عليه وهو في السماء، بل المشترك بين الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن أنها نزلت عليهم وهم فوق جبال، فهذا كان مبلغ العلو الذي كان للنبي الذي تنزلت عليه.

وينص القرآن الكريم في غير موضع أن القرآن الكريم تنزيل من الله، وأنه نزل بواسطة ملاك الوحي جبريل، وأن رسولنا محمدًا عليه الصلاة والسلام تلقاه عن جبريل بقلبه وليس سمعه، فأجراه الله على لسانه فقرأه قُرْآنًا عَرَبِيًّا. ولأنه نزل على القلب فهو محفوظ في القلوب قبل السطور. لكن ربما كلّمه جبريل بغير القرآن تمييزًا عن الإجراء على القلب بالقرآن.

‏﴿‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾‏ [الشعراء: 192- 195].

والآيات في سورة النجم التي تتحدث عن المعراج تختم بذكر أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى من آيات ربه الكبرى، وهو ذاته ما أورده الحق سبحانه وتعالى تعليلًا للإسراء، فالهدف منه كان أن يرى رسولنا بعضًا من آيات الله، ولم يرد في القرآن مطلقًا أنه تعالى أراه نفسه.

‏﴿‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾‏ [الإسراء: 1].

ولكن الصياغة في سورة النجم تقرر أنه صلى الله عليه وسلم  رأى من آيات الله الكبرى، ولا تجعلها تعليلًا للمعراج؛ فالمعراج كما نعلم كان بهدف فرض الصلاة على المسلمين.

فكأن الرؤيتين في أوائل آيات سورة النجم كان معهما وحيان؛ ففي الرؤية الأولى منه لجبريل عندما نزل عليه أوحى الله إلى جبريل ما أوحى به إلى رسولنا أنه ملك ليطمئن إليه، وربما أوحى إليه أيضًا شيئًا من القرآن بعد أن دنا، وفي الثانية التي ارتفع فيها نبينا مع جبريل ورآه ببصره عند السدرة والجنة، ورأى جبريل على صورته، كما رأى من آيات الله ما هو أعظم من جبريل، كان وحي الله بواسطة جبريل بفرض الصلاة وكيفيتها.

وعليه فإنه لم يرتفع عبد إلى المكان الذي ارتفع إليه محمد عليه الصلاة والسلام منذ هبط أبونا آدم من الجنة، وما من رفعة فوق أن تقترن الشهادة بأن الله واحد بالشهادة أنه رسوله، ولكن موسى عليه السلام يتفرد‏ عن الأنبياء منذ عهد نوح بكونه كليم الله، ولم يثبت يقينًا أن أحدًا كلمه الله غير موسى من بعد آدم. أما المسيح عليه السلام فقد خلقه الله تعالى من تراب مثل آدم! فكل من الثلاثة شابه أباه آدم في شيء من التبجيل!

﴿‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏﴾‏ [الأعراف: 144].

﴿‏‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾‏ [آل عمران: 59].

ولا شك أن جميع ما ينطقه الأنبياء لا يخرج عن أن يكون وحيًا بأي شكل كان، وقد قال الله تعالى في حق نبينا عليه الصلاة والسلام: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ [النجم: 3- 4]. ومثله في ذلك باقي الأنبياء، وقد عوقب يونس عليه السلام لأنه ترك قومه مغاضبًا وخرج دون وحي من الله له أن يفعل. ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾ [الأنبياء: 87].

ورغم أن حوارًا دار بين الله تعالى ونوح عليه السلام عن ابنه الكافر قد يُفهم منه ظاهريًا أن الله تعالى كلّمه تكليمًا كتكليم موسى، إلا أن آيتي الوحي في النساء واضحتان، فلله كليم واحد كلّمه من وراء حجاب منذ زمن نوح، وهو موسى، عليهما وعلى نبينا السلام. ومن ثم فإما أن الله تعالى كلّم نوحًا وحيًا قُذف في قلبه أو أوحى إليه عن طريق ملائكته كلامًا، والأخير أيضًا وحي عن طريق الملائكة، ولا يُسمى تكليمًا إلا ما تكلم الله به وليس ملائكته. واستخدام الفعلان ‏﴿‏قَالَ يَا نُوحُ﴾ و ﴿‏قِيلَ يَا نُوحُ﴾ ربما يفهمنا أن في الأولى كان تكليمًا من الله بالوحي للقلب، وغاب فعل النداء لأن كلام الله تعالى كان ردًا على نوح عليه السلام، وفي الثانية كان كلامًا نقلته له الملائكة.

