اخترنا لكم

- لا بد لي اولا من الدعوة الى إعادة النظر في هذا التوصيف واقصد التوصيف القومي للعقل. ليس هناك عقل عربي وآخر فرنسي وثالث روسي والى آخره. هناك عقل انساني يتلون جغرافيا وتاريخيا ولا يتفوق ولا يتراتب بعضه فوق بعض الا بابتكاراته وانجازاته الملموسة والآنية وهذه تتغير وتتطور. كما لا اعتقد ان العقل في العراق او العالم العربي او الإسلامي او أي مكان آخر في محنة في زمننا هذا. لكنه في معركة شرسة مع أعداء العقل لم تحسم نتيجتها بعد بلا شك. لكن المقدمات تشير الى ان عقلنا الواقعي النقدي منتصر فيها عاجلا ام اجلا. ما اراه حاليا هو ان العقل في بلداننا أكثر حيوية وعطاء من أي وقت مضى واكثر حرية أيضا بفضل التداعي المتزايد للحدود الجغرافية والدينية والقومية والقطرية وبفضل التكنولوجيا والاتصالات والمواصلات وانتشار فكرة التسامح والاعتراف بتكاملنا مع الآخر وهذا لا ينفي ان هناك في دولنا روادع عنيفة واعتداءات وقمع وحتى اعمال قتل يتعرض لها المفكر العقلاني الحر بما فيه المفكر الديني عندما يدافع عن العقل.

- من جهة أخرى، لا شك ان هناك في العالم العربيِّ وربما كل ما يسمى العالم الثالث، شعور قوي ومتوارث بِأنَّ العقل فِي محنة. ومَعَ ذلِكَ فإنَّ كَثيرًا مِنَ المُتحاوِرينَ في هَذا المَوْضوعِ لا يَتفقون على ما هو العقل ناهيك عما هو العقل العربي؟ فهذه المفردات وكذلك الثقافة هي من أكثر الكلمات تداولا وأشدها غموضا في نفس الوقت.

- وكذلك الحال بشأن أسباب هذه المحنة المزعومة ومترتباتها او نتائجها، اذ يندر ان يصل باحثان او مفكرانَ إلى تَحدِيدٍ واضِحٍ لِطَبيعةِ المحنةِ المقصودة ومَظاهِرِها ووَسائلِ معالجتها. كما لو انهم لا يتحدثون عن الشيء نفسه.

- وانعدام الاتفاق على المعاني هذا ليس جديدا، وليس طارئا في ثقافتنا المعاصرة. وقد يعتبره البعض سبب كل مُعْضِلاتِ وضعنا الفكري ونزعاته المهيمنة حاليا سواء الأصولية منها باشكالها المختلفة المنادية بالعودة الى الجذور او تلك الداعية الى القطيعة مع الماضي الثقافي بمجمله واستبداله بحداثة وما بعد حداثة غامضة التعريف هي الاخرى. وهناك طبعا من يرى ان هذا الاختلاف في المعاني هو مصدر ارتباك التعامل مع قضايا الأَصَالةِ والمُعاصَرَة والاخفاق في مَشْاريعِ النَّهْضة المختلفة.

- ان احد الجوانب الجوهرية في هذه المعضلة هي عدم الاتفاق على التمييز من جهة بين من يرى ان العقل هو كيان جمعي لا شخصي الامر الذي يطرح مشكلة الفصل بين المقدس والدنيوي لا سيما وان العقل الديني عقل جمعي بالضرورة او بقوة العادة الفكرية، وبين من جهة أخرى حقيقة ان عقلانية مقولات الفهم العقلاني، كالزمان والمكان والعدالة إلخ، وكذلك المفاهيم الضرورية للفكر المنطقي، تتقوم بعقلانيتها النسبية ككيانات فردية وشخصية في واقع الحال. وهنا تنطرح قضية ماهي شروط إمكان المعرفة العقلية، اي امكانية فصل الديني اي المقدس عن الاجتماعي اي الدنيوي. فهذا التمييز حاضر في كل ثقافات العالم الكبرى بما فيها المتنفذة عالميا؛ حيث أن المقدس، هذا الكائن الجمعي واللاشخصي والمفارق، يطرح نفسه كممثل المجتمع نفسه الا انه يتنازل ضمنا عن عدد من اليقائن السابقة نظرا الى ان مبدأ التطور الدارويني موجود دائما ومقبول من المجتمع وبالتالي من الدين حتى اعترف له بانه مصدر الأفكار الأساسية الضرورية لكل فكر عقلاني وحاضنته الاولى.

- وهذا ما نجده عند هيغل الدارويني العظم في كل فلسفته، لكن الذي يرى انه لا يمكن فصل "الاجتماعي" عن "الديني" وأيضا وبالحدود التي يعطي فيها الدين فكرة ملموسة عن الله، عن المطلق في علاقة إيجابية مع العقل الجزئي. وهكذا، وبالحدود التي تعبر فيه هذه الفكرة عن الوحدة بين الالهي والانساني، فان الدولة المنبثقة عن هذا الدين هي دولة حرية وحقوق عند هيغل، أي دولة عقلانية: "الحرية الواعية لا يمكن ان توجد إلا حيثما ندرك ان الفرد (الانساني) حاضر بشكل ايجابي في الذات الالهية". في الدولة فقط يمتلك الانسان وجوداً متطابقاً مع العقل". بموجب هذا المبدأ الاساسي في الفلسفة الهيغلية، فان الفكرة التي يكونها عقل شعب خاص عن الله، لا يجب ان تكون مجرد شيء ما يفكر به من قبل الأفراد، انما ان يكون، خصوصاً، واقعاً ملموساً ومدركاً كنظام اخلاقي يعبر عن العلاقة بين الانسان، باعتباره ارادة ذاتية، وبين المطلق باعتباره ارادة موضوعية او عامة. هذه العلاقة هي درجة وعي الحرية عند هذا الشعب. هذا الوعي الذي يصبح مدركاً يطرح نفسه كواقع لهذه الحرية. لـ"انه في الدولة، يعبر المطلق عن نفسه عبر قوانين وعبر تحديات عقلانية وكونية".

المشكلة لدينا اذن هي في غياب دولة عقلانية: دولة الحرية الواعية. وهنا تحديدا تكمن محنة العقل. ومن هنا رفض التفسيرات الأخرى في هذا الشأن. وفي مقدمتها التفسيرات التي تمد جذورها في النزعة الذاتية الغربية وخرافة التفوقية الدينية التوراتية والانجيلية وغيرها. وهذه التفسيرات التي ولدت وتطورت في اوربا الغربية في القرن الثامن عشر، مرتبطة غالبا بصعود النزعة القومية في القارة الأوروبية بعد ان كان الاعتراف بالعبقرية الفلسفية للشرقيين وخاصة المسلمين ثابتا لدى المفكر الغربي. وقد عبر روجيه بيكون عن ذلك بوضوح قاطع عندما قال "ان المعرفة جاءت الى العالم اربع مرات: الاولى والثانية بالعبرية عبر الانبياء وعبر حكمة سليمان والثالثة بالاغريقية عبر ارسطو والرابعة بالعربية عبر ابن سينا..". وواضح هنا ان ارسطو يرمز للعبقرية الفلسفية الاغريقية باعتباره نتاجها الطبيعي، في حين يرمز ابن سينا للعبقرية الفلسفية العربية والاسلامية باعتباره نتاجها.

واختصارا لكل ما تقدم نقول بان الثقافة العربية الحديثة لم تستطع بعد انتاج هؤلاء "الفلاسفة العقلانيين الحقيقيين" وربما لن تنتج منهم لفترة طويلة اخرى طالما ظلت المعايير الحضارية التي تحكم العالم العربي والإسلامي حاليا، سيدة الساحة مستقبلا والتي تتجسد بغياب الحرية بمعناها الشامل وليس فقط السياسي. فمعايير الاستبداد والقسرية والردع من جانب والقدرية والكبت والتقية من جانب آخر، وانها تحكم المعادلة الملموسة والميتافيزيقية للعلاقة بين الواحد منا والآخر وحتى الواحد ونفسه. وهذا الشكل من العلاقة هو الذي يحكم بداهة علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني وعلاقة الجماعة بالفرد، والتي تتميز بهيمنة الاول وتدمير الاخير وتحويل الفرد الى مجرد رقم بين الارقام لا يمتلك من حريته اي من انسانيته سوى طابعها الفولوكلوري. ففي ظل معايير كهذه لا يبقى من الفلسفة إلا طابعها الفولوكلوري هي ايضا لانها تفتقر الى الشرط الموضوعي لتحققها العميق.

وهذا الشرط الموضوعي هو الحرية والحرية بالتحديد. لان الحرية هي ليست مجرد حاجة او ضرورة بالنسبة لعمل العقل، كفعل ابداعي بذاته، انما هي مادة وجوده الاساسية واكاد اقول الوحيدة لان الفلسفة في أسمى تعريفاتها، في تعريفها الاول والاخير كما أكدنا من قبل ليست شيئا آخر غير الحرية. وما دامت هذه مفقودة في العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث بمجمله فلا ضمان ان يستطيع فكرنا العقلاني ان يحقق طموحاته اسوة بسواه في أي مكان وزمان.

***

د. حسين الهنداوي

..........................

* نص مداخلتنا في ندوة: "محنة العقل العربي، العقل تحديداً وموضوعاً ووظيفة" بالمشاركة مع المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي وتقديم ادارة الاستاذ القاضي د. عثمان ياسين، في يوم الاحد الماضي  ضمن البرنامج الثقافي لمعرض اربيل الدولي للكتاب: والتي بدأها:

اطيب الشكر لمؤسسة المدى على اتاحة هذه الفرصة الثمينة للحوار مع هذه النخبة من الوجوه الكريمة المشاركة في  حوار هذه الامسية.

نقلا عن صفحته الشخصية في فيسبوك

 

من خلال متابعة ردود الفعل التي جاءت على المقال الطويل الذي كتبه ناثان هيلر لصحيفة «نيويوركر» الأميركية مؤخراً، حول تراجع معدل التخصص في اللغة الإنجليزية، والذي جاء بعنوان «نذير موت للعلوم الإنسانية»، فإنه يمكننا رؤية الفكرة التي كان يطرحها المقال بوضوح؛ حيث تم التقاط أكثر الأجزاء المحبطة من القصة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبل أشخاص ربما لم يبدأوا حتى في قراءة المقال نفسه.

وقد لاحظت انتشار فقرة معينة من المقال، والتي ظلت تظهر على مدى عدة أيام على حسابي على تطبيق «تويتر»، والتي تتحدث فيها أماندا كلايبو، عميدة جامعة «هارفارد» والأستاذة في قسم اللغة الإنجليزية فيها، والتي كانت واحدة من بين كثير من الأكاديميين الذين تحدثوا في مقال هيلر، عن «التوجه نحو الحاضر بين طلاب الجامعات المعاصرين الذين فقدوا شغفهم بالماضي».

وقالت كلايبو له: «في المرة الأخيرة التي قمت فيها بتدريس رواية (The Scarlet Letter) اكتشفت أن طلابي كانوا يعانون بشكل حقيقي لفهم تركيبة الجمل الموجودة فيها، إذ كانوا يواجهون صعوبة في تحديد الفاعل والفعل، وذلك لأن قدراتهم مختلفة، كما أنه قد مضى وقت طويل على القرن التاسع عشر».

ومثل كل الآخرين الذين كانوا يقرأون للروائي الأميركي ناثانيال هوثورن في المدرسة الثانوية، قرأت مقال هيلر بمزيج من الشعور بالفخر والرعب في الوقت نفسه، ولكني بعد ذلك، قمت بفعل شيء كشف لي عن مؤشر تراجع العلوم الإنسانية والثقافة؛ حيث لم أكمل قراءة مقال هيلر (ولكني قرأته الآن)، كما أنني بالتأكيد لم أذهب لشراء نسخة من «The Scarlet Letter» أو أي رواية أخرى من القرن التاسع عشر لأبدأ في قراءتها من أجل المتعة.

والإجابة عن سؤال: «أين تكمن المشكلة؟» هي، أو يجب أن تكون: «أنا المشكلة»، مثلما كتب الفيلسوف الإنجليزي جيه. كيه تشيسترتون ذات مرة، وأي رد على السؤال حول ما حدث للعلوم الإنسانية يجب أن يتضمن الإجابة نفسها، فطلاب جامعة «هارفارد» الذين لا يستطيعون تحليل جملة معقدة من عصر النهضة الأميركي، هم جزء من المشكلة، وكذلك كاتب المقال الذي تلقى تعليمه في جامعة «هارفارد»، والذي يتحمل بانتظام مسؤولية الكتابة بأفكار عميقة عن «تلفزيون البوب» ولكنه لم يقرأ رواية كاملة من القرن التاسع عشر من أجل المتعة.

لقد قرأت صفحات من روايات الأدب الفيكتوري مؤخراً، وعادة ما أعود إلى هذه المنطقة المألوفة من أجل العثور على بعض الأفكار التي أبحث عنها، وقد بدأت كتباً كاملة، مع أفضل النيات في كل مرة، فعندما كانت عائلتي تشاهد إعادة عرض المسرحية الموسيقية «البؤساء»، قرأت المئات من الصفحات الأولى من رواية فيكتور هوغو، وحينها قرأت جزءاً كافياً للتخطيط لكتابة مقال يقارن ثقة هذا المؤلف بالأسلوب الخجول الموجود في الروايات المعاصرة، وهو المقال الذي كان يتطلب إنهاء رواية هوغو، ولكني لم أكملها، وبعد ذلك بدأت ألجأ إلى الكتب الأقل حجماً التي تعود إلى القرن التاسع عشر، فكلما قل الكلام كان أفضل.

وصحيح أنني أشعر بالإطراء لأنني أستطيع في الغالب أن أفهم بنية الجمل في هذه الكتب، ولكن من ناحية أخرى، أنا القارئ الذي تحدثت عنه كلايبو، وذلك لأنني مرتبط للغاية بالحاضر المُشتت، لدرجة تمنعني من الدخول بشكل كامل إلى لغة الماضي المعقدة.

كما أنني أشبه شخصيات أخرى في مقال هيلر أيضاً؛ حيث إنني أشبه ذلك الأكاديمي الذي تحدث عن تفضيله لتصفح مواقع الإنترنت على قراءة الروايات، وكذلك الأقران الذين تحدث عنهم ذلك الأكاديمي الذين يتصورون أنهم مثقفون؛ لكنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من استخدام هاتف «آيفون» الخاص بهم، وذلك حتى في أثناء حضورهم للعروض المباشرة.

لكن دعونا ننتقل من فكرة جَلد الذات إلى التوصل إلى وصفة يمكنها علاج ذلك الوضع، فصحيح أنني لا أقرأ روايات القرن التاسع عشر لنفسي؛ لكنني أصبحت أقرأها للآخرين مؤخراً، وعلى وجه التحديد، لقد قرأتها بصوت عالٍ لأطفالي الأكبر سناً، وقد بدأت برواية «Pride and Prejudice»، والآن (في تجربة أكثر صعوبة قليلاً) نقرأ «Jane Eyre».

ولكن لا تقلقوا، فلن يكون هذا جدالاً حول كيفية إنقاذ العلوم الإنسانية من قبل الأشخاص المؤيدين لإنجاب الأطفال (على الرغم من أن أقسام اللغة الإنجليزية تعتمد بالفعل على عدد مستقر أو متنامٍ من السكان في سن التعليم الجامعي) ولكن بدلاً من ذلك، فإن الأمر يتعلق بأنه من المفارقات أن قراءة نَص صعب للأطفال الذين قد لا يفهمونه تماماً، يعد أسهل من قراءة الكتاب نفسه لنفسك، وذلك لأن القراءة للأطفال تجبر على الانفصال بشكل جذري عن الأشكال الأخرى للإلهاء، بطريقة يصعب على أي نظام شخصي بحت أن يضاهيها.

إن جوهر تراجع العلوم الإنسانية، على مدى الجيل الماضي وخصوصاً في عصر الإنترنت، هو رفض قبول فكرة أنه من الضروري اتباع نوع مشابه من الفصل.

ولطالما كان الهدف -وهو أمر مفهوم للغاية- هو الحفاظ على الملاءمة والاتصال بالسياسة والحياة المهنية وبفكرة تقدم العلوم الإنسانية، ولكن هذا المسعى لا يمكن أن ينتهي إلا بالتدمير الذاتي، عندما يكون الشيء الذي تحاول أن تربط نفسك به بشدة (الثقافة وروح الإنترنت في عصر الهواتف الذكية، على وجه الخصوص) هو في الواقع يلتهم كل العادات الذهنية المطلوبة من أجل بقاء نظامك الخاص.

فلا يمكنك ببساطة الحفاظ على النزعة الإنسانية الحقيقية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الرقمية؛ بل عليك أن تنفصل، على الأقل حتى نكتشف طريقة لتصبح شخصاً رقمياً، ولكن ليس بالشكل المدمن.

وقد كتب الأستاذ في جامعة «تمبل» جاكوب شِل، تغريدة على حسابه على «تويتر» رداً على مقال هيلر قائلاً: «لقد حددت العلوم الإنسانية مصيرها عندما رفضت التكيف مع الدور المطلوب للنقد الفكري اليميني لعلم الاجتماع والتكنوقراطية».

وبصفتي يمينياً، فإنني أميل إلى رؤية هذا الأمر وإثارته، وأقترح أنه إذا كنت تهتم بنقل العلوم الإنسانية عبر العصر الرقمي، فيجب أن تتطلع إلى الأكاديميات المسيحية الكلاسيكية بشكل أكبر من النظر إلى كلية مثل «هارفارد».

ولكن النسخة الأكثر تواضعاً من رأي شِل تتمثل في أن العلوم الإنسانية بحاجة إلى أن تدفع بوعي ضد النظام الرقمي، وأن تدفع الناس للانفصال بنفسها عنه، وأن تضفي ميزة على هذا الفصل.

ولكن يجب ألا يكون هذا الفصل متطرفاً مثل ذلك النوع الذي اقترحه مقال رأي حديث في صحيفة «وول ستريت جورنال» بعنوان: «يجب أن تكون الكلية أشبه بالسجن»، والذي ناقشت فيه مؤلفته بروك ألين الجدية غير العادية التي يتعامل بها الرجال المسجونون الذين تقوم بالتدريس لهم مع الأدب، ولكن ذلك قد يعني استبعاد كل رمز مميز من العصر الرقمي من الفصول الدراسية والمكتبات، وإغلاق الإنترنت، وقراءة الروايات بشكل يدفعك للانغماس في أعماقك. وقد يؤدي ذلك إلى تنمية مجموعة من المهارات حتى لو كانت ستقدم فائدة فورية أقل للحياة المهنية التكنوقراطية.

ولكن هل يعيد أي من هذا العلوم الإنسانية إلى مجدها السابق؟ لا، ليس في البداية، ولكن من أجل إعادة الحياة إلى أي شيء فإنه يجب أن نقوم بالحفاظ على بقائه أولاً.

***

روس دوثات - كاتب من خدمة «نيويورك تايمز»

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الثلاثاء - 22 شعبان 1444 هـ - 14 مارس 2023 مـ رقم العدد [16177]

 

توماس باور، أستاذ ألماني يعمل منذ ثلاثة عقودٍ ونيف على التاريخ الفكري والأدبي للحضارة العربية والإسلامية بطرائق مختلفة عما اعتاده المستشرقون، وعما اعتاده المفكرون العرب في الأزمنة الحديثة. المستشرقون الذين أدان إدوارد سعيد مقارباتهم الشاملة للحضارة الإسلامية باعتبارها انحيازاً لوجهات نظر غربية تخدم السيطرة والسطوة في الزمن الاستعماري، يرى فيها باور تفسيراً ناقصاً أو بدءاً من الموقع الخطأ؛ ولذلك لا بد من البدء من الرؤية الغربية نفسها للحضارة الغربية. ودليله على ذلك، أنّ المستشرقين ذوي الثقافة الغربية بالطبع توصلوا إلى وجود حقبة انحطاطٍ طويلة في الحضارة الإسلامية بعد القرن الثاني عشر الميلادي وحتى الأزمنة الحديثة. وهي الفكرة نفسها للانحطاط الذي نزل بالحضارة الغربية فيما بين القرنين الخامس والخامس عشر، فيما سُمّي بالعصور الوسطى، عصور الانحطاط والظلام. ولذلك لا بد من البدء بفحص رؤية العصور الوسطى تلك فحصاً نقدياً، وهو الأمر الذي بدأته مدرسة «الحوليات» الفرنسية منذ عشرينات القرن العشرين، وتوصلت من خلال إعادة قراءة مجريات ومنتجات القرون العشرة إلى أنّ البعث الحضاري أو النهوض بعد القرن الخامس عشر إنما بدأ وتطور في «العصور الوسطى» نفسها المتهمة بالانحطاط.

ولهذا؛ فإنّ المستشرقين عندما قالوا بالانحطاط في الحضارة الإسلامية إنما كانوا ينقلون أو يقلّدون التصور الغربي لحضارتهم هم في الأزمنة ذاتها. ولذا؛ فالذي ينبغي إدانتهم به أو الأخذ عليهم بشأنه (وإدوارد سعيد يعتبرهم سطحيين أيضاً بالمقاييس النهضوية الغربية) أنهم وهم يكتبون مقارباتهم «العلمية» عن حضارة الإسلام ما لاحظوا الحراك التاريخي الكبير الذي كان يجري باتجاه إعادة قراءة العصور الوسطى الأوروبية، بحيث يصيرون وأمامهم النتاجات الفكرية والعلمية الكبيرة للحضارة الإسلامية إلى تأويلاتٍ أخرى للوجود الحضاري العربي والإسلامي وتأويلاته. ولهذا؛ فإنّ الرؤية الإصلاحية التي ينبغي أن يصير إليها المفكرون العرب من أجل الإصلاح الحديث والمعاصر، لا تكون بضرورات القطيعة مع حضارة الإسلام القديمة؛ بل بالمراجعة وتجديد الفهم، كما فعل الغربيون مع عصورهم الوسطى، وليس من أجل التقليد، بل من أجل التجديد تطلباً لفهم التأزم الحاصل اليوم، وكيفيات الخروج منه.

بدأ توماس باور دراساته بتجديد الفهم للظواهر الأدبية العربية فيما سُمّي بعصور الانحطاط بعد القرن الثاني عشر الميلادي. ثم تقدم لبحث الرؤى الفكرية والعقدية في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية. بعد الظواهر والتيارات الأدبية في الشعر والنثر، صار باور إلى تأليف كتابه الذي صار شهيراً بعنوان «ثقافة الالتباس». فالحضارة العربية الإسلامية في أزمنتها الكلاسيكية (فيما بين القرنين الأول والخامس للهجرة) حافلة بالتيارات المتعددة التي تعرفها الثقافات المزدهرة، ولا فرق في ذلك بين الفكر الديني والفكر الفلسفي والفكر الأدبي. في الحقبة ذاتها تطورت العلوم البحتة والتطبيقية ذات الأصول الإغريقية والفارسية والهندية، وصارت هائلة الانتشار والإنجاز والإبداع وظلّت على النحو نفسه حتى أنّ الأوروبيين في جامعاتهم توصلوا إلى نتاجات ابن سينا والرازي وابن الشاطر في القرن السابع عشر الميلادي. فلماذا يقال بالانحطاط في الفكر الديني والأدبي في الحقبة ذاتها؟ الالتباس - كما في عنوان الكتاب - ليس آتياً من الصراع بين المحافظين والمتحررين - كما ذهب إلى ذلك غولدزيهر - بشأن علوم القدماء؛ بل لأنّ الاختلاف بين التيارات العقدية والفكرية، كان قد جرى تجاوزه باتجاه تعدديات الازدهار حتى في تفسير القرآن، وفي صنع الجديد والمتقدم.

وبعد ثقافة التعدد المزدهرة في تلك الحضارة الكبرى، جاء كتابه الصغير «لماذا لم تكن في الإسلام (عصور وسطى؟)» بالمعنى الذي صار إليه المستشرقون ومن ورائهم مؤرخو الحضارة الأوروبيون. قامت الرؤية الغربية (والاستشراقية) على أنّ قطيعة حصلت بداخل الحضارة الإسلامية بعد القرن الخامس الهجري مع الحضارات الكلاسيكية بسبب سيطرة المحافظين بداخل ثقافات الإسلام وحضاراته. والحقيقة، أنّ الاستمرار الحضاري ظلَّ سائداً في زمن النشوء وفي الزمن الكلاسيكي في كل شيء، وليس في العلوم البحتة والتطبيقية فقط؛ بل وفي الثقافة والعمران وتيارات التفكير الديني والفلسفة والأخلاق. والفرق في الفهم، أنه في مرحلة معينة ما عاد المسلمون في حاجة إلى التقليد والاقتباس، بل كما في كل الحضارات الكبرى، وبعد الاستيعاب والتمثل - ومن جانب المحافظين وغيرهم – استتبّت مسارب ومسالك الثقافة بالإنتاج الخاصّ والإبداع وليس في العلوم وحسْب؛ بل في الفكر الفلسفي والكلامي واتجاهات التفكير الديني في التفسير علوم القرآن والحديث وعلوم الكلام، ومن قبل وبعد علوم اللغة ونظريات الشعر والنثر والبلاغة واللسانيات.

يتشارك المثقفون العرب مع المستشرقين والكُتاّب الغربيين في رؤاهم إلى انحطاط التقليد الديني والفكري بعد التمدح بازدهار القرن الرابع الهجري المستند إلى الإغريقيات! ثم ينتهون إلى أنّ الخروج من الانحطاط يكون بالقطيعة مع الموروث الانحطاطي، والالتفات إلى حضارة العصر وعصر العالم! وتوماس باور - وقد صارت توجهاته تياراً – يعتبر أنّ هذا التصور خطأ محض، ويخضع لرؤى الصحويين والمتشددين في الحضارتين؛ بل لا بد لتجاوز التأزم من العودة لقراءة وقائع الحضارة ومجرياتها. معظم المستشرقين وبعض مؤرخي الحضارة يذهبون إلى أنّ الخروج من انحطاطنا يكون بالمصير، كما صار الأوروبيون والغربيون بعامة إلى مغادرة عصورنا الوسطى، كما غادروا عصورهم الوسطى. وهم لم يفعلوا ذلك إلا جزئياً في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحتى عندما كانوا لا يزالون في الرؤية القديمة لزمانهم الحضاري، انصرفوا لبعث الحضارتين الإغريقية والرومانية لتكونا أساساً في النهوض وإعادة تعريف الهوية والإطلال على مستجدات القرون وتأصيلها. التطور الثقافي والحضاري مثل التطور العلمي. ربما لا يكون ضرورياً استعادة تاريخ الطب أو الهندسة (رغم أنه يحصل)، أما التاريخ الثقافي والحضاري فهو ضروري من أجل فهم الذات الإنسانية، والذاكرة الثقافية والإنسانية. لقد حاول ذلك على سبيل المثال محمد عابد الجابري، وقد خطا خطوات، إنما ظلت غالبة عليه نزعة القطيعة التي استعارها من الأبستمولوجيا الفرنسية.

إنّ التجاذب في أوساطنا الدينية والثقافية أنتج تيارات قطيعة وتشدداً. لكن كما أعاد الغربيون النظر ويعيدون، وكذلك اليابانيون والصينيون والهنود؛ فإنّ إعادة النظر من خلال تاريخٍ ثقافي جديد، يظل أمراً ضرورياً للحاضر والمستقبل. لا عودة للماضي، وهي عودة غير ممكنة على أي حال. لكن لا بد من إعادة قراءة ليس الماضي، بل التاريخ من أجل الحاضر والمستقبل.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الجمعة - 17 شعبان 1444 هـ - 10 مارس 2023 مـ رقم العدد [16173]

عندما اكتُشفت العوالم اللامتناهية للكون، وبدا أن الإنسان لم يعد مركزاً للعالم، فيما سمي بالثّورة الكوبرينيكية، أصبح وضعُ الإنسان الوجودي موضع سؤال ومحلَّ قلق: فما قيمة الإنسان في هذا الكون المترامي الأطراف الذي لا يكاد يعد فيه شيئاً ذا قيمة؟

هنا تدخلت الفلسفة مع ديكارت لتجيب عن هذا الإشكال، وتقول إن عظمة الإنسان ليس في شخصه الصغير إزاء هذا الكون العظيم الفسيح، وإنما عظمة الإنسان تكمن في فكره الذي يميزه، فها هنا ينبغي البحث عن جوهر الإنسان، وهذا هو منبع كرامته كما بَلْوَرَ«بيك دولاميراندول» ضمن رسالته «في الكرامة الإنسانية». بل إن العالم نفسه لم يعد له وجود إلا من خلال الذّات المفكرة نفسها، فالوجود متوقف على التفكير، وعندما يتوقف التفكير يتوقّف الوجود، وهو فحوى عبارة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود».

