أقلام حرة

قاسم حسين صالح: رواية شاهد عيان عن انتفاضة تشرين/ اكتوبر 2019 (1)

 (أن تكتب عن انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 وأنت في مكتبك، غير ما تكتب عنها وانت تعيش الحدث ميدانيا)

يوم دخلت ساحة التحرير في (15 تشرين أول 2019) كنت قد استحضرت تاريخ الانتفاضات في العراق، بدءا من اول تظاهرة شعبية زمن الحكم العثماني الذي كان قاسيا وظالما لاسيما بفرضه ضرائب باهضة، ولأن ولاة العثمانيين لم يفهموا سيكولوجية الشخصية العراقية الشعبية التي تأنف الخضوع لسلطة سياسية.. جسدتها عشائر الخزاعل وزبيد والمنتفق في تحديهم للقوات العثمانية والأنكليزية، ما اضطر الدولة العثمانية الى اتباع سياسة أخرى بعد أن فشلت سياسة البطش والقوة، لاسيما انتفاضة مفتي بغداد عبد الغني جميل زاده عام 1832 والمذبحة الكبرى ضد اهالي كربلاء سنة 1842 التي راح ضحيتها قرابة 4000 مواطنا من اهالي كربلاء، وصولا الى ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، الى انتفاضات ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. الى انتفاضة شباط 1948 التي القى الجواهري في حفل كبير بجامع الحيدر خانه قصيدته (اتعلم انت ام لا تعلم بأن جراح الضحايا فم) بعد مقتل اخيه جعفر بسبعة ايام.

وكنت شهدت بعيني في آذار 1991 تظاهرات مدينة الناصرية بعد خسارة الجيش العراقي المذّلة في غزو الكويت، ورأيت كيف وضع المتظاهرون اطارت السيارات في رقاب بعثيين واحرقوهم احياء!. وكنت شاركت في معظم تظاهرات ساحة التحرير، واكبرها التظاهرة الضخمة التي عبرت جسر الجمهورية متوجهة نحو الخضراء.

وما حدث لي، رغم انني شاركت في صباي بتظاهرة طلابية في ستينات القرن الماضي تطالب بإيقاف الحرب في كوردستان) انني حين توجهت من شارع السعدون لساحة التحرير، رأيت طالبات جامعيات وصبايا تنسقت مجاميعها بأربعة صفوف يرددن بصوت جميل كجمالهن (موطني.. موطني...) فادركت ان تاريخا آخر سيكون لهذه التظاهرة يختلف عن كل التظاهرات التي حدثت في تاريخ العراق السياسي.

دخلت ساحة التحرير فرأيت ما لم تصدقه عيناي...اجملها انني رايت على الرصيف الأيمن نساء جئن بتنانيرهن يخبزن الخبز ويوزعنه مجانا!، فتقدمت نحو اكبرهن.. وقبل أن اسألها.. مدت يدها داخل التنور واخرجت رغيفا وقالت: ( اك يمه.. مكسب وحار يلوك لهالوجه). لحظتها لاجت الدمعة بعيني فتقدمت نحوها وقبلتها من رأسها، وصار لدي يقين ان العراق سيكون بخير ما دامت الغيرة العراقية على الوطن قد هبّت في اوساط الجماهير الشعبية.

اجتزت الخبازة العراقية (صاحبة اروع غيرة وأعظم نخوة) ودخلت ساحة التحرير. كانت الساحة تغص بالآف المتظاهرين، معظمهم شباب وبنات وصبايا ومراهقين وطلبة وكسبة وفلاحين وشيوخ عشائر وأكاديميين، توزعوا على خيم متنوعة، واحتلوا بناية عالية مهجورة كانت تسمى (المطعم التركي) ومنحوها اسم (جبل أحد) تزين واجهاته شعارات (نريد وطن)، (نازل آخذ حقي).. وصور شهداء وأعلام عراقية.

كانت الساحة في الأعلى وكأنها معرض فني.. لوحات.. خرائط للعراق بالوان زاهية مكتوب عليها عبارات جميلة (العراق.. وطني). منظر يبهر من يراه ويكشف عن حقيقتين: ان الغالبية المطلقة من المتظاهرين هم شباب بعمر العشرين والثلاثين، وأنهم هنا.. غيرهم في وسائل التواصل الأجتماعي. فهم في ساحة التحرير.. مثقفون وموهوبون ويعشقون العراق، وانهم والصبايا والشابات بأعمارهم وكأنهم أخوة وأخوات.. بوجوه مؤطرة بالفرح تحمل لمن يراها بشرى حلم سيتحقق.

نزلت متوجها نحو نصب الفنان جواد سليم، وحين وصلت استقبلني (ابو بلال) صاحب دار سطور..

- اهلا دكتور.. نورت التحرير.. تفضل استريح

واسترحت، وبعد القهوة والماء، قال:

- نريد منك محاضرة.. هنا.. في خيمتنا.. خيمة جواد سليم.

وكانت تلك امنية ان اقدم محاضرة على الهواء في ساحة التحرير مقابل نصب الحرية. وحددنا الموعد، لأعود الى البيت مزهوا وبي حاجة.. أن أرقص!

يتبع

***

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم