أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: معنى الموت في الفكر الطاوي الكلاسيكي

كيف استطاع اثنان من فلاسفة الصين القدماء عرض رؤية جديدة لمسألة الحياة والموت. الطاوية Daoism هي دين وفلسفة ايضا. الدين دمج الاسطورة وفلسفة الطبيعة وطقوس الشامنزم الدينية مع البحث عن الخلود، بينما الفلسفة جاءت بمجموعة من الامثال والحكايات والقصص نُسبت للفيلسوف الصيني جوانك زي Zhuangzi حوالي 320ق.م والقصيدة الرائعة داوديجنغ Daode-Jing والتي هي من المحتمل ان تكون عمل من تأليف جماعي نُسبت الى الفيلسوف لاوتزو Lao Tzu حوالي سنة 250 ق.م. كلا الكتابين هما من الروائع الأدبية ويستحقان القراءة لنوعيتهما العالية.

الكتابان مكّنا ملايين الناس من رؤية أنفسهم بشكل اكثر وضوحا بحيث أمكنهم تجاوز احساسهم بالهوية الشخصية. توضيح لهذا جاء في القصة التي نُقلت عن Bo Juyi الشاعر الرسمي الذي نُفي في عام 815 م بسبب نقده العلني للحكومة. بالنسبة له كانت العقوبة مروعة لأنها نزعت منه كل شيء يحدد صفة الرجل الصيني ضمن طبقته. هو يخبرنا ايضا انه بسبب قرائته لجوانك زي، اصبح شخصا آخر وشخصا أفضل. لكن ما وجده في الطاوية كان شيئا لا يقدم أجوبة وقواعد واضحة، وكان مخالفا للأعراف او الإمتثال للمجتمع. هذا العنصر في مسائلة طرق المجتمع هو الذي جذب ملايين الصينيين عبر مئات السنين وايضا العديد من الغربيين اليوم. جوانك زو يؤكد بان القيمة الحقيقية لأي ادّعاء تتصل بسياقه ومنظوره ولذلك يجب ان يكون له القدرة على اكتساب الصلاحية. ما هو جيد للفرد ربما لا يكون جيدا للآخر، او لايكون جيدا لفرد معين في اوقات مختلفة. ونفس الشيء حول الجمال، الحقيقة، الفائدة، وغيره. لذلك، بدلا من التأكيد الدوغمائي على معايير ثابتة، يجب على المرء ان يكون مستعدا للمرونة في تكييف مواقفه تبعاً لظروف وحاجات الموقف القائم.

احدى افكار الطاوية المركزية هي (لا تعمل شيئا) Wu-Wei، كنوع من السلوك يستلزم قبول ما هو حتمي او ما لا يمكن تجنبه، وبذلك يقلل الاحتكاك والشد الناجم عن التبنّي العنيد لسلوك مفضل او نتيجة معينة. أفضل الامثلة عن (لا تعمل شيء) يمكن العثور عليها في معرفة الحرفيين. قصيدة دادو جنك تقترح انه ضمن الطبيعة تكون جميع المتناقضات غير منفصلة ومكملة لبعضها البعض وتحل محل بعضها بشكل متبادل، بما في ذلك الحياة والموت، لذلك، يمكن للمرء ان يفهم شيئا ما (مثل الجمال) فقط عبر فهم ضده. النتيجة هي ان الفضيلة التي لا يمكن السعي اليها مباشرة، انما تبرز بشكل طبيعي.

بهذه الطريقة، تكون أكثر الطرق فعالية في التغلب على المشاكل هي عبر اللافعل او المرونة والتي هي ليست كالخضوع او الاستسلام، وانما تستلزم ممارسة التحكم من خلال استعمال قوة الخصم للسيطرة عليه، وهو ما تجسّد في بعض الفنون العسكرية الصينية.