وقد وعى باسكال، معاصر ديكارت، هذه المفارقة بين الهشاشة والقوة، وعبر عنها قائلاً: «إن الإنسان ليس سوى قصبة هشّة في الطبيعة، لكنه قصبة مفكرة. ولا ينبغي أن يجتمع الكونُ كله من أجل سحقها، فهبّة بخار ونقطة ماء كافية لقتلها». يعني باسكال بذلك أن الإنسان من حيث كونُه جسداً هو هشٌّ وضعيف قابل لشتى ضروب العطب، لكن من حيث هو كائن مفكر هو قوي عظيم قادر أن يتأمل أسباب هشاشته ويتجاوزها.

إن هذه المعاني التي تردّدت في الأزمنة الحديثة والتي أفضت إلى النّزعة الإنسانية في القرن الثامن عشر، غير بعيدة عن الإرهاصات الكبرى للمنزلة التي احتلها الإنسان في الفلسفة الإسلامية القديمة، فقد اعتبر ابن باجة الإنسان من عجائب الطبيعية، وعلّل ذلك أنه له نسب من جهتين، نسب طيني مادي ونسب روحي فكري، واعتبر في كتابه العظيم «تدبير المتوحد» أن تدبير الإنسان وجوده لا يكون إلا بالفكر، وبه يدرك الإنسان أفضل وجوداته على ظهر هذه البسيطة، وإن كانت الظروف الاجتماعية تعانده.

مديحٌ عالٍ للفكر الإنساني وجد تجسيده في اعتبار الإنسان «العالم الأصغر»، على أساس أن الكون هو العالم الأكبر، وأن هذا العالم الممتد الأطراف، وُجدَتْ له نسخة مصغرة تحوي كل عجائبه، وهي الإنسان، فالإنسان ليس إلا جرم صغير قد انطوى فيه العالم الأكبر، كما قال الشاعر، ومن هنا كلما تأمّل ذاته انفتحت له أبواب العوالم الكبرى والصغرى.

إنها دعوة فلسفية إلى خلوات التأمل الفردي والجماعي، خلوات ليست على غرار خلوة حي بن يقظان في قعر مغارته، رغم أنها قصّة جسّدت أيضاً عظمة النور الطبيعي الفطري الذي وهبه الله للإنسان، بل خلوات في المختبرات العلمية ومراكز البحث العلمي وغيرها من الفضاءات التي تُنقذُ الفكر من غفوته. ومن هنا أهمية الخلوات الفلسفية، في المراكز والنّوادي، التي يتدرب فيها الطالب على التفكير المنهجي ويصاحب فيها الفلاسفة، أفاضل النّاس عند ابن رشد، إذ ليس من سبيل لصنع الإنسان إلا بصنع عظمته الفكرية.

بين الحكمة والشريعة نسب قوي في شحذ الملكات العقلية للإنسان لعمارة الأرض، كما يندب الدين، ولتحقيق الفرد وجوده الخاص كما تذهب الفلسفة. وبين عمارة الأرض وتحقيق الإنسان وجوده الفردي أكثر من فن من فنون الوصال.

***

د. ابراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، ليوم: 24 فبراير 2023 00:48

 

في مثل هذه الأيام قبل ستين سنة (5 مارس 1963) رحل رائد التنوير المصري أحمد لطفي السيد، تلميذ الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان الداعية الأكبر لليبرالية، ورجل الدولة والفكر ورئيس المجمع اللغوي العربي ومؤسس أول جامعة عربية حديثة (جامعة القاهرة).

كان أحمد لطفي السيد يدافع عن نموذج التنوير الأوروبي ويراه الأفقَ الأوحدَ المتاحَ للتقدم، ولو تحت المظلة الاستعمارية. بعد هذا الجيل المؤسِّس، تراجعت الدعوة للتنوير في الفكر العربي، وانفصمت العلاقة الأصلية بين الأنوار والحداثة. ولقد برز اتجاه واسع في الفكر العربي، ينتقد المركزيةَ الأوروبيةَ، ويدعو إلى حداثة متناسقة مع الهوية الحضارية والقيميّة للمجتمعات العربية الإسلامية، بما يعني القطيعةَ مع ديناميكية التنوير الأوروبي التي التبست بمفهومين آخرين هما العلمانية اللادينية وأيديولوجيا التقدم التاريخاني.

ولهذه الإشكالية حقل انطباقها في الفكر الغربي نفسه، وذلك ما أماط عنه اللثامَ مؤخراً المؤرخُ الفرنسي «أنطوان ليلتي» في كتابه «تراث الأنوار.. التباسات الحداثة». ما يبينه «ليلتي» هو أن حركة الأنوار كانت من آثار الحداثة الأولى، من حيث الأزمة المعيارية العميقة التي عرفتها أوروبا المسيحية بعد الحروب العقَدية الدموية، مع ظهور بوادر الدولة القومية وانبثاق العولمة الأولى (ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر). لقد عبَّر فكرُ الأنوار عن مأزق الحداثة من حيث التعارض ما بين مسلّمة العقل الكوني المجسِّد لوحدة الطبيعة الإنسانية والمحمَّل بمُثُل التحرر والتقدم وظاهرة الاستثناء الأوروبي، أي انفراد مجتمعات وثقافة بعينها بالريادة الحديثة بفضل خصوصياتها التاريخية الانتروبولوجية.

والسؤال المطروح هنا: هل الحداثة مرحلةٌ من التقدم الإنساني تصل إليها كافةُ المجتمعات وفق قانون للتطور التاريخي الكوني، أم هي ظاهرةٌ تنفرد بها المجتمعات الأوروبية لأسباب جوهرية لها علاقة بأنساقها العقَدية والثقافية؟ وفقَ المقاربة الأولى، يُنظر إلى الحداثة من حيث هي نتاج الثورة الصناعية وما أفضت إليه من تكريس العقلانية التجريبية المطبَّقة ونظام قسمة العمل والفردية الليبرالية، وتلك سمات كونية تتأقلم مع كل السياقات الحضارية والاجتماعية.

ووفق المقاربة الثانية تكون الحداثةُ نفسُها التعبيرَ المؤسسيَّ الملموسَ عن قيم وأفكار التنوير الفلسفية والأيديولوجية. وعلى الرغم من التداخل الكثيف بين فكر الأنوار وحركية التحديث، فإن الفكرَ الفلسفي والاجتماعي الغربي عرف نمطين متمايزين من نقد التنوير ونقد الحداثة.

كان جان جاك روسو في القرن الثامن عشر من رواد فكر التنوير ومن أهم دعاة العقد الاجتماعي وأول من بلور فكرة التحسّن النوعي للبشرية، إلا أنه كان في الآن نفسه أول من وجّه نقداً جذرياً للحداثة مستبِقاً نقدَ فلاسفة مدرسة فرانكفورت لظاهرة الهيمنة الشاملة التي تُفضي إليها العقلانيةُ الأداتية التقنية التي تنتهي إلى تحويل الإنسان ذاتِه إلى مادة للتسلط والاستغلال. لقد اعتبر روسو ومن بعده فلاسفة التنوير الألماني أن قيم النقدية العقلانية والتقدم التاريخي والتحرر، ليست خاصة بالمجتمعات الحديثة، بل قد تكون عُرضةً للتلاشي والضياع في مجتمعات تتحكم فيها التقنية الاستهلاكية والنفعية الفردية.

وقد وصل هذا المسلك الفكري مداه في الكتابات الأخيرة حول «ليبرالية الرقابة» و«صناعة التواطؤ» و«الوشم السياسي».. وكلها تدور حول الأثر المدمر للعقلانية التحكمية المنفصلة عن مُثُل التحرر والذاتية الإنسانية التي نادى بها فكر الأنوار. لقد اعتبر الفيلسوف الألماني الأميركي «ليو شتراوس» أن معاييرَ التنوير أقوى وأنجع في الفلسفات السياسية والأخلاقية القديمة (اليونانية والإسلامية الوسيطة) لكونها تحافظ على مبدأ الغائية الطبيعية للوجود الإنساني وعلى فكرة العدالة بمضمونها القيمي الجوهري.

ولأمرٍ ما عمل أحمد لطفي السيد على ترجمة نصوص أرسطو الأخلاقية والسياسية التي اعتبر أنها مفيدةٌ للمجتمعات العربية المعاصرة، رغم أنها تطرح إشكالات وأفكار بعيدة عن سياق الحداثة الأوروبية. إنه المسلك نفسه الذي تبناه طه حسين (خاصةً في كتابه «قادة الفكر»)، وكان شديد القرب فكرياً وسياسياً من لطفي السيد.

السؤال الذي نخلص إليه هو: هل نحن بحاجة إلى أفكار التنوير أم إلى التحديث من حيث هو مسار تاريخي واجتماعي؟ لا يبدو أن خيار التحديث في ذاته يطرح إشكالا جوهرياً بالنظر إلى تعدد مقاربات الحداثة والانطباع السائد بإمكانية بنائها على أُسس معيارية مستقلة، أما مثال التنوير فيبدو معقداً والتباينُ واسع حول مضمونه ومرحليته، ومن هنا أهمية الرجوع إلى تركة التنوير العربي الحديث.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن الاتحاد الاماراتية في: 5 مارس 2023

قد تنقذ الدراسات السردية واجتهادات روادها في شتى حقول العلوم الإنسانية المختلفة الحدث التاريخي من سلطة الأيديولوجيا ومناهجها ومدارسها المختلفة، والتي ما فتئت تجرب نظرياتها بما يخدم توجهاتها وأهدافها، فمرة كان الهدف الأسمى هو الانتصار للنزعة الإنسانية بعدما شهدت عصور النهضة الأوروبية ميلا للإعلاء من شأن الإنسان بالضد من النزعة اللاهوتية التي كانت سائدة في ذلك العصر.

لكن انتهى هذا الهدف الأسمى لتفسير التاريخ إلى نظرة مثالية تمجد في جوهرها الطبقة البرجوازية السياسية القريبة من السلطة.

ومرة أخرى، مع التطور والتقدم الصناعي برز العقل بوصفه العامل المقدس الذي يفسر ليس التاريخ فقط، وإنما كل ما له علاقة بالإنسان والمعرفة، وأصبح المؤرخ العقلاني يحط من قيمة اللاهوتي ويعلي من شأن الفلسفي. لكنهم في كل الأحوال كانوا بلاغيين أكثر من كونهم مؤرخين محترفين في الدرس التاريخي مثل فولتير.

ثم جاءت مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية التي انقسمت أوروبا حولها انقساما عاموديا، بالخصوص في ألمانيا، نتجت عنه أفكار حدية بين مؤيد للحرية كشعار لهذه الثورة وبين معارض بسبب ما أحدثته من دمار وحروب.

هنا برز بعض الفلاسفة والمؤرخين (فيما يسمون بالرومنطيقيين) من طبقة النبلاء كهيردر وفخته وغوته الذين شيدوا معمارهم على استعادة المرحلة الإقطاعية في التاريخ اليوناني والإغريقي والحنين إليها، وركزوا على الفن والمجتمع والاقتصاد والثقافة.

وكانت لغتهم شعرية ساحرة حين يتطرقون إلى أحداث سياسية معينة، ظنا منهم أنهم سوف يجذبون القارئ إلى هذا الحدث أو ذاك بهذه اللغة.

وكلما تقدمنا في الزمن إلى العصر الحديث رأينا كيف كانت الدراسات حول التاريخ تخضع للمد والجزر في تطور المعرفة من جهة، وفي اختبار أفكار هذا التطور على الناس والمجتمع وردود أفعالهم وبالتالي الأحداث التي ترتبط بهم من جهة أخرى.

فالأفكار التاريخانية حول النظرة للتاريخ لم تكن سوى رد فعل طبيعي على طغيان النظرة العلموية الوضعية للتاريخ نفسه.

وبالقدر نفسه يمكن الإشارة إلى علاقة الماركسية بالتاريخ التي أعلت كما نعلم بالعامل الاقتصادي في قراءتها له وركزت على الطبقة الكادحة كمحرك لعجلته.

ولا يمكن إغفال التوجه البنيوي الذي حكم النظرة إلى التاريخ في الخمسينيات والستينيات، والبداية كانت من اللغة، وذلك في تحييد شامل للواقع وفصل تام عن الأحداث.

يمكن أن استمر في هذه المقالة في سرد الكثير من سرعة التحولات التي طالت دراسة التاريخ في المجتمع الغربي على يد مؤرخيها وفلاسفتها ومثقفيها ومدارسها إلى وقتنا الحاضر، لأعطي دليلا على أن التغيرات المادية الكبرى التي تحدث للمجتمعات، يتبعها تغير كبير في الذهنيات، وهذا الجدل بينهما، رغم ما يثيره من صراعات، يظل سمة إيجابية للفكر والمعرفة.

لكن المشكلة القائمة في المعرفة التاريخية لا تخلو من ثغرات إذا اطمأن المؤرخ إلى أفكاره ونتائجه إلى الحد الذي يفضي به إلى اليقين الأيديولوجي المطلق.

وإذا كان ديدن كل خطاب عن التاريخ لا يمكن أن يتخلص من هذه الإشكالية، رغم ادعائه خلاف ذلك، إلا الدراسات السردية قد تقلص هذه الإشكالية ولا تلقيها، لأنها بكل بساطة تنظر إلى أحداث التاريخ كقصص مسرودة من وجهات نظر مختلفة، والراوي العليم فيها هو التاريخ نفسه وليس المؤلف.

ورؤية كهذه للتاريخ لا تخلو من موقف أيديولوجي بالطبع. لكن ثمة فرقا كبيرا بين موقف وآخر بين موقف يستمد قيمته من معطيات وجهات النظر نفسها، وبين من يستمدها من مقولات أو سياقات خارج وجهات النظر أو السرد برمته كما هي حال علاقتنا بتاريخنا العربي وبماضينا على وجه الخصوص. وكلمة (الإنقاذ) التي وردت بالمقدمة أعني فيها هذا الماضي تحديدا.

***

محمد الحرز

عن اليوم السعودية في: 2023/03/02

 

كيف يمكن للفقه والفلسفة أن يجتمعا في شخص ابن رشد، الفقيه المالكي الذي أنفق عمره في قراءة كتب الفلسفة يديم النظر فيها بعيون نقدية فاحصة، ويفرد أرسطو بكثير من وقته، هذا الفيلسوف الذي ملك عليه حياته كلّها حتى أصبح يراه وكأنه تجسيد للكمال الإنساني محسوساً مشاراً إليه، كما قال؟ كيف يمكن لأرسطي خالص أن يُسمّى فقيها، فضلاً عن أن يُدّعى له أن يكون للفقه دور في تأسيس تجربته الفلسفية؟

وهل يُتَصوّر من فقيه قُحِّ يمتلك علوم الآلة وعلوم الشرع أن ينصرف عن الكتاب العزيز إلى كتب أرسطو يفسرها على الطريقة التي فُسِّر بها الكتاب العزيز في ثقافتنا الإسلامية، فيؤثر بذلك كتبا أعجمية على الكتاب العربي المبين؟

أما أن أبا الوليد ابن رشد كان فقيهاً ويحمل همّ الإصلاح الديني لمجتمعه، فذلك ما تنطق به سيرته ونصوصه القطعية في ثبوتها ودلالتها، وبخاصة «بداية المجتهد»، فضلاً عن أن الرجل أخذ الفقه وعلوم العربية عن أبيه، وعكف على قراءة كتب جده، وأجازه الفقيه الكبير المازري وهو لمّا يتجاوز الأربعة عشر ربيعاً. وولي في كبره «قضاء الجماعة» نائباً عن الإمام الأعظم.

إذن ليس غريباً أن يكون ابن رشد فقيها، إنما الغريب كيف أمكن لفقيه مالكي وأشعري، أن يمتلك أرسطو؟ إن امتلاك أرسطو حدث كبير في تاريخ الثّقافة العربية الإسلامية، لماّ تدرك أبعاده الكبرى بعد، وخاصة من رجل كان درّاكاً لمقاصد الشريعة، حفيّاً بأسرارها، محيطاً بكلياتها وجزئياتها، ها هنا مكمن الغرابة وهذا هو الذي يحتاج إلى فهم وتأويل.

أما التّشكيك في كتبه الفقهية، بل وأحياناً اتهامه بالتّقية، فهذه من بقايا الضلال الإيديولوجي، وابن رشد نفسه يقدّم أدوات فهم شخصيتيه في انسجام تام وفي قلب كتبه الفلسفية، بل في قلب أعظم شروحه على الإطلاق، وهو شرح ما بعد الطبيعة. حيث يتحدث ابن رشد عن مفهومه المفتاح: «الشريعة الخاصة بالحكماء» فيقول:«فإن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه».

يقدم ابن رشد في هذا النص الطريف سبب إقباله على قراءة نصوص أرسطو، إنّها النّصوص التي كانت في زمانه تفحص في الموجودات، سواء كانت موجودات متحركة، والتي احتفلت بها كتب أرسطو الطبيعية، أو كانت موجودات مفارقة بالقول، وهي التي تتعلق بعلوم التعاليم والتي احتفل رشد منها بكتاب «المجسطي» لبطليموس، أو كانت موجودات مفارقة بالقول والوجود، وهي الموجودات الميتافيزيقية التي أُفْردتْ لها مقالات كتاب ما بعد الطبيعة.

كان ابن رشد يعتقد، وهو يطوف في الكتب الفلسفية والعلمية التي أتاحها له عصره، وبخاصة كتب «المعلم الأول»، أنه لم يفارق محراب العبادة التي يفهمها كفقيه، وأن كتب أرسطو، وغيرها، تجعله أقرب من غيره إلى معرفة مدبر هذا الكون وصانعه، لأنه «كلما كانت المعرفة بالصّنعة أتم كانت المعرفة بالصانع أتم» وكتب أرسطو تقدم، في عصره، المعرفة بالصّنعة، لذلك عكف ابن رشد عليها واتخذها زلفى إلى ربه على قصد الامتثال والطاعة.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 4 ديسمبر 2022 23:30 

 

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

يُؤَكِّد كثيرٌ من الباحثين في سوسيولوجيا الأديان أن الإيمان الديني يُقَدِّم وَعْداً طُوباويا بالخلاص الأخروي/ نعيمِ العالمِ الآخر؛ بحيث يجعل من الألم والمعاناة والشقاء في هذا العالم الدنيوي عذابا مُحْتَملا. فالإنسان المؤمن لا يرى هذه الحياة الدنيا كلَّ الحياة، لا يراها البداية والنهاية، بل يراها جزءا ضئيلا عابرا في حياة سرمدية، يراها شوطا واحدا من ملايين الأشواط، يراها لحظة من أزمنة الأبدية المكتوبة على الجبين.

ماذا يعني كل هذا للإنسان المؤمن؟

يعني أن كل ما يحدث في هذه الحياة  من رخاء أو شقاء، هو ـ رغم حقيقته ـ مجرد وَهْمٍ أو هو أشْبُه بالوهم. وفي هذا عزاء؛ وأي عزاء !

ثم هو يعني ـ بالضرورة ـ أن الفردوس المنتظر لن يكون على هذه الأرض، وأن الجحيم الحقيقي كذلك، كلاهما في السماء؛ لا في الأرض؛ مهما انفتحت آلام المُعَذَّبين ـ بالفقر وبالجوع وبالجهل وبالاضطهاد وبالاستعباد ـ على الجحيم. ولا ضير حينئذٍ؛ أن يُحْتَمَل هذا الجحيمُ الدنيوي العابرُ، الهامشي التافه؛ من أجل الفردوس الخالد في السماء.

هذه هي الطوباوية الدينية/ السماوية باختصار. وعلى الضفة الأخرى المقابلة لها ثمة طوباوية أخرى، طوباوية دنيوية/ علمانية/ أرضية؛ ترى أن هذه الحياة هي الحياة استغراقا؛ وليس ثمة ما وراءها. ما يعني أن الشقاء في هذه الحياة هو شقاء كامل وشامل، شقاء حتى آخر رمق، شقاء بلا تعويض، بلا أمل ينتشل الروح من عذابات الجسد التي تفتك بالروح أيضا. كما أن ما يستطيع الإنسان أخذه من هذه الحياة على سبيل الاستمتاع والظفر بأكبر قدر من الرخاء الممكن، هو النعيم حقا، هو النعيم المتحقق على سبيل اليقين وعلى سبيل الاستغراق، هو الفردوس الموعود في الحاضر الموجود. ومِنْ ثَمَّ، فَمَنْ لم يَظفر بحظ من النعيم والرخاء في هذه الدنيا؛ فهو إنسان العذاب والآلام الذي سيخرج من هذه الحياة خاسرا، إذ لا تُوجَد أشواطٌ أخرى قابلة للاستئناف، لا تُوجَد فرصةٌ أخرى ولو على سبيل التخيّل الذي يمنح الأشقياء وَهْمَ عزاء.

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين، وكثير من الساسة أيضا. ومنذ ظهور الأنبياء والتّطلّع إلى الفردوس السماوي يذهب بالمؤمنين مذاهبَ شتّى؛ من الرهبنة والانعزال، إلى التبشير والجهاد ومحاولة فرض عقائد الإيمان على الآخرين. وبين هؤلاء (= المؤمنين بالفردوس السماوي) وأولئك (= المؤمنين بالفردوس الأرضي) يقع الإجماع ـ وجدانيا وفكريا ـ على عدم الرضا بالواقع الدنيوي، وتقرير أنه واقع بائس يجب الخروج منه ولو بأعظم التضحيات.

أي هذين الفِردَوسَين له حظ من الواقع؟ أيهما تَحقّق؟ وإلى أي مدى تحقّق؟ وبأي ثمن؟

واضح أن تقييم تحقق الفردوس السماوي مستحيل. هو في "عالم الغيب"؛ ولا نافذة له عبر "عالم الشهادة" على سبيل الاختبار الإمبيريقي/ التجريبي. ولكن ـ وهو السؤال المحوري هنا ـ هل يفصل المؤمنون حقا بين هذين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة؟ ومِن ثَمَّ؛ هل الوَعْد بفردوس سماوي/ أخروي يستنفد أيَّ وَعْدٍ آخر خارج عالمه ؟ أي هل مثل هذا الوعد يكون ـ بالضرورة ـ على حساب أي وعد آخر؟

بلا شك، مذاهب الرهبنة الكاملة تقول بالفصل وبالتمايز التناقضي القاضي بأن من يتغيّا فردوسَ الدنيا/ الأرضي؛ فليس له حظ في فردوس الآخرة/ السماوي، والعكس صحيح، فمن يتغيّا فردوس السماء، فلا حظ له في فردوس الأرض. ولكن، حتى في مثل هذه الحال؛ أليس استهداف فردوس السماء يكون بعمل راهن على هذه الأرض؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي العمل على هذه الأرض يصنع فردوس السماء، فما طبيعة هذا العمل؟ أليس ـ في أقل أحواله وأكثرها سلبية دنيوية ـ ترشيدا للسلوك الإنساني بما يعود بالخير على الجميع؟ أليس هذا الترشيد ـ في حال واقعيته والإخلاص له ـ يصنع ملامحَ فردوس أرضي، أو ـ على الأقل ـ يُقَلّل من حجم الجحيم الأرضي الذي يبلغ أقصى مداه في عدوان الإنسان على أخيه الإنسان؟ 

هذا في حال مذاهب الرهبنة التي يتضح أنها لا بد أن تصل بين فردوس الأرض وفردوس السماء؛ من حيث طبيعة التدين الخالص ذاته؛ رغم تأكيدها على الفصل. أما المذاهب الأخرى، بما فيها معظم مذاهب الإسلام، فهي تشتغل على الراهن الدنيوي/ الفردوس الأرضي؛ في الوقت نفسه الذي تشتغل فيه على فردوس السماء. بل أكثر من ذلك، هي تشترط الفردوسين ببعضهما، فلا سبيل إلى الفردوس الأرضي (مهما عَمَّ الرخاء المادي والاطمئنان المعنوي) إلا بالعمل وفق شروط فردوس السماء. وطبعا، لا سبيل إلى فردوس السماء؛ إلا عبر فردوس الأرض، أي أن يعيش المؤمن "نعيم الإيمان" على هذه الأرض، وهو النعيم الحق؛ رغم كل ما يعانيه من بؤس وآلام.

في التراث الإسلامي تتردد على ألسنة العُبّاد المُتَزهّدين مقولة: "ثمة جنة في هذه الدنيا، مَن لم يدخلها لن يدخل جنةَ الآخرة"، ويقصدون أن ثمة سعادة هائلة بالإيمان، لا تتحقق إلا للمؤمن الحق، وتزدهر مفاعيلها بأعماله الصالحة التي تعود بالخير عليه وعلى مجتمعه. وهذه السعادة الهائلة لا بد وأن تغمر كل أنواع الشقاء الدنيوي المعاش، فلا يشعر المؤمن معها بأي شقاء، أي يعيش فردوس الأرض الذي هو ـ وفق هذه الرؤية ـ شرط الظفر بفردوس السماء.

في الإصلاح الديني البروتستانتي، الكالفيني خاصة، جرى الربط بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة. فبعد أن كان الاشتغال بالنجاح الدنيوي رذيلة؛ على اعتبار أنه انصراف عن العمل للآخرة، أصبح ـ وفق هذا الإصلاح ـ فضيلة؛ على اعتبار أن التوفيق/ النجاح في هذه الدنيا دليل على التوفيق/ النجاح في الآخرة، أي أن القادر على تحقيق ملامح فردوس أرضي آني، هو المستحق ـ بصورة أولية ـ لفردوس السماء.  

في اعتقادي أن هذا الربط البروتستانتي/ التّطهّري بين الفردوسين: فردوس الأرض وفردوس السماء (وثمة ملامح مشابهة له في الفكر الإسلامي) هو الذي خَفَّف حدة التناقض بين الفردوسين عبر التاريخ. وهو بذاته الذي يقضي بأن ليس ثمة مسارات دينية خالصة؛ كما أن ليس ثمة مسارات علمانية خالصة؛ إذ ما أريد للديني وللعلماني أن يعملا حقا ـ كُلٌّ بطريقته ـ على اجتراح مسارات تستهدف انتشال الإنسان من جحيم الحياة: من جحيم الشقاء الإنساني الملازِم.  

***

محمد المحمود

عن الحرة في: 20 فبراير 2023

تصبح هوية ملامحك واضحةً لدى الآخرين ما إن يتعرفوا على أحد أفراد عائلتك ليبدأ التشبيه والتقريب، فتصل مسامعك عبارات من قبيل: «لديك عينا أمك»، و«أنت تمشي كوالدك تماماً».. إلخ. فهل نحمل بداخل أجسادنا تشابهات أخرى تتعدى الجسد لتشمل سيمفونية إرث الروح أو النفس؟

لطالما تردد على أسماعنا هذا المثل «فرخ البط عوام»، للتعبير عن الصفات التي يرثها الإنسان من أحد والديه، إذ جاءت مناسبة هذا المثل الشعبي من بطة تركت بيضتين قبل وفاتها، وأكملت مهمتها في الرقود عليهما دجاجةٌ كانت تنتظر فقس الفراخ، ثم دارت الأيام واقتربت العائلة من بركة ماء، فاكتفى الجميع بالوقوف إلى جانبها، ما عدا البطتان اللتان قفزتا دون سابق تدريب وشرعتا في السباحة، فقيل فيهما: «فرخ البط عوّام». وبتكبير هذه الصورة على المجتمع الإنساني، فهل كلنا يعوم على شاكلة والديه؟

لقد أوردَ العلمُ الحديثُ العديدَ من الإشارات لتأثير العامل الوراثي في سلوك الإنسان واختياراته، وذلك يكون صحيحاً إذا ما وضعنا مختلف مفاهيم الأخلاق وما يسمى بأعمال القلوب، ومجموع الطباع النفسية والعقلية، في سلة جامعة دون التفريق بينها، وهو أمر بعيد عن الدقة، فالعامل الوراثي قد يتسرب للأبناء في الجانب البدني الفسيولوجي، لكن يصعب أن يكون محرك السلوك الأساسي والتوجه الفكري النابع من الإرادة الحرة.

