اخترنا لكم

المفكر المغربي في ذكرى رحيله الثانية

عامان مرّا على رحيل المفكر المغربي البارز محمد سبيلا دون أن تنطفئ جذوة الأسئلة الحارقة عن البنية المفاهيمية للفكر العربي المعاصر، وعن راهنية سؤال الحداثة المتجدد ومداراتها التي طالما ذكّر بها المفكر الراحل قراءَه ومن قاسموه قلق البحث في حيثيات الواقع الاجتماعي وحركة الأفكار داخل عالم عربي ما زال ينشد الانتقال نحو مجتمع الحداثة المعرفية. لقد كان سبيلا متحمسا لفكرة الحسم النظري مع العناوين الكبرى حين أدرك مبكرا أهمية الجانب المفاهيمي في تشريح حالة الحداثة العربية، مبتعدا في نفس الوقت عن سرديات غيره من الكُتاب الذين انشغلواْ - كما رأى - بالاستنتاجات المتعجلة والقول بالبداهات، ثم ما لبثواْ أن وقعواْ في مطب التسليم بفكرة التعدد داخل الحداثة حين قسّموا بنيتها الواحدة إلى حداثات كثيرة متناثرة كالشظايا على صفيح واقعي غير محدد.

وفي جانب متصل، لم يتفق سبيلا مطلقا مع أولئك الذين انجرفواْ دفعة واحدة صوب تتبع موجات ما بعد الحداثة، زعما منهم بأنهم بذلك يواكبون مسار التطور الإنساني، في حين كانواْ يكتفون بقراءة ما خلّفته التحولات الأخيرة في الغرب من متغيرات متسارعة على صعيد الروابط الاجتماعية وتشكيلات الهوية، وهو ما حذا بقسم كبير منهم في الأخير إلى القول بتخطي الغرب لمرحلة الحداثة، ما يعني عدم جدوى الخوض في سياقها النظري عربياً. لكن سبيلا ظل يفند هذا الرأي، مستأنسا بآراء كثيرة نابعة من عمق المنظومة الفكرية للغرب الأوروبي تؤكد أن ما بعد الحداثة لم تكن في حقيقتها إلا تجليا صافيا للحداثة بعد أن تخلصت من أوهامها حسب وصف الكاتب المجري زيغمونت بومان (Zigmunt Bauman). لقد كان سبيلا بعيدا عن هذا المنحى في التفكير، فهو يرى في الحداثة كيانا واحدا غير مجزأ ولا تؤثر فيه حدود المجال والزمن ومعطيات البيئة التراثية، لأنه يشكل من حيث المبدأ بنيةً تنظيمية واحدة لها مدارات كثيرة تبدأ بالتقنية وتنتهي بالثقافة مرورا بالتنظيمين السياسي والاقتصادي. كما أن التسلسل الاسمي للحداثة، من وجهة نظره، لا يكون على شاكلة ما قبل أو ما بعد، بل ينحو منحى معياريا مستقلا لا يأخذ بآثار الخصوصيات الاجتماعية، ولا تكون الحداثة من هذا المنظور إلا سيرورة مركبة لها أدوات انطلاقها الخاصة ولها شروط استدامتها أيضا. ومثل سائر المثقفين المشغولين بقراءة التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي، سجل محمد سبيلا ملاحظاته حول أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي»، فكان يرى في صعود تيار الإسلام السياسي أمرا غير مفاجئ، وله مسوغاته الموضوعية في ظل المعطيات التي راكمها التحول الاجتماعي العربي المطرد، وما تمخضت عنه تناقضات الحكم التقليدي في البلدان العربية على امتداد عقود طويلة من الزمن. ومع انطلاق التغيير الذي شهدته أنظمة الحكم في بلدان الثورات كان سبيلا يقول بإمكانية مراجعة هذه التيارات الإسلامية لخطها الفكري مع وصولها للحكم انسجاما مع متطلبات التعاطي الجديد مع المجتمع من موقع مختلف عما كان عليه الأمر في العقود السابقة.

لقد كان سبيلا على ما يبدو ينتظر من حركات الإسلام السياسي أن تتحرر هي الأخرى من أوهام اليوتوبيا الدعوية وخطاب المثاليات، وأن تنخرط في الحراك السياسي المستند على مبادئ الديمقراطية التشاركية التي تلفظ الإقصاء والشمولية، وهو بذلك لا يؤيد آيديولوجيا الإسلام السياسي، بل يشير إلى أن هذا المخاض الطارئ على المشهد السياسي العربي يمثل جزءا من حركة التاريخ في المنطقة. لكن المفكر الراحل كان من أبرز الكتاب المغاربة الذين خصصواْ حيزا مهما من كتاباتهم لمناهضة الخطاب العنيف داخل أدبيات التيارات الإسلامية التي تؤمن بحكم يستند في جوهره على الشرعية الدينية، وقد دعا في هذا الصدد إلى ما أسماه بـ«عقلنة الخطاب الديني والانحياز التام لفكرة الدولة المدنية كبديل لدولة الكهنوت».

لقد كرّس سبيلا في أدبياته الفكرية حضور الرافد الفلسفي المستند على منهجية استفهامية تحيط بالأفكار، ثم تحفظ لها حياديتها ولا تستهدف من وراء دراستها قياس صدقيّة مضامينها فقط، بل تظل مشغولة أكثر من أي شيء آخر بالإشارة إلى الملاحظات الرئيسية في متنها النظري، وهو ما من شأنه أن يفسح المجال لبعث رؤى أخرى جديدة تبتكر سياقها التحليلي وتؤسس من جانبها لخلاصات تصب كلها في نفس الاتجاه الذي يخدم البحث المعرفي المخلص للحقيقة. وقد توج ذلك على نحو صريح بعمله المشترك مع المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي: سلسلة «دفاتر فلسفية / نصوص مختارة». وقد أشار لهذا العمق الفلسفي عند الكاتب الراحل عدد كبير من المثقفين المغاربة المعاصرين، منهم أمين عام منتدى أصيلة الثقافي محمد بن عيسى الذي نوه في جلسة تكريمه في إطار «خيمة الإبداع» عام 2017، بأدوار محمد سبيلا المؤثرة في تعزيز مكانة الفلسفة والتحسيس بأهميتها، باعتبارها صانعة لقيم الحرية والاجتهاد الإنساني في قراءة الواقع.

ولعل هذه الخلفية الفلسفية هي ما يفسر ثراء المتن الفكري عند سبيلا في منجزه ككل، إذ يمكن للقارئ أن يلمس بوضوح غزارة المراجع النظرية التي يتكئ عليها المفكر الراحل في سائر أبحاثه المنجزة، والتي اعتمدت مقاربات علمية محددة واضحة المعالم، أطّرتها المنهجية التحليلية الصارمة من حيث الإشكاليات المطروحة والبناء البحثي والخلاصات، وقد كان العقل الفلسفي عنوان ورشته الفكرية الأبرز من حيث آليات البناء النظري والأسئلة المحورية في البحث. على أن أول إصدارات الراحل محمد سبيلا كان «مدارات الحداثة» سنة 1987، وبهذا العمل ارتبط اسمه طويلا واستمر على ذلك حتى النهاية، فكان آخر ما نشره كتاب «الشرط الحداثي» سنة 2020.

وبين العملين مرحلة طويلة من الأسئلة التي يبدو أن أبرز ثمارها كان هو «التحدي المزدوج» الذي طرحه سبيلا على طاولة النقاش، موضحا أنه تحدّ ببعدين اثنين، فهو تحد يواجه من جهة رؤية العرب وقراءاتهم التراثية لمسألة الخصوصية الثقافية والتجلي الهوياتي داخل العالم الراهن، ويواجه من جهة ثانية النموذج الغربي للحداثة الذي لم يحرر مشروعه القائم على فكرة التقدم الإنساني من مشروع آخر موازٍ تقوده نزعة الهيمنة الغربية.

لقد حاول محمد سبيلا أن يرسم ملامح واضحة لمنظوره الفلسفي حول مسألة الحداثة بين الواقع والآفاق، وهو ما جعله يلخص تجلياتها الحالية في مظهرين أساسيين، الأول تمثله الصورة السياسية التي تشهد انتقالا مطردا نحو حداثة سياسية جزئية تتشكل أساسا عبر تطوير آليات التعددية الانتخابية والمشاركة المتنامية في القرار، أما الثاني فتمثله الصورة الفكرية التي يحددها الخطاب الثقافي السائد في المجتمع والذي ينبغي أن يرسم معالم حداثة ثقافية حقيقية. ولعل هذا الأمر هو ما يمثل في نظر سبيلا أزمة الحداثة العربية باختصار، ذلك أن الزمن التاريخي الذي تتحكم فيها التحولات الاجتماعية ويواكبه الانتقال السياسي نحو الديمقراطية يمر بوتيرة أسرع بكثير من الزمن الثقافي الذي يظل إيقاعه بطيئا وغير قادر على التأثير في بنيات المجتمع الفكرية والمعرفية. لم يتفق سبيلا مطلقاً مع أولئك الذين انجرفوا دفعة واحدة صوب تتبع موجات ما بعد الحداثة.

***

الرباط: عمر الراجي

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 30 يوليو 2023 م ـ 13 مُحرَّم 1445 هـ

لا يزال تأثير فلسفة نيتشه يتجدد؛ الدراسات والحوارات، والشروحات تصدر عنها باستمرار. عن النظريات الخارقة التي ابتكرها، والأسلوب الجديد، والشذرة المكتنزة. جيل دلوز رأى أن الفيلسوف هو «شاعر المفاهيم»، ونيتشه قاد رحلة «شعرنة الفلسفة»، وهي الآلية التي أُعجب بها مارتن هيدغر في بعض كتاباته، وفي طريقة قراءاته لشعراء عصره، فهيدغر كتب النصوص الشعرية علاوة على «شعْرنة الفلسفة» لتصبح مدججة بالصور والرموز ومحاطة بهالة من الغموض الساحر، غير أن تلك «الشعْرنة» لا تحوّل النص إلى محض خيال. فشعْرنة نيتشه، داهمت كل الفلسفات والفنون.

الفلسفة ليست كيانات منفصلة أو قبائل متناحرة، وإنما وحدات تتعدد؛ لذا كتب جيل دلوز: «نرى ماركس، والقبسقراطيين، وهيغل ونيتشه، يمسك بعضهم بأيدي بعض في رقصة دوارة تحتفل بتجاوز الميتافيزياء».

قبل أيام قرأتُ حواراً مهماً مع ميشال أونفري، أجراه فرانز أوليفييه غيسبيرت، وترجمه لصالح مجلة «حكمة» الحسن علاج.

فيه عرّج أونفري على تجربته الطويلة مع نصوص نيتشه وفلسفته ونظرياته. رأى أن المرء ينبغي عليه «أن يقتفي أثره الخاص. الإنسان الذي أكد في (هكذا تكلم زرادشت) أنه ينبغي على المرء أن يبتكر الحرية -إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها وهو برنامجي أيضاً- ليس معلماً متسلطاً، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب، أو الثرثرة، أو كتابة كتب فلسفة، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية، وأن يعيش حياة ملائمة، متوافقة مع ذاته عينها. أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها، لدينا معرفة ضئيلة بها، أو تكاد تكون منعدمة، علاوة على ذلك صعوبة الاسم، الذي هو الاستقامة، ألا وهو: المصداقية المُرتابة. الاجتهاد في عيش حياة نزيهة، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه».

ويلخص أونفري رؤيته عن نيتشه بقوله: «يتحدث نيتشه، في بداية كتابه زرادشت، عن تحولات ثلاثة: ينبغي على المرء أن يكون جملاً لحمل أثقال الماضي، ثم أسداً من أجل التخلص من هذا الماضي، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ (براءة الصيرورة)، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة. إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث، بمعنى جدلية هيغلية لا تزال، ولو أنها ما بعد هيغلية، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَرة، كما هو في غالب الأحيان، مفاتيح عمله برمته».

لكن ما زمن الجمل لدى نيتشه؟!

«يعد زمن الجمل لديه هو زمن قارئ شوبنهاور، حيث يضع كتّاب العالم كإرادة وتمثل رهن إشارته وجهات نظر فلسفية جديدة: حيوية أحادية، هي حيوية الإرادة التي تجعل الثنائية القديمة اليهودية - المسيحية متجاوزة، والتي تقدم تفسيراً لحيوية لما يوجد، هذه الإرادة الشهيرة، التي هي ليست إرادة علماء النفس، قوة الاختيار، الإرادة، بل قوة تجعل من كينونة الكائن ممكنة؛ فلسفة تراجيدية يتقاسم السأم والمعاناة، بمقتضاها، حياة كل إنسان، لكنها تؤكد في نفس الوقت التأمل الجمالي بشكل عام، والموسيقي بشكل خاص، تسمح بتأمل حتمية السلبية. وهو أيضاً الزمن الفاغناري حيث التقى الكاتب المسرحي، ويرى أنه بإمكانه العمل معه كي يجعل من الأوبرا، مناسبة لإضفاء الجمالية على السياسة، انطلاقاً من الأساطير، كما فعل الإغريق مع مسرحهم. إنه زمن ولادة التراجيديا».

بينما «يعد زمن الأسد زمناً أبيقورياً. لقد واصل الصداقة المحطمة مع المؤلف الموسيقي الألماني، الذي لم يجعل من مدينة بايرويت مختبراً، لبناء سياسة انطلاقاً من الموسيقى الألمانية التي تخصص لتعزيز دينامية أوروبية، بل مكاناً مكرساً لشخصه، مع الطبقة الأكثر ثراء، التي موَّلت مشروعه. إنه زمن كتاب المعرفة المرحة، والصداقة الأبيقورية، متأثراً بالفكر الفرنسي؛ فولتير والأخلاقيين الفرنسيين».

أما «زمن الطفل فهو زمن الفلسفة النيتشوية الحقة، إنه زمن إرادة القوة، والعود الأبدي، والإنسان الأعلى، ومحبة القدر كإيثيقا إنسان جديد، وقد تخلص من الجِمال والأسود، إنه بالتأكيد زمن كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، قصيدة عظيمة ومذهلة».

لكن من تجربته ما الكتاب المفضل لديه من كتب نيتشه؟!

يجيب بطريقة مركّبة: «أعتقد أن القارئ فهم أن الأمر يتعلق بكتاب (هكذا تكلم زرادشت)، إلا أنه ذلك الكتاب الذي ينبغي عبره الختم، حينما يكون المرء قد قرأ كل كتبه! إنه كتاب المعرفة المرحة، وذلك من خلال مقدمته الرائعة، وعلاوة على ذلك، فإنه يقوم بتركيز كل ما قام به نيتشه: خفة، عمق، أسلوب، أناقة، حيوية، صفاء، جذرية».

الخلاصة، أن الأثر الذي تسبب به نيتشه كبير جداً، حتى هو حين قال عن نفسه: «أعرف قدري... ذات يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب؛ بأزمة لم يُعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجّة في الوعي... فأنا لست إنساناً، بل عبوة ديناميت» -حينها- ربما توقع أن يكون له أثره الكبير لكن ليس إلى هذا الحد المتواصل والمتجدد

***

فهد سليمان الشقيران

......................

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الخميس، 20 يوليو 2023 - 02 مُحرَّم 1445 هـ

هل يمكن لعمل أدبيّ واحد أن يجمع بين التأمّل الميتافيزيقيّ والنقد السياسيّ والنظرة اللاهوتيّة التي تزعم إضاءة طريق الخلاص، وأن يكون، في الوقت نفسه، سيرة ذاتيّة ورحلة وملحمة وقصيدة حبّ رائعة؟

هذا ما كانته «الكوميديا الإلهيّة» لدانتي أليغيري، شاعر القرن الـ14 الإيطاليّ، وقد استغرقت رحلتها سبعة أيام ونصف اليوم، وإن استغرقت كتابتها، وكان في الخامسة والثلاثين، عشر سنوات.

والحال أنّ كلمة «إلهيّة» أضافها إلى العنوان جيوفاني بوكّاتشيو، الشاعر والأديب الذي لم يعرف دانتي، وتوفي بعد وفاته بعشرات السنين، لكنّه كان من أوائل من درسوا نصّه.

«الكوميديا» جاءت في أقسام (cantiche) ثلاثة (وأجزاء ثلاثة): الجحيم والمَطهر والفردوس، أمّا بطلها الراوي فدانتي نفسه، منتقلاً إلى الهداية من موقعه كـ«ضالّ في غابة معتمة»، تعبيراً عن استيلاء الخطايا على إيطاليا، ومتخيّلاً مجازيّاً رحلة الروح إلى الإله. هكذا نراه يوغل أبعد فأبعد في مهاوي الجحيم، مُشاهداً أشكالاً مختلفة من العقاب الفاحش في أمكنته التسعة: البرزخ والشهوة والشراهة والطمع والغضب والهرطقة والعنف والاحتيال، وصولاً إلى الدائرة التاسعة المرعبة التي هي الخيانة.

لكنّ «الكوميديا» هي أيضاً موقف من الأرضيّ. فدانتي، الجنديّ والسياسيّ الفلورنسيّ المؤمن، بل المسكون بأنّه مسيح آخر، كان بالغ النقديّة للكنيسة، كره خصوصاً محسوبيّاتها وممارساتها في شراء المناصب وبيع الإعفاءات من الخطايا. ولمّا كان حزب «السود» المؤيّد للبابويّة الطرف الداعم لتلك الأفعال، كان دانتي من قادة حزب «البيض» الذين دافعوا عن حرّيّات أكبر لفلورنسا حيال البابويّة، كما كان الأكثر جهراً بموقفه من البابا. وفي 1302 نجح «السود» في نفيه من مدينته التي لم يعد إليها، إلاّ أنّه، في ذاك المنفى، أنتج عمله العظيم.

وفي ملحمته «انتقم» دانتي من بعض هؤلاء، فشاهد في الجحيم خُطاة يتفسّخون كفيليبو أرجنتي، السياسيّ الأريستوقراطيّ الفلورنسيّ وأحد زعماء «السود»، وتحدّث مع خاطئ كان يحترق ولم يكن إلاّ البابا نيكولاس الثالث الذي أخبره أنّ الاثنين اللذين سيخلفانه في البابويّة سيشغلان مكانه نفسه. وبقسوة لا تعرف التحفّظ رأى دانتي أنّ بعض الخطاة يستحقّون عقوبات أشدّ إيلاماً، ما اعتُبر تشكيكاً بقرار الإله في تحديد درجة العقاب.

وهذا ما لم يكن مألوفاً في العالم القروسطيّ، خصوصاً في الشعراء، لكنّه كان استباقاً لعصر النهضة الذي عرف ولادته في فلورنسا نفسها. فدانتي وإن مثّل العالم المذكور ونظرته إلى الكون وإلى تمزّقاته وإخفاقاته، فهو أيضاً قدّم بطلاً جديداً هو «رجل النهضة» واسع الأفق والمتجرّئ، وعبّر عن روحيّة النهضة لجهة قدرة الفنّ على صنع العالم، ما سوف نراه لاحقاً مع ليوناردو وميكال إنجلو.

لقد كُتبت «الكوميديا الإلهيّة» بالإيطاليّة، حين كانت اللاتينيّة لا تزال لغة الكتابة والنخبة المتعلّمة، وهذا ما ضمن لها أوسع نطاق من الانتشار والقراءة. بيد أنّ ذاك الإنجاز، الذي عُدّ حدثاً لغويّاً وبالتالي قوميّاً، أدّى إلى تصنيفه مؤسّساً للّغة الأدبيّة الإيطاليّة الحديثة.

ومعروف أنّ دانتي كان قد باشر وضع بحث باللاتينيّة حول اللغة المحلّيّة وأهميّتها لكنّه لم يكمله.

ورغم الصور الكالحة والعنيفة في الجحيم، فإنّ «الكوميديا» قصّة حبّ كذلك. فدانتي الذي زُوّج زواجاً مُدبّراً لابنة أحد الأعيان الفلورنسيّين، كان عاشقاً لامرأة أخرى اسمها بياتريس بورتيناري. ومع أنّ الشائع عن هذا الحبّ الغريب أنّه لم يلتقِ بها إلاّ مرّتين، إحداهما حين كانت طفلة، فاعتبر أنّها بسبب جمالها «ابنة الإله»، والثانية كانت بعد تسع سنوات وقد تزوّجت، فقد أصبحت بياتريس مصدر استلهامه لمدى الحياة. فهي، التي صوّرها كائناً سماويّاً، أطلقت رحلته الى حُفر الجحيم ثمّ إلى شرفات جبل المطهر، مواكِبة سفره الطويل إلى أن ينتهي به المطاف وجهاً لوجه مع الإله. ولئن توفّيت بياتريس فجأة وهي في الرابعة والعشرين، فإنّ دانتي خلّدها بأن أبقاها الروح التي ترشده، فصارت في «الكوميديا» مثال المقدّس المرفوع إلى أعلى ذرى الفردوس.

وإلى بياتريس، شارك في قيادته فيرجيل، الشاعر الرومانيّ الذي ولد قبل المسيح بسبعين سنة، فلعب في رحلته دور العقل المشخصَن. وهذا ما كانت له دلالة رمزيّة تتعلّق بالنظرة الجديدة إلى القدامة الرومانيّة، حيث ما لبث عصر النهضة أن أعاد اكتشاف العالم القديم وجُعل فيرجيل رمزاً للثقافة الكلاسيكيّة الأوروبيّة. أمّا دليل دانتي الثالث، بعد بياتريس وفيرجيل، فهو القديس برنار كلايرفو وهو مفكّر مسيحيّ عاش في القرن الثاني عشر وكان أحد مُصلحي النظام البنيديكتيّ في الكنيسة، وصاحب آراء صوفيّة استهوت دانتي. ومع كلايرفو تنتهي الرحلة الملحمة.

لقد قال دانتي إنّه يستوحي شعره من الروح القدس، وظهر من يقول إنّه أهمّ شاعر في تاريخ العالم، كاد يقنع قارئه بأنّه رأى فعلاً ما رآه ومَن رآه، وإنّه التقى الرب كما تقول الأسطر المئة الأخيرة من قصيدته. ورغم انقضاء قرون على نشر «الكوميديا»، فإنّ ما احتوته من موضوعات الحبّ والخطيئة والخلاص تبنّاه فنّانون وكتّاب لا حصر لهم، من رودان إلى دالي وإزرا باوند.

وثمّة بين النقّاد من أضاف أنّ الشاعر الإيطاليّ الكبير تأثّر بأبي العلاء المعرّي في «رسالة الغفران»، وبابن عربي في «ترجمان الأشواق»، وهو ما لا يصعب إيجاد البراهين عليه في زمن ازدهر خلاله التأثّر والتاثير بين العوالم.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 19 – 7 – 2023م

من الضروري التفريق بين «الخوف» و«القلق» ذلك أن الخوف ينصبّ في الغالب على مواضيع ومصائر، بينما «القلق» إحساس من قبل الموجود بثغرات تتعلق بمعلوماته عن وجوده، وقد يفرّغ القلق من المسببات فيصبح مفتوحاً، وغفلاً من الأسباب، وهو القلق الغامض، كما أن القلق يرتبط كثيراً بمستوى «التفكير» فهي صفة ملازمة للمفكرين والفلاسفة، لذا كان «القلق» موضع ثناء في كثير من مدونات التاريخ أو السيَر، انظر مثلاً كتاب عبد الرحمن بدوي (شخصيات قلقة).

لكن الخوف حالة مختلفة عن حالة القلق، فالخوف يشترك الناس في الإحساس به، مهما تضاءلت أسئلتهم الكبرى، الخوف إحساس له طابع حياتي يومي، أن يخاف الإنسان باستمرار من «مصير» أو أن يخاف على أولاده وذويه من الكوارث والمصائب التي تأتي بغتةً من دون سابق إنذار.

برتراند راسل فيلسوف وكاتب إنجليزي من أشهر فلاسفة القرن العشرين، ووُصِف بأنه أهم علماء المنطق الذين ظهروا منذ عصر الفيلسوف الإغريقي أرسطو، ويُعد من أعظم الفلاسفة، حصل على جائزة نوبل عام 1950 ونوط الاستحقاق ذو القيمة الكبيرة والذي قلده إياه الملك جورج السادس عام 1949 وجائزة سوننج من جامعة كوبنهاجن عام 1960.

لم يوجِد الإنسان بعد وصفة سحرية تمكّنه من هزيمة الخوف، يتحدث عن «راسل» هذا قائلاً: (الإنسان يشعر بنفسه عاجزاً على نحوٍ خاص، وهناك ثلاثة أشياء تخيفه، الأول: هو ما يمكن أن تفعله به الطبيعة، تصعقه، أو تبتلعه أو تغمره بزلزال، والثاني: هو ما يمكن أن يفعله به البشر الآخرون، والثالث: وهو عنصر له علاقة متينة بالدين، هو ما يمكن أن تدفع به انفعالات الهوى في عنف اندفاعها للقيام بأشياء يعرف أنه سيندم على القيام بها عندما يستعيد هدوءه، هذا ما يجعل الناس يعيشون في حالة من الهلع الدائم). يوضّح «راسل» في نصه السالف إلى أن الخوف حدّ الهلع الذي يسيطر على الناس في يومياتهم المعتادة مردّه إلى «العجز» فحينما يشعر الإنسان بعجزه عن التحكّم في المصير أو المآل الذي يمكن أن يصبغ لحظاته الآتية يشعر بالخوف والترقب، لذا هو في حالة استنفار مستمرة.

إن أعنف أنواع الخوف أن يجبن الإنسان عن مواجهة ما يخاف منه، ولو على مستوى التفكير، والمهم أن يحوّل الفرد ذلك الخوف السطحي اليومي إلى محرضٍ يمكّنه من التفرد بذاته، والوصول إلى حالةٍ من الاستقلال في الرأي أو الاستقلال في البداية في تفسير معنى «الخوف» والخروج من أزمة ذاتية قوامها «الأميّة في مواجهة فحوى الخوف» وذلك عبر هجر الجهل والبدء في دراسة الذات والعالم والوجود والكون والمحيط ليصل إلى مرحلةٍ من التعلم والكدّ والبحث تساهم في «عقلنة الخوف».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 18 يوليو 2023 01:14

قد لا يصحّ القول إنّ الجاحظ كان فيلسوفا إذا كنا نقصد بالفلسفة ذلك النظام الفكري المتماسك، المحكم التصميم والبناء، لأن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لم يكن يُنسّق أفكاره بغرض التقدّم ببناء شامل، كفلسفة أفلاطون أو أرسطو. ولا يمكن لنا أن نعدّه فيلسوفا، إذا كانت الفلسفة هي الدراسة التي تعيد كل المعارف الإنسانية إلى بعض الأصول الأساسية بغرض الظفر بنظرة شاملة إلى العالم الذي نعيش فيه، فالجاحظ لم يكن يملك رؤية أصيلة لتطور المجتمع، ولم يكن يعرف الكثير في ما يتعلق بفلسفة العلوم وفلسفة التاريخ.

لكن إذا عدنا إلى تقسيم أرسطو الفلسفة قسمين: الفلسفة الإلهية والفلسفة الطبيعية، لوجدنا عند الجاحظ الكثير من هذا التفلسف، فقد ناقش مواضيع ميتافيزيقية وطبيعية، وناقش قضية وجود الله والردّ على الملحدين، وانشغل بدراسة الطبيعة وما فيها من إنسان وحيوان وجماد. وكانت طريقته في التفلسف تنطلق من دراسة الشيء الملموس المحسوس، ثم ينتقل منه إلى المجردات والعقليات. وكان منهجه عقليا، بمعنى أنه يُحكّم العقل في كل ما يبحث به، ويخضع الأمور لمحك النقد، ويجعل الشك طريقا إلى اليقين. وكان يفسر القرآن بالعقل ويدحض الإسرائيليات والمرويات التي تتصادم مع العقل.

ولا غرابة في هذا فقد كان رأسا من رؤوس المعتزلة، تلك الفرقة التي انقرضت منذ زمن بعيد، وإن كان أثرها باقيا وواضحا في المفكرين في زماننا، فرقة العقل. سبب انقراض المعتزلة كفرقة، بمعنى اختفاء من ينتسبون إليها، ترجع بداياته إلى فتنة القول بخلق القرآن ذاتها. وكم شوّه خصوم المعتزلة مقولتهم، فالمعتزلة دعاة تنزيه، أي تعظيم لله، بحيث لا يتصورونه شبيها بمخلوق (ليس كمثله شيء) وعندما أتوا إلى صفة الكلام، استشنعوا جدا أن يوصف الله بأنه يتكلم ككلام البشر، فيلزم أن يكون له فم وأسنان وصوت، ولذلك قالوا إن الصوت الذي سمعه موسى في طور سينا، هو صوت خلقه الله في الشجرة. بعد هذا صار خصوم المعتزلة يختصرون عبارة المعتزلة "القرآن كلام الله مخلوق"، فأصبحت "القرآن مخلوق" حتى تصوّر البعض أن المعتزلة ينكرون أن يكون القرآن كلام الله.

بسبب الرغبة في التنزيه والتصور الصحيح، اضطهد المعتزلة الناسَ بقضية خلق القرآن، وكانوا يرون أن دين المرويات التي تكاثرت في الكوفة قد أصبح خطرا على الإسلام نفسه. وممن اضطُهد أحمد بن حنبل

بسبب الرغبة في التنزيه والتصور الصحيح، اضطهد المعتزلة الناسَ بقضية خلق القرآن، وكانوا يرون أن دين المرويات التي تكاثرت في الكوفة قد أصبح خطرا على الإسلام نفسه. وممن اضطُهد أحمد بن حنبل، ويروي أهل الحديث إن ابن أبي دؤاد المعتزلي قال في مجلس محاكمة ابن حَنْبَل أمام الخليفة المعتصم: "اقتله يا أمير المؤمنين فإنه كافر"، وأنه جُلد وأثخن جسده بالجراح وبقيت آثارها حتى موته. هذه القصة بهذا السياق أنكرها الجاحظ من أساسها وروى قصة أخرى تخالف كل ما في مدونات الحنابلة والسلفيين مخالفة جذرية. لا شك أن الجاحظ عقل كبير ومثقف رفيع وأديب ألمعي له فضل وأيّ فضل على اللغة العربية وعالم الفكر كله، ولا يمكن لمنصف أن يتجاهل شهادته، فقد عاصر فتنة خلق القرآن وكان من المقربين ذوي الحظوة عند العباسيين. ولد الجاحظ في سنة 159 هـ ومات سنة 255 هـ، وولد أحمد بن حنبل سنة 164 هـ ومات سنة 241 هـ وهذا معناه أن الجاحظ ولد قبل أحمد ومات بعده، وهو بذلك خير من يقدم لنا الرأي الآخر في هذه القضية، خصوصا أن الجاحظ لم يكن من المعتزلة المتعصبين للمذهب بل كان ينصح طلابه بضرب الأقوال بعضها ببعض، لكي يكشف ذلك عن جبين الحقيقة.

حاصل ما قرره الجاحظ في رسالته "خلق القرآن" أن أحمد بن حنبل الذي لم يذكر اسمه "لم ير سيفا مشهورا، ولا ضُرب ضربا كثيرا، ولا ضُرب إلا ثلاثين سوطا مقطوعة الثّمار، مشعَّثة الأطراف، حتى أفصحَ بالإقرار مرارا".  أي أن أحمد بن حنبل، بحسب الجاحظ، أقرّ بخلق القرآن في مجلس الخليفة مرارا ولم يصمد كما اشتهر عنه. وهذا رأي صادم يختلف عن المشهور عند أهل الحديث وعامة المثقفين من المهتمين بالتاريخ.

لا يمكن لباحث موضوعي أن يرضى بقدح السلفيين في الجاحظ بناء على رغبتهم في إسقاط شهادته كما فعل شمس الدين الذهبي حين ترجم للجاحظ في كتاب "سير أعلام النبلاء"، فقال: "كان ماجنا قليل الدين، له نوادر". ومما لا شك فيه أن كتاب الذهبي "سير أعلام النبلاء" كتاب تربوي مهم، لكن كتب السير بدورها لا تخلو من التعصب، فالذهبي على الرغم من أنه من أنزههم، وأحفظهم للسانه، إلا أن التعصب لأهل الحديث ظاهر في كتابه. الشخصيات الوارد ذكرها في "سير أعلام النبلاء"، إما أن تكون للزعماء السياسيين أو لرجال الدين أو للأدباء، وهم المثقفون في تلك الحقبة. وأقل الناس حظا في كتاب الذهبي وأمثاله هم الأدباء، إذ لا يخصهم إلا بصفحة أو نصف صفحة، والزعماء السياسيون والأبطال المغاوير أحسن منهم حظا، لكنهم لا يصلون عنده لمستوى رواة الحديث والفقهاء وقيمتهم. من ذلك أننا نجد الذهبي يخص أحمد بن حنبل بمائة وإحدى وثمانين صفحة (في الطبعة الحديثة)، ويخص الجاحظ بخمس صفحات فقط، ويخص صلاح الدين الأيوبي وكل معاركه العسكرية والسياسية وحروبه التي خلدها التاريخ باثنتي عشرة صفحة!

أحمد بن حنبل، بحسب الجاحظ، أقرّ بخلق القرآن في مجلس الخليفة مرارا ولم يصمد كما اشتهر عنه. وهذا رأي صادم يختلف عن المشهور عند أهل الحديث وعامة المثقفين من المهتمين بالتاريخ

وصف الذهبيُ للجاحظَ بأنه "ماجن قليل الدين" يحتاج إلى وقفة، لأنك حين ترجع لترجمة الذهبي في الكتاب نفسه لأبي نواس فستجد أن أشدّ ما قاله الذهبي فيه هو: "ولأبي نواس أخبار وأشعار رائقة في الغزل والخمور، وحظوة في أيام الرشيد والمأمون. مات سنة خمس أو ست وتسعين ومائة. وقيل مات سنة ثمان وتسعين عفا الله عنه". تأمل هذا الزيف! "الجاحظ ماجن قليل الدين" وأشنع ما في أبي نواس هو "الأشعار الرائقة في الغزل والخمور، عفا الله عنه". في طبيعة الحال، وصف الجاحظ بالمجون وقلة الدين له علاقة برسالته عن "خلق القرآن" ورسالة له أخرى أطلق فيها على أهل الحديث والمرويات لقب "النابتة"، وفي غيرها وصفهم بأنهم "حشوية". ليس إلا ذاك. ولأبي نواس فضيلة ودَين على أهل الحديث، فهو الشاعر الذي هجا خصمهم إبراهيم بن سيّار النظّام. النظام هو هرم المعتزلة الأكبر، بل هو من وجهة نظري أذكى وأعمق المتكلمين المسلمين قاطبة.

من هنا نعرف أن هذه الألقاب "حشوية" و"نابتة" ترجع إلى الجاحظ، وقد تكون معروفة قبله، فيكون بذلك ناقلا لا ساكّا. وفي كلا الحالتين، قد نرى أن ما نعيشه في ثقافتنا العربية ليس بصراع جديد، بل قديم، فهو صراع المثقفين من علماء اللغة وأهل المرويات وجماعة المحتكرين للحقيقة، معركة لا تزال متقدة منذ أيام الجاحظ، بل قبله، مع أن كل هذا الذي سردناه لا يعني أبدا ترجيح رواية الجاحظ، بل يكفي أن نصل إلى شيء من النسبية هنا، نسبية الشك.

***

خالد الغنامي

عن موقع المجلة في يوم 12 يوليو 2023

ما بين 200 و 800 قبل المسيح ظهر كثيرون من كبار رموز التاريخ ومؤثّريه، في عدادهم كونفيوشيوس وبوذا والأنبياء العبرانيّون (عاموس وأشعيا وأرميا...) وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وكذلك زرادشت (علماً بأنّ دراسات أحدث عهداً ردّت الأخير إلى حقبة أسبق). وهؤلاء الذين ولدوا في الصين والهند وفلسطين واليونان وإيران شكّلوا أبطال الحقبة التي سمّاها الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرز «العصر المحوريّ» (The Axial Age) والذي يتكثّف خصوصاً حوالى 500 ق. م، مشكّلاً الاندفاعة الحضاريّة الثانية في التاريخ بعد حضارتي مصر وما بين النهرين.

في هذه القرون الستّة شهد العالم تغيّرات كبرى طالت الاقتصاد والتشكّل الإمبراطوريّ وطرائق الحكم وأحجام المدن، فبدا أنّ البشريّة تقفز قفزة تطوّريّة في نظرتها إلى الذات والعالم.

ولم يكن ياسبرز أوّل من قال بهذا التحقيب، لكنّه أوّل من صاغه وبلوره على النحو هذا، كاسراً السرديّة المسيحيّة – الأوروبيّة للتاريخ الإنسانيّ والتي شطرته إلى ما قبل المسيح وما بعده. ففكرة الثالوث المسيحيّ كانت، بحسب هيغل، محور الانعطافة التاريخيّة الكبرى التي أكّدت مركزيّة المسيح. ومع أنّ ياسبرز ذكر أنّه استلهم هيغل، غير أنّ فكرة «العصر المحوريّ»، كما حملها كتابه «في أصل التاريخ وهدفه» (1949)، أحدثت انقلاباً كاملاً على تحقيبه.

لكنْ يبقى أنّ السمة الأعمق لـ«العصر المحوريّ» ظهور رؤية متعالية (transcendental) قال بها أنبياء ذاك الزمن وفلاسفته. هكذا أعيد تقييم السياسات والأخلاقيّات الأرضيّة، أو جرى استبدالها، عملاً بالرؤية المذكورة وإملاءاتها. وكان للمكوّن الدينيّ الجديد أن أملى تغيّرات وتجديدات في اللاهوت والطقوس على السواء. فالسلطة القصوى والأخيرة (لله أو للآلهة) باتت تتعدّى العالم الطبيعيّ فيما بات يُرى إلى مسارات الكون بوصفها دورات تمثّل حركة المقدّس.

وهذا التجاوز لما يتعقّله البشر لا يطال بالضرورة الحيّز المكانيّ، بل مفاده أنّ معايير الزمان والمكان التي نعرفها في حياتنا لا تنطبق على ما وراء الكون. وهذا ما لا نستطيع، نحن البشر، استيعابه لأنّنا محكومون بشروط الزمان والمكان.

فـ«العصر المحوريّ» بالتالي هو الزمن الذي يروح فيه البشر يفكّرون في محدوديّة قدرتهم على الفهم ويندفعون، للمرّة الأولى، إلى التفكير بتلك القوّة التي تتعدّاهم وتستطيع ما لا يستطيعونه.

وهم قبلذاك لم يفكّروا في عالم غير هذا العالم، كما لم يظنّوا أنّ ثمّة واقعاً بديلاً له. وهذا هو التحوّل من دين مؤسّس على الطبيعة إلى دين متعالٍ على الطبيعة يولد معه العامل الخارق (supernatural) المجهول والغامض.

وبالطبع فُكّر قبل «العصر المحوريّ» بالآلهة بوصفهم أعلى من البشر وبأنّهم يملكون ما هو أقوى كثيراً من قواهم، لكنّ الآلهة ظلّت شبيهة بالبشر تقيم معهم في العالم نفسه، وإن اختبأت أحياناً في الكهوف والوديان.

كذلك لم يخطر لأحد، قبل ذاك العصر، بأنّ الجميع يمكن أن يتساووا في مكان ما. فقد كان من خارج المُتَخيّل أن يتساوى الحاكم والكاهن الأعلى، وعلى أيّ مستوى كان، مع الراعي والمزارع. لكنّ «العصر المحوريّ» انتصر لفكرة أنّ الناس يستطيعون، على الأقلّ، أن يملكوا طاقات وقدرات تؤهّلهم أن يكونوا متساوين، وأن تحاسبهم بالتساوي عدالة كاملة كانت فكرتها قد ظهرت للتوّ أيضاً.

فأحدٌ لم يفكّر قبلاً بأنّه قد يصعد إلى السماء وقد يُحاسَب بموجب المعايير نفسها التي يحاسَب بها الأقوياء، وكان كلّ ما يُرجى من تقديم الأضاحي للآلهة التخفيف من عناء الحياة ومصاعبها على هذه الأرض حصراً. والحال أنّ الحساب الأخير والجنّة والنار وما بعد الحياة هي، بمعنى ما، طلب لعدالة تعوّض عن نقص العدالة على الأرض.

بالطبع لم يؤدّ «العصر المحوريّ» إلى إلغاء الأضاحي للمعابد وممارسات أخرى من هذا القبيل، إذ أنّ أموراً كهذه تستلزم قروناً، لكنّ نوعاً جديداً من الممارسة الدينيّة بدأ يشقّ طريقه، ومعه بات ما يحصل في المعبد ليس الشيء نفسه الذي يحصل في حياة البشر.

ومع الحاجة إلى معرفة «أسرار» الكون والدين بدأت تظهر طبقة الأخصّائيّين. ففي الهند، تأثّرت الهندوسيّة، مع أنّها أقدم عهداً من «العصر المحوريّ»، بجديد العصر المذكور. هكذا نشأ «الغورو»، وهو يختلف عن الكاهن الذي يقتصر دوره على المعبد القديم وتقديم الأضاحي.

فـ«الغورو» يعلّم أناساً ليسوا بالضرورة دينيّين كيف يُمَتِّنون علاقتهم بالمرجعيّة الأخيرة والنهائيّة بما يُكسب حياة صاحبها إضافة نوعيّة. والشيء نفسه يصحّ في اليهوديّة، حيث نشأ التقليد الحاخاميّ، والحاخام، كالغورو، يعلّم الناس الزمنيّين كيفيّة التوافق مع الله.

وبسبب نشوء المتعالي المجهول، ولد تحوّل أنثروبولوجيّ يعيد تعريف البشر بما يتعدّى دورهم الاجتماعيّ ومظهرهم الطبيعيّ، مركّزاً على الروح والنفس بوصفهما جزءاً من «الخارق» أو امتداداً له. هكذا بات المجتمع الإنسانيّ، للمرّة الأولى في التاريخ، موضوعاً للتحليل التأمّليّ.

لقد ذهب بعض النقّاد إلى أنّ عيب نظريّة ياسبرز هو كعيب الرأي المسيحيّ – الأوروبيّ في القرن التاسع عشر عن قدوم المسيح بوصفه المنعطف الأكبر في العالم. صحيح أنّ نظريّة «العصر المحوريّ» تأخذ في حسابها الصين والهند وفلسطين وتكسر الواحديّة الأوروبيّة والمسيحيّة.

إلاّ أنّ نقّادها رأوا أنّها ترى العالم بعيون أوروبيّة. فياسبرز، في عرفهم، أزاح المسيح عن الصدارة ليضع فيها كونفيوشيوس وبوذا وأشعيا وسقراط، إلاّ أنّه لم يتخلّ عن فكرة الصدارة نفسها.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 11 – 7 – 2023م

يحمل العقل باعتباره سلة فكرية جامعة، العديد من الآراء والقيم المحددة للسلوكيات، إذ بنيت وتشكلت ملامحها بناءً على حمولتها المتراكمة، سيما أنها خليط «دسم» بين معطيات التراث والحداثة، ونزر من رشفات المستقبل.