الطاوية Daoism

المفهوم المركزي للطاوية هو الطاو Dao، ويعني "الطريق او المسار الذي تتبعه الاشياء في ما تفعل" ويُعتبر كنوع من الحقيقة النهائية الغير شخصية . هناك طريقة للطبخ، للقتال، للزراعة، الطريقة التي يجري بها الماء، طريقة ربط الحذاء، الطريقة التي تنتج بها افكار وافعال معينة تأثيرات في العالم، وهكذا. هناك ايضا طريقة للعالم.

عندما يمتلك المرء "طريقة" او (دراية) لربط الحذاء، فهو يمكنه القيام بهذا بسهولة وبفاعلية. حالما يتم ذلك، سينسى المرء عنه وسيتحرك الى مكان آخر، المرء لا يطلب ولا يتوقع شكرا او لوم، ولا يتوقف طويلا في لحظة الفعل متنعما في مجده. ومن جهة اخرى، اذا افتقر المرء للطريقة، فان جهده سيثبت عدم فاعليته، وربما يكون كارثيا. في جوانك زي تصبح المهارات المتطورة للسباحين او الحرفيين أمثلة عن اللاجهد بواسطتها يمكن اتّباع الطاوية. هذه الامثلة تشكل نماذجا بواسطتها يمكن معرفة مهارات التدريب الروحي: هي تخبرنا باننا لكي نتبع الطاوية، يجب ان نعيش ببساطة ودون قلق من رأي الناس، وبدون إحساس بصعوبة عمل شيء عبر الخطط اللغوية والمفاهيمية. وهكذا بدا كوك دنك الذي قطع الثور للورد ون هاي، يتحرك كالراقص، بمهارة وتناغم. السكين التي يستعملها لاتزال حادة بعد 19 سنة لأنها لم تضرب او تقطع عضما، وانما تنزلق بين المفاصل. هو يمكن رؤيته كشخص تكيّف بشكل مثالي، لأنه سيكون من السهل عليه في مختلف المواقف وبدون محاولة التحليل الفكري او دراسة الافكار المجردة، وسوف لن يُهمل او يوضع جانبا بفعل الجديد او الظروف غير المتوقعة. ليس من باب الصدفة ان اللورد ون هاي يجد في هذا ليس فقط درسا حول القصابة وانما درس عن الحياة.

بالنسبة لـ لاوتزو Lao Tzu، الطاوية هي البداية بلا اسم لكل الاشياء، حتى قبل السماء والارض. الطاوية هي المبدأ الديناميكي للتغيير، منه تُشتق كل الاشياء الاخرى، انها بداية لكل البدايات، ولذلك نُظر اليها كبداية لكل الأشياء. نحن نقرأ: "من الطاوية يأتي واحد، من الواحد يأتي اثنين. من اثنين يأتي ثلاثة. من ثلاثة تأتي كل الاشياء". الـ "واحد" هنا يشير الى الوجود. القول "من الطاوية يأتي واحد"، هو نفس القول من اللاوجود يأتي الوجود.

الراحة قبل الحركة، والاستقرار قبل الفعل، لذلك، الطاوية هي أساس كل شيء، بمعنى هي منطقيا قبل الظاهرة الموجودة. ان وجود الناس يتضمن منطقيا وجود الحيوانات، ووجود كل الاشياء يتضمن وجود الوجود.

من خلال الطاوية نحن ندرك ان للعالم المتصور اكثر مما نستطيع قياسه. خلافا للإله هي غير شخصية، لا تحب مخلوقاتها، ليس لديها رغبة لفرضها على أي مخلوق، ليس لديها تفكير مسبق ولا ذاكرة ولا ندم. في مقابل الكثير من الافكار الغربية، الطاوية ليس فيها انقسام بين الذهن والجسم وهي لا تنتمي الى العالم الآخر وهي ليست خارقة للطبيعة. وبينما الطاوية هي غير شخصية فهي تعرض عناصر للرعاية (مع انها ربما فقط بمعنى ان الروح تهتم بالنبتة) ولديها تفضيلات (مع ان السماء ليس فيها تفضيلات، فهي بدرجة او باخرى تقف الى جانب الرجل الجيد)، لذا بينما الطاوية تختلف عن الإله المجسم للمسيحيين، فهي يمكن مقارنتها مع رموز دينية اخرى لها قوى عليا (مثل براهاما و لوجوس).