ولعل ما ورد في القصص القرآني يوضِّح أن هذه الأمثال وما على شاكلتها قد يصح من باب المصادفة أو الاكتساب السلوكي من البيئة التربوية لا أكثر، فهذا نبي الله نوح عليه السلام، لم تكن لصفاته وأخلاقه ونبوته دور في تقرير مصير ابنه الذي غرق بالطوفان مع الكافرين. فتحديد الصفات السلوكية والأخلاقية لا يتلاقى والتناغمية الحاصلة في الجينات وشيفرتها الوراثية (DNA). ولو كان غير ذلك لوجدنا كل بني آدم (عليه السلام) مثله تماماً. والشاهد في هذا الموضع ما للوالدين من صلة حقيقية في توريث الأخلاق، ولكن بكيفية سلوكية معاشة (التربية)، بدلالة قوله تعالى في سورة مريم: «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا»، أي لم يعرف عنهما الفجور ولم تترعرعي في بيئة سيئة، وهنا استنكار قومها من هكذا فعل (كما ظنوا) في نشأتها النفسية المنعكسة على السلوك. وبذا يكون القياس على أخلاق البيئة المحيطة كعامل توريث سلوكي وقيمي، ومع ذلك يبقى للفرد حيز الفعل والإرادة المنوطة وما يناط بها من مسؤولية أخلاقية. ولذا يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: «وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وحول حرية الإنسان أو تقييده تناقشت الفلسفات الإنسانية كثيراً، ويبقى في الأخير أن الإنسان مخلوق مولود على الفطرة، حر الاختيار، متأثر بحزمة الاستعدادات الذهنية والفكرية والبدنية. وكما يقول الراغب الأصفهاني، فإن: «الإنسان يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحهما، كما يرث مشابهتَهُما في خلقهما، ولهذا قال الله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً). وعلى نحوه روي أنه قال في التوراة: إِني إذا رضيتُ باركتُ، وإِن بركتي لتبلغ البطن السابع، وإذا سَخِطْتُ لعنتُ، وإِن لعنتي لتبلغ البطن السابع.. تنبيهاً على أن الخير والشر الذي يكسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثرُه موروثاً إلى البطن السابع». وفي ذلك تنبيه قوي لما قد يترتب على توارث الأثر الأخلاقي والسلوكي.

إن تأمل هذه المحطات الساعية لفهم الصورة السلوكية، يثبت أننا لا نطيق ازدياد التأثير الاكتسابي على الفطري حتى يحيد به لمناطق قيمية مبهمة، مبتورة الأصل وفاقدة الوصل.. ولذا فلا بد من التشبث بالفهم الثقافي الأخلاقي للسلوك الإنساني.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الامارتية ليوم: 15 فبراير 2023

العلم التجريبي الحديث هو المنهج العلمي المتبع اليوم للتحقق من صحة فرضية ما، فإما أن يثبتها فتغدو حقيقة علمية أو ينفي صحتها فتصبح معلومة خاطئة.

التولد التلقائي الفرضية القديمة والجديدة

ظهرت فكرة التولد الذاتي قديما عند الفلاسفة اليونان، فكانوا يعتبرون أن اليرقات التي تظهر على اللحم المتعفن دليلا على التولد والنشوء الذاتي للكائنات الحية من مادة غير حية. لكن في عام 1668 قام فرانسيسكو ريدي بتجربة تحت شروط صارمة أثبت من خلالها أن اليرقات ظهرت على اللحم المتفسخ لأن الذباب وضع بيوضه عليه.

لتأتي بعدها تجربة باستور عام 1859 التي حسمت الخلاف حول مسألة التولد الذاتي (التي افترضت أن سبب تعكر مرق اللحم المعقم والمعرض للهواء بعد فترة هو تولد كائنات دقيقة ذاتيا من المرق نفسه) فقام باستور بغلي مرق لحم في حوجلة لها رقبة طويلة محنية للأسفل كالبجعة كي يمنع الجزيئات الساقطة الموجودة في الهواء من الوصول إلى المرق بينما تسمح بالتدفق الحر للهواء.

وكانت النتيجة أن بقي المرق في الحوجلة (القارورة الغليظة الأسفل أو الصغيرة الواسعة الرأس) بدون تعكر بالمقارنة مع حوجلة أخرى عادية تسمح بوصول الجزيئات الساقطة في الهواء للمرق واستنتج بذلك أن الكائنات التي نمت إنما هي أحياء دقيقة مصدرها الهواء ولم يكن تولدا ذاتيا.

فرضيات النشوء الذاتي والتلقائي القديمة قد عفى عليها الزمن، وحولها العلم التجريبي من فرضية إلى خرافة. لكن مع بداية القرن الماضي عادت فرضية التولد التلقائي (Abiogenesis) من جديد لتفسر ظهور الخلايا الأولى التي كانت برأيهم بذرة الحياة بكافة أشكالها على الأرض، فظهرت فرضية الحساء البدائي (Primordial soup) في عام 1936، تشير هذه الفرضية إلى أن الخلايا الحية الأولى نشأت في حساء بدائي يحوي مزيجا من الجزيئات العضوية.

في عام 1986 طُرحت فرضية (RNA world) التي ترى أن الحياة على الأرض قد بدأت بجزيئات RNA ذاتية التكاثر التي أدت في النهاية إلى ظهور الخلايا الأولى، ولكن مصدر RNA نفسه بقي لغزا، وفي عام 2003 طرح فكرة أن الخلايا الأولى نشأت من أغشية دهنية غلفت جزيئات عضوية بسيطة ووفرت بيئة مستقرة للتفاعلات الكيميائية العشوائية، ومنذ بضعة أعوام اقترحت فرضية التركيب (Composome)، وما زالت الفرضيات تتوإلى إلى الآن لتفسر أصل الحياة على الأرض.

إن القاسم المشترك بين هذه الفرضيات هو أن الخلايا الأولى ظهرت تلقائيا عن طريق التفاعل العشوائي للجزيئات البسيطة، واستمر التفاعل والاتحاد العشوائي لها عبر ملايين السنين لتشكيل جزيئات عضوية أكثر تعقيدا تستطيع حمل المعلومات ولها القدرة على نسخ نفسها، ثم أحيطت بغلاف خاص بها يفصلها عن الوسط المحيط واكتسبت القدرة على التكاثر وإنتاج الطاقة اللازمة لها، وهكذا ظهرت الخلية الأولى على الأرض.

منهج العلم التجريبي الحديث وشرط القابلية للتكرار

إن العلم التجريبي الحديث حال دون وصول فرضيات التولد التلقائي إلى مستوى الحقيقة العلمية. لأن إحدى القواعد الأساسية التي يفرضها العلم التجريبي هو أن تكون التجربة قابلة للتكرار، فعندما تعاد التجربة بنفس الشروط والظروف يجب أن نحصل على نتائج مماثلة، لم يكن بإمكان منظري التولد التلقائي تكرار هذه التجربة، ولم يستطع العلماء في المختبر تحت ظروف مختلفة إلى الآن أن ينتجوا خلية حية، ولم يتمكنوا عن طريق الخلط العشوائي لمزيج الجزيئات البسيطة (الكربون والهيدروجين والنتروجين والأكسجين…) من تصنيع شريط واحد من DNA يحمل معلومات لشفرة بروتين، ولا حتى إنتاج بروتين وظيفي من البروتينات الموجودة في أبسط الخلايا.

تعلل منظري فرضية التوالد الذاتي أن شرط تكرار التجربة الذي يفرضه المنهج العلمي الحديث غير قابل للتطبيق بسبب عامل الزمن، فهم يتحدثون عن مصادفة نتجت بعد تفاعل عشوائي استغرق حدوثه ملايين السنين، وهذا لا يمكن تطبيقه بالمختبر لأنه يحتاج إلى زمن هو أطول من عمر البشرية كلها. وعليه لكي تصبح فرضية التولد التلقائي حقيقة علمية لا بد من إسقاط إحدى أهم القواعد الأساسية التي قام عليها منهج العلم التجريبي الحديث ألا وهي شرط تكرار التجربة.

الاحتمال والمصادفة العشوائية

إنه لمن الغريب الاعتقاد بأن الأمر يماثل رمي أحجار النرد ثم تكرار التجربة عشوائيا ملايين المرات. لو أردنا تصنيع حاسوب أو هاتف نقال كالذي بين أيدينا اليوم فهل نحقق الهدف بوضع مزيج من العناصر البسيطة (كربون، هيدروجين، نتروجين، حديد، نحاس وليثيوم…) ثم نحدث تصادما عشوائيا بين تلك العناصر في ظروف مختلفة ثم ننتظر في نهاية الأمر لتنتج لنا المصادفة العشوائية حاسوبا يحتوي على معالج وذاكرة رئيسية (RAM) وشاشة وبطارية بالإضافة إلى برامج تشغيل Windows وحزمة Microsoft Office.

كيف لنا أن نقنع العقل العلمي البحت بأن الزمن كان هو العامل الأساسي وأنه في الأشهر والسنوات الأولى من التصادم العشوائي لن نرى شيئا ولكن بعد مرور ملايين السنين لا بد أن ينشأ هذا الحاسوب المنشود، ولكن عمر البشرية لا يكفي لإحداث هذه التجربة لذا عليك أن تسلم بها فقط.

لو أن واحدا من منظري هذه الفرضيات ذهب ليشتري جهازا ما فإن أول ما يسأل عنه هو ما الشركة المصنعة؟ فهل يخطر بباله ولو للحظة أو يقبل أن يجيبه البائع بأن المصادفة العشوائية هي التي أنتجته ولا يوجد له شركة مصنعة.

إن البيولوجيا الجزيئية بينت أن أبسط الخلايا الموجودة على الأرض هي أكثر تعقيدا من أي حاسوب، وتحتوي مادة وراثية تشفر لمئات البروتينات التي تفاعل مع بعضها البعض لتتمكن الخلية من الحياة والتكاثر. المصادفة العشوائية والاحتمالات لن تتمكن أبدا من إنتاج خلية حية، وعامل الزمن لا يمكن أن يلعب أي دور في ذلك، لذا قام بعض منظري فرضية التولد التلقائي بالقول إن ظهور الخلية الأولى لم يكن على الأرض بل في مكان آخر من هذا الكون الفسيح، ثم انتقل إلى الأرض عبر النيازك من خلال عملية تُعرف باسم (Panspermia)، ولكن هذه الفرضية لا تقدم حلا للمشكلة بل تنقلها إلى مكان آخر.

رغم ذلك تعد فرضية التولد التلقائي من أكثر الفرضيات رواجا ومع كل أسف تُدرج في الكتب المدرسية على أنها حقيقة علمية، مع أن العلم التجريبي الحديث ما زال يحول دون وصولها إلى مرتبة الحقيقة العلمية.

***

يونس حصرية

دكتوراه في العلوم الطبية البيطرية، مقيم في ألمانيا

عن مدونات الجزيرة ليوم: 22/2/2023

................

المراجع

"The Origin of Life" by Leslie E. Orgel.

"The Emergence of Life: From Chemical Origins to Synthetic Biology" by Pier Luigi Luisi.

 

 

بثت قناة «إم.تي.في» قبل أيام ندوة حيوية حول الدولة ومفهومها ومعاني الهوية؛ لم يكن كل الحضور بمستوى تحدي السؤال الشرس، ماذا يعني أن نحدد مفهوم الدولة ولا معنى الهوية ببلد تتناثره الهويات بل وتتقاتل عليه، كما هو معنى كتاب أمين معلوف بكتابه المألوف: «الهويات القاتلة».

كل ذلك سهّل العودة المحقّة إعلامياً لأطروحة صموئيل هنتنغتون «صراع الحضارات؟». أصلها مقالة مطوّلة نشرها مستفهماً في «فورين أفيرز» عام 1993، في السطر الثاني من المقالة ذكر عبارة «نهاية التاريخ» عنوان مقالة لفرانسيس فوكوياما نشرت في العام 1989 بمجلة «ناشيونال إنترست» قبل تطويرها لكتابٍ عام 1992.

صموئيل هنتنغتون لم يتراجع عن نظرية الصدام حتى وفاته في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2008. وباستعادة بعض مضامينها يمكن الوقوف على مضامين فصيحة منها: أفترض أن سبب الصراع الأساسي في هذا العالم الجديد لن يكون آيديولوجياً بالمقام الأوّل، أو اقتصادياً بالدرجة الأولى، فالانقسامات الكبرى بين بني البشر والأسباب الطاغية للنزاعات ستكون ثقافية… ستكتسب الهويّة الحضارية أهميّة متزايدة في المستقبل، وستتم صياغة العالم إلى حدٍ كبير، من خلال جملة التفاعلات الجارية بين سبع أو ثماني حضارات، هي الحضارات الغربية، والكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والسلافية – الأرثوذوكسية، والأميركية – اللاتينية، وربما الأفريقية، ستتم أكثر صراعات المستقبل أهمية على امتداد خطوط الصدوع الفاصلة بين الحضارات، إحداهما عن الأخرى… يصبح العالم أصغر، تتزايد التفاعلات بين أبناء الحضارات المختلفة، وهذه التفاعلات المتزايدة تؤدي إلى تكثيف الوعي الحضاري والإحساس بالفروق بين الحضارات والجماعات… هناك نتيجة مع تقدم الغرب، وهي نوعاً ما ظاهرة العودة إلى الجذور بين صفوف أبناء الحضارات الغربية… من غير المحتمل أن يتضاءل التفاعل القديم قدم القرون بين الغرب والإسلام، قد يصبح الاشتباك بين الطرفين أكثر ضراوة».

مع بلوغ العولمة ذروتها في المجالات الاقتصادية والتقنية، دأبت الماكينات الإعلامية على وصف العالم بالقرية الصغيرة، وذلك إغراقاً في التفاؤل والاغتباط بما وصلت إليه المجتمعات من تعارف، وبسبب ازدياد التبادلات الاقتصادية الحرة، وغرق الفضاء بالأقمار الصناعية، وانفجار ثورة الإنترنت، وصولاً إلى انكسار الحدود بين الأمم، غير أن ما نبّه إليه هنتنغتون بوضوح أن صغر العالم قد يسبب ضربة للتعايش بين الحضارات، باعتبار التقارب والاحتكاك محفزاً لإدراك الفروقات، ومن ثم البحث عن الهويّة الخاصة، وخصائص الذات، ونقائص الحضارات الأخرى.

إن العولمة لم تعزز الفهم بين الأمم والأديان، بل حرست وكررت ونشرت الفهم التقليدي القائم عن الشعوب. وعلى المستوى الثقافي فإن المستفيد الأبرز من ثمرات العولمة التيارات المتطرفة عموماً، وبخاصة «جماعات العنف الإسلامي» بشتى أنحاء العالم، التي ركبت ثبج التقنية واستخدمت أحدث خصائصها بغية الحرب على الآخرين، ورسم صورة دموية عن الحضارة الإسلامية ونجحت بذلك منذ ضرب البرجين في أحداث سبتمبر (أيلول)، وصولاً إلى أعمال «داعش» الوحشية، حتى كادت فروع تنظيم القاعدة تنافس فروع «ماكدونالدز»… نعم لقد عبرَت القارات.

استذكار مقولات هنتنغتون بعد طول سنين ضروري لفهم الذي يجري في الولايات المتحدة وأوروبا. يأتي في ذلك السياق الهوياتي كتاب أثار ضجّة كبرى بألمانيا عنوانه: «ألمانيا تفقد هويتها» من تأليف ثيلو سارازين عام 2010. المؤلف وزير مالية سابق وعضو مجلس إدارة المصرف المركزي الألماني، رصدت ردود الفعل على الكتاب جاكلين سالم بكرّاسة مهمة لها بعنوان: «المواطنة الدينية في الغرب، تحليل لتجارب المسلمين في فرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة» تذكر أن خلاصة الكتاب تتمحور في الآتي: «المجتمع الألماني أصبح أقل ذكاءً، بسبب المهاجرين المسلمين وأولادهم» ويخصّ باحتقاره «الجالية التركية» بوصفها الأكبر بين المسلمين هناك.

الواقع قد يقسو على الأحلام، لكن هذه هي المرحلة المعيشة، إنها نتاج وحصيلة ظروف واشتباك.

اليمين ستكون له صولاته وجولاته، والمرشحون يصدحون بالخطب كل يوم، والإسلام والمسلمون جزء أساسي من المضامين الخطابية. حين فاز دونالد ترامب علّق والد زعيمة حزب الجبهة الوطنية الممثل لأقصى اليمين الفرنسي جان ماري لوبان: «اليوم الولايات المتحدة، وغداً فرنسا» ليردّ عليه نائب زعيم الجبهة فلوريان فيليبو: «عالمهم يتفتت، وعالمنا يبنى».

هكذا تسير الموجة اليوم… بالتأكيد العالم ليس قرية واحدة، تلك عبارة شعرية خاوية.

ليس سراً أن اليمين المتطرف في أفضل حالات انتعاشه حالياً، بسبب من استفزاز الطوفان الآتي، وتغلغل التنظيمات المتطرفة، ووحشية العمليات الإرهابية، هذا بالإضافة لكون المسلمين لم يحددوا بعد دنيوية واقعهم وأصالة براءة الآخرين الذاتية، هذا الاضطراب في فهم موقع الدنيا أسس لموجاتٍ من الاضطراب في العلاقة مع الغرب، ولعل مثال الدكتور طارق رمضان غاية في الوضوح، بوصفه متعلّماً وفصيحاً.

غير أن النتائج التي يطرحها والمقولات التي يدوّرها على الشاشات الفضائية لم تخدم المسلمين بشيء، بل في غالبها تخاطب وجدانهم وتطمئنهم على صواب الانغلاق والانكفاء، وتخدم تلك المقولات اليمين المتطرف.

الحقيقة متوزّعة أمامك، خارج أنفاق هويّتك، إنها في الآفاق من حولك، وقديماً كتب «غوته» – ديوان الألمان الشغوف بالشعر العربي: «ليس بالضرورة دائماً أن يتخذ الحق جسماً، يكفي أن يحوم في الضواحي كروحٍ، ويحدث نوعاً من التوافق مثلما تفعل الأجراس حينما يطوف رنينها في الجوّ، حاملاً السلام».

***

فهد سليمان الشقيران

كاتب وباحث سعودي

صحيفة الشرق اللندنية ليوم: الأحد - 29 جمادى الآخرة 1444 هـ - 22 يناير 2023 مـ رقم العدد [16126]

في 1919 وقف الاقتصاديّ البريطانيّ جون ماينرد كاينز، موقفاً شجاعاً وحكيماً في آن. فبصفته عضواً في الوفد البريطانيّ المفاوض في فرساي، بعد الحرب العالميّة الأولى، كره التنازلات التي فرضها الحلفاء على ألمانيا، وحجم التعويضات المطلوبة التي ستُثقل على مدنيّي ألمانيا الأبرياء. هكذا استقال من الوفد ومن عمله الاستشاريّ في وزارة الخزانة التي مثّلها في المفاوضات. وهو سريعاً ما كتب «الآثار الاقتصاديّة للسلام»، مُظهراً أنّ الحرب دمّرت أساسيّات الاقتصاد الأوروبيّ بينما لم تفعل معاهدة فرساي شيئاً لإصلاحه، ومجادلاً بأنّ على ألمانيا ألّا تستجيب للعقوبات المفروضة، ولائماً الدول الكبرى على وقوفها وراء اتّفاقيّة غير أخلاقيّة، فضلاً عن توقّعه نتائج مُرّة للقسوة على ألمانيا. وإذ أزفت الثلاثينات، بدا واضحاً كم كان موقفه صائباً. فالصعود النازيّ، كما نعلم، كثيراً ما تغذّى على المذلّة والضائقة اللتين أنجبتهما فرساي.

وفي الثلاثينات نفسها، استوت الكاينزيّة مذهباً في المعالجة الاقتصاديّة والمقاربة الأخلاقيّة، فضلاً عن انهجاسها بامتصاص التطرّف. تمّ ذلك مع صدور كتابه الأهمّ «النظريّة العامّة للعمالة والفائدة والمال» (1936)، الذي أرسى أسس النظام الاقتصاديّ الغربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، أي مع وفاة كاينز في 1946 وبعدها. فـ«الثورة الكاينزيّة» كما سمّيت، صانعةً أحد أهمّ اقتصاديّي التاريخ، رأت أنّ من مسؤوليّات الحكومة ضمان العمالة الكاملة، أو ما يقاربها، وهو ما ينجزه تنشيط الطلب كردّ على الانكماش، أي الإنفاق العامّ في البنى التحتيّة والخدمات الاجتماعيّة (بناء طرق وجسور ومستشفيات إلخ...).

والكتاب أعاد التفكير في مسألة البطالة، بهدف إنتاج حلول جديدة لأزمات الثلاثينات، وللرأسماليّة عموماً.

فالاقتصاد الكلاسيكيّ قدّم ثلاثة أسباب للبطالة: تغيير العاملين والعمّال أشغالهم، واختيار الأفراد ألّا يعملوا بالاستفادة من تقديمات الدولة، وارتفاع الأجور بما لا يحتمله أرباب العمل. وفي الموديل الكلاسيكيّ يُفترض بالسوق الحرّة أن تصحّح هذا العامل الثالث آليّاً، بحيث يتساوى عفويّاً عرض العمل والطلب عليه، بلوغاً إلى العمالة الكاملة. لكنّ كاينز خالف النظريّات هذه: ففي الثلاثينات كان الملايين بلا عمل، ما يعطّل التفسير بالعوامل الثلاثة أعلاه. أمّا السبب، عنده، فليس تغيير العمل ولا رفض العمل والكسل أو تدخّل النقابات، خصوصاً أنّ الاقتصاد يومذاك لا يخلق فرص عمل أصلاً، فيما ارتفاع البطالة خلال الكساد الكبير يقلّص نفوذ النقابات. وأمّا الرهان على التساوي العفويّ بين العرض والطلب فيستغرق وقتاً طويلاً لن يبقى بعده، بين الأحياء الحاليّين، من يستفيد منه.

فمشكلة البطالة تكمن، إذن، في نقص الطلب أو انعدامه، والمطلوب بالتالي تدخّلٌ يكسر دورة الركود ويستعيد الازدهار. وإذا كانت الحكومات، إبّان التراجع، تتوجّه تقليديّاً إلى العرض، معوّلةً على أنّه ما يشجّع النموّ ويخلق العمالة، فقد رأى كاينز عدم جدوى العرض في ظلّ طلب بالغ الانخفاض. لذا ينبغي منح الأولويّة للطلب الذي تخلقه الدولة بمشاريعها، عبر الاقتراض لتمويل مشاريع عامّة واستثمارات في البُنى التحتيّة. وفي نقده، لم يغفل عن الشبه بين السلوك التقليديّ للحكومات والعقليّة الأبرشيّة الضيّقة للعائلة التي تميل إلى التقتير عند تبخّر المداخيل، مميّزاً بين إدارة الدول وإدارة البيوت.

أمّا السؤال عمّن ينبغي أن يسدّد القروض، فجوابه أنّ خلق الوظائف عبر المشاريع الكبرى إنّما يوفّر المال الذي كانت الحكومات ستنفقه معوناتٍ للعاطلين عن العمل، كما أنّ ازدياد عدد العاملين سيوسّع الإنفاق ويغذّي الضرائب، وإذ يتحسّن «البيزنس» في هذه الغضون، تتوافر العائدات التي تسدّد الدَّين.

فالرأسماليّة قد لا تكون حميدة، كما رأى آدم سميث، إلا أنّها ضروريّة بقدر ما هو ضروريّ كبح جماحها. وكاينز، برفضه المزدوج للشيوعيّة ولإطلاق يد السوق، كان متفائلاً بقدرة الحكومات، عبر الإنفاق العامّ والتدخّل التنظيميّ (regulation) على تذليل الأمراض التي تنجم عن الرأسماليّة، والرهان تالياً على عصر غير مسبوق في ثرائه.

وتفاؤله هذا بدا أوضح ما يكون في مقالة شهيرة كتبها عام 1930، في ذروة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وعنونَها «الإمكانات الاقتصاديّة لأجل أحفادنا». فبنبرة شبه خلاصيّة رأى أنّ معظم الأزمات قابل للتذليل، بحيث يحلّ عصر يغدو معه التحدّي الأعظم للكائنات الإنسانيّة: كيف نملأ أوقات فراغنا في ظلّ بحبوحة على نطاق جماهيريّ؟

إبّان الحرب العالميّة الثانية، قاد كاينز الوفد البريطانيّ إلى مؤتمر برِتون وودز، حيث عالجت الدول المتحالفة اقتصادات ما بعد الحرب. وهو، مجدّداً، كان متفائلاً بقيام نظام كونيّ لتنظيم الاقتصاد، مطالباً الدول، خدمةً للتجارة العالميّة، بتأسيس مصرف مركزيّ عالميّ وعملة سمّاها «بانكور». ولئن لم يؤخذ بالاقتراحات هذه، فإنّ اقتراحاته الأخرى أسهمت في تأسيس البنك الدوليّ وصندوق النقد لتشجيع التجارة الدوليّة.

والحال أنّ الكاينزيّة وأفكار «دولة الرفاه» سادت معظم الاقتصادات الغربيّة بين نهاية الحرب العالميّة الثانية وأواسط السبعينات، حين أسقطها ارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف، لتباشر النيوليبراليّة، بعد سنوات قليلة، صعودها الريغانيّ والثاتشريّ. لكنْ منذ أزمة 2008، وفي أيّامنا هذه تحديداً، يعاد الاعتبار للكاينزيّة مقروناً بالتساؤل عن صعوبات العودة إليها.

في الأحوال كافّة، فـ«اللورد كاينز»، وعلى عكس ما يُظنّ، لم ينتسب إلى حزب العمّال، بل عُرف بتأييده الحزب الليبراليّ. وهو، وإن غازل لاحقاً تيّارات عمّاليّة، حافظ على مواقف متعجرفة من النقابات، كارهاً كلّ حشد جماهيريّ بوصفه قطيعاً.

فمن عائلة ثريّة جاء كاينز، ودرس في مدارس النخبة وجامعاتها، كإيتون وكمبردج، وعلى مدى حياته ظلّ جزءاً من «الإستابلِشمنت» البريطانيّة. وبوصفه ذا اهتمامات أدبيّة وفنّيّة، ربطته صداقات ببعض ألمع المبدعين، وفي عدادهم فرجينيا ولف، كما انتمى إلى جماعة «بلومزبري» الليبراليّة للكتّاب والفنّانين والمثقّفين، التي قادت الهجوم، في العقدين الأولين من القرن الماضي، على القيم الفيكتوريّة في الجنس والاجتماع.