وفي النظر للعقل، الديني منه على وجه الخصوص، فإن فهم أساليبه المنتهجة في طرائق التفكير، والحصول على أقرب صورة مشابهة له، تتطلب عناية بحثية تفكيكية، فاصلةً بـ«غربال» المنهجية والموضوعية العلمية بين الكم التراثي الفكري (الإيديولوجي)، والآخر المبني على الخرافة والتقليد، وفي ذلك مهمة صعبة المنال ولكنها ليست بالمستحيلة، سيما أن أقرب مثال حي على ذلك يتمثل في المحاولات الحثيثة لتنقية التراث الإسلامي من عوالق التراكمات، وتحريره من ثقلها الملتصق بقوة تارة في جسد ذلك التراث، وتارة «أقوى» في عقول وارثيه، إذ يقل ذلك التراث في قلوبهم قبل عقولهم موقع إرث الفلاحين القدامى لقطعة من الأرض، دون إدراك ما قد يعتريها من زلازل، أو يتغير عليها من مناخ.

ومن ذلك فإن حتى النظر في بنية العقل الديني، واستلهام طرائقه في الاستدلال والاستنباط، لا تكون من خلال نافذة جامدة تقر بالموافقة دون الفهم، بل إن الأحرى والأقرب للدقة بعد التمييز بين مادة الدين «التأسيسية» المتمثلة بالنصوص الدينية المقدسة كالقرآن الكريم والسنة النبوية في الدين الإسلامي، وبين النصوص الثانوية، التي تمثلها النتاجات العلمية والثقافية المبنية على الفهم الموروث والشروحات والتأويلات التي كان كل منها ذو علاقة مع «أبوية» زمكانية.

وعليه، فلا يمكن فهم ألفبائية العقل الديني، دون فهم عناصر التفريق الآنف، والعمل على أساسه، إذ يقول المفكر محمد أركون فيما دون من مادة «التراث المقدس»: «دُوِّنت بعد فترة طويلة نسبياً من تاريخ النبوَّة، وبناءً على الذاكرة الشفهيَّة للصحابة أو الحواريين...إلخ (...)، وفي أثناء عمليَّة الانتقال من التراث الشفهي إلى التراث الكتابي تضيع أشياء، أو تُحوَّر أشياء، أو تُضاف بعض الأشياء، لأنَّ كلَّ ذلك يعتمد على الذاكرة البشريَّة، وهي ليست معصومة إلا في نظر المؤمنين التقليديين الذين يصدّقون كلَّ شيء. كما يعتمد [ذلك] على الصراع الإيديولوجي أو التنافسات الحادَّة على السُّلطة التي لا تخلو منها بدايات أيّ دين».

العقل الديني وأسس الاستدلال التي اتكئ عليها، لا يكون احتضان جوانبها دون إسفاف أو تبذير دون الوعي بالإشكاليات التي واجهت فهم ذلك العقل، أو شاركت في تكوينه، إذ هي متصلة والأسس التي آل للارتكاز عليها والاستدلال من خلالها، وكأنها منظار يوضح كل ما أشكل فهمه، ففي التكوين الديني للعقل، لا يمكن إهمال «الترسبات» الفكرية التي تحدد بوصلة اتجاهه في الحياة عامةً، سيما أن تطور العقل يعيش علاقة طردية نشطة مع الكم المعرفي والثقافي، ومن هنا اعتمد ابن خلدون على رأيه في أن النفس الناطقة للإنسان توجد فيه بالقوة، ولكن قدرتها على الخروج من طور «القوة» إلى طور «الفعل»، محكوم بمدى حصولها على «تحديثات» العلوم، وامتلاك ثروة «نظرية»، تجتمع مولدةً للإدراك الحقيقي.

ولو أن ذلك فُهم حد الإدراك، وأُدرك حد الفعل والتصرف، لما وقع كثر من العلماء والنظار في فخ «القداسة المزيفة»، وذلك من خلال استيعاب كنه الاجتهادات السابقة، وحسن تصنيفها، إذ هي تنزيل للمطلق من مصادر التشريع كـ(الكتاب والسنة)، في حركة النّسبي (الحاضر المتغير)، وليست صورة جامدة ممتدة في ذات «النوتة» على كافة المجتمعات الإنسانية جمة التحول، ولذلك السبب كان الدين «عالمياً»، فمن أين يجيء الإصرار لدى البعض على استنساخ التراث وإلصاقه بحذر، وذلك يخالف بالأساس ميزات العقيدة؟ تتجلى خلاصة الوصول للعقل الديني، والسير به على وجه الحقيقة إلى محطة الاستدلال القويم، في أي دين أو شرع وجد بحكمة إلهية قاصدة تذليل الصعاب للإنسان، وتوجيهه لإعمار الأرض، وإعانته في أداء رسالة وجوده، والغاية من ذلك الوجود، يستلزم القفز عن «المعضلات الكبرى» التي تتلخص في جهل منعقد بفهم التشريع (نصوص القرآن الكريم، السنة النبوية، ...)، أو جهل منبعه قصور الفهم بالمنهجيات التي تعاملت مع أصول التشريع، أو جهل متصدر للمجتمعات والعقول من خلال تولية غير الكفؤ لمنبر الاجتهاد والحكم الشرعي.

وعليه فإنه لا يمكن التسليم لأي أفكار أو معتقدات تخالف مقاصدية العلم الديني، الذي وجد لتوسيع المدارك، وحسن معرفة الخالق، والأخذ بيد الإنسان للأيسر والأقوم، ارتفاعاً به عما يعيق رسالة استخلافه من مظاهر الفساد والخراب، والإرهاب، والكراهية، وتقريباً لطموحاته من كل ما هو نفيس في الفهم، والفكر، والفعل.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية في يوم: 25 ابريل 2022

في سن التسعين يُصدِر هذه الأيام المفكرُ المغربي عبد الله العروي كتابَه الجديد «الفلسفة والتاريخ» الذي يختلف جزئياً عن الكتاب الذي أصدر بالفرنسية تحت العنوان ذاته عام 2016. وكثيراً ما يعتبر العروي فيلسوفاً، وإن كان ينفي عن نفسه هذه الصفة ويؤكد أنه مؤرخ، حتى ولو كان يستند في عمله التاريخي إلى مفاهيم ونظريات فلسفية.

والواقع أن سلسلة المفاهيم التي خصصها للحرية والدولة والعقل والتاريخ والأيديولوجيا تدخل في الكتابة الفلسفية بأسمى معانيها. والمعروف أن المؤرخين المحترفين في المغرب يرون أن العروي ليس مؤرخاً بالمعنى التقليدي، حتى ولو كان ألَّف كتابَه المرجعيَّ الهامَّ حول تاريخ المغرب (العربي) وكَتبَ عن الجذور التاريخية للوطنية المغربية.

ولا شك في أن العلاقة بين الفلسفة والتاريخ لم تكن بديهيةً ولا طبيعية في الماضي، وإن تزامنت نشأةُ الفلسفة مع ظهور علم التاريخ في العصر اليوناني. لقد اعتبر افلاطون وآرسطو أن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً برهانياً دقيقاً، لأن مجالَه هو التغير والاحتمال، في حين أن المعرفةَ الصحيحة هي إدراك الكليات الثابتة.

لكن العلاقةَ تغيرت جذرياً منذ ما دعاه لوي التوسير «اكتشاف ماركس قارةَ التاريخ» (والأصح أن هيغل هو الذي اكتشف هذه القارة)، حيث أصبحت الفلسفةُ نمطاً من الانطولوجيا التاريخية، وغدا التاريخُ هو حقل الاستكشاف الفلسفي الأبرز. وبالعودة إلى العروي، نلمس هنا أنه منذ مقدمة كتابه الأخير يتعرض لهذا الإشكال، مستنتجاً أنه «ليس من السهل إذن التنصل من قبضة التاريخ، حتى عندما يقرر المرءُ نظرياً التقليلَ من تأثيره».

والحقيقة أن العروي ألّف كتابَه للرد ضمنياً على الذين انتقدوا نزعتَه «التاريخانية»، وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في كتابه «الخطاب العربي المعاصر». ومع أن جانبَ السيرة الذاتية الفكرية يطغى على الكتاب، فإن الغرض الأساسي منه هو توضيح هذه النزعة التاريخانية والدفاع عنها، في أصولها النظرية، وفي تطبيقاتها العملية المتمحورة حول أطروحة الشيخ والسياسي وداعية التقنية، والتي بلورها في كتابه الأول «الأيديولوجيا العربية المعاصرة».

ما يميز «التاريخانية» هو الوعي بالتحديد السياقي للحدث التاريخي، أي اعتباره إطاراً ضابطاً للتصورات والمواقف، ولا يمكن الخروج عنه بمطلقات عليا متعالية، تتجاوزه وتسبقه. وذلك ما عبّر عنه بالرجوع إلى تمييز بندتو كروتشه بين التاريخية التي تتعلق بظروف تشكل الظاهرة الحدثية والتاريخانية التي تعني أنه «لا يتصور أي مبدأ يساعد على ترتيب الوقائع وتوجيهها وجهة مقنعة إلا ما يبرره التاريخُ ذاتُه».

ووفق هذا الرأي، لا يمكن تأويل الخطابات والأفكار إلا في سياقها التاريخي الذي تنتمي إليه، وليست العبرة بمضامينها ذاتها. فالفقيه الإصلاحي (مثل محمد عبده وعلال الفاسي) يستخدم مقولاتِ التنوير الأوروبي والحداثةَ في إطارٍ سجالي جدلي فرضه الاحتكاكُ مع التاريخ لكنه يظل في انفصام مع حركية الزمن الحاضر. ونفس الحكم ينطبق على السياسي الليبرالي المتشبث بمثال الحرية لأغراض أيديولوجية، دون الوعي بالثمن المعرفي والاجتماعي الباهظ للتحول الليبرالي المنشود في السياق العربي مقارنةً بالتجربة الأوروبية الحديثة.

أما داعية التقنية فيسلك طريق البرغماتية النفعية في مشروع النهوض، لكنه لا يخرج من المأزق الأيديولوجي المتولد عن سطحية نظرته للاكتشاف العلمي والإبداع التقني واعتقاده الساذج بسهولة استيرادهما من لدن الدولة الوطنية الناشئة. وهكذا يخلص العروي إلى القول بأن «المثقف العربي إذا وعى الوضعَ الذي يعيش فيه يعي بالضرورة أن فكرَه أيديولوجيٌ بطبعه، أي أنه خاضع لحكم تاريخ شمولي، وأن فكره جدلي بالتعريف، وأن هذا الطابع الجدلي يوحي بأن لا أفق له سوى التاريخانية». والتاريخانية التي يقصدها هنا تقوم حسب عباراته على المنفعية الأخلاقية والفلسفة الوضعانية وترفض العودة للميتافيزيقا أو الانطولوجيا.

ومع أن العروي يتجنب في كتابه الحديثَ عن الكتابات الفلسفية العربية الحالية، والتي لا شك في أنه مطلع عليها، لكن من الواضح أنه يقصد الاتجاهات الظاهراتية والتأويلية والتفكيكية التي تستأثر بجانب وافر من اهتمام المشتغلين بالفلسفة في الساحة العربية الحالية. وقد تكون «العقدة الفلسفية» الواعية لدى العروي ناتجة عن إدراكه بأن الفكر الفلسفي في اشتغاله واهتمامه لا يمكن أن يتنصل من الميتافيزيقا ومن الإشكالات الوجودية الجوهرية التي هي خارج الزمنية التاريخية، ولو في أبعادها المفهومية والفكرية المحددة. وإذا كان فيلسوف الحداثة الأكبر إيمانويل كانط قد علَّمنا أن الفلسفةَ أصبحت تفكيراً إشكالياً في الحاضر، فهو نفسه الذي نبَّهنا إلى أن الميتافيزيقا ليست تفكيراً نظرياً مجرداً محضاً، بل هي الموجِّهاتُ الضابطةُ لنمط الوجود البشري في مرتكزاته الأخلاقية والمجتمعية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 25 يونيو 2023 23:37

عالم وردي جميل لا ينقصه أي من الاحتياجات والمأمولات التي توفر رغد الحياة، والكثير من العناية بـ«الأنا»! إن هذا الاتجاه، حول سعي الإنساني وجهوده في مسار البحث عن الحلول الجماعية، كثيراً ما غرق في الطريق المؤدية لنجاة الفرد فقط، في صورة مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَراحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منْهُ عضوٌ تداعى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى».. فهل يعبر الشعور الجمعي اليوم عن حالة من التراحم الجماعي أم أنه منشغل بعلاج حُمّى الفردية؟

عاشت المجتمعات الإنسانية تجمعاً واتحاداً في الفكر والمسعى، صانعةً «أقطاباً» متنوعة في انتماءاتها وأهدافها الكبرى، وهذا كله قبل أن تذوب تلك الشمعة بلهيب الفردانية العازف عن المشاركة في الأهداف الجمعية، والمتقوقع على الذات والكسب الشخصي والجري وراء غاية السعادة وارتشاف ملامحها دون الالتفات لحقيقة وجود الآخر.

ولعل الذي ساعد في تضخم الفردانية في الأوساط العربية دون غيرها، وعلى غير المعتاد، أن ذلك مثل رد فعل غير مباشر على الظروف السياسية المتقلبة التي عاشتها المنطقة، والأزمات الاقتصادية، بالإضافة لبعض الإحباط المتعلق بالوضع المعيشي، وتنامي معدلات الهجرة سعياً لتحقيق نجاح فردي وارتقاء معيشي. إن الانغماس في «لذة النزعة الفردانية» سيؤول بلا شك لتضاعف المظاهر الاجتماعية والانعكاسات الاقتصادية المؤلمة والقاسية، منتِجةً المزيداً من الفقر والتشرد والجوع، كما ستعمل على محق «الطبقة الوسطى» في المجتمعات بصورة غير مسبوقة!

وعلى مستوى التكوين المجتمعي، فلن تكتفي هذه النزعة الموحشة بتمزيق جسد الأسرة، وإلغاء ملامح الترابط الأسري والقبلي الذي كان أحد المواثيق الغليظة في المجتمعات، مما يعني مضاعفة التحديات وازدياد الأعباء على الدول والحكومات. وفي حين يخيل لأحدنا أن مثل هذه الظواهر والاتجاهات الفكرية وترجماتها السلوكية تقتصر على فئة محددة، وبالتالي فهي ذات أثر محدود، تتمدد اليوم ملامحُها بكيفية لا تؤثر على تكوين هذا الكوكب الاجتماعي الذي أفرز نماذج مترهلة ومفككة فحسب، بل تمتد لكبرى التحديات التي ترهق العقول القاطنة على هذا الكوكب، والتي يعد خطر التدهور البيئي أحدها. فالفردانية مغرقة في الاستهلاك اللامسؤول وفي تبديد الفائض عن الاستهلاك الضروري أو اللازم. وبما أن الفردانية متعلقة بالفرد، فهل يمكن الدفاع عنها كحرية شخصية؟

وكيف يمكن الإصغاء للطروحات التي تراها تحت بند «الحريات»، وبالتالي فإن لها ما لها من الأثر على الأمن الروحي والفكري والصحي والغذائي لكافة مخلوقات العالم. وبالإمعان في تفاصيل نسب الهدر المتعلق فقط بالطعام لعام 2019، نجد أن 17 بالمائة من إجمالي الإنتاج الغذائي العالمي مصيره الإتلاف والهدر، مع أن ملايين البشر يتطلعون لمضغ «حفنة أرز»! نجحت السياسات الحديثة والرسالة الإعلامية «المكثفة» في تشكيل صورة ثقافية متوارثة بين الأجيال، تطمح دائماً لتحقيق فردانيتها بمنأى عن العالم وضجيجه.

فقد رسخ هذا الإعلام وتلك السياسات صورَ الشباب الساعي لتحقيق ذاته، والذي تمت إحاطته بمادة إعلامية وإعلانية دسمة تمجد الفردَ وتعطيه دورَ البطولة باختلافه عن الكل، في الغاية والهدف وأسلوب الحياة، ممثلين نماذج «مخالفة» للنظام العام! إن النزعة «الفردانية» هي بداية النهاية لكل مستقبل خطط له الإنسان، ولا بد من نزعه بدل رتقه ونسج مظلة واسعة متينة من المشتركات الإنسانية وتعزيزها بكل ما أوتي الإنسان من قوة، لا سيما الثوابت التي رسخها الإسلام والمتجلية في صور التعاون والتراحم والإغاثة والتشاور وإعادة «دور العلماء» والفقهاء من خلال نقد السلوك المجتمعي، وإرشاده للبدايات المجدية التي تنقذ أبناءنا من التطرف والتفسير المنحرف للنص الشرعي، وذلك من خلال جسر ثابت من الثقافة الرصينة والفهم المتزن والنظرة المعتدلة.. إلى جانب السياسات والقوانين الحيوية التي تنقل أفراد المجتمعات من عزلة الفردانية لسعة الجمعية الرؤوم.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية ليوم: 27 يونيو 2023 23:30

ما لا شكّ فيه أنّ مساهمة الإغريق القدامى لحضارتنا الإنسانيّة خضعت للأسطرة والمبالغة. لكنّها تبقى، بعد حذف الأسطرة والمبالغة، مساهمة جبّارة وأكبر من أيّة مساهمة أخرى.

فهناك حضارات كثيرة سبقتها وعاصرتها، وفاقتها في مجالات الدين والروحانيّات والميثولوجيا. لكنْ حين يصل الأمر إلى فهم عالمنا وتأويله على نحو عقلانيّ غير ميثولوجيّ، يأتي الإغريق، لا سيّما أثينا، أوّلاً.

فالأخيرة استفادت من موقعها البحريّ واعتمادها على التجارة واتّصالها بالعالم الخارجيّ، وكان هذا على الضدّ من معظم الحضارات النهريّة التي قام اقتصادها على الزراعة، ما جعلها أشدّ انكفاء وأكثر انضباطاً بإملاءات الطبيعة.

ولربّما كان بروميثيوس، بين الأبطال الأسطوريّين الكثيرين الذين أنتجتهم ثقافة الإغريق، الأشدّ تمثيلاً لتلك الروحيّة الثقافيّة المتجرّئة: فمن حبّ البشر انبثق الإلحاح على تزويدهم بنار الآلهة، تلك الشعلة المقدّسة، وذلك في تحدٍّ صريح لرغبة زوس، إله السماء في الأساطير الإغريقيّة.

أمّا المعادل العمليّ لامتلاك الشعلة المقدّسة فإنّ الفلسفة والديمقراطيّة وفنّ العمارة والرياضة والتراجيديا باتت تجد أصولها الأولى هناك، علماً أنّ تغيّرات نوعيّة طالت معانيها لاحقاً. كذلك اختُرعت النقود، بين 600 و700 قبل المسيح، في مملكة ليديا باليونان. كذلك فالكثير من الكلمات التي نستخدمها راهناً، ومعظمُها يصف مفهوماً أو سلوكاً عريضاً، فجيء به من أسماء المدارس الإغريقيّة التي سبقت سقراط: يصحّ هذا في «ذرّة» (atom) و»كلبيّ» أو «سينيكيّ» (cynic) و»متشكّك» (sceptic) و»أكاديميّ» (academic) و»رواقيّ» (stoic) و»تجريبيّ» (empirical)...

إذاً هكذا كانت بداية البداية، مع القرنين السادس والخامس قبل المسيح، وقد مثّلتها موجة الفلاسفة والعلماء الذين سُمّوا «فيزيائيّين» و»فلكيّين»، تبعاً لاهتمامهم بالعلوم، وخصوصاً الفيزياء وعلم الفلك.

ولئن أثبت التطوّر العلميّ اللاحق أنّ هؤلاء ارتكبوا قدراً معتبراً من الأخطاء، فالعالم القديم الذي خرج منه العلم، كما الفلسفة، كان مليئاً بالأساطير والقصص المُتخيّلة في تأويله. والحال أنّ الخلفيّة العلميّة التي كانت متوافرة حينذاك، وشكّلت مادّة انطلاقهم، بدت فقيرة جدّاً تكاد تقتصر على فكرتين: وجود العناصر الأربعة الأولى، النار والماء والأرض والهواء، ومبدأ التناقضات ما بين سخونة وبرودة، ورطوبة وجفاف، وارتفاع وانخفاض... لهذا فحين تُقرأ تلك البدايات ينبغي التفكير دائماً بحدود ذاك الزمن وقدراته.

فعلماء ما قبل سقراط وفلاسفته هم علماء ما قبل العلم وفلاسفة ما قبل الفلسفة ممّن طرحوا أسئلتهم عن نظام الطبيعة وعمليّاتها وموادّها، وكذلك عن أصول الكون، بحيث بدأ معهم ميلاد العلم مصحوباً بميلاد الفلسفة. وبرفضهم الأخذ بالقصص والأساطير، أو الملاحم، صار فهم العالم يتمّ في العالم نفسه عبر تعميق معرفتنا به. وفي مقابل أسئلة «سِفر التكوين»، وقبله ملاحم ما بين النهرين، لم يَدُرْ اهتمام الإغريق حول مَن صنع الكون، بل انصبّ على الأسئلة العمليّة: ممّاذا صُنع الكون، وكيف تشكّل؟... وبدل أسئلة «مَن؟» و»لماذا»، أُعطيت الأولويّة لسؤالي «كيف؟» و»ماذا»؟ وكان من أبرز هؤلاء طاليس الذي حاول العثور على تفسير طبيعيّ للظاهرات بدل التفسيرات التي تردّها إلى أهواء الآلهة، كما تكهّن بالكسوف، وتلميذه أناكسيمندر، وكان أوّل إغريقيّ يضع رسوماً بيانيّة فلكيّة وجغرافيّة، وأناكسيمِنيس الذي وصف الحالة البدائيّة للأشياء ككتلة تتعرّض للضغط فتغدو ريحاً وغيوماً وماء، وأنيكساغوراس، أستاذ بيركليس، أبرز حكّام أثينا الديمقراطيّة، والذي اكتشف عمليّة التنفّس في النبات والأسماك، وهيراقليطس الذي نقل العلم من الفلك إلى الأرض، فرأى أنّ كلّ شيء يتدفّق ويتغيّر، وحتّى أكثر الموادّ جموداً ينطوي على حركة غير مرئيّة، فيما النار محرّك الأرض والتاريخ، وإيمبيدوكليس الذي دفع فكرة التطوّر إلى أعلى، حيث لا تنشأ العضويّات عن تصميم مسبق بل عن فعل انتخاب، ولوسيبوس الذي رأى أنّ الضرورةَ الدافعُ الدائم وراء الأشياء وحركتها، وتلميذه ديموقريطس الذي اعتبر أنّه لا يوجد في الواقع سوى الذرّات والفراغ، وأنّ عدداً لا محدوداً من العوالم سبق أن نشأ قبلاً، كما ينشأ الآن، وسوف ينشأ دوماً، وأنّ الكواكب تتصادم وتموت فيما تنهض من الفوضى عوالم جديدة، وفيثاغور صاحب الكثير من الاكتشافات العلميّة ومعادلات الرياضيّات، ما أجاز تسميته «أب الرياضيّات»، وتلميذه فيلولوس الذي قال إنّ في الإمكان تقسيم العالم إلى موادّ غير محدودة وأشكال تحدّ منها وتؤطّرها، وأنّه يمكننا استخدام الرياضيّات كي تُظهر التناسق الذي يجمع بين الموادّ والأشكال المتنافرة كما يحصل في الموسيقى، وبارمينيدس الذي دفع الفلسفة نحو المنطق الاستنتاجيّ (deductive) بوصفه وسيلة لتوكيد الحقيقة، مقابل الاكتفاء بمراقبة الظاهرات الطبيعيّة، وزينو الذي لا يزال يُذكر مرفقاً بالمفارقات التي استخدمها دفاعاً عن وحدة الواقع، وكان النقاش مستعراً حول ما إذا كان الكون واحداً أم كثيراً، وميليسّوس الذي جادل بأنّ الواقع غير محدود وأنّ الفضاء الفارغ مستحيل، وبروتاغوراس السفسطائيّ الذي صوّر الإنسان بوصفه مقياس كلّ شيء آخر، وعُدّت آراؤه تعبيراً راديكاليّاً مبكراً عن النسبيّة...

وقد تفرّع هؤلاء وسواهم إلى مدارس فكريّة تسمّت باسم مكان المدرسة، كالإيليّين نسبة لمستعمرة إيليا، أو باسم مؤسّسها، كالفيثاغوريّين، أو باسم أطروحتها الأمّ، كالذريّين والسفسطائيّين ممّن امتدّ الزمن بمدرستهم حتّى عاصروا أرسطو.

هذا ولم نصل بعد إلى ثالوث سقراط وتلميذه وتلميذ تلميذه ممّن ارتكزوا إلى الجهد الذي قدّمه السابقون ليقدّموا لمن جاء بعدهم كنوزاً أشدّ إبهاراً.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: 25 – 6 – 2023م

لأن طيب تيزيني في كتابه «من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي»، استعمل تعبير السلفية أداةً لتفسير التاريخ العربي الفكري، القديم والحديث، فلقد اهتم أن يميز بين النزعة السلفية والسلف. فالأولى، وهي المعني بها في كتابه، هي - كما قال - «تقوم على اشتقاق الحلول والمواقف المطلوبة أولاً وأخيراً من الماضي الذي كان العصر الذهبي للسلف الصالح، أما السلف فهم أولئك الذين عاشوا في مرحلة ماضية منصرمة، من دون أن يكونوا كلهم ذوي نزعة سلفية». ثم قدم ملخصاً قصيراً لنشأة النزعة السلفية وتاريخها الممتد إلى القرون الحديثة.

ومع معرفته بتاريخ نشأة المذاهب الإسلامية، إلا أنه أشار إلى أن نشأة مذهب الجبرية ومذهب أهل السنة والجماعة كانت في أواخر حياة النبي محمد! في دراسة له عنوانها «طيب تيزيني بين جاذبية المنهج ومزالق التطبيق» منشورة في العدد الأول من مجلة «الفكر العربي»، عام 1978، أمسك رضوان السيد عن مناقشة ما أشار تيزيني إليه، قائلاً: «لا أفهم له سبباً، وربما كان كله خطأ مطبعياً أو سبق قلم، ولا أريد أن أضيف إلى هذا شيئاً بانتظار سماع رأي المؤلف في هذه العبارة اللاتاريخية».

وما أشار طيب تيزيني إليه ليس خطأ مطبعياً ولا سبق قلم، هو هكذا يرى ويعتقد! بدليل أنه في الطبعات اللاحقة للطبعة الأولى من الكتاب التي راجعها رضوان السيد نقدياً لم يحذف ما أشار إليه أو يعدِّل فيه.

يقول تيزيني في فصل «نزعة المعاصرة» من كتابه «لقد اتهم إسماعيل مظهر - كما اتهم معه طه حسين ومن قبله محمد عبده وآخرون عديدون - بارتباطه بالاستعمار البريطاني أو الفرنسي أو الطلياني، وبأن آراءه التحديثية لم تكن إلا بتوجيه من هذا الاستعمار. إن هذا الموقف ذا المصدر السلفي الديني المتزمت نشهده مثبوتاً، بأشكال مختلفة وبدرجات متباينة، في كتب عديدة صدرت سابقاً ولاحقاً، منها على سبيل المثال (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) لمحمد البهي - صدر عام 1960 - و(ذيل الملل والنحل للشهرستاني) لسيد كيلاني - صدر عام 1961 - و(الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم) لغازي التوبة - صدر عام 1969. في هذا الكتاب الأخير مثلاً تكمن دعوة لرفض وإدانة كل فكر تجديدي كان ممثلاً بمحمد عبده أو بطه حسين أو عباس محمود العقاد، أو حتى بمالك بن نبي، وفيه في نفس الوقت إبراز وتبجيل مطنب لحسن البنا. لماذا؟».

إجابة تيزيني عن سؤاله هذا: لماذا؟ كانت باقتباس تعليمتين دينيتين متزمتتين من «رسالة التعاليم» لحسن البنا، أوردهما غازي التوبة في كتابه ضمن 38 تعليمة لشيخه حسن البنا.

وهذا التعليل تعليل غير صحيح. فتبجيل غازي التوبة المطنب لحسن البنا كان لأنه إخواني ونشأ نشأة إخوانية، فلو كان السبب تعاليم حسن البنا الدينية المتزمتة لما كان وصم في كتابه المذكور تقي الدين النبهاني وحزبه، حزب التحرير الإسلامي، بالانحراف الفكري على مختلف المستويات. فالنبهاني وحزبه لا يقلّان عن البنا وجماعته، في التزمت الديني. وما كتبه غازي عن النبهاني وعن حزبه يدخل في نطاق التنافس الحاد والصراع المحموم بين الإخوانيين والتحريريين على تمثيل الإسلام الحزبي الصحيح.

وعرض طيب تيزيني لما جاء في الكتابين الأولين يحتاج إلى تصويب في المعلومات.

كتاب البهي الذي صدر في أول طبعة منه عام 1957، لم يتهم صاحبه محمد عبده بالارتباط بالاستعمار البريطاني، بل دفع هذه التهمة عنه، فهذه التهمة - اتباعاً لجمال الدين الأفغاني - اتهم بها السيد أحمد خان في الهند.

وقد خلا كتاب البهي من أي اتهام سياسي أو ديني لإسماعيل مظهر، فالمتهمون عنده هم طه حسين وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود وخالد محمد خالد ومصطفى محمود ورشدي صالح.

يصعب تصنيف محمد سيد كيلاني ضمن أي تيار من التيارات الدينية المعاصرة. كما أنه شخصية غريبة الأطوار لا تلتئم مع أي تيار أدبي أو فكري، ولا مع أي تيار ديني أو علماني.

وقبل أن أخوض في هذا الحديث أوضح أن كتيّبه الذي ذكره طيب تيزيني، صدر ضمن تحقيقه لكتاب «الملل والنحل» للشهرستاني.

في هذا الكتيب الملحق بتحقيقه لكتاب الشهرستاني، أراد محمد سيد كيلاني أن يكون كتيّبه في بابه الأول، استدراكاً فيما فات الشهرستاني ذكره من أصحاب الديانات القديمة، وإكمالاً في بابه الثاني لكتاب الشهرستاني في الحديث عن أديان ظهرت بعد عصر الشهرستاني، وكذلك كان الأمر في الباب الثالث الذي جعل عنوانه «المسلمون المعاصرون». في الفصل الثاني من هذا الباب، الذي كان عنوانه «المجتمع الإسلامي وثورته على القديم»، كان من بين الموضوعات المثيرة في هذا الفصل اتهامه على عبد الرازق بأنه في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» سرق من كتاب «الخلافة وسلطة الأمة»، الذي أصدره المجلس الوطني التركي. وكان محمد محمد حسين في الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، قد قال قبله «وتأثر المؤلف به واضح في كثير مما جاء في كتابه من آراء، وهو يشير إلى إعجابه به في إشارة صريحة في بعض المواضع». وفي عرضه لكتاب «الخلافة وسلطة الأمة» ذكر محمد محمد حسين أن الذي ترجمه من التركية إلى العربية عبد الغني سني بك عام 1924.

وليثبَّت كيلاني التهمة على علي عبد الرازق غيّر عنوان الكتاب التركي إلى «الإسلام وسلطة الأمة»، وغيّر عنوان كتاب علي عبد الرازق إلى «الإسلام ونظام الحكم»، وعلق قائلاً: وبين الاسمين تشابه كما ترى! وفي الفصل الثالث من الباب الثالث الذي جعل عنوانه «بين الكفر والإيمان» تحدث عن منصور فهمي ورسالته للدكتوراه في فرنسا التي كان موضوعها «حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها»، وأخبر أن فترة الشك لم تطل عنده. وتحدث عن طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي»، وعن أمين الخولي وإشرافه على رسالة «الفن القصصي في القرآن الكريم» لمحمد أحمد خلف الله.

وفي الفصل الرابع من الباب تحدث كثيراً عن إسماعيل مظهر وتجربته مع الإلحاد، وتحدث قليلاً عن تجربته مع الإيمان.

من مقال كتبه أحمد حسين الطماوي تحت عنوان «رحيل سيد كيلاني صاحب ربوع الأزبكية» نشرته مجلة «الهلال» بتاريخ 1 مارس (آذار) 1999، بعد وفاة كيلاني بشهرين، يعرف قارئ هذا المقال، أن الراحل له تجربة مبكرة مع الإلحاد في أول كتاب صدر له عام 1937، وهو كتاب «الشريف الرضي: عصره، تاريخ حياته، شعره». وللحديث بقية.

***

علي العميم

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 25 – 6 – 2023م

قوة الفكر في ذاته بصرف النظر عن حامله

كانط: «إذا كان كل الناس يكذبون، أيكون الصدق تبعا لذلك مجرد وهم؟» ويقصد بذلك، أن الأخلاق متعالية عن قائلها، بغض النظر عن التطبيق. قد أعطي درسا رائعا في الأخلاق وبشكل مقنع جدا. لكنني خسيس وفاسد في الحياة العملية. فهل يعني هذا أن الدرس باطل؟ أكيد لا. فالدرس قوته في ذاته، بغض النظر عن الممارسة. وبحديثنا عن الفيلسوف خصوصا، فنحن ننتظر منه سلوكا نبيلا، ونريد منه أن يعيش عمليا، مثاله المقترح، وهو ما يزيد من إجلالنا له. لكن هل تصدق المعادلة هذه في كل الحالات؟ وهل سيرة الفلاسفة الواقعية تتلاءم وأفكارهم؟ ومن ثم، هل نكتفي بقراءة أطروحة الفيلسوف، أم من الضروري أن نعرج على حياته الخاصة، لنرى مدى التطابق بين الادعاء والتطبيق؟ هل نحكم على الفيلسوف من خلال نسق فكره ومعقولية موقفه وحججه المقدمة للإقناع؟ أم نراهن على سلوكياته وأعماله الميدانية؟ بكلمة واحدة، هل ينبغي الربط المباشر بين أفكار الفلاسفة وتصرفاتهم؟ أم لا بد من الفصل بينهما والنظر إلى الفكر بصرف النظر عن قائله؟

بالطبع، ما يدعو إلى طرح هذا الإشكال، هو ما نجده في سير بعض الفلاسفة من إحراجات قد لا تليق بهم كنخبة مفكرة، إلى حد أنك لو قرأت حياة بعضهم أولا، قبل متن فلسفته، لربما كان ذلك مانعا للاستمرار في القراءة، ومن ثم الاطلاع على أطروحاته التي تكون في الغالب عميقة جدا.

سنقف في مقالنا هذا، عند بعض النماذج التي فيها شرخ بين عمق الفكر وتفاهة الحياة، بين مواقف البعض الصلدة المدعمة بقوة، وبين سلوكا هذا البعض اللاأخلاقية والمخجلة أحيانا. إذ من النادر أن نجد تلاؤم السلوك بالفكر، وكأن الفكر أنظف وأطهر، أو لنقل إن الفكر مستقل عن العمل.

فرنسيس بيكون

يعد فرنسيس بيكون (1561-1626)، أحد كبار المنهج الاستقرائي في العلم. حيث عمل على مهاجمة سلطة القدماء بكتابه الشهير: «الأرجانون الجديد»، معلنا فيه أن الإنسان بحاجة إلى جهد شاق حتى يستطيع قراءة العالم على ما هو عليه، وليس كما يريد. وذلك لن يتم عنده إلا بتنقية العقل وتطهيره من أغلاطه وأوهامه، وحصرها في أربعة هي:

* أوهام القبيلة، أو أوهام الجنس: خاصة بالطبيعة الإنسانية (خداع الحواس مثلا).

* أوهام الكهف: وهي مرتبطة بكل ذات، من حيث: طبيعة الشخص، وتجربته، وصلاته الخاصة، وقراءاته.

* أوهام السوق: خاصة باللغة، باعتبارها عائقا يشوش على العقل.

* أوهام المسرح: خاصة بتقليد أنساق التفكير والمذاهب. فهي بمثابة مسرحيات تخلق عوالم زائفة وهمية، وتوجه التفكير وتعطل إمكاناته.

لكن إذا كان هذا الفيلسوف قد كتب وأبدع، فإن تأملنا لحياته الشخصية قد يثير فينا الاشمئزاز. فهي مليئة بالغدر والدناءة والخسة. فذات يوم، ترافع، وهو المحامي، ضد أحد رجالات البلاط البارزين، ويدعى إيسيكس Essex، مطالبا بتوقيع أقصى العقوبات عليه. وأعدم سنة 1601، والغريب أن هذا الشخص هو من كان السبب في أن يصبح بيكون مستشارا للتاج الملكي. ومن جهة أخرى، كان يصطنع الملق والدسائس لبلوغ أغراضه. بل اختلس أموال الدولة ومثل أمام المحكمة في قضية رشوة، فتم تغريمه أموالا وحرم من عضويته في البرلمان.

* جان جاك روسو

إنه الفيلسوف الأنواري (1712 - 1778) المعروف، الذي لا يخلو زماننا من بعض أفكاره. فهو كاتب «الاعترافات» التي قدم فيها نموذجا فريدا في السيرة الفضائية. وكتب في التربية مؤلفه الشهير «إميل أو التربية»، حيث قال عبارته الشهيرة: «كل شيء يخرج من يد الخالق صالحا، وما أن تلمسه يد الإنسان يصيبه الاضمحلال». وقد أعلن صرخة انتقاد مبكرة لخطورة التقدم على القيم الإنسانية. كما أنه كان من دعاة فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع. فالفرد يولد بفطرة طيبة نقية وطاهر، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها. فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه أبدا. كما ألف روسو في الفلسفة السياسية «في العقد الاجتماعي». وهو الكتاب الذي جرى حمله في الثورة الفرنسية. وساهم روسو بنظريته في عقلنة العمل السياسي وترشيده. فأصبح التدبير العام، يجري بمعزل عن الأشخاص، ويتجه نحو التجريد الجماعي وقوة الإرادة العامة والتعالي. بكلمة واحدة، لا أحد أصبح مع روسو سيدا، بل السيادة للقانون المفروض من طرف الكل.

لكن هذا العطاء الفكري وهذا التأثير الذي أحدثه في الأجيال اللاحقة، لا توازيه أبدا سلوكياته اليومية. فسيرته، تظهر لنا أنه عاش، أحيانا، على نفقة الأغنياء وأصحاب النفوذ. كما أنه وهو المنظر للتربية الحديثة، إلى درجة أن كتابه يسمى «إنجيل المعلمين»، حيث يعظ فيه بأهمية التربية الصالحة للأطفال وللأبوة والأمومة الجيدة، نجده يقيم علاقة غير شرعية مع خادمة الفندق «تيريز»، التي تنجب له خمسة أولاد، يسلمهم إلى ملجأ اللقطاء غير عابئ بالمسؤولية، ومن غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل. ناهيك عن بعض ممارساته الجنسية ذات الطابع المازوشي. إذ ظل طوال حياته، يعبد الشابات الارستقراطيات، وكانت لديه عنهن خيالات ساذجة. وعندما استقر لسنوات عند «مدام دو فارن»، التي كان يعتبرها كأمه التي حرم منها، كان يلتذ بالركوع تحت قدميها، ويطيع أوامرها المتعجرفة، ويسألها الصفح والغفران. وكان يتقن دور العاشق الباكي.

* مارتن هايدغر

يعد مارتن هايدغر (1889-1976)، من أكبر نقاد الحداثة والحضارة الغربية. فهو من اعتبرها انغمست في الموجودات وأهملت الوجود. وهو السؤال الحقيقي عنده. إنه صاحب كتاب «الكينونة والزمان» الصادر سنة 1927، والذي يعده الباحثون أهم إصدار في القرن العشرين. وهو صاحب مفهوم «الدازاين»، الذي يعني به الوجود الإنساني لحظة اكتشاف الوجود، لحظة الإنصات لندائه والاستجابة لصوته من لدن الإنسان، باعتباره الكائن الوحيد المعني بمسألة الوجود. يعتبر هايدغر أن الحضارة الغربية جعلت سؤال الوجود مغيبا ومنسيا ولا مفكرا فيه، لصالح سؤال الموجود. فالعقل الغربي، منذ سقراط حتى الزمن الحديث، انغمس في عملية محاصرة الموجودات بطريقة محكمة ورياضية، لكنها أهملت الوجود. هذا الهجران للوجود هو لب فلسفة هايدغر، وسبب أزمة الغرب ودخوله في تقنية ضربت المعنى، الذي لن تكون استعادته إلا بالدازاين، وهو الخيط الهادي الرابط لجسور شعرية مع الوجود.

لقد اعتبر هايدغر أن الحضارة الغربية حفرت قبرها بنفسها، حين حولت الوجود إلى طبيعة.

بكلمة واحدة، يعد فكر هايدغر، كما قالت عنه عشيقته الفيلسوف، حنا أردت: «المساهم في تحديد الشكل الروحي للقرن».

هذا جزء من بعض عمق الرجل، لكن ماذا عن حياته الخاصة؟

إنه رجل الريف الألماني المتشبع بالحس الجرماني، ذو النزوع النازية، الذي سيتنكر لأستاذه اليهودي الفيلسوف «هوسرل»، الذي لعب دورا أساسيا في المكانة الأكاديمية التي حظي بها. كذلك سيتنكر لحبيبته وطالبته حنا أردت، التي كانت أيضا يهودية، عاشت معه علاقة حب عاصفة رغم كونه متزوجا. وكان يلقبها بـ«حورية الغابة»، وتلقبه هي «بقرصان البحر». في سنة 1933، جرى انتخاب هايدغر رئيسا لجامعة فريبورغ، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الوطني، وقدم خطاب العمادة الداعم للنازية وكله حماسة، معلنا أن الجامعة يجب أن تعكس معنى الإثنية4 والوطنية، وأن تشارك في المهمة الروحية للشعب الألماني. فـ«القيم البطولية لهذا الشعب جاء وقتها، وهتلر هو الإحساس العميق المجسد لطموح ألمانيا». هذه الموالاة للنازية بكل إسهامها في تصفية اليهود من الوسط الثقافي الألماني، جعلت هايدغر في وضع محرج في المستقبل. وبدأ التساؤل: كيف لفيلسوف فذ من طراز هايدغر، أن يتوجه نحو ميول عنصرية؟ وكيف يمكن حل معضلة الالتزام السياسي بالإبداع الفكري؟

* ميشال فوكو

ينتمي ميشال فوكو (1926-1984)، إلى التيار المسمى «ما بعد حداثي». وهو صاحب عبارة «موت الإنسان». حيث سيوجه ميشال فوكو نقده للحداثة، بنحته مفهوم «الإبستمي»، ويقصد به ذلك النظام الخفي المستثمر بصمت أثناء الممارسة، الذي يحدد شروط المعرفة في حقبة تاريخية معينة، والتي بمقتضاها يعترف لخطاب عن الأشياء بأنه الحقيقة. فهو نظام لا أحد يفكر فيه ولكن يخلق شروط التفكير. ولقد استخدمه فوكو بمرادفات متعددة كالنسق، والبنية، وفضاء للتنظيم والأرضية الإبستمولوجية، وشروط الإمكان وأوليات تاريخية، وكلها تجمع على معنى واحد، هو أن هناك «لا شعور معرفيا»، أي ذلك المستوى المتخفي والعميق، وتلك الطبقة التحتية التي تشكل شروطا قبلية لإنتاج المعرفة. كما أن هذا الفيلسوف، هو من نبه إلى «ميكروفيزياء السلطة»، حيث لم تعد السلطة فقط فيما عهدناه (الملكية، الحكومة، البرلمان...) بل هي توجد في كل مكان حيثما وجد الصراع. بين العاشق والمعشوق، بين المعلم والتلميذ، بين رب العمل والعامل.. وتوظف في هذه العلاقات كل استراتيجيات السلطة الممكنة.

لكن رغم كل المنجز الهائل لهذا الفيلسوف، فقد كانت حياته مخجلة ومقززة. فقد كان يتعاطى المخدرات بأصناف متعددة (الحشيش، الأفيون، مخدر L.S.D). بل كان مثلا، يمارس اللواط، ويعيش مع شريكه «دانييل ديفيرت». بل عندما كان يدرس في تونس، وقع في كمين وضعته له الشرطة، حيث اقتاد شابا إلى المنزل كان، في الحقيقة، شرطيا متنكرا. الأخطر من كل ذلك، أنه كان يتردد على صالات السادية والمازوشية، وحمامات الشواذ العامة في سان فرانسيسكو، بعد إنهائه مباشرة لمحاضراته، ليموت بالإيدز، وكان يقول: «كيف أخاف من الإيدز وأنا قد أموت في حادث سيارة».

***

المغرب: محسن المحمدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في: 3 أغسطس 2016 م ـ 28 شوّال 1437 هـ

على الفيلسوف ألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور

بدأت الفلسفة، وفق ما يخبرنا الكُتّاب الأوروبيّون في شوارع أثينا القديمة، عندما كان سقراط (470 ق.م – 330 ق.م)، المعلّم المحبوب يجتمع بالشبان، وبعضهم من علية القوم مثل أفلاطون وإلسبيادس، ويتحداهم لمساءلة الأوضاع القائمة للعالم من حولهم، في السياسة والطبقات، كما في الأخلاق ومعنى الوجود، طارحاً عليهم أسئلة أساسيّة، ما زالت إلى يومنا هذا موضع أخذ وردّ. وعلى الرّغم من أن سقراط لم يترك إرثاً مكتوباً - إذ نعرف عنه من خلال ما دوَّنه تلميذه أفلاطون - فقد شكلت هذه المجموعة الصغيرة من الشبّان الأثينيين محبِّي الحكمة الذين تحلقوا حول معلمهم المثير للجدل، نواة ما يُعرَف بالفلسفة (الغربيّة)، وأطلقت إلى الفضاء العام في مدينة أوروبيّة بارزة حينئذ مساراً يعتبر الحياة بغير بحث وحديث وشكّ غير جديرة بأن يحياها أيّ إنسان - أقلّه من غير العبيد - ونهجاً منفتحاً للتفكير والتفلسف مع الجمهور وله، خارج الأبراج العاجيّة للأكاديميّات والمدارس العليا.

على أن هذا المزاج الديمقراطيّ في التفكّر التفاعليّ بشؤون الحياة والمجتمع ما لبث أن انزوى تدريجيّاً مع غياب سقراط بقبوله تعاطي السمّ، وفق حكم نخبة أثينا عليه - لإفساده عقول الشبان - وانسحبت الفلسفة تالياً إلى أروقة الخاصّة وغرف الدّرس المنعزلة ومجالس الأثرياء المتنورين، ولم يعد متوقعاً، ولا مسموحاً للعامة، بعبور بوابة العوالم الفلسفيّة، لا بلّ أصبح جزء من الإعداد الفلسفيّ يتعلّق بالتّدريب على استخدام لغة ومصطلحات مغلقة على الجمهور يقتصر إدراكها على ذوي الاختصاص، لا سيّما في العصور الوسطى؛ أي عندما وجد المتعاطون للفلسفة أنّ السلامة في المجتمعات التي تهيمن عليها الأديان تقتضي إبقاء العامة (والسلطات) عند مستوى الظاهر حصراً.

عزل الفلسفة (الغربيّة) - وحاملها العربي/ الإسلامي خلال عصور الظلام الأوروبيّة - عن العامّة، زرع في ذهن الجمهور ردّة فعل سلبيّة تجاه الخطاب الفلسفي بعمومه، وأصبح تعاطيها عند رجل الشارع - وغالب أرباب السلطة - كناية عن إزجاء الوقت بما لا طائل من ورائه، ولا منفعة عمليّة، ومهنة من لا مهنة له.

وقد استمرت هذه الحال إلى وقت قريب، رغم محاولاتٍ بذَلها بعض فلاسفة الأنوار، ولاحقاً كارل ماركس، ورفيقه فريدريك إنجلز، خلال القرن التاسع عشر، لتقريب بعض المفاهيم الفلسفيّة الأساسيّة للناشطين من العمّال والنّقابيين، لكّن تلاميذهما ما لبثوا وخلعوا على الممارسة الماركسيّة للفلسفة غموضاً نخبوياً، وانتهت الماركسيّة بدورها كما أنظمة التفكير الفلسفيّ الأخرى، نادياً مغلقاً على الخاصّة والمتفرغين.

قفزات الألفية الثالثة

وإذا كان الفلاسفة في القرن العشرين قد نجحوا - لعوامل عدّة متقاطعة - في نيل مكانة أكثر قبولاً من الجمهور، وتحوّل بعضهم مثل جان بول سارتر، وجيل دولوز، إلى مشاهير، إلا أنّ ذلك لم ينعكس بالضرورة على الخطاب الفلسفي (الغربيّ)، الذي ظلّ إلى حد بعيد نخبوياً ومتحذلقاً، وساعدت السلطات - لأسباب مفهومة وبشكل مباشر أو غير مباشر - في تكريس إبعاده عن الحياة اليوميّة للمواطنين. ولعلّ قراءة أي عمل لدولوز مثلاً تُظهر سريعاً استغلاق المقاصد على غير المتخصص، والحاجة إلى تدريب مستفيض قبل الإقدام على محاولة عبور النّص واستكناه معانيه.

على أنّ اقتراب الألفيّة الثالثة جلب معه قفزات هائلة في العلوم النظريّة بالاستفادة من تطور تكنولوجيا الاتصال والذكاء الاصطناعي وأدوات البحث العلمي على نحو انتقلت معه مادة العمل الفلسفيّ، ربما من دون اسمها، إلى مجالات الفيزياء وعلوم الأعصاب والجيولوجيا والآثار والرياضيّات والعقول الإلكترونيّة والقانون، فيما انتهت مدارس الفلسفة بالأكاديميات الغربيّة دون مادتها إلى الارتباك، وانقسمت بين الفضاءات الرئيسة الثلاثة لها الألمانية والفرنسيّة والأنجلوسكسونية، إلى مجالات غير مترابطة: في مكان ما تسعى إلى وضع معايير محددة للدّقة أو العدالة أو الحقيقة، دون أن يعبأ بها أحد، وفي مكان آخر تعمل على معالجة قضايا نظرية أو عملية موغلة في التخصص بحيث يتعذّر الاستفادة من معطياتها، أو هي في مكان ثالث لا تزيد عن مصانع خريجين خبرتهم مضغ التراث الفلسفي المتراكم منذ «جمهوريّة» أفلاطون، وكتابة مطولات في المقارنة بين المدارس الفلسفيّة لا يقرؤها أحياناً سوى أفراد معدودين على الأصابع، وينتهي أغلبهم إلى تولّي وظائف في البنوك، أو يعملون مساعدين للسياسيين.

على أنّ ثمة شبحاً جديداً يحوم، اليوم، في سماء الفلسفة الغربيّة: الفلسفة الشعبيّة. لقد أدرك بعض أساتذة الفلسفة المعاصرين عبث خروجهم التاريخي عن نهج سقراط، وانطلق بعضهم في البحث عن مناهج وقنوات لأخذ منافع ما تبقّى من مادة علمهم إلى الجمهور، وطرح أفكار حول طرائق يمكن من خلالها لغير المتخصصين - أفراداً ومجموعات لا بل ومجتمعات - الاستفادة من الفلسفة في تفكيك علاقة الإنسان بالعالم حوله، في ظلّ انتهاء الأفكار اليقينيّة الكبرى التي استعان بها أجدادنا على تمضية الوقت، والقناعة المتزايدة باستحالة التنبؤ بالمستقبل بأي درجة مقبولة من الدّقة. فظهرت في ألمانيا مثلاً مدرسة «التوجه أو Orientation Philosophy» التي تخاطب أساساً الأفراد غير المتخصصين، وتمكِّنهم من استخراج خلاصات عمليّة من مجمل النتاج الفلسفي المتراكم، وتوظيفها بعيداً عن المسائل المغرقة في التجريد، للنظر في وسائل أكثر نجاعة عند إدارة تموضعهم من العالم والأشياء والناس والأحداث، ومنح إنسان القرن الحادي والعشرين الأدوات للتعاطي مع المؤقت والعابر والمتغيّر، وتحسين قدرته على اتخاذ القرارات في أجواء عدم التيقّن الغالبة، مع محاولة القبض على الكيفيّة التي تكتسب فيها تلك القرارات (العمليّة) قيمة معنوية وأخلاقية، وكيف تتأثر بالظواهر المستجدّة للعولمة والرّقمنة، وأسرار علاقتها بالميتافيزيقا، ودائماً دون توقع أسباب أو مبررات أو تقييمات عالمية سرمديّة الطابع. أما في فرنسا، فقد توسعت ظاهرة «الفلسفة الشعبيّة»، وعمد فلاسفة جدد إلى تعميم الممارسة الفلسفيّة، عبر إصلاح لغة الخطاب الفلسفيّ باعتماد نماذج مبسطة تمكِّن الإنسان العاديّ من استيعاب مغازيها، وكذلك بطرحها موضوعات راهنة وعمليّة، واستخدام قنوات متعددة للربط مع الجمهور، سواء من خلال وسائل الإعلام، أو مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، أو حتى من خلال المقاهي الفلسفيّة، ونزول الفلاسفة من معتزلاتهم إلى الشارع مجدداً. أما في الحيّز الأنجلوساكسوني فقد تبلور ما يُعرَف بـ«الفلسفة العامّة»، وهما فعلياً مدرستان متوازيتان، إحداهما تستهدف جلب الفلسفة إلى حيّز الفضاء العام، عبر تقديم معالجات لمسائل مطروحة وآنيّة في السياسة والقضايا الاجتماعية وأخلاقيات العلم والقانون، والأخرى بجلب الفلاسفة أنفسهم إلى الأماكن العامة، والانخراط في نقاشات فلسفيّة مع الجمهور غير المتخصص ضمن بيئات غير أكاديميّة.

عودة متأخرة لسقراط

وتطرح هذه العودة المتأخرة للفلسفة إلى الطريقة «السّقراطيّة» تساؤلات حول التأثيرات بعيدة المدى للاشتباك المُستعاد بين «محبة الحكمة» والجمهور العام، فهل سينعكس توسيع نطاق الجدل الفلسفيّ وقاعدة المنخرطين به إيجاباً على «المحتوى»، أم أنّه سيؤدي في المحصّلة إلى ابتذال الخطاب، وانخراط الفلسفة في دوامة الشعبوي والمسيَّس والمنفعل؟

إن الفلسفة، اليوم - بعد أن فقدت حصريتها في تعاطي الأسئلة الكبرى لمصلحة العلوم الصاعدة - تتطلب أن يصبح الفيلسوف تلميذاً للمعرفة المجتمعية، وألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور، وأنّه في النهاية جزء من هذا الجمهور، مع الإقرار بأن المحتوى الفلسفيّ يمكن أن يستفيد بقدر كبير من التواصل مع الفضاء العام، أقله لناحيّة طرح الأسئلة، أو إعادة صياغتها، تماماً كما يمكن للجمهور أن يستفيد من الاحتكاك بالفلسفة في العثور على إجابات قد تكون أكثر عقلانيّة - بمعنى التغلّب على الأحكام المسبقة، والمعلومات المضللة، والمنطق الخاطئ، والمواقف الغريزية - تجاه التحديات التي تستمر الحياة باستيلادها له. وقد يكون ذلك أفضل ردّ اعتبار للحكيم سقراط من نخبة أثينا، التي أرعبها أن يبدأ العامة التفكير وطرح الأسئلة.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: 13 يونيو 2023 م ـ 24 ذو القِعدة 1444هـ

جاءت مقولة «ألا تعرف فأنت عالم»، في حقلين معرفيين مهمين، أولهما في الفقه والثاني في الفلسفة، ففي الفقه وردت مقولة (من قال لا أعلم فقد أفتى) ويستشهدون لها بقصة الإمام مالك، حيث سُئل عن أربعين مسألةً، فقال في ست وثلاثين لا أدري وأجاب عن أربع، وهذه من أخلاقيات المعرفة الفقهية خشية أن يقع المرء في ذمة الناس ويقول عن الله ما لا يعلم، وستكون هذه قربى من الله وعلامةً على قوة الإيمان بالله وبحق الله، يقابلها فلسفياً مقولة «agnostic/ لا أدري» التي ابتدأت علميةً ثم أصبحت فلسفية، وقد ابتكرها توماس هكسلي العالم البيولوجي الأسكتلندي في القرن الثامن عشر، حيث وجد نفسه عاجزاً عن إثبات أو نفي وجود الخالق حسب ما لديه من علم وحسب محاولاته للوصول لجواب، وقصد بالمقولة أن يعلن عن عجزه ولم يكن يطرحها كنظرية فلسفية، ولكنها مع الزمن تحولت لتكون منهجيةً تعم بين الفلاسفة والعلماء، وينطلقون منها ليس للبحث عن الخالق كما فعل هكسلي، ولكن لتجنب فكرة البحث أصلاً، وعمت المقولة بشيوع مفرط واستسهال للقول، وكأنها عذرٌ عن «اللابحث»، وعدم الرغبة في العلم بتعمد إلغاء السؤال، وفي ذلك يقول دوكينز لو قلنا بوجود الخالق لتعطل البحث البيولوجي، أي أنه يجزم بعدم وجود الخالق أولاً ودون بحث ودون سؤال فقط ليشرع بعد ذلك في البحث في الكون الذي لا هو مخلوق من خالق ولا هو خلق نفسه، فقط هو موجود وكفى. وهذا تعطيل عقلي وذهني ومنهجي، ولا يمنح دوكينز نفسه فرصةً معرفية احتمالية، بل يقطع عبر إغلاق النظر، وهنا تتحول مقولة لا أعرف من مقولة أخلاقية علمية إلى مقولة فقط لتبتعد عن الله، فتخالف بذلك شروط البحث العلمي في معالجة افتراضات السؤال، والغريب فيها أن علماء وفلاسفة قبلوا بها، مع أن الشرط الفلسفي يؤكد أن الفلسفة هي مشروع في الأسئلة، ومع هذا يجري تعطيل أهم وأخطر سؤال يلاحق العقل البشري، وقد أشار كل من برتراند راسل وستيفن هوكينج إلى أن البشرية تتوق لمعرفة سر الكون، وتظل تتوق لهذه المعرفة، وعن خالق هذا الكون، غير أنهما معاً يعودان ويمتنعان عن طرح السؤال رغم أنهما معاً يؤكدان حاجة البشر إليه وإلى جواب عنه، فكيف إذاً يبرران لنفسيهما تجنب طرح السؤال الكبير هذا، وليس من سبب علمي ولا أخلاقي لذلك، ولن تقوم مقولة «لا أدري/ agnostic» في العلم وفي الفلسفة إلا بوصفها خللاً منهجياً عميقاً لأنها فقط تعطل السؤال، وتبني سياسة الهروب، وهذا ما منح المقولة راحةً ثقافية كأنها حالة تخدير عقلي تشبه الإدمان الذهني، وتتواتر المقولة بين الكبار مما سهل جريانها وتمريرها، رغم لا علميتها ولا أخلاقيتها المنهجية.

***

د. عبد الله الغذامي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 10 يونيو 2023 01:16

بعد قرابة أربعين سنة على رحيل أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين، ألا وهو ميشل فوكو، يصدر له في أيامنا هذه كتابٌ أساسي بعنوان «الخطاب الفلسفي»، وهو في أصله دروس جامعية ألقاها في عام 1966. في هذا العام بالذات، نشر فوكو كتابَه المحوري «الكلمات والأشياء» الذي هزّ الحقل الفلسفي العالمي وحوَّله وهو في الثلاثينات من عمره إلى أحد أبرز فلاسفة الغرب المحدثين. وفي كتاب «الخطاب الفلسفي» لا نكتشف الجديدَ في فكر فوكو، وإن كانت أهميةُ هذا العمل تكمن في تقديمه تصوراً مكتملا ومتناسقاً حول الفلسفة من حيث المنحى والوظيفة والمنهج.

وبالنسبة لفوكو لم تعد الفلسفة نمطاً من المعرفة العقلانية المكتملة التي تكشف عن حقائق الوجود وأصوله في ما وراء مظاهر الأشياء وتقلبات المعاني اللغوية، بل أصبحت نمطاً من تشخيص الحاضر، من داخل الخطاب الذي لا يحيل إلى دلالة أصلية ولا حقيقة خفية، بل هو أنساق وتموجات تنبع من داخل المنظومة التعبيرية نفسها. وهنا نلمس شغف فوكو المعروف بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي يرجع إليه هذا التصور التشخيصي للفلسفة، في أبعاده التفكيكية النقدية، حيث تنهار مقومات الحقيقة والوجود والأخلاق وفق نظرة تأويلية حيوية شاملة للواقع.

لقد مضى نصف قرن على أفكار فوكو التي شغلت على نطاق واسع المهتمين بالحقل الفلسفي في العالم أجمعه. والواقع أن النصف الثاني من القرن العشرين كان بالفعل فوكويا (وليس دلوزياً كما توقع فوكو نفسه)، بمعنى أنه سادت فيه أفكار الحفر الخطابي والنقد التشخيصي وموت الإنسان.. وتحولت إلى جزء من الثقافة العامة المشتركة. بل إن الانتفاضات الشبابية والاجتماعية الكبرى التي عرفتها بلدان كثيرة في العالم نهاية الستينيات تمت في سياق انتشار أفكار فوكو حول السلطة والرغبة والذات.. إلى حد أن البعض اعتبر أن تأثيرَه في الغرب المعاصر لا يقل عن تأثير روسو وفولتير في الثورة الفرنسية. بيد أن تحولات كثيرة حدثت بعد رحيل فوكو (في يونيو 1984)، وكان هو نفسه قد انتبه إلى إرهاصات بعضها في دروسه وأبحاثه الأخيرة مثل الحالة النيوليبرالية التي اجتاحت العالَم وشكّلت السمةَ الكبرى في ديناميكية العولمة.

لقد هيمن على الحقل الفلسفي الراهن إشكالان كبيران من وحي الثورة التقنية الاقتصادية الحالية: يتعلق أولهما بمعايير الحرية والذاتية في سياق تراجع وانحسار الدولة الوطنية السيادية، ويتعلق ثانيهما بمنزلة الحقيقة مع نشوء الثورة الرقمية التي قوضت الثنائية التقليدية للمعرفة بين الواقع والوهم. وبخصوص الإشكالية الأولى، نلمس أن بعض الفلاسفة الحاليين من أمثال جورجيو أغامبن وتوني نغري، طوروا أطروحةَ «السلطة الحيوية» التي بلورها فوكو في السبعينيات، من منظور جديد. ووفق هذه المقاربة، تكون المعادلة السياسية الجديدة ليست على ما تقدم عادة حالة سياسية ما بعد قومية على أساس الشراكة الاقتصادية، وإنما هي تجسيد لمنطق الدولة الشاملة في الرقابة المعرفية والقانونية الرخوة وتسيير الرغبات الحيوية الجماعية، وصولا إلى ما أطلقت عليه جوشانا زيبوف «رأسمالية الرقابة» التي هي البديل الجديد عن الليبرالية الحرة المفتوحة التي اتسمت بها الدولة القومية التقليدية.

أما الإشكالية الثانية فهي أكثر ارتباطاً بالمبحث الفلسفي الأصلي الذي هو الحقيقة والوجود، مع بروز نقاش نظري جديد حول منزلة الحقيقة في عالم لم يعد فيه من الممكن الفصل بين الوقائع الموضوعية والبناءات التقنية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والاقتصاد غير المادي والشبكات الافتراضية التواصلية. لقد شاعت في السنوات الأخيرة مقولة «ما بعد الحقيقة» التي تحيل إلى ظاهرتين متمايزتين هما من جهة القطيعة الإبستمولوجية مع فكرة القانون العلمي المترجِم للواقع التجريبي، ومن جهة ثانية القطيعة السياسية الأخلاقية مع معايير العدالة والحرية وشفافية المجال العمومي. وفي الحالتين، نحن أمام انهيار المسافة التقليدية بين الوقائع والتأويلات، وبروز ما سماه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب «الحقائق المبنية البديلة».

وقد أصدرت الفيلسوفة الفرنسية كلودين تيرسلين في الآونة الأخيرة كتاباً سجالياً بعنوان «ما بعد الحقيقة أو النفور من الحق»، سعت فيه إلى إنقاذ فكرة الحقيقة من حيث هي اعتقاد مبني على براهين رصينة ترسم خطاً فاصلا بين اليقين والوهم. واعتبرت تيرسلين أن المطلوب اليوم هو استعادة مشروع الميتافيزيقا الكلاسيكية من حيث طموحها إلى المعرفة المتجردة والموضوعية للأشياء بدلا من النظرة الاختزالية للوجود في التأويلات والتعبيرات الخطابية. ما تريده تيرسلين وأصحاب الأنطولوجيات الجديدة هو الخروج من الحقبة الفوكوية التي طبعت الفلسفة المعاصرة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد لإماراتية في يوم: 5 يونيو 2023 00:29

لا تزال الإسلاميَّة التركيَّة موضوعاً يستحق التأمل ويستقطب إليه التفكير، ليس فقط لأنه حدث مستمر، بل لأنه أنموذج أو حالة ملتصقة بذاتها إلى حد كبير، غير قابلة للقياس على الحالات الإسلامية التي عرفناها في بلدنا والعالم العربي، تعبّر عن خصوصية مركبة في الواقع التركي.

فهي من حيث التكوين والجذور "صوفية" لها تركيزها على الإيمان وعالم المعنى، لكنها ليست صوفية فردية أو طرقية منعزلة وساكنة، لا يشغلها إلا حلقات الذكر والوجد والزوايا وبقية الممارسات الخاصة بالطرق الصوفية. هي صوفية بقوامٍ معرفي وتحيّز اجتماعي عميق ومؤثر، كما رأيناها عند سعيد النورسي (1877 - 1960م) و"حركة النور"، التي تهيكلت اجتماعياً من حول نصوص "رسائل النور". 

التكوين والجذور

وهي في الميول الاجتماعية العامة كما اتضحت معالمها الأولى مع عدنان مندريس (1899 - 1960م) وسليمان ديميرل (1924 - 2015م) أقرب ما تكون إلى التوجّهات المناهضة للإيديولوجية الكمالية بهذا القدر أو ذاك. وقد تعامل الناس معها بوصفها قوى إسلامية وإن لم تكن كذلك بالتوصيف الدقيق، على أساس هذا التمايز ومن خلال هامش تقاطعها مع الكمالية، داخل الدولة الكمالية نفسها.

وقد دام ذلك إلى أن حانت لحظة نجم الدين أربكان (1926 - 2011م) حين تكاثفت الإسلامية التركية أكثر، وأصبح لها إرث ثقافي وفكري وقاعدة معرفية، ورؤى ومواقف وسياسات، كلّ ذلك عبر التجليات الحركية للأربكانية، ابتداءً من حزب النظام الوطني، إلى حزب السلامة، مروراً بحزب الرفاه، وانتهاءً بحزب الفضيلة.

كملاحظة عامة، نرى أنَّ من تحدّث في العالم العربي عن "إخوانية" الإسلامية التركية، إنما انساق إلى هذا التوصيف من خلال الظاهرة الأربكانية، التي بقيت حاضرة على واجهة الحياة السياسية أكثر من ربع قرن، وإلا من الصعب الحديث عن "إخوانية" الإسلامية التركية، من خلال تجلياتها السابقة على أربكان، وتلك الموازية لها أو اللاحقة عليها مثل حركة الخدمة وفكر مؤسّسها محمد فتح الله كولن، أو الأردوغانية وقاعدتها الحركية المتمثلة بحزب العدالة والتنمية.

كولن وحركة الخدمة

بالانتقال إلى وجه آخر من وجوه الإسلامية التركية، يضعنا تطوّر هذه الحالة خلال القرن الأخير، أمام عنصر جديد من عناصر المركب الإسلامي الخاص بتركيا المكوّن لذاتية الإسلامية التركية، لكن هذه المرّة عبر رمزية محمد فتح الله كولن، ودالته الحركية المتمثلة بحركة الخدمة.

الإسلامية التركية مع كولن (ولد: 1938م) تحوّلت فكرياً إلى طور الهجوم، بدعوتها إلى إسلام تركي متصالح على حدّ سواء مع الحداثة والدولة العصرية والغرب. كما تحوّلت واقعياً واجتماعياً وعملياً إلى فعل المبادرة، عبر "حركة الخدمة" بأنشطتها المعروفة، لتنتج من تفاعل هذين الإطارين الفكري والواقعي، هويتها الخاصّة عبر مفهوم "الإسلام الاجتماعي" أو "الإسلام الأناضولي أو التركي" أو "الإسلام التنويري المعتدل".

بهذه الوصوفات جميعاً، لا يمكن أن ندرج إسلامية فتح الله كولن في النطاق الإخواني، ولا حتى أن نصنّفها في الحيّز المتأثّر بها. فهذه الإسلامية برمزية مؤسّسها كولن تدخل في نطاق ما نسميه بالإسلامية الأبوية، في استعارة مستمدّة من النزعة الأبوية في علم الاجتماع، وتدخل معرفياً في نطاق الإسلام الإنساني والحضاري، وقيمياً وأخلاقياً في نطاق الإسلام المعنوي والروحي، مع نزعة على غاية من الدقة والبرمجة والبراعة في الخدمة الاجتماعية، لاسيّما التربية والتعليم والسكن والصحة، يتخللها وعي برامجي عميق لدور الثروة والمال والاقتصاد، ومن ورائهما الإعلام. وقد جاء ذلك في نطاق حرص متميّز على الذاتية التركية والهوية الوطنية الخاصّة، وألّا تُصنّف الإسلامية التركية بهذه المواصفات، تحت ظلّ التبعية لأيّ حركة من قوى الإسلام السياسي العربي، بوجهيها الحركي والسلفي، بخاصّة الإخوان والوهابية، لأسباب عدّة فكرية وموضوعية ونفسية، منها نفسياً شعور الإسلامي التركي، أنه قائد غير مقود، ورائد غير تابع.

إسلامية العدالة والتنمية

من أحشاء هذه المكوّنات الثلاثة؛ الإيمانية أو المعنوية النورسية الفاعلة المتفاعلة، والحركية الأربكانية الشجاعة الصبورة الصلبة، والتجديدية الكولونية المبدعة البارعة في وعيها للتعليم والمال وتوظيفها للإعلام، وُلد حزب العدالة والتنمية. بيدَ أنَّ المفاجأة هي أنَّ هذا الحزب لم يأتِ جمعاً تراكمياً تكديسياً جامداً لما سبقه، ولا حلقة عادية في سيرورة الإسلامية التركية، بل تطوّراً نوعياً في هذه الإسلامية، فاق مكوّناته التي انبثق عنها وتقدّم عليها جميعاً. لقد جاءت هذه النقلة النوعية لدى العدالة والتنمية بفعل حذاقته في التقاط فرصة داخلية مواتية، بعد فشل متراكم للعسكر ولحكومات الحقبة الكمالية ما بعد 1923م، وتحوّلات إقليمية مساعدة مثل ضعف العراق ومصر، ودولية متمثلة بتحوّلات ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وهو بمجموعه أهّل تركيا للانتقال من الدولة الهامشية، إلى الدولة المؤثّرة أو دولة محور، توطئة لإعادة تموضعها في نطاق دولة المركز.

في ضوء ذلك كله نخلص في هذا التصوّر العام، إلى أنَّ العدالة والتنمية في الإسلامية التركية، لا يمثل تطوّراً خطياً جامداً لهذه الإسلامية، بل عكست الإسلامية في خطّ هذا الحزب النموّ التراكمي والتطوّر النوعي معاً.

علامات فارقة

فإيديولوجياً لم يتبنَّ الحزب بشأن الدين والدولة، أطروحةَ تحويلِ تركيا إلى دولةٍ إسلاميةٍ على أساس الشريعة كما هو حال إيران، بل استعاض عن ذلك باستحضار العثمانية كإطار نظري داخلي جامع، لمجتمع إسلامي يتسم بخصلتي التنوّع الثقافي والحرية الدينية. فالعثمانية عند حزب العدالة والتنمية، هي ليست ستراتيجية خارجية لتركيا، كما يصوِّرُ ذلك عددٌ غيرُ قليل من المحللين للشأنِ التركيِّ، بل هي إطارٌ نظريٌّ لتوحيدِ المجتمعِ التركي داخلياً في مقابل الموروث الكمالي الماثل في العلمانية والتغريب، ومن ثمّ من الصعب القول إنَّ تركيا تريد العودة إلى الإطار الإمبراطوري في علاقتها مع الإقليم والعالم من خلال العثمانية، لكن أيضاً من دون أن يعني ذلك أنها لا تبحث عن دور خارجي؛ بالعكس هي تطمح بهذا الدور وتريده وتسعى إليه وتمارسه، لكن من خلال "العمق الستراتيجي"؛ هذه الستراتيجية التي يمكن أن تتحوّل فيها "العثمانية" إلى مكوّن من مكوّناتها، وشتّان بين الأمرين.

لقد انعكست الإسلامية الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية، بالجمع التوفيقي بين الوطنية والقومية، وإعطاء مكانة مميّزة للأسرة والالتزام الديني، واحترام تقاليد العثمانية التاريخية، التي راحت تملأ الخزين النفسي والوجداني المتحفّز للأمة التركية وتزيح بالتدريج موروثات الكمالية. ولا ريب أنَّ حزب العدالة والتنمية استطاع في هذا الطريق تحقيقَ تسوياتٍ حاسمةٍ في إشكالياتٍ عديدةٍ، فكرية وثقافية وحضارية، على مستوى الهوية والانتماء الديني، والدولة والمجتمع، والإسلام والغرب، الأمة التركية والأمة الإسلامية، كما على المستوى السياسي والستراتيجي.

إشكالية الدين والدولة

باختصار شديد يفيدنا السياق التأريخي للمئة عام الأخيرة، أنَّ التأريخ التركي بعد إنهاء السلطنة والخلافة عامي 1923 و1924م، هو تأريخ العلاقة الملتبسة بين الإسلام والدولة، بنفي الإسلام كاملاً على عهد الكمالية وحزبها الوحيد حزب الشعب الجمهوري. ثمّ بفتح المجال لبعض منافذ الإسلامية المخفّفة في البداية مع عدنان مندريس (رئيساً للوزراء: 1950 - 1960م) ومن بعده سليمان ديميريل، وتورغت أوزال وبعد ذلك تنظيم هذه العلاقة بصيغة أفضل مع نجم الدين أربكان (رئيساً للوزراء: 1996 - 1997م) وأحزابه الأربعة. في جميع هذه الأطوار كان التقدّم للدولة، والحالة الإسلامية تُنظّم من خلال ضوابط الدولة، إلى أن جاء المنعطف بتقدّم الإسلامية أو اللاعلمانية أو العلمانية المؤمنة كما يحلو للبعض أن يسمّيها، على العلمانية الحادّة الوقحة الشرسة ودفع دولتها خطوات إلى الوراء، مع عبد الله غول ورجب طيب أردوغان وحزبهما؛ حزب العدالة والتنمية.

إلى جوار هذا المسار السياسي لحركة الدولة، كانت هناك البطانة المعرفية للإسلامية التركية بأطوارها الكبرى، ولاسيّما مع سعيد النورسي وفتح الله كولن، من دون إغفال تأثير مراكز الإشعاع الأخرى، من مثقفين وإعلاميين ومفكرين وأكاديميين، وأنصار العثمانية التأريخية والإسلام التركي.

الإشكالية هنا وإن كانت مزدوجة بين الإسلام والدولة، لكنَّ السياق التأريخي يثبت لنا تقدّم الدولة التركية وتحكّمها بالإسلامية ورموزها وتياراتها.

الإصلاحية والتغيير

الإصلاحية لها الهيمنة على الإسلام التركي؛ والنقطة الجوهرية في الحركة الإصلاحية عدم صدامها مع الدولة، والتوفيقية هي المرتكز العميق لفكرها ونشاطها المعرفي؛ التوفيق بين العلم والإيمان، والعقل والدين، والأصالة والحداثة، والغرب والإسلام، بحثاً وراء كلّ ذلك عن سُبل نهوض المسلمين وتخطيهم تخلفهم ومواكبة العصر، لأنَّ السؤال الأساس للإصلاحية الإسلامية، هو سؤال النهضة؛ لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم الآخرون؟ ومن ثمّ فإنَّ هاجسها وشاغلها الذي يقضّ مضاجعها، هو التقدّم.

داخل هذه الرؤية أو التكييف للإسلام، تتموضع في إطار الإسلامية التركية عناصر مهمّة، منها المعنوية؛ المعرفية الفكرية؛ الإيمان العميق بالعقلية العلمية أو مركب العقل والعلم والإيمان؛ القناعة الراسخة بالتعليم الحديث بشقوقه الثلاثة العلمي والإنساني والديني، المتكاملة في ما بينها، وأنَّ التعليم هو الطريق للتحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو ضرورة للانخراط في العولمة الإيجابية. ثمة في داخل هذه الإسلامية أيضاً مكانة متميّزة للقومية التركية واحترام للماضي التركي ومقاربة ذلك كله بمفهوم الأمة الأناضولية؛ مع تأكيد كبير لأهمية الخدمة والبذل والأخوة الإنسانية، وبإسلام لا عنفي ومتسامح منفتح على العالم أجمع، يبحث عن عناصر الاشتراك والتصالح بدلاً من القطيعة؛ الحوار من أدواته الفاعلة بخاصّة الحوار بين الأديان والثقافات.

من النتائج المترتّبة على جملة هذه العناصر، تبنّي صيغة لإسلامٍ متصالح مع تربته وبيئته الإنسانية المحلية وانتمائه الوطني لتركيا، موازنٍ ببراعة بين الوطنية والأممية، فلا يغتال الهوية الوطنية تحت ذريعة الأممية الإسلامية، كما لا يهدر الأممية كقيمة ثقافية وحضارية لدين عالمي كالإسلام. منفتح على العقلانية والحداثة والعولمة، وقبلهما العلم والتكنولوجيا والتحديث؛ يحرص على صلات مفتوحة مع الغرب والعالم؛ إسلام متسامح حواري غير عنفي، اشتهر عن أحد رموزه الفكرية، قولته المشهورة: "الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلماً، ولا يمكن للمسلم أن يكون إرهابياً"، والأهمّ من ذلك ما ذهب إليه كولن: "لا حلّ لمعضلة العنف إلا بمشروع حضاري، جوهره إعادة بناء الإنسان على شروط الوراثة والاستخلاف والعمران" (يُنظر: مواقف في زمن المحنة، ص 14).

غياب العنف

عشتُ تجربة تأمّل طويلة في الإسلامية التركية، من زاوية محدّدة، هي عدم اصطباغها بالعنف والدم. فقد شغل بالي كثيراً عدم تورط الإسلامية التركية بالعنف، وأنها بقيت محصّنة ضدّ سفك الدماء، في الأقلّ على مستوى اتجاهاتها الكبرى.

التفسير العميق للظاهرة يعود في ما أرى إلى منهج الإسلامية التركية نفسها، وإلى بنيتها ما بعد إسقاط السلطنة والخلافة، وقيام الجمهورية التركية الحديثة ونظامها الكمالي العلماني؛ تحديداً إلى عقلها وفكرها ومنهجها الإصلاحي، وإذا شئنا الإضافة يعود ذلك أيضاً إلى إطارها الإيماني المعنوي.

الإسلامية التركية مع النورسي وكولن وحتى مع أربكان، وكتحصيل حاصل مع العدالة والتنمية، لم تعش أزمة مع شرعية الدولة الموجودة، حتى وهي تختلف مع منهجها العلماني، بل آمنت بالعمل من داخل الدولة كوجود واقعي موضوعي قائم فعلاً، وقبلت بممارسة دورها بأدوات هذه الدولة، ولذلك لم تجد جدوى بل وحتى معنًى، للاصطدام بهذه الدولة ومواجهتها. عندما تقرّ بشرعية الدولة ولو بالحدّ الأدنى القائم على أساس شرعية الأمر الواقع، فلن تعيش مع هذا الكيان مشكلة ناشئة عن الحكم عليه بعدم الشرعية، ومن ثمّ لا تنجرّ إلى مواجهته بالأسلوب الانقلابي الثوري المستند إلى مبدأ التغييرية الشاملة، على مستوى الوسيلة والستراتيجية، وعندئذ فلا يحدث التصادم المرعب بينك وبين الدولة، على حدّ ما حصل مع الإسلامية الانقلابية ذات المنطق التغييري، بوجهيها الحركي والسلفي.

فرضية التفسير الإصلاحي

الإصلاحية الإسلامية ببساطة تعتبر الدولة الموجودة هي دولتها بشرط الإصلاح والتعديل، وليست دولة كافرة فاقدة للشرعية، والمجتمع القائم هو مجتمعها ومادّتها في العمل، وليس مجتمعاً كافراً أو جاهلاً. وعندئذ تتحمّل الدولة الموجودة والمجتمع القائم وتصبر عليهما بالإصلاح، ولا تجد مسوّغاً يدعوها إلى مواجهتهما بالعنف والدماء، لتنقلب المواجهة إلى مواجهة عكسية ومضادّة من قبل النظم المستهدفة، ويغرق الجميع بالعنف والدماء.

لاختبار صلاحية فرضية التفسير هذه، يكفينا أن نمرّ على تجارب العالم العربي والإسلامي من حولنا. ففي العراق والشام ودول شبه الجزيرة العربية، وفي مصر والسودان وشمال أفريقيا، وفي باكستان وأفغانستان وإيران ونيجيريا، اصطبغت العلاقة بين الإسلاميين وأنظمة هذه البلدان بالدموية والعنف، لا فرق بين عنف السلطات والحركات بديهياً من دون مساواة بين الاثنين. هيمنة الحركات الإسلامية الانقلابية على الساحة في هذه البلدان، وتبعيتها لرؤيتها القائمة على أساس عدم شرعية الأنظمة، أدّتا إلى دخول المواجهة معها بشتى ألوان العنف المسلح وغيره، وردّت السلطات على هذا العنف بشراسة ودموية مضاعفة مرّات عديدة على عنف هذه الحركات، لتكون الحصيلة أنهار من الدماء حصدت أبناء المجتمع الواحد، من الخندقين معاً.

هذا درس من الإسلامية التركية نضعه بين أيدينا للبحث والتأمّل، فقد طفح كيل الدماء في بلدنا وغيره، وحصد العنف خيرة الشباب والطاقات من أبناء المجتمع الواحد. الأمض من ذلك هي النتائج المؤلمة لكلّ هذه الدماء والتضحيات الجسام. فمن خلال الخبرات المنظورة لم تزد تجارب المواجهة الدموية بين الإسلامية الانقلابية والأنظمة، على أن تكون عاملاً من عوامل تخريب البُنية الاجتماعية، وتقسيم المجتمعات، وتلكؤ التنمية، وتعطيل الصناعة والاعتماد على الذات، وانهاك الاقتصاد، واستنزاف الثروات بالمزيد من أجهزة القمع، والجنوح صوب العسكرة الغبية للمجتمع، وتكريس صورة الطاغية واعتباره خياراً لابدّ منه للبلد واستقراره، وإعلام الصوت الواحد، إلى بقية الإخفاقات التي نعايشها في حياتنا اليومية، مما يكشف بمجموعه عن حالة خراب الداخل والتبعية للخارج، وأن تكون بلداننا مشلولة بعيدة عن نطاق الحيوية الفاعلة. في مقابل ذلك استطاعت الإصلاحية الإسلامية حيثما حلّت، في تركيا وقبلها ماليزيا ومن بعدهما أندونيسيا، أن تحقّق مكاسب لمجتمعاتها وبلدانها، لا مجال للمقارنة بينها وبين بؤس الإسلامية التغييرية، بوجهيها الحركي والسلفي.

***

جواد علي كسار - كاتب وباحث عراقي

عن صحيفة الصباح البغدادية ليوم: 31 – 5 – 2023م

في فقرة أخرى من كتابه «اليوم والغد»، كان عنوانها «الرابطة الدينية حماقة»، قال سلامة موسى: «إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة؛ لأنها تقوم على أصل كاذب، فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا، وقد كان مصطفى كامل لجهله بروح الزمن يخبرنا، ولا يزال فلول المحررين من (المؤيد) و(الحزب الوطني)، يخبروننا - نحن المصريين - عن الإسلام في الصين تحت عنوان (أخبار العالم الإسلامي). وقد شبعت تركيا من الجامعة الإسلامية ونفضتها عن نفسها وتخلصت منها، لا لأنها أضاعت دينها ولم تعد تؤمن به، بل لأنها لم تعد تؤمن بفائدة الجامعة الإسلامية بعد أن خبرتها في الحرب الكبرى، فوجدتها قصبة مرضوضة لا تغني ولا تنفع». 

مصر كان يتنازعها تياران: تيار الجامعة الإسلامية أو الاتجاه العثماني، وتيار القومية المصرية. والتيار الأول أقدم من التيار الثاني. وكان التنازع بينهما حول هوية مصر: هل هي هوية مصرية عثمانية، أم هوية وطنية قومية مصرية؟

التيار الأول يختلط الدين فيه بالعلمانية، والتيار الثاني لا يخلط بين الدين والدولة الوطنية التي تقوم على أساس علماني. كما أن «الرابطة الشرقية» تختلط الدعوة الدينية فيها بالدعوة العلمانية.

محمود شاكر قدّم «الرابطة الشرقية» و«الرابطة الدينية» في كلام سلامة في إطار الإسلام وحده، وفي مقالاته مناط حديثنا كان يقدم سلامة ولويس عوض - بتضليل وافتراء - بوصفهما عميلين للاستعمار الغربي والتبشير المسيحي الغربي. ولوضع كلام سلامة موسى، المنتمي لتيار القومية المصرية، في سياقه الموضوعي سأورد ما أخلّ شاكر به من كلامه.