‏﴿‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)﴾ [‏هود: 45- 48].

وكذلك ذُكرت المناداة في حق إبراهيم الخليل في حادثة الفداء، وإبراهيم عليه السلام ذُكر في آيتي سورة النساء، من ثم فإما أن الله تعالى كلّمه وحيًا قُذف في قلبه أو أوحى إليه عن طريق ملائكته كلامًا، ‏ولكن استخدام الفعل ‏﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾ يُرجح أنه كان تكليمًا قُذف في قلبه وليس بواسطة ملائكة. كما يظهر في الآيات قبل حادثة الفداء الوحي عن طريق الرؤيا. ووحي الرؤيا ليس مختصًا بالأنبياء، لكن ليس كل ما يراه الناس رؤى فبعضها أضغاث أحلام ومن أحاديث النفس.

‏﴿‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)﴾ [‏الصافات: 102- 106].

وذُكر حوار الله مع خليله إبراهيم مرات في القرآن الكريم، ولكنه لم يكن تكليمًا كتكليم موسى.

‏﴿‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾ [‏البقرة: 124].

‏﴿‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)﴾ [‏البقرة: 260].

وكذا في تكليم عُزير الذي أماته الله مئة عام، فقطعًا كان عن طريق ملك.

﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)﴾ [البقرة: 259].

وذكر الوحي بتكليم الملائكة كان أوضح عند ذكر البشارات بيحيى والمسيح عليهما السلام، إذ ذُكرت الملائكة صراحة، وزكريا عليه السلام لم يُذكر في آية الوحي في سورة النساء، فكأنه أوحي إليه بطريقة تخالف التي أوحي بها إلى نوح والنبيين من بعده ومنهم نبينا محمد؛ إذ أمر الله الملائكة أن تكلم زكريا وهو يصلي في المحراب؛ وتبشره بيحيى عليه السلام، فلم يكن وحيًا أجراه الله على قلبه أو أمر ملائكته بإجرائه. ورغم أن حوارًا يظهر بعد ذلك إلا أن ضمير المتكلم يغيب عن الآيات، فالملائكة كانت ترد بما أوحى الله لها به أن تتكلم.

﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)﴾ [آل عمران: 39- 41].

كذلك بشرت الملائكة السيدة مريم مرتين قولًا وليس تنزيلًا على القلب؛ فالأولى بأن الله اصطفاها وطهرها، وأمرتها بعبادة الله شكرًا على هذا الاصطفاء.

﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)﴾ [آل عمران: 42- 43].

ثم بشرتها الملائكة بالمسيح عليه السلام، فتساءلت كيف، فأوحي إليها بالجواب.

﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)﴾ [آل عمران: 45- 47].

وتكررت البشارة بالمسيح، لكن هذه المرة عندما أرسل الله المَلَك للسيدة العذراء مريم، وتكلم معها على هيئة بشر، وبشرها بالمسيح عليه السلام فحملت به، ثم ولدته.

‏﴿‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)﴾ [‏مريم: 16-26].

وكما تقدم فقد ذكرنا أن الوحي لا يكون فقط وحي تكليم أو بواسطة ملك، وهو الوحي الذي يختص الله به الرسل والأنبياء دون غيرهم، ولا أعلم أحدًا أوحي إليه عن طريق الملائكة سواهم إلا السيدة مريم والذي أماته الله مائة عام، وإنما يتضح من آيات القرآن أن الوحي قد يكون بالإفهام أو الإلهام، للأنبياء أو لغيرهم.