لكنْ ما بين انتقائيّة أفكاره ومحدوديّة زمنه ومعارفه، ناصرَ كاينز خرافة «علم تحسين النسل» (eugenics)، فكانت هذه شهادة أخرى على المسار المتفاوت للبشر. أوَلسنا جميعنا، في وعينا، متفاوتين؟

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ليوم: الأحد - 14 رجب 1444 هـ - 05 فبراير 2023 مـ رقم العدد [16140]

 

إن ربط الفلسفة بالكمال يعني فصلها عن الضّرورة، وبهذا المعنى الذي يوحي به العنوان يمكن أن يُفهم أن الفلسفة لا توجد في المدن على جهة الضرورة بل توجد على جهة الكمال، ومن هنا فلا حاجة بالمدينة للفلسفة. لكن هل يعني هذا أن ما يوجد على جهة الضرورة أفضل مما يوجد على جهة الكمال؟

إذا كان العمران البشري يقوم على ضرورة الغذاء والسعي إليه، وعلى ضرورات أخرى تُبقي النّوع الإنساني، فإن هذه الضرورات لا تصنع حضارة، إذ الحضارة مرتبطة بالصّنائع والعلوم والفنون، لأنها كمالات ترفع الكائن الإنساني من مستوى الضّرورة إلى مستوى يحقق فيه كمالاته الإنسانية الكبرى إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه، فالإنسان هو إنسان بعقله وقلبه وحدسه، وهو إنسان بكلّ الأدوات المعرفية التي وُهبت له بعد أن أخرجه ربه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وهو إنسان بقدراته الفطرية الهائلة الثّاوية قي أعماقه، والتي ميزته عن غيره من كائنات هذا الوجود «فطرة الله التي فطر الناس عليها»، وعند تحقيق الكمالات يتجسّد للموجود الإنساني وجوده الجميل، وينعم بالحياة الطيّبة التي لا تقوم إلا على الأثافي الثلاث: الحقّ والخير والجمال، ومن هنا أهمية الفلسفة، بمعارفها وأدواتها، بل وضرورتها في تحقيق الكمال الإنساني الممكن.

إن الفلسفة لا تنشأ إلا داخل المدينة، فالفلسفة بنت المدينة، وهي لا تنشأ إلا بعد تحقق جملة من الشّروط، فإذا كانت الفلسفة عند اليونان نشأت في مدينة أثينا، فلأن هذه المدينة الدولة، التي تميزت بساحة الأغورا وما ترمز له من نقاشات سياسية ثريّة، عرفت تراثاً فكرياً غنياً متفرقاً تجمّع لها من الحكماء ما قبل «السّقراطيين»، فأتى سقراط ونظر في التّراث الفلسفي السابق وجعل موضوع الفلسفة هو الإنسان، بعد أن كان موضوعها الوجود، ونظر في المفاهيم وفي السبب الغائي، فكان أن اكتشف بذلك قارّة فلسفة الأخلاق. ليتتابع تلميذاه على «صوفيا» فيبلغا بها أسمى ما وصلت إليه الفلسفة في العالم القديم، حتى إن ابن رشد قال عن أفلاطون وأرسطو إنهما منتهى ما وصلت إليه الإنسانية من كمال عقل. ولولا أرسطو الذي أدخل العقل البشري إلى مجال العقل النظري ما تحرّك قطارُ العلم الذي أوصل الإنسانية اليوم إلى ما وصلت إليه.

وقد وعت المدينة الإسلامية هذا الدّرس، فأسّس المامون «بيت الحكمة»، ونقل إلى اللغة العربية، بخاصة، تراث أفلاطون وأرسطو، فانتقل العرب من العبارة الشّعرية إلى العبارة الفلسفية، وأصبحت الفلسفة، عموما، جزءاً من التّعليم النّظري عند المسلمين حتى وجدنا الغزالي يعتبر العاطل من علم المنطق ممن لا يوثق بعلمه، واختلطت الفلسفة بعلوم الشريعة، وحُقَّ للمسلمين أن يعتبروا أنفسهم أمّة فلسفية، خاصة أن تراثهم الفلسفي أسهم في نهضة الغرب كما يُصرّح بذلك أهله. وقد أسهم ابن رشد، الفقيه الفيلسوف، بمختصراته وجوامعه وتلاخيصه وشروحه، في هذا الأمر الجلل إسهاماً كبيراً كان لتلامذته من الرشديين اللاتين الدور الأكبر في التعريف به وإشاعته بين قومهم، وإن كان الأمر قد تمّ في سياق من تنازع وجدال وتدافع.

نعم، إن الفلسفة توجد في المدينة على جهة الكمال، لكن ما يوجد على جهة الكمال أفضل مما يوجد على جهة الضرورة.

*** 

د. إبراهيم بورشاشن

مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

16عن صحيفة الاتحاد الامارتية، ليوم: 16 ديسمبر 2022

كان يرى أن جميع الطرق تؤدي إلى ذواتنا

لعل أبرز هؤلاء الكتّاب والفلاسفة الذين لم يعيشوا العزلة فحسب، بل نظروا لها، الفيلسوف الروماني الأصل، الفرنسي الجنسية، إيميل سيوران. ولو جرّبنا أن نقرأ هذا الفيلسوف بعناية، نجد أن جل أعماله تدور حول عزلة الإنسان. جان بول سارتر قال بعبارة شعبية: «الآخرون هم الجحيم». ولكن حالة سيوران تختلف، فهو يعطي العزلة تقديساً من نوع آخر، بل إنه تحدث كثيراً عن كون الإنسان في نهاية المطاف كائناً منعزلاً. والعزلة التي يقصدها سيوران هي صُنع العزلة من خلال الإبداع الخلاّق.

اكتشف سيوران الفراغ في الحياة اليومية وغرف الفنادق في باريس منذ عام 1937، مما دفع الفيلسوف في صيف عام 1946 إلى اتخاذ قرار حاسم، وهو: عدم الكتابة إلا باللغة الفرنسية، والتخلي عن أعماله التي كتبها بلغته الأصلية الرومانية. إلا أن مكتبة جاك دوسيه الأدبية في باريس قررت الاحتفاظ بها، لتكون أرشيفاً توثيقياً، في عام 1949. وقام نيكولاس كافيليس، محرر أعمال سيوران الكاملة في سلسلة «غاليمار» الشهيرة «لابلياد»، بترجمتها ونشرها في عملين، هما: «نافذة على العدم» و«المتناقضات»، في أواخر 2019. وهما يمثلان سيوران الشاب، حيثُ نرى فيهما احتفاءً بما نطلق عليه التجربة والخطأ. ولم يكتمل البحث الفلسفي العميق عند سيوران في هذين الكتابين. وقد أكّد فيهما على حقيقة أن «كل واحد منا يمكن أن يغرق في هاجسه الذاتي من الفجر حتى منتصف الليل، حتى يتجاوز نفسه ووعيه، وهو في مواجهة السعي لحّل الألغاز والأسرار التي تكتنف الشمس والأرض والسماء، إنها تأخذنا إلى عزلة النجوم أو عزلة الخرف أو اضطراب الذاكرة. ومهما يكن الاتجاه الفكري أو الفلسفي الذي يتبناه المرء، فإن جميع الطرق تؤدي إلى ذواتنا، كما لو أن هذه الذات هي روما في التاريخ».

ومن خلال الأمثال والاستطرادات التي يوردها الفيلسوف سيوران في كتابيه، نتعرف على الفيلسوف الذي يجنح نحو الغنائية المتخيلة، معتبراً أن الالتزام بالذات الفردية شكل من أشكال مركز الجاذبية، التي تفضي إلى الذاتية الموضوعية في نهاية المطاف. ويبرر سيوران كتابته هذه بأنها عفوية صادقة بعيدة عن النمطية الجاهزة؛ إنها نوع من أنواع القناع والهروب، وزعزعة الاستقرار على تفكير أحادي. ويقول سيوران في كتابه «المتناقضات»: «عندما أنظر إلى العيون والسماء والأزهار، فإنني أرى أن انسجام الكون مثل سوناته شعرية لا يمكن فك ألغازها وأسرارها وشيفرتها». ويضيف في لحظة تساؤل: «إن العالم المتقدم لم يتعرض للانهيار حتى الآن، ونحن فقدنا حساسيتنا إزاء السخرية». ومن خلال كتابه الثاني «نافذة على العدم»، يظهر سيوران المحب العاشق: «لقد عرفت النساء اللواتي لا يملكن الفخامة بالضرورة». وعند قراءة سيوران الشاب، يظهر التجلي الحاد للذات التي تكشفها رسائله. وفي الحقيقة، إن القارئ ليشعر في أثناء قراءة هذين الكتابين بأنه أقل عزلة مع سيوران.

وتتجلى عزلة الكتابة عند سيوران بطريقة فريدة من نوعها، وهي تنفتح على عناصر الشعور، والإحساس، والهوس، والصورة، والرمز، والفكرة، والمفهوم... إنها نوع من الاستبصار عبر الوجود والوعي. العزلة مع الذات، والإحساس بها إزاء الآخرين والأشياء. وتتجلى قوة الاستقلالية بأسمى صورها، ساعية إلى معالجة المحن التي يواجهها الإنسان المعاصر. وهذا الشعور بالعزلة غير قابل للذوبان أو الزوال، بل ينفتح على ذروة داخلية مأساوية ذات أبعاد كونية، وهي فلسفة الانفصال عن الآخرين، والصفاء مع الذات. ويتفق سيوران مع بيكيت في أن مارسيل بروست هو أول كاتب جعل «الفن يقدّس العزلة». ولعل هذه العزلة تجعل سيوران يبحث في تصوره عن الصداقة والآخرين، ومواجهة العزلة بأفكار أخرى، مثل استجواب كل من كيركغارد وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وهايدغر، وإلقاء الضوء على أفكارهم في العزلة.

كيف نفهم عزلة الكاتب وأفعاله؟ وهل يتجاوز الكاتب هذه العزلة ليبحر في عزلة أكثر حدة؟ لا تزال جملة سيوران الشاب حاضرة: «على الإنسان أن يتعوّد على أن يكون بمفرده أكثر مما يتعوّد على الاختلاط بالآخرين»، وهذا هو جوهر فكرة سيوران عن العزلة. إنها بالأحرى التأملات التي تثيرها العزلة، وتلقي بظلالها على فضاءات فلسفية، وأدبية، وشعرية، ولغوية، ونفسية، وتاريخية. وتُجبرنا هذه العزلة على إدراك حدودنا، وماهية الموت الذي ينتظرنا، لأن الموت يحوّل الحياة إلى سؤال، وقلق، ومعنى. والروح تختنق في الجسد لأنه صغير جداً، ولا يقدر على استيعابها، كما يؤكد سيوران. ومن هنا يفرض القيد الزماني والمكاني شروطه على جوهر دراما الإنسان.

يكتب سيوران أن الإنسان لا يمكن أن يوجد إلا في الأنا، من خلال تأمل الفراغ الذي يقوده إلى أن يعيش كبرياء العزلة حتى النهاية، إذ لا يوجد أمام الإنسان سوى التفكير فيما يتعلق بذاته، فالحياة تجربة مؤلمة، لكنها الوحيدة التي تضع الكائن الإنساني في مواجه الإله. الهواجس هي شياطين عالم بلا إيمان، ولا يمكن إخفاء معاناة الإنسان إلا من خلال السخرية فقط. عندما تكون بمفردك، فإنك غير محدود، بل مُطلق. وبمجرد أن يدخل إنسان آخر في حياتك، فأنت تواجه حدوداً، وسرعان ما يحل العدم. لذا يجب الاتكاء على الذات، وليس على الآخرين. عندما أفكر بالعزلة، كما يقول سيوران، ترتسم صورة الصحراء في ذهني تلقائياً، فقد ظل القديس أنطونيوس منفصلاً عن العالم طيلة عشرين عاماً لكي يتأمل ويكتب. هل يمكن أن نتحمل هذه العزلة من دون مساعدة الإيمان؟ سؤال يطرحه سيوران: ليس أمام الإنسان سوى الشك أو الصحراء، ولا يمكن له أن يعيشهما معاً وفي آن واحد.

ما معنى المنفى في نظره؟ إنها لحظات العزلة القصوى. وسيوران لم يبدع أعماله الفلسفية المتميّزة إلا في صلب العزلة، حتى تحوّل إلى ناسك باريس. والمكان المناسب لتجربة العزلة في نظره هو «الجزيرة» و«الصحراء». فالعودة إلى الذات، تجعل الإنسان يخلقُ عزلة الذاتية لنفسه. وهو لا يعني أن يبقى محبوساً، لأنه يحب الشارع والحوار مع يوجين يونيسكو وهنري ميشو وصموئيل بيكيت، ولا يغفل حضور المؤتمرات والحفلات الموسيقية والمسارح، وهو يقول بهذا الصدد: «إنا مؤنس - ضد نفسي، عن طريق العقاب الذاتي»، والليل يثير في نفسه «روح التناقض»، حساسيته شبيهة بروحية الرومانسيين، روح قلقة تنجذب إلى «العزلة المطلقة». يقول سيوران أيضاً إنه «رومانسي متخلّف أنقذته السخرية». وهو مع بودلير، يعدُ نفسه «الغريب» بين البشر، وهو يعيش هوس الوقت: «الزمن يحفظني»، ويقول: «الشيخوخة هي اندحاري الوحيد». ويفترض سيوران أن ثمن المعاناة هي وجود الآخر، لكن فعل الكتابة يخفف من هذه الوطأة. لذا ثمة علاقة بين العزلة الفردية والعزلة الكونية، وهما يؤديان إلى العزلة الإبداعية، والتجربة الجمالية، وعظمة الروح.

اختفى سيوران في يونيو (حزيران) 1995، وتوّج القول المأثور، حيث ولد فقيراً وتوفي فقيراً، وكان يزدري المجد والشهرة. على أي حال، اشتهر سيوران بمديح العزلة، وتأثر بنيتشه والموسيقى. ونصوصه في عام 1931 كانت أكثر تشاؤمية، وامتدت إلى أعماله اللاحقة. وكان سيوران في العشرين من عمره، عندما نشر مقالاته في الصحف الرومانية، وكان مغرماً كبيراً بالفلاسفة الألمان، وهو القائل: «لا يمكنني الحديث عن الرأسمالية دون ذكر الموت». وجمل سيوران وعباراته مؤثرة، تشبه إلى حد ما قصائد الهايكو، في تكثيفها واختزالها للمشاعر والأحاسيس. وقد قال في عام 1934: «إننا لا يمكن أن نحقق السعادة لو استأثرنا بأنفسنا، فالتعاسة خطيئة ضد الحياة، لكنها تعبّر عن أعماقنا، إذ لا مصير إلا في إدراك مصيبتنا». وقد ثار سيوران ضد الذين قاموا بطرد زميله ومواطنه الفيلسوف ميرسيا إلياد من الجامعة عام 1937، لكنه لا يحمل الكراهية في أعماقه، وظل يحتفل بالمناظر البافارية وموسيقى موزارت وأحاديث عن غريتا غاربو. ونصوصه في العزلة ثمينة للغاية لأنها تجسّد وجوه سيوران المتنوعة؛ ذوقه للمفارقة، ورومانسيته الكئيبة، وكراهته للآيديولوجيات والأفكار الجاهزة وطائفته، ويقف بكل سخرية فولتيرية وجهاً لوجه ضد الأبدية، ويتساءل: كيف يمكن أن يعيش بعض الناس غير مبالين في هذا العالم؟ وكيف يمكن أن توجد قلوب لا تحترق بالألم والمعاناة؟.

***

شاكر نوري - دبي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ليوم: الثلاثاء - 13 شهر رمضان 1441 هـ - 05 مايو 2020 مـ رقم العدد [ 15134]

 

لا يُمكن فصل إشكاليات الحاضر العربي عن إشكاليات ماضيه. فبقدر ما الواقع/ الراهن يَحْكم بضروراته على مُجْمَلِ الخيارات المُعَبِّرة عن إرادة عامة؛ فالذاكرة التاريخية تَحْكم أيضا، وربما بما هو أشدّ إلزاماً من الواقع وضروراته القصوى. وما تأزّمَ الواقعُ العربيُّ منذ بدايات الاشتباك السياسي والثقافي مع الحضارة المعاصرة التي فرضت تحدّياتها في سياق خيارات مصيرية؛ إلا لأن الذاكرة التاريخية ظلت تُعانِد من جهة، وتعجز ـ بطبيعة مُكوّناتها ـ عن فهم هذا الواقع؛ من جهة أخرى.

إذن، الذاكرة العربية/ الإسلامية مصدر التأزم الراهن؛ كما هي مبدأ اجتراح الحلول الممكنة. لا خطوة واثقة، لا خطوة مُجْدِية بحق، تبدأ من فراغ. فكيف إذا لم يكن ثمة فراغ؛ إلا فراغا مملوءا بما هو أسوأ من الفراغ. والأسوأ هنا يتمثّل في فوضى الذاكرة وعبثيتها واضطرابها وامتلائها بالمتناقضات، بل واللاَّمعقول/ الخرافيات. ومن ثم عُقْمُها وعَجْزُها عن الإسهام في اجتراح الحلول، فضلا عن سدِّها منافذ التواصل/ المُثَاقفة بما تطرحه من أوهام الاكتفاء الذاتي.

الغريب أن الوقائع السياسية في التاريخ العربي/ الإسلامي، وعلى ضخامتها، لم تُنْتِج نظرية سياسيا توازيها أو حتى تقاربها. فمع أن الإسلام يُشَكِّل أكبرَ "واقعة سياسية" للعرب (وهذا لا ينفي الواقعة الدينية له بالطبع) إلا أنهم لم يُنْتجوا من خلاله نظرية سياسية واحدة متماسكة؛ على الرغم من تتابع تأسيس الإمبراطوريات الواسعة التي كانت تتطلب نظرية سياسية ما؛ وعلى الرغم أيضا من استدماج كثير من الشعوب المتحضرة ذات الإرث السياسي الممتد لقرون قبل الإسلام.

لماذا لم يَنتج عن هذه الوقائع الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، وعن هذا الاشتباك الاجتماعي والثقافي الواسع عبر التاريخ العربي/ الإسلامي الطويل، نظرية سياسية في الإسلام؟ وبالتقابل المُقارِن: لماذا أنتج الغربُ منذ أيام المدن اليونانية، ومرورا بالقرون الوسطى، إلى فجر العصور الحديثة ـ ولا يزال يُنتج ـ تنظيرات سياسية بالغة الحيوية في اشتباكها الجدلي مع الواقع من جهة، ومع المرجعيات النظرية الأخرى، من جهة أخرى؟

لا شك أن الأسباب كثيرة، بعضها مَحَلّ اتفاق، والآخر مَحَلُّ اختلاف. ولكن، في تصوري الخاص، فإن نشوء الواقعة السياسة في الفضاء الإسلامي الأول كظاهرة دينية (= ما قبل سياسية) جعل المحاولات اللاَّحقة أسيرة لها، بحيث لا تستطيع تجاوزها بالنقد؛ لاكتسابها مرجعية قُدْسِيّة في الوعي الإسلامي العام.

كان يُفْترض أن تبدأ السياسية في الإسلام ـ كسياسة أولا ـ بمجرد وفاة نبي الإسلام، أي بمجرد غياب المرجعية الما ورائية، المرجعية القائمة على العصمة الإلهية المتعالية على الأرضي/ الواقعي (= على السياسي المحض)؛ رغم مُحَايَثتها له. هذا هو المفترض. ولكن، ما حدث كان مجرد امتداد لأعراف وتقاليد ما قبل الإسلام، كان اشتغالا عربيا محضا بالأساس؛ حتى في اللحظات التي صرّح بها الفاعلون السياسيون عن ارتباط الإجراء الواقعي بالدين.

بدأت أيام السياسة الأولى في الإسلام باجتماع "السقيفة" يوم وفاة النبي، وكانت المبادرة السياسة نِزَاعا قَبَليا/ مناطقيا، مُفَرَّغا من كل مبدأ سياسي، كما هو مُفَرَّغ من الديني، رغم الحديث كان يجري باسم الدين أو لغاية الدين. كان الاجتماع، ومُتَتالياته، مسار رُدُودِ أفعال متلاحقة لا تتصل بخيط نظري ناظم، لا عند الأنصار (= الأوس والخزرج: الجيش الإسلامي الأول)، ولا عند المهاجرين (= القرشيين بالذات) الذين كسبوا الجولة الأولى بالتفافة أرستقراطية بارعة، ومن بعدها سيطروا على الملعب السلطوي بالكامل لأكثر من ستة قرون.

وكانت النظرية المقابلة لاجتماع السقيفة (= نظرية الوصية) دينية خالصة تتعالى ـ مبدئيا ـ على السياسة ومعادلاتها في الواقع. أي أنها في النهاية لم تكن نظرية في السياسية؛ بقدر ما كانت نظرية في الدين؛ رغم دافعها السياسي الواضح.

على أي حال، تكاثرت الفرق الإسلامي لاحقا، والتي كان منشؤها معارضة سياسية لاحتكار السلطة بالكامل من قبل الأرستقراطية القرشية وحلفائها (حلفاء ما قبل الإسلام). وكما هو متوقع، فقد كان القادة الفكريون لهذه الفرق المعارضة يطرحون تصوراتهم السياسية التي تتوسل المبدأ الديني، محاولين اجتراح نظرية سياسية ذات بعد ديني، تخدم حراكهم السياسي على أرض الواقع. ولكن أيا منهم لم يطرح رؤية سياسية تتوفر على الحد الأدنى من التماسك والشمول، بدءاً بِمُبَرِّرات السلطة/ الدولة، وانتهاء بتفاصيل الأداء السلطوي، مرورا بالشروط الدستورية التي تتعلق بالحاكم، وكل التفاصيل في هذا المجال.

أعرف أن كثيرين هنا سيتقدمون بما طرحه بعض كبار متكلمي الإسلام وكبار فقهائه في هذا الشأن، بوصفه تنظيرا سياسيا. والحقيقة أن ما طرحه هؤلاء؛ إما أنه مجرد رؤى عابرة متناثرة تفتقر للحد الأدنى من التنظير، أو هو تنظير متماسك نظريا إلى حد ما، ولكنه مجرد تعقيب على الواقع؛ لا لنقده على حدود الاستواء النظري المفترض، وإنما لتبريره وتسويقه، فالمتكلم أو الفقيه إنما هو في النهاية يقوم بدور المتحدث الرسمي باسم السلطات القائمة آنذاك، وهي السلطات المتقلبة المتحوّلة ذات المشروعيات المُتَعدِّدة، والتي يستحيل ـ جرّاء ذلك التحول والتعدد ـ أن تكون "التبريرات" لها مُتّسقة نظريا، كما يستحيل البناء على تراكمها عبر التاريخ للخروج بنظرية سياسة جامعة للمجتمع الإسلامي.

في التراث الغربي، كان هناك التنظير السياسي المرتبط بالواقع، أي التنظير على ضوء الواقع؛ كما كان هناك ـ بالتوازي معه، أو بمحايثته ـ تنظير متجاوز للواقع، قد يكون حالما، بل وقد يكون خياليا، ولكنه في النهاية يُعبِّر تطلّع وإرادة تطوّر، كما يُعَبِّر ـ وهو الأهم ـ عن نقد ضمني للسياسية السائدة في بُعْديها: النظري والعملي. وهذا ما لم يكن موجودا في التراث الإسلامي؛ إلا كالفُتَات المتناثر على ضِفاف هذا التراث، كما هو الحال عند متفلسفة الإسلام الذين ظلوا خارج نطاق الوعي الجمعي الإسلامي الذي هَيْمنَ عليه الفقيه الديني، فكانوا ـ أي الفلاسفة ـ مجرد هوامش منبوذة، لا تُؤثِّر على المسار الفكري العام، فضلا عن أن تُؤَثِّر في مُجْرَيَات الحدث الواقعي.

لهذا، ليس غريبا أن يكون التنظير السياسي الإسلامي الرائج في المدونات التراثية، هو التنظير المُعَبِّر عن الفراغ النظري، أقصد: الآداب السلطانية (بما فيها "المقدمة الخلدونية" التي تدّعي ـ بادعاء مزيف ـ تجاوز هذه الآداب) التي كانت شَرْعَنَة للتشوّهات العميقة في تاريخ الإسلام السياسي. وليس مصادفة أن يكون مؤلفو هذه "الآداب السلطانية" "فقهاء" بالدرجة الأولى، أو متقاطعون أصالة مع الخط الفقهي التقليدي العام.

أخيرا، ماذا يعني غياب النظرية السياسية الإسلامية على امتداد تاريخ الإسلام؟ يعني أن الرابط الوحيد الذي كان قادرا على التنظيم والتوحيد الأممي في تصور العرب/ المسلمين هو رابط الإمبراطورية الكبرى الجامعة، أي أن الرابط واقعي قسري. وبالتالي، عندما يزول هذا الرابط؛ يطفح على السطح شعورٌ عام باليتم والضياع، ومن ثم التيه النظري الذي يقف أمام المستقبل عاجزا، مقهورا بعجزه. هذا ما حدث بعد سقوط الإمبراطورية العباسية (السقوط الكلي لواقع المشروعية عام 656هـ، وليس السقوط الأول المتمثل في تفكك السلطة الواقعية 247هـ)، وأيضا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن العشرين. فالعرب/ المسلمون كانوا ـ ولا يزالون ـ حائرين، لا يعلمون حقيقة ما يريدون. وعندما يُحاولون البحث في هذا المجال فإنهم لا يُنتجون إلا مضغ كلام في كلام؛ لعجزهم عن البدء من حيث كانت البدايات الأولى.

***

محمد المحمود

عن الحرة في يوم 09 يناير 2023

 

عندما كانَ علماءُ الأنثروبولوجيا وفلاسفة الدين يشتغلون على الفروق بين الدين والثقافة؛ كانوا يحسبون شأنَ مارسيل غوشيه أنَّ الأوروبيين خرجوا من الدين ولم يخرجوا عليه. وأنّ الذهاب باتجاه الثقافة بعد مغادرة الحرام الديني يسهِّل عمليات التغيير إلى حدٍ كبير.

وما كان في الحساب أنّ بعض العادات والأعراف والانطباعات العامة الداخلة في الثقافة تتحول إلى ما يشبه الدين؛ وهذا أمرٌ مختلفٌ عن تحول «التديُّن» إلى دينٍ وإن يكن بين الاثنين نسبٌ وسبب. مناسبة هذا الحديث ما تكرر على ألسنة كثيرٍ من المتحدثين في الآونة الأخيرة عن سوء العلاقة القديمة بين الدين والدولة في الإسلام الأول والكلاسيكي. وهم يحتجون لذلك بأثر نبوي: «تكون الخلافة ثلاثين عاماً ثم يكون مُلْكٌ عَضوض»! وقد استمر هذا التصور وتعقْد حتى صار اعتقاداً شبهَ يقيني، ودعمه مستشرقون كثرٌ في الأزمنة الحديثة، ثم صار يقيناً لدى الصحويين والأصوليين. فكانت النتيجة هذه الحملة الشعواء على الدولة الوطنية والغزو الثقافي الغربي، شأن ما كان للدثائر اليونانية والإيرانية من تأثيرٍ كبير على تقاليد ودواوين الدولتين الأموية والعباسية. لقد تبيَّن لي (وقد عملتُ في أطروحتي على بعض الثوار على الأمويين) أنّ الأمويين ما كانوا أقلّ التزاماً بالإسلام من خصومهم. فهم ما كانوا من أهل السابقة ولا من أهل قرابة النبي، ولذلك فقد استندوا إلى الإسلام بعامة، واشتغلوا على بناء إمبراطورية بالفتوحات والجهاد. فما كان الأمويون قليلي الدين.

وعندما استولى العباسيون ما تغير هذا الأمر، وبخاصة أنهم كانوا من سلالة العباس بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وسلم). نوعان من أنواع الشرعية: شرعية التأسيس وشرعية المصالح. وتقوم شرعية التأسيس على الوحدات الثلاث: وحدة الدين والدار والسلطة. أما المصالح فالمعنى بها حسن إدارة الشأن العام في ظل قيم وممارسات العدالة. ومشروع الدولة هو مشروع العلماء أيضاً، ولذلك فهم لا يتصارعون مع السلطات، والاختلاف مع السلطة القائمة من جانب سائر الفئات يدخل في نطاق المصالح التي لا يشكل الخلاف حولها خطراً على الدولة، وينتهي بالمصالحة حتى لو كان نزاعاً مسلَّحاً. هو تاريخ قديم وما كان العلماء كما يصورهم الأصوليون اليوم إما ثواراً أو عبيداً للسلطان. لكنّ الانطباع عن وقوف السلطات في وجه الدين استمر عبر العصور، وعاد مسلَّمة قوية في الأزمنة الحديثة؛ حيث شيطن الصحويون الدولة الوطنية (المتغربة) مثلما فعل الثوار الراديكاليون مع خصومهم في إدارة الدولة قديماً. ما مآل هذا كلّه؟ لا يقتصر الأمر على تصحيح الصورة التاريخية للعلاقة بين الدين والدولة؛ وهذا أمر خطير على كل حال. بل ضرورة التحول ضمن رؤية أُخرى للعالم من التأريخ العقدي إلى التاريخ الثقافي. ومقتضى ذلك الانفتاح من جهة البدايات على واقع دخول العناصر البيزنطية والفارسية واليونانية والسريانية على التاريخ والحضارة، ووجود التيارات الفكرية المتجددة والمتواشجة في الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية. إنّ وقائع الضيق والانكماش التي أفضت إلى التشدد المشهود في الأزمنة الحديثة، هي أساس فكرة انحطاط الألف عام، وأساس فكرة العصور الوسطى الإسلامية المماثلة في ظلامها للعصور الوسطى الأوروبية.

وهكذا فإنه كما خرج الأوروبيون من العصور الوسطى، ينبغي أن يخرج المسلمون بالأسلوب نفسه من عصورهم الوسطى! والمقصود بالأسلوب الفصل بين الدين والدولة، باعتبار هذا عائقاً دون التقدم. وهذا ما طالب به فرح أنطون الشيخ محمد عبده في مطلع القرن العشرين. وقد أجابه محمد عبده أنَّ الحكمَ في الإسلام مدني، بمعنى أنَّ الدولة لا تُحكَمُ بالدين، فلا حاجة للتصارع بينهما على السلطة! بيد أنّ هذا هو ما وقع في النصف الثاني من القرن العشرين عندما ظهرت أفكار النظام الكامل والحاكمية.

في حين ظلّ التحديثيون أجانب وعرباً يتابعون دراسات الانحطاط، ويقترحون الأساليب للخروج منه ومن ضمنها نفي الموروث أو الخلاص منه. وهذه الفكرة نفسها عن الانحطاط (إنما بسبب الابتعاد عن الدين الحنيف) ظهرت لدى الإسلامويين والصحويين، الذين كافحوا الغزو الثقافي الغربي، وأرادوا التشبث بالأصالة في مواجهة كل دخيل! وقد كانت لذلك آثار سلبية على الدولة الوطنية، في تجربتها الأولى والثانية.

إنَّ من فوائد انتهاج سبيل التاريخ الثقافي ظهور استمرارية الحضارة وتعدد تياراتها التي ما كانت بينها قطيعة، وإن لم يكن الوفاق التام سائداً بين اتجاهاتها، وإنما كانت الثقافة الإسلامية بمثابة الشبكة الضخمة لجهتي الذاتية والترابط. وقد ازدهرت في النهاية حضارة عظيمة ما داخلها الانحطاط كما يزعم هذا الطرف أو ذاك، وإنما قهرها الغزو بعد القرن الثامن عشر. وهناك جدلٌ عظيمٌ اليوم بشأن الدولة الوطنية وتجربتها تتجدَّد في عددٍ من الدول العربية؛ لكنّ دعاة القطيعة من الشرق والغرب بعضهم يبحث عن الفرادة والتفرد، والبعض الآخر يبحث عن الأصالة والعراقة والقدسية! ويردُّ على هؤلاء مثقفون عرب كبار يريدون القطيعة مع الموروث الإسلامي مثلما يريد الصحويون استهداف الثقافة الغربية. وبالطبع فإنه بعد العنف الهائل فالانحدار الهائل في التوقعات؛ فإنّ هذه التأملات المتناقضة صارت كلاماً نظرياً، وقد كُتبت عشرات الألوف من الصفحات عن النظام الكامل من جهة، وعن القطيعة من جهة أُخرى.

لكنْ يبقى لها تأثير بالطبع في الفكرة السائدة عن الخصومة المستمرة بين الدين والدولة منذ القديم. في حين يريدها المثقفون العرب علمانية صافية لا تنتهي نصاعتها! وفي حين يختار الصحويون والجهاديون من النصوص والوقائع التاريخية ما يعتبرونه دالاً على النظام الكامل؛ فإنّ تصويت الإسلاميين أو عدم تصويتهم غير ذي معنى ما دامت «العقدنة» مستمرة ولا إصغاء لآمال الناس وتوقعاتهم.

لسنا محتاجين إلى أن يكون النظام السياسي عقيدة حتى يمكن الحفاظ عليه. يكفي ما نرى في العالم اليوم من صراعاتٍ على الدولة لكي نخاف عليها بدلاً من الخوف منها. وقد كان ديدني دائماً القول؛ لا بد من استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة مع العالم!

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، ليوم: الجمعة - 6 جمادى الآخرة 1444 هـ - 30 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16103]

بقلم: أ / سايمون كريتشلي

ترجمة: عبدالله المطيري

مراجعة: محمد العمودي

***

?What Is a Philosopher

Simon Critchley

للفلسفة تعريفات بعدد الفلاسفة وربما أكثر. فبعد ثلاثة آلاف سنة من النشاط والاختلاف الفلسفي فإنه من غير المحتمل أن نصل إلى إجماع حول تعريف الفلسفة وليس لدي الرغبة في إضافة المزيد من الهواء الحار للسحابة البركانية الناتجة عن عدم المعرفة المحيطة بتعريف الفلسفة. ما أود أن أقوم به في هذه المقالة الافتتاحية في هذا المشروع الجديد، ذا ستون، هو أن أفتتح النقاش بطرح سؤالٍ مختلفٍ قليلا: ما الفيلسوف؟

وكما قال ألفرد نورث وايتهد من قبل فإن الفلسفة هي سلسلة من الهوامش على أفلاطون ولعلّي أن أغامر بإضافة هامشٍ جديدٍ من خلال إلقاء نظرة على تعريف أفلاطون للفيلسوف الذي ظهر في منتصف محاورته ثياتيتوس Theaetetus في فقرة يعدّها بعضُ الباحثين “استطرادًا” ولكن، وبعيدًا عن كونها مجرد هامش على استطراد أعتقد أن هذه اللحظة عند أفلاطون تخبرنا عن أمر مهم جدًا عن ما لفيلسوف وعما تفعله الفلسفة.

يحكي سقراط حكاية عن طاليس الذي يعدّ في بعض المنظورات الفيلسوف الأول. كان طاليس منغمسًا في النظر إلى النجوم في السماء مما أدى به إلى الوقوع في بئرٍ لم ينتبه لها وهو ما دفع بإحدى العاملات الظريفات إلى السخرية منه على اعتبار أنه كان شديد الحرص على معرفة ما يجري في السماء دون علمه بما يجري أمامه وتحت قدميه. يضيف سقراط بحسب ترجمة سيث بينارديتي Seth Benardete “أن ذات السخرية تنطبق على كل من يشتغلون بالفلسفة.”

ما الفيلسوف إذن؟ الإجابة واضحة: أضحوكة، مهرّج شارد الذهن، موضعُ عددٍ لا يحصى من النكت من مسرحية أرستوفينيس Aristophanes السحب إلى كتاب ميل بروكس Mel Brooks  تاريخ العالم الجزء الأول. حين يضطر الفيلسوف إلى الحديث عما حول قدميه فإنه سيصبح محلّ سخرية الجميع وليس فقط تلك الفتاة من ثراسيا. جهل الفيلسوف بالشؤون اليومية يجعله يبدو غبيا وربما “يعطي الانطباع بسخافته الخالصة”. وبهذا نبقى مع تعريف مسرحية مونتي فايثونيسك Monty Pythonesque للفيلسوف بأنه الأبله.

ولكن، وكما هو الحال عادة مع أفلاطون، فليست بالضرورة أن تبدو الأمور على ما هي عليه من الوهلة الأولى ولا ننسى أن سقراط هو أعظم الساخرين. كما يجب أولا أن نتذكّر أولًا أن طاليس اعتقد بأن الماء هو الجوهر الكوني الذي تتكون منه كل الأشياء وأنه يمثل “حجر الفلاسفة” إن صحت العبارة. وبالتالي فإن سقوطه في البئر قد أكّد بدون قصد أطروحته الفلسفية الأساسية.

ولكن هناك طبقة أعمق وأكثر إشكالية من السخرية أود أن أنزعها هنا ببطء. افتتح سقراط “الاستطراد” الذي تحدثنا عنه أعلاه بالتفريق بين الفيلسوف والمحامي أو ما اعتبره بينارديتي “محامي القضايا التافهة”. يضطر المحامي لعرض قضيته في المحكمة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الوقت جوهري هنا ففي الإجراءات القانونية الإغريقية هناك وقت محدد متاح لعرض القضايا يتم قياسه بساعة مائية أو celpsydra تسرق الوقت حرفيا كما في المعجم اليوناني، السارق أو المختلس. إن محامي القضايا التافهة وهيئة المحلّفين وبالتالي المجتمع كله يعيش داخل ضغط زمنيّ مستمر بينما ينهمر ماء الزمن بشكل مستمر مهددًا بإغراقهم.

وعلى الضد من ذلك يمكننا القول بأن الفيلسوف هو الذي يملك الزمن أو أنه ذلك الذي لا يكون على عجلة من أمره. وقد قدّم ثيدورس Theodorus ، مُحاور سقراط، “الاستطراد” بهذه الكلمات “ألسنا في وقت استرخاء يا سقراط؟” وقد علّق سقراط بقوله المثير للاهتمام: “يظهر لي أننا فعلا كذلك.” وكما هو معلوم في الفلسفة فإن المظاهر قد تكون مخادعة ولكن التضاد الأساسي هنا هو بين المحامي المستعجل الذي لا يملك وقتا أو من يمثّل الوقت بالنسبة له مالًا time is money وبين الفيلسوف الذي يأخذ وقته دون عجلة. تكمن حرية الفيلسوف إما في الانتقال بحريّة من موضوع إلى آخر أو ببساطة في إمضاء سنين من العودة إلى نفس الموضوع بسبب الحيرة أو الافتتان أو الفضول.

وإذا دفعنا أكثر باتجاه هذا التفكير فإنه يمكن القول بأن التفلسف يعني أن تأخذ وقتك الكافي حتى حين لا تملك وقتًا وحتى حين يضغط عليك الوقت بشكل متزايد. يمكن القول إن قرّاء النيويورك تايمز المشغولين سيتفّهمون بالتأكيد هذه النزعة وأملنا أن يمنح بعضهم من وقته لقراءة ذا ستون وكما قال فتقنشتاين “بهذا الشكل يجب أن يُحيّي الفلاسفة بعضهم: خذ وقتك.” بالفعل، قد تدرك شيئًا عن طبيعة الحوار الفلسفي لو اعترفت أن اهتمامي قد انصبّ مؤخرًا على هذه الفقرة من محاورة ثياتيتوس Theaetetus في حوار كان للمتعة مع أحد طلاب الدكتوراه في جامعة نيو سكول New School، تشارلز سنايدر Charles Snyder.

يقول سقراط عن أولئك الذين يعملون في أجواء ضغط عمل مستمر مثل المحامين والمشرّعين وسماسرة الرهن العقاري ومدراء صناديق الاحتياط أنهم يصبحون “محدّبين ومحدودي النموّ ومجبرين على القيام بـأعمال ملتوية.” محامي القضايا التافهة ناجح بالتأكيد فهو ثري ومعسول اللسان بشكل استثنائي ولكنه كما يضيف سقراط “صغير في روحه وداهية ومخادع.” في المقابل فإن الفيلسوف حرّ بفعل انشغاله بعالم آخر غير العالم المباشر وبقدرته على السقوط في البئر والظهور بمظهر السخيف.

يضيف سقراط بأن الفيلسوف لا يرى ولا يسمع ما يُسمى بالقوانين غير المكتوبة للمدينة أي التقاليد والأعراف التي تحكم الحياة العامة. كما لا يعترف الفيلسوف بالتراتبية والامتيازات المتوارثة وهو في ذات الآن غير واعٍ بأي أصلٍ راقي أو متدني للناس كما أنه لا يخطر على بال الفيلسوف الانضمام لأي حزب سياسي أو جماعة خاصّة. ويضيف سقراط بأن جسد الفيلسوف وحده هو ما يسكن ضمن أسوار المدينة. أما فكره فهو في كل مكان.

يبدو كل هذا الكلام حالما لكنه في حقيقته ليس كذلك إذ يجب على الفلسفة أن ترافق تحذير الصحة المكتوب على علب السجائر الأوروبية: الفلسفة قاتلة، هنا نقترب من السخرية العميقة في كلمات أفلاطون. كُتبت حوارات أفلاطون بعد موت سقراط، وقد أُتهم سقراط فيها بعدم احترام آلهة المدينة وإفساد شباب أثينا وكان عليه الحديث في المحكمة للرد على تلك التهم والحديث ضد الساعة المائيّة السارقة للوقت، غير أن الوقت سرقه فعانى من النتائج بعد أن حُكم عليه بالموت وتجرّع السمّ بنفسه.

بعد عدة أجيال وخلال الانتفاضات ضد الحكم المقدوني التي تلت وفاة الاسكندر الأكبر سنة ٣٢٣ قبل الميلاد، هرب معلّم الاسكندر السابق أرسطو من أثينا قائلا “لن أسمح للأثينيين بارتكاب الخطيئة مرتين في حق الفلسفة.” ومن الأغريق القدماء إلى برونو واسبينوزا وهيوم وصولا إلى القضية المخزية المرفوعة ضد برتراند راسل لمنعه من التدريس في سيتي كولج في نيويورك سنة ١٩٤٠ بتهم الإلحاد والفساد الجنسي فإن الفلسفة ارتبطت بشكل متكرر ومستمر بالتجديف ضد الآلهة أيًا كانت تلك الآلهة. ليس هناك ما هو أكثر تكرارا في التاريخ الفلسفي من اتهام الفلسفة بالعقوق، وبسبب واقعهم الساخر وعدم التزامهم بالتقاليد والتراتبية والامتيازات الاجتماعية يرفض الفلاسفة إجلال المعتقدات القديمة وهذا ما يجعلهم مريبين وخطرين. هل لا تزال هذه الأحداث الكئيبة تقع في عصرنا المتنوّر السعيد هذا؟ إن الجواب على هذا السؤال سيكون مرتبطًا بسؤال آخر؛ أين يتوجه المرء بعينيه وبأي قدر من التركيز ينظر؟

ربما ستكون تلك الضحكة الأخيرة مع الفيلسوف رغم أن الفيلسوف سيبدو دائما ساذجا في أعين محامي القضايا التافهة وأولئك الحريصين على المحافظة على الوضع الراهن، إلا أنّ العكس يحدث حين يضطر غير الفيلسوف إلى تعريف العدالة في ذاتها أو السعادة أو المأساة بشكل عام. بعيدا عن الفصاحة والانطلاق فإن محامي الشؤون التافهة سيكون “مشوّشا ومتلعثما” كما يصرّ سقراط على إيضاح ذلك باستمرار.

بالتأكيد يمكن للمرء أن يعترض بأن السخرية من تلعثم أحدهم ليست بالأمر المقبول. يوضح سيث بينارديتي أن سقراط قد نسب كل الفضائل للفيلسوف ما عدى التوسّط. هناك أمر مخيف وغير تقليدي في الفلاسفة تم تغذيته بالحرية والتريّث، أمر متوحّش أو يقارب الآلهة أو الاثنين معا. لهذا السبب لا يزال كثير من العقلاء يعتقدون أن لدى الأثينيين وجهة نظر في الحكم على سقراط بالموت. سأترك القرار لكم فليس بإمكاني الحكم.

***

.....................

* الكاتب: سايمون كريتشلي Simon Critchley رئيس الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك، وبرفسور بعمل جزئي في جامعة تيلبيرغ Tilburg في هولندا. مؤلف لعدة كتب من ضمنها كتاب الفلاسفة الموتى The Book of Dead Philosophers، وهو المنسّق لمقالات هذا المنتدى.

** المترجم: عبدالله المطيري أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.

*** المُراجع: باحث متخصص في العلوم الإنسانية، مهتم بالفلسفة والتاريخ.

- تم نشر هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

- نقلا عن موقع جميعة الفلسفة السعودية

 

في كتابه «إبستمولوجيا (نظرية المعرفة)»، يحدثنا غاستون باشلار تحت عنوان «أفول الأفكار الأولية» عن النسبية باعتبار إمكانات نجاحها في مناقشة صورة العالم، من خلال طرح «الشك في الأفكار المؤكدة الثابتة»، أو «إعادة ازدواجية وظيفية للأفكار البسيطة»، وبهذا فإنه يقدم للقارئ محاولة للإجابة عن مجموعة من التساؤلات من خلال موضوع النسبية منها «كيف يمكنك استخدام الفكرة البسيطة؟»، وكيف تُبرهَن الآنية؟ «اللحظة»، وكيف يمكن التعرُّف عليها؟ و«كيف تقترح علينا أن نتعرَّف عليها؛ نحن الذين لا ننتمي إلى النظام المرجعي نفسه؟»، وهي تساؤلات تُطرح على المستوى الأخلاقي التواصلي، الذي يريد من خلاله المرسِل الإقناع بأفكاره حتى البسيطة منها، فماذا يفعل من أجل ذلك؟ ولماذا يدفعنا نحو الثقة به؟.

إن باشلار هنا يطرح النسبية من خلال تلك القدرة التي تمنحنا إيَّاها لتقديم مفاهيمنا إلى الآخر، وتلك الأساليب التي نستعملها من أجل الإقناع عبر وسائل معرفة استدلالية وتجريبية آنية، قادرة على مواكبة تلك الآنية اللحظية دون تزامن مع الواقعية؛ أي دون أن تكون لها علاقة حقيقية بالواقع، فهي آنية مستقلة عن النظام المرجعي، ولهذا فإنه يقدِّم في مقابل ذلك تلك النظرة التي تجعل من الواقع حتمية آنية لا تنتظر، إذ يجب (الإمساك به لحظيا) – بتعبير باشلار –، ومن هنا فإنه يحيلنا إلى (التجربة) التي تعتمد على خواص قابلة للتمثيل أو الاستيعاب باعتمادها على (المرجعية)، فهي (ملحِّة وحاسمة) بينما النسبية تسعى على الدوام إلى إيجاد نظام يتأسَّس على تنظيم التجربة وفق خواصها المميَّزة، الأمر الذي يعني أن تلك المرجعية ضرورة حاسمة من أجل الإمساك باللحظة الآنية، وبالتالي القدرة على الوصول إلى الاستدلال.

ولأن التجربة قابلة للتمثيل ومعتمدة على المرجعية؛ فإنها في علاقتها بالواقع ترتبط بالآخر؛ الآخر الذي نتعامل معه، والآخر الذي نتواصل معه، والآخر الذي نصل إلى معرفة فكره اعتمادًا على التجريب والاستدلال، ولهذا فإن هذه المعرفة تعتمد على حتمية الثقة باعتبارها تبادلية، قادرة على كشف المقاصد بين المتواصلين، ومستجيبة لأنماط التفكير وأنماط الفعل القائمة على الأدلة، والعقلانية واستيعاب المعرفة باعتبارها المسوِّغ القادر على اختزال مفهوم الثقة بين طرفين قد لا تجمعهما مرجعية واحدة، لذا سنجد أن موضوع الثقة من الناحية الفلسفية التواصلية يقوم مبدئيا على المعرفة التجريبية، اعتمادا على فهمنا للآخر وقدرتنا على الوثوق به.

إن الثقة بذلك مكوَّن أساسي فيما يُطلق عليه بول ريكور بـ (الاستهداف الأخلاقي) القائم على معيار الذاتية ونظرتها للآخر؛ فهو استهداف تقوم عليه (الحياة الجيدة الخيِّرة) ضمن مرسى (التداول) والواقعية من ناحية والتعقُّل والحذر من ناحية أخرى، إذ لابد أن تكون العلاقة بينها جميعا باعتبارها فضائل للوصول إلى الغاية القصوى في الحياة عبر (الثقة)، ضمن علاقات منطقية ما بين التنسيق والتبعية والتوازن والتجريب لبلوغ تصوُّر معياري لحقيقة الثقة التي نمنحها للآخر ضمن المفاهيم الفلسفية للأخلاق. ولأن الثقة ضمن المفاهيم العقلانية لا تعتمد على المنطق العقلاني الواضح، إذ ارتبطت بالعلاقات الأخلاقية من حيث قابلية تطبيق مفاهيم الصدق والكذب أو المدح والذم والنقد، وذلك ضمن مفاهيم الإبستمولوجيا الأخلاقية التي تعتمد على قدرة الثقة على المرونة والتأثير في الآخر في حدود الزمان والمكان المُتاح، وضمن الممارسات التواصلية (اللغوية، والسياسية، والأدبية....)، فثقتنا في الآخر مسؤولة على المستوى الأخلاقي عن تلك الآليات والأنساق التي نبوح بها للآخر في حدود (الحلقات التأويلية) التي تحددها تلك الثقة والمعرفة والمنظور الأخلاقي الذي تفرضه، ولذلك فهي المسؤولة عما يسميه تشارلز تايلور بـ (تقدير الذات) الذي يتبع مصير التأويل التواصلي وصراعاته بالمفهوم الفلسفي الأخلاقي.

ولعل الثقة من وجهة النظر الإبستمولوجية (المعرفية)، والأخلاقية الفلسفية، تُشكِّل اليوم موضوعا يحتاج إلى إعادة تفسير وتأويل ضمن آفاق تواصلية أكثر تعقيدا من الناحية التجريبية؛ ذلك لأن المنظور الأخلاقي للتواصل قد أصبح أكثر تعقيدا ليس فقط من ناحية الوسائل والقنوات الافتراضية بل أيضا على مستوى الزمان والمكان، وكذلك على مستوى الخطاب نفسه، ومفهوم الذاتية على المستوى الحواري، وبالتالي على مستوى ما يُطلق عليه إيمانويل كانت (فكرة التبادل) في الصداقة (الخيِّرة) بين الشركاء الذي تجمع بينهم مشتركات فكرية تستهدف الحياة المشتركة. إن الثقة انطلاقا من ذلك تبدو أكثر إلحاحا؛ فما الذي يدفع ذواتا لا تجمعها مرجعية أو حتى هُوية معرفية مشتركة إلى التواصل بل إلى (الثقة)؟ وما الدافع الذي يجعل المتواصلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلا يثقون ببعضهم ضمن فضاء افتراضي غير معرَّف؟ وما الذي يدفعهم إلى التأثير والتأثر ضمن المفاهيم الأخلاقية المعرفية حتى يصبحوا (أصدقاء افتراضيين) على المستوى العقلاني أو حتى العاطفي؟

ليس من السهل الإجابة عن تلك الأسئلة، ولكن علينا التفكير في ماهية (الثقة) التي نمنحها للآخر، ولعل ذلك يدفعنا إلى محاولة الإجابة عن السؤال (ما الثقة؟) من الناحية المعرفية والأخلاقية؛ ففي كتاب (الثقة والأخلاق والعقل البشري)، يناقش أولي لاغرسبيتز، مفهوم الثقة وفقا لمفاهيم الفلسفة، انطلاقا من اعتبار أن (تثق يعني أو تُراهن)، أو (إن الوثوق يماثل المراهنة)؛ فطريقة مقاربة الثقة هنا تعتمد على (وصف السياق)، فالمرء ينظر إلى الثقة باعتبار السياق العام للفعل، ذلك لأن الثقة أو عدمها تحدده المرجعية المشتركة سواء أكانت بين الذات في علاقتها بنفسها، أو في علاقتها بالآخر؛ بمعنى، ما الأسرار التي لا آمن بكشفها لأحد (غيري) بوصفي موثوقا به، وبين تلك التي آمن بها مع (الآخر/ الصديق أو الأخ أو غيره) باعتباره موثوقا به، فالثقة هنا ترتبط بالمراهنة باعتبار السياق الذي يحكمها ومدى موثوقية الآخر، أو المراهنة على موثوقيته.

لهذا فإن (الثقة) في التواصل الافتراضي تبدو أكثر تعقيدا من ناحية السياق والمرجعية المشتركة، وبالتالي قدرتها على تأسيس ما يسميه لاغرسبيتز بـ(علاقات ثقة مستقرة)، باعتبار أن المتواصلين غالبا لا يشتركون في تعارف إنساني واقعي، قائم على (اليقين) الفكري والأخلاقي، الذي يمكِّنهم من رؤية اجتماعية وأخلاقية من الناحية المعرفية، وهذا يعني أن الثقة في الآخر ضمن هذه الفضاءات التقنية تعني المراهنة على مصداقية الآخر وموثوقيته على المستوى الأخلاقي؛ ليتشكَّل فعل التواصل وفق علامات تفاعلية ذات موارد فكرية متاحة تقنيا تعتمد على تأسيس فضاءات اجتماعية تعيد تشكيل أنماط التواصل وبالتالي تغيير أنساق النمو المعرفي، وتحاول ضمن ذلك إعادة الرؤية الجريبية للأخلاق.

إنَّ المتابع لآليات التواصل ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، سيجد أنه تواصل أشبه بمواثيق الإشهار من ناحية، والفُرجة من ناحية أخرى؛ ذلك لأن الذات في ثقتها بالآخر تجعل من المراهنة أكثر اتساعا، من حيث اتساع اختراق الثقة، وإمكانات الفضاء التجريبي، فما نكتبه من منشورات أو تغريدات هو إشهار، أو فرُجة مرئية أو صوتية، على مستوى الذات الفردانية، وبالتالي فإنها تعرض قدرتها على الموثوقية لمتابعيها وفق شروط يحكمها التجريب والتصورات الموجَّهة نحو التوقعات في ردود الأفعال، الأمر الذي يعني أن تلك الثقة ليست سوى رهان يمكن اختراقه من ناحية فضاء العلاقات الأخلاقية التي تجمع مجموعة من الذوات غير المتجانسة أو غير المتسقة فكريا، والتي لا تجمعها مرجعية فكرية مشتركة، ليظهر ذلك في (التفسيرات المعيارية البحتة للثقة) –حسب تعبير لاغرسبيتز–، فيتسع نتيجة لذلك مجال التبادلات الاجتماعية والتجادلات التي قد لا يجمعها مشترك غير المنشور الذي يمثِّل رأيا ذاتيا مثيرا قابلا للطعن من الناحية المعرفية البحتة.

ولأن جاكبسون في نموذجه التواصلي يخبرنا أنه (لا يكفي معرفة الشيفرة (العلامة) لفهم الرسالة... نحتاج إلى معرفة السياق)، فإن السياق في خطابات التواصل الاجتماعي غالبا غير متوفِّر، وغير معرَّف؛ فالإطار المرجعي الذي يحدِّد (العلامات اللسانية) غير واضح بالنسبة للمتلقين، وهذا يعني غالبا عدم الوثوق فيهم على المستوى الأخلاقي، فكثير من تلك العلامات رمزية أو موجهة نحو أهداف قصدية لا يعرفها سوى الذات المرسلة، الأمر الذي يدُّل صراحة أن الثقة المنشودة بين المتواصلين ضمن هذا الفضاء المكاني المُفترض قائمة على المراهنة على قدرة المتلقين على التفسير أو التأويل، وبالتالي قدرتهم على التعاون أو التعاطف أو إحداث ردة فعل تُرضي المرسل، أو تُحدث تأثيرا.

إن العقل الذي يتحكمَّ في خطابات التواصل الاجتماعي لا يخرج عن تلك الأُطر الذي وضعها يوجين هابرماس والمتمثِّلة في نوعين هما (العقل الأداتي) المتمركز على الذات وهو نتاج سيرورة اجتماعية قائمة على (سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيَّأ) –حسب تعبيره–، و(العقل التواصلي)؛ الذي يمثل البعد الموضوعي الإنساني للعقل، بحيث يتجاوز الذات نحو الشمولية، فـ(يدَّعي أنه يتضمَّن كل شيء)، وفي كليهما سنجد أن صورة الذات المرسلة تعبِّر عن الثقة ضمن الفعل التواصلي الذي يقدِّم نفسه باعتباره إشهارا متعاليا وفي الوقت نفسه قادرا على إثارة المتلقين والكشف عن مدى ثقتهم في الخطاب المرسل أو حتى في الذات المرسِلة سواء أكانت صريحة أو مختبئة، شخصا أو شخصية، فالأمر هنا لا يتعلق سوى بالإثارة والتفاعل الناشئان عن تعالي الخطاب وفوقيته أو ادعائه بالمعرفة المطلقة.

وعلى الرغم من أن هابرماس لم يتحدث عن الثقة كثيرا في نظريته للفعل التواصلي، إلاَّ أنه اعتمد على هذه النظرية فيما يرتبط بالوعي والفعل والممارسة، ولعل مناظراته المتعددة مع هيدجر وريكور كان لها الأثر الكبير في تطوير هذه النظرية اعتمادًا على اللغة وبعدها التداولي، إضافة إلى ما لاقته نظريته من معارضات على مستوى ما يسمى بـ(الفعل الاستراتيجي)؛ فالفعل التواصلي لا يُراد منه على الدوام التفاهم، ففي أحيان كثيرا يراد منه التلاعب أو الخداع أو غير ذلك، وهنا يمكن القول أن ما يحدث من جدليات تأويلية على المستوى اللغوي في وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن إلاَّ أن يتأسس وفق منظور الفعل التواصلي القائم على (الثقة)، إلاَّ أن ذلك الفعل، وهذه الثقة لا يمكن الجزم بمرجعيتهما أو مقاصدهما سوى وفق المنظور الأخلاقي العام، فكثير من تلك الأفعال قائمة على مقاصد خفية، أدَّت إلى نتائج غير محمودة على المستوى المجتمعي، وبالتالي فإن فعل التواصل قادر على اختراق الموثوقية من خلال المراهنة على الفعل نفسه.

ولهذا فإنَّ الثقة ضمن مفهوم (الفعل الاستراتيجي) تقوم على معرفة مرجعية الذات المرسِلة والخطاب اللغوي للرسالة، الأمر الذي يجعل هذا غير متحقِّق في وسائل التواصل الاجتماعي وسط العديد من التداخلات المرجعية، وتعدد الثقافات، إضافة إلى ما يسميه لاغرسبيتز بـ(المأزق الفكري) بين العقلانية والاجتماعية؛ أي بين ما نؤمن به وما نصدقه، وبين مرجعيتنا بوصفنا متلقين، وبين مرجعية نص الرسالة والذات المرسلة، بصرف النظر عن معرفتنا الشخصية بالذات، إلاَّ أن هذا المأزق يشتد وفقا للعوائد العاطفية، ورغبة الذات المرسلة إلى تعظيمها استغلالا للانفعال والإثارة، وهنا ستكون الثقة في حالة المراهنة على المستوى الأخلاقي.

في مقال بعنوان (حول مخاطر الاطمئنان؛ النظرية التطمينية للثقة)، يخبرنا إدوارد هنشمان عن تلك المخاطر التي تواجهها الثقة؛ حيث يتم انتهاك (التفاهم المتبادل للثقة البين – شخصية) –حسب تعبيره–، فـ(التطمين) الذي تمنحه الذات المرسِلة عبر خطاباتها اللغوية يشكِّل تأكيدا أخلاقيا، سواء أكان عبر العلامات اللغوية الصريحة أو عبر الصور أو الإشارات أو غير ذلك، فكلها وسائل تلجأ إليها الذوات من أجل بث الاطمئنان في الآخر، بهدف الوصول إلى الموثوقية والجدارة، وهو يندرج ضمن (الفعل الاستراتيجي) الذي يبث الاطمئنان من أجل تحقيق الثقة، وبالتالي الوصول إلى الغاية التأويلية المنشودة، ولهذا فإن حالة الاطمئنان سواء أكانت ضمن ما أسماه هنشمان (الثقة المخونة)، أو (الثقة المخيبة للأمل)، تندرج ضمن مفهوم (المأزق الفكري)؛ فهو تطمين يقود إلى الاستدراج من الناحية الأخلاقية، وبالتالي تعظيم العوائد للذات المرسلة ومصالحها.

إن موضوع الثقة باعتباراته الفلسفية والأخلاقية، يبدو أكثر تعقيدا في التواصل الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكثر منه في الحياة الاجتماعية العامة؛ ذلك لأنه يعتمد على الرغبات والتفضيلات من ناحية، والائتمان وإمكانية الطعن من ناحية أخرى، وفقا لتلك المعطيات التي يفرضها (الفضاء الافتراضي)، فهو افتراضي من حيث الزمان والمكان، وافتراضي من حيث الذات المرسِلة، بل وحتى الخطاب المرسل يعتمد على الافتراض باعتباره غير معروف المرجعية غالبا، ويقوم على الانفعالية والتأثير، ولهذا ستكون (الثقة) على الدوام في مأزق فكري غير قادرة حتى على المراهنة، وسيبقى السؤال (ما مدى ثقتنا في الآخر الافتراضي؟)، ولماذا يدفعنا نحو الثقة به؟).

***

عائشة الدرمكي

باحثة عمانية متخصصة في علم السيميائيات

عن جريدة عمان ديلي – الثقافي في يوم: 26 / 1 /2023م

 

تقوم «فينومينولوجيا» إدموند هوسرل أو الظاهريات على حدس الماهيات خلافاً للعلوم التجريبية الأخرى التي تقوم على وقائع، لذلك يصر هوسرل على ضرورة تحقيق الفلسفة الترانسندنتالية لا بروح نظرةٍ عامة، بل بروح علمٍ دقيق متوجه نحو فكرة الصحة المحددة، معتبراً قبول المذهب الطبيعي كمثلٍ أعلى من أجل إقامة فلسفة علمية يحقق وعياً زائفاً، لأن الفلسفة لديه يجب أن تكون أكثر دقةً من العلوم التي تتميز عنها بالانطلاق من دون افتراضاتٍ سابقةٍ تنأى عن السؤال بحجّة الوضوح.

وظاهرية الفيلسوف الألماني «هوسرل» تختلف عنها لدى «هيغل»، مع امتيازه بقراءة التراث السابق عليه: «لذلك نجده يقرأ التراث الفلسفي قراءةً شديدة الانتقاء: تفضيلٌ مطلقٌ لأفلاطون من القدامى، وتمييزٌ لديكارت بمقام السبق والتأسيس لدى المحدثين، ثم تنويهٌ بطائفة من الفلاسفة مثل ديفيد هيوم وجون لوك وغوتفريد لايبنتز وإيمانويل كانط، وتبجيلٌ للفيف من معاصريه تبجيلاً خاصّاً: برنتانو، أفيناريوس، ديلتاي، هربارت، لوتسه، ماينونغ، بولزانو… فالفينومينولوجيا قد سبق إليها هؤلاء جميعهم بما حدسوا به من معان وأغراض فلسفية قريبة مما أقر به، ولا سيما من حيث النفور من كل أشكال الميتافيزيقا التأملية، والبناءات المجردة التي لا أساس لها في المعطيات المباشرة للتجربة».

«العودة إلى الأشياء عينها» هذا ما لا يتحقق بالموقف الطبيعي، وينقضه هوسرل في كتابه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» بقوله: «في الموقف الطبيعي نحقق ببساطة، كل الأفعال نحققها بالأفعال التي بفضلها يوجد العالم بالنسبة إلينا، ونعيش على نحوٍ ساذج في الإدراك والتجريب، وفي هذه الأفعال التي تظهر لنا فيها هويات الأشياء والتي لا تظهر فيها فحسب، بل هي تعطى لنا بطابع الموجود، والواقع الفعلي، إننا نحقق خلال ممارستنا للعلم الطبيعي أفعالاً فكرية منتظمة منطقياً - تجريبياً، أفعالاً تكون فيها هذه المعطيات معطاة، وتكون مأخوذة كحقائق محددة، بمقتضى الفكر، وفيها كذلك على أساس مثل هذه الأشياء المفارقة التي جربت وحددت مباشرةً نستنتج أشياء مفارقة جديدة، أما في الموقف الظاهرياتي، فإننا نعطّل بمقتضى الكلية المبدئية تحقيق مثل هذه الأوضاع الفكرية، أعني أن ما تحقق نضعه بين قوسين، فلا ندخل هذه الأوضاع في البحوث الجديدة وبدلاً من أن نعيش فيها وأن نحققها بمنطق الموقف الساذج نجري عليها أفعال التفكر الموجهة إليها، فندركها هي ذاتها بصفتها الوجود المطلق الذي هي إياه. والآن نحن نعيش بإطلاق في مثل هذه الأفعال التي هي من الدرجة الثانية، والتي يكون معطاها المجال اللامتناهي للتجربة المطلقة - مجال الظاهراتية الأساسي».

يتجلى منهجه الظاهراتي بالآتي: «إننا لا نقصد أبداً أن نكتفي بمجرد الألفاظ، أعني بمجرد فهم رمزي للألفاظ كما هو الحال بادئ الأمر في تأملاتنا في معنى القوانين الموضوعة في المنطق المحض، إن غرضنا هو العودة إلى الأشياء نفسها، فنحن نقصد أن نرفع البداهة، وأن ما يُعطى ها هنا ضمن تجريدٍ بالفعل، إنما هو حقاً وفعلاً، ما تريده الدلالات اللفظية حين تعبّر عن القانون، وأن نستثير الاستعداد فينا إلى الإمساك بناصية الدلالات في هويتها القارة عند التمرس بالمعرفة بمواجهتها، بالحدس الذي يقبل أن يُعاد توليده… إن كل حدسٍ مُعطى أصلي هو مصدر شرعي للمعرفة، وكل ما يعطى إلينا في الحدس على نحوٍ أصلي بفعليته المتجسدة ينبغي أن يتلقى فقط كما أعطي، ولكن دون أن يزيد على الحدود التي أعطي حينها في نطاقها، يتعين أن ندرك أن نظرية ما ليس لها أن تستمد حقيقتها من غير المعطيات الأصلية، كل منطوق يقتصر على إضفاء العبارة على هذه المعطيات بواسطة مجرد التفسير بالدلالات التي هي مضافة إليها، هو - إذاً - بالفعل بدء مطلق مدعو بالمعنى الخاص للكلمة أن يكون أساساً ومبدأً».

الدافع الرئيس لهوسرل: «لا يتأتّى من الفلسفات وإنما من الأشياء والمشكلات. إن الفلسفة إنما هي في ماهيتها علم البدايات الحقيقية، أو علم الأصول».

ولذلك يصرّح في كتابه المؤسس: «مباحث منطقية - مقدمات في المنطق المحض» على انتقاله من «صوري الحساب» و«صوري المنطق» لأسئلةٍ أكثر أساسية، بصدد ماهية صورة المعرفة بافتراقها عن مادة المعرفة، وعن معنى الفرق بين التعيينات والحقائق والقوانين الصورية (المحض) منها والمادية، و«حتى يكون ثمة علم، يجب أن يكون ثمة وحدة معينة في تعالق التعليلات، ووحدة معينة في تراتبها».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن الاتحاد الاماراتية في يوم: 13 ديسمبر 2022

 

بين الدينيّ والثقافيّ علاقات معقّدة من التجاذب والتداخل والتنازع والتمايز والسيادة والاحتواء. ومردّ هذا التعدّد في العلاقات إلى أسباب شتّى أبرزها، في ما نرى، اختلاف علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس في تحديد دقيق لمفهوميْ الدين والثقافة ومن ورائهما الدينيّ (Le religieux) والثقافيّ (Le culturel). فإذا ما قلّبتَ النظر في مفهوم الدينيّ ألفيتَ تعريفات بشأنه لا تكاد تحصى وذلك باختلاف مدارس أصحابها (اجتماعيّة، وظيفيّة، بنيويّة، رمزيّة تأويليّة…) وباختلاف العصور والأوضاع المعرفيّة المميّزة لكلّ عصر[1]. فالدين مثلا عند الفرنسي إيميل دوركايم (ت 1917) هو “نظام من العقائد والطقوس والأعمال المتعلّقة بالأشياء المحرّمة، وهي مترابطة في ما بينها تضمّ في مجتمع إنسانيّ واحد كلّ الذين يتّصلون بها ويسلّمون بالأمور نفسها”[2]، ومن ثمّ فهو يعتبر الدين نظاما تتوفّر فيه عناصر قارّة موجودة في كلّ الأديان (معبود، زمن مقدّس، مكان مقدّس، طقوس…). وهو يقدّر أنّ البساطة التي تتميّز بها العقائد الدينية القديمة تسمح بضبطها وتعيينها بشكل يسير وسهل.

 وبعد نصف قرن من أطروحة دوركايم تمّ تدقيق الصلة المهمّة بين الدين والمجتمع وتطويرها في ضوء تقدّم المعارف الإنسانيّة ومناهج البحث المتاحة وقتئذ. وهذا ما يجلوه مثلا تعريف بيتر برجر P. Beger للدين وهو يعني عنده “إقامة نظام مقدّس من خلال النشاط البشري يشمل كلّ الوقائع أي كون المقدّس يكون قادرا على ضمان استمراره تجاه الفوضى”[3]. وإذا كان المكوّن النفسي في تعريف الدين غير جليّ فيه، فإنّه سيتمّ تدارك ذلك في إطار المدرسة الرمزيّة التأويليّة الأمريكيّة خاصّة مع كتابات كليفورد غيرتز C. Geertz وفي مقدّمتها تأليفه الشهير “تأويل الثقافات” (1973)[4].

 أمّا الثقافة من جهة التعريف، فهي عَصِيّةٌ على الحصر والتحديد لأنّ هذا المفهوم متطوّر ومتغيّر ومتحرّك باستمرار. فكلّ محاولة لفرض تعريف ثابت للثقافة لا يُنتج حسب عبارة سمير أمين إلاّ “تشويشا ثقافويّا”. ولكنّ ذلك لم يمنع من تعيين تعريفين أساسيين للثقافة أحدهما تعريف واسع أقرّته الدراسات الأنتروبولوجية ومفاده أنّ الثقافة هي كلّ ما يصطنعه الإنسان من مؤسسات وقيم وعادات ومعارف ومنظومات أخلاقيّة ينظّم بها وجوده. ومن ثمّ قام تقابل بين الطبيعة والثقافة استنادا إلى أعمال الفرنسي كلود لفي ستراوس (Claude Levi-Strauss) تحديدا. أمّا التعريف الآخر فيتميّز بضيق مجاله لأنّه يربط الثقافة بشعب ما. ولعلّ هذا التحديد الضيّق كان من الأسباب التي جعلت بعض الدارسين الوضعانيّين (Positivistes) يقرّون بوجود مجتمعات قديمة أو بدائيّة وحتّى حديثة عارية من الثقافة لأنّها عاشت في عصر ما قبل المنطق. وأطروحة الفرنسيّ ليفي برول (Lévy Bruhl) مشهورة في هذا الباب من خلال كتابه المعروف “العقليّة البدائية” (1922).

 ولمّا كانت كلّ ثقافة إنسانيّة متعدّدة الأبعاد حيث يتساكن فيها الاجتماعي والمعرفيّ والأخلاقيّ والمعرفي والديني والفنّي، فإنّ ذلك يجعلها مركّبة من عدّة عناصر متفاعلة ومتداخلة جديرة بالدرس والتفهّم. واعتبارا لذلك ظهرت مقالة احتواء الثقافي للديني واشتماله عليه، إذ الديني، ههنا، عنصر من عناصر ثقافة مجتمع ما يؤثّر في رسم ملامح هويّة جماعة محدّدة. وهو ما يقيم البرهان على أنّ الثقافي يتجاوز الضمير الفرديّ ويتطلّب القسمة مع الآخرين أو المجموعة الاجتماعيّة.

 وفي المقابل نجمت أطروحة مقابلة لما سلف ذكره قرّر أنصارها أنّ الدين نفسه هو نظام ثقافي مستقلّ بنفسه حسب ما جنح إليه مثلا كليفورد غيرتز  (في دراسة له بعنوان “الدين نظاما ثقافيّا” (1961). وترتّب على هذا القول أنّ الدينيّ هو غير خطاب اللاهوت القائم على مسلّمات دينيّة مثل الإيمان، بل إنّه متّصل بعلم الأديان (Religions wissenschaft) حسب التسمية التي أثبتها ماكس مولّلر (Max Muller).

 وبناء على ما تقدّم نرى أنّ الخوض في إشكالية الديني والثقافي من جهتي مقتضيات العلاقة بينهما وصلا وفصلا من ناحية، وحدودها وما يمكن أن يترتّب على ذلك كلّه من نتائج من ناحية أخرى جدير بالتدبّر والتفحّص والمتابعة العلميّة الرصينة، وذلك بعيدا عن الأحكام الجاهزة والمواقف المسبقة أو الإقصائيّة. فعندما نتفحّص أهمّ مقتضيات الوصل والفصل يتأكّد لدينا أنّ هناك عدّة دواع مباشرة وغير مباشرة في ضوئها تتحدّد علاقات الوصل أو الفصل بين الديني والثقافي تردّ على الأقلّ إلى ثلاثة مقتضيات مدارها على المفهوم أوّلا ومناهج المقاربة ثانيا ومقاصد العلاقة والرهانات المرجوّة منها ثالثا. والذي نذهب إليه أنّ مقتضيات الوصل تُحوج إلى النظر في الأغراض التالية:

مقالة التماهي بين الديني والثقافي: مبرّراتها وحدودها (يمكن ههنا سوق رأي توماس إليوت القائل: “إذا ذهبت المسيحيّة فستذهب كلّ ثقافتنا”).

تقييم مدى وجاهة مقالة أنّ الدين فعل اجتماعي ينهض بتحقيق الانسجام بين الأفراد في المجتمع ومن ثمّ يؤسّس لثقافة متوازنة تصمد أمام كلّ ما يمكن أن يتهدّدها من اهتزاز أو تفكّك.

ملامح حضور الديني في الثقافي خاصّة في علم الانتروبولوجيا الدينيّة وذلك في مستويات الطقوس والقيم الدينيّة والأحوال الشخصيّة والسلوك الاجتماعي وغيرها[5].

الديني والسياسيّ (باعتباره أحد تجلّيات الثقافي في معناه الواسع): السؤال مثلا عن مدى وجاهة أطروحة توكوفيل (1859)  Tocquevilleالمثبتة للدور الإيجابي للدين في إرساء الديمقراطيّة بأمريكا وتدعيمها[6].

الديني والاقتصادي (باعتباره أحد تجلّيات الثقافي في معناه الواسع): دور المبادئ الدينيّة البروتستانيّة منذ عصر الإصلاح الديني الأوروبي (إيثار نزعة التقشّف في الإنفاق واعتبار العمل من مقتضيات الدين والإيمان) في قيام النظام الرأسمالي بفعل تراكم الثروات ورؤوس الأموال[7]. ولا مناص لنا من القول إنّ عديد الدراسات الحديثة والمعاصرة[8] اهتمّت بتقويم أطروحة الألماني ماكس فيبر Max Weber من خلال كتابه “الأخلاق البروتستانية وروح الرأسماليّة” (1905).

الجوامع المشتركة بين الديني والثقافي: الصفة القهريّة والإلزاميّة التي يمارسها الديني والثقافي على الفرد والمجموعة… الإنسان باعتباره صانعا للمؤسسات الماديّة والرمزيّة ومن ضمنها الدين والثقافة… خضوع الديني والثقافي للرقابة الاجتماعيّة وللرأي العامّ… مدى مساهمة الديني والثقافي في هيكلة الوعي الفردي وجعله منسجما مع الوعي الجمعي…دور الديني والثقافي في جعل العالَم ممكن الفهم.

 أمّا من جهة مقتضيات الفصل فإنّها تستدعي منّا السؤال الآتي: هل إنّ الفصل بين الديني والثقافي هو فصل منهجي يستدعيه البحث العلمي في هذين المكوّنين كلّ منهما على حدة، أم إنّه فصل بنيويّ بحكم التمايز بين المنظومة الدينيّة والمنظومة الثقافيّة؟ وهذا ما يحوج إلى تعيين الفروق بين الديني والثقافي[9]: إذ الديني معبّر عن قيم مطلقة نازعة إلى الثبات وصامدة أمام تقلّبات التاريخ وإكراهاته، فضلا عن كون القيم الدينيّة عادة ما تكون فوق المراجعة والنقض. أمّا الثقافي فهو متلبّس بوجود الإنسان في الواقع ومحايث لمعاشه ومتأثّر بقانون الحراك الاجتماعي وذلك ضمن مقالة التلازم الجدلي بين التاريخيّة والنسبيّة. وفضلا عن ذلك لابدّ من التنبيه إلى استقلال الدينيّ عن الثقافيّ داخل تصوّر حديث يثبت وجود “ديانة طبيعيّة ماكثة في عمق الإنسان”[10] لا علاقة لها البتّة بالثقافي مهما كان ضربه أو حجمه.

ومهما يكن من أمر فإنّ لعلاقات الوصل والفصل حدودا تُضبط حسب نوعيّة العلاقات القائمة بين القطبين المذكورين، وهي لا تخرج مبدئيا عن ثلاث علاقات هي التالية:

علاقة السيادة والاحتواء: ومفادها أنّ الثقافيّ يهيمن على الدينيّ ويحتويه ويوجّهه الوجهة التي يريد، ومن ثمّ يصبح كلّ الإنتاج الدينيّ، مهما كان الدين، تعبيرا عن إنتاج ثقافي يتحدّد في ضوء سُنن ثقافيّة وقوانين الاجتماع الإنسانيّ (مثلا: الفقه أو التفسير القرآني أو علم الكلام هي منتجات ثقافيّة في المجال الإسلامي). وبالمقابل يمكن للديني أن يهيمن على الثقافي وذلك ضمن أطروحة يرفع أصحابها شعارا مفاده أنّ الدينيّ أشمل من الثقافي وحاضن له ومتحكّم فيه. والحجّة في ذلك أنّ المؤسسات الثقافيّة، المادّية والرمزيّة، لا تصبح نافذة المفعول في المجتمع إلاّ إذا أُسبِغت عليها مشروعيّة دينيّة. ومن ثمّ يمكن السؤال عن مدى أهمّية الوظيفة التبريريّة التي ينهض بها الدينيّ في صلته بالثقافيّ (في مواضيع مهمّة في حياة الإنسان عامّة مثل علاقات القرابة والأحوال الشخصيّة). إذ الكلام ههنا على مدى نجاعة الدينيّ في تبرير ما هو ثقافيّ من أجل أن تفوز المؤسسات الثقافيّة بالاستقرار والاستمرار.

علاقة التكافؤ والتنازع: وهي مترتّبة على ما سبق قوله بشأن مقتضيات الفصل بين الديني والثقافي، إذ لا يتدخّل أحدهما في الآخر بأيّ شكل في الأشكال دون أن يعني ذلك امتناع قيام تنازع بينهما يحاول كلّ واحد منهما بسط سلطانه على الآخر، وذلك في ضوء ما يقوم به “الفاعلون الاجتماعيّون” أو “المتصرّفون في المقدّس” من محاولات توظيف كلّ ما هو دينيّ أو ثقافيّ في غير ما وُجد من أجله وفي غير ما يحقّقه من دلالات وما ينهض به من وظائف (النظر مثلا في أبرز التوظيفات السياسيّة للشأن الديني في المجال الإسلامي).

علاقة التفاعل والجدل: هذه العلاقة جديرة بالنظر والاستقصاء لأنّها تقوم على تجاوز مقالتيْ السيادة والانكفاء. فكلّ ما هو دينيّ مؤثّر في الثقافيّ ومتأثّر به في الوقت ذاته، والعكس صحيح[11]. ومن الأغراض الجديرة بالنظر ههنا العلاقة التفاعليّة والجدليّة بين الدين (Religion) والتديّن (Religiosité) في الأديان التوحيديّة وغيرها من الأديان القائمة على الفلسفات التأمّليّة. فالإنسان الديني يصنع أشكال تديّنه ضمن الثقافة التي ينخرط فيها رغما عنه. وهذه الأشكال بدورها تعيد صياغة مفهوم الدين وتعمل على تحيينه بما يتّفق وشواغل الجماعة الدينيّة وانتظاراتها والأطر الاجتماعيّة للمعرفة السائدة[12]، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى التباس التديّن بالدين وإلى إضفاء القداسة على منتجات بشريّة والارتقاء بها إلى مستوى “الأخلاق الكليّة أو “الروح الإنساني المشترك”[13].

وختاما لا مناص لنا من الإشارة إلى أنّه في عقدَيْ الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين تعالت أصواتٌ داعية إلى “الخصوصيّة الثقافيّة” مقابل أصوات أخرى مدافعة عن مبدإ “التنوّع الثقافي”. غير أنّ ذلك لا يعني غياب الوعي بأهمّية التعالق بين الدينيّ والثقافيّ. تشهد على ذلك عدّة معاهد ومؤسّسات وهيئات بحثيّة من نحو “معهد البحوث الاجتماعيّة والدينيّة” بالولايات المتّحدة الأمريكيّة (1921) ومن قبيل بعث “كرسيّ اليونسكو حول المسارات الثقافيّة والدينيّة” بفرنسا (1999)، وفي طليعة أهدافه مساعدة الأديان والثقافات على إشاعة قِيَم السِلم العالميّ والتسامح والتضامن وتكريس الحوار بين الأديان والثقافات.

إلاّ أنّ التعالُق بين الدينيّ والثقافيّ تمّ تنزيله في مقالة التعدّدية وذلك في سياقات محلّيّة وإقليميّة وعالميّة تتميّز بتصاعد أصوات “التعدّديّة الدينيّة والثقافيّة”[14]. وفي هذا الإطار مثلا افتُتح بفرنسا سنة 2012 “مرصد التعدّدية الثقافيّة والدينيّة” (O.P.C.R) وهو ينادي باحترام حرّية الرأي والتعبير وصيانة الحريّات الدينيّة، كلّ ذلك في سياق تكريس “الميثاق الأوروبي حول الحقوق الأساسيّة”.

ومن شأن مقالة التعدّدية الدينيّة والثقافيّة أن تثير في المجال الإسلامي عدّة قضايا يمكن النظر فيها من قبيل القيم القرآنيّة / الإسلاميّة والقيم الكونيّة (المواطنة، حقوق الإنسان، حقّ الاختلاف…)، ومن نحو التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية الحديثة والمعاصرة، ومن مثل الإسلام واحدا ومتعدّدا: الإسلام الآسيوي، الإسلامي العربيّ، إسلام الأقلّيات، الإســـلام “الأسود”…[15]، فضلا عن أهمّيّة تدبّر موضوع الحوار المسيحيّ الإسلامي من جهات السياقات والدواعي والشروط والمقاصد والعوائق.

***

أ. د. بسّام الجمل

عضو عامل بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، تونس، عن مركز نقد وتنوير في يوم: 12 ديسمبر، 2021

..................

[1] الرأي عند جاكلين لاقري (Jacqueline Lagrée) أنّ كلّ تعريفات الدين عالة على تعريف شيشرون (Cicéron) (ت 43 ق م) له ومفاده “أنّ الدين هو الانشغال بطبيعة عليا وتقديم عبادة لها”. راجع كتابها:

La religion ; Éditions Armand Colin, Paris 2006, p 8.

[2] انظر كتابه: Les formes élémentaires de la vie religieuses ; Quadrige / Presses Universitaire de France ; 2ème édition, 1990, p 31.

[3]  القرص المقدّس: عناصر نظريّة سوسيولوجيّة في الدين. تعريب: مجموعة من الأساتذة، إشراف عبد المجيد الشرفي، الطبعة الأولى، مركز النشر الجامعي تونس 2003، ص 98.

[4]  يقول غيرتز في هذا السياق: “إنّ الدين يُعرّف بأنّه نظام من الرموز يفعل لإقامة حالات نفسيّة وحوافز قويّة وشاملة ودائمة في الناس عن طريق صياغة مفهومات عن نظام عامّ للوجود وإضفاء هالة من الواقعيّة على هذه المفهومات بحيث تبدو هذه الحالات النفسيّة والحوافز واقعيّة بشكل فريد”، تأويل الثقافات، ترجمة: محمّد بدري، منشورات المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت 2009، ص 227.

[5]  يوجد عرض تأليفيّ جيّد لأطروحة دوركايهم بشأن حضور الديني في الثقافي، وذلك ضمن الفصل الأوّل كتاب: Shmuel Trigano, Qu’est-ce que la religion ? ; Éditions Flammarion 2001, pp : 17 – 51.

[6]  يراجع كتابه “حول الدين في أمريكا” /1835 و 1840.

[7]  يقول هانز جورج غادامير (Hans-Georg Gadamer) في هذا السياق: “لقد علّمنا ماكس فيبر أنّ الرأسماليّة والتصنيع ينهلان إلهامهما إلى حدّ كبير من النزعة الطُهرانيّة، كما أنّ العقيدة الجبريّة هي التي تُضفي الشرعيّة اليوم بالخصوص، على مدى واسع، في نظر سكّان البلدان المصنّعة، على البحث عن الفعاليّة في الأعمال. إنّ التقدّم اليقيني للعلم والتقنية جعل نتائج هذا التصوّر، منذ ذلك الحين، تتّخذ طابع قوّة مستقلّة تنفلت ببساطة من تحكّمنا”، الدين في عالمنا، ضمن كتاب جماعي بعنوان “الدين في عالمنا”، إشراف: جاك ديريدا وجيّانّي فاتيمو. ترجمة محمّد الهلالي وحسن العمراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004، ص 185.

[8]  انظر مثلا الفصل الثاني من كتاب: Shmuel Trigano , Qu’est-ce que la religion ? ; Éditions Flammarion 2001, pp : 55 – 115.

[9] خصّص أوليفييه روا (Olivier Roy) في كتابه “الجهل المقدّس: زمن دين بلا ثقافة” (ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي لندن، الطبعة الثالثة، 2015) فصلا ورد بعنوان “عندما يلتقي الدينيّ بالثقافة” (ص ص: 51 ـ 99)، وفيه طرح السؤال التالي: “هل الدين جزء من الثقافة؟” (ص 51). والرأي عنده “لا يُطرح الدين بصفته دينا إلاّ عندما ينفصل انفصالا بيّنا عن الثقافة، وإن كان ذلك في توتّر مؤقّت وهشّ ومجرّد إجمالا. ونتيجة لذلك، لا يسري مفهوم الدين في أنظمة يُدرَك فيها ما يُقرن بالدين في مكان آخر (تقوى، مقدّس) على أنّه ثقافيّ كلّيّا (دين مدنيّ)” (ص 57).

[10] ميشال مسلان، علم الأديان: مساهمة في التأسيس، ترجمة عزّ الدين عناية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2009، ص 45.

[11]  يرى روجيه باستيد (Roger Bastide) أنّ الدين يمكن أن يؤثّر في المجتمع، إذ يقولبه في ضوء ما يبثّه فيه من عقائد ومقالات وأفكار. وبالمقابل يمكن أن يفرض المجتمع على الدين أطره ويحدّد بنيته وشكله. راجع كتابه: Éléments de sociologie religieuse ; Éditions Stock, Paris 1997, p127.

[12]  يقول كورنيلوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis) في هذا السياق:

 «La liaison profonde et organique de la religion avec l’hétéronomie de la société s’exprime dans ce double rapport: toute religion inclut dans son système de croyances l’origine de l’institution ; et l’institution de la société inclut toujours l’interprétation de son origine comme extra-sociale» ; Domaines de l’homme ; Éditions du Seuil, Paris 1986, p 466.

[13]  عبد الجواد ياسين، الدين والتديّن: التشريع والنصّ والإجماع، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص /2012.

[14] تعبّر التعدّدية الثقافيّة عند تزيفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov) عن “نزعة إنسانيّة، إنّها سمة سياسيّة تكمن في نقد الاختلافات بين المجتمعات داخل بلد ما”، حوار منشور ضمن كتاب “تزفيتان تودوروف: نحو رؤية جديدة لحوار الحضارات، تأمّلات في الحضارة والديمقراطيّة والغيريّة”، ترجمة وتحرير وتقديم: محمّد الجرطي، دار المتوسّط، ميلانو، الطبعة الأولى 2015، ص 165.

[15]  تُراجَعُ سلسلة “الإسلام واحدا ومتعدّدا” بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي/منشورات دار الطليعة بيروت.

 

في الفكر النقدي المؤسس على رؤية فلسفية عقلانية لا توجد منطقة رمادية، جميع المناطق يجب أن تكون مضاءة، تحت الشمس، بألوانها المختلفة والمتميزة.

"الاختلاف" هو الأصل في التفكير الإنساني الحر الفاعل والإيجابي، لأن الحقيقة متعددة وزوايا النظر إلى الأمور مختلفة ومتعامدة. الاختلاف هو أصل الحياة المشتركة.

ظهرت "الوسطية" كطريق لجر الفكر العقلاني نحو "التلفيق" والترقيع والتمويه.

 "الوسطية" هي توأم التلفيقية، تعتصم الجماعات والأفراد بها كآلية لستر مرض "الانتهازية"، بهذا فالوسطية هي أيضاً أخت الانتهازية الناعمة، هي ذر الرماد في عيون العامة البسيطة.

"الوسطية" هي التوجس الكبير من قول "الحقيقة" كما يراها العقل في مرحلة زمنية معينة. هي الوسيلة لإقناع القطيع بطمأنينة كاذبة وخادعة سياسية أو اجتماعية أو دينية، وهي أيضاً إسعاد للدماغ الكسول وبهجة للخمول الفردي والجمعي.

"الوسطية" هي اغتيال للقناعة الفكرية وهي مصرع "السؤال" المحرج الذي يحفر في المناطق الخطرة والممنوعة. هي جمع ما لا يجتمع في طبخة لا طعم ولا رائحة لها وهي الموقف الثقافي لمن لا موقف له وهي التخندق السياسي لمن لا خندق له وهي الرأي الديني لمن لا رأي له.

"الوسطية" هي آلة جهنمية لإنتاج ثقافة الخنوع الذي يلبس لبوس الاحترام الزائف والمنافق حيال السياسي والفقيه والمثقف.

"الوسطية" ليست محاربة التطرف كما يروج لذلك حراس معبدها، بل هي عبارة عن حرب باردة ضد النقاش الجاد وضد صراع الأفكار المثمر.

تحت قناع المحافظة على الوطن والحفاظ على الأمن والاستقرار، وما إلى ذلك من بلاغة التدجين السياسي والتدين المظهري، تمارس "الوسطية" وأنصارها استخفافاً بالوضوح الفاعل وفرض "الرمادي" في الحوار والسلوك واللغة.

"الوسطية" هي دفن رأس العقل في رمال المتاهة. هي ليست المناقض للتطرف، إنها الاكتفاء بكنس "التطرف" تحت السجاد.

ومن منطلق تقوقعها حول "تبرير ما لا يبرر" فهي راعية التطرف جراء تعميم الكسل الفكري وغسل الدماغ الجمعي، فـ"الوسطية" من حيث تدري أو لا تدري تعمل على إسكات الأصوات الأخرى المغايرة وتسعى إلى وأد الاجتهاد وقبر كل صراع إيجابي يعمل على تطوير العقل وتنمية التفكير وتطوير المجتمع.

"الوسطية" هي أكبر كذبة فكرية معمرة في تاريخ الفكر العربي، يصدقها المثقف والسياسي ورجل الدين، يصدقها المثقف الانتهازي والسياسي الذي لا يؤمن بفكر التناوب ورجل الدين الذي يسعى إلى خدمة السلطان مهما كان لونه وفكره.

المواطن البسيط والساذج ضد كل من يقف مدافعاً عن مصالحه بتلفيق تهم ونعوت تلحق به.

"الوسطية" تشيطن المختلف الواضح الذي يعيش بيننا وتصوره كائناً يريد الفتنة. تخون الوطني الناقد وتقدمه في شكل عدو يجب عزله. تكفر المؤمن الذي يعمل العقل في إيمانه ويرفض العقيدة بالوراثة كما يرفض التوريث في الخلافة.

"الوسطية" في الدين السياسي كشراء رأسمال محبة العدو والصديق في الآن نفسه والخلط بين الخصم والصديق بين الشر والخير، وبهذا تحول هذه "الوسطية" الخير إلى الشر والشر إلى الخير، من دون أن يتنازل لا الخيّر عن موقعه ولا الشرير عن موقفه.

"الوسطية" في الدين السياسي هي الإتيان ببرهان تراثي لكل موقع وموقف لتثبيته أو نفيه في الوقت ذاته، كل قضية يتم تبريرها بالنص في تأكيدها وفي نفيها في الوقت نفسه. 

"الوسطية" في السياسية أو عند السياسي هي محاولة ممارسة لعبة البهلوان على الحبل، المهم التوازن حتى لا يسقط، في هذه "الوسطية" تقبض الطبقة الحاكمة على العصا من الوسط، لا لشيء إنما لتحقيق البقاء حيث يتم ضرب اليسار باليمين واليمين باليسار. كلما شعر السياسي باقتراب ساعته يبدأ المساومة بالتمركز داخل "الوسطية"، يشتري ويبيع في القيم والمواقف والحلفاء. في السياسة تمثل "الوسطية" حبل النجاة للسلطة الحاكمة الآيلة للانهيار.

على المستوى الفلسفي، فالفكر الصادق الجريء هو الذي يعتصم بموقعه من دون خوف أو تردد أو تلكؤ، ينحاز إلى أمر أو موقف ويبرر انحيازه ولا يخفي قناعته، من دون الاعتقاد بأن موقعه أو موقفه هو "الحقيقة" المطلقة، هذا الانحياز الفلسفي والفكري الواضح يساعد الخصم على التموقع والوضوح المقابل.

الفكر الصادق الجريء هو خصم "الوسطية" لأنه يريد أن يكون اللون الأصلي في ضمة الألوان الأساسية، في حين تكون "الوسطية" خلطة ألوان باهتة وكاذبة وغير منسجمة ولا متناغمة.

كلما تحرر السياسي والمثقف النقدي ورجل الدين من "الوسطية" وتعامل كل واحد منهم بصدق وشفافية وانسجام مع مواقفه تمكن المجتمع من التقدم بثبات، وأصبحت الحياة السياسية والثقافية والدينية في صحة جيدة، معافاة من النفاق والمراوغة والفساد بكل أنواعه.

***

أمين الزاوي -  كاتب ومفكر

 عن صحيفة اندبندنت العربية

ليوم: الخميس 13 أكتوبر 2022 0:03

وها هو الذكاء الصناعي يخرج لنا أرنباً جديداً من قبعته، برنامجاً إلكترونياً يستطيع أن ينظم الشعر ويؤلف لك الكتب التي تريد. يكفي أن تلقي إليه ببعض الأفكار وهو جاهز للتنفيذ في رمشات عين. وقد جرّب صحافي فرنسي البرنامج وحصل على كتاب يباع الآن عبر «أمازون». لكنني لم أسمع، حتى الآن، عن شاعر أو روائي عربي جلس مكتوف اليدين أمام الشاشة وتركها تتمخض وتلد له ديواناً أو رواية.

معنى هذا أننا لن نعود نعرف للكتب نَسَباً. لا ينفع تحليل الحمض النووي للاهتداء إلى الأب الحقيقي، أي المؤلف. هل هو بشر أم آلة تنافس البشر في الذكاء؟

إن المؤلف الشبح معروف في عالم النشر من قبل. يُطلقون عليه في فرنسا تسمية «العبد». أي ذاك الذي يساعد كاتباً في تأليف كتاب مقابل مبلغ متفق عليه. وكان الروائي الرائج جان لو سوليتزر يتشدّق بالقول: «أكتب مع عبيدي». وبقيت رواياته تحقق أعلى المبيعات رغم علم القراء بأنها ليست من بنات خياله. لكن مهمة عبيد الروايات لا تشبه مهمة الأشباح الذين يحررون الكتب للمشاهير من الفنانين والفنانات. يجلس أحدهم مع الفنان ويستمع إلى وقائع حياته. بعد ذلك يتولى صياغتها بأسلوب جذاب. أي «بماء الورد»، كما يقول المصطلح الفرنسي. وتتراوح مكافأة الشبح ما بين 5 آلاف و15 ألف يورو، بحسب خبرته كصحافي أو بحسب شهرة الفنان الذي ستنزل المذكرات باسمه.

سئل شبح فرنسي معروف عن السبب الذي يجعله يؤلف الكتب للغير. قال إنه حلم منذ صباه بأن يصبح كاتباً معروفاً. فهو بالتأكيد لم يولد ليكون عبداً أدبياً. لكنه فشل في بلوغ أمنيته وها هو يعيش من تأليف كتب المشاهير وبعض الروائيين المعروفين.

دفع الأمير البريطاني هاري مليون دولار للصحافي الأميركي جي. آر. مويهرنغر لكي يؤلف له كتابه «بديل». ودفعت دار النشر ما يعادل 45 مليون دولار لهاري مقابل ثلاثية يروي فيها تخبطات حياته. بيع من الجزء الأول، حتى الآن، ملايين النسخ بعدة لغات، وما زال يبيع.

ليس من واجب الكاتب أن يكون موضوعياً حين ينجز مهمة مثل هذه. هو ليس صحافياً ملتزماً بالحقيقة، بل هو وسيط ينقل مشاعر من يكتب باسمه. تعرّف هاري على شبحه بواسطة صديقه الممثل جورج كلوني. ولم يكن الشبح نكرة بل كان كاتباً نال جائزة «بوليتزر» المرموقة. سبق له وأن ساعد لاعب كرة المضرب أندريه أغاسي في تحرير سيرته، وكذلك عارضة الأزياء كلوديا شيفر. لكن الشهرة والمقدرة لا تكفيان. لا بد من استلطاف بين الطرفين. حب من النظرة الأولى. كيمياء تسري بين العبد والسيد.

استمع الكاتب إلى الأمير عبر «زوم». تمدد هاري مرتاحاً في منزله في لوس أنجليس وراح يفضفض وكأنه في حضرة طبيب نفسي. وخلال خمسين جلسة تجمعت لدى الشبح مادة تصلح لعدة كتب. ليس مطلوباً منه أن يحذف أو يختصر أو يجمّل، حتى لو كتب كفراً. تلك مهمة الناشر وفريق المحامين الاستشاريين.

هل يجوز لي الانتقال من الحيز العام إلى الخاص؟ فمنذ بدأت نشر الروايات وأنا أتلقى طلبات من سيدات عربيات لكي أكتب سِيَر حياتهن. هناك من لا يفهم الفرق بين الروائي والعرضحالجي. واليوم يمكن لأي كان أن يستخدم التطبيق الجديد ويحصل على كتابه الأدبي أو بحثه العلمي الخاص. ثورة في عالم الفكر يخشاها المؤلفون وأساتذة الجامعات. هل يخيفني الذكاء الصناعي ويُبهت رواياتي ويهدد مقالاتي؟ إن قدراتي على قدّي ومع هذا أقول له: أتحداك!

***

إنعام كجه جي

صحافيّة وروائيّة عراقيّة.

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم: الأحد - 29 جمادى الآخرة 1444 هـ - 22 يناير 2023 مـ رقم العدد [16126]

 

حين التفكير في بدايات أزمنة جديدة ومُستهل عامٍ جديد، يتصدر مجالَ الرؤيةِ مفهومُ ’التقدم‘. وهو يعني حرفيا السير قُدمًا.. إلى الأمام، ودلاليا: الانتقال إلى وضعٍ وحيثياتٍ أفضل. هذا يعني أن التقدم خاصية، أو على الأقل إمكانية، مفطورة في صلب وجود الإنسان كفردٍ وكنوع. ببساطة، الإنسان يمكن دائمًا أن يكون/ يصبح أفضل.

يبدو العلم الرياضياتي التجريبي، وهو أنجح مشروع ثقافي أنجزه الإنسان، بمثابة التمثيل العينى والتجسيد الماثل لمقولة التقدم في الحضارة. قضاياه قابلة دوما للتكذيب والتعديل والتطوير.. للتقدم. هي فروضٌ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، وأقدر على التوصيف والتفسير والتنبؤ والسيطرة التكنولوجية. كل يومٍ ثمة جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيتجاوزه ويقطع في طريق التقدم خطوةً أبعد.

ولئن كانت فلسفة العلم قد صاغت البلوَّرة المنهجية والمنطقية للطاقة التقدمية العظمى المتوشجة في بنية العلم، فإن ما نزعمه هنا أن التقدم في توجهات الفلسفة/ أم العلوم يتسارع ويتعاظم الآن حتى أنها تفوق العلم في معدلات التقدم. ولا شطط أو مُغالاة أو عجب في هذا. العجب أننا لا نلاحظ كيف تتقدم الفلسفة الراهنة نحو آفاقٍ جديدة، وطروحات مستجدة، تساؤلات أعمق ومناهج أقدر وأكفأ. وتموج الساحة الفلسفية الآن بتقدمٍ وتقدميات هائلة حقا.

بعبارة وصفية بسيطة وكاشفة، أقول إن معظم الفلسفة الآن، ما يشغل دارسيها وباحثيها وصانعيها، هو تقدميات مستجدة، لم يكن لها وجود في الدرس الفلسفي حين كنتُ إبان سبعينيات القرن العشرين طالبة في قسم الفلسفة بآداب القاهرة، أعرق قسم في أعرق كلية في أعرق جامعة. لم نكن ندرس: الفلسفة الإسلامية المعاصرة، الفلسفة في آسيا وأفريقيا، فلسفة مابعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية، فلسفة البيئة، الفلسفة النسوية، الفلسفة التطبيقية والعلاجية، آليات الخطاب والحوار بين الثقافات، أخلاقيات العلم والأخلاقيات المهنية والتواصلية، المنطق اللاصوري والتفكير الناقد، الفلسفة للأطفال.....إلخ. ولا كنا نسمع في دروسنا عن المناهج المدوية الآن: الهرمنيوطيقا أي الفهم والتأويل، التفكيك أي قراءة ما بين السطور قبل السطور نفسها بحثًا عن موجهاتها، الأركيولوجيا أي الحفر والتنقيب التاريخي والمفهومي بحثًاعن المنشأ، بخلاف مناهج التكويد والتشفير والقوة التوليدية للأنساق الاستنباطية في فلسفة اللغة والذهن والذكاء البشري والآلي ......إ ذلكم بعض ما يدرسه طلبة الفلسفة في الجامعات الآن، في الليسانس أو الدراسات العليا.

فضلا عن هذه المتون، انطوت هوامشنا فيما سبق على ثلاثة عُمَد، كان لابد أن يحددَ الموقفَ منها كلُ مَنْ يلج رحابَ الفلسفةِ: الوجودية والماركسية والوضعية. هذه الركائز الثلاث طواها الآن تيار التقدم؛ لتتخلق هوامش فلسفية أكثر تقدمًا، أوسع مراما وأبعد غَورًا. الوجودية غلبها سؤال الهوية الثقافية والموقف التاريخي. أما عن الماركسية التي اقترنتْ في حينها بالموقف السياسي العلمي التقدمي، فقد بات ثمة الطريق الثالث والهندسة الاجتماعية الجزئية والليبرالية الجديدة و’جديدات‘ شتى. وبدلا من الوضعية المنطقية في فلسفة العلم نجد الآن رؤية بانورامية شاملة لظاهرة العلم، لا تقتصر على منطق العلم ومنهجه، بل تضم إليهما الأبعاد الثقافية والحضارية للعلم في تيار التاريخ وفي تفاعلاته مع مكونات الثقافة والمتغيرات الحضارية الفاعلة.

إن الفلسفةُ هي الانعكاس المُجرَّدُ الواعي لحقبتِها الحضارية، ومن ثمَّ كانت هذه التقدميات الخلاقة في أعطافِ الفلسفة الراهنة انعكاسًا ومحصلةً للقفزة الحضارية الشاملة بالانتقال في النصف الثاني من القرن العشرين من مرحلة الحداثة إلى مرحلة مابعد الحداثة التي هي ذاتها مابعد الاستعمار، مابعد المركزية الغربية وواحدية نموذج التقدم الغربي. فقد تخلقت نماذج أخرى عديدة لتجارب التقدم العملاقة، مع المعجزة اليابانية والعملاق الصيني والتصنيع الكوري وقهر الفقر في ماليزيا ومعدل الدخل في سنغافورة ووادي السليكون في الهند وتعاظم الثقل المالي في الخليج العربي وصناعة الطيران في الأرجنتين....إلخ.

نلاحظ أن هوامش المتون المطروحة عاليْه انتهت بتجسيدٍ لفلسفة علم مابعد الوضعية. أما الأمثلة التي طرحناها لفروعٍ الفلسفة المستجدة فبدأت بالفلسفة الإسلامية المعاصرة والفلسفة في آسيا وأفريقيا وفلسفة مابعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية. واضح أنها فروع تجسد عصر مابعد واحدية النموذج الغربي. إنه ثراء التنوع البشري الخلاق وتعدد مراكز التقدم، وانبثاقة عصر ’التعددية الثقافية‘. لقد توهجت في مونديال قطر. وتوهج معها ما أسماه فيلسوف الإعلام والتواصلية يورجين هابرماس ’مابعد العلمانية‘، التي تعني تصالحا مع الدين وكفًا عن إدانته باللاعقلانية والتخلف، تطبيقًا لمبدأ بعد حداثي شامل هو قبول الآخر. ولئن قبلتْ الثقافة الغربية شراذم آخرين عجبًا كالمثليين وراغبي التحول الجنسي، فإن الدين بالذات أهم مكونات الثقافة عموما وثقافة الأنا خصوصا.

في هذا تبدو العلمانية التنويرية المقترنة بالحداثة آخر حلقات مواجهة عريضة وكفاح طويل لتحجيم الدين وإقصاء رجالاته، منذ المرتدين في الإسلام والنزعة الإنسانية في عصر النهضة والواحدية المادية ولغة الفلسفة التجريبية التحليلية والبلشفية....الخ. في الصيف الماضي قُدّر لي أن أزور سبع دول أوروبية في غضون شهرين؛ فرأيت في سويسرا شوارع تعج بالراهبات، ودخلت في فينسيا كنائس مهجورة فتحولت بناياتها الثمينة الشاهقة إلى مراكز فنية وثقافية، ولا مشكلة في هذا أو ذاك. ولم أر شارعًا واحدًا في أوروبا يخلو من مُسلِمة مُحجبة؛ وليس يقُض هذا مضجع التقدميين، أو فلول العلمانيين التنويريين. لقد دخلتُ جامعات في 34 دولة، ولم أرَ دولة في العالم لا يزال مثقفون فيها مهمومين بتحجيم الدين وحجب شخوصه، إلا مصر! كم يستبد بي الحُلمُ أن يلحق هؤلاء بتقدميات عصر مابعد العلمانية، مابعد الحداثة والاستعمار وواحدية المركز الغربي، ومابعد سلطان شمال الأطلنطي.. عصر قبول الآخر، والتعددية الثقافية الأكثر عدلا وثراءً.

نعود إلى الفلسفة من حيث هي الفلسفة، أو ’الحكمة‘ بتعبير أسلافنا الإسلاميين، لنجدها تختلف عن العلم في أن الجديد لا يلغي القديم ويحذفه، بل يستوعبه ويتجاوزه. وتلك المساقات التقدمية في الفلسفة، التى ذكرت أمثلة عديدة لها، إنما تُدرَس وتُدَرَّس على خلفية وأصولية من الكلاسيكيات الخالدة عبر مراحل تاريخ الفلسفة الممتد بطول تاريخ الحضارة الإنسانية وعرضِها. فتحمل الفلسفة لدارسيها ومحبيها، وللثقافة الإنسانية الشاملة، وعدًا أكيدًا بثراءٍ عقليّ لا يُضاهى، ولا يكف عن الاستثمار والتنمية في تقدميات لن تتوقف حتى قيام الساعة ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾.

***

د. يمنى طريف الخولي

عن صحيفة الأهرام القاهرية ليوم:

20 – 1 – 2023م

لا بأس بأن يُستهلّ الكلام باعتراف: فأنا لم يحيّرني كاتب كما حيّرني سيغموند فرويد. كنت كلّما قرأته أحسست أنّه يتسلّل إلى غرفة معتمة من نفسي لا يدخلها أحد سواي. وكان صعباً على من يحسّ هكذا أن يهضم النقد الماركسيّ لصاحب «الطوطم والتابو». هكذا غمرتني السعادة حين قرأت أحد كتب هربرت ماركيوزه: ها هو أستاذ ماركسيّ يستخدم التحليل الفرويديّ. إذاً، انكفأتِ الحيرة المعذِّبة ولم تعد تتهدّدني شبهة الهرطقة.

والحال أنّ قليلين هم الذين اختلف النقّاد حولهم اختلافهم حول الطبيب والمعلّم النمساويّ. فما الذي أعطانا إيّاه؟ وأين اختلفت الآراء حوله؟

منذ كتابه «تفسير الأحلام» في 1900، اعتُبر فرويد مؤسّس التحليل النفسيّ، وفي متنه مبدأ اللاوعي الذي طبّقه لاحقاً على الدين والتاريخ والأدب. وإذا صحّ، كما قال هو، أنّ الشعراء والفلاسفة سبق أن اكتشفوا اللاوعي، فإنّه هو مكتشف الوسائل «العلميّة» التي تتيح دراسته كأحد مستويات ثلاثة، الآخران فيها هما الوعي وما قبل الوعي.

وكان لفرويد فتح في فهم العقل، فرآه أجزاءً ثلاثة متنازعة هي: «الهُوَ»، الآمر باللّذّة، و«الأنا العليا»، الآمرة بضبطها والحافظة للأخلاق والقوانين، و«الأنا» كمحطّة لتوازنهما. ولئن مرّ نموّ الفرد الجنسيّ بأطوار ثلاثة، فكلٌّ من هذه الأطوار لازمه سلوك بعينه، لكنْ يبقى الأهمّ كشفه عن وجود عالم جنسيّ للأطفال، وأنّ كلّ فرد جنسيٌّ منذ الطفولة. يومها أثار الاكتشاف غضب الكثيرين من معاصريه، خصوصاً مَن آمنوا بـ«براءة الأطفال».

فبَشر فرويد مدفوعون، في النهاية، بـ«مبدأ اللّذّة»، وهو ما ينبغي الحدّ من اندفاعه بـ«مبدأ الواقع» الذي يضمن التكيّف والمقبوليّة. حتّى رابط القرابة ليس عاصماً من الرغبة، والشاهدُ ما سماه «عقدة أوديب»، لكنّ الجمع بين الحبّ والجنس صعب، فالذين نحبّهم ونتعلّم منهم الحبّ يستحيل الجنس معهم، تماماً كالقنفذ إبّان الشتاء: حاجةٌ إلى الحَضن طلباً للدفء، ومانعٌ من الاقتراب بسبب شوك القنفذ. وفي علاقات إنسانيّة كهذه يقف العُصاب بالمرصاد، لكنّنا لسنا وحدنا من يُصاب بالعُصاب؛ إذ المجتمعات نفسها قد تُصاب به، كما كتب في الحقبة المضطربة لما بين الحربين العالميّتين.

أمّا الهستيريا، فمن خصوصيّاتها معاناة المرضى عوارض فيزيائيّة دون أن يكونوا مصابين بمرض فيزيائيّ، وأمّا النكتة فتساعدنا على السخرية من واقع لا نستطيع مقاومته، فيما زلّة اللسان (وصارت تُعرف بالزلّة الفرويديّة) فتنمّ عن توتّر ونزاع مع أفكار ومشاعر بعينها. فحين تتصارع رغبات اللاوعي مع ما قبل الوعي، تأتينا تلك الرغبات بطرق ملتوية كزلّات لسانٍ أو كأحلام تبقى «الطريق المَلكيَّ إلى لا وعينا». وقد يوضح تحليل الأحلام رغبات مقموعة؛ إذ تشي بالجنسيّ والعدوانيّ الذي نحمله منذ الطفولة، لكنّها لا تكشفها بشكل مباشر، بل على هيئة مُقنّعة ومخرَّبة.

ومن «الميكانيزمات الدفاعيّة» و«رغبات الموت»، إلى تأويل خاصّ لأحداث تاريخيّة كبرى (موسى والتوحيد...)، أثّرت أفكاره في الأدب والفنّ والطبّ، وانجذب مثقّفون إلى تحليله لفهم الحرب والسلم، والحبّ والكراهية، والدين والأخلاقيّات.

بيد أنّ أفكاره الرجعيّة ليست قليلة ولا بسيطة، بعضها من تحيّزات زمنه، وبعضها من الحدود المتواضعة لتقدّم العلوم وتأثّر القرن الـ19، حيث عاش ثلثي عمره، بالأفكار العضويّة والعلمويّة. وفي الأحوال جميعاً، لا تنجو آراؤه الرجعيّة تلك ممّا بات العلم يعتبره أخطاء موصوفة.