يقول سلامة موسى: «إننا في الجامعة الإسلامية نتأخر عن الزمن الحاضر بنحو ألف سنة، فقد كانت لأوروبا جامعة مسيحية هي أصل الحروب الصليبية، وقد أسفت أوروبا على ارتباطها بهذه الجامعة، ولم تعد إليها بعد أن خسرت فيها الأموال والأرواح». موقفه الرافض - وهو المسيحي - للجامعة المسيحية أو الرابطة المسيحية، لم يستحضره شاكر في اقتباسه منه، لغرض طائفي إسلامي.

يقول ماهر شفيق فريد - وهو يتحدث عن لويس عوض - في كتابه «دراسات نقدية»: «وهو لميوله الموسوعية، يخرج عن مجال تخصصه، كما في كتابه عن (رسالة الغفران)، حيث ارتكب بضعة أخطاء، من أطرفها قراءة (تغصّ بالصليان)، وهو نبات صحراوي، على أنها (تغصّ بالصلبان). ما جر عليه سفر (أباطيل وأسمار) الضخم لمؤلفه العلامة محمد محمد شاكر. ولا أستطيع أن أشاطر يحيى حقي وزكي نجيب محمود وشكري عياد وعبد العزيز الدسوقي والحسّاني عبد الله إعجابهم بهذا الأخير، وهو سفر يختلط فيه العلم الغزير بالسباب الغزير».

استناداً إلى وصف ماهر شفيق فريد الصحيح لكتاب «أباطيل وأسمار»، وباستخدام ألفاظه التي استعملها في هذا الوصف، أقول: إن نقد شاكر في بعض مقالات كتابه «أباطيل وأسمار» لسلامة موسى، لم يكن فيه علم غزير، بل سباب غزير.

قد يظن البعض أن في حديثه عن تاريخ تعبيرَي «السلفية» و«الرجعية» في مصر، في القرن الماضي إلى عام 1943، علماً دقيقاً، لأنه حديث يأتي من معاينة ومن معاصرة. وبخلاف ما يظنون، فإن في حديثه عن التعبير الأول، خلطاً وتخليطاً بتعمّد، للتحريض الديني الإسلامي على سلامة موسى، إذ إنه محيط باللغة العربية، وملّم بعلم العقيدة وعلم الحديث، وهو ذو توجه سلفي منذ نشأته الأولى.

وفي حديثه عن التعبير الثاني، جهل كثير.

كما أن في حديثه عن هذين التعبيرين، تحاملاً طائفياً على المسيحيين الشوام المتمصرين، ممثلين بأصحاب الصحف والمجلات في مصر، وعلى الأقباط، ممثلين بسلامة موسى ولويس عوض، وسامي داود.

يقول شاكر: «فمن معسكر الصراع بين الحضارة الغازية، وبين الحضارة الإسلامية أو بقاياها يومئذ، ظهرت كلمة (السلفيين) مقرونة بتبغيضها إلى العامة، وتصويرها في صور منكرة تكرهها النفوس. ثم بدأت الكلمة تدخل في محيط الصراع الاجتماعي، فمن أول ما أذكر من ذلك أن المسمى سلامة موسى، صنيعة المبشّر ويلككوكس، كان أكثر الناس استعمالاً للفظ (السلفيين) للدلالة على التأخر والتشدد والتخلف».

ويقول: «بعد قليل رأينا لفظ (الرجعيين) يحل محل (السلفيين) فجأة، وهو لفظ سهل على لسان العامة وغير العامة، وإذا بنا نراه مستعملاً على ألسنة ضرب من الكتّاب أمثال سلامة موسى من صبيان التبشير وسفهائه الذين يسافهون عنه، وعلى ألسنة أصحاب الصحف من نصارى لبنان المقيمين في مصر، والمستولين (!) على صحافتها كلها يومئذ. ثم لم نلبث إلا قليلاً حتى رأينا هذا اللفظ ينتقل للدلالة على الحياة الإسلامية كلها، واشتق له مصدر هو (الرجعية)، يستعمله الكتّاب إذا أرادوا التورية عن الإسلام، تهرباً، من أن تنالهم تهمة الطعن في دين الدولة... وظل هذا هو معنى (رجعي) إلى نحو سنة 1943، حين بدأت الحركة الشيوعية في الظهور، فاستخدمت اللفظ للدلالة على الأنظمة التي كانت تقاومها، لما فيها من الفساد والتعفَّن، وإن كان اللفظ عندهم أيضاً كان دالاً على مثل ما كان يدل عليه عند أعوان الاستعمار والتبشير بالحضارة المسيحية الوثنية الغربية».

وكان قد قال في مبتدأ حديثه هذا: «فقد بدا لي أن أعود إلى لفظ سلف في مقالتي الماضية، وهو اللفظ الذي استخدمه أجاكس عوض، واستخدمه المسمى سامي داود، وكلاهما يضمر في هذا اللفظ معنى بعينه، إذ جعل العموم تورية عن الخصوص، وكلاهما سيئ المقصد في هذه التورية».

صحيح أن سلامة موسى كان أكثر المثقفين من أبناء جيله، استعمالاً للفظ «السلفيين»، للدلالة على التأخر والتشدد والتخلف، لكن غير صحيح أن لفظ «الرجعيين» حل محل لفظ «السلفيين» عنده. فهو ظل يستعمل هذين اللفظين بمعنى مترادف.

سلامة موسى يستعمل لفظ سلفية بالمعنى اللغوي العام، وليس بالمعنى الديني الإسلامي الخاص، مفهوماً وجماعة.

فالسلفية في استعمالاته تترادف مع القديم ومع التليد ومع الكلاسيكية في المصطلح الغربي التي يترجمها إلى «التليدية»، ومع الاتجاه إلى الماضي في اللغة والأدب والثقافة والسياسة والحياة والدين.

سلامة موسى استعمل لفظ سلفية مقروناً بجماعة دينية مسلمة مرة واحدة، وذلك في كتابه «تربية سلامة موسى» الصادر عام 1947.

يقول في هذا الكتاب: «ما زلنا نعيش في أسر التاريخ بأدب أغلبه سلفي، نفكر بمزاج سلفي، في لهجة سلفية. وأدبنا هو أبعد الآداب عن روسو، بل لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضاً، كما نرى في حركة الإخوان المسلمين». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم 28 – 5 – 2023م

تستمر عجلة الحياة في الدوران، ترافقها قوة التغيير كـ «سنة كونية مستدامة» طالت الوجودَ كلَّه، حتى لامست الأمور المعنوية، وتوجُّهَ الإنسان وشعورَه تجاه الأشياء. وفي التركيز على المعنوي قبل الحسي المتوقع بطلاقة تعرضه للتغير المستمر، نجد أن الثقافة ومستوى الوعي الإنساني وطريقة التفكير باتت تتشكل بإصغاء تام لتفاصيل المعطيات التاريخية والثقافية والاجتماعية.

ومن المعلوم أن الشغف بالتطور والتقدم حلم يرافق المجتمعات الإنسانية كافة، ومن ذلك تعمل على استثمار أدوات التغيير والتبديل لجعل كل ما لديها من «رأسمال» مادي ومعنوي، يبدو أفضل وأكثر جدوى. وهنا لا بد من الاستفسار عن تغيرات القيم وتبدلات معايير الأخلاق، فهل هي ذات جدوى في جدتها، أم أن كل طارئ يلامسها يغير من هويتها فيفقدها قيمتها الحقيقية؟

إن الذات البشرية التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين، متفقين جميعاً على ضرورة انتقالها من التقوقع الفردي إلى سعة الهوية الاجتماعية المندمجة المنتجة للتعايش والتطوير والنهوض الحقيقي، وذلك في ظل ارتباط بشري بمظلة عليا من القواعد الأخلاقية المبنية على المشتركات التي يجمع عليها الكل.. عانت من مستجدات لم تكن في الحسبان، ففي حين اتكأ الإنسان في اعتماده الأخلاقي على تعاليم النص التشريعي الديني ومصفوفة القوانين المنظمة الوضعية، فإنه بات يواجه تدهوراً ملحوظاً في منظومة القيم، في هيئة إقصائية لكل الآمال المبنية على حلم أفلاطون ومدينته الفاضلة، لتتحول الاتجاهات نحو شح قيمي، وتخبط بين التوجه النفعي والأخلاقي، مع ازدياد في وتيرة العنف والكراهية.

وفي هذا السياق، تُطرح مفارقات عدة، وتعرض تفاصيل أُشبعت أجزاؤها وتداعياتها وأسبابها، وتبقى الحاجة قائمة للتعرف إلى مصير المشترك الأخلاقي والنظام القيمي، في ظل تلك المعطيات «الثقيلة» على كاهل الإنسان وملامح «عقله الأخلاقي». وحتى نكون منصفين في تناول التحديات الإنسانية عموماً، والمتعلقة بالتحول القيمي والأخلاقي بشكل خاص، لا بد أن نعترف بأن تضخم حجم هذه المشكلة ترافق والعديد من التطورات الحاصلة على أدوات ووسائل الفهم والتوعية ونشر الثقافة الأخلاقية، فباتت تشكل فرصة واسعة لاستبدال الثغرات والنقاط السوداء على خريطة الوعي الإنساني بالمكنون القيمي.

وهذا بالإضافة إلى أن اعتبار التجارب الإنسانية السابقة محطة وقوف يؤدي للاستزادة بكافة السيناريوهات المحتملة، مما يعني استدراك الخطى الخاطئة وتحويلها لجسور عبور نحو المحطة الأخلاقية الكبرى. إن تحويل تحديات التغير الأخلاقي في المجتمع لفرص تغتنم، وبخاصة في نطاق بعيد كل البعد عن الواقع التنظيري المحدود، يكمن في بناء قيم أفراد المجتمع، ورغم أنها ليست بالمهمة الهينة، فإنها ليست بالمستحيلة في ظل تسخير العقل كنعمة ربانية وهبها الله للإنسان.

وهنا نكون قد وصلنا لعقدة الحكاية في التحولات القيمية، وأدركنا أنها تؤول لولادة الفرص، أو لتكاثر التحديات بقرار من الإرادة الإنسانية وحدها، فأخلاق الإنسان «رأسماله» المعنوي ومرآة الواقع التي تؤدي لانعكاس بهي كما يريد، والأدوات الحديثة ومعطيات التقانة وتشعباتها اللامحدودة هي الأخرى بين يديه، يستطيع أن يوجهها ويسخرها في المجال الأصوب، وذلك من خلال اعتماد الوسائل كافة وتطويعها في نشر الأسس الأخلاقية الكبرى، وتوسيع مساحة الوعي بانعكاسات البيئية الأخلاقية ونقيضها، وتسليط الضوء على الاستراتيجية الأقرب للواقع، ابتداءً من الفرد فالعائلة فالمجتمع فالعالم العريض. لا سيما أن نتاجات الوجود القيمي الحقيقي هو أحد أطراف معادلة النهوض والازدهار والتصدي للتحديات، بل وتحقيق الأمن والسلام في شتى بقاع الأرض.. إذ ترسيخ معاني التسامح والتراحم، والإصغاء والحوار.. مما يصنع الإبداع من فرادة التنوع والمسؤولية الجمعية.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 26 مايو 2023 00:38

منذ التسعينات من القرن الماضي، ذهب مفكرون استراتيجيون إلى أنّ قياس ماكس فيبر (1864-1920) لشرعية الدولة بأنها التي يكون من حقها احتكار العنف لم يعد صحيحاً. لأنّ قوى أخرى داخل الدولة صارت تمارس العنف ضد السلطات القائمة أو في حضورها من دون أن تكون تلك السلطات قادرةً على المعالجة أو الإخماد! وقد تفرع على ذلك بحثٌ آخر هو إعادة قراءة أنماط الشرعية باتجاه النقد أو التوسيع. ففيبر نفسه يقول إنّ للشرعية ثلاثة أنماط هي: النمط التقليدي القائم على الأعراف والعادات المتوارثة التي أطبق عليها الناس مثل الأنظمة الملكية. وقد تذكر المراقبون مدى قوة هذا النمط في حفل تتويج الملك البريطاني تشارلز الثالث، وقد ذهبوا إلى أنّ هذه التقاليد شكلاً ومضموناً تبلغ قرابة الألف عام؛ رغم التغير الكبير الذي طرأ عليها. أما النمط الثاني فهو النمط الكارزمي، حيث تتجدد وتقوى «شرعية» زعيمٍ قائمٍ وصل إلى السلطة بأسلوبٍ غير تقليدي، فحقق انتصاراً ردّ به عدواناً أو أسر مخيلة الجمهور بقدراته الخطابية أو الإنجازية. لكنْ إذا كان «القبول» النخبوي أو الشعبي يهبُ نوعاً من الشرعية؛ فهل يمكن المصير إلى اعتباره «نمطاً» رغم أنه لا يتكرر غالباً، أو قد يتحول طغياناً؟ والنمط الثالث هو النمط الدستوري الحديث الذي يقوى ويتمتَّن بالانتخابات الحرة، والانتظامات القانونية التي تُكسبُه الاستمرار العلني المعروف والمتوافق عليه نمطيةً تجعل من المسوَّغ اعتبارها شرعيةً، شأن الأنظمة التي سادت في النظام العالمي الحديث والمعاصر. وهكذا وفي النمطين الأول والثالث يصحُّ القول باحتكار العنف مسوِّغاً للشرعية استقراراً واستمراراً، وتحقيقاً لمتقضيات الشرعية التي تظهر آثارها في أنّ الدولة التي تستحقُّ هذا الاسم، هي التي يتمكن القائمون على السلطة فيها من أن تكون لهم شوكةٌ في الحماية بالداخل، والدفاع أو السيادة تجاه الخارج. وأصل هذا أتصور مقولة توماس هوبز أنّ الدولة هي المخرج الوحيد من «حرب الكل على الكل» وعلى حقّها في احتكار العنف أو منعه تقوم شرعيتها من أجل استمرار الاجتماع الإنساني.

من أين أتى إذن «النمط الجديد» إذا صحَّ التعبير، والذي تبزغ فيه فئة أو فئات بالداخل الاجتماعي تمارس العنف السلطوي متحديةً الشرعية القائمة من دون أن تتمكن السلطات القائمة من إزالتها؟ يعيد مفكرو الأنظمة السلطوية ذلك إلى القرن العشرين وما بعد الحرب الثانية حين شاعت مقولات حروب التحرير بأميركا اللاتينية وأفريقيا وتفاقمت ظواهر العنف الداخلي في أجواء الحرب الباردة بحيث صار ذلك نمطاً من أنماط الصراع بين الجبارين؛ فيتدخل أحدهما أو كلاهما في مناطق نفوذ القوة الأخرى داعماً أو مشجِّعاً. بيد أنّ هذه الممارسات - والتي تنقض أهمَّ وظائف الدولة وميزاتها - تراجعت أو تضاءلت لصالح النمط الحديث للدولة؛ وبخاصةٍ عندما تفوقت الولايات المتحدة ونظامها في الوضع العالمي العام والعلاقات الدولية.

إنّ العقود الأخيرة شهدت استثناءات معتبرة في الوضع العالمي العام لجهة تعددية السلطات التي تدّعي لنفسها حقّ استخدام العنف تارةً لمقاومة سلطةٍ قائمة، وطوراً للحصول على حق تقرير المصير لأقليةٍ مضطَهدة، أو أخيراً من أجل القيام بوظيفةٍ أو مهمةٍ كان على الدولة القيام بها وأعرضت عنها أو عجزت. وهذه الصنوف من العنف المسلَّح بداخل الدول موجودة على الأكثر في العقود الأخيرة في أفريقيا والعالم العربي. والملحوظ أنه يظهر في الغالب في أنظمةٍ حصلت فيها انقلابات عسكرية أو تطورات غير عادية، تحولت إلى ما يشبه «النمط» الذي يعني ضعف الدولة وعجزها عن إنفاذ ممارسة «احتكار العنف». ويشير المحلِّلون إلى أنّ هذه الظاهرة: الدولة/ الميليشيات، ظهرت أولاً بالصومال، ثم انتشرت واستمرت في الحرب الباردة وما بعدها وإلى اليوم.

لقد شاعت في مواجهة هذه الظاهرة المخربة للدولة ووظائفها مصطلحات مثل: الدولة الفاشلة، أو الدولة الانقسامية، أو السلطة التي فقدت شرعيتها. وفي العادة، وعندما يتفاقم العنف بين السلطة القائمة والميليشيات، أن يجتمع مجلس الأمن ويُصدر قراراً أو قرارات، ويضغط تحت الفصل السابع من أجل إنهاء العنف لصالح الدولة. ثم تطورت الممارسة إلى التوسط من أجل وقف النار، والسعي للحوار والمصالحة الداخلية. وخلال ذلك كلّه تتوالى التصريحات بالتحذير تارةً من التدخلات الخارجية، وطوراً بالتحذير من انقسام البلاد وتقتُّتها، أو سواد ظروف الحرب الأهلية.

المؤرخ الكبير الراحل أريك هوبسباوم هو صاحب العبارة المشهورة: في ثلثي الحالات فإنّ مجلس الأمن الموكل إليه صَون الأمن الدولي، يعجز عن اتخاذ القرار بسبب الصراعات بين الدول الكبرى بداخله، أو أنّ قراراته لاستعادة الأمن والاستقرار بالداخل في الدول المضطربة يتعذر إنفاذها! فأما الراديكاليون فيتجاوزون مجلس الأمن وقراراته ويذهبون في بعض الحالات ومن أجل الإنقاذ من العنف، إلى القول بالتقسيم. وقد شاع أنّ هذه الفكرة حملها بعض السياسيين الأميركيين في حالة العراق بعد الغزو. ويذهب فريقٌ آخر إلى اعتبار العنف ناجماً عن المركزية الشديدة في الدولة؛ ولذلك يقترحون الفيدرالية أو الكونفيدرالية. وبالنظر لعدم النجاح في وقف العنف رغم التقسيم أو الفيدرالية في عدة حالات؛ فإنّ فريقاً ثالثاً يذهب إلى الاستمرار بدعم وحدة الدولة، وهي الممارسة السائدة حتى الآن في حالات سوريا وليبيا واليمن. وهناك فريقٌ رابعٌ متشكك من دون أن يطرح بديلاً، فالميليشيات أو قوى ما دون الدولة أو تحتها صار من المتعذر مصالحتها أو تقاسم السلطة معها أو حتى تسليمها السلطة (!) لأنّ حياتها قائمة على ممارسة العنف أو أنّ اقتصادها هو اقتصاد عنف، كما في الميليشيات المنتشرة في دول الساحل الأفريقي منذ عدة عقود- وتارةً باسم الدين، وطوراً باسم الإثنية أو التحرير، وأحياناً من دون اسمٍ ولا عنوان!

تقوم الفكرة الغربية السائدة للدولة أنها لمنع العنف، وتحسين حياة الناس بحيث لا يلجأون للعنف. وصحيح أنّ بعض الدول ما حسّنت عيش الناس، لكنّ الميليشيات ما حسّنت حياة الناس أيضاً، أو فكّرت في ذلك! وقد كان المعتقد أن الناس يخافون من عنف الدولة، لكنّ السائد لدى العرب منذ أعوامٍ وأعوام: الخوف على الدولة من الفوضى ومن الميليشيات. فالمطلوب الدولة والدولة من دون شروط.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم 26 – 5 – 2023م

منذ 12 مليار عام تقريباً أعاد الإنسان موقعه الكوني والوجودي، فذهب يبحث عن أسس تتوافق مع توسع إدراكه للمكان، وتوازي رحابة تصوراته للزمان، وعلى طول تلك الرحلة لم يكن البحث سوى وسيلة لقهر جمرة السؤال والتفكّر.

ننشد فكرة الصيرورة واللا انتهاء في فلسفة هيراقليطس المبثوثة في شذراته التي أعيد بعثها من جديد في المنعرج الفلسفي الحديث، فهو بثّ «الغموض، والصيرورة» ومنه استفاد نيتشه كثيراً، خاصةً في نظرية «العود الأبدي» ورجوع نار هيراقليطس، ونهره الذي يجري دائماً بلا توقف، والزمان الذي لا يمكن أن ندركه مرتين.

ربما كان مُشعل الحداثة رينيه ديكارت بوصفه العالِم من جهة، والفيلسوف من جهة أخرى، هو واضع «المنهج» الأبرز في تاريخ العلم الحديث، لقد ألّف مقالته «مقالة في المنهج» سرد فيها رؤيته عن ضرورة تدوين العلوم النظرية وفق هندسة «إقليدس»، فهو رأى أن على علم كالفيزياء - مثلاً - أن يتأسس على مبادئ مماثلة لأصول هندسة «إقليدس»، بتلك المقالة عرّج على ملامح ثورة سماها بعض المؤرخين «الضربة الكبرى»، فهو سكن الجزء الأكبر من عمره، وجامل رجال الدين في ذلك العصر، حتى رسم منهجه الذي افتتحه بـ«الشك» ورمى الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) في مرمى ذلك القرن، وبقيت الفلسفة لقرونٍ تالية تدور حول الأسئلة أو البحوث أو المناهج التي وضعها وبوبها ورسمها رينيه ديكارت.

هذا مع دورٍ أساسيّ قام به فرانسيس بيكون، الذي نادى في كتابه (الأورجانون الجديد) بأهمية تخلص العلماء من التصوّر المسبق! قبل الشروع في أي عملية بحث، وكان تأثير «بيكون» له نفحه «تاريخية»، فهو دوّن الكثير من التشكيلات النظرية، لكن نظرياته لم تفرز أيّ بعد يمكن أن يوصف في سيرورة العلم بالجهد القطيعي، الذي يعتمد على الفصل في النتائج، والوصل في التساؤل، وهي القطيعة التي لم تنجح كل الثقافات الشرقية في انتهاجها، وربما لا يوجد غير الثقافة الأوروبية من أوجدت هذه القطيعة الجامحة التي تنفصل من جهة وتتصل من جهة أخرى، ذلك أن تاريخ العلم تاريخ «قطائع» و«أخطاء» حسب إبستمولوجيا «باشلار»، كل ذلك الجهد الذي بذله بيكون لم يتجاوز التأثير المرحلي، وسيرته الذاتية تنضح بمراداته من تأسيساته تلك.

مجيء كانط سيهدّئ من ذلك الاختلاف، بين بيكون، وديكارت، ذلك أن نظريته تقوم على تحويل ذات الباحث إلى مبدأ متعال يجمع وقائع التجربة، ويجمع توزّع الأحداث، لتدبيجها في توليفات عقلية وأنساق منطقية وفق مقولات تستمد أسسها من صلب أسس علوم العصر وأهمها الزمان والمكان. واستمرّ الجهد البشري في سعي حثيث لإزالة غشاوة امتدت طويلاً، حتى جاء العلم بما لم تستعد له الفلسفة، فلا يمكن تخيّل الصدمة التي أحدثتْها نظرية النسبية، ونظرية الكم على سير الفلسفة، وبلغ من شدّة الصدمة، إعلان البعض «نهاية الفلسفة»! لكن جيل دلوز رأى أن هذه المقولة التي روّجت في القرن العشرين، مجرّد موضة انتشرت في فرنسا، لكن سيبقى دور الفلسفة كممارسة، وإن كان سيتنوّع من جهة المحمول والموضوع.

كل تلك الأحداث تبرهن على ضرورة المحافظة على الحسّ السؤالي لدى الكائن، ومحاربة السؤال بالأجوبة أو بالخوف تعتبر من أشدّ الأخطار التي تهدد إمكانية قيام روح علمي يطمح إليه كل إنسان.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 16 مايو 2023

هل المتنبي شاعر عظيم؟ الجواب: نعم؛ وبلا تردّد، بل هو أعظم شعراء العربية في رأي الأغلبية الساحقة من النقاد العرب في القديم والحديث. وأكثر من ذلك؛ لا تكاد الذائقة العربية العمومية (الذائقة التي تتجاوز حدود الاختصاص النقدي) تُجْمِع على مَحَبَّة وتعظيم ـ بل وتقديس ـ أحد شعرائها العظام كما تُجْمِع على محبة وتقديس امبراطور البيان العربي: أبي الطيب المتنبي؛ وكأنما هي قد نصّبته ـ بلسان الحال ـ مُتَحَدِّثا رسميا بمكنوناتها الواعية واللاواعية، أو كأنما هو المُمَثِّل الشرعي والأسمى لِتَصوّرها الأخلاقي/ القِيمي العام.

لم يكن زمن المتنبي زَمَناً له كفرد، بل هو "زمن الروح العربية" منذ فَجْر ميلادها الأول، زمنُ عمرو بن كلثوم التغلبي الذي زعم أنه مَلأ البَرَّ حتى ضاق عنه، وملأ ظهرَ البحر سَفِيناً؛ بينما هو ـ في الواقع ـ يتحدّث عن قبيلته الصغيرة الهزيلة التي يهزمها ثمانون فارسا من القبيلة الأخرى المنافسة. وأيضا، هذا الزمن هو زمن الحطيئة "الشحّاذ" بامتياز. ثم ـ وهو الأخطر ـ  زمن الأخطل التغلبي، زمن قلب الحقائق رأسا على عقب؛ عندما يتحوّل ـ بالادعاء الشعري ـ أحدُ أكبر السفّاحين في تاريخ الإسلام إلى "خليفة الله يُسْتَسقَى به المَطرُ". وهو كذلك زمن جرير؛ عندما يُصِبح الحجّاج بن يوسف (الذي هو عار التاريخ الإسلامي) البطلَ الذي سدَّ مطلع النفاق، وأرسى قواعد الأمان...إلخ تلاوين الزمن العربي الشعري البائس.

المتنبي، شاعر القرن الرابع الهجري، ليس أكثر من مجرّد تكثيف إبداعي هائل لهذه الأزمنة في صورة زمن نموذجي. مضى على "زمن المتنبي" أكثر من ألف عام، تلاعبت سنواتُها السِّمَان، كما العِجَاف ـ وهي الأكثر ـ بالعالم العربي؛ حتى "أُحْمِدَ الصَّمم"؛ كما يقول المتنبي ذاته. ولكن "روح زمن المتنبي" لا تزال تتمدّد وتتجدّد؛ في مجالي القول والفعل. ما يعني أنها روح خالدة، وهُويّة مُلازمة، تجري المُتغيّرات على سطحها، وتعصف المتحولات بشواطئها؛ وهي وحدها الثابت اليقيني الناظِم لِمَسار الأجيال في الزمان والمكان.

إن هذه الروح التي يُعبِّر عنها "زمن المتنبي" هي روح سلبية تُنَاقِض وتُنَاهِض روحَ الحداثة من ألِفها إلى يائها. ومن ثم؛ يتعذّر الجمع بينها وبين إرادة التقدم.

لقد حاول الإنسان العربي مطلع القرن التاسع عشر استلهام عصر الأنوار الأوروبي، وبدا أوائلَ القرن العشرين وكأنه مُصَمِّم على هذا الاستلهام مهما كان الثمن، بدت المُقَدِّمات واعدة، ولكنه تعثّر، ثم توالت انتكاساته الكارثية. هكذا يبدو زمن التنوير العربي  (التنوير المأمول؛ وإن لم يتحقق) وكأنه محاصر ـ ولا يزال ـ بزمن المتنبي/ بزمن العرب الأقدم والأقدس، الزمن المترع بالمتخيل الجميل، والذي لم يكن أكثر من أغنية على شِفَاه الشعراء الحالمين، ولكنها أغنية تحدو بها الركبان، وتَسْكُر بها جِمَال القافلة، فلا ينفع حينئذٍ أن تنادي بأعلى صوتك: رِفْقاً بالقوارير.

تحدثت في مقال سابق عن "داعشية المتنبي"، أي عن تمجيد العنف الدموي في شعره، وكيف أن العنف ظهر وكأنه غاية في حدّ ذاته؛ ليصبح القيمة الأسمى. وهي القيمة التي لم يبتدعها المتنبي، وإنما استلهمها من أسلافه، وزاد عليها من إبداعه ما جعلها ـ على قتامتها وبشاعتها ـ قيمة عُليا، تُصَان ولا تُدان. وبالطبع؛ لم يكن هذا العنف الدموي إلا وجها وحدا من أوجه خطاب التخلّف في شعر المتنبي.

اليوم، لا بد من التأكيد على حقيقة أن المتنبي شاعر الفخر الكاذب بلا منازع، شاعر الادعاء العريض، الادعاء اللاّمعقول، بل الادعاء الفارغ الذي يقف به على تخوم الجنون؛ في حين أنه يبدو ـ إبان تلقيه عربيا ـ مُبرّرا ومعقولا !

طبيعي أن يُسْتَسَاغ كل هذا الفخر الأجوف بلا حساب؛ لأن الأنا المتفرّدة المُتَورّمة عند المتنبي ليست إلا تلك الأنا الجمعية عند شاعر القبيلة الأول. وهذه الأنا في حالتيها (= المتفردة والجمعية) هي نقيض مبدأ المساواة الذي هو أسّ الأسس في نظام المدنية المعاصرة التي لا يوجد فيها أناس من "ذهب" وآخرون من "تراب/ رغام".

يقول المتنبي عن نفسه وعن بني زمنه:

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم

       وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ

يقصد أنه وإن كان يعيش بين الناس، فليس هو من نوع هؤلاء الناس، ليست قيمته كقيمتهم. وطبعا، يستدل على ذلك بكون الذهب يسكن التراب، دون أن يعني ذلك أن قيمة الذهب تساوي قيمة التراب الذي يحتويه. فهو ـ وفق دعواه ـ ذَهَبٌ خالص، وسائر الناس مجرد تراب خالص، ولن يضيره العيش في أوساطهم، بل سيبقى محتفظا بقيمته على كل حال.

كما يقول أيضا على سبيل الادعاء الكاذب:

سَيَعلمُ الجَمْعُ ممن ضَمَّ مَجْلِسُنَا

بأنَّني خَيْرُ مَن تَسْعَى بِه قَدَمُ

ويقول أيضا:

وَرُبَّما أُشهِدُ الطَعامَ مَعي

مَن لا يُساوي الخُبزَ الَّذي أَكَلَهْ

هكذا، باحتقار صريح، حتى لجلسائه الذين قد يُشاركونه طعامه، إذ قيمتهم عنده لا تساوي الخبز الذي يأكلونه. وكونهم يأكلون معه، لا يعني ـ في زعمه ـ أنهم يساوونه؛ لأنه شيء، وهم شيء آخر مختلف تماما. إنه لا يقبل أي ملمح من ملامح مساواته بالآخرين في أي سياق. ولهذا يقول صراحة في بداياته الشعرية الأولى:

أمِط عَنكَ تَشبيهي بِما وَكَأَنَّهُ

فَما أَحَدٌ فَوقي وَلا أَحَدٌ مِثلي

وعلى العموم، أشعاره في الفخر الكاذب كثيرة جدا، وهي تنطوي على مبالغات صبيانية، مُضْحِكة في كثير من الأحيان، ولكنها مُسْتساغة إلى حد كبير في الذائقة العربية التي استمرأت مثل هذا الادعاء البهلواني منذ أيام جاهليتها الأولى التي كانت لا تتقن غير مضغ الكلام.

وإذا كان المتنبي شاعر مديح كاذب بالدرجة الأولى، فهو شاعر هجاء كاذب بالدرجة الثانية. وأخطر من الكذب هنا أو هناك، هو التقلب العبثي بين مديح وهجاء كاذبين. أي أن الكلمة الصادقة غائبة تماما؛ بعدما ما جرى التلاعب بها بين المتناقضات؛ حتى فقدت قيمتها التعبيرية. وعندما تغيب الكلمة الصادقة من رجل مهنته صناعة الكلام، لا بد وأن يغيب الموقف الصادق، لا بد أن تسقط الدلالات، وتتلاشى مدلولاتها، وتفتح العدمية أبوابها على كل الاحتمالات.

وضمور المبدأ الإنساني في شعر المتنبي، هو انعكاس لضموره ـ بل غيابه شبه الكامل ـ في التراث الشعري العربي، ومن ثم في منظومة القيم السائدة. فالمتنبي يُلِحُّ على "أصل الشر" في الإنسان، وأن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأن على كل إنسان أن يعامل بني جنسه بهذا المنطق المتوحش. يقول:

وَمَن عَرَفَ الأَيّامَ مَعرِفَتي بِها

وَبِالناسِ رَوّى رُمحَهُ غَيرَ راحِمِ

فَلَيسَ بِمَرحومٍ إِذا ظَفِروا بِهِ

وَلا في الرَدى الجاري عَلَيهِم بِآثِمِ

ويقول عن علاقات المودة بين الناس:

إِذا ما الناسُ جَرَّبَهُم لَبيبٌ

فَإِنّي قَد أَكَلتُهُمُ وَذاقا

فَلَم أَرَ وُدَّهُم إِلّا خِداعاً

وَلَم أَرَ دينَهُم إِلّا نِفاقا

كما يقول أيضا:

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبّاً

جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ

وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ

لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنـامِ

هكذا، الخداع هو الأصل في العلاقات، والشك بالإنسان ضرورة عقلية؛ لمجرد أنه إنسان؛ لأن الإنسان ـ وفق هذا الزعم ـ متربص بالإنسان لا محالة؛ لأن طبعه العدواني/ الذئبي هو الطبع الأصيل الذي لا يستطيع تجاوزه. وبهذا، ليس ثمة تراحُمٌ، بل تزاحم وتخاصم، ثمة صِراع أزلي، لا تبدو التفاعلات البَيْنِيّة السِّلْمِية/ الوَدُودة ـ من قول أو فعل ـ إلا أداة من أدوات الصراع. والمتنبي هنا يؤكد أن تَسْمِيم العلاقات بهذا التصور المتوحش، ليس مجرد رأي مقابل رأي آخر، بل هو الحق المؤكد بمعطيات الواقع، وبالتالي، فاكتشافه واستشعار مدى خطورته من علامات النباهة والذكاء واتساع المعرفة بالإنسان.

وباستجداء المال إلى درجة "الشحاذة"/ التسوّل المجاني؛ يصبح الفعل المنتج المؤسس للحضارة بلا قيمة. المال ليس مقابل العمل، بل مقابل الإبداع في فنون التسوّل، مقابل الكذب الرخيص. وكلما كان الاستجداء أكثر مهانة؛ ارتفع توقّع العطاء. لهذا، لا يستنكف المتنبي أن يقول ـ متسوّلا ـ مَن سيهجوه بعد ذلك بأقذع الهجاء:

أبا المِسْكِ هل في الكأس فَضْلٌ أنَالُه

فإني أُغَنِّي مِنْذُ حِينٍ وتَشْرَبُ

وَهَبْتَ على مِقْدَار كَفّي زَمَانِنَا

وَنَفْسِي على مِقْدَار كَفَّيْكَ تَطْلُبُ

إنه يطلب المزيد من العطاء بلا حياء، وكأن العطاء المجاني حق مستحق، وكأن التسوّل ـ بوقاحة ـ مهنة شريفة تكتب في الأشعار الخالدة ! لهذا، لا يكفّ حتى في آخر لقاء له مع كافور أن يقول له:

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وخطاب

إنه يطلب من كافور أن يتفهم حاجاته قبل أن يشرحها، أن يعطيه قبل أن يسأل / يتسوّل، بل ويتمنّى عليه أكثر مما صرّح به في سؤاله/ في تسوّله. يستجدي كل هذا الاستجداء الإنسانَ ذاته الذي سيخصّه بالهجاء العنصري الشهير، بل بالهجاء الذي يُجَرِّدُه فيه من صفته الإنسانية؛ ليضعه ـ صراحة، وبلغة سُوقيّة ـ في خانة الكلاب.

وتجدر الإشارة إلى أن صور الاستجداء ليست صورا عابرة في شعر المتنبي، بل هي من ثوابت ديوانه، وبعضها تصل درجة عالية من ابتذال النفس؛ حتى وجدناه يتسوّل طعامه/ زاد رحلته. يقول:

وَقَد قَصَدتُكَ وَالتَرحالُ مُقتَرِبٌ

وَالدارُ شاسِعَةٌ وَالزادُ قَد نَفِدا

فَخَلِّ كَفَّكَ تَهمي وَاِثنِ وابِلَها

إِذا اِكتَفَيتُ وَإِلّا أَغرَقَ البَلَدا

المهم هنا، أن ما يجمع بين الفخر الكاذب، والمديح الكاذب، والتسوّل المجاني، هو توهّم أن مجرد الادعاء إنجاز، وأن الكلام الفارغ/ الخالي من الحقيقة، يستحق أن يقابله المال، المال الذي يُفْتَرض أن يكون في علاقاته التبادلية مقابل إنجاز حقيقي. وهذا التوهّم سائد في الذهنية العربية، حيث بدا لها ـ على امتداد تاريخها وإلى اليوم ـ أن ما تقوله فعلته حقا، أي ما نَوَت فعله أو ادّعت فعله على مستوى القول، توهّمت أنها فعلته حقا، وتعاملت على هذا الأساس؛ لتصبح في علاقة انفصام بين الأقوال والأفعال.

أخيرا، تضيق المساحة عن كثير من الإضاءات التي تربط بين زمن المتنبي، وزمن الحداثة المضاد؛ على مستوى القيم/ المبادئ الفاعلة. وفي كل الأحوال، ليس المقصود نفي شعر المتنبي ولا تهميش عبقريته الجمالية، بل ولا اعتباره عبقرية شعرية ماضوية ينبغي تجاوزها...إلخ، ليس هذا المقصود، بل المقصود تحديدا هو أن "زمن المتنبي" يساوي "زمن اللاّحضارة"، وأن التقدم الحقيقي رهين بالخروج منه إلى زمن آخر، إلى زمن مختلف تسوده قِيَمٌ/ مبادئ مغايرة تماما لتلك القيم/ المبادئ التي كان شعر المتنبي هو لسانها الأكمل والأجمل، كان مرآتها الأكثر صفاء على امتداد عشرة قرون من تاريخنا الذي لا يزال فاعلا فينا، لا يزال يصنع حاضرنا ومستقبلنا بكل إصرار وعناد؛ وإن لم نشعر بذلك في كثير من الأحيان.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 27 فبراير 2023

في حوار أخير معه على شاشة قناة CBS، قال ساندر بيتشاي، رئيس مؤسسة غوغل الشهيرة ذات المحرك البحثي الأهم عالمياً، إن حركة الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى فلاسفة ومفكرين في الإنسانيات والأخلاق، وليس إلى المهندسين والفنيين وحدهم.

فالرهان المستقبلي بالنسبة لبيتشاي يتعلق بالثقافة والقيم والأخلاق، وليس فقط بتقنيات الاتصال والطرق السيارة للمعرفة الرقمية، فلا بد بالنسبة له أن «يتأقلم الذكاء الاصطناعي مع القيم الإنسانية».

وقد ذهب إلى الرأي نفسه عددٌ من كبار المتخصصين في الذكاء الاصطناعي في عريضة منشورة، من بين موقعيها «إيلون ماسك» الرئيس الجديد لشركة «تويتر»، و«ستيف وزنياك» مؤسس شركة «آبل» (بمعية شريكه الراحل ستيف جوبيز). والخوف هنا هو من أن تصبح حركة الذكاء الاصطناعي خطراً على صدقية المعلومات ودقتها، وذلك من خلال التلاعب بالمضامين المعرفية للتقنيات التواصلية، والتصرف فيها تضليلا وتوجيهاً، انتهاكاً لمعايير حرية التفكير والوعي التي هي أساس النزعة الإنسانية الحداثية.

بعد الموجة الأولى من الذكاء الاصطناعي، دخل العالَمُ عصرَ التقنيات الذكية القوية، التي قد تكون متمتعة بقدرات الوعي والحرية والإحساس، بما ينذر بنشأة ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ليك فري «ما بعد الإنسانية»، وهو العصر الذي سيصبح فيه البشر اليوم «الحيوانات المستخدمة» من الأجهزة الاصطناعية الذكية حسب توقع إيلون ماسك.

لقد بدأ الحديث يعلو بالفعل في كثير من البلدان الصناعية المتقدمة حول اختفاء عدد كبير من الوظائف والأعمال التي سيتم الاستغناء عنها بفضل الذكاء الاصطناعي الجديد، ومنها المهن التعليمية والطبية والمالية.. بل تحدَّث البعضُ عن نهاية مفهوم العمل ذاته الذي تأسست عليه هياكل الدولة الوطنية الليبرالية الحديثة.

ومن ثم لا يتردد بعضُ الكتاب والباحثين في الكلام عن تفكك المجتمعات المعاصرة ونهاية الحرية الإنسانية وعودة الإنسان إلى نمط جديد من العبودية واستبداد الآلة التقنية المنفلتة من كل رقابة وتحكم. وعلى عكس هذا التصور، يرى ليك فري أن الحاجيات المصطنعة هي التي خلقت تاريخياً فرصَ العمل، وبالتالي فإن كل مرحلة من مراحل التقدم العلمي تبدع مسالكَ وآفاقاً جديدةً للشغل بقدر ما تقلص من نماذج أخرى لم تعد تتلاءم مع سوق العمل الجديدة. أما السؤال القيمي، فقد واكب نشأة العلوم التجريبية وتطبيقاتها التقنية منذ البداية، بما عكسته الكتابات الفلسفية والأخلاقية منذ مطلع العصور الحديثة.

ولقد شهد هذا التوجهُ دَفعةً قويةً مع تنامي الاقتصاد الصناعي الاستهلاكي والتقنيات العسكرية ذات الدمار الشامل، بما تجلى بوضوح في كتابات الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت ما بعد الحربين والفلاسفة والكتاب الوجوديين بعد الحرب العالمية الثانية.

إلا أن السؤال القيمي عرف بالفعل تحولاً كبيراً مع نشأة التقنيات الاتصالية التي أن فسحت المجال لما أطلق عليه البعض «العولمة السعيدة»، والتي ولَّدت تحدياتٍ غير مسبوقة تزايدت مع وتيرة الذكاء الاصطناعي الراهن. ما أطلق عليه ليك فري «الحالة ما بعد الإنسانية» بدأ عملياً في ظواهر ستغير قريباً طبيعة البشر مثل: السيارة ذاتية القيادة، واستبدال الخلايا المتهالكة، والنسخ الإلكتروني للدماغ الإلكتروني.. والعقبة هنا ليست تقنية مادية بل أخلاقية قيمية، كما يقر ويتخوف أهل الاختصاص أنفسهم.

وكانت الفلسفة قد نشأت مع سقراط لمواجهة تحد مماثل هو الإمكانات الواسعة التي توفرها الثورة العلمية الأولى المتمحورة على الرياضيات، من حيث بناء الخطاب وبثه في الميدان العمومي المفتوح الذي كان أوانها هو «أغورا» المدينة. لقد اعتبر سقراط أن الحاجة إلى الفلسفة تتمثل في تصفية سيلان الكلام المفتوح والمنشور وفق معايير برهانية أخلاقية تحمي الحقيقةَ والعدالة من تلاعب الخطباء والبلغاء (السوفسطائيون).