ومن أمثلة الوحي بالإفهام للأنبياء قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: 79]. فهو وحي الفتوح التي يفتحها الله على الأنبياء بغير واسطة ملك، كما يفتح به على العلماء والعارفين به، فيفهمهم ويعلمهم علمًا لدني من عنده، لم يتلقوه عن معلم، ومثال ذلك العبد الصالح الذي صاحبه موسى عليه السلام في القصة الشهيرة المروية في سورة الكهف.

﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)﴾ [الكهف: 65- 66].

وقد دلل القرآن على أن هذا العبد الصالح ما خرق السفينة وقتل الغلام وبنى الجدار إلا بوحي من الله تعالى، وإن كان لم يُنص على نوعه، لكنه على الأرجح وحي إفهام لأن الملائكة لا تتنزل سوى على الأنبياء، كما أن النص لا يشير إليه؛ إلا إن كان نبيًا غير مرسل.

﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)﴾ [الكهف: 82].

ومن أمثلة وحي الإلهام، ما ذكره الله تعالى عن وحيه إلى أم موسى، فألهمها أن تفعل ما كان فيه نجاة ولدها، فهو وحي الله للأتقياء من عباده، ممن أحسنوا التوكل عليه، وطلبوا منه أن يتولى تدبير أمورهم، حين يلهمهم أن يسلكوا على نحو لم يُقدروه بأنفسهم.

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾ [القصص: 7].

ويوضح القرآن أن الكلام هو شكل خاص من الوحي، ولم يُذكر النداء كفعل من الله لأحد من أنبيائه إلا لموسى ولآدم في الجنة ولإبراهيم بعد أن هم بذبح ابنه، ولكنه لم يقترن بالاستماع ولم يُذكر الاستماع كفعل عند وحي الله للأنبياء إلا من موسى عليه السلام؛ كونه كلامًا مباشرًا من الله أدركه موسى بآلة (الأذن).

﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)﴾ [طه: 11- 13].

﴿‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)﴾ [الشعراء: 10- 11].

‏﴿‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)﴾ [القصص: 46].

ولكن بالرغم من كون موسى عليه السلام هو كليم الله فالقرآن الكريم لم ينص على تكليم الله تعالى له سوى مرتين، ويُفهم من هذا أنه قد أوحي إليه كما أوحي إلى باقي النبيين فيما عدا هاتين الحادثتين.

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)﴾ [الأعراف: 117].

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [الأعراف: 160].

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)﴾ [يونس: 87].

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)﴾ [الشعراء: 52].

ولا شك في أنه قد أوحي إليه في حادثة البقرة التي أمرهم بذبحها. ولكن كل ما سبق هو الحال في الحياة الدنيا، أما يوم القيامة فالقرآن يخبرنا أن الله تعالى سيكلم خلقه جميعهم، ولن يخص تكليمه يومها أحد.

‏﴿‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)﴾ [القصص: 62- 66].

وقد أسمى الله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون يوم القيامة يوم التناد.

‏﴿‏وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)﴾ [غافر: 32].

﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)﴾ [ق: 41- 44].

بينما تمتلئ التوراة في إصحاحاتها الأولى من سفر التكوين بذكر أخبار تكليم الله تعالى لغير موسى عليه السلام؛ في الواقع أو الرؤيا، وأحيانًا يُذكر أن المتحدث ملاك الرب.

‏﴿15وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قَائِلاً: 16«اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. 17وَكُلَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مَعَكَ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ: الطُّيُورِ، وَالْبَهَائِمِ، وَكُلَّ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، أَخْرِجْهَا مَعَكَ. وَلْتَتَوَالَدْ فِي الأَرْضِ وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى الأَرْضِ».‏‏﴾‏ [تكوين: 8: 15- 17].

‏﴿1بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ صَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى أَبْرَامَ فِي الرُّؤْيَا‏‏﴾‏ [تكوين: 15: 1].

وذكرت التوراة تنزل الملك على السيدة هاجر أم إسماعيل مرة.

﴿‏‏7فَوَجَدَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ عَلَى عَيْنِ الْمَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ، عَلَى الْعَيْنِ الَّتِي فِي طَرِيقِ شُورَ. 8وَقَالَ: «يَا هَاجَرُ جَارِيَةَ سَارَايَ، مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبِينَ؟».﴾‏ [تكوين: 16: 7- 8].

وفي مرات ذكرت التوراة الرؤية البصرية لله إضافة إلى الكلام معه، وكان ذلك مع إبراهيم عليه السلام.

﴿6وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ إِلَى مَكَانِ شَكِيمَ إِلَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. 7وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ».﴾‏ [تكوين: 12: 6- 7].

﴿1وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً، 2فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيرًا جِدًّا».‏﴾‏ [تكوين: ‏17: 1- 2].

﴿22فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَهُ صَعِدَ اللهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ.﴾‏ [تكوين: ‏17: 22].

ووصل الحال إلى سؤال الرب وتلقي الإجابة منه! وهو ما نُسب إلى السيدة رفقة زوجة إسحق عليه السلام.

﴿21وَصَلَّى إِسْحَاقُ إِلَى الرَّبِّ لأَجْلِ امْرَأَتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، فَاسْتَجَابَ لَهُ الرَّبُّ، فَحَبِلَتْ رِفْقَةُ امْرَأَتُهُ. 22وَتَزَاحَمَ الْوَلَدَانِ فِي بَطْنِهَا، فَقَالَتْ: «إِنْ كَانَ هكَذَا فَلِمَاذَا أَنَا؟» فَمَضَتْ لِتَسْأَلَ الرَّبَّ. 23فَقَالَ لَهَا الرَّبُّ: «فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ».﴾‏ [تكوين: 25: 21- 23].

ثم في سفر الخروج أكثرت التوراة من ذكر أخبار تكليم الله تعالى لموسى في كثير من المواضع، وكأنها طريقة الوحي الوحيدة التي يتواصل بها الله تعالى مع موسى عليه السلام.

وتذكر التوراة أن الله تعالى كلّم هارون عليه السلام، وكذا كلم أخته مريم النبية.

﴿27وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: «اذْهَبْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لاسْتِقْبَالِ مُوسَى». فَذَهَبَ وَالْتَقَاهُ فِي جَبَلِ اللهِ وَقَبَّلَهُ.﴾ [‏خروج: 4: 27]. وإن كانت هناك آيات تبدو من التعديلات ألتي أحدثوها في توراتهم بعد نزول القرآن بأن تكليم موسى يختلف عن تكليمهم، فتكليمهم يكون في الرؤيا.

‏﴿‏1وَتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى ........ 2فَقَالاَ: «هَلْ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلَمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضًا؟» فَسَمِعَ الرَّبُّ. ........ 4فَقَالَ الرَّبُّ حَالاً لِمُوسَى وَهَارُونَ وَمَرْيَمَ: «اخْرُجُوا أَنْتُمُ الثَّلاَثَةُ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ». فَخَرَجُوا هُمُ الثَّلاَثَةُ. 5فَنَزَلَ الرَّبُّ فِي عَمُودِ سَحَابٍ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ، وَدَعَا هَارُونَ وَمَرْيَمَ فَخَرَجَا كِلاَهُمَا. 6فَقَالَ: «اسْمَعَا كَلاَمِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. 7وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. 8فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟».﴾ [عدد: 12: 1- 8].

كما ادعت التوراة أن بني إسرائيل قد سمعوا وصايا الله إلى موسى، وذكرت أن وحي بلعام بن باعوراء كان وحيًا يسمع به صوت الله وهو في حال اليقظة، وبلعام لم يكن نبيًا!