لقد انتُقد في مسألة التكيّف والتطابق، مع أنّه قال بعودة المكبوت، وتحفّظ ليبراليّون على تحكّم قوى لا واعية بوعي الفرد، ورفض ماركسيّون الاعتراف بإنسان عابر للفوارق الطبقيّة، علماً أنّ كثيرين من الليبراليّين والماركسيّين اتّكأوا لاحقاً على الفرويديّة.

واستمدّ فرويد الكثير من السيكولوجيا الفرديّة من الوراثة البيولوجيّة لأحداث سحيقة القِدم، بسبب ما اعتبره تأثيراً تخلّفه الرضّات القديمة على البشر. فطور البرودة الجنسيّة مثلاً، الذي يسبق البلوغ، رآه صدى من أصداء عصر الجليد. وهناك آراؤه المَقيتة في النساء: فهنّ، وفق مفهومه مسكونات بحسدهنّ، ورغبتهنّ الدائمة والمحبطة هي التحوّل إلى ذكور. وهنّ غير ناضجات أخلاقيّاً، فيما الأنا العليا عندهنّ معدومة أو ضعيفة، كما أنّهنّ أكثر من الرجال عبثاً وحسداً واتّكالاً وخضوعاً، وأقلّ منهم نشاطاً وقدرة على الحبّ. وباستسلامه لتقريريّة بيولوجيّة قليلة الحفول بالتحوّلات الاجتماعيّة والتطوّرات التقنيّة، أدرج وضع المرأة في خانة الفطرة والأصل. هكذا استخدم محافظون أميركيّون آراءه تلك لإقناع النساء بأنّ أقدارهنّ مقرّرة سلفاً بيولوجيّاً، تماماً كما استُخدم رأيه في المثليّة الجنسيّة بوصفها خللاً في النموّ.

ولم يتصوّر فرويد، الأبويّ دوماً، إلّا أُسَراً مُكوّنة من أب وأمّ وأبناء، ما يعكس عيشه وسط عائلات الطبقات العليا والوسطى المحافظة في فيينا، لكنّه، مع ذلك، غالباً ما غيّب دور الأمّ عن تحليله ومعالجته لمرضاه.

وفي وقت مبكر، ردّت عليه كارِن هورني، المحلّلة النفسيّة الألمانيّة، رغم تصنيفها كـ«نِيو فرويديّة»، فرأت أنّ فوارق الجنسين، التي رفعها إلى مصاف الجوهر، نتاج المجتمع والثقافة، لا البيولوجيا. أمّا رائدات النِّسويّة كسيمون دو بوفوار في فرنسا، وبيتي فريدَن وكايت ميليت في أميركا، فهاجمنه بقوّة واعتبرنه «عدوّ المرأة». مع هذا شذّت النِّسويّة والمحلّلة النفسيّة البريطانيّة جوديث ميتشل، فرأت أنّ اكتشافه التحليل النفسيّ أهمّ من آرائه الرجعيّة وأبقى. فالتحليل هذا إنّما جعل جنسانيّة المرأة موضوعاً مطروحاً، وهو ما يساهم في تحريرها من الثقافة الذكوريّة. كذلك أكّدت ميتشل على ضرورة النزول إلى ما تحت السطح الوصفيّ والقبض على أكثر العناصر جذريّة في التحليل النفسيّ، محاولةً مصالحته مع النسويّة تبعاً لقواسم مشتركة، كتعاطيهما مع عامل الجنس، وتحدّيهما الوضع القائم، والتفافهما على المجتمع والوعي السائد الرادعين لفكرة التغيير.

وهناك أيضاً من ذهب إلى إسباغ «تقدّميّة» عليه، مردّها أنّه مهّد الطريق لحركات تحرّريّة وإبداعيّة، كالثورة الجنسيّة والحركات المثليّة والسورياليّة، بحيث منحتنا الفرويديّة عناصر اعتراض على ما هو «رجعيّ» في الفرويديّة إيّاها.

فهل، بعد كلّ حساب، نحبّ ذاك الشيخ الخلافيّ، أو نرشقه بحجر متأخّر؟

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

ليوم: الأربعاء - 25 جمادى الآخرة 1444 هـ - 18 يناير 2023 مـ رقم العدد [16122]

البروفسور محمد أركون، من المحطات الكبيرة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. أعطى حياته للعلم مبكراً. غاص في التاريخ والفقه الديني الإسلامي وتبحّر فيما كتبه السابقون. لأركون تكوين فريد في شخصيته منذ البداية، حيث وُلد في منطقة جبلية صعبة بالجزائر يسكنها الأمازيغ، ويتحدثون لغتهم في حياتهم اليومية، ولهم تقاليدهم وثقافة منطقتهم الخاصة. كان الاستعمار الفرنسي يسيطر على الجزائر منذ عقود، لكنه لم يتدخل في تفاصيل الحياة بالمناطق الأمازيغية الجبلية، التي حافظت على تقاليدها ولغتها ونسيجها الاجتماعي التقليدي. لم يكن هناك بوليس فرنسي أو ضرائب. كانت منطقة المزاب شبه معزولة بالكامل عن سائر البلاد. قال محمد أركون، كان في مدرستنا الابتدائية، خليط من اللغة الفرنسية والقبائلية والعربية، لكن اللغة القرآنية ذات مكانة فريدة والقدسية المتعلقة بتلاوتها الشعائرية. لا ننسى اسمه محمد بحمولته الدينية الكبيرة. محمد أركون تكوّن مبكراً في دنيا إسلامية موصوفة من حيث الزمان والمكان وظروف الاستعمار، والبيئة الاجتماعية والدينية والثقافية واللغوية. كانت الجزائر الفرنسية، تضم مسيحيين بكنائسهم ويهوداً بمعابدهم مع المسلمين في مساجدهم التي تملأ كل حي وشارع في كل البلاد، وتلقّى تعليمه بالجزائر على أيدي أساتذة فرنسيين. رحل إلى فرنسا طلباً للعلم بعد إنهاء دراسته الجامعية بالجزائر.

إذن، الرجل كان نتاج تكوين فريد في كل شيء. عرف المتفق عليه كما عرف المختلف عليه، بل عاشه مبكراً. هو أمازيغي وعربي مسلم في الوقت ذاته ثقافة وتكوينا ودينا، عرف الغرب الاستعماري، وعرف اليهود والمسيحيين مبكراً وعاش معهم في بلاده المستعمرة.

درس الفلسفة والتاريخ في جامعة السوربون، واطلع على فلسفة الغرب في عصر النهضة والتنوير وما قبلهما، ودرس التاريخ والفقه الإسلامي، وتابع التطورات السياسية والتحولات الفكرية التي عاشتها المنطقة العربية والمغاربية بعد أن نالت استقلالها. هذا محمد أركون الفيلسوف والمؤرخ للفكر الإسلامي، والمؤسس لعلم الإسلاميات التطبيقية. قال أركون في كتابه «التشكيل البشري للإسلام» وهو تفريغ لحوار طويل أجراه معه عدد من المفكرين والمثقفين الأوروبيين «بعد ما نالت بلدان شمال أفريقيا استقلالها، رحت أتساءل، ماذا سيحصل لنا نحن الجزائريين؟ وعندئذ أحسستُ فوراً بالمشكلة التي سيطرحها الإسلام وبالسياسات التي سوف تقاد بسببه أو بفضله». ويضيف أركون، أنه انشدَّ إلى خطابات الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة التي توافقت مع أفكاره، ورأى فيها الكثير من الأمل، في حين رأى في الخطاب السياسي المغربي اتجاهاً محافظاً. حلقة مرحلة الاستقلالات المغاربية وما رافقها في دول إسلامية أخرى، دفعته إلى نقده للعقل الإسلامي المنغلق على ذاته، وإن كان هذا النقد جريئاً، لكنه حذر في الوقت ذاته. أفكار محمد أركون كانت إجابات عميقة عن أسئلة يطرحها واقع له جذور عميقة امتدت في زمن موروث طويل سحيق في حياة الشعوب الإسلامية.

في الصفحة 183 في كتاب «التشكيل البشري للإسلام» وُجّه له السؤال التالي: أثناء محاورتنا عن سورة التوبة، قلت لنا بإن السياسة تتحكم في الدين، أو تستخدمه لصالحها، ولكن ألا يُعتبر التحدث عن العلاقات بين السياسة والدين في زمن تشكل القرآن نوعاً من الإسقاط أو المغالطة؟

أجاب الدكتور محمد أركون: للرد على هذا السؤال، ينبغي التذكير بأن حياة البشر تتحقق عادة داخل فضاء اجتماعي سياسي. حيث إن السياسة تحيلنا إلى مفهوم (polis). وهي كلمة إغريقية تعني المدينة السياسية.

وانطلاقاً من هذا المعنى، فهي تعني المجتمع السياسي بشكل عام، أو الدولة بالمعنى الأكثر اتساعاً. لقد كانت السياسة منذ أيام الفلسفة الإغريقية، مدعومة من قبل تصور معين عن ماهية الحياة السياسية. بهذا المعنى الواسع العام، فإنه توجد أيضاً وبالتأكيد سياسة في الخطاب النبوي عموماً، ليس فقط في القرآن، وإنما في الكتاب المقدس أيضاً بالنسبة لليهود والمسيحيين. أقصد التوراة والإنجيل، فموسى كان يتحدث داخل فضاء اجتماعي، فإنه توجد بوليس، ليس بمعنى المدينة الإغريقية، وإنما مجموعة من البشر يبحثون عن تنظيم حياتهم الاجتماعية بشكل ما.

أعتقد أن هذه الإجابة من محمد أركون، تشكل محوراً أساسياً في قراءته العميقة والموسعة في تشكيل الدين لحياة البشر في مجتمع واحد.

وقف عند التطور السياسي للإسلام، وقال أركون، فيما يخص حالة القرآن، لم تكن هناك دولة طيلة كل فترة ظهور الخطاب النبوي القرآني ونزوله المتتابع. الدولة السياسية المحسوسة ستجيئ لاحقاً في دمشق بعد موت النبي.

يرحل أركون في التطور التاريخي لمراحل الحياة السياسية العربية والإسلامية، في محطاتها الأموية والعباسية، وطرق الوصول إلى السلطة وتداولها، ودور العصبية القبلية والتحالفات والخلافات والتوازنات.

أهم ما يميز مسيرة أركون البحثية العلمية، منهجه المعرفي الأنثروبولوجي الموضوعي، وأنه مسلم غير مصطف إلى طائفة أو مذهب، فلا هو سني ولا شيعي ولا أمازيغي، بل هو عالم مسلم وفيلسوف موسوعي درس بعمق، التاريخ والفقه الإسلامي، والفلسفة اليونانية وكذلك الأوروبية. تعرّض لحملات تفسيق، بل تكفير من رهط يقبعون في حفر الماضي، وغاصوا في طين ما عجنه الزمن السحيق، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة، ما أبدعه المسلمون الفقهاء والفلاسفة. أركون الفيلسوف أضاف الكثير إلى الفكر الإسلامي ونافح عن العقيدة بالعلم والعقل، وأضاء لهذا الجيل سبل الولوج إلى دنيا يعيشها اليوم، يتسيد فيها الأقوياء بالعقل والعلم الذي يضيف كل يوم صناعات واختراعات.

كتاب «التشكيل البشري للإسلام»، اعتبره من أهم ما تركه لنا الدكتور أركون، فقد كان نتاج حوار طويل وصريح، مع نخبة من المثقفين غير المسلمين، وأجاب عن أسئلتهم بجرأة وعمق وتوسع علمي شامل. لقد أنجز البروفسور أركون 18 عملاً بحثياً علمياً حول الإسلام، وهي تشكل مكتبة أضافت الكثير للإسلام.

هناك اليوم في الأوساط النخبوية الإسلامية، من يرفع شعار العلمانية، يقابله تيار إسلاموي، يرفع شعار الإسلام هو الحل. الشعارات أناشيد رغبوية جامدة، لا تسقي العقل ولا العضل. الفكر الذي ينبت من دنيا الحياة التي نعيشها، مستخلصاً ما في الإسلام من قيم نورانية وتنويرية والتسلح بالعلم التطبيقي الحديث، هي المنقذ من التخلف والسقوط والهزائم.

ما أنجزه المفكر الفيلسوف محمد اركون، يقدم لنا شحنة أمل في زمن يصر فيه بعضهم على ترسيخ وتوسيع آيديولوجيا الظلام والتخلف والعنف باسم الدين الإسلامي.

***

عبد الرحمن شلقم

عن الشرق الاوسط اللندنية في يوم:

السبت - 17 جمادى الأولى 1444 هـ - 10 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16083]

 

أمل الوصول إلى المثالية في تهذيب السلوك الإنساني، فكرة براقة لم يتخل عنها الإنسان يوماً، فهل من «كتالوج» محدد للسلوك الإنساني وفق ضوابط قيمية ثابتة؟ في تفسير الاختلاف الحاصل بين القيم الأخلاقية، وشكلها النهائي المنعكس على هيئة سلوك إنساني، نقول بأن الأخلاق وإن مثلت سلوكاً فردياً، إلا أنها تمثل في صورتها العميقة خلاصةً مكثفةً للقيم المجتمعية التي سادت حتى باتت متبناة وثابتة، كما تعتبر طرفاً دقيقاً من خيط واضح يقودنا لقراءة تاريخية أخلاقية منتمية لعصر محدد بظرفياته التي آلت لصناعة أخلاقية موائمة، وهذا ما يثبت ويدعم فكرة النسبية حتى في الأخلاق.

هذا السياق يشير إلى اختلاف «مساحاتي» بين الوجود القيمي العام والسلوك الأخلاقي الخاص، فالقيم وترجمتها كأخلاق ومبادئ تشكل مظلة واسعة، وفي هذا السياق فقط يمكن اعتبارها ذات قيمة «مطلقة»، أما إذا تبلورت وتولدت على هيئة سلوك فإنها تتجه لتكون نسبية متغيرة وخاضعة للمعطيات المرحلية، وبالتالي فهي تفسر صيرورة التغير الأخلاقي التاريخي، بغض النظر عن اشتراكها مجتمعةً في الحاجة لحالة عامة من الثقافة الأخلاقية المشتركة باعتبارها صمام أمان الاستقرار والاستمرار.

التحدي الأبرز الذي يواجه الإنسان في منظومته الأخلاقية، وبصدد الاسترسال التاريخي، هو فهمه لطبيعة مصدر القيم الأخلاقية، تماماً كما يؤمن بضرورة وجود الأخلاق العامة، أو القيم الثابتة التي لا تتبدل ولا يمكن التنازل عنها، لا سيما أن وعي الذات بمصدر تلك القيم سيثبت من دعائم احترامها، وإدماجها في مختلف مظاهر حياته، وطبائع سلوكياته. وفي حين انقسمت الآراء المفسرة لمصدر القيمة الأخلاقية، فإن هناك آراء أخرى تجاوزتها ولم تتوقف عند تقييد أحدها، إذ ذهب البعض لاستقاء الأخلاق من مصدر ديني بحت، باعتبار أن القيم الأخلاقية تستمد إلزامَها وقوتَها وحقيقتَها وطبيعتها من الله. بينما يعتمد رأي آخر على القوة النفسية باعتبار بنيتها هي المتحكم الرئيس في بث الأخلاق ووجودها في الإنسان. فيما حاز الجانب الاجتماعي ترجيحَ القائلين بأن الأخلاق وتثبيت قيمها لا يكون إلا من خلال إجماع اجتماعي يختص به كل تكتل اجتماعي بصيغ مفارقة لغيره، سواء اتسعت دائرة تلك المفارقات أو ضاقت. ويمثل هذا الرأي قطاعاً محدوداً، لكنه أساسي في سياق الحديث عن الدافع التاريخي الذي أيده العديد من المفكرين باعتباره مصدراً للقيمة الأخلاقية مرتبطاً بالتقدم في خط مسار التاريخ الذي يحمل معه تطويراً للقيم في كل طور من أطواره. بينما يغلب الجانب الطبيعي على القائلين بنمو غرسة القيم الخلقية من خلال نسق تطوري طبيعي قائم على مبادئ مختلفة كالاصطفاء الطبيعي ونظرية الصراع من أجل البقاء. ويتشابه هذا الطرح مع الطرح الذي اعتمد في بنية القيم الأخلاقية على الوضع الاقتصادي، لاسيما لاتفاقهما على عنصر القوة، فالأخير يؤمن بتحديد القيم الأخلاقية من خلال التموقع الحقيقي على سلم الاقتصاد وقوته التي أثبتت تبايناً داخل المجتمع الواحد بين أخلاق الطبقة الفقيرة وأخلاق الطبقة الثرية، وهذا وجه واحد للفرق الأخلاقي بين المجتمع المتباين في المكانة الاقتصادية.

إن إنزال كافة المعطيات السابقة على الوجود الأخلاقي، يدفع للقول بأن الاعتماد الكلي على أساس من تلك الأسس قد لا يبدو كافياً في تفسير نشأة الأخلاق ومنبع القيم، وهذا ليس بجديد، بل إن الكثير من المفكرين والفلاسفة أكدوه، مشددين على استحالة فكرة قيام الأخلاق على أساس منفصل لا علاقة له بغيره، وهي الفكرة التي وافقها الجاحظ وتعدى ذلك بإلغائه فكرةَ تتويج الذات الإنسانية كمنبع للأخلاق والفضيلة، بل ذهب لاعتبار الخطوة الأولى للقضاء على الأخلاق تكون عبر ربطها كلياً بالإنسان، لا سيما أن ضوابط السلوك الإنساني لا يمكن اعتمادها بلون كل ذات، وإلا نشأ التضارب والتعارض المؤدي للهلاك، وقد قال في طبائع الناس: «فلا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرد بهم ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل (...) ثم الوعد بنار الأبد مع فوات الجنّة، وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة، ولتعديل الطبائع معونة، لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه ألفي بصيراً بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله وأوامر رأيه، فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامر الغي، كان العبد ممعناً في الغي والنساء والمكاثرة، والعجب والخيلاء»، وبالتالي فالإنسان يحتاج بشدة لقوة قيمية تعمل على التعديل والتبديل في سياق الطباع الإنسانية بحيث لا تركن لجانب وتطغى على آخر.

حين يستطيع الإنسان إثبات قدرته على الالتزام بالحدود القيمية الأخلاقية، وعدم تجاوزها أو تهميش بعضها، فإن ذلك يعني بصورة فلسفية عميقة احترامه لذاته، وعدم تعريض حقوقه ومكانته الإنسانية للاعتداء، فعند الحديث عن الحريات نقول إن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، وبالتالي فهي معادلة تكاملية تبادلية لا يمكن قيام أحد أطرافها ونقض الآخر، فكيف يوفق اليوم الإنسان بين كل ذلك؟

***

د. محمد البشاري

عن الاتحاد الامارتية في 7 ديسمبر 2022

 

يعاني النظام الإيراني من عطب ذاتي، لا بسبب الشخصيات الحاكمة فيه، أو مشكلاته الدولية أو ملفه النووي، أو حتى توسعه الإقليمي، وإنما بسبب الأرضية النظرية للنظام التي تتحدد على أساسها صحة الفعل السياسي، وشرعية سلطة الأمر، وصلاحية أي قرار رسمي. أقصد بذلك ولاية الفقيه المطلقة وفق مبنى مؤسس الجمهورية الإمام روح الله الخميني.

جاء مقترح الخميني في سياق حل معضلة فقهية عانى منها العقل الشيعي في القرن العشرين وهي شرعية التصدي للسلطة وجواز ممارسة الحكم في غيبة الإمام الثاني عشر. حيث رسخ في معتقد الشيعة الإمامية أن السلطة من مختصات الإمام الثاني عشر الغائب، وأن كل من يتصدى لها يكون مغتصباً ومتعدياً على حق الإمام، وبالتالي يكون متعدياً على الساحة الإلهية بحكم أن سلطة الإمام ممنوحة من الله.

بدأت هذه المشكلة مع ظهور الثورة الدستورية في إيران في العام 1906،  التي دعت إلى وضع قيود على صلاحيات شاه إيران مظفر الدين القاجاري، بأن تكون مشروطة بالدستور وسلطة القانون، ولذلك سميت بالمشروطة.  دار حينها جدل كبير بين مراجع الدين في النجف الذين استُفتُوا في شرعية هذا المطلب بحكم أن حوزة قم لم تكن قد أسست بعد.  وقد انقسم الفقهاء حينها بين مؤيد لوضع قيود على سلطة الشاه، وكان في مقدمهم الشيخ الخرساني (الآخوند)، وبين أن تكون سلطة الحاكم مطلقة وغير مقيدة وكان في مقدمهم المرجع السيد اليزدي. اشتهر الجدل حينها بجدل المشروطة والمستبدة.

شكل ذلك افتتاحاً لجدل فقهي جديد بين مراجع وفقهاء الشيعة الإمامية حول مسألة السلطة والحكم في الزمن المعاصر. بخاصة بعد تسرب مفاهيم الديمقراطية والتمثيل الشعبي والدستور إلى وعي النخب المثقفة والناشطين السياسيين.  صحيح أن الجدل في البداية لم يكن قائما على أساس مقولات ومفاهيم الفكر السياسي الحديث، بقدر ما كان تحديد الموقف المناسب إزاء الثورة الدستورية أو المشروطة إستنادا إلى معياري المصلحة والمفسدة في تأييدها أو رفضها.  بالتالي لم يكن هنالك تنظيراً فكرياً أو حتى استدلالاً فقهياً لأي من المرجعين حول موضوع الشرعية السياسية. أي لم يكن الخلاف على قاعدة نظرية أو فكرية أو استدلالية ذات صلة بكليات السلطة وشرعية الأمر السياسي، بقدر ما كان مستنداً إلى تقدير شخصي لواقعة جزئية هي واقعة الثورة الدستورية.

بيد أن الاصطفاف السياسي الحاد بين الطرفين، في إيران والعراق معاً، دفع البعض إلى وضع أطر نظرية استناداً إلى الدليل الشرعي، أي القرآن والروايات عن النبي والأئمة، تتعلق بمحددات أو مسوغات الشرعية السياسية.  كان من هؤلاء الشيخ فضل الله نوري، الذي ساند فكرة السلطة المطلقة غير المقيدة من باب أن السلطة السياسية "سلطة إلهية بحتة"، وأن "أصْلَيْ المساواة والحرية مُخرِّبان لركن القانون الإلهي القويم. إذ إن الإسلام يقوم على العبودية لا على الحرية، وأحكامه تقوم على تفريق النقائض لا على المساواة، فما تؤدي إليه المساواة هو أن تحترم الفرقة الضالة والطائفة الإمامية على نهر واحد"

مقابل تنظيرات مؤيدي المستبدة، كتب الشيخ النائيني كتاباً بعنوان: "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" لتأييد موقف المشروطة.  عمد النائيني إلى تسويغ الحكم السياسي في غيبة الإمام الثاني عشر، لا لجهة تأسيس شرعية للحكم السياسي في غيبة الإمام، بل لجهة الضرورة بإقامة المصالح العامة وحفظ بيضة الدين، اللتين لا يستقيم أمرهما إلا بسلطة سياسية.  فالنائيني احتفظ بمبدأ عدم جواز "أن يشغل مقام الإمامة (السلطة العامة) إلا إمام معصوم"، ما يعني أن كل سلطة تمارس من قبل غير الإمام المعصوم تكون مغتصبة وغير شرعية.  لكنه رأى في الوقت نفسه ضرورة إقامة السلطة السياسية التي يتسبب غيابها في ضياع مصالح المسلمين بل ضياع الدين نفسه. ما يعني جواز إقامة السلطة بحكم أن الضرورات تبيح المحذورات. بالتالي جمع النائيني بين السلطة الواجب أو الجائز إقامتها بحكم الضرورة، وبين عدم شرعية أية سلطة في غيبة الإمام.

لم يستطع النائيني حل مشكلة الشرعية السياسية في زماننا، وبقيت السلطة بنظره جائزة بحكم الضرورة من جهة وغير شرعية لكونها مغتصبة من جهة أخرى.  بالتالي ظلت شرعية السلطة مأزقاً محرجاً للشيعة في القرن العشرين، حيث لم يستطيعوا تصور سلطة شرعية غير سلطة الإمام المعصوم، الذي هو غائب، ولا يمكنه التصدي العلني للسلطة لأسباب مجهولة.

في أواخر القن العشرين عمدت شخصيتان فقهيتان إلى التنظير الفقهي للتخلص من هذا المأزق:

أولهما الإمام الخميني، الذي اعتبر أن الإمام المعصوم عَيَّن ونصَّب الفقيه الجامع للشرائط ليحل مكانه في غيبته بعد أن فوَّض إليه كل صلاحياته الممنوحة له من الله التي هي عين صلاحيات النبي أيضاً. هو اقتراح يضفي شرعية دينية على الفعل السياسي في غيبة الإمام، فلا يعود فعل اغتصاب لسلطة الإمام، بل تجسيداً وتحييناً لها، ليصبح الحكم السياسي بنظر الخميني في الغيبة واجباً وشرعياً في آن.

استطاع الخميني حل شرعية الفعل السياسي في زمن الغيبة، لكنه ألغى بالكامل الشرعية الشعبية أو المجتمعية. أي ألغى أي اعتبار للتمثيل الشعبي والإقرار الفردي والقبول المجتمعي بالسلطة الآمرة، بحكم أن مصدر السلطة هو الله، ولا خيار لأحد سوى القبول والرضا بها لأنها جاءت من الله. ما يجعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة طاعة، لا تقتصر على الظاهر فحسب وإنما تستدعي الخضوع الطوعي والانصياع القلبي والباطني لأنها بمثابة الطاعة لله.

 هذا يعني أن ولاية الفقيه وقعت في مأزق خطير، وهو إنشاء تقابل حاد بين إرادة الله بصفتها أساس شرعية أية سلطة، وبين حرية الفرد الحديث والمعاصر الذي بات يرى أن السياسة جزء من حريته وتدبيره لأمور نفسه.  فالحرية أصبحت في زماننا بحسب قول هيغل حرية سياسية لا مجرد حرية شخصية، أي حرية تكون مساحة تحققها المجال السياسي العام.

لذلك، وبدلا من أن تكون السلطة وديعة بحسب جون لوك أو تجسيداً للإرادة العامة بحسب روسو أو فن وصناعة وابتكار بشري بحسب هوبس، باتت طاعة السلطة، وفق ولاية الفقيه، اختباراً إيمانياً وحاجة خلاص أبدي وضرورة دينية بحكم كونها من مختصات حاكمية الله وولايته. هو مأزق بات مصدر عطبها، ومنبع تشظيها وتفجرها، لأنها تختزن بداخلها نقيضين لا يمكن الجمع أو التوفيق أو حتى تعطيل التوتر والصراع بينهما: بين طاعة إكراهية مفروضة على الناس لصالح الفقيه الحاكم صُوِّرَت هذه الطاعة بأنها طاعة لله من جهة، وبين إرادة إنسانية ترى حريتها شرطاً مُحدِّداً لأي نشاط حياتي أو فعل سلوكي أو مدى وجودي.

ثانيهما الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي انطلق من فكرتين تأسيسيتين: أولهما أن السلطة السياسية ليست من ضرورات الإمامة.  بالتالي هي خارجة تخصصاً ولا يملك الإمام المعصوم أن يعين أو ينصب أحداً ولياً أو حاكما سياسياً، لأنها ليست من مختصاته أو صلاحياته. ثانيهما أن السلطة والتدبير السياسي هما منطقة فراغ في الدين، أي إن الدين أخلى نفسه منها، ولم يدرجها ضمن دائرته، بالتالي لم ينص على كيفية تدبيرها وتنظيمها وإدارتها ومقومات شرعيتها.  ما يدل على أن الدين تركها في منطقة المباحات التي لا يوجد فيها موقفٌ محددٌ للدين، لا سلباً ولا إيجاباً.

مع انتفاء أي تعيين أو تنصيب يتعلق بالسلطة السياسية لأية جهة أو جماعة أو شخص، بات الناس متساوون في درجة الإكراه والحرية، بحيث لا يملك أحد أية سلطة على أحد