ومع قيام الثورة العلمية الثانية المتمحورة حول الفيزياء، تجدد التحدي نفسُه، بانبثاق مشروع السيطرة على الطبيعة وامتلاكها الذي اعتبره ديكارت مهمةَ العلم التجريبي، وهو وفق عبارة ميشال سر «إعلان حرب» متكامل سيفضي لاحقاً إلى مسار الهيمنة المزدوجة على الطبيعة والإنسان الذي شغل كثيراً الفلاسفة المعاصرين.

ولم يكن مشروع إيمانويل كانط الساعي إلى إنقاذ الميتافيزيقا والأخلاق من تجاوزات التصور المجرد للعقل (ميدان المعرفة) سوى محاولة أخرى للإنقاذ الفلسفي للحقيقة والعدالة. ما نخلص إليه هو أن موجةَ الذكاء الاصطناعي، والتي هي الطورُ الجديدُ من الثورة التقنية الراهنة، تستوقف الفلسفةَ مجدداً في مهمتها القيمية والعقلانية التي لا سبيل للاستغناء عنها، وهي اليوم مطلوبةٌ أكثر من أي وقت مضى.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن الاتحاد الاماراتية في يوم: 24 ابريل 2023 00:07

مقال الشيخ محمد الغزالي «بين الهلال والصليب» الذي ضمَّه إلى كتابه «من هنا نعلم» الذي هو ردٌّ على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، هو – كما قلنا في المقال السابق – في الأصل ردّ على حملة من حملات سلامة موسى على جماعة الإخوان المسلمين. ومقاله هذا كان مقالاً مقحماً في كتابه؛ إذ لا صلة له بموضوع ردّه على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ».

إنَّ الشيخ محمد الغزالي في مبتدأ مقاله حين نزع الإيمان الديني من قلب المسلم محمد التابعي، وحين نزعه قبله من قلب اليهودي أينشتاين، لم يكونا هما المستهدفين بهذا النزع، بل هو فعل ذلك رشوة للأقباط، لكي يتيسر له نزع الإيمان الديني من قلب القبطي سلامة موسى.

فهو يريد أن يفصل سلامة موسى عن الأقباط، بالزعم أنه ملحد ومعادٍ للأديان، وأنه أنشأ عصابة من الأقباط عددها قليل لهدم الأديان التي من ضمنها الدين المسيحي. واعتقد أنه بهذا القول أنه سيؤلب الأقباط على سلامة موسى من ناحية دينية.

إنَّ الشيخ الغزالي حينما خاطب القمص سرجيوس سرجيوس في مقاله «بين الهلال والصليب»، لم يسلكه – كما الاثنين الآخرين – في «عصابة سلامة موسى»؛ لأنه كان رجل دين قبطياً. وكان أقصى ما قاله عن الهيئة الدينية القبطية، عبارة عارضة، هي أن بعض رؤساء الكنيسة قرروا أن يجاروا العصابة الملحدة في أعمالها ضد الإسلام وضرورة فصله عن الدولة رسمياً.

اشتهر سلامة موسى في خطابه السياسي والفكري بعلمانية صلدة وحادة إلا أنه لم يكن ملحداً، وبخاصة بإيمانه الديني المسيحي الذي لم يكن يجاهر به، أو يعلنه، لكي يكون متسقاً مع علمانيته الصلدة والحادة. وهذه مسألة كان يعرفها عنه الأقباط اللاهوتيون والأقباط العلمانيون، ويعرفها عنه الأقباط الطائفيون من هذين الاتجاهين.

فهو مع علمانيته الصلدة والحادة، كان منخرطاً في النشاط الاجتماعي والثقافي لجمعية الشبان المسيحيين، منذ أن انضم إلى عضويتها في عام 1922.

فلو كان ملحداً لما قبلت هذه الجمعية أن يتولى فيها توجيه الشباب المسيحيين وغير المسيحيين، من المسلمين واليهود، ثقافياً واجتماعياً.

يروي علي جواد الطاهر قصة حصلت له مع سلامة موسى في شبابه. وقبل أن تحصل هذه القصة كان مثل كثيرين في مصر وفي العالم العربي يصنف سلامة موسى بحسب خطابه السياسي والفكري العلني. فهو تعرف إلى بعض كتب سلامة موسى وهو في المرحلة المتوسطة (أو الإعدادية) من دراسته، وافتتن بآرائه. وقد بلغت هذه الفتنة حدّها الأعلى بأن سلامة موسى وكتابه «في الحياة والأدب» هما اللذان – لا هو – اختارا له الدراسة في القسم العلمي لا القسم الأدبي في مرحلة دراسته الثانوية، مع أنه نشأ نشأة أدبية!

يقول في قصته مع سلامة موسى: «وها أنذا في حارة شعبية أرقى أربعاً أو ثلاث عتبات نحو باب قديم متين، وتمتد اليد إلى الجرس، فيفتح الباب وتطل امرأة – لا شك في أنها أم البيت – ووراءها فتاة – لا شك في أنها البنت التي كان يحلم بها صديقي الذي كان صديقي – قالت السيدة المحترمة: يمكنك الالتقاء به في جمعية الشبان المسيحيين. فشكرتها وودعتها، ولكن العجب من هذا الكاتب الذي علمنا شيئاً، ويلتقي في المكان الذي لا يكون فيه! وتذكرت ما كان من أسماء أولاده: خوفو وخفرع (وربما ميكرع)... وما روي في غير مصلحته من أشياء أخرى تضعه في موضع المتناقض.

لا أدري كيف بلغت بيته... ولا أتذكر كيف وصلت إلى مقر الجمعية، ورأيته وجلست أحدّثه ومعي حماستي التي صحبتني من عراق 1947، ومن كتبه... وأفكاره... واندفع... ولكنه ليس معي... وحين ذكرت له أخباراً عن مكانته عند القارئ العراقي، وذيوع كراسه عن (الحرية)، بدا – على غير افتعال – وكأنه لا يعرف شيئاً عن هذه المكانة. وسأل: هل يجيز نوري السعيد بيع كتبي؟

ولم يطل اللقاء... لأن أهراماً شاهقة قد تهاوت من مخيلتي، ولم يكن سلامة موسى الذي إزائي سلامة موسى الذي ملأ ذهني. وافترقنا على غير سعي إلى اللقاء. وانتهى في النفس شيء اسمه سلامة موسى، فقد مات فيها سنة 1948 (وليس 1958 حين مات فعلاً عن إحدى وسبعين سنة)».

هذه القصة ذكرها علي جواد الطاهر في مقاله «حدود القراءة وآفاق المعرفة»، المنشور في جريدة «الجمهورية» ببغداد بتاريخ 25/10/1985، وأعاد نشره في كتابه «أساتذتي ومقالات أخرى» بعنوان مختلف، هو: «سلامة موسى».

وأوردت هذه القصة؛ لأنها تعبر عما قلته عن نوع علمانية سلامة موسى التي تلتبس على قارئ كتبه، مع إدراكي أن خيوط القصة مهلهلة...

يقول علي جواد الطاهر في مقاله المشار إليه: «وبلغ القاهرة، والحال متوترة، والنقراشي وفاروق في أعلى مراحل الشدة. بلغ وتهيأ له أن يقرأ كتاب (تربية سلامة موسى) في بلد سلامة موسى».

في هذا الكتاب تحدث سلامة موسى عن تجربته في جمعية الشبان المسيحيين، وتحدث كثيراً عن هذه الجمعية. فما العجب – بعد أن قرأ هذا الكتاب – أن يكون سلامة موسى في هذا المكان؟!

لماذا في اللحظة التي أخبرته زوجة سلامة موسى فيها أن زوجها في جمعية الشبان المسيحيين، تذكّر أن من أسماء أولاده: خوفو وخفرع؟!

فما الصلة بين جمعية مسيحية بروتستانتية وبين الأسماء الفرعونية؟!

سلامة موسى ذو اتجاه فرعوني، فما التناقض في أن يسمي بعض أولاده بأسماء فرعونية؟!

صدم سلامة موسى علي جواد الطاهر بأنه غير مكترث بأن له مكانة عند القارئ العراقي. وكان يجب عليه ألّا تصدمه هذه الحقيقة؛ فسلامة موسى مثقف قومي مصري إقليمي يخاطب القارئ المصري، ولا يعنيه أن يكون له قارئ في «الشام»، وفي «بغداد»، وفي «نجد»، وفي «اليمن»، وفي «تطوان»، مع أنه – والحق يقال – له تأثير «تنويري تبسيطي» لدى أجيال متتالية من القراء العرب في القرن الماضي. وهذه الحقيقة تنسف ادعاء الغزالي في ذلك المقال، بأن مريديه عصابة قليلة النفر من الأقباط.

هل هو – حقاً – مات سنة 1948 في وجدان وعقل علي جواد الطاهر لسبب وطني عرقي، قبل ميتته الفعلية سنة 1958؟

وهل صدق على جواد الطاهر في روايته التي قال فيها: «وافترقنا على غير سعي إلى اللقاء»؟

في مقال له عنوانه «في جامعة فؤاد – القاهرة شباط (فبراير) 1947 – حزيران (يونيو) 1948» نشره في مجلة «الرواد»، وأعاد نشره في كتابه «فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية»، كان قد قال: «وسلامة موسى ومقر مقابلاته: جمعية الشبان المسيحيين، قابلته وزاد إعجابي به، وهو الذي يعجبني منذ زمن بعيد».

فأيهما الناسخ، وأيهما المنسوخ في أحاديث ذكرياته المصرية؟

التناقض الواضح عند سلامة موسى أنه على علمانيته الصلدة والحادة كان يكتب في مطبوعة طائفية، هي جريدة «مصر»، وأكثر من هذا أنه تولى رئاسة تحريرها لمدة من الزمن.

هذا التناقض الواضح، كان قد أشار إليه الكاتب الماركسي القبطي أبو سيف يوسف الذي كان يكتب في مجلة «الفجر الجديد» الشيوعية ما بين عامي 1945 و1946، تحت اسم رأفت يوسف وأ. يوسف.

ففي أثناء حملة موسى على الإخوان المسلمين عام 1946، رد عليه بمقال عنوانه «لن نسمح باستغلال الدين للتفرقة بين أبناء الشعب».

وقال في هذا المقال عن جريدة «مصر»، إنها «تعالج المشاكل في نطاق طائفي، فتثير بذلك الحقد العنصري عند الأقباط. وسلامة موسى يهاجم الإخوان المسلمين في هذه الجريدة، فلا يحاول أن يعلو على مستواها، بل يكتب ويدور في حدود الطائفية... فهو لا ينقد الإخوان المسلمين على أساس قومي وطني، ولكن على أساس عنصري ديني».

الشيخ الغزالي يعلم أن سلامة موسى غير ملحد بالمسيحية، لكنه يتبع سياسة الإخوان المسلمين مع الأقباط في ذلك الوقت، وهي سياسة الاحتواء والمداراة من أجل ألّا يثيروا كثيراً من العواصف حول دعوتهم إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. ولينفوا عن أنفسهم قبلها تهمة التعصب الديني، وهي التهمة الموصومون بها هم و«الحزب الوطني» وحزب «مصر الفتاة» من قبل الأقباط ومن قبل قوى وطنية.

ومع حرص الإخوان المسلمين على هذه السياسة إلا أنهم يخرجون – أحياناً – عنها، فيكتبون مقالات فيها تعصب طائفي، تسبِّب غضب الأقباط وسخطهم عليهم.

نقد الشيخ محمد الغزالي الديني العنيف لسلامة موسى في ذلك المقال لم يكن له أثر يذكر في كتب الإسلاميين وفي مقالاتهم، مع أنهم كثيراً ما يقتبسون من كتبه ومن مقالاته الصحافية.

وقد يكون السبب في هذا أن كتابه «من هنا نعلم» الذي إلى عام 1954، طبع أربع طبعات، لم يطبعه الشيخ طبعة خامسة وسادسة وسابعة وثامنة... مثل باقي كتبه؛ فكتابه هذا يحضر اسمه في كتب الإسلاميين وفي مقالاتهم عند تطرقهم في الحديث لخالد محمد خالد وكتابه «من هنا نبدأ»، فيقولون: وتصدى له الشيخ محمد الغزالي بكتاب «من هنا نعلم»، ثم يذكرون أن خالد محمد خالد تراجع عما دعا إليه وعما قاله في كتاب «من هنا نبدأ» في كتاب ألّفه بعد سنوات طويلة، هو كتاب «الدولة في الإسلام». وهذه المعلومة يقدمونها بوصفها انتصاراً ثانياً لرد الغزالي في كتابه «من هنا نعلم».

فكتاب الشيخ محمد الغزالي «من هنا نعلم» يحضر اسمه عند الإسلاميين بطريقة تمجيدية واحتفائية بمضمونه الذي يدعون أنه رد علمي ملجم، وبعنوانه الذي يباهون بأنه عنوان الاعتدال في الردود والمناظرات. ويقدمون صورة ناقصة لموقفه الناقد للأزهر في تفكيره بسحب شهادة العالمية من خالد محمد خالد، للادعاء بأنه يتمتع بمناقبية أخلاقية عالية. وقد نجح الإخوان المسلمون بتسويقهم الدعائي للشيخ الغزالي، خطاباً ومواقف، بأنه رجل الاعتدال والتسامح والانفتاح على المخالفين والمختلفين معه. وهذه الصورة هي بخلاف ما هو عليه حقيقة.

بعد كتابة الشيخ محمد الغزالي عن سلامة موسى في ذلك المقال المكرس للهجوم الديني عليه، لم يخصه مرة أخرى بمقال ديني هجائي قدحي.

تناول الشيخ محمد الغزالي لويس عوض بالنقد الديني الطائفي مرة واحدة، وكانت هي المرة الأولى والأخيرة. ففي مجلة «الدوحة» كتب ثلاثة مقالات في موضوع متصل، وهو الدفاع عن محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وصد هجمات بعض الإسلاميين القادحة فيهما.

المقال الأول، عنوانه «وجهة نظر في أقدار الرجال: لماذا الهجوم على محمد عبده والأفغاني؟». نشر في مجلة «الدوحة»، بتاريخ 1 يوليو (تموز) 1983.

المقال الثاني، عنوانه «يا جمال الدين... لماذا يهاجمونك ويحقدون عليك إلى هذا الحد؟ مدرسة رائدة وإمام ضخم». نشر فيها بتاريخ 1 ديسمبر (كانون الأول) 1983.

المقال الثالث، عنوانه «متى تهدأ هذه الزوابع؟! هل كان الأفغاني ومحمد عبده خارجين عن الإسلام؟». نشر فيها بتاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 1984.

ففي مقاله الثاني قال: «وفي هذه الأيام المهزولة من تاريخنا العلمي والسياسي تتعرض سيرة جمال الدين الأفغاني لمطاعن شديدة من صنفين متباعدين جداً. فالدكتور لويس عوض يصب جام غضبه على الثائر الإسلامي الحر ويصفه بكل موبقة، فهو مغامر مجهول، كافر مجنون، مخاطر مغمور، زنديق مخبول، ملحد مأجور، أفّاق دسّاس دجّال متلوّن... إلخ».

أشار بعدها إلى أن أحمد بهجت وسامح كريم في «أهرام» 29-8-1983 كتبا تعليقات على طريقة لويس عوض في البحث والحكم، وأنهما «بيّنا أن الرجل كان يرجع إلى تقارير المخابرات الدولية، ويستقي من مصادر لا تعرف بالنزاهة والصدق».

وأشار إلى أن جابر قميحة «كتب مقالاً تحت عنوان (التزوير وأمانة الكلمة)، يكشف فيه أن الدكتور لويس في حديثه عن جمال الدين كان قاصر البحث غائب المنهج»، ثم قال هو عن لويس عوض: «والدكتور لويس عوض رجل واسع الاطلاع على الثقافة الغربية، شديد الولاء لأغراضها، وأعتقد أن كرهه لجمال الدين نابع من حبه لدينه واحترامه لدور أوروبا في احتلال الشرق الإسلامي، وتغييرها الواجب لعقله وضميره!

وقد نفّس عن كوامنه بالأسلوب الذي هاجم به جمال الدين! ومع أني لا أتوقع أن يقول الدكتور لويس كلمة طيبة في جمال الدين أو في محمود شاكر إلا أني فوجئت بهذا الضغن الشديد على زعيم من زعماء الإصلاح الإسلامي!

فلنترك التيار الصليبي ورجاله وطرائقه في النيل مِنّا! ولننظر إلى صنف آخر من الناس يحارب مجددي القرن الماضي، ويستميت في تجريحهم».

وبعد أن أنهى جولة مناقشته وردوده على آراء بعض الإسلاميين القادحة في شخص الأفغاني وفي سيرته وفي أفكاره، من دون أن يسمي أحداً منهم، ختم مقاله بقوله: «وقد تلاقى هذا البعض مع الدكتور لويس عوض في التهجم على جمال الدين الأفغاني.

والدكتور لويس يرى أن يعقوب حنّا الذي خان مصر وانضم إلى الجماعة الفرنسية هو زعيم قومي عظيم القدر (!) وأن جمال موقظ الشرق الإسلامي في العصر الحديث جاسوس ملحد (!)

وكما قلت، لا عجب في موقف الدكتور: وإنما العجب في موقف الذين تلاقوا معه في ضرب رجل الإسلام، والجنون فنون».

ويسعني أن أقول: إن تعرّض الشيخ محمد الغزالي للويس عوض بالنقد الديني الطائفي لم يكن بنيّة مجابهة دراسته «الإيراني الغامض في مصر»، بل الغرض منه كان التشنيع على الإسلاميين القادحين في جمال الدين الأفغاني بأنهم يلتقون مع لويس عوض – وهو من هو في سوء السمعة الثقافية والفكرية عندهم – في القدح بالأفغاني.

فالشيخ الغزالي كتب مقاله الأول في موضوعه المتصل في مجلة «الدوحة»، وكانت مجلة «التضامن» اللندنية التي كان يرأس تحريرها فؤاد مطر، ما تزال تنشر مقالات دراسة لويس عوض عن الأفغاني التي بدأت نشرها بتاريخ 16 أبريل (نيسان) 1983. وكتب مقاله الثاني في تلك المجلة الذي وظف فيه اسم لويس عوض ضد الإسلاميين القادحين في الأفغاني، بعد أن انتهت مجلة «التضامن» من نشر سلسلة مقالات لويس عوض الثمانية عشر عن الأفغاني بتاريخ 10 سبتمبر (أيلول) 1983.

إن الشيخ الغزالي لو كانت نيته مجابهة دراسة لويس عوض «الإيراني الغامض في مصر»، لقال بالعكس، وهو أن لويس عوض التقى أخيراً بالإسلاميين الذين يطعنون بتاريخ جمال الدين الأفغاني؛ ذلك لأنهم كانوا يطعنون بتاريخه وسيرته قبله بما ينوف على العشرين عاماً.

دراسة لويس عوض عن الأفغاني في الأصل كان قدمها لجريدة «الأهرام» التي يعمل بها، لنشرها، لكنها رفضت نشرها. فغضب لويس عوض من جريدته واستقال منها.

وقد أثارت مقالات الدراسة حين نشرها في مجلة «التضامن» وعند نشرها فيها ردوداً وتعليقات كثيرة في مصر وفي العالم رافضة لها، يصعب حصرها.

وما قاله الشيخ الغزالي عن لويس عوض في مقاله الثاني لم يكن له صدى في كتب الإسلاميين وفي مقالاتهم في عقد الثمانينات وأول التسعينات الميلادية؛ لأنه قاله ضمن موضوع لا يحظى رأيه فيه بالقبول لدى أغلبية الإسلاميين.

فالشيخ الغزالي كان ضمن فئة قليلة من الإسلاميين، رفضت قدح الإسلاميين الديني والسياسي بالأفغاني ومحمد عبده. فأهمل تيار الإسلاميين الديني والسياسي بالأفغاني ومحمد عبده. فأهمل تيار الإسلاميين العريض رأي هذه الفئة ولم يتعرضوا له حتى بالرد والمناقشة.

استشهد الشيخ محمد الغزالي في كتاب له صدر عام 1991، اسمه «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل» بكلام للويس عوض حول صلة العلمانية بالإسلام، من دون أن يثلب في الرجل ويقدح فيه.

فتحتَ عنوان «الحضارة لا تبنى بخصام الكون»، قال في كتابه: «ورجال محمد عندما بنوا لكتابه دولة، كانوا يسبحون في بحر الحياة، ويتعاملون بذكاء مع تياراته ومدّه وجزره، أو بتعبير الدكتور لويس عوض، كانوا علمانيين خبراء بالمادة والمجتمع وشؤون الحياة كلها.

سئل الدكتور لويس: هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ فأجاب: كلّا، وإذا كان الإسلام قديماً قد استطاع التغلب على بيزنطة؛ فلأنه كان ديناً علمانياً أكثر من الدين المسيحي في القرن السابع، وكان ديناً معنياً بأمور الحياة، كما كان معنياً بالغيبيات والروحانيات! على حين كان نظام بيزنطة روحانياً مغرقاً في الغيبيات، ثم قال الدكتور: ويبدو أن ما تحلم به الجماعات الإسلامية هو الإسلام البيزنطي!».

علّق الشيخ الغزالي على كلام لويس عوض، قائلاً: «ولست بصدد التعليق الموسع على كلام لويس عوض، وإنما يهمني الإشارة إلى أن التربية الإسلامية الصحيحة تقوم على فقه واسع في الحياة والأحياء، في الأرض والسماء، في كل ما يؤثر فينا ونؤثر فيه...».

الشيخ الغزالي استشهد بكلام لويس عوض الذي ينحو منحى تاريخياً في تحليل صلة التاريخ الإسلامي والتاريخ المسيحي بالعلمانية؛ لأنه استحسنه وأعجب به، ثم راح في تعليقه عليه يصوغه صياغة إسلامية إنشائية محدثة.

نأتي إلى ثالث الثلاثة المدنسين عند الإسلاميين، وهو غالي شكري.

وفق مراجعة سريعة، لم يتعرض الشيخ الغزالي لغالي شكري بذم إسلامي في كل كتبه وفي كل مقالاته. وللحديث بقية.

***

علي العميم - كاتب وصحافي سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الأحد - 10 شوال 1444 هـ - 30 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16224]

العنوان أعلاه ليس مزاحاً. فـ»أب الشعوب» كانت له مساهمته في علم اللغة أيضاً.

والحال أنّ القائد التوتاليتاريّ، الآتي من حزب يستند إلى فكرة، مدعوٌّ دائماً لأن يبدو مثقّفاً في الأفكار والكتب، وهو قد يكون كذلك فعلاً، علماً أنّ الحقيقة تلك تنزع السحر الذي تحاط به الثقافة أحياناً ولا تستحقّه دائماً. ذاك أنّ الكتب والأفكار تشكّل للعقائديّ مادّة لا تتوفّر للسياسيّ التقليديّ، كما لا يعيرها الأخير بالضرورة، ولفظيّاً على الأقلّ، أهميّة مماثلة. فتشرشل وكيسنجر وبريجنسكي وكرايسكي وسواهم كانوا أيضاً مثقّفين، إلاّ أنّ تبريرهم لسياساتهم لم يستند بالدرجة نفسها إلى مقدّمات فكريّة، بل إلى إنجازات فعليّة تُحسب بالوقائع والأرقام.

أمّا ستالين فأصدر، في 1950، «الماركسيّة ومسائل اللغويّات»، وهو الكتيّب الذي عدّه شيوعيّون وماركسيّون كثيرون أفضل ما كتبه. لكنّ مادحي هذا العمل، ممّن لم يكن الخوف وراء مديحهم، كانوا كمن يناقشون في الخلّيّة المغلقة نقاشاً يراه سواهم سخيفاً أو بديهيّاً: فالأحزاب الإيديولوجيّة تفرض نظريّة يراد تحويلها إلى معتقد شبه دينيّ، فإذا أعاد أحدهم النظر فيها، استجابةً لظروف تتطلّب إعادة نظر، عُدّ كلامه العاديّ جدّاً باهراً يلامس العبقريّة.

كتيّب ستالين بدأ مقالةً طويلة نشرتها صحيفة «برافدا»، وقيل أنّه كتبها وأعدّها قبل سنوات على ثورة 1917، ثمّ أضيفت إليها الأسئلة التي زُعم أنّ الرفاق طرحوها عليه وأجوبته عنها.

وكانت «برافدا»، وبمباركة ستالين طبعاً، قد افتتحت مناقشة المسألة اللغويّة، في الاتّحاد السوفياتيّ متعدّد اللغات، كما في النظريّة الماركسيّة، عبر مقالات مهّدت لمقالة ستالين التي غدت كتاباً.

يستعير الكاتب، في البداية، تواضعاً يعلن معه نقص خبرته في اللغويّات، لكنّه يعلن أيضاً تضلّعه في موقف الماركسيّة منها. ومعروف أنّ الأخيرة تقصّر المسافات بين المعارف وتتيح إصدار الفتاوى فيها شريطة التقيّد بحذافيرها كمرجعيّة شبه دينيّة. وبدون أن تخلو مساهمة ستالين من آراء في قواعد اللغة ونظامها، يؤكّد أنّ اللغة لا تنتمي إلى «البنية الفوقيّة» (الدولة والسياسة والقانون والثقافة...) التي تنبثق، ماركسيّاً، من العلاقات الاقتصاديّة أو «البنية التحتيّة»، وأنّها بالتالي لا تعكس مصالح الطبقة الحاكمة ولا تحميها، بل يمكن للجميع استخدامها بمعزل عن طبقاتهم تسهيلاً للتواصل بينهم. فإذا كانت البنية الفوقيّة نتاج عصر ونمط إنتاج بعينهما، فاللغة نتاج عصور كثيرة كما تتعايش مع أنماط إنتاج عدّة.

فالأحداث التاريخيّة الكبرى، كالثورة البلشفيّة، تضيف إلى اللغة مفردات «مرتبطة بصعود إنتاج اشتراكيّ جديد»، كما تتساقط معها كلمات فقدت راهنيّتها، لكنْ لا هذا ولا ذاك يغيّرانها على نحو ملحوظ لأنّها ليست صنيع طبقة بل نتاج طبقات المجتمع كلّها، تماماً كما قد تخدمها كلّها.

ويكرّر ستالين حججاً أخرى لتوكيد الفكرة ذاتها، فيشرح ما قصده فريدريك إنغلز حين تحدّث عن اختلاف اللهجات (لا اللغات) على أساس طبقيّ في بريطانيا، وما قصده صهر ماركس والشيوعيّ الفرنسيّ بول لافارغ بحديثه عن اللغة الفرنسيّة قبل الثورة وبعدها، وما قصده لينين بكلامه عن وجود ثقافتين طبقيّتين في ظلّ الرأسماليّة إلخ... نافياً، في الحالات جميعاً، أن يكون المقصود انتقالاً من لغة إلى أخرى، أو انفصالاً «طبقيّاً» داخل اللغة ذاتها.

لكنّ الشرّير في رواية ستالين هو اللغويّ نيكولاي ياكوفليفيتش مار، خبير اللغات القوقازيّة، الذي توفّي قبل 16 عاماً على صدور الكتيّب الستالينيّ. فمار أدخل على اللغويّات معادلة «غير صائبة وغير ماركسيّة» عبر توكيده «الطابع الطبقيّ» للّغة، فخرّب اللغويّات السوفياتيّة بما يناقض تاريخ الشعوب واللغات كلّها.

ومار كان قد عُرف أصلاً بنظريّته التي سُمّيت «اليافثيّة» (نسبة ليافث أحد أبناء نوح)، ومفادها أنّ لغات القوقاز تتّصل باللغات الساميّة للشرق الأوسط، وأنّها انتشرت على امتداد أوروبا قبل وفادة اللغات الإندو-أوروبيّة إليها.

وهي نظريّة صيغت قبل ثورة 1917، فحين حلّت الثورة أيّدها مار بحماسة وتطوّع لخدمة نظامها. هكذا خلط نظريّته الأصليّة بالماركسيّة وبالصراع الطبقيّ، مجادلاً بأنّ المستويات اللغويّة المتعدّدة إنّما تحاكي طبقات اجتماعيّة مختلفة وتتجاوب معها. فالبورجوازيّة البريطانيّة مثلاً تتحدّث بإنكليزيّة أقرب إلى الفرنسيّة التي تتحدّث بها البورجوازيّة الفرنسيّة ممّا إلى الإنكليزيّة التي تتحدّث بها الطبقة العاملة في إنكلترا. أمّا أن تكون وحدة اللغة عنصر توحيد للشعب الذي يتكلّمها فهذا، عنده، مجرّد وعي زائف أنجبته القوميّة البورجوازيّة. كذلك ادّعى مار أنّ اللغات الحديثة تميل، مع قيام المجتمع الشيوعيّ، لأن تندمج في لغة واحدة، مستنداً إلى الحملة التي شُنّت في روسيا العشرينات والثلاثينات لإبدال الأبجديّة السيريليّة بالأبجديّات اللاتينيّة، ومن ثمّ إبدال أنظمة الكتابة التقليديّة للغات الاتّحاد السوفياتيّ بأنظمة تستخدم الكتابة اللاتينيّة، أو خلق أنظمة تستند إلى الكتابة اللاتينيّة للغات السوفياتيّة التي كانت حتّى ذاك الحين لا تتمتّع بنظام كتابيّ.

وكانت هذه الميول إلى الليْتَنة (Latinisation)، وهي تعود قروناً قليلة إلى الوراء، جزءاً من النزعة المتأوْرِبة لدى بعض الانتلجنسيا الروسيّة، ورثها عنهم البلاشفة في طورهم الأوّل السابق على الصعود الستالينيّ بمضامينه الآسيويّة والشرقيّة.

وبالفعل باتت نظريّة مار النظريّة الرسميّة المعتمدة في روسيا بوصفها تمثّل «العلم البروليتاريّ» ضدّاً على «العلم البورجوازيّ». هكذا كُلّف صاحبها، ما بين 1926 و1930، بإدارة المكتبة الوطنيّة لروسيا، كما بقي حتّى وفاته في 1934على رأس المعهد اليافثيّ التابع لأكاديميا العلوم.

ولئن ظهر من أشار إلى أنّ أرنولد شيكوبافا، اللغويّ الذي عُرف بشدّة معارضته لمار ولنظريّاته، هو الذي أوحى لستالين بأفكار كُتيّبه، إن لم يكن هو نفسه من كتبه، يبقى أنّ المداخلة التي حملت توقيع الزعيم أدّت إلى دفن نظريّة مار، بحيث بدأ اللغويّون الروس يؤكّدون على أولويّة اللغة الروسيّة وعلى ضرورة أن تنصبّ الأبحاث عليها.

فالقواسم المشتركة مع العالم اللاتينيّ لم تعد مرغوبة، فيما بات صَهر السوفيات من غير الروس في اللغة والثقافة الروسيّتين هو المطلوب. أمّا إحكام قبضة ستالين على الحياة، بما فيها اللغة، فتفكّ باقي اللغز الذي توسّلَ الثقافة والأفكار ليجعل من ستالين عالماً لغويّاً.

***

حازم صاغية

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأحد - 3 شوال 1444 هـ - 23 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16217]

فجأة، أصبح الأمر كما لو أننا واجهنا كائنات جديدة تماماً على شاشات هواتفنا الذكية وجهاً لوجه.

على مدى الأشهر القليلة الماضية، تدفقت أحاديث الذكاء الصناعي إلى وسائل الإعلام الاجتماعية في أميركا، وإلى حد ما، كوابيسها الجديدة، مع النص تلو الآخر، مما أثار شكلاً جماعياً و«ألفيّاً» مما وصفه ناقد القرن التاسع عشر جون روسكين على نحو لا ينسى بالمغالطة المثيرة للشفقة - أو الميل الإنساني للغاية إلى إسقاط هذه السمات التي نراها سمات أساسية للبشرية على الكائنات غير البشرية. مع «شات جي بي تي» و«بينغ شات»، نحن لا نكتفي بإبراز العمق، أو الشفقة، أو الحياة الداخلية، ونحن نتوسل إليهم لأجل «سرد غزو العراق بكلمات غنائية مناسبة لأميرة ديزني»، أو «شرح لفتى في الرابعة من عمره لماذا صُنع قناع الموت للملك توت عنخ آمون لامرأة»، نحن نقرأ ذعرنا الوجودي الخاص في ردود الروبوتات، ونراها بصورة أقل كحيوانات أليفة مثل العديد من وحوش فرانكنشتاين، حتى عندما يتبعون أوامرنا بكل بساطة.

ما مدى خطورة روبوتات الدردشة؟ إنها لا تزال ترتكب الأخطاء الأساسية بصورة روتينية لدرجة أنه من المبهم، ومما لا جدوى منه، الإشارة إليها بأنها مجرد «هلاوس»، كما يميل إلى ذلك مهندسو التعلم الآلي والذكاء الصناعي.

(هل كانت جرعات الذكاء الصناعي صغيرة للغاية أو ربما مخطئة عندما اقترحت أن ليبرون جيمس كانت لديه فرصة جيدة جداً للفوز بجائزة أفضل لاعب في الدوري الأميركي للمحترفين هذا العام؟) إنها عُرضة إلى التضليل، ومنحازة بطرق تقليدية للغاية وإن كانت مزعجة. بعضها مُدرب على قواعد البيانات التي لا تصل إلى يومنا هذا، بحيث إن أي أسئلة حول الأحداث الأخيرة (مثل انهيار بنك وادي السيليكون) من المرجح أن تولد إجابات غير مجدية أو عكسية، مما يجعل من «حالة الاستخدام» الرائدة اليوم لهذه الأدوات، كصورة من صور البحث على الإنترنت، عسيرة الفهم بعض الشيء.

لكن الذكاء الصناعي يُظهر أيضاً بعض التقدم المثير للحيرة بوضوح، ليس فقط في المهام الملموسة، وإنما في تلك المثيرة للأعصاب أيضاً: روبوت الدردشة الذي يستعين بموظف بشري من بوابة «تاسك رابيت»، أو حل كلمة التحقق الآلية، وروبوت آخر يكتب كوداً بلغة برمجة «بايثون» الخاصة به لتمكين «هروبه». هذه ليست أمثلة على استقلالية الروبوت بقدر ما هي انعكاسات لحالة القلق الراهنة - في كل حالة، دُفعت الروبوتات من قبل المراقبين البشر لاختبار حواجز الحماية - ومع ذلك لا يزالون قلقين، في مؤشرات بأن شيئاً غريباً ومزعجاً يحدث الآن.

تتقدم التكنولوجيا بسرعة فائقة، حتى إنه قد يبدو من قبيل الغرور، الاعتقاد بأننا ندرك بالحقيقة ماذا نفعل في خضم ذلك كله. لكن العديد من أولئك الذين قضوا العقد الماضي غارقين في التعلم الآلي يعتقدون أنهم يعرفون، في الواقع، وبأننا بحاجة إلى التفكير بعبارات مزرية للغاية.

من الشائع أن نسمع دعوات ثورة الذكاء الصناعي كحدث مهم مثل وصول الإنترنت، لكن التحضير لزلزال ثقافي مثل الإنترنت شيء، والتحضير لما يعادل الحرب النووية شيء مختلف تماماً. وهو أمر لافت للنظر بصفة خاصة، نظراً للطوباوية المنتشرة بين مهندسي الإنترنت الأصليين، فما مدى البؤس الذي يستشعره أولئك الذين يدخلون المرحلة التالية بشأن العالم الذي يعتقدون أنهم يتكاثرون فيه.

كتب عالم الأعصاب إريك هويل في نظرة تأملية واسعة الانتشار حول الحالة الراهنة تحت عنوان فرعي: «الذكاء الصناعي لدى مايكروسوفت ينذر في الواقع بتهديد عالمي كبير»، يقول: «في المرة الأخيرة كان لدينا منافسون من حيث الذكاء، وهم أبناء عمومة الجنس البشري، مثل الإنسان البدائي (نياندرتال)، والإنسان المنتصب، وإنسان فلوريس أو (الإنسان القزم)، وإنسان دينيسوفا، وغيرهم الكثير». وتابع الدكتور هويل: «لنكن واقعيين: بعد القليل من التزاوج، من المحتمل أننا قتلنا الكثير».

صرخات القلق الأكثر صراحة يتردد صداها عبر الإنترنت منذ شهور، بما في ذلك من إليعازر يودكوسكي، الأب الروحي لوجودية الذكاء الصناعي، والذي أخذ مؤخراً كل ما يمكن أن نسميه «عكس مسار النصر» يأساً من التقدم الذي أحرزه الذكاء الصناعي، والفشل في إقامة حواجز حقيقية في وجه تقدمه المريع. أخبر يودكوسكي اثنين ممن أجروا المقابلات معه أننا قد نكون على أعتاب إنجازات عظيمة في الذكاء الصناعي الخارق، إلا أن الفرص التي سوف نحظى بها لمراقبة هذه الإنجازات ضئيلة للغاية؛ «لأننا سنموت جميعاً». ونصيحته، بالنظر إلى مدى استحالة تصديقه لخروج الذكاء الصناعي بأي نتائج جيدة على الإطلاق، كانت: «الانطلاق للقتال بكرامة».

حتى سام ألتمان، الرئيس التنفيذي اللطيف لشركة «أوبن إيه آي»، الشركة التي تقف وراء أكثر روبوتات الدردشة الجديدة إثارة للإعجاب، قد تعهد علناً «بالعمل وكأن هذه المخاطر وجودية»، وأشار إلى أن يودكوسكي قد يستحق جائزة «نوبل» للسلام لدقه ناقوس الخطر بشأن تلك المخاطر. كما كتب مؤخراً أن «الذكاء الصناعي سوف يكون أعظم قوة للتمكين الاقتصادي، وكثير من الناس سوف يصبحون أثرياء بصورة أكبر مما قد رأيناها في أي وقت مضى»، ثم قال مازحاً عام 2015: «سوف يؤدي الذكاء الصناعي على الأرجح إلى نهاية العالم، لكن في الوقت نفسه، سوف تكون هناك شركات عظيمة!».

بعد عام واحد، وفي موضوع لمجلة «نيويوركر»، كان ألتمان أقل سخرية في الحديث عن مدى بؤس نظرته للعالم. وأقر قائلاً: «أنا أعد العدة للبقاء على قيد الحياة؛ بمعنى مواجهة احتمالات مثل الحشرات العملاقة المصممة مختبرياً، والحرب النووية، والذكاء الصناعي الذي يهاجمنا. وقال: «مشكلتي أنه عندما يسكر رفاقي فإنهم يتحدثون عن الطرق التي سوف ينتهى بها العالم، أحاول ألا أفكر في ذلك كثيراً، لكنني أملك أسلحة، وذهباً، ويوديد البوتاسيوم، ومضادات حيوية، وبطاريات، ومياهاً، وأقنعة واقية من الغاز، وبقعة كبيرة من الأرض في «بيغ سور» بولاية كاليفورنيا يمكنني الطيران إليها».

قد لا تكون هذه وجهة نظر عالمية بين العاملين في مجال الذكاء الصناعي، لكنها أيضاً ليست وجهة نظر غير شائعة. في أحد الاستطلاعات عام 2022 التي استشهد بها كثيراً، سُئل خبراء الذكاء الصناعي: «ما هو الاحتمال الذي تضعونه على عدم قدرة الإنسان التحكم في أنظمة الذكاء الصناعي المتطورة المستقبلية، التي تسبب انقراض البشر أو على نحو مماثل الحرمان الدائم والشديد من تمكين الجنس البشري؟». وكان متوسط التقديرات يبلغ 10 في المائة، واحدة من 10 فرص. وقد صنَّفت نصفُ الاستجابات الفرصَ بأنها أعلى من ذلك.

وفى استطلاع آخر، قال نحو ثلث الذين يعملون بنشاط في التعلم الآلي إنهم يعتقدون أن الذكاء الصناعي سوف يجعل العالم أسوأ. ووصف زميلي عزرا كلاين مؤخراً هذه النتائج بأنها محيرة للغاية: فلماذا إذن تختارون العمل على تطوير الذكاء الصناعي؟

***

ديفيد والاس ويلز - خدمة «نيويورك تايمز»

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الاثنين - 4 شوال 1444 هـ - 24 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16218]

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

يُؤَكِّد كثيرٌ من الباحثين في سوسيولوجيا الأديان أن الإيمان الديني يُقَدِّم وَعْداً طُوباويا بالخلاص الأخروي/ نعيمِ العالمِ الآخر؛ بحيث يجعل من الألم والمعاناة والشقاء في هذا العالم الدنيوي عذابا مُحْتَملا. فالإنسان المؤمن لا يرى هذه الحياة الدنيا كلَّ الحياة، لا يراها البداية والنهاية، بل يراها جزءا ضئيلا عابرا في حياة سرمدية، يراها شوطا واحدا من ملايين الأشواط، يراها لحظة من أزمنة الأبدية المكتوبة على الجبين.

ماذا يعني كل هذا للإنسان المؤمن؟

يعني أن كل ما يحدث في هذه الحياة من رخاء أو شقاء، هو ـ رغم حقيقته ـ مجرد وَهْمٍ أو هو أشْبُه بالوهم. وفي هذا عزاء؛ وأي عزاء!

ثم هو يعني ـ بالضرورة ـ أن الفردوس المنتظر لن يكون على هذه الأرض، وأن الجحيم الحقيقي كذلك، كلاهما في السماء؛ لا في الأرض؛ مهما انفتحت آلام المُعَذَّبين ـ بالفقر وبالجوع وبالجهل وبالاضطهاد وبالاستعباد ـ على الجحيم. ولا ضير حينئذٍ؛ أن يُحْتَمَل هذا الجحيمُ الدنيوي العابرُ، الهامشي التافه؛ من أجل الفردوس الخالد في السماء.

هذه هي الطوباوية الدينية/ السماوية باختصار. وعلى الضفة الأخرى المقابلة لها ثمة طوباوية أخرى، طوباوية دنيوية/ علمانية/ أرضية؛ ترى أن هذه الحياة هي الحياة استغراقا؛ وليس ثمة ما وراءها. ما يعني أن الشقاء في هذه الحياة هو شقاء كامل وشامل، شقاء حتى آخر رمق، شقاء بلا تعويض، بلا أمل ينتشل الروح من عذابات الجسد التي تفتك بالروح أيضا. كما أن ما يستطيع الإنسان أخذه من هذه الحياة على سبيل الاستمتاع والظفر بأكبر قدر من الرخاء الممكن، هو النعيم حقا، هو النعيم المتحقق على سبيل اليقين وعلى سبيل الاستغراق، هو الفردوس الموعود في الحاضر الموجود. ومِنْ ثَمَّ، فَمَنْ لم يَظفر بحظ من النعيم والرخاء في هذه الدنيا؛ فهو إنسان العذاب والآلام الذي سيخرج من هذه الحياة خاسرا، إذ لا تُوجَد أشواطٌ أخرى قابلة للاستئناف، لا تُوجَد فرصةٌ أخرى ولو على سبيل التخيّل الذي يمنح الأشقياء وَهْمَ عزاء.