تمتلك الطاوية قوة لا متناهية دون ان تكون مؤثرة، انها لا تفرض أي شيء كي يتبع طريقها، مع ذلك كل شيء بفضل وجوده ذاته يتبعها، تماما مثل الماء المنحدر نزولا. الماء مرن وناعم لكن يمكنه إبداء قوة كبيرة وبالنهاية يمكنه ان يذيب حتى أقوى الصخور. في مكان آخر قيل ان الطاوية فارغة مثل الاناء الذي يُستعمل لكن قابليته لا تُستنزف ابدا. انها سر جميع الأسرار، هي المبدأ الكوني اللامتغير الذي يكمن في كل شيء.

يتعرف الانسان على الطاوية ليس من خلال التعقيد وسعة الاطّلاع او الذكاء الحاذق، وانما عبر ملاحظة الطبيعة وعبر العودة الى "حالة الطفولة"، ومن خلال الفعل العفوي والفكر والسيطرة على التنفس. هنا تكون لدينا إشارة لتقنيات التأمل ولفكرة التصوف التي تعطي معنى لحياة الانسان كونها تترسخ بشيء "مختلف عن أي شيء اخر". ومن هنا فان الطاوية يمكن النظر اليها باعتبارها تتماهى مع الحقيقة النهائية للتقاليد الصوفية، وبهذا يمكن النظر اليها انها تقدّم بعض العقلانية لفكرة الموت كتحوّل كما جسّده جوانك زي.

الكلمات لا تصف الطاوية بشكل كامل، انها يمكن ان تساعدنا في فهم الطاوية، ولكن فقط عندما تُوازن كل صياغة بأضدادها. في كونها بلا اسم، تنتمي الطاوية الى زمن ما قبل اللغة، او كما يقترح D.E.Cooper انها يجب اعتبارها كمصدر تبرز من خلاله مختلف المنظورات او المشاريع اللغوية، بواسطتها نحن نتحدث حول العالم. وبهذا فان المصدر ذاته لايمكن وصفه طالما أي عبارة مستعملة يجب ان يتم اختيارها ضمن منظور لغوي معين، مع انها يمكن معرفتها بشكل غير لفظي.

لا شيء مطلق عدى الطاوية ذاتها. بدون "قصير" لا يمكن ان يكون هناك "طويل". فقط عندما يعترف الانسان بالجمال، فان القبح يصبح واقعا. فقط عندما يعترف الانسان بالخيرية، فان الشر يصبح حقيقة، لأن الوجود واللاوجود بدءا كواحد.

في الإشارة الى مفارقات الطبيعة، كان لاوتزو قادرا على جلب منظور جديد لفهمنا للأشياء. هذا هو الذي يعطي معنى للنسبية بمعنى ان رؤيتنا هي التي تقرر ما نتصور. الشيء المذهل جدا في مفارقاته هو رفع اللاشيء فوق شيء ما : "ثلاثين من القضبان تشترك بمركز واحد للعجلة، لكن دون ان تكون اي فائدة للعجلة. انت تعمل فجوات الابواب والشبابيك لتصنع غرفة، دون ان تكون هناك فائدة للغرفة". غراهام يقارن هذه الحجج بتلك التي تقدمها التفكيكية الغربية.

عبر ملاحظة الطبيعة، يتعلم الانسان قبول طريقة الطبيعة كشيء حتمي ومنتظم. أي محاولة لتغيير الطبيعة هي بلا فائدة. الطريقة الوحيدة لتجنب الأذى لنفسك هي ان تعمل مع الطبيعة. هذا يبدو يذكّر بسبينوزا وبالفكرة بان عبودية الانسان يمكن التغلب عليها فقط بقبول طبيعة قوانين الكون والحاجة لفهم أسباب الحدث.