﴿1فَلَمَّا رَأَى بَلْعَامُ أَنَّهُ يَحْسُنُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ أَنْ يُبَارِكَ إِسْرَائِيلَ، لَمْ يَنْطَلِقْ كَالْمَرَّةِ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ لِيُوافِيَ فَأْلاً، بَلْ جَعَلَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ وَجْهَهُ. 2وَرَفَعَ بَلْعَامُ عَيْنَيْهِ وَرَأَى إِسْرَائِيلَ حَالاُ حَسَبَ أَسْبَاطِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ اللهِ، 3فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «وَحْيُ بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ. وَحْيُ الرَّجُلِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ. 4وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ. الَّذِي يَرَى رُؤْيَا الْقَدِيرِ، مَطْرُوحًا وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَيْنَيْنِ﴾ [عدد: 24: 1- 4].

وكل هذا لأن بلعام كان يتكلم بما يعجبهم، فهو من اتخذ إلهه هواه الذي أضله الله على علم، المذكور في القرآن، ويصفه القرآن بصفات تختلف كلية عن تلك التي في التوراة، فهو مختوم على سمعه وقلبه؛ لا يُجري عليه وحي تكليم فيسمع بالأذن أو يُنزل وحيًا على قلبه، كما أن على بصره غشاوة فليس يفيده انكشاف عينيه.

﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾ [الجاثية: 23].

أما الأناجيل فتتحدث غالبًا عن ملائكة الله الذين يبلغون رسالته، وليس عن تكليم الله؛ ففي إنجيل لوقا أن الملاك بشر زكريا عليه السلام بيحيى عليه السلام، وفي القرآن كانوا ملائكة، فالفرق في العدد وحسب.

‏‏‏‏﴿8فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، 9حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. 10وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. 11فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. 12فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. 13فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. 14وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ، 15لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. 16وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. 17وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا».﴾‏ [لوقا: 1: 8- 17].

وأن الملاك جبرائيل/جبريل بشر السيدة مريم بالمسيح عليهما السلام.

﴿26وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، 27إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. 28فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ:«سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». 29فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ:«مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» 30فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. 31وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. 32هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، 33وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».

34فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ:«كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟»

35فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. 36وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، 37لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ». 38فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ.﴾ [لوقا: 1: 26- 38].

وبالرغم من أنهم ادعوا أن باب السماء قد فُتح للمسيح عليه السلام بعد أن عمّده يحيى/يوحنا عليه السلام، وذُكر نزول الروح القُدس أول مرة على المسيح، وأنه سمع صوت الله يدعوه ابنه، ولم يدّعوا تكليمًا، فإن ذلك لم يتكرر ذكره سوى مرة واحدة.

﴿9وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. 10وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. 11وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».

12وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 13وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ.﴾ [مرقس: 1: 9- 13].

‏‏﴿21وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، 22وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ». 23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً.﴾ [لوقا: 3: 21- 23].

إذ يدعي إنجيل يوحنا أن صوتًا من السماء لتمجيد المسيح سمعه جميع الواقفين.

‏‏﴿وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ 28أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ:«مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!». 29فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفًا وَسَمِعَ، قَالَ:«قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ!». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ مَلاَكٌ!». 30أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ:«لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هذَا الصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ.﴾ [يوحنا: 12: 27- 30].

لكن المسيح ذاته يقرر في حواره مع نثنائيل في إنجيل يوحنا أنه ابن الإنسان وتتنزل عليه ملائكة الله!

‏‏﴿49أَجَابَ نَثَنَائِيلُ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» 50أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هذَا!» 51وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ».﴾ [يوحنا: 1: 49- 51].

وإجمالًا فالأناجيل تخلو من فوضى تكليم الله تعالى لكل من هب ودب التي يمتلئ بها سفر التكوين، وفوضى التنبؤ الذي دب في بني إسرائيل في عصر الملوك؛ إذ فلت عقالهم بعد موت سليمان عليه السلام إلى درجة أن وصل عدد االمتنبئين فيهم ذات مرة نحو أربع مئة!

‏‏﴿6فَجَمَعَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الأَنْبِيَاءَ، نَحْوَ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُل﴾ [ملوك1: 22: 6].

***

د. منى أبو بكر زيتون

مقال مُستل من كتابي "القصص الحق"

في المثقف اليوم