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين، وكثير من الساسة أيضا. ومنذ ظهور الأنبياء والتّطلّع إلى الفردوس السماوي يذهب بالمؤمنين مذاهبَ شتّى؛ من الرهبنة والانعزال، إلى التبشير والجهاد ومحاولة فرض عقائد الإيمان على الآخرين. وبين هؤلاء (= المؤمنين بالفردوس السماوي) وأولئك (= المؤمنين بالفردوس الأرضي) يقع الإجماع ـ وجدانيا وفكريا ـ على عدم الرضا بالواقع الدنيوي، وتقرير أنه واقع بائس يجب الخروج منه ولو بأعظم التضحيات.

أي هذين الفِردَوسَين له حظ من الواقع؟ أيهما تَحقّق؟ وإلى أي مدى تحقّق؟ وبأي ثمن؟

واضح أن تقييم تحقق الفردوس السماوي مستحيل. هو في "عالم الغيب"؛ ولا نافذة له عبر "عالم الشهادة" على سبيل الاختبار الإمبيريقي/ التجريبي. ولكن ـ وهو السؤال المحوري هنا ـ هل يفصل المؤمنون حقا بين هذين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة؟ ومِن ثَمَّ؛ هل الوَعْد بفردوس سماوي/ أخروي يستنفد أيَّ وَعْدٍ آخر خارج عالمه؟ أي هل مثل هذا الوعد يكون ـ بالضرورة ـ على حساب أي وعد آخر؟

بلا شك، مذاهب الرهبنة الكاملة تقول بالفصل وبالتمايز التناقضي القاضي بأن من يتغيّا فردوسَ الدنيا/ الأرضي؛ فليس له حظ في فردوس الآخرة/ السماوي، والعكس صحيح، فمن يتغيّا فردوس السماء، فلا حظ له في فردوس الأرض. ولكن، حتى في مثل هذه الحال؛ أليس استهداف فردوس السماء يكون بعمل راهن على هذه الأرض؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي العمل على هذه الأرض يصنع فردوس السماء، فما طبيعة هذا العمل؟ أليس ـ في أقل أحواله وأكثرها سلبية دنيوية ـ ترشيدا للسلوك الإنساني بما يعود بالخير على الجميع؟ أليس هذا الترشيد ـ في حال واقعيته والإخلاص له ـ يصنع ملامحَ فردوس أرضي، أو ـ على الأقل ـ يُقَلّل من حجم الجحيم الأرضي الذي يبلغ أقصى مداه في عدوان الإنسان على أخيه الإنسان؟

هذا في حال مذاهب الرهبنة التي يتضح أنها لا بد أن تصل بين فردوس الأرض وفردوس السماء؛ من حيث طبيعة التدين الخالص ذاته؛ رغم تأكيدها على الفصل. أما المذاهب الأخرى، بما فيها معظم مذاهب الإسلام، فهي تشتغل على الراهن الدنيوي/ الفردوس الأرضي؛ في الوقت نفسه الذي تشتغل فيه على فردوس السماء. بل أكثر من ذلك، هي تشترط الفردوسين ببعضهما، فلا سبيل إلى الفردوس الأرضي (مهما عَمَّ الرخاء المادي والاطمئنان المعنوي) إلا بالعمل وفق شروط فردوس السماء. وطبعا، لا سبيل إلى فردوس السماء؛ إلا عبر فردوس الأرض، أي أن يعيش المؤمن "نعيم الإيمان" على هذه الأرض، وهو النعيم الحق؛ رغم كل ما يعانيه من بؤس وآلام.

في التراث الإسلامي تتردد على ألسنة العُبّاد المُتَزهّدين مقولة: "ثمة جنة في هذه الدنيا، مَن لم يدخلها لن يدخل جنةَ الآخرة"، ويقصدون أن ثمة سعادة هائلة بالإيمان، لا تتحقق إلا للمؤمن الحق، وتزدهر مفاعيلها بأعماله الصالحة التي تعود بالخير عليه وعلى مجتمعه. وهذه السعادة الهائلة لا بد وأن تغمر كل أنواع الشقاء الدنيوي المعاش، فلا يشعر المؤمن معها بأي شقاء، أي يعيش فردوس الأرض الذي هو ـ وفق هذه الرؤية ـ شرط الظفر بفردوس السماء.

في الإصلاح الديني البروتستانتي، الكالفيني خاصة، جرى الربط بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة. فبعد أن كان الاشتغال بالنجاح الدنيوي رذيلة؛ على اعتبار أنه انصراف عن العمل للآخرة، أصبح ـ وفق هذا الإصلاح ـ فضيلة؛ على اعتبار أن التوفيق/ النجاح في هذه الدنيا دليل على التوفيق/ النجاح في الآخرة، أي أن القادر على تحقيق ملامح فردوس أرضي آني، هو المستحق ـ بصورة أولية ـ لفردوس السماء.

في اعتقادي أن هذا الربط البروتستانتي/ التّطهّري بين الفردوسين: فردوس الأرض وفردوس السماء (وثمة ملامح مشابهة له في الفكر الإسلامي) هو الذي خَفَّف حدة التناقض بين الفردوسين عبر التاريخ. وهو بذاته الذي يقضي بأن ليس ثمة مسارات دينية خالصة؛ كما أن ليس ثمة مسارات علمانية خالصة؛ إذ ما أريد للديني وللعلماني أن يعملا حقا ـ كُلٌّ بطريقته ـ على اجتراح مسارات تستهدف انتشال الإنسان من جحيم الحياة: من جحيم الشقاء الإنساني الملازِم.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 20 فبراير 2023 

قبل أيام، أعيد طرح معنى «العلمانية الجزئية»، وهو معنى طرحه عبد الوهاب المسيري بإزاء «العلمانية الشاملة»، وهو طرح منقوص، وقد كتب ضده الصديق حمد الراشد كتاباً كاملاً بعنوان «دفاع عن العلمانية ضد المسيري»، وهو في غاية المحاججة العلمية الرصينة.

لقد شكّل استصحاب إرث مفهوم العلمانية في القرون التالية للحروب الأهلية الأوروبية، عائقاً أمام فهم البعض لجدوى الاستخدام، وآية ذلك أن إلصاق تاريخ المسيحية بالمفهوم استعمل على المستويين «الآيديولوجي الأصولي» و«الأكاديمي الفكري»، وكل ذلك يعبر عن قراءة مدرسية للمفهوم، بعيداً عن التطوّر الذي شهده من خلال تعدد التطبيقات للمفهوم عبر نماذج دول كثيرة بالشرق والغرب.

يستظهر البعض جملة: «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وذلك من أجل وضع العلمنة بإزاء الدين بما يشبه «النقض»، وهذا يعزز من حجج التيارات الرجعية المناوئة للدولة المتجددة الطامحة لاستخدام أنجح المفاهيم وأقدرها على ضبط التفاوت الاجتماعي والصراعات الطائفية والاختلافات العرقية، ولولا العلمانية لكانت المجازر والدماء تملأ هذا العالم.

من بين من وقع في فخ مرادفة «العلمانية» بـ«الدين»، مفكر مرموق مثل محمد عابد الجابري، وذلك في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وقد ناقش طرحه هذا جورج طرابيشي في كتابه: «هرطقات»، وقد شنّ طرابيشي هجوماً مبرراً على طرح الجابري الذي يمكن التذكير به؛ فهو يطرح «الديمقراطية» بديلاً عن «العلمانية»، ويشرح رأيه قائلاً: «في رأيي أن من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي... إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة؛ بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات»، ثم يضيف تعبيراً عجيباً عن «العقلانية السياسية»؛ إذ يقول: «الديمقراطية تعني حفظ الحقوق؛ حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».

ما ذكره الجابري عن وظيفة «العقلانية السياسية» هو ذاته وظيفة «العلمانية»، لكنه يهرب منها؛ لسببين اثنين، الأول: إقناع المجتمعات بالعقلانية السياسية (التي تقوم بوظيفة العلمانية نفسها)، لتحرير المعنى من الإرث الديني المعادي للقيم التي تنتجها العلمانية، والذهاب إلى مصطلح آخر يُطمئن جموع المسلمين بأن العلمانية لا ضرورة لها، وإنما الأولوية للعقلانية، وذلك انطلاقاً من اعتقاد الجابري بأن العلمانية في المجتمعات العربية مَن نشرها هم «مسيحيو الشام»، وبالتالي لا حاجة للمسلمين بمفهوم يروِّج له المثقفون المسيحيون. السبب الثاني: يلخّصه بقوله: «عبارة (فصل الدين عن الدولة) عبارة غير مستساغة إطلاقاً في مجتمع إسلامي؛ لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة». وهنا يشترك الجابري مع الاعتراض الراديكالي على مفهوم العلمنة، ويأخذ الفهم السطحي للعلمانية باعتباره القول النهائي. يخشى الجابري من «فصل الدين عن الدولة» لاعتباره مما يخدش المفهوم السياسي الإسلامي وأدوات «تطبيق الشريعة».

لكن الفهم الذي اعتمده الجابري من أجل نقض مفهوم العلمانية، في غاية النقص؛ إذ تطوّرت استعمالات المفهوم، وتحرَّر تدريجياً من الإرث المسيحي الديني، ولم يعد مجرد «فصل» سطحي بين الدين والدولة، بل تشكّلت العلمانية بوجوه جديدة ومتعددة مع نمو وتطوّر النظريات الفلسفية السياسية المتجاوزة لكلاسيكيات العقد الاجتماعي (من روسو إلى كانط)، وبالتحديد مع النقلة الكبرى التي ساهم بها جون راولز في أبحاثه عن العدالة المنصفة، التي تُعدّ زلزالاً في مفهوم العقد الاجتماعي، وتطويراً لتصوّرات وظيفة الدولة، وتُعدّ من أفصح النظريات الواقعية التي تحاول إيجاد الميزان السياسي (البعد الأخلاقي ليس جوهرياً) لضبط حالات التفاوت وتحديد مفهوم الإنصاف بين الفرد والدولة والآخر، لكن الأستاذ الجابري أخذ العلمانية كما يفهمها الناس، ثم نقض ما يفهمه الناس عنها.

إن الحشو الآيديولوجي للمفهوم اجتاح حتى بعض المفكرين، متناسين أن العلمانية مفهوم حي يكبر مثل الناس، ويتطوّر وتتعدد استخداماته وتتنوع تطبيقاته، وأثبتت تجارب كبرى أن علمنة الدولة لم تقضِ على الأسس الثقافية ولم تعادِ الدين؛ بل إن انتعاش الأديان لا يكون إلا من خلال العلمانية، وذلك لأمرين اثنين؛ أولهما: أن العلمانية تؤسس للتضابط بين مجموع الأديان، بحيث يتم إنصاف الديانات وأتباعها ضمن القوانين المتبَعة، كما هي الحال في العلمانية الهندية بكل التعددية الدينية واللغوية والعرقية والكثافة السكانية؛ إذ أسهمت العلمانية في حماية المسلمين، ولولاها لتمَّ سحق المسلمين على يد المتطرفين الهندوس. الثاني: أن العلمنة ليست آيديولوجيا؛ بل هي فضاء عام، ولا تخلق واقعاً جديداً؛ بل تبوّب الاختلافات بين الجموع وتعمل على تبيئة المجال الديني للفرد بما يجعل التدين أكثر تهذيباً وأشد تأنقاً.

في آخر المطاف؛ إن الجلبة والهستيريا تجاه المفهوم إنما تعكس الجهل بتطوره وتحولاته وعثراته أيضاً، ولكن من دون العلمانية يستحيل تأسيس دولة مدنية، هذه معادلة بسيطة لكل قارئ في تاريخ الشعوب والنظريات السياسية وتجارب الدول والأمم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الخميس - 29 شهر رمضان 1444 هـ - 20 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16214]

 

كان عالم الاجتماع الفرنسي «أوليفيه روا» قد نبَّه في دراساته الأولى حول ظاهرة الغلو والتشدد في الديانات العالمية الكبرى إلى العلاقة العضوية بين التطرف الديني والانسلاخ من التراث الثقافي ومن التقليد التأويلي، بحيث إن الجماعات المتشددة تدّعي وهماً العلاقةَ المباشرةَ بالنص دون توسط، وتلغي كل السياقات التفسيرية والتنزيلية للنص في الواقع والتاريخ.

وفي كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «تسطيح العالم.. أزمة الثقافة وهيمنة المعايير»، يذهب «روا» إلى أن ما نشهده راهناً في مختلف المجتمعات والبلدان هو انهيار مفهوم «الثقافة» نفسه الذي هو الأرضية العميقة للحمة الاجتماعية.

ما يعنيه «روا» بالثقافة هنا هو معناها الأنثروبولوجي المحوري، أي مجموع السلوكيات والنظم القيمية والمؤسسية التي تحدد طبيعةَ مجتمع ما وتميزه عن غيره. فما نشهده راهناً ليس قيام ثقافة كونية جديدة أو بروز أوضاع تثاقفية على أنقاض ثقافات مهزومة أو متجاوزة، كما يحدث كثيراً في التاريخ، وإنما انهيار الثقافة نفسها الذي هو أخطر وأبعد شأواً من انحسار الأيديولوجيات الذي كثر الحديث عنه في نهاية القرن العشرين.

ولئن كان روا قد استخدم مقولةَ «أزمة الثقافة» التي هي عنوان أحد كتب «حنة أرندت»، فإنه ذهب أبعد من أطروحة الفيلسوفة المذكورة في نقدها للانتقال من ثقافة السؤال والتصور إلى ثقافة الدعاية والتعبئة. ما يقصده روا هو أن العالَم شهد في العقود الأخيرة ظواهرَ ثلاث متداخلة هي: التفسخ الثقافي الكامل، والترميز التواصلي، والتقنين المعياري.

ولقد ارتبطت هذه الظواهر بمسارات كبرى هي: الحركة النيوليبرالية التي حولت مختلفَ أوجه الوجود الإنساني إلى سلع تجارية، والنزعة الفردية الجذرية التي نقلت الإنسان من ذاتية الوعي العقلاني إلى ذاتية الرغبة الموغلة في الخصوصية الضيقة، والصناعات التقنية الكبرى التي تقوم على مبدأ الرقمنة الشاملة للوجود البشري.وكما أن الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي تحولت إلى مجرد دوائر ثقافية مغلقة متجاورة لا رابط بينها، وإن كانت تتغذى من نفس المتجر الثقافي الكوني دون تمحيص عقلي أو برهاني، فإن التواصل بين البشر أصبح موضوع ترميز تقني شكلي يستخدم الإشارات البصرية ويستعمل اللغة في حدودها الضيقة.

ومن هنا يتوجب التوسع في وضع قواعد التبادل والتواصل وفق معايير الخصوصية وحقوق التميز الفردي. إن النتيجة الكبرى لهذه التحولات هي، حسب روا، تحلل النظم الاجتماعية التي تعاني في كل الدول الصناعية المتقدمة من أزمة عميقة، تبرز في انهيار المؤسسات العمومية وطغيان النزعات الشعبوية المدافعة عن الهويات الخصوصية المغلقة التي هي النقيض الموضوعي لأفكار الكونية والعقلانية والذاتية التي قامت عليها الحداثة الغربية.

وإذا كانت بعض الأقلام تحدثت سابقاً عن مسار «الخروج من الدين» في الغرب، فإن الوضع اليوم يتمثل في انسحاب مسار نزع القداسة عن القيم الحداثية نفسها، وفي مقدمتها مقولة التقدم التي هي ركيزة الحداثة الأوروبية. ما نريد أن نبينه هو أن أطروحة روا تستوقفنا في ثلاثة مستويات كبرى:

أولاً: ما نشهده في عالمنا العربي الإسلامي من انفصام خطير بين مقوماتنا الثقافية الجوهرية والثقافة المعلبة الرائجة المتقاسَمة على نطاق واسع. لا يعني الأمر هنا الدفاع عن الجمود التراثي، لكن التجربة بيّنت لنا أن محاولات الانفصال عن التقليد والقطيعة معه تفضي في غالب الأحيان إلى عكس ما تنشده، بحيث إن التجديد والتحديث لا يمكن أن يتما إلا بالقراءة الثرية والنفَس التأويلي الخصب للمدونة التراثية التي هي الأثر الحي لديناميكية تأويلية طويلة ومتنوعة تفتح آفاقاً رحبةً للإبداع والاجتهاد.

ثانياً: ما نلمسه من قصور وفقر في الشخصية الثقافية ناتج عن ضعف ومحدودية الاطلاع على عيون المعارف والآداب والعلوم في تراثنا الثقافي. ومن هذه العيون أمهات الشعر من معلقات جاهلية ودواوين أموية وعباسية وأندلسية، وكتب الإمتاع والمؤانسة والحِكم والمأثورات، فضلاً عن كتب السلوك والأخلاقيات والفضائل.

ثالثاً: طغيان الثقافة الرقمية السريعة التي تخلق وهماً زائفاً بالمعرفة الموضوعية والاطلاع الشامل، في حين أنها تدفع للكسل العقلي، وتضعف القدرات النقدية والعقلانية، وتنتج ثقافة هي أقرب إلى الرموز الشكلية التي تحدث عنها روا. قبل سنوات، كان الحديث يدور حول «صراع الثقافات»، وشاع أوانَها وهمُ الصدام بين الثقافة الغربية بجذورها اليهودية المسيحية والثقافة الإسلامية. ما يتبين اليوم هو أن التحدي يكمن في استعادة مفهوم الثقافة نفسه الذي أصبح إشكالياً وعصياً على التحديد.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 3 ابريل 2023

 

أول كاتب إسلامي صرف هاجم سلامة موسى هجوماً دينياً إسلامياً في كتاب، هو الشيخ محمد الغزالي في كتابه «من هنا نعلم» الذي صدر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1950.

كتابه هذا مع أنه كتبه ردّاً على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، إلّا أنه ضم إليه مقالات قصيرة كان قد نشرها في مطبوعة من مطبوعات الإخوان المسلمين تحت عنوان «بين الهلال والصليب».

وهذه المقالات القصيرة كانت رداً على حملة على جماعة الإخوان المسلمين شنها سلامة موسى. وكان سلامة موسى العلماني، والديني القمص سرجيوس سرجيوس مع جماعة من القبط، يشنون حملة على الإخوان المسلمين بين فترة وأخرى، في جريدة «مصر» ومجلة «المنارة المصرية» في عقدي الثلاثينات والأربعينات تختلف أسبابها من فترة إلى أخرى. وثمة حملة من حملات سلامة موسى يرجع تاريخها إلى عام 1946 تأذّى منها الشيخ حسن البنا مرشد جماعة الإخوان المسلمين، فهرع إلى بطريرك الأقباط يوساب الثاني مستغيثاً به ليوقفها.

جماعة «شباب محمد» التي هي جماعة دينية أكثر تشدداً من جماعة الإخوان المسلمين ومنافسة لها، عابت على حسن البنا هذا التصرف، واعتبرت تصرفه هذا مهيناً للإسلام والمسلمين!

مقالات الشيخ محمد الغزالي القصيرة عن سلامة موسى في الحملة المضادة التي شنها عليه، لم أتوصل إلى تاريخ كتابتها على وجه التحديد الدقيق؛ لأنها كانت ردّاً متأخراً على جدل احتدم بين سلامة موسى وبين الإخوان المسلمين عام 1949.

وأظنها كانت قبل أشهر من شروعه في الرد على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»؛ أي إنه نشرها في عام 1950. أقول بهذا التاريخ استناداً إلى تاريخ صدور كتاب في هذا العام، سيأتي الحديث عنه فيما بعد.

مهّد الغزالي لهجومه الإسلامي على سلامة موسى، والذي جعله هجوماً إيمانياً عاماً على الإلحاد، بالقول: «إن هناك يهوداً لا يعرفون موسى ولا التوراة! هل قرأت الدعوة التي وجهها أينشتاين إلى أخطر المؤتمرات العلمية يطالبها أن تحارب فكرة الألوهية وتنقي الأذهان من هذه الخرافة؟ ويعتبر النجاح – في محاربة الله - أكبر كسب تحرزه الإنسانية!»، ثم توجه في خطابه إلى القارئ، فسأله: «هل هذا يهودي؟ وهل يسمع لمثله رأي في التعاون بين أهل الدين؟ ثم تنزل من قمة العلم الطبيعي حيث يوجد هذا العالم الملحد، وتهبط إلى السفح فترى محمد التابعي، المسلم – كما يقال – وسلامة موسى المسيحي – كما يقال – فإذا بكلا الشخصين يدعو بقوة وحماسة إلى قرار البغاء وإباحة الزنا! ولا عجب، فلا هذا ولا ذاك يؤمن بالله أو يصدِّق باليوم الآخر. وليكن هذان الشخصان من رجال الصحافة أو السياسة، لكنْ كلاهما في شؤون الأديان لا يسمع إلا يوم يسمع رأي الشيطان في شؤون الوحي!

ومع ذلك فالوقاحة تجعل سلامة موسى يكوّن عصابة من الشطّار والصغار لترسم خطوط التعاون بين المسلمين والأقباط في مصر.

إننا نستريح من صميم قلوبنا إلى قيام اتحاد بين الصليب والهلال، بيد أننا نريده تعاوناً بين المؤمنين بعيسى ومحمد لا بين الكافرين بالمسيحية والإسلام جميعاً.

والذين يخوضون في العلاقات بين عنصري الأمة المصرية – كما يصفونها – صنف من الناس لا نطمئن إلى تقواه ولا إلى ابتغاء وجه الله!

ومن فترة طويلة و(عصابة سلامة موسى)، تعكر المياه، لتصيد فيها، وقد استهدفت لإثارة الضغائن بين المسلمين والأقباط:

1- هدم الإسلام بإعلان حرب متواصلة على شريعته ومحاولة إرغام المسلمين على تركها ونسيان أحكامها.

2- هدم المسلمين أنفسهم بإغراء القلة القبطية أن تحكمهم وتستأثر دونهم بالنصر الأكبر من المناصب والوظائف العامة.

وسنسوق في المقالات المقبلة الشواهد على هذه النوايا الخبيثة من كلام العصابة التي يتزعمها حضرة سلامة موسى أفندي المسيحي ظاهراً، وذو الباطن الذي فضحته الأيام!».

في مستهل المقال الذي تلا هذا المقال الذي أوردت منه مقتطفاً، قال الغزالي: «إنها مؤامرة على الأديان كلها، وإن كانت في ظاهر الأمر حملة ضد الإسلام وحده وردّاً لشعائره وشرائعه، وغضاً من مكانته وجدواه على الناس والحياة.

و(عصابة سلامة) في كيدها لدين الله تتبع المبدأ المشهور في الدعايات المهرِّجة الباطلة؛ مبدأ: (اكذب ثم اكذب ثم اكذب؛ فسيقع في أذهان الناس من هذا الكذب المتلاحق شيء ما).

وقد دار محور كذبها في الأيام الأخيرة على أن المسلمين أعداء للأقليات التي تعيش بينهم(!)، وأن الكثرة المسلمة في مصر تكنّ السوء لغيرها (كذا)».

ما نشره الغزالي في مقالات قصيرة تحت عنوان «بين الهلال والصليب» أعاد نشره في كتابه «من هنا نعلم» في العنوان نفسه، لكنه نشره كمقال متصل يمتد من صفحة (113) إلى صفحة (134) في الكتاب.

وقد يستشف القارئ أن هذا المقال المتصل عبارة عن أكثر من مقال قصير من قوله السابق: «وسنسوق في المقالات المقبلة الشواهد... ».

يقول الشيخ الغزالي في مقاله «بين الهلال والصليب»: «وقد نقل كتاب طائش – نشرته هذه العصابة – نقل كلاماً لإسماعيل صدقي باشا بصورة الاتجاه الإلحادي في حكم هذه البلاد».

الشيخ الغزالي يعمِّي على اسم الكتاب، ولم يعمِّ على الجهة التي نشرته وموّلت نشره، فهي – كما يزعم – عصابة كوّنها سلامة موسى من الشطّار أو الصغار، لترسم خطوط التعاون بين المسلمين والأقباط في مصر، مع أنها – كما يزعم في فقرة أخرى – عصابة مأفونة من الملحدين المبغضين لله ورسله كافة. وفي رواية من رواياته قال: إنها عصابة ماجنة!

استخدم الشيخ الغزالي تعبير «عصابة سلامة» في مقاله مرة واحدة، وفي أوله، ثم بعد ذلك اختصر هذا التعبير إلى «عصابة سلامة» واستخدمه مرات عديدة. في اختصاره لهذا التعبير واختيار اسمه الأول «سلامة» لا اسمه الثاني «موسى» الذي هو اسم نبي، فن وبراعة؛ إذ تشعر مع هذا الاختصار أنها – فعلاً – عصابة، يتزعمها فتوّة اسمه سلامة، انقلب من كونه فتوّة إلى قاطع طريق!

قدّم الشيخ الغزالي لكلام إسماعيل صدقي باشا الذي نقله كتاب، قال عنه: كتاب طائش نشرته «عصابة سلامة»، قدم لكلامه بقوله: «قال الباشا – الذي لا دين له: يجب أن نباعد بين سياستنا وبين الاتجاه الديني. لقد بدأت تصطبغ بصبغة دينية. وهذه نعرة قديمة انتهت من مئات السنين. ولم تعد السياسة العربية والإسلامية تلائم العصر الحاضر، بل إن سياستنا قامت في الماضي على غير هذا الأساس. فمحمد علي الكبير – ذلك الرجل البارع – كان يتطلع إلى الغرب وكانت إصلاحاته غربية، ومن بعده إسماعيل. وكذلك كان الملك فؤاد، بل إن سعد زغلول خريج الأزهر لم تكن سياسته عربية ولا إسلامية، بل كانت مصرية خالصة تتجه نحو أوروبا. فلماذا نتجه اليوم هذا الاتجاه الإسلامي؟ وأي مصلحة لنا فيه؟!».

من المحبط أن الشيخ الغزالي، لم يذكر تاريخ العام الذي قال إسماعيل صدقي باشا فيه كلامه هذا. فلو ذكره لعرفنا أنه قد قاله في فترة حكومته الأولى (20 يونيو/ حزيران 1930 – 22 سبتمبر/ أيلول 1933)، أو أنه قد قاله في فترة حكومته الثانية (17 فبراير/ شباط 1946 – 9 ديسمبر/ كانون الأول 1946).

كان من المهم معرفة العام الذي قال فيه كلامه؛ لأنه في الفترة الأولى لحكومته، تحالف الشيخ حسن البنا معه، تحالف معه مع سعي القوى الوطنية لإسقاط حكومته. وقد جنى الشيخ حسن البنا من تحالفه معه انتشاراً لدعوة الإخوان المسلمين ومكاسب أخرى، أبرزها نقل مقر جماعته من بلدة نائية، هي الإسماعيلية، إلى سُرّة مصر، وهي القاهرة.

ولأنه في حكومته الثانية كان الشيخ حسن البنا مؤيداً لاختيار الملك فاروق له، رئيساً للوزراء، رغم أن القوى الوطنية رافضة هذا التعيين؛ لأنه عندها هو عدو الدستور وعدو الشعب. وقد قبض الشيخ حسن البنا ثمن هذا التأييد، كزيارته بعد تعيينه لمقر الجماعة، وترخيص – كما يقول ريتشارد ميتشل في كتابه «الإخوان المسلمون» - بإصدار الصحيفة الرسمية للجماعة «جريدة الإخوان المسلمون» التي بدأت تصدر منذ مايو (أيار) 1946، وامتيازات في شراء ورق الطباعة بالأسعار الرسمية، والتي تعني توفير من 20 إلى 30 بالمائة من أسعار السوق السوداء، وامتيازات مخصصة للجوّالة، كاستعمال الزي القومي الذي يتم شراؤه بسعر مخفّض، واستخدام المعسكرات والتسهيلات الحكومية، ومنحها قطعاً من الأرض لإقامة المباني اللازمة في المناطق الريفية.

وفي تعداده لهذه الأثمان يضيف ريتشارد ميتشل لها ثمناً آخر مهماً، فيقول: «كذلك كان واضحاً أن تعيين محمد حسن العشماوي، الذي دعا منذ وقت طويل إلى إقرار التعليم الديني في المدارس الدينية، والصديق المخلص للجماعة، في منصب وزير التعليم (المعارف) في حكومة صدقي، قد جاء منسجماً مع نفس السياق من الأحداث».

ويختم تعدادها بذكر الثمن الأخير الذي دفعه إسماعيل صدقي للإخوان المسلمين، فيقول – موضحاً طريقة دفعه: «أما الإعانة المالية، فالأرجح أنها لم توجّه للجماعة على نحو مباشر، وإنما تم تمريرها من خلال وزارتي التعليم والشؤون الاجتماعية بوصفها مساهمات أو إعانات حكومية مشروعة للخدمات التعليمية والاجتماعية الخيرية للجماعة».

وأضيف إلى ما قاله ريتشارد ميتشل: أن محمد حسن العشماوي حينما عينه إسماعيل صدقي في 17 فبراير 1946 وزيراً للمعارف العمومية، كان ابنه حسن الموظف في النيابة والقضاء منضماً للإخوان المسلمين قبلها في حدود العامين، وما لبث منير الدلة صديق ابنه حسن منذ أيام دراستهما في كلية الحقوق، والموظف في مجلس الدولة، أن تزوج ابنته آمال في عام 1947. وفي هذا العام انضم منير الدلة وزوجته آمال العشماوي إلى الإخوان المسلمين بتأثير من أخيها حسن. وقد وصف انضمام زوجها إلى الإخوان المسلمين – كما يقول ريتشارد ميتشل – بأنه إدخال الكاديلاك والأرستقراطية إلى قلب الحركة. آمال وأخوها حسن هما أيضاً ينتميان إلى طبقة البرجوازية العليا. وكان بيتهما العائلي رغم ما يتخلّله من جو ديني، بيتاً متمدناً وعصرياً. وهذا ما يفسر لنا أن التي زفتها إلى زوجها صاحبة أكبر وأرقى مرقص في مصر حينها، وهي الراقصة بديعة مصابني صاحبة «كازينو بديعة»، وقد شاركت معها في الزفة الراقصة فتحية شريف التي تعمل في الكازينو الذي تملكه بديعة مغنية ومونولوجست.

ولموقعهما الاجتماعي والطبقي احتل حسن ومنير سريعاً موقع الكفة الراجحة في صفوف قيادات حركة الإخوان المسلمين مع أنهما متأخران في الانضمام إليها.

ولآمال العشماوي منذ انضمامها لهذه الحركة أدوار مهمة وخطرة في تاريخ الإخوان المسلمين قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 وفي أثناء فترة حكمها؛ حكم هذه الثورة.

سقت المعلومات السابقة عن تحالف الإخوان المسلمين مع حكومتي صدقي باشا؛ لأسأل سؤالاً سياسياً وعقدياً، وهو: هل الإخوان المسلمون تحالفوا مع حكومة إسماعيل صدقي باشا الأولى والثانية، لأنه – كما قال الغزالي عنه – باشا لا دين له، أو أنهم تحالفوا معه لأنه، كما قال عنه – إبان حكومته الثانية - قولة مشهورة للقيادي الطلابي الإخواني، وخطيب الإخوان المسلمين في جامعة الملك فؤاد، مصطفى مؤمن، في صد مظاهرات طلابية إسماعيل صدقي، مستشهداً بآية قرآنية، لإسقاطها عليه، وهي: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً)؟!

بعد أن نقل الشيخ الغزالي لنا كلام إسماعيل صدقي باشا من كتاب ناقل لكلامه، قال مباشرة: «يقول الدكتور زغيب – وهو من أعضاء العصابة – هل بعد هذا كلام واضح صريح من رجل كان فريداً في ذكائه، وحيداً في تفكيره، ممتازاً في بعد نظره ورجاحة عقله...؟»، ثم علّق على هذا الكلام بقوله: «هذا الكلام هو قرة عين سلامة موسى وعصابته. وكل معول ينقض بنيان الإسلام، فهو في نظره مسلك ينطوي على الفهم والحصافة، ويدل على التقدم والارتقاء. فإذا قال أحد: إن لله وحياً ينبغي أن يطاع، انبعث صوت هذا الغر يطلب النجدة من أوروبا وأميركا قائلاً: الأقلية في خطر!

وقد علمت أن تحدث هذا الشخص عن الأقباط خدعة تستر وراءها أخبث النوايا نحو التوراة والإنجيل والقرآن».

بطريقة غير مباشرة، يشير الشيخ الغزالي إلى أن الدكتور زغيب هو مؤلف الكتاب الطائش الذي نشرته «عصابة موسى».

مع زيادة الشيخ الغزالي بالتعريف به، بأنه «عضو في عصابة موسى»، ومع معرفتي بأسماء ثلة من الأقباط، لاهوتيين وعلمانيين، الذين كتبوا في المسألة القبطية وعنها، إلا أنني لم أتعرّف على من هو «زغيب»، ولم أدرِ هل «زغيب» اسمه الأول أو اسمه الأخير.

شغلني التعرّف أكثر على اسمه الكامل، لأصل إلى اسم كتابه الطائش الذي عمّى الشيخ الغزالي على اسمه؛ إذ إنني لا أعرف دار نشر في مصر اسمها «منشورات عصابة سلامة موسى» أو «منشورات عصابة موسى» لأبحث فيها عن كتاب ألّفه دكتور اسمه الأول أو اسمه الأخير «زغيب».

في فقرة بعيد منتصف المقال عرفت أن اسمه كاملاً، هو زغيب ميخائيل، وأنه صعيدي قبطي.

وفي فقرة متأخرة من المقال عرفت معلومة ثالثة عنه، وهو أنه من أبي قرقاص. ووقتها كانت بلدة ولم تكن مدينة. وعرفت أن الشيخ الغزالي سبق له أن عمل بها.

وسأورد لكم نص هذه الفقرة: «والغريب أن الدكتور زغيب الذي يستغيث من الحجر (يقصد الحجر على بناء الكنائس) رجل من بلدة أبي قرقاص. وقد كان من المصادفات الحسنة أني عملت في مركز أبي قرقاص هذا واعظاً نحو العام. وإني لأستغرب كيف يقول هذا الكلام مع أن أبا قرقاص تضم 70 في المائة من سكانها مسلمين و30 في المائة أقباطاً. ومع ذلك فيها مسجدان وخمس كنائس فقط! وبها كذلك إرسالية تبشيرية من فرنسا، فهل هذه النسبة الصارخة دليل الحجر على إنشاء الكنائس أم دليل السرف في إقامتها».

بعد توفر المعلومات الثلاث عن الدكتور زغيب، عرفت أن اسمه ميخائيل زغيب لا زغيب ميخائيل، وأن اسم كتابه هو: «فرِّق تسد: الوحدة الوطنية والأخلاق القومية»، صدر بالقاهرة من دون ناشر عام 1950. والكتاب سجل للمشكلات التي واجهها الأقباط من بداية القرن الماضي إلى وقت تأليف الكتاب. والمؤلف طبيب، وقد توهمت وأنا أقرأ مقال الغزالي أنه دكتور في علم نظري أو في علم تطبيقي. وكان هذا الطبيب يعمل في أبي قرقاص مديراً للمستشفى الأهلي فيها.

هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد الذي ألفه. وكتابه هذا كتاب مغمور لم ينل ما يستحقه من معرفة به عند المهتمين بالمسألة الطائفية في مصر وفي العالم العربي. ولو أحصينا عدد الذين رجعوا إليه من الباحثين، فلن يتعدوا عدد أصابع اليد الواحدة.

وقد وجدت أن الكاتب والباحث سامح فوزي يسمي الطبيب القبطي ميخائيل زغيب، صاحب كتاب «فرِّق تسد: الوحدة الوطنية والأخلاق القومية» – كما يسميه الشيخ محمد الغزالي – بزغيب ميخائيل في معلومة كررها عن هذا الكتاب وعن صاحبه في جريدة «الحياة»، ثم في جريدة «الشروق»، ثم في جريدة «الشرق الأوسط».

في جريدة «الحياة» وفي جريدة «الشروق» ذكر عنوان الكتاب الأساسي (فرِّق تسد) ولم يذكر عنوانه الشارح (الوحدة الوطنية والأخلاق القومية). وفي جريدة «الشرق الأوسط» ذكر عنوانه الأساسي مع عنوانه الشارح. وحينما ذكر معلومته عن الكتاب لأول مرة في جريدة «الحياة» لم يكن في حوزته نسخة من الكتاب، وهذا ما حدثنا به في مقاله الذي رثى به حمدي رزق، وهو مقال «يا رب ارحم حمدي رزق» المنشور في جريدة «الشروق»؛ إذ قال: «أتذكر أنني كتبت عن هذا الكتاب مقالاً، ثم بعد أيام وجدت أن من يطلبني على الهاتف، هو حفيد الكاتب زغيب ميخائيل، وطلب لقائي في أحد أندية مصر الجديدة، وكرّمني بإعطائي نسخة أصلية من الكتاب. وروى لي أن جده اضطر أن يترك (أبو قرقاص) بعد هذا الكتاب، حيث تعرّض منزله للاعتداءات، وجاءوا إلى القاهرة».

الشيخ محمد الغزالي أسرف في ذم الدكتور زغيب، وأسرف في ذم كتابه، وأساء كثيراً إليه وإلى كتابه الذي عمّى على اسمه، والقبطي سامح فوزي أشاد بالكتاب وبصاحبه، لكنهما – يا للمفارقة - اجتمعا على قلب اسمه!

فهل اسمه، كما كتبه الشيخ محمد الغزالي في منتصف القرن الماضي، وكما كتبه سامح فوزي في العقد الأول وفي العقد الثاني من القرن الحالي، هو الاسم الصحيح، أو أن ميخائيل زغيب هو اسمه المقلوب؟

الإجابة الحاسمة هي عند حفيده.

في معلومته عن الكتاب ذكر سامح فوزي أن سلامة موسى هو الذي كتب مقدمة للكتاب. ونستفيد مما ذكره أن الشيخ الغزالي عينه عضواً في «عصابة موسى» التي اخترعها، وادعى أن هذه العصابة المخترعة هي التي نشرت كتابه، مع أن كتابه طُبع من دون ناشر، لمجرد أن سلامة موسى كتب مقدمة للكتاب.

وبطريقة أشد إعتاماً من الطريقة الأولى، التي – على الأقل – فيها بصيص من نور خافت، قال الشيخ الغزالي: «وفي كتاب آخر نشرته هذه العصابة جاءت هذه العبارة: إننا عانينا مذبحة فلسطين، ولم نزل تحت تأثير فكري عنصري. واستجابة لإثارة طائفية. ومن العبث أن نخفي ذلك ونتجاهله»، ثم ناقشه مناقشة صاخبة على قوله هذا وعلى قول آخر له، فيها سباب مقذع لهذا القبطي المجهول.

في آخر مقاله يورد الشيخ الغزالي مقتطفاً من مقال كتبه الدكتور حنا حنا يرد فيه على متعصبة الأقباط.

ومما قاله الدكتور حنا حنا في هذا المقتطف: «إن ما يشتكي الأقباط منه في هذه الآونة، وما يردده هذا الشاب في صحيفته صباح مساء، حتى جعل أشد الأقباط قومية وحماسة يملّون قراءة ما يكتب. والله يعلم أنه لا يقصد سوى أن يصبح بطلاً، وما هكذا يصبح الرجال أبطالاً».

عرّف الشيخ الغزالي في هامش هذه الصفحة من كتابه بهذا الشاب، بأنه «عضو في عصابة سلامة موسى المعروفة».

في الأولى تستّر على اسم كتاب وعلى اسم صاحبه، مع أنه يعلم أن الذين نشروه هم عصابة يتزعمها سلامة موسى!

وفي الثانية تستّر على اسم الشاب الذي رد عليه الدكتور حنا حنا، مع علمه أنه «عضو في عصابة سلامة موسى».

في القانون الجنائي يعد ما فعله الشيخ الغزالي، جناية. وللحديث بقية.

***

علي العميم - كاتب وصحافي سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الأحد - 25 شهر رمضان 1444 هـ - 16 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16210]

 

هناك أسئلة صريحة عن المشروعية الدينية وإلى متى يبقى الجهل والاجتهادات المضللة سيدَي الموقف في رسم علاقة الدين بالحياة والسياسة والعلم؟ والأهم، ما أسباب استمرار أزمة التفكير الديني في مجتمعاتنا وتعثر محاولات إصلاحه وتجديده في أغلبها، بما هو تعثر لتحديث المفاهيم الدينية وتطويرها كي نتجاوز حالة التقليد والركود والفوضى الفقهية السائدة؟

لم يجانبوا الصواب مَن وجدوا أن فكرة الإصلاح الديني لاقت اهتماماً كبيراَ لدى كثير من العلماء والفقهاء والمفكرين ممن آمنوا بدور الإسلام في البناء والتغيير الاجتماعي، وحاولوا خلق أدوات ثقافية جديدة تنطلق من الإقرار بنسبية المعارف، وتعيد دراسة الفكر الديني في ضوء التجربة والمنطق وتطور العلوم الإنسانية، لتخليصه مما شوهته اختلافات التاريخ والمصالح، ومن الكثير من الأوهام والمسلمات الخاطئة التي عششت طويلاً في عقول المسلمين، على أمل تحقيق الانسجام بين مقاصد الدين ومصالح المؤمنين وحقوق الناس جميعاً، ولا يغيّر هذه الحقيقة تشتت دعاة الإصلاح وعجزهم عن توحيد خطابهم، وأحياناً انقسامهم إلى قوى واتجاهات وصلت إلى حد التعارض، كما لا يغيّرها ما لعبه الموقف من الأجنبي من دور في إعاقة الإصلاح الديني ومحاصرة دعاته، حين تجرأ هؤلاء على المقارنة بين الحالة التي آلت إليها أوضاع المسلمين وبين التفوق الغربي، ما جعلهم عُرضة للاتهامات بالترويج لقيم الغرب ومفاهيمه على حساب تراثهم ومعتقداتهم الدينية، ولعبت المواجهات السياسية ضد هيمنة غربية لم تخلُ من عنصرية ونظرة استعلائية، دورها في تغذية مشاعر التحفظ على الحداثة ورفض التجديد.

في المقابل، لم يخطئوا مَن ربطوا تعثر الإصلاح الديني بالحرب الشرسة ضد فكرة الإصلاح ودعاة التجديد التي شنتها قوى وجماعات إسلاموية اتفقت على إلغاء دور العقل في وعي الحياة الدينية وتمكينها، وتمسكت بالتقليد ورفض الاعتراف بأن جزءاً من مضامين التفكير الديني الذي تدافع عنه وتضفي عليه شيئاً من القداسة هو تفكير بشري، تجاوزته أحياناً المتغيرات ولم يعد يستجيب لمشكلات المسلمين وحاجاتهم الراهنة، ويتساءل هؤلاء كيف ينجح الإصلاح الديني في مواجهة ساخنة وغير متكافئة مع حركات أصولية متطرفة ترى نفسها الوصية على الدين، ولم تدخر جهداً لعزل الإصلاحيين وسحب الشرعية الدينية منهم، من خلال تأليب الناس ضدهم وإدانة من يتخذ فكرهم مرجعاً، أو التشهير بهم كخصوم وأعداء للإسلام، وصل أحياناً إلى حد تكفير بعض رموزهم وإباحة دمهم.

