بأقلامهم (حول منجزه)

علاء هاشم الحكيم: ومضات ضوء على كتاب إخفاقات الوعي الديني للأستاذ ماجد الغرباوي

توطئة: إن النزعات التأويلية في تجريد المفردات النصية المقدسة، عمقت أخاديد ذهنية، وراهنت على طوفانها، بمتواليات هندسية معقدة، توحي لنا بمعارف بديلة في حلية جليلة من عوالم منطق القداسة ومقاصده الأصيلة. ومن زخم تلكم المعطيات الفلسفية الميتافيزقية، وتشعب مستويات التأويل والفهم، غارت العقول الأسلامية في أدغال الأحاديث لتقويم ونجدة مدركاتها الذهنية، وتعاطت معها بذات القدسية النصية، وبالأخص إذا ما تحررت أنساقها بمضامين تصب في تيارات مرمى تأويلاتها الفلسفية، وما يخرج عنها تجتهد في تأويله تعسفياً.

من هنا أنطلقت ماكنة الأحتكار الفقهي بمدارسه المختلفة لتُفرِغَها في ساحات مريديها. وقد دأب على هذا المنهج التأويلي للنصوص المقدسة كُلٍ من فيلون وجيروم وأغسطينوس، وهؤلاء حسب إعتقادي هم الذين أحيوا منطق التأويل للنصوص المقدسة، كسفينة إنقاذ عقلية، تصلح لحمل كل أزواج النفوس المهتدية بمنهجها، وبهذا المنهج التعسفي إهتدت اليه بعض الفرق الغنوصية لحل المتناقضات الفلسفية، فرفضوا فكرة الأله العادل وأستبدلوه بالحكمة الألهية، فمن منهج الأسبيتين التعسفي نشأت فكرة الفيض أو الواسطة، أو أن الخالق لايخلق بذاته بل  (بالفيض الفعال) . وكل هذا وفق رأي أوليري* : هو محاولة فيلون لقراءة معنى إفلاطوني في العقيدة اليهودية*. وعليه سارت العقول الفقهائية على مر العصور من حيث تعلم أو لاتعلم .

 من نبع لقاح أزواج العقول ـ العقل في المقدس، وعقل النقل في الأخبار ـ في مركب التأويل التعسفي ـ وبعد أن  أفضى كل زوجٍ بعضه الى بعض ـ  تفجرت قدحات تأويل حروف القداسة في أنابيب الحديث النبوي ، لتلد في كل رحم عصرٍ وليدها بمعونة أخصائي فيض الخالق الأبدي.

 فبين رحى فتاوي وتأويلات الأرباب لكل عصر، طُحِنت الأختلافات وخبزت بدماء معايير العدل وصدق الوحي، حتى تهرأت جدر الأيمان ودب الشك في قلوب المؤمنين، فضاع رب الكل وانتحر كل نبي. فلا خبر جاء ولاوحي نزل . فعدنا الى الوراء الى حضارة الغاب، وحب الذات .

 في حوار بين أوغسطينوس وجيروم: يسأل أغوسطيونس جيروم: ما إذا كانت الحقيقة مخلوقة أم مولودة؟ فرد جيروم على إنها مخلوقة. فقال أوغسطينوس: فلماذا إذن يُعَمِّدها الرهبان؟

بعيدا عن المجردات، فالحقائق هي أفعال من صنع أفكارنا نُعمِّدُها بما يرضينا، فنحن البناؤون، ونحن من يصنع اﻷشياء ويبني في مخياله صور معانيها وقد يتعسف أحياناً كثيرة في تأويل ما يؤمن به ويخدع به نفسه، لتلد له بثوب المفاهيم التي يطمح الوصول اليها، فيظن أن الله صيرها خلقا لنعبدها ونفديها.

مضمون الحوار في كتاب الغرباوي:

56-salakbahia1هو عبارة عن تساؤلات بما تستدعيه إفرازات الواقع المتخلف الملتهب بسلوكيات إجرامية يراد لها أن تظهر انعكاسا للتراث الفقهي المبني على أحاديث وسنن نبوية، تتداخل معانيها بشكل أو بأخر مع صراحة الكثير من الآيات القرآنية، المراد لها أن تُفهم، كأيات سيف معتدية .

 يحاول الكاتب الغرباوي، أن يرسم الخط البياني لأسباب التخلف الحضاري والبناء الأنساني للمسلمين في جغرافيتهم العربية، للوصول الى مصل مفهومي يرقى الى سبل الشفاء من سرطانات نهشت بأوردة دماء العقول البشرية العربية الأسلامية بالأخص.

فمن بين أدخنة المفاهيم وثقافة الفقهاء المبنية في الأجتهاد على معايير القياس بشهادة القال والقيل كأساس. ولدت الخرافات وعنف الأحكام بما يكفي لتشويه رسالة السماء وخنق الأنفاس. زد عليها أتربة طائرات الأغاثة الجوية المشحونة بثقافة البحوث العلمية العربية والاسلامية الصبغة لأحياء وبث حرارة روح النهضة الفكرية والعلمية الأسلامية في عروق الدول الأوربية المتجمدة عقلياً.

 لذا أصبح  من الضرورة بمكان، فتح ابواب الحوار الجريء حول جذور ثقافة الحضارة العربية والأسلامية وحقيقتها بالنوع والكيف ومقدار صدق الأثر، لشد حزام الأمان ولضمان الهبوط على أرض صلبة بسلام قبل أن تطين السماء أرضنا ليبتلعنا مثلث زلازل الأمطار في أرض حضارة الأدغال.

 يصادق على آراء وردود المفكر الغرباوي في المجمل العام، صور إرث حاضر المسلم العربي والعراقي بالأخص بكلا جناحيه العلمي والتربوي الخلقي الأنساني ـ (لاندخل في حساباتنا المنطقية بلدان عربية إسلامية انقلبت حضارتها بقدرة قادر من الهوش الى الماكنتوش) ـ فالتخلف حاصل  في البناء التربوي الإنساني الذي نتج عن تعاظم  التهابات الزوائد الدودية من جراء إفرازات المأكولات التاريخية النتنة، لتحل كممارسات في سلوكيات وفقه بعض الفرق الإسلامية. بل وتتجاوز بعض الطوائف المتأسلمة بفقهها الى شرعنة تصعيد ضغط الدم لتتفجر أجساد طائفتها بصكوك فتاويها الفقهية على مخالفيها مذهبيًا ودينيا. لم يكن هذا الحاصل هو لغياب كتاب (اميل) لجان جاك روسو عراقي أو عربي إسلامي فقط، وإنما لغياب حرية النقد والتفكير وإعمال العقل وإستقلاله، خارج فلك مرجعيات فقه صحاح التربية والتعليم .

من لهيب هذه النيران الاجتماعية الإسلامية، يخرج علينا السائل سلام السماوي من جعبته أسئلة فكرية، وبماراثون الحوار وقدحات زناده الفكري، يحاول المفكر الغرباوي ان يحرق شيئا من شحوم الأحباط النفسي، والتخلف الحضاري، وما تمخض عنه من صراع مرير جوّال، يزداد عليه كل يوم حجم الأقبال. 

أهمية الكتاب بمضمونه العام:

 يعد الكتاب، محاولة هامة وجادة، لأقتلاع الخلايا المدمنة على فقه السياسة والتقليد الأعمى، من سلطةـ الوارثين عنوةً للحاضر والمستقبل ـ الى دين الأنسان المتعقل الحر، بما أمرت كتب الله المقدسة ورسله على مر الزمان.

 نلخص بعض ردود الغرباوي (وبتصرف مني بالسؤال والجواب) في إطار المعقول في هذا المقال. فمن اسئلة المحاور السماوي قال:

 هل اختلف المسلمون في تشخيص اسباب الهوة الحاصلة بين الحضارة الغربية والإسلامية، كما وما هي مردوداتها السلبية، وسبل العلاج للنهوض منها؟

يجيب الغرباوي: بالإيجاب عن وقوع  الأختلاف في التشخيص، ثم بشيء من التفصيل والتحليل، تناول مسألة الإنبهار بحضارة الغرب والشعور بالدونية وتبعية الذات. كما وشجب ثقافة الداعين الى اﻹندماج التاح حد الانسحاق وعده بالأمر الخطير: لما له من تداعيات سلوكية ونفسية، تؤدي بدورها الى حالات انفصام إجتماعية وثقافية.

 ثم يواصل الغرباوي التوضيح والتحليل بقوله:

إن المشكلة الثقافية أعمق من تبني قيم الأخر، وتداعياتها أخطر على السلوك والمشاعر، وهذا السلوك لايساعد على تجاوز عتبة التخلف، أو بناء حضارة تمثل قيمهم وهويتهم.

في هذا الكتاب  تجد الكثير من الأسئلة الرائعة والأجوبة الماتعة، والتي تعد إنفلاتا من عتمة القيود، الى مسارات الحرية الفكرية ولكن لايعني هذا أن كل الردود نتفق معها بالتفاصيل فلربما عندي أو عند غيري لاتصح أومنها ما نتوقف عندها لنقصان الأستشهاد بالدليل، لكن الأمر في التعريف عن الكتاب لا يستوجب النقد أو تصيد الأخطاء أكثر ما يدعو للتفكر والبحث والحوار مع الباحث الجميل. لذا اكفتي بما قدمته كي لا افسد متعة قراءة الكتاب بالأكثار من أمثلة ضروب الحوار. كما وأثني على مقدمة السماوي الأدبية الجميلة وثقافته الرصينة، وبالمثل على للبروفيسور الصائغ،  والدكتور صالح الرزوق.

الكتاب: إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحاضري

ماجد الغرباوي

حاوره: سلام البهية السماوي

 ***

علاء هاشم الحكيم

٢٠١٦ـ ١٢ ـ ١٦

....................

* الفكر العربي ومكانه في التاريخ. ص ٣٠ ، ٣١ .