في ضوء هذه الصورة للطاوية، يتبنّى لاوتزو اكثر المواقف هدوءاً. مثلما الطاوي يجعل الاشياء تتم كالماء بدون فرض رغبته على الاخرين كذلك يجب ان يفعل الناس. في اتّباع الطاوية لا يحتاج الحاكم لإستعمال القوة ليحكم، الى درجة ان المحكومين لا يلاحظون ان هناك حاكم يرشدهم.

الموت

في الطاوية كما في هريقليطس اليونان هناك وعي قوي في عملية التغيير. كل من الطبيعة والكائن البشري يباشران تحولا مستمرا. عمليات الطبيعة تتحرك بين الأقطاب والناس ينتقلون الى منظورات جديدة. في ظل هذا الموقف، من غير المفيد ان نتوقع تعريفات واضحة او استمرارللأشكال. اذا فهم المرء طبيعة الأشياء واتّبع الطريق الطبيعي، سيتجنب التأثر بالحزن او الفكاهة. العواطف يمكن التصدي لها بالعقل والفهم. فمثلا، الرجل الفاهم سوف لن يغضب عندما يمنعه المطر من الخروج، لكن الطفل سيغضب. وكما يقول سبينوزا: "بقدر ما يفهم العقل ان كل الأشياء ضرورية، ستكون لديه قوة أكبرعلى التأثيرات او سيعاني القليل منها".

(Ethics,pt5,prop.vi)

جوانك زي نفسه يبيّن ان لا فرق نحو الموت ويشجب الممارسة الشائعة في الحداد لأن المشيّع يفترض معرفة اللامعروف ويتظاهر بكرهه له. بالمقابل، عبر فهمه لطبيعة الاشياء، لم يعد الحكيم يتأثر بالعوامل الخارجية والتغيرات في العالم. حول هذا المقطع يقول المعلّق الكبير كيو هزنك kuo Hsiang: "عندما يكون جاهلا، هو يشعر بالأسى، وعندما يفهم، هو لم يعد يتأثر. هذا يعلّم الانسان كيفية عزل العاطفة بالعقل".

عندما ماتت زوجة جوانك زي، صديقه هيو شي وجد جوانك جالسا على الارض، يغني ويقرع الأواني سأله كيف لا يشعر بزوجته، أجاب جوانك: "عندما ماتت انا لا استطيع عمل أي شيء. حالا، انا فحصت المسألة من البداية. في البداية الاولى، هي لم تكن حية وليس لها شكل ولا مادة. لكن بطريقة او باخرى كانت لها فيما بعد مادة ومن ثم شكل وأخيرا حياة. الآن وبفعل تغيير آخر، هي ماتت. كامل العملية تشبه سلسلة الفصول الأربعة، الربيع، الصيف، الخريف، ثم الشتاء. بينما هي تقبع في المنزل الكبير للكون، بالنسبة لي البكاء والحزن سيكون اعترافاً بأني جاهل بالقوانين الطبيعية. لذلك انا توقفت".

في التفكير اللاحق بخسارتها، هو يكتشف مشاركتها المستمرة في عملية التغيير، وان حزنه يصبح احتفالا بحياتها. كل لحظة تستلزم حياة وموت وهذا تجعل كامل العملية حيوية وبناءة. ما جعل زوجته متفردة و عزيزة يعتمد على التفاعل بين التغيير والاستمرار في التجربة الانسانية. جوانك فكّر رجوعا لزمن ما قبل ولادة زوجته وحين لم يكن لها جسم – وحتى أبعد من ذلك وصولا الى الزمن قبل ان توجد لها روح. الموت أشبة بالتعاقب في الفصول الاربعة، جزء طبيعي للانحسار وتدفق التغيير يشكل حركة الطاوية. الحزن على الموت او الخوف من الموت هو تقييم إعتباطي لما هو حتمي. من اللافائدة والعشوائية ومن السخف ان نضع أنفسنا ضد ما هو طبيعي. نحن نستطيع ان نختار تبنّي مختلف المنظورات حول التجربة. لماذا لا نختار واحدة تمكّننا من رؤية الموت ليس كشيء مخيف ومحزن وانما فقط كمرحلة اخرى في حركة تغيير أكبر؟

في كل هذا، التغيير لا يشير بالضرورة الى حياة ما بعد الموت او أي شكل من الخلود الشخصي. المادة الميتة تخصّب الارض وتوفر مواد خام لكائنات حية اخرى كي تنمو وتتكاثر. الموت عموما يمكن القول يقود الى حياة جديدة، تماما كالحياة عندما تنتهي بالموت. الحياة، بشكل عام تستمر مع اننا قد لا نستمر. قصة الفراشة(1) توفر رمز للتغيير حيث الاختلافات تصبح غير واضحة. الفراشة تتبع الرياح الخفيفة المنعشة حتى تصل الى الزهرة، أفعالها عفوية وحرة، فهي لا تستنزف قوتها في الكفاح ضد قوى الطبيعة.

الحياة والموت ليسا الاّ مراحل ضمن دورة التغيير، ثم لا فرق هناك بين الحي والميت. الخلود يصبح مشكلة فقط ومصدر للحزن عندما لا يستطيع الانسان تحرير نفسه من تصنيفه للحياة والوجود. بالمعنى المادي، الانسان يجب ان يموت ولا مهرب من ذلك. لكن اذا فهم الانسان طريقة الطبيعة واحتضن الطاوية، عندئذ هو يعيش بقدر حياة الطاوية. جوانك زي يتحدى الموت بالقول انه اذا اصبحت (بعد الموت) ذراعه اليسرى ديكا، هو ببساطة سوف يستعملها لتحديد وقت الليل. الانسان قد يموت حقا لكن جوهره كجزء من جوهر الكون يعيش الى الأبد. هذه هي الرؤية الميتافيزيقية للخلود لدى جوانك زي. هنا ايضا تفسير صوفي للخلود قدمه جوانك. الانسان الذي نجح في تحرير نفسه من معرفته الفكرية عبر الابتعاد عن منغصات الحياة الحديثة والعودة الى الطبيعة الأصلية، وعبر "التأمل في الفراغ" وعبر نبذ التمايزات الاصطناعية، سيصبح قريبا للاتحاد مع الطاوية، ولذلك سينال قوة اسطورية في الطبيعة. هو سوف "يحفظ" نفسه عبر اتّباع النزعة الطبيعية للاشياء، تماما مثل القصاب المثالي دنج الذي كان قادرا على استعمال سكينه بمهارة دون جهد.

الانسان يجب ان يعيش كجزء من الطبيعة الى جانب كل الاشياء الاخرى فيها، ويتوقف عن السعي العديم الجدوى في رؤية وقراءة وتحليل الكون بتجريد. ان ذهن الانسان سيتحرر في اللحظة التي يتوقف بها عن تشويش نفسه بألغاز غير مفيدة أوجدها زملاؤه، عندئذ سيكون مستعدا لفهم الطاوية. عندما يقوم بإفراغ ذهنه من التحيزات الفكرية، سيكون قادرا على رؤية التشابه في كل الأشياء. وبالتالي، سيكون شيئا واحدا هو والاشياء العديدة، و سوف يشعر بان الكون بضمنه. ومهما عمل او لا يعمل سوف لا يسبب قلقا او خوفا. وهكذا سوف يكون حرا للتحرك في الكون. في هذه المرحلة تكون سعادته حقيقية ومتعالية لأن لا شيء حوله ليس في توافق مع الطبيعة. كونه متحرر فكريا، لم يعد الانسان يرى أي سبب للحذر او القلق او الحزن. اتّباع طريقة في الاتفاق التام مع الطبيعة يعتمد على لا شيء، يسعى الى لا شيء. سيكون متحررا بالكامل. حرية جوانك زي المثالية هي من ثلاث شعب: تحرير فكري من تحيزات الانسان والقيود التي يصنعها ، وتحرير عاطفي من خلال فهم شامل لطريقة كل أشكال الحياة، واخيرا تحرير كلي عندما يشعر الانسان بعدم القيود لأنه يقبل كل مسار طبيعي للأحداث.

جوانك زي يتحرك في نفس الاتجاه مثل دايود جنك، يؤكد على الاستمرارية والتداخل بين الحياة والموت. لكن جوانك يذهب الى ما وراء القبول المجرد للموت في الجدال بان الأسباب التي تجعلنا مرتبطين بالحياة هي نفس الاسباب التي يجب ان نثمّن بها الموت. المشكلة هي ليست الموت، وانما خوفنا من الموت، خوف غير مبرر: "كيف أعرف ان الاستمتاع بالحياة ليس امرا مشوشا؟ وكيف أعرف ان كراهية الموت ليست الشعور بان احدا ما أضاع طريقه في ايام شبابه ولن يستطيع العثور على طريقه مرة اخرى؟". ضمن هذا العالم، الموت يساوي عملية التحول ذاتها. حالما نقبل الافتراض الحدسي القوي باننا نتغير بدلا من ان نختفي، هذا يجعل الحياة متوقعة وغير مؤكدة. حول كل زاوية هناك امكانية لتجربة جديدة ومثيرة. جوانك زي يضع امكانية افتراض شكل انساني ضمن عملية من التحولات الاكبر. ان عملية الموت التي تقع بين العمليات الاخرى للطبيعة هي شائعة في الحياة اليومية. الشمس تشرق في الجزء الشرقي فقط لتغيب في المناطق الغربية البعيدة، وجميع الاشياء التي لا تعد ولا تحصى تأخذ اسلوب عملها منها. الحياة والموت صنفاف مترابطان يعتمد كل واحد منهما على الاخر . الشمس تشرق وتغيب، ولكن دائما في يوم جديد. واليوم السابق يتلاشى. هناك إعتراف بان الموت هو مظهر غير ملحوظ نسبيا في تجربة الانسان. الحياة لن تكون كما هي اذا لم تكن لأجل توقّع الموت. بدون الموت في معناه الواسع، ستكون الحياة ساكنة، شفافة، متنبأ بها وضجرة. الموت لا يعيق او يخرّب الحياة، وانما يحفزها ويقودها، جاعلا منها كثيفة ومثيرة للمشاعر.

***

حاتم حميد محسن

......................................

الهوامش

(1) قصة الفراشة: هناك رؤية في الفلسفة تُعرف بـ "الشك الابستيمولوجي" تقوم عل اساس اننا لا نستطيع معرفة اي شيء على نحو مؤكد. عدة حجج جرت مناقشتها على مر السنين من بينها "حجة الحلم" التي صاغها الفيلسوف الفرنسي ديكارت في التأملات. الفكرة هي انه اذا كنت اعتقد ان احلامي حقيقية عندئذ كيف استطيع القول بان ما اشعر به الان هو حقا واقعي وليس حلما؟ جوانك زي وفي احدى الليالي وقع في حلم بانه كان فراشة، كان يتنقل بحرية كاملة من زهرة الى اخرى، ولكن عندما استيقظ في الصباح هو لم يعرف هل هو حقا كان الرجل الذي كان يحلم انه فراشة ام انه فراشة وتحلم الآن انها جوانك؟ بين جوانك والفراشة هناك انقسام ضروري، وهذا هو المقصود بتحولات الأشياء.

في المثقف اليوم