وأيضاً، لم يخطئوا مَن وجدوا أحد أسباب استمرار جمود الفكر الديني وانغلاقه، القطع التاريخي لمحاولات إصلاحه الذي أحدثه المد التحرري الوطني والقومي في ظل «علمانية صورية» وطابع براغماتي صارخ لقادته، فهُدرت جهود تجديدية كثيرة وضاعت بسبب توظيف «الحكومات الوطنية والقومية» الضيق لها، حين أخذت منها ما قد يفيدها في معاركها السياسية أو في اختياراتها الاجتماعية والاقتصادية وأُهمل تكريسها في حقول التربية والأفكار والقيم.

أصابوا كبد الحقيقة مَن مالوا نحو التركيز على غياب المناخ السياسي الضروري لنجاح الإصلاح الديني، فهذا الأخير يتعلق بإعمال العقل والنقد، ولا ينمو وينتعش إلا في مناخ يتسم بالحرية، حرية التعبير والاعتقاد، وحرية البحث، وعند هؤلاء لا يصح الفصل بين الدعوة إلى تجديد الثقافة الدينية وبين تقدم الإصلاح السياسي، بل إن كل خطوة نحو نصرة الديمقراطية هي خطوة نحو توفير أفضل الشروط لإحداث المراجعات الدينية الضرورية.

طبعاً، من دون أن نبخس الإصلاح الديني حقه ودوره، فتقدمه هو عامل مساعد أيضاً وممهد للتغيير السياسي، كما كان دور الإصلاح البروتستانتي والإنغليكاني في أميركا وإنجلترا، فإن النتيجة تقول إن النجاح في تصحيح العلاقة بين الديني والدنيوي لا يتحقق إلا بالاستناد إلى نظام يحضن موضوعياً طرائق المعرفة النسبية، ويبعث روحياً وسياسياً حقوق الإنسان وحرياته في الرأي والتعبير والاجتهاد، ويعرف الجميع أن أزهى فترات الإصلاح الديني في التاريخ العربي تمت في مناخات ليبرالية نسبياً وأن أجواء الحرية الفكرية والسياسية هي التي ضمنت تفتح النقد والإبداع وسمحت للمجتهدين بطرح أجرأ الاجتهادات والتفسيرات الدينية.

لا يمكن لعاقل أن يُنكر أهمية الإصلاح الديني وضرورته في مجتمعات أدمنت الجمود والتقليد وصارت في أمسّ الحاجة إلى نشر العقلانية في طرائق التفكير وتمكين الدين من تقديم إجابات واضحة عن أزمات الواقع وأسئلته الملحة، وفق منطق العصر واحتياجاته، لكن يعد جهداً ضعيفاً وناقصاً الاكتفاءُ بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني وغضّ النظر عن تردي الشروط السياسية والاقتصادية، أو اعتبار معالجة الواقع المتخلف والنهوض به تتأتى فقط من انتقاد مسلكيات دينية مريضة، على أهمية ذلك وإلحاحه، أو من قرارات تهدف إلى تصحيح ما يحمله الناس من أفكار خاطئة ومغلوطة عن الدين، فهناك أيضاً ما يجب عمله لتحسين شروط حياتهم وضمان حاجاتهم المادية والروحية وخلق المناخ الحاضن لحرياتهم وحقوقهم وتالياً لتشجيعهم على تطوير أفكارهم وعاداتهم وأنماط حياتهم.

منذ قرن ونيف رأى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما من بعدهما، أن الإصلاح الديني ضرورة مصيرية للخروج من حالة الجمود واللحاق بركب التطور والحضارة. ومنذ قرن ونيف اقترح الكواكبي لمواجهة جهل العوام وشطط الفتاوى والاجتهادات «أن يؤلّف فقهاء الأمة كتاباً في العبادات يعتمده المسلمون، ويُذكر فيه الحد الأدنى للفرائض والواجبات، وكتاباً للسنن المستحبة، وكتاباً للسنن الإضافية، ثم كتاباً للمنهيات والمكفرات والكبائر ثم للصغائر والمكروهات، وتوضع كتب للمعاملات حسب أحكامها الاجتماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية كي يسهل على كل مؤمن معرفة ما هو مكلف به في دينه، وكي تظهر سماحة الدين الحنيف». وأيضاً منذ قرن ونيف، لا تزال تتواتر وللأسف، التساؤلات والإشكالات التي تخلّفها فوضى الاجتهادات الدينية والفقهية من دون أن تلقى إجابات جامعة، فكيف وأن تطور الحياة السياسية والاجتماعية في بلداننا وحتمية علاقتها بالعلوم والحضارة العالمية، باتا يطرحان تساؤلات وإشكالات جديدة أكثر حساسية وعمقاً وتعقيداً!

***

أكرم البني - كاتب سوري

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الجمعة - 23 شهر رمضان 1444 هـ - 14 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16208]

 

كيفية طرح القضايا والمسائل الفكرية والاجتماعية والدينية في الشأن العام والدلالات والمعاني التي يتم من خلالها تداول هذه القضايا تختلف من عصر إلى آخر.

لكن قد تكون هذه القضايا إذا ما تم النظر إليها دون تمعّن أو تدقيق هي هي لم تتغير ولم يطلها التحول، سواء على مستوى الدلالة والاجتماع أو المصطلح أو المفهوم.

أليس على سبيل المثال طرح قضايا الحريات في المجتمعات العربية الإسلامية لم تتزحزح قيد أنملة من سياقها العام الذي وضعت فيه: الحرية مقابل الاستبداد. وذلك منذ شيوع ثقافة التحرر من الاستعمار، وشيوع التحرر من الجهل والالتحاق بركب الحضارة؟! لكن المثال هذا لا يصدق سوى على التاريخ العربي الإسلامي لأسباب كثيرة، لا يسع المجال لذكرها هنا ويمكن أن نشير إلى عنوانها العام وهو فقدان العالم العربي الإسلامي طيلة قرون عديدة بوصلته إلى بناء حضارة عالمية جعلت منه عطالة تامة في الفكر والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بينما لو تتبعنا مسار هذه القضايا في الحريات على سبيل المثال في التاريخ الأوروبي لرأينا التحولات بائنة وواضحة لا على مستوى المفهوم وتجدده ولا مستوى الرؤية الاجتماعية فقط، وإنما أيضًا على مستوى المعارف والمناهج التي تثيرها هذه الدلالة أو تلك لمفهوم الحريات، فمنذ كشر الصراع الديني عن أنيابه في أوروبا استخدمت مفردة الحرية للتعبير عن حرية المعتقد وتفرق الاستخدام تاليا بين المدونات الفلسفية والمدونات السياسية، وتلونت دلالتها تبعا للمدونة نفسها، لقد ساهمت فلاسفة الأنوار في تطوير هذا المفهوم كما كان (سبينوزا) دافع قبلهم عن حرية الرأي في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) إلى أن وصلنا إلى مطالع القرن العشرين ورأينا تشكل نص الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في إعلانه المشهور في الأمم المتحدة في ديسمبر 1948، هذا المسار في تحولات المفردة في أوروبا لم يكن بسيطا ولم يكن سهلا أيضا. لكن المغذي الأكبر لحراك هذه المفردة هو المناخ العام الذي امتلأ بفكرة الحرية في كل المجالات من الأدب إلى السياسة والفكر والفلسفة والدين والاجتماع، وقد تولدت على إثرها مفاهيم عديدة كالفردانية والعلمانية.. إلخ، لكن السؤال الذي أريد أن أختم بإجابته هذا المقال هو: كيف يمكن الدفاع عن الحريات في عصر السوشيال ميديا إذا ما أدركنا أن الوسائل والتقنيات في هذا الفضاء أعطت الإنسان المزيد من الحريات التي لم يكن يحلم بها يوما ما، وبالخصوص في التعبير عن كل ما يخطر في باله من كلام وسلوك وفعل؟ لو أخذنا تطبيقا واحدا من هذا الفضاء، وليكن على سبيل المثال (التك توك) فأنت أمام واقع افتراضي من أهم سماته أنه لا سمات له، فضاء هلامي لا حدود له ولا حواجز، يختلط فيه السلوك البشري الثقافي بالطبيعي، وبالتالي لا أحد يصغي إلى أحد آخر، الكل يريد الكلام، الكل يريد أن يكون وسط الصورة، هناك قصص واقعية تروى، هناك مواقف حقيقية وأخرى تمثيلية، هناك خبرات حياتية في جميع المجالات، هناك أنماط من السلوك تنتقل بسرعة البرق بين مستخدمي هذا التطبيق، هذه الجردة البسيطة يخرج المراقب منها بانطباع أننا أمام فضاء يمارس فيه الإنسان سلوكا لفظيا وبدنيا يمكن وصفه ظاهريا باسم الحرية لكن جوهره لا يرتبط بالمفردة ذاتها التي جاءت تعبيرا عن حاجات أساسية ناضل الإنسان وضحى لأجل التحرر منها، ومن ثم أعطاها الدلالة المعروفة، وإنما يرتبط بشيء آخر، يمكن تسميته ثقافة الترفيه والتسلية كون تقنيات التواصل الاجتماعي ليست الخيار الوحيد للمدافعين عن الحريات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يوجد نظام مؤسسي يدمج هذه التقنيات في فضاء اجتماعي عمومي واقعي، صحيح فضاء هذا التطبيق وغيره من التطبيقات له تأثيره على المجال العام لكنه غير فاعل في القضايا الكبرى التي كانت الحرية اللاعب الأساسي فيها.

 ***

محمد الحرز

عن صحيفة اليوم السعودية، في يوم:2023/04/06

 

حفزني مقال مهم للأستاذ حازم صاغية في هذه الصحيفة بعنوان «ما بعد الحداثة... ما قبل ماذا؟»، الذي انتهى فيه إلى القول: «وربّما جاز القول إنّ ما بعد الحداثة واحدة من ظاهرات ما قبل الكوارث الشعبويّة التي تتفجّر بربريّتها اليوم». وسأحاول في هذا المقال أن أشتبك مع هذه النتيجة التي وصل إليها الأستاذ صاغية، والتي أرى أنها مجحفة إلى حد كبير.

بداية لا أختلف كثيراً مع ملخص ما ذكره الأستاذ صاغية حول نقاط القطيعة والاختلاف بين الحداثة وما بعد الحداثة من حيث الأسس الفلسفية والبدايات والنهايات، ولكن الحوار حول هذه المفاهيم الغربية تصعب أحياناً الكتابة عنه بلغة أخرى، واللغة العربية واحدة منها، وهنا أضرب مثلاً بـ«الهايفن» (The hyphen)؛ تلك الفاصلة أو الشرطة التي تشبك الحداثة في ما بعد الحداثة (post - modern)، هذه الفاصلة غير موجودة في «ما بعد الحداثة» بالعربية إلا إذا كتبناها «بعد - الحداثة»، وفي التنظير حول ما بعد الحداثة كان سؤال «العافين» أساسياً فالـ«post» في الـ«post – modern» ليست هي ذات الـ«post» في الـ«post office»، وهل هذه الشرطة أو «الهايفن» هي كوبري ورابط بين ما بعد الحداثة والحداثة، أم أنها فاصل وتفرقة وقطيعة؟

الحداثة كظاهرة في الأدب والعمارة والفلسفة والعلوم الطبيعية ظهرت نتيجة لرؤى أساسية شكلت سيادة الإنسان والعقل قادمة من معارف مختلفة، فمثلاً شكلت رؤية كل من فرويد ويونغ في علم النفس، وكذلك نظرية النسبية عند آينشتاين، فرغم أن بدايات الحداثة، كما ذكر صاغية، تعود إلى القرن التاسع عشر، وربما ما قبل ذلك حتى منتصف القرن العشرين، إلا أن فيزياء آينشتاين كانت جوهرية في رسم الأسس المعرفية للحداثة ورؤية الإنسان للحقيقة. آينشتاين كان مغرماً بفلسفة العلم والتأثير الذي تتركه النظريات العلمية على الفلسفة والعالم، وكانت فكرته هي أن العالم الطبيعي يمكن فهمه من خلال تحليل القوانين الرياضية التي تحكمه، والذي أوصلنا إلى النظرية النسبية الخاصة والعامة بحثاً عن فهم يوصلنا إلى حالة الاستقرار أو «الميتا ناراتيف» أو السرديات الكبرى التي تفسر العالم، ولكن حقيقة عالم آينشتاين الحداثي تحطمت أمام أبحاث «فيزياء الكوانتم»، فإذا كانت هناك حقيقة موضوعية عند آينشتاين، فهذه الموضوعية غير موجودة في «الكوانتم ميكانيكس» أو «ميكانيكا الكوانتم». إذ ترى «ميكانيكا الكوانتم» أن تصرف الجسيمات الدقيقة يصعب التنبؤ به، وهي أيضاً لا توجد بشكل موضوعي إلا في غياب المشاهد، أي أن هناك علاقة بين العين التي ترى والجسيمات الدقيقة التي تشكل سلوكها، إذن الحقيقة ذاتية وليست موضوعية.

ذكر الأستاذ صاغية أعمال أساتذة في الفلسفة أو في فلسفة اللغة مثل جان بودريارد وكتابه «samalcra and simulation»، أو جون فرنسوا ليوتارد وكتابه «post modern condition»، أو «الحالة ما بعد الحداثية»، التي ترجمها صاغية «شرط ما بعد الحداثة»، وأنا متأكد من أن الأستاذ صاغية أيضاً ملم بتأثيرات كل من جاك دريدا وميشيل فوكو كجزء من مدرسة الفلسفة الفرنسية التي ركز عليها في مقاله.

المهم في طرح الأستاذ صاغية هو نتيجة لموت السرديات الكبرى وموت فكرة الموضوعية هو الذي أوصلنا إلى حالة التقطيع و«الهايبر ريالتي»، أو الواقع المتفكك الذي نعيشه، والذي أشار إليه بحالة من الشعبوية التي أنتجتها الحالة ما بعد الحداثية، والتي تغيب فيها المعايير، ويصبح رأيك مثل رأيي، أو كما تقول بالعامية المصرية «أبو قرش زي أبو قرشين»، لا فرق بين رأي عالم ملم وبين رأي مؤثر في السوشيال ميديا.

...هنا نختلف.

كانت فيرجينا واحدة من رواد الحداثة، وكانت تعاني من الاكتئاب والانطواء، وماتت ضحية لفلسفة فرويد في معالجة الأمراض النفسية، لكنها لو تعرفت على الليثيوم مادةً كيماويةً معالجةً للخلل الدماغي التي كانت تعاني منه لربما شفيت أو عانت أقل، ولكنها كانت متوقفة عند فلسفة عصرها وعلوم عصرها، فالعلم دوماً متطور وتطبيقاته متطورة، فهذا الذي نراه مؤثراً، الإعلام الجديد أو السوشيال، سيموت حتماً ضحية لتطور الذكاء الصناعي (AI)، ولن تستمر سيطرة الإنسان على «الهايبر ريالتي» أو «عالم تقليد التقليد»، وننتقل من مركزية الإنسان الحداثية وشخصنة الواقع فيما بعد الحداثة إلى مركزية الآلة، والعودة إلى موضوعيات أكثر صرامة قد تعود بنا إلى الأسس الفلسفية الأولى للحداثة من كانت إلى هيجيل وغيرهما.

إن اللحظة التي نحياها ليست القول الفصل في فلسفة ما بعد الحداثة، لكننا داخل العملية (the process) ما بعد الحداثية، وهذا النسق قد يطور من نفسه. إن المشكلة التي نعاني منها اليوم هي تلك الفجوة ما بين تصورنا الفلسفي للعالم، وكيف ينفرط العالم أمامنا، إن الإحباط الناتج عن الفجوة بين عملية النمذجة (modeling) التي نرسمها في عقولنا مقابل الواقع كنموذج هو الذي يؤدي إلى حالة القلق والإحباط والخوف مما نراه شعبوية، ولكن فجوة النمذجة ستضيق كثيراً، وربما تختفي في حالة الذكاء الصناعي، وهو جزء من لحظة ما بعد الحداثة، ومعها يختفي الإحباط الإنساني ونرى الهمجية والقبح بوضوح تام، وفي المقابل نرى الحضارة والجمال بالوضوح ذاته. ويجوز القول هنا إنني لست متشائماً، كما الأستاذ صاغية، من لحظة ما بعد الحداثة ونتائجها إذن؛ كانت قنبلة هيروشيما ونجازاكي وكذلك هتلر جزءاً لا يتجزأ من الحداثة، والآن نحن في زمن أحداث صغرى متقطعة لها تأثير كبير على الوعي والضمير الإنساني حتى لو كانت الحقيقة ذاتية وشخصية إلى حد التشظي وحالة «الكوانتم».

***

د. مأمون فندي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الاثنين - 19 شهر رمضان 1444 هـ - 10 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16204]

 

يرتاب البعض بالمفاهيم التي تتقدّمها بادئةٌ كـ«ما بعد» و«نِيو»، إذ قد ينمّ التعريف سلباً عن صعوبات التعريف بالإيجاب. يصحّ هذا خصوصاً في «ما بعد الحداثة» التي لا تفتقر فحسب إلى تعريف صارم، بل ترفض أصلاً مبدأ التعريف.

لقد تطوّرت الحركة المذكورة في النصف الثاني من القرن العشرين، عبر الفلسفة والفنون والعمارة والأدب...، وعدَّها أصحابها بديلاً من الحداثة، وحرباً فكريّة على «السرديات (الحداثيّة) الكبرى»، كالموضوعيّة والعقلانيّة والتنوير والعلم والاشتراكيّة والتقدّم... ذاك أنّ ما أفضى إلى كوارث كالنازيّة والستالينيّة وهيروشيما بوصفها نتاجاً للعِلم، لم يعد مقبولاً.

وتتّسم ولادة الظاهرة، وفق رواية أصحابها، بطغيان الإعلام والتلفزيون والإعلان، ثمّ الفيديو الموسيقيّ واليوتيوب والإعلام الاجتماعيّ، ما يتأدّى عنه «واقع مُفرط» (hyper reality) تنعدم معه إمكانيّة تمييزه عن محاكاته (simulation). وفي تلقّينا العالمَ، تحلّ تلك العناصر الثقافيّة محلّ عناصر الثقافة التقليديّة كالفنّ والشعر والعمارة...

وكان جان بودريار قد سجّل مراحل ثلاثاً لتطوّر الثقافة:

- ما قبل حديثة من فنّ ومسرح وموسيقى، حيث هي نخبويّة ورفيعة ومحكومة بالدين كنظرة ورسالة.

- وحديثة ظهرت مع الثورة الصناعيّة، موادّها الفوتوغرافيا والسينما والطباعة، ويميّزها الإنتاج السريع ومحاكاة الواقع، ممّا تزامن مع الاستهلاك والشيوعيّة والعِلم.

- وما بعد حداثيّة ولدت منتصف القرن الماضي حيث بِتنا محاطين، بل «مقصوفين»، بثقافة غدت واقعَنا اليوميّ، فصارت الفيديوات والإعلانات ما كانتْه الأشجار والسيّارات حضوراً وتأثيراً، وصارت البرامج التلفزيونيّة ومثيلاتها مصدر معارفنا الأبرز. ولأنّ واقعنا بات مصنوعاً من تمثيلات ثقافيّة، أضحت سلعنا الجديدة تحيل إلى تلك التمثيلات، فنحن نصنع نُسخاً عن نُسخ، بدل الاعتماد القديم على مرجع أصليّ يمثّل الواقع.

فهي إذن «محاكاة زائفة» (simulacrum)، يحلّ فيها تمثيل التمثيل محلّ تمثيل الواقع. فصورة الأميرة مثلاً لم تعد تُستوحى من صور أميرات القرون الوسطى، بل من ديزني، علماً بأنّ الأخيرة ما هي إلا نسخة عن نسخة...

وبهذا الحضور الهائل للميديا وأخواتها، وبفعل تضارب رسائلها، «انفجر المعنى»، فلم يعد ممكناً فرز الصائب عن الخاطئ، ولم تعد ثمّة سرديّة كبرى تحدّد المعنى لنا. أمّا الحياة نفسها فلم تعد قابلة للربط بهدف وغاية. فنحن نوجد فحسب، وما من شيء نقوله ونفعله أكثر حقيقيّةً وصوابيّةً ممّا يقوله ويفعله شخص آخر. وإذ تتساوى تجاربنا صلاحاً أو طلاحاً، تنعدم الفوارق بين الثقافتين العليا والدنيا، فالفنّ كلّه تأويلات فرديّة لا يفضل أيَّ تأويل فرديّ منها تأويلاً آخر.

ولئن رأى الحداثيّون أنّ اللغة شفّافة تبعاً لعلاقة وثيقة وموضوعيّة بين التعقّل والدوالّ (signifiers)، فاللغة في الحقيقة ليست كذلك، بل هي ذاتيّة المرجعيّة (self referential). ذاك أنّ الأفكار التي نُضفيها على الكلمات محكومة بثقافة بعينها، وكلّ ما فعلته الثقافات أنّها، مع الزمن، أوّلت الكلمات بأشكال مختلفة. لكنْ ما دامت اللغةُ الوسيلةَ الأساس في تمثيل الواقع، لم يعد ممكناً اعتبار الواقع الموضوعيّ موضوعيّاً، فيما رغبة السلطات والحاكمين هي وحدها ما يقدّمه كذلك.

وبدوره وجّه جون فرانسوا ليوتار، في كتابه الصغير «الشرط ما بعد الحداثيّ»، هجاء معرفيّاً للسرديّات أو «الميتا سرديّات» التي «استجوبها». فهو نصير لـ«رغبة في العدالة» لم يعرّفها، إذ لكلٍّ فهمه للعدالة، ولـ«رغبة في المجهول» تعيد وصله بالتقليد الرومنطيقيّ في رفضه كلّ شيء تقريباً.

ويبني ليوتار على نظريّة فتنغشتاين في «اللعبة اللغويّة»، حيث لا يحظى مجال استخدام اللغة بمفتاح واحد. هكذا فنحن ليس لدينا معيار كونيّ ونهائيّ نحاكم بموجبه التواصل الإنسانيّ، بل مجموعةٌ متداخلة من ألعاب تتفاعل براغماتيّاً دون أن تتطابق، ما ينشئ «سرديّات صغرى» نواجه بها «السرديّات الكبرى». وكان من أبرز ضحايا ليوتار الكثيرين يورغن هابرماس، أحد أكثر مثقّفي عصرنا حسّاً بمسؤوليّة المثقّف العامّة. فلئن طوّر هابرماس فكرة مفادها أنّ في الوسع شرعنة الحكم الأخلاقيّ بالارتكاز على إجماع عقلانيّ حيال الأخلاق، يتمّ بالتداول والحوار، هاجم ليوتار الإجماع بوصفه غير عادل لأنّه كلما ارتفعت نسبة عدم الاتّفاق زادت حرّيّتنا، فيما الإجماع يردّنا إلى «الميتا سرديّات» ومن ورائها التوتاليتاريّة. فالمطلوب، عنده، تكثير «الخطابات» و«السرديّات» و«الألعاب اللغويّة» ووقف «الإرهاب» الحداثيّ لإسكاتها ومنع تكاثرها، فبهذا وحده يُخلَق فضاء للحرّيّة يشرعن خطابات الاختلاف والطرق المختلفة لرؤية العالم. وبدل الركون إلى برادايم كونيّ للمعرفة يسهّل التواصل، فلينشأ إفراطٌ لامحدود في موديلات المعرفة يطيح التواصل بما فيه تواصل المثقّفين أنفسهم.

وتولّى الأميركيّ تشارلز جِنكس التنظير للعمارة ما بعد الحداثيّة، فاعتبر أنّ العمارة الحداثيّة ماتت في ميسوري عام 1972 حين فُجّرت بالديناميت مباني ياماساكي الإسكانيّة المسمّاة «بروت إيغو». فقد قامت تلك العمارة، التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى لتبلغ ذروتها أواسط القرن، على ثوابت كالزجاج والفولاذ والكونكريت، ولكنْ أيضاً على فلسفة جماليّة وأخلاقيّة مفادها تبعيّة الشكل للوظيفة ورفض التزيين والزخرفة لمصلحة المينيماليّة. ومن الهندسة تسلّلت الوظيفيّة إلى مجالات أخرى كالملابس والفنون البصريّة...

وقد تكون المباني ما بعد الحداثيّة جذّابة وحيويّة فعلاً، بسبب تزيينها واستخدامها الألوان القويّة والخِدَع البصريّة وحسّ اللعب والسخرية، لكنّ نقد المابعد حداثيّين للعمارة الحداثيّة يُظهرهم أغنياء عابثين لا تعنيهم الهموم العامّة بتاتاً. فهم لا يستسيغون اكتراث الحداثيّين بضبط الاستهلاك وبالاستخدام الاقتصاديّ والعقلانيّ لموارد الكرة الأرضيّة المحدودة، كما يمجّون اهتمامهم بنظافة البيئة وببناء بيوت للفقراء. فهذا كلّه مصدر للإضجار وللاكتئاب ينزع الأنسنة عنّا.

وكثيرةٌ الأسئلة التي تطرحها ما بعد الحداثة: فإذا كانت الحقيقة المابعد حداثيّة هي غياب كلّ حقيقة، فلماذا تكون تلك الحقيقة نفسها حقيقة؟ وإذا لم يكن العلم موضوعيّاً فكيف نستطيع أن نقول إنّ 1 و1 يساوي 2؟ وهل الحداثة هي النازيّة والستالينيّة وهيروشيما فحسب؟

والحال أنّنا أمام نزعة رجعيّة أخرى داخل الحداثة، وحيال وعي رومنطيقيّ رافض لكلّ ما هو خارجه ومنكفئ، بكثير من الضجيج الصوتيّ، على نفسه النرجسيّة.

وربّما جاز القول إنّ ما بعد الحداثة واحدة من ظاهرات ما قبل الكوارث الشعبويّة التي تتفجّر بربريّتها اليوم.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندية ليوم: الأحد - 18 شهر رمضان 1444 هـ - 09 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16203]

«غالباً ما تُقدَّم النساء بوصفهنّ سبب الشرّ كلّه في العالم، كما في قصّة التوراة عن الخطيئة الأصليّة، أو في إلياذة هوميروس حيث كانت امرأة واحدة تكفي لإغراق شعب كامل في البؤس (...) كذلك يُعبَّر عن نقص احترام النساء في الأجور التي تُدفع للمرأة وتقلّ كثيراً عن أجور الرجال حتّى حين يكون عملهنّ مساوياً في قيمته لعمل الرجال».

هذه الفقرة بعض ما كتبه المحلّل النمسويّ ألفرِد أدلر في 1927، فبدا بلا قياس أشدّ تقدّماً من سيغموند فرويد وكارل يونغ. والحال أنّ ثمّة من رأى أنّ المحلِّلين النفسيّين لموجة ما بعد الفرويديّة، ككارِن هورنَي وأريك فروم، هم «نِيو أدلريّين» كونهم تبنّوا، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مفاهيمه.

وأدلر أحد أهمّ المحلّلين النفسيّين الذين أنتجهم القرن العشرون، فإذا كان فرويد ويونغ قد فاقاه شهرة، بقى أنّه «لن يكون من السهل»، كما كتب هنري إلِّنبرغر، «أن نجد مؤلِّفاً آخر استعار منه الجميع، ودون إقرار بذلك، كما نجد مع ألفرد أدلر».

لكنّ تقدّميّة الأخير لا تتجلّى فقط في مسألة المرأة. فهو جادل بأنّ المحرّك الأساس في حياة الأفراد اجتماعيّ. وفي انشقاقه عن فرويد عام 1911 رأيناه يركّز على أنّ مفتاح فهم الفرد ليس الماضي، كما علّم المؤسّس، بل الحاضر والمستقبل اللذان يمكّناننا من تعقّل كيف صرنا ما صرناه. فالماضي قد يزيد الاحتمالات أو يُنقصها لكنّه ليس حتميّ التأثير، وبالتالي فالغائيّة (teleology) ، أي دراسة الغاية وراء ظاهرة محدّدة، تفوق منظومة الأسباب (etiology) أهميّةً.

أمّا الجنس عنده فبدا أقرب إلى استعارة أو طريقة للفهم، فيما العُصاب لا ينجم عن دوافع جنسيّة مكبوتة بقدر ما يُنجبه الشعور بالنقص. وبدوره فاللاوعي ليس كياناً منفصلاً، بل هو الجزء المجهول من سعي الفرد نحو هدفه. ولئن رأى فرويد أنّ كبتنا هو طريقنا إلى التكيّف، رأى أدلر أنّنا نملك قدرة فطريّة على أن نكون اجتماعيّين، وما علينا سوى أن ننمّيها عبر تنمية حسّنا الاجتماعيّ. ذاك أنّ غياب الحسّ هذا يعني غياب الرغبة في التكيّف والاجتماع، ما يُعَدّ حالة مَرضيّة تحمل صاحبها على طلب التفوّق المطلق.

هكذا احترم أدلر الأفراد وقدرتهم على التغيّر والتغيير، ومسؤوليّتهم عن أحوالهم، بحيث أخذ عليه معلّمه السابق مدى تعويله على الوعي وعمليّاته.

وهو اهتمّ فعلاً بالسعي إلى التفوّق، لكنّ التفوّق الأدلريّ، الذي لم تغب عنه التأثيرات النيتشويّة، بقي مضبوطاً اجتماعيّاً. فهو الدافع العميق وراء السعي الإنسانيّ، إذ نحن مدفوعون إلى تحسين أوضاعنا و»التحوّل من وضعيّة الناقص إلى وضعيّة الزائد».

فمن «المثال الذاتيّ»، الذي يختاره الفرد لنفسه ويتشكّل في فترة مبكرة من الطفولة، يُنتَقى الهدف الذي يُسعى إليه ويناط به توفير التفوّق لصاحبه. أمّا نقاط الضعف التي تعترض مسيرتنا إلى ذاك التفوّق فتحرّكُ فينا مشاعر الدونيّة التي تنبع من تقييمنا لنفوسنا ولتجاربنا. وفضلاً عن جوانب القصور الجسمانيّ، كثيراً ما يثير شعورَنا بالدونيّة «دونياتٌ موضوعيّة»، كأنْ يربط المرء تفوّقه بامتلاكه المال فيما يكون فقيراً وشديد الإحساس بفقره. لكنّ ثمّة حالات أخرى من الدونيّة تصدر عن تصوّر الناس لأنفسهم على نحو مغلوط يفتقر إلى أيّ أساس واقعيّ.

والشعور بالدونيّة ليس مرضاً، إلاّ أنّه يغدو كذلك حين لا يُعترف به ولا يواجَه: فإذا خسرنا عملاً بحثنا عن عمل آخر، وإذا أعوزتنا مهارة كي نحصل على عملٍ ما تعلّمنا هذه المهارة، وقد نعوّض عن ضعف بأن نقوّي أنفسنا في مجال آخر، فنطوّر قدرتنا على قراءة الشفاه إذا أصابنا ضعف في السمع. هكذا نواجه دونيّتنا مع ما يستدعيه ذلك من امتلاكنا شجاعة التغيير.

لكنّنا قد نتجنّب المشكلة بإنكارها وباللجوء إلى سلوك حمائيّ يردّ الفشل إلى عوائق تقع خارج السيطرة (ممّا تزخر بمثله الثقافة السياسيّة العربيّة). وقد يلجأ صاحب السلوك الحمائيّ إلى أسباب مزعومة، فيزيائيّة (وجع الرأس أو تعب مزمن) أو نفسيّة (غضب، توتّر)، أو يبحث عن مسافة تعفيه من الاحتكاك وتُبقيه في حيّزه المريح والمألوف (comfort zone)، مُشكّلةً ذرائعه التي تجنّبه المواجهة. إلاّ أنّ هؤلاء الحمائيّين مثيرون للشفقة إذ يستخدمون خِدعاً للهرب من تحدّيات الحياة، لكنّها مع تكرارها تخسر فعاليّتها، لتؤثّر سلباً في صحّتهم النفسيّة وفي نوعيّة حياتهم.

ويلجأ كثيرون من المنكرين إلى مبالغة تعويضيّة (overcompensation)، كالتقليل من أهميّة الآخرين وتصغيرهم واستصغارهم، أو التباهي بإنجازات حقّقوها هم في الماضي، مع تجنّبهم التعرّض لأوضاع قد تكشفهم كأشخاص زائفين، وهنا تنشأ عقدة التفوّق بمعناها المَرَضيّ.

وجادل أدلر بأنّ ثمّة هدفاً واحداً في الحياة يمكّننا من تذليل تصوّرنا عن أنفسنا كضعفاء ودونيّين، هو التعاون مع آخرين لتوكيد أهداف مشتركة، أو ما سمّاه «الحسّ الجمعيّ» (gemeinschaftsgefuhl) وصفاً للرغبة بحياة جماعيّة وللطاقة التي تُبذل للغرض هذا. فغالباً ما لا يكون مصدر ألمنا تحدّيات الحياة، بل الحلول التي نعتمدها في مواجهة التحدّيات تلك، إذ نحن محكومون بتجاربنا أقلّ ممّا بالمعنى الذي نعطيه لها.

وهذا التعويل على الرابط الاجتماعيّ مدّه أدلر إلى عالم الأطفال الذين عمل معهم فرديّاً وفي العيادات الطبيّة. فالصغار يرون إلى أنفسهم كضعفاء وتابعين قياساً بالكبار، وهم يدركون أنّ حياتهم رهن عثورهم على موقع آمن ومَحميّ في العائلة. وإنّما إبّان الطفولة، يخلق الطفل لنفسه «هدف حياةٍ» تبعاً لفهمه كيف يحسّن موقعه في العائلة. وما هدف سلوكنا كأطفال، وكراشدين بالتالي، بما في ذلك «نمط الحياة» المعتَمَد، سوى تقريبنا من ذاك الهدف الذي اخترناه في الطفولة. وهكذا فالتحدّي الأساسيّ المطروح على تربية الأطفال هو بالضبط تشجيعهم على «الحسّ الجمعيّ» بوصفه الطريقة الوحيدة التي بها يستطيعون تجاوز إحساسهم بدونيّتهم، وهذا إنّما يرقى إلى مُحرّك أساسيّ للبشر على مدى حياتهم.

أفكار كهذه كانت أكثر من كافية لدفع أدلر إلى الانشقاق عن فرويد ولاشتغاله على تأسيس ما بات يُعرف بـ»علم النفس الفرديّ» - عِلمه.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأربعاء - 14 شهر رمضان 1444 هـ - 05 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16199]

منذ أفلاطون وفيلسوفه الملك، هناك خرافة شائعة حول المثقّفين بوصفهم حكّاماً: إنّهم يُضفون على السلطة العقل والحكمة والعدل ممّا لا يفعله سواهم. ما تتجاهله الخرافة أنّ المثقّفين قد يكونون أكثر الناس تمسّكاً بأساطير جامدة، يصرّون على فرضها كائناً ما كان الثمن. وقد تكون المفارقة أنّ الثقافة وعموم المثقّفين، الذين يأبون الإذعان للأسطورة ويدافعون عن حرّيّتهم واختلافهم، يغدون أوّل ضحايا حكم المثقّفين.

فباستثناء النازيّة، لم تعرف ثقافة القرن العشرين الأوروبيّة، زمناً مظلماً كالذي عرفته الثقافة الروسيّة في ظلّ ثورة أكتوبر الشيوعيّة وامتدادها الستالينيّ، وهذا علماً بأنّ النظام الذي انبثق منها أقرب إلى ديكتاتوريّة مثقّفين: فـ11 من أصل 15 مفوّضاً في حكومة لينين الأولى كانوا منهم. مع هذا، خيّمت المأساة على حياة أفراد روس، إبّان النصف الأوّل من ذاك القرن، هم من ألمع الأسماء الثقافيّة في العالم كلّه.

الشاعر والكاتب والمسرحيّ ألكسندر بلوك الذي تسرّبت، في 1921، معلومات عن «عدم سعادته» بالنظام الجديد، لم يؤذَن له ولزوجته بالسفر للعلاج في الخارج، وهو ما توسّط فيه مكسيم غوركي، إلاّ بعد وفاته.

في 1922، حملت «سفينة الفلاسفة» عشرات المثقّفين الكبار إلى المنفى القسريّ، ما اعتُبر بداية اجتثاث المثقّف العامّ في روسيا. السبب كان نشاطهم «المضادّ للسوفيات» وكونهم «عبيداً أيديولوجيّين للبورجوازيّة». لقد كان في عداد هؤلاء السوسيولوجيّ بيتيرِم سوروكين والفيلسوف نيكولاي برديائيف.

فاسيلي كاندينسكي، الرسّام الذي رفضت ثورة أكتوبر فنّه لأنّ «روحانيّته وتعبيريّته بورجوازيّتان وفرديّتان»، انتقل إلى ألمانيا، وهناك عاش وعلّم.

سيرجي ياسِنِن، الشاعر الرومنطيقيّ والغنائيّ الذي يدور معظم شعره على الحنين إلى القرية، أُخذ عليه عدم اكتراثه بحياة الجماهير وصُنّف لاساميّاً. قُبض عليه مرّات عدّة ثمّ انتحر في 1925 عن ثلاثين عاماً، وتردّد أن الأجهزة الأمنيّة صفّتْه. الدولة كرّمته بجنازة رسميّة لكنّ معظم كتاباته تعرّض للمنع.

فلاديمير ماياكوفسكي الذي ناضل طويلاً كشيوعيّ وسُجن مراراً في العهد القيصريّ، اعتبر أنّ ثورة 1917 «ثورته»، ومع الحرب الأهليّة صمّم الملصقات المؤيّدة للشيوعيّين فكتب كلماتها ورسم شعاراتها ووزّعها، ما ولّدَ فنّاً جديداً هو فنّ الملصقات. لكنّ السلطات الشيوعيّة انتقدته مراراً ووجّهته نحو «الطريق الصحيح»، كما طالبته بأن لا يكتب قصائد حبّ.

ماياكوفسكي قرأ في مسرح البولشوي قصيدته الشهيرة عن لينين بعد وفاته، ثمّ سافر إلى الخارج للتعرّف إلى فنون الغرب. ولئن بدا متلهّفاً للعودة إلى روسيا، فإنّه عاد حائراً تساوره الشكوك، ثمّ بدأ يتبرّم بـ»تحوّل البشر إلى آلات» وبتدخّل الدولة في الثقافة، فيما كان شعره يُتّهم بأنّ العمّال لا يفهمونه. في 1930 انتحر ماياكوفسكي عن 37 عاماً.

الشاعر أوسيب ماندلستام وزوجته الكاتبة ناديجدا اعتقلا أوائل الثلاثينات وأرسلا إلى أحد المنافي داخل البلد، ثمّ في 1938 اعتقل أوسيب ثانية وحُكم بالسجن خمس سنوات في معسكر للأشغال الشاقّة في الشرق الأقصى، وفي السنة نفسها مات بينما كان يُنقل إلى معسكر للغولاغ قرب فلاديفوستوك.

المسرحيّ فِسيفولُد مايِرهولد الذي سبق أن انضمّ إلى البلاشفة، أُغلق مسرحه، وفي 1939 اعتُقل وعُذّب ثمّ أعدم في السنة التالية بعدما اغتيلت زوجته الممثّلة زينايدا رايخ.

الشاعر والروائيّ بوريس باسترناك الذي انحاز إلى الثورة، حُرّمت قصائده النقديّة مع توطيد ستالين سلطته وأصبحت مادّةً توزّع سرّاً. في 1949 اعتقلت زوجته أولغا لوجود بعض كتاباته القديمة معها واختفى كلّ أثر لها.

الشاعرة أنّا أخماتوفا نُفيت إلى طشقند بطاجيكستان ووصف أعمالَها أندريه جدانوف، مسؤول الثقافة الأعلى و»عازف البيانو الحسّاس»، بأنّها «شِعر كتبته سيّدة جميلة محمومة تتأرجح بين بيت الدعارة والكنيسة». أخماتوفا رُشّحت مرّتين في 1965 و1966 لجائزة نوبل.

الشاعر ميخائيل جوشنكو نفي أيضاً لكنْ إلى الماآتا بكازاخستان. أدانه جدانوف في 1946 وعاش باقي حياته في فقر مدقع، ولم يُدفع له تقاعده إلاّ قبل أشهر قليلة على وفاته.

أخماتوفا وجوشنكو كانا قد حُرما حصّتيهما المقنّنة من الخبز وباقي السلع الأساسيّة، وإذ سُحبت كتب جوشنكو من المكتبات فقد مُنع نشر كتب أخماتوفا.

الكاتب والصحافيّ والمسرحيّ اسحق بابل اعتُقل في 1939 بتهم مفبركة حول إرهابه وتجسّسه وأعدم في 1940.

الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش تعرّض في 1936 لهجوم مركّز من الصحافة وعبّر ستالين شخصيّاً عن استيائه من فنّه، كما اتّهمت الدوائر الحزبيّة أعماله بالشكلانيّة (formalism) وبأنّ الجماهير لا تفهمها.

شوستاكوفيتش وضع موسيقاه في خدمة الدولة إبّان الحرب العالميّة الثانية لكنّه، بعد الحرب، أدين ثانية بتهمة الشكلانيّة التي طالت فنّانين كثيرون اعتُبرت موسيقاهم كوزموبوليتيّة ومتأثّرة بـ»الغرب البورجوازيّ». في عداد هؤلاء كان سيرجي بروكوفياف وأرام خاتشاتوريان ممّن طولبوا باعتذارات علنيّة ومُنع الكثير من أعمالهم.

ستالين، وهو أيضاً صاحب نظريّات في التاريخ واللغة، توّج جرائمه في 12 آب 1952 في ما عُرف بـ»ليلة اغتيال الشعراء»: كانوا 13 شاعراً وأديباً يهوديّاً أُعدموا في سجن لوبيانكا بتهم الخيانة والتجسّس. معظمهم كانوا شيوعيّين وأعضاء في «اللجنة اليهوديّة لمناهضة الفاشيّة» التي أُسّست لتكون لوبي لكسب تأييد يهود العالم لموسكو في حربها مع ألمانيا النازيّة.

لاحقاً، في ظلّ خروتشوف، استفاد المثقّفون من الاسترخاء النسبيّ، لكنّ الستالينيّة كانت أصلب من أن تختفي. شوستاكوفيتش اضطُرّ للانتساب إلى الحزب الشيوعيّ والظهور في مواقف مهينة يدافع فيها عن سياسات النظام.

رواية باسترناك الشهيرة «دكتور جيفاغو» هُرّبت إلى الخارج ونُشرت عام 1957 في إيطاليا، وبعد عام نال جائزة نوبل للآداب لكنّه خُيّر بين رفضها ومغادرة البلد، فآثر البقاء وعدم تسلّم الجائزة.

الشاعر جوزيف برودسكي طُرد من الاتّحاد السوفياتيّ في 1972. أقام ودرّس في الولايات المتّحدة وفي 1987 نال جائزة نوبل...

وهكذا دواليك حيث تكرّ السبحة وتتزاحم الأسماء التي تأسّست محنتها مع استيلاء أولئك المثقّفين على السلطة في 1917. واليوم، يصعب فهم فلاديمير بوتين و»فاغنر» دون التذكير بذاك التفريغ المتراكم الذي عرفته روسيا مذّاك.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الأحد - 4 شهر رمضان 1444 هـ - 26 مارس 2023 مـ رقم العدد [16189]

يقول المثقب العبدي:

وما أدري إذا يممت أمراً/ أريد الخير أيهما يليني

هل الخير الذي أنا أبتغيه/ أم الشر الذي هو يبتغيني

وفي البيتين مجاهدةٌ متصلةٌ بين حال الوعي بالخير وبين الوقوع في الشر، وكأني بالشاعر يصف حال البشر مع النسق الذي ينتاب سلوكهم ويدير تصرفاتهم حتى لتجد أشدهم وعياً وانفتاحاً في فكره وثقافته ينقلب من دون إدراك منه إلى مستبدٍ ومنحاز وربما عنصري وإقصائي، يحدث هذا وقت الامتحان الدقيق وغير المتوقع كأن يقع في حال استفزاز أو حال مواجهة، حيث يغيب العقل الحاكم ويتحول الحليم إلى جاهل، وللحلم أوقات وللجهل مثلها، كما يقول الشريف الرضي، وهذه هي المنازعة بين خير نريده وشر يريدنا، ويفوز الشر في كثير من الأمور، كما حدث للحارث ابن عبادة الذي سعى للصلح بين المتحاربين وقدم ابنه فديةً للمصالحة وكانت الأمور ستسير بخير لولا ما فعله المهلهل، إذ قتل ابن الحارث وقال له بؤ بشسع نعل كليب مما حول الولد لفديةٍ لنعل كليب وليس فديةً للصلح وإنهاء الحرب، وهنا صرخ الحارث:

لم أكن من جناتها علم الله/ وإني بحرها اليوم صالي

وطلب فرسه النعامة ودخل معها في الحرب والغارات بسبب كلمة فجرت غضبه وحولته من حليم عاقل إلى محارب يشارك في سعير الحرب، وقد كانت نيته إطفاء الحرب بين الأهل.

وهذه قصة صارخة الدلالة عن مفعول النسق في الذهنيات البشرية ومقدرته على اختراق الوعي البشري وتحويله من مسار متعقل إلى مسار طائش فاقدٍ للبصيرة.

وهذا في مصطلح النقد الثقافي هو ما نسميه بالعمى الثقافي حين تكون النسقية المتشيطنة هي الموجهة للتصرفات فيغيب العقل والوعي والحكمة، وتحل أوقات الجهل كما في بيت الشريف، ولا أحد من البشر يسلم من هذه التقلبات بين خير وشر أو لنقل بين الوعي والنسق تماماً كحال الجسد بين الصحة والفيروس، في مغالبة متصلة بين الطرفين، وفي القصص الكبرى للأمم سنرى أن لحظات النسق هي العامل المشترك في صناعة الحروب والفتن والانفصالات في العلاقات والصداقات، وكذلك في المواقف والرؤى، ومنها يأتي تبرير العنف، وكأن العنف هو دفاع عن السلام، أو أن السلام لا يتم إلا عبر العنف، وتكشف عن ذلك محاولة الحارث الذي نوى السلام، فتحول لمحارب مع المحاربين ولم يك من جُنات هذا العنف غير أن العنف طحنه حتى جعله يشهر سيفه، ويتحول من حكيم إلى جذاذ رؤوس.

***

د. عبدالله الغذامي

عن الاتحاد الامارتية في يوم: 25 مارس 2023 02:23

اشتهرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أطروحة المفكر الجزائري مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار» وهي ذات جانبين: جانب الضعف البنيوي بحيث يبعث ذلك على إغراء القوى الصاعدة بمهاجمتها - وجانب الأمارة على تلك القابلية بحيث يسود الولع من جانب «المغلوب بتقليد الغالب» بحسب القاعدة الخلدونية المعروفة.

وبذلك فقد كانت رؤية مالك بن نبي هذه آخر صِيَغ تعليل انحطاط الألف عام الذي التقى على القول به المستشرقون ونقّاد التقليد من العرب والمسلمين منذ أواخر القرن التاسع عشر.

وفي الحالتين أو الزمانين ما كانت رؤية الانحطاط هذه بديهية. ففي أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، كانت مظاهر اليقظة والنهوض ومقاومة الاستعمار واسعة الانتشار. وكذلك كان الأمر في خمسينات القرن العشرين، حين تصاعدت حركات التحرر من الاستعمار والتجديد في العالم وإعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد اختلفت الأنظار في أسباب الرؤية التشاؤمية هذه. فمنهم مَنْ أعادها إلى السيطرة الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر، ومنهم من أعادها إلى تجدد الحيوية الاستعمارية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

بيد أنه كان هناك من لاحظ أنه لا بد من تأمل موقع أو مواقع القائلين من المؤرخين أو منظّري انهيار الحضارة في المجرى العام. فهذا التنظير للانحطاط بالمشرق أو انحطاط المشرق، شابهته رؤى وأفكار بشأن الانحطاط في الحضارة في الغرب. ويذكرون من ذلك مطالعة أوزوالد شبنغلر الألماني عشية الحرب العالمية الأولى بعنوان: انهيار الحضارة الغربية. ونجد نفس الرؤية في أربعينات القرن العشرين في عمل ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول! عند شبنغلر نجد ذاك الاستظهار للروح المأساوي في المسيحية - كما فعل نيتشه - وعند كاريل نجد الاستنتاج أنّ هذا الاختلال يعود إلى تقدم علوم المادة على علوم الإنسان. وما وافق أرنولد توينبي على الرؤيتين، وإلا فكيف ازدهرت الحضارة الأوروبية طوال القرون الثلاثة الأخيرة، أما رؤية كاريل وإن ظاهرتها أهوال الحرب الثانية؛ فإنّ الانتصار على الشذوذ الهتلري انتصارٌ لروح الحضارة الإنسانية في سُنّتها التاريخية بين التحدي والاستجابة.

اشتغل توينبي وفرنان بروديل على حركة التاريخ في المديات الطويلة، بينما اشتغل ألكسيس كاريل ومالك بن نبي ومثلهما شبنغلر على علائق المادة والروح في الدواخل الإنسانية للأفراد والجماعات. وبذلك فإنّ مقاربة كاريل ومالك بن نبي كانت إرادوية، بينما كانت مقاربة توينبي تاريخية.

إنّ هذه العودة للحديث عن مصائر الحضارة سببها النزوع التشاؤمي المتصاعد في المشرق العربي، وفي الغربين الأميركي والأوروبي. في المشرق العربي بسبب تصدع الأنظمة واندلاع الحروب، وفي الغربين بسبب أزمات الرأسمالية وظواهر الشعبويات، وأخيراً الحرب الروسية - الأوكرانية.

كان قسطنطين زريق المفكر المعروف، وفيما يشبه الردّ على مالك بن نبي قد ذهب إلى أنّ قيام الحضارات ليس أمراً إرادوياً بقرار فردي أو جماعي، بل هو في السياقات العالمية، وهي تتمثل في أمرين: حركة التحرر من الاستعمار وقيام الدولة القومية. وما نسي مالك بن نبي «زمن ما بعد الموحِّدين» (آخر الدول القوية بالمغارب، ونحن بالمشرق نذكر الحروب الصليبية والغزوات المغولية)، فاندفع باتجاه «النهضة المصرية» والتحالف الآسيوي - الأفريقي، وحركة عدم الانحياز؛ كل ذلك اعتبره سبيلاً للخروج الممكن من وهدة القابلية للاستعمار، بنفس الإرادوية القائمة على العقيدة والأرض والزمان. بيد أنّ كلا الرجلين عاد لشيء من التشاؤم في السبعينات، فتحدث زريق عن «استحقاق الحق»، وتحدث مالك بن نبي عن صعود الاحتجاجيات المدمرة باسم الدين!

إنّ هذا الإحساس بالفجيعة والوحشة إن وجد بعض التسويغ في أحداث العقدين الأخيرين بالمشرق العربي؛ فالأمر ليس كذلك في حالتي الولايات المتحدة وأوروبا. لكنّ الأميركيين وإلى حدٍّ ما الأوروبيين يشخصون حالتهم بما لا يختلف كثيراً عن تشخيص المثقفين ومفكّري الحضارة لحالتنا. وعماد هذا التصور أنّ الولايات المتحدة يتراجع دورها على رأس الحضارة الغربية التي كانت تتغنى بالانتصار قبل ثلاثة عقود؛ لكنها اليوم تقع تحت عبء التصدي للتفوق والصعود الصيني. ويضاف لذلك أنّ هذا الصعود يتخذ طابعاً عسكرياً في بحر الصين الجنوبي، وفي مساعي روسيا الاتحادية العسكرية لاستعادة ما فقدته بعد عام 1990. وهناك ثالثاً أزمات العولمة التي أطلقت الولايات المتحدة أمواجها لاكتساح العالم باقتصادات السوق؛ فإذا هي تعود عليها بإخفاقات بحيث صارت السوق أسواقاً، وسمحت حريات التنافس للصغار والأوساط بتطور الأحجام ومهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها. أما الأوروبيون، وحتى قبل الحرب على أوكرانيا، فقد روّعهم الخروج البريطاني من الاتحاد، ثم روعتهم إحساسات الحصار بين أميركا والصين وروسيا. وبعد ما يزيد على 70 عاماً على انتهاء الحرب الثانية، تجد أوروبا نفسها في قبضة الإحساس بالحاجة إلى الحماية من جانب الولايات المتحدة، في حين تسيطر على الأميركيين إحساسات السطوة مرة، وإحساسات الانكفاء مرات. وفي زمن الهول نتيجة تراجع الموقع وربما الدور، يريد استراتيجيون أميركيون كثيرون العودة إلى النفس والداخل، للمراجعة وتأمُّل ما حصل ويحصل بعيون الثقافة والحضارة والاستراتيجيا وليس بعين السوق والعسكر وحسْب!

هل يجوز اعتبار ما حصل في المشرق العربي وللمشرق العربي انتكاسة حضارية أو أزمة حضارية؟ ونحن – وليس على سبيل التعزية للنفس – نجد أنّ هذه الأحداث المفجعة (التي بدأت بأحداث عام 2001 على الولايات المتحدة وليس قبل ذلك!)، يمكن أن تُفهم انطلاقاً من فلسفة التاريخ عند أرنولد توينبي في التحدي والاستجابة. ونحن نرى في حِراك النهوض العربي مصداقاً لتلك الاستجابة للتحدي الكبير. لكنّ الأحداث تلك يمكن أن تُفهم باعتبارها ناجمة وبشكلٍ مزدوج عن «تفويتات» الدولة القومية، والانشقاقات الصحوية والعنيفة في التفكير والتدبير في الإسلام الحديث. ويذهب الأستاذان الراحلان جلال أمين وجابر عصفور إلى أنّ هذه الإمكانية الثانية يمكنها أن تفسّر مسألة «التحدي» الذي واجهه العرب في هذه الحقبة، ويضيفان إلى ذلك: السياسات الدولية.

لقد واجهت الدول الوطنية العربية منذ ستينات القرن العشرين وما بعد، مشكلات كبرى مع التحدي الصهيوني، وتحولات الحرب الباردة. وفاجأتنا جميعاً التطورات في التفكير الديني، وفي تصورات البدائل في التاريخ والحاضر. ومن وراء ذلك كلّه ومعه السياسات الدولية التي صارت في النهاية أكبر التحديات.

التفسيرات الثقافية والحضارية لأزمة من الأزمات الحاضرة هي حلولٌ سهلة. وهو الأمر الذي سار فيه المؤرخون والمعلّقون والروائيون العرب والمسلمون. لكنهم ما كانوا منفردين في ذلك؛ بل يسير فيه الاقتصاديون والاستراتيجيون الغربيون في نزوعٍ غلّاب يعتبره البعض تهويلياً، بينما يرى البعض الآخر أنه اتجاهٌ تحذيري مفيد. وفي كل الأحوال، القول ما جاء في المثل المأثور: المياه تكذّب الغطّاس أو تصدّقه!

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الجمعة - 2 شهر رمضان 1444 هـ - 24 مارس 2023 مـ رقم العدد [16187]

ارتبط مفهوم «المثقف» وهو مفهوم إشكالي وغامض عموماً، بكثير من التصورات الرومانسية، عن دور اجتماعي وفكري وسياسي يشير إلى ضمير أو أمانة فكرية ما. وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي على الأقل اتخذت تلك «الأمانة» شكلاً أكثر أخلاقية، إذ بات من المستهجن أن يعبّر «المثقف» عن أمة أو طبقة أو جماعة معينة، لما في ذلك من شبهات قومية وعنصرية وفئوية، لم تعد مقبولة، أو ارتباط بأيديولوجيات باتت تُعتبر متحجّرة. صارت مهمة المثقف ليست أقل من «قول الحقيقة» بوصفه فرداً مستقلاً وحرّاً، ويا حبذا أن تكون «السلطة» هي الطرف المُخاطب بتلك «الحقيقة». المفهوم الغامض صار ثلاثة: المثقف والحقيقة والسلطة.

بالعودة إلى إدوارد سعيد، وهو مبتكر عبارة «قول الحقيقة للسلطة» نجد في الفصل الخامس من كتابه «المثقف والسلطة» المعنون بتلك العبارة، كثيراً من السرد الذاتي والمفاهيم غير المضبوطة، إلا أنه يمكن استخلاص بعض الأفكار الأساسية من النص، منها أن القيم الكونية عن الحقيقة عبّرت في كثير من الأحيان عن نزعة للسيطرة والهيمنة، غربية غالباً، إلا أن هذا كان قبل بروز حركات التحرر الوطني ومثقفيها، الذين وسّعوا القيم الكونية، وأضافوا لها أصوات الشعوب المستعمرة والملوّنة، واليوم وقّعت الدول كلها على شرعة حقوق الإنسان، وغيرها من الاتفاقات التي تصون حقوق النساء والأطفال والعمال واللاجئين، وبالتالي على المثقف أن يتخلّص من تقوقعه على ثقافته وأمته، وأن يوفّق بين الحقائق التي ورثها عنهما، وإدراك اختلاف بقية الثقافات والأمم؛ ومن ثم معالجة ما يتوفّر له من بيانات ومعلومات، رغم نقصها، لإظهار الانتهاكات والمظالم والعدوان ضد البشر، حتى لو كا لانت دولته من ارتكبها، ويعرضها باعتبارها حلقات في سلسلة تاريخية متصلة؛ وبالتالي يجب أن يتخذ المثقف دور الخبير أو تقني المعرفة المحترف، العامل في مؤسسة سلطوية ما، بل المفكر المستقل القادر على قول الحقيقة.

قد يكون هذا سرداً جيداً لأستاذ أمريكي من أصول عربية في حقبة ما بعد حرب الخليج الثانية، إلا أنه يُظهر «المثقف» أشبه بـ»روح حرة» غير مرتبطة إلا بضمير غير مفهوم الجذر والمنشأ، ما يسبغ عليه صفة «رسولية» إلى حد كبير، دون أن يوضح الكيفية التي سيستطيع بها الرسل الكونيون من المثقفين البقاء قابضين على جمر الحقيقة؛ وكذلك المصدر الذي يستقون منه كل ذلك الضمير الحي. في كل الأحوال بات السرد السعيدي قديماً بعض الشيء، رغم تأثيره وحضوره، وأمسى نموذج «المثقف» عموماً منتمياً لبلاغة غير مستحبّة في أيامنا، فيما ظهر نموذج جديد يمكن تسميته «الناشط الثقافي» القابض بدوره على جمر الحقيقة، إلا أنه لا يبذل جهداً نظرياً كبيراً، حتى بالمفهوم السعيدي، لأن الحقيقة «المستندة إلى البيانات» تبدو شديدة السهولة والوضوح في أيامنا. فهل يقول ذلك الناشط «الحقيقة»؟ ومن أين سيأتي بها حقاً ليرفعها في وجه «السلطة»؟

السعيدية الجديدة

يقوم السرد السعيدي عن «الحقيقة» على نوع من الجدل بين الانتماء المحلي والعالمية، فالمثقف عندما يكون جزءاً من حركة تحرر، نضال طبقي، دفاع عن هوية مهمشة ما، يجب أن لا يقتصر على توضيح معاناة الفئة التي ينتمي إليها، بل يربطها بمعاناة جميع البشر، وهكذا نصل إلى كونية مغايرة لكونية الاستعمار، التي لم تر أن الشعوب الخاضعة تمتلك الأهلية التي تخوّلها الحصول على حقوق متساوية. يمكن القول إن هذا التصوّر بات شبه بديهي نظرياً في عالمنا المعاصر، فعمليات «الربط» بين أشكال المعاناة والمظالم كافة، التي يتعرّض لها البشر، تمّت على يد كثير من المفكرين والحركات الاجتماعية، بل باتت لها مؤسساتها القوية، التي تدعم نشاط أي مجموعة مضطهدة، تريد ربط مظلمتها بحقوق كونية. إلا أن نموذج المثقف الفرد، الذي يرفض أن يقيّد ضميره بمؤسسة أو جماعة أو أمة، قد أدى إلى بعض الاختلال في الطرف الأول من المعادلة السعيدية، وهو «الانتماء» وهذا لا يعني أن المثقفين صاروا أقلّ ميلاً لإظهار هوياتهم، بل ربما يكون العكس صحيحاً، وإنما أن ارتباطهم بحقائق وحقوق كونية، باتت معروفة ومحددة بشكل مسبق وجاهز، جعلهم أقل اهتماماً بفهم واقعهم المحلي، مكتفين بإسقاط «الحقيقة» عليه، وبالتالي فإن ما خسروه أساساً هو السياسة، أي فهم توازن القوى، والتركيبات المعقدة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي يُخاض ضمنها الصراع الاجتماعي في بلدانهم.

انبنى سرد إدوارد سعيد حول «المثقف» على نوع من النقد لمفهوم «المثقف العضوي» للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي المثقف المرتبط بفئة أو طبقة اجتماعية، ويصوغ لها تصورها عن الذات والعالم، في إطار حركة الصراع الطبقي والأيديولوجي الذي تخوضه.

تأثّر المثقفين بتيارات ثقافية وسياسية خارجية ليس أمراً جديداً بالتأكيد، بل ربما كانت الثقافات الإنسانية عبارة عن عمليات ترجمة وتبيئة للمؤثرات الخارجية، وجدل معها، يؤدي إلى تركيبات وتحويرات مبتكرة، إلا أننا، وربما للمرة الأولى منذ نشأة الحيّز العام الحديث، نتعرّف على نمط من النشاط الثقافي، يعتبر أن مهمته الوحيدة هي «التوعية» بالمعنى الناشطي، أي نقل معرفة بحقوق كونية، غير مكتسبة نتيجة فعل سياسي، وإنما متعالية بوصفها آخر ما توصّل إليه «العالم» الذي يعني بالطبع المؤسسات الحقوقية والثقافية الغربية. لا يحتاج «المثقّف» هنا إلى الجدل أو التهجين أو التحوير، فـالحق بيّن ومعروف، ولهذا يصبح «ناشطاً ثقافيا» فهو لا يبذل مجهوداً فكرياً مرتبطاً بحالات سياسية واجتماعية متعيّنة، بل يقوم بمجرد نشاط، يبحث عن داعم، لإيصال «التوعية» إلى مستحقيها.

قد تكون لهذا نتائج مأساوية في دول قمعية مثل الدول العربية، ومنها التنكيل بالناشطين واعتقالهم وقتلهم، لكن اللافت أن الانفصال عن السياسة يجعل الناشطين غير معنيين أصلاً بالبحث عن قوة اجتماعية، أو جماعة سياسية يستندون إليها، قادرة على ضمان أمنهم بالحد الأدنى، ويكتفون بالاستنجاد بالضغط الدولي لتخفيف معاناة زملائهم الأكثر شهرة، والأوسع علاقات. هم جاؤوا بقيمهم من «العالم» وعلى «العالم» أن يحميهم، وإلا سيكون قد خذلهم.

تلك هي النسخة المعاصرة من «قول الحقيقة للسلطة» لكن هل هي حقيقة فعلاً؟

اقتصاد الحقيقة

يبدو أن الدخول إلى الكونية له متطلباته، وأولها أن يثبت الناشط الثقافي اضطهاده، وحرمانه من الحقوق المُعترف بها عالمياً. لا يكفي هنا الموقف أو الرأي، وإنما نمط جديد من «الانتماء» إشكالي جداً، فهو ليس انتماءً موجّهاً نحو الداخل، أي التعقيدات الفعلية للوجود الاجتماعي لجماعة أو هوية ما؛ وإنما نحو الخارج، أي لـ»العالم» الذي «يُمكِّن» بناء على إبراز عناصر ورموز وبيانات معيّنة، يمكن ترجمتها بوصفها انتماءً مضطهداً. لا يشبه هذا أي مفهوم فلسفي معروف عن الحقيقة، فالناشط الثقافي «يبدو» ولا «يكون» بمعنى أن نشاطه الأساسي هو استعراض كل ما يلزم لتأكيد أحقيته بنيل الاعتراف ومن ثمّ الدعم، وليس التعاطي الفعلي مع ما يمكنه استخلاصه وفهمه من عناصر عالمه، ومن ثم التفاعل معه على أساس موقف ما، قابل للمساءلة الاجتماعية والفكرية.

يتعامل الناشط الثقافي مع «أخلاق جاهزة» أي مجموعة تعاليم معممة عالمياً عبر مؤسسات قوية، يمكن اعتبار غض النظر عن موقعها السياسي والأيديولوجي نوعاً من الظلامية، لأنه يقوم على التجهيل بعوامل مادية أساسية فاعلة في الواقع المعاصر. ويمكن القول إن تداول تلك الأخلاق يتم ضمن اقتصاد معيّن للحقيقة، مرتبط بتوزيع للقوة والمنافع المادية والرأسمال الرمزي بين الفئات الأقدر على الاستفادة من العولمة المعاصرة، وما تعمّمه من أيديولوجيات «كونية».

من جديد، ومثل كل العصور السالفة، يخبئ النموذج الرسولي لـ»المثقف» كثيراً من علاقات القوة والهيمنة. ماذا تبقّى إذن من «صورة المثقف» في عصرنا؟

المثقف العامل

انبنى سرد إدوارد سعيد حول «المثقف» على نوع من النقد لمفهوم «المثقف العضوي» للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أي المثقف المرتبط بفئة أو طبقة اجتماعية، ويصوغ لها تصورها عن الذات والعالم، في إطار حركة الصراع الطبقي والأيديولوجي الذي تخوضه. وإذا كان هذا المفهوم قد عفى عليه الزمن، مع تغير أشكال الإنتاج والتكوينات الطبقية، فإن نموذج المثقف الفرد، الكوني والرسولي، العائد لإدوارد سعيد، تجاوزه الزمن أيضاً، بعد أن تقادمت كونية العولمة نفسها، بكل ما أنجبته من «ناشطين». ربما كان على «المثقف» الحالي أن يكون أكثر تواضعاً بكثير، فهو ليس طليعة طبقة ستقود التاريخ، ولا فرداً يستبطن بذاته الضمير الإنساني، بل مجرد عامل، بين عمّال كثيرين، في مجال إنتاج «غير مادي» صار متداخلاً في كل فروع الإنتاج والاقتصاد المعاصرة. لقد بات «في» الطبقة، وليس جزءاً من «إنتلجنسيا» تكون مع الطبقة أو على رأسها؛ أصبح «كونياً» رغماً عنه، بكل ما تحويه هذه الكونية من تناقضات واستغلال ونفاق.

فئة العمال الثقافيين هذه لا تختلف شيئاً عن بقية العمّال في المجال العاطفي والرمزي والتواصلي. هؤلاء كلهم جزء من طبقة، تمّت فردنة المنتمين إليها، ولا تعي ذاتها وحقوقها، وربما من هنا يجب الانطلاق في البحث عن دور المثقف/العامل.

***

محمد سامي الكيال - كاتب سوري

عن القدس العربي في يوم: الجمعة: 24 مارس / 2023

اعتاد الفلاسفةُ والمفكرون منذ فجر تاريخ الفكر البشري على وصف "الإنسان" بأنه "حيوان عاقل"؛ من جهة اعتبار أنه الكائن الأكثر استخداما لعقله (= كَمّاً)، والأشد معقولية في هذا الاستخدام (= كَيْفاً). وحتى مَن وَصَفَه تعريفاً بأنه (حيوان ناطق)؛ فإنما أراد الدلالة على العقل من خلال كون النُّطْق الإنساني صورةَ العقلِ الظاهرة: منطقية النطق/ الكلام بنسبة ما؛ وإلا فَكُلُّ حيوان يصدح بصوت ما. بل حتى أولئك الذين وَصَفوا الإنسان بأنه (حيوان سياسي)؛ إنما أرادوا الدلالة على العقل من خلال أحَد أهَم وأوضح مظاهر التدبير العقلي العام الذي يقوم على التَّبَصّر بعناصر الفعل الواقعي، والموازنة بينها، وتَسْبيب مُتَوالِياتها، وتوقّع مآلاتها...إلخ فعاليات التدبير السياسي.

هل الإنسان مُنْحَازٌ لِنَفْسِه عندما يحتكر صفة "العقل" للنوع الإنساني خاصة ؟ الكتابات البشرية منذ بداياتها الأولى، وإلى يومنا هذا، تُؤكِّد على هذا الانحياز اللاَّمعقول. الإنسان يضع نفسه على أعلى هَرَم المعقولية بلا تردّد، وبدعوى المعقولية ذاتها. هذا في حال تواضعه، وقبوله أن يكون لبعض الكائنات الأخرى مستوى ما من المعقولية النسبية. وأما في أغلب الأحوال، أي عندما لا يتواضع كثيرا، فهو يضع نفسه على أعلى هرم المعقولية، محتفظا بكل مستويات هذا الهرم لبني جنسه احتكارا، ولا حَظَّ لغيره إلا الغرائزي والأهوائي والعَضَلي، أي المادي الحيواني الآلي أو شبه الآلي، الذي إن تَوَفَّر على ذكاء محدود؛ فليس إلا ذكاءً آليا يتحوّل في كثير من الأحيان إلى محض غباء قد يقود بعض فصائل هذا النوع الحيواني إلى الانقراض.

اليوم، رغم تطوّرـ بل وتنوّع ـ صفةِ المعقولية، وُصُولاً إلى تفكيكها؛ فإن أحد أشهر المؤلفين المعاصرين/ يوفال نوح هراري، عندما أراد كتابة تاريخ للنوع البشري، لم يتردّد في وصف إنسان هذا النوع بـ"العاقل"، وأن يكون هذا عنوان كتابه؛ وكأن لا عاقلَ إلا هو؛ أو كأن العقلَ أبرزُ صفاته وأشدّها تمييزا له، بينما التاريخ البشري يسخر، ويُسَجّل اعتراضاتِه الضّمنية على هذا التمييز الحاد ذي الطابع الاحتكاري.

طبعا، لا يعني هذا أن النوع البشري لا يَتوفّر على "عقلانية ما"، سمحت له بأن يخطو في سبيل التطوّر خطواتٍ واسعةً مكّنته من السيطرة على بقية فصائل النوع الحيواني، هذا النوع الذي لا يتجاوز الإنسان ذاته أن يكون تفريعا عليه بصورة ما.

الإنسان بلا شك، أكثر معقولية من سائر أنواع المشترك الحيواني؛ على اعتبار أن "العقلانيات" رغم تطوّرها باستمرار، ورغم تنوعّها الثري، تُشير ـ في خطوطها الرئيسة ـ إلى نواة المعنى العقلاني الكامن وراء هذا التطوّر وهذا التنوع، أقصد أنها تعني في قواسمها المشتركة: "التفكير الواقعي المنظّم"، حيث يجري ترتيب/ تنظيم المعرفة البشرية وتَسْبيبها وتنسيبها على ضوء مُعْطَيات الوقائع المادية التي تُكوِّن نقطة البداية دائما، دون أن تكون المرجع النهائي في كل الأحوال.

عموما، لا بد من التأكيد على أن هذا الاعتراف بالقابلية العقلانية للإنسان، لا يعني أنه "عاقل بالكامل"، ولا أنه "عاقل في كل الأحوال"، بل ولا أن أغلبية النوع الإنساني "عقلاء في أغلب الأحوال"؛ ولو على سبيل التَّعقّل النّسبي. الإنسان ـ في أفضل أحواله ـ عاقل بدرجة ما، بينما هو ـ في الوقت ذاته ـ يعيش دائما على شَفَا جُرُفِ الأهوائي والغرائزي والعبثي، ويعيش غالبا على شَفَا جُرُفِ التوحش الهمجي. بل حتى هذا الوصف الذي يُقَرِّر "العقلانية النسبية المهزوزة" هو وَصْفٌ مُتَحَقِّقٌ بالنسبة للشريحة المحدودة من كل مجتمع إنساني مُتطوّر؛ وبالتأكيد هو يَضْمُر ويَضِيق ـ نِسْبَةً وتَناسباً ـ مع رُسُوخ ظاهرة التخلّف، ومع شموليتها، كقاعدة عامة في كل مظاهر التجمّع الإنساني.

إن هذه النخبة العقلانية التي قادت حركة التطور البشري ليست هي صورة الواقع البشري، ليست صورته في حقيقته الأشد رسوخا والأوسع شمولا. فهذه "النخبة العاقلة" ليست إلا الانحراف الاستثنائي الإيجابي عن النسق العام لظاهرة النوع الإنساني المحكوم بدوافع غير عقلية بالأساس.

الإنسان قبل أن يكون كائنا عاقلا، ودون أن يكون كائنا عاقلا، هو كائن خرافي بالأصالة، قبل كل شيء، وبعد كل شيء. وكونه كائنا خرافيا بالأصالة، يعني أنه دائما في حالة تَنافُرٍ حَادٍّ مع مسارات التعقّل كافة. وما يقبله من هذه المسارات فإنما يقبله تحت ظرف استثنائي خاص، ولهدف استثنائي خاص، وغالبا ما يكون هذا القبول الحَرِج التِفافاً على التعقّل ذاته؛ لصالح منحِ مسارات الخُرَافة فرصةَ الظّفرِ بالمشروعية، ومن ثَمَّ الانتشار على أوسع نطاق.

إن الإنسان ـ بطبعه من حيث هو إنسان ـ يبتهج غاية الابتهاج بالخرافة، وينتشي غاية الانتشاء بالأوهام، ويحترم ـ بدرجة التقديس ـ متاهاتِ الأسرار وعوالمَ الغموض، ويَثِق ـ بدرجة التسليم الكامل ـ بالخُرَافيّين والعُصَابيين والمُتطرفين والمُتَعصِّبين والزعماء الغوغائيين. إنه يجد نفسه إنسانا حقيقيا في هذه العوالِم اللاَّمعقولة، بينما يجد نفسه إنسانا غريبا، إنسانا مُزَيّفا؛ في أي سياق من سياقات التفكير العقلاني المُنظّم الذي يُحَاول ترشيد هذه العواصف الهوجاء من الأهواء والنزوات والأحلام الكاذبة التي تحاول تجاوز الواقع الذي لا ترتاح إليه بالهروب منه؛ و لو إلى أسخف وَهْم من الأوهام.

لقد كشفت وسائل الاتصال الجماهيري هذا البُعد الخُرَافي الأصيل في الإنسان؛ كما لم يَتكَشّف مِن قبل. فهذه الوسائل التي منحت الجميع فرصة التفاعل التواصلي؛ كفاعلين وكمستقبلين في آن، أوْضَحت بشكل مباشر حقيقة مؤلمة مفادها: أن البشرية لو خضعت لمستوى الوعي الدَّهْمَائي/ الغوغائي الذي يُشَكِّل وَعْيَ الأغلبية الساحقة من بني الإنسان؛ لَبَقي النوع الإنسان إلى اليوم رَهين كهوفه وغاباته وأدغاله، إنسانا همجيا متوحشا؛ لم يتقدّم ولا خطوةً واحدةً في مسار التقدّم والرقي الإنساني.

إن الحسابات الخاصة الأكثر جماهيرية في هذه الوسائل التواصلية هي ذاتها الحسابات الأشد نفورا من العقل، الأجْرَأُ على الاستخفاف بقوانين العلم ومنتجاته في مجالات شتى، وخاصة في الطب البشري، كما هي الأكثر ترويجا للخرافات وللأوهام، و الأعرف ـ حسب وقاحة الادعاءات الكاذبة ـ بالمُؤامرات التي تجري في سراديب مُغْلقة على ذاتها منذ عشرات السينين.

بل ـ في مؤشر واضح وحاسم ـ ثمة حسابات مَكثت لسنوات تأبى أن تَنْجَرّ لمغازلة الوعي الجماهيري الكسيح بالسخافات وبالأوهام وبالأكاذيب؛ فلم تحظ بالمتابعة ولا بالتفاعل؛ إلا قليلا؛ أو أقل من القليل. لكنها، وبمجرد سقوطها ـ بفعل الإغراء الجماهيري ـ في مستنقع الترويج للخرافات الطبية والأساطير السياسية، والأكاذيب الشعبوية، والتفاهات العبثية؛ تحوّلت ـ في ظرف سنوات معدود ـ إلى حسابات رائجة متابعيها بالملايين.

أليس في هذا ـ لِمَن يُريد حَقّاً استبصارَ واقع الحال ـ دليلٌ ماديٌ مَلموسٌ، تَتواتَر وقائعُه، مُؤكدةً على أن الإنسان لا يرتاح للتفكير العقلي المُبَرْهَن، ولا يقنع بالإجراء العلمي المُقنّن؟

الإنسان لا تُغْرِيه الحقائق، ولا تُقْنِعُه الوثائق، ولا تُرْوِي ظمَأه السحري الأخبارُ الصادقة المُوَثَّقة ذات الطابع المؤسساتي؛ بقدر ما تَسْتَبِدُّ بوعيه الخرافات والغرائب. وكلما كانت الخرافات أشد سُخْفاً، والغرائب أبعد عن شروط المعقولية؛ كان الانجذاب الإنساني إليها أقوى، والوَلَع بها أشمل. ما يعني أن الإنسان ليس كائنا عاقلا، بل هو كائن خرافي بامتياز. ويجب التعامل معه على أن خُرافِيته هي الأساس، وأن عقلانيته مَحدودة بحدودها النخبوية، وأنها ـ في كل أحوالها ـ عقلانية نِسبية، ظرفية، هامشية، استثنائية، يَتَهَدَّدُها الوعيُ الخرافي الأصيل على الدوام.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم: 13 فبراير 2023

 

نشب نقاش طويل هذه الأيام حول الروبوت ومعالمه العملية وتحدياته الأخلاقية؛ شاهدت نماذج من عمله في عدد من المؤسسات الطبية والإعلامية، جهاز غاية في الذكاء ويمتلك مهارات استجابة عالية. البعض يقول إن الروبوت يهدد مصالح الإنسان بل ومصدر رزقه (العمل).

كنت أقول إنه وفي زمنٍ آتٍ، قد تنجز جميع مهامك اليومية من دون أن تتعامل مع أي إنسان، على مستوى الخدمات المنزلية، والتبضع الاعتيادي، وإجراء المعاملات الخدميّة، وسواها، هذا هو زمن الثورة التقنية الباهرة والآسرة والموحشة، لقد أخذتْ مدى لم تبلغه من قبل على الإطلاق.

قبل قرن من الزمانٍ كان حكماء البشرية يتلصصون على المستقبل، محاولين التنبؤ بمصائر التقنية وآثارها على بني الإنسان.

في آخر القرن العشرين طرح نيتشه انتقاداته لـ«عصر الآلات»، التي تجعل: «الحشود آلة نمطية واحدة، يذوب فيها دوارها الفرد، وتحوّله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة».

هيدغر جاء من بعده ليدرس علاقة «التقنية بالعالم» وليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927 نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل «لوك فيري» - في مقالة له - يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة»، إذ اعتبر التقنية كتمظهر هي أساس الحداثة وعصبه الرئيسي.

بينما لوك فيري يرى أن تفكير هيدغر تعمق بالتدريج في هذه المسألة، وخاصة من خلال تحديد طبيعة علاقة التقنية بالعالم من حيث هي علاقة استفسار ومساءلة، ففي دراسة هيدغر عام 1937 حول نيتشه و«العود الأبدي» نراه يشير إلى «الأسلوب التقني للعلوم الحديثة» وإلى «العقل الحسابي» الذي يحكم التقنية. كما جمع هيدغر في محاضرته سنة 1938 تحت عنوان «عصر تصورات العالم» كل العناصر لما سيعتبره فيما بعد «تأويلاً أو فهماً تكنولوجياً لعصرنا»، فهو يصف في محاضرته هذه «التقنية الممكْننة» بأنها (الظاهرة الأساسية للأزمنة الحديثة). أما في كتابه «الوجود والزمن» فقد تطرق إلى هذه المسألة حينما تحدث عن التحلل والانحطاط من حيث هو عالم الانشغال، فهو يقول «بأن الطبيعة بالنسبة للذات المنفتحة (الدازاين) هي مخزن من الخشب وبأن الهضاب هي مستودع من الصخور، وبأن النهر قوة محركة مائية وبأن الهواء نافخ ودافع الزوارق الشراعية».

أما اليوم فإن جبال التقنيّة قد تفجّرت براكين بحمم، والنبوءات المستقبلية حول تطوّراتها يكاد لا يصدقها عقل، إذ ستصبح هي سيّدة الإنسان، وربما ليست صدفة أن يحذّر هيدغر آنذاك من تفوّق التقنية على الإنسان.

إن هذا ما بدأ يحدث تدريجياً… «الروبوت» بدأ يأخذ من وظائف الإنسان الخدماتية الوظيفية، والمتخصصون يتحدثون عن أدوار إبداعية مستقبلية لهذا الغول القادم، وهو الآن مشترك جزئياً بإجراء عمليات جراحية، ومن الممكن أن يدخل بخطوط الإبداع والخلق، مثل كتابة نص أدبي، أو تجهيز مادة صحافية، أو القدرة على التحرير والتصحيح ضمن مساراتٍ تقنية مهولة. التقنية يمكنها أن تحلّ محل الإنسان المغتبط بذاته وبقدراته، وهي ستضرب بكل اتجاه وبلا هوادة؛ ستكتسح أدوار الإنسان بهذا العالم؛ بدول خليجية حلّ الروبوت مكانة جيدة نسبة إلى محدودية تطوره؛ إذ قام بمهام الإنسان في السوبر ماركت، ويمكنه أن يقوم بذلك في المطارات، وفي أماكن أخرى، مما يجعل وظيفة الإنسان وقيمة عمله محدودة بالمستقبل، وقد يكون عاملاً مع الروبوت أو عنده بدلاً من أن يحدث العكس، هذه هي التقنية تخالها مثل كيميائي يخلط بمختبره ما يحرقه.

قبل سنوات تحدّث العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ عن مآلات علاقات الإنسان بما لديه على هذا الكوكب، وكانت صيحته مدوّية أن «التكنولوجيا يمكن أن تدمر البشرية، إذا لم يتمكن الإنسان من السيطرة عليها. إن العدوانية كانت منذ فجر الحضارة مفيدة بالقدر الذي تمنح معه أفضلية للبقاء. وذلك مبرمج في جيناتنا وفق النشوء والارتقاء الداروني. ولكن التكنولوجيا تطورت الآن بوتيرة بحيث أن هذه العدوانية يمكن أن تدمرنا جميعاً بحرب نووية أو بيولوجية. ومن الضروري أن نسيطر على هذه الغريزة الموروثة ولكنها هي ذاتها تخلق مشاكل. وقد يصبح ذلك طغياناً؛ إن الإنسان أوجد تكنولوجيا يمكن أن تدمر الكرة الأرضية، وعلينا أن نعد أنفسنا لعالم جديد حلت فيه الروبوتات محل كثير من الوظائف اليومية الاعتيادية. إن الروبوتات يمكن أن تمحق البشرية وإن الرحيل عن الكرة الأرضية هو أملنا الوحيد، لأن أيامنا فيها معدودة… أعتقد أن الحياة على الكرة الأرضية في خطر متزايد يبدأ من محوها بكارثة مثل اندلاع حرب نووية مفاجئة، أو فيروس معدَّل وراثياً، أو أخطار أخرى، وأعتقد أن الجنس البشري لا مستقبل له إذا لم يرحل إلى الفضاء».

هذا النذير الخطير، يوضّح مستوى تحوّل دور التقنية خلال القرن الآفل، لن تبقى التقنية تحت هيمنة الإنسان، ستنزلق من يده مهما تحكّم بأزرارها، ستبتلع الأجهزة الذكية العقول وتذيبها ليسير الناس مهووسين مضطربين حائرين شاردين، فاقدين معاني كبرى من ذواتهم، لأن التقنية قد دمّرت ذاكرتهم، ونابت عن حركة عقولهم، وكسرت جدوى علاقاتهم. على المستوى الكوني فإن تقنيات الفتك البيولوجية لن تستمر طيّعة بيد الإنسان، وقل مثل ذلك عن «الروبوت» الذي سينهي مركزية الإنسان بهذا العالم، والتي تسيّدها منذ عصور الأنوار حيث «الكوجيتو» الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود)، الذي اعتبره ميشال فوكو لاغياً إذ «مات الإنسان» بالصيغة المركزية الديكارتية، وستكون التقنية سيدة الإنسان ومركز العالم، وسيتبع الإنسان ظلّه خائباً خاسراً معركته مع ما أبدعه هو: «منجزات التقنية المتصاعدة».

من المفجع ألا يدرك الإنسان مستوى معركته مع التقنية، باستثناء حكماء البشرية وعلمائها، نرى جلّ البشر، كل يوم، يغرقون، يذوبون، ينهزمون، تجرفهم التقنية بموجها، وتسلكهم بسلاسلها، وتخرجهم من جنّة الطبيعة إلى زمنٍ تقني افتراضي، وليس ذلك الزمن المفصلي ببعيد، إذ يغدو الإنسان ضيفاً على منتجات التقنية بهذا الكوكب.

هوكينغ الراحل قالها في حديثه: «يجب أن نكون حذرين جداً في هذه الفترة».

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ليوم: الخميس - 24 شعبان 1444 هـ - 16 مارس 2023 مـ رقم العدد [16179]

الصفحة 4 من 7

في المثقف اليوم