أقلام حرة

صائب خليل: ماكنة اطلاق كرات التنس المجنونة

يستخدم لاعبو التنس للتدريب، ماكنة يمكن برمجتها لتقذف كرات التنس باتجاهات مختلفة وسرعة مختلفة. فتخيلوا اننا أمام مثل هذه الماكنة وأن علينا صد الكرات التي تقذفها، وان احدا ما وضعها على سرعة قصوى بحيث لا نلحق ان نرد نصف كراتها او ربعها!

هذه هي الصورة التي تخيلتها الكاتبة نعومي كلاين لتشبه قرارات الحكومة الأمريكية (في زمن ترمب) السيئة السريعة، والتي يحاول الناشطون في العالم التصدي لها، ووصفت الحكومة بأنها "ماكنة تنس مجنونة". وهذا التشبيه جميل ودقيق ومهم بالنسبة لنا. فهذا هو شعورنا بالضبط على توالي الأحداث التي يجب علينا كمتعلمين، الكتابة عنها. وبالطبع يجب اولا ملاحقة اخبارها ثم دراستها ثم البحث عن الموقف المناسب منها وانتقاء طريقة مناسبة ومقنعة لنقدها أو تأكيدها واخيرا كتابة ذلك وربما الرد على التساؤلات التي تثيرها المقالة او المنشور.

لكن إن توالت الأحداث بسرعة، فسيكون من الصعب ملاحقتها كلها بهذه الطريقة، ثم يصبح مرهقا للأعصاب ومستحيلا، ويتوجب اختيار "الكرات" التي نردها وتلك التي نتركها تمر! وكلما كانت نسبة الكرات التي تمر اكبر، كلما كان الضرر أكبر.

وباعتبار العراق بلد تحكمه سفارة تستهدف بالذات تدميره، (كما أثبت موقفها من داعش وغيرها)، وهي تسيطر ليس فقط على الجيش والأمن ومنظومات والاتصالات والانتخابات والبنوك، ولكن ايضا تسيطر بشكل شبه تام على الفضاء الإعلامي العراقي وتمتلك جيشا من آلاف المتخصصين داخل السفارة، مهمتهم الوحيدة دراسة المجتمع التقاط نقاط ضعفه وحساسيته، وتحويل كل نقطة ضعف الى كارثة عليه!

وهي فوق ذلك تسيطر على وسائل التواصل الاجتماعي تماما وتستطيع ان تقوي ما تريد وتضعف او تمنع ما تريد من اية نشاطات اعلامية لا تناسبها. وتتيح لها ايضا متابعة اية مبادرة لها وقياس ردود الفعل عليها وتصحيحها وكسب الخبرة والتجربة لتكون المرة القادمة ادق واقوى اقناعا واشد اختراقا للمجتمع.

وهكذا فنحن نواجه هجمات تشتد قوة ودقة مع الزمن، وعلى مختلف المستويات: سياسية واقتصادية واجتماعية، وبكثافة لا يمكن ملاحقتها. وتطرح تلك الكرات على العقل اسئلة صعبة وخطرة يتوجب الإجابة عليها: هل صحيح ان خصخصة معامل الحكومة هي "اقتصاد حديث" وفي صالح البلد؟ لماذا يعارضها بعض من نثق بهم اذن بهذه الشدة؟ ولكن الا تعتمد الدول المتقدمة على الشركات الخاصة؟ ألا يعيشون برفاه؟ هل يجب ان نقاوم اميركا باعتبارها لا تريد الخير لنا، ام ان من الحماقة مقاومة دولة عظمى؟ هل صحيح ان "ننفتح على الجميع"؟ هل طريق الحرير الجديد هو الأنسب لنا؟ إذن لماذا لا تتبعه حكومتنا؟ وإذا كانت حكومتنا مخطئة فلماذا يؤكد جميع ساستنا "الثقة" بها؟ هل يجب السعي لطرد القوات الامريكية من البلد وهي التي اغتالت شهداؤنا، ام ان غضب اميركا مكلف جدا؟ ماذا لو اغضبنا اميركا فجاءت بحكومة سنية او بعثية او صدرية؟ أو اعادت التظاهرات والحرق؟ او رفعت قيمة الدولار وزاد الغلاء؟ اي نوع من النظم الديمقراطية افضل؟ هل تحل مشاكلنا اذا غيرنا الى نظام رئاسي؟ ما هي المشكلة في سانت ليغو؟ يقولون ان الدستور هو المشكلة، فهل هذا صحيح؟ لماذا لا تتكلم المرجعية رغم كل هذه الاسئلة وكل العواصف التي يمر بها البلد؟ هل روسيا افضل من اميركا أم انها ستكون مثلها ان انتصرت؟

هذه الأسئلة من النوع الثابت نسبيا، وهناك سيول من الأسئلة الآنية السريعة التي تعتمد على الأحداث: ماذا نفعل بشأن حرق القرآن؟ ماذا نفعل بشأن هجمة الجندر والمثلية؟ ماذا نفعل بشأن هجمة الإبراهيمية؟ هل نعطي بعض الوقت لتذكر ثورة العشرين التي تشجع المجتمع على الدفاع عن كرامته ام لا وقت لدينا لذلك؟ ثورة تموز، هل نحتفل بها باعتبارها ثورة ام انقلاب عسكري دموي؟ وهكذا..

إضافة الى هذا القصف المستمر بالكرات الحديدية (وليس كرات تنس) فإن السفارة إذا ارادت تمرير اي قانون يهمها كثيرا فهي تحرص على احاطته بقصف مشدد، لتقليل امكانية ملاحظته ومتابعته، تماما مثلما يقوم الجيش بالتغطية على مجموعة الهجوم على العدو، بقصف مكثف على مواقع العدو لكي لا يستطيع رفع رأسه!

كم يمكننا ان نترك من الكرات تمر؟ وما هي نوع الكرات، او الهجمات الإعلامية والسياسية، التي يمكننا تركها تمر دون ان تسبب ضررا كبيرا؟ إنه سؤال صعب ويجب ان يقيم كل حدث على حدة. ولكن بشكل عام كلما كانت ثقافة الشعب أضعف وكلما كانت نقاط ضعفه وحساسياته الطائفية أكثر، كانت الكرات اشد ضررا به، وشكل ذلك على المثقف ضغطا اكبر وقلقا اكبر إذا ترك بعض الكرات تمر، والعكس بالعكس.

للأمريكان والاسرائيليين القدرة ليس فقط على زيادة سرعة قذف الماكنة للكرات، وانما على جعل رد فعلنا عليها ابطأ بكثير واقل فعالية.

فكلما تم ايهام المواطن بقوة اكبر، اصبح الرد على الكرات اصعب ويحتاج وقتا اطول. فعندما يكون الاعلام غارقا ولسنوات طويلة في التسبيح بحمد الليبرالية والقطاع الخاص، فأن قدرة الناشط على اقناع المواطن بضرره، تكون محدودة وبحاجة لجهد مضاعف.

كذلك لديهم وسائل تقنية لإبطاء رد الفعل على الكرات. مثلا، القوانين التي يناقشها البرلمان تعرض بشكل فوضوي يصعب متابعته. وتعرض القوانين بشكل بي دي اف صور، لا يمكن اجراء اي بحث فيها انما يجب ان تقلب القانون كله لتجد ما تريد. وهذا صعب جدا في القوانين الطويلة المعقدة مثل قانون الموازنة.

بعض القوانين تمرر دون ان يدري بها الناس! مثلا قانون شركة النفط الوطنية اكتشفه خبير النفط احمد موسى جياد صدفة وباتصالاته الشخصية فتلاحقه الشرفاء قبل ان يصبح كارثة تقضي على العراق! البرلمانيين جهلة وقليلي الاحساس بالمسؤولية لتفادي ذلك.

ومن اساليب ابطاء رد فعلنا، حرماننا من انتشار صفحاتنا على وسائل التواصل. فأنا كان لدي يوما ما يقارب عشرة صفحات عامة، اهمها صفحتان هما صفحة مقالاتي وصفحة مخصصة لمقالات الاقتصاد. وكان يتابع كل واحدة منها اكثر من 35 الف متابع. وكانت المقالات تحصل على الاف اللايكات واحيانا عشرات الآلاف، حين كنت اروجها بثلاث يوروات. قاموا بحظر صفحة مقالاتي وازالتها، ومنعوني من ترويج المقالات! وفوق ذلك بدأوا يحاربون عرض منشوراتي فلم يعد منشوري او مقالي احيانا يحصل على اكثر من عشرة الى خمسين لايك. وينطبق ذلك على الاصدقاء الذين اعرفهم ايضا. فحين حاول احدهم ترويج اعلان ندوتي الاخيرة عن الاقتصاد الاسلامي والليبرالي، تم قبول الترويج، ولم يحصل سوى على لايكين اثنين!!

هذا كله يصيبنا بالإحباط ويجعلنا نشعر أننا نناطح صخرة، امام ماكنة قذف الكرات تلك!

هل هناك حل لهذه المشكلة؟ لا اعتقد!

إذن لماذا اكتب هذا؟ لأنني اعتقد ان "رؤية" ما يحدث يخفف شدة الضربة، وربما يقلل التوتر النفسي على القارئ الذي لا يدري ماذا يحدث ولماذا تسير الامور بهذا الشكل؟ لماذا يتصرف ساسته الذين طالما وثق بهم وانتخبهم بهذه الطريقة؟ لماذا تصمت المرجعية التي كانت عونا له طول الوقت؟ لماذا تتكاثر عليه الاسئلة بشكل مجنون؟ ما الذي سيحدث ان لم يستطع الاجابة عنها بشكل صحيح؟ لماذا يبدو كأن كل يوم يصبح اصعب مما قبله؟

هذه المقالة لا تجيب عن هذه الأسئلة، ولكنها فقط تعطي "رؤية" لما يحدث، من خلال التشبيه الرائع لنعومي كلاين بماكنة كرات التنس المجنونة. ان يعرف ان الذنب ليس ذنبه بشكل رئيسي، وان كل هذه الصعوبات مخططة ومتعمدة ومن جهة تستهدف تحطيمه كهدف واع ومخطط. ربما ان لم يستطع رد تلك الكرات، ان يستطيع على الأقل فهم ما يحدث وان يكون اكثر استعدادا للكرات القادمة، وربما للفرص القادمة، إن جاءت.

***

صائب خليل

2 تموز 2023

في المثقف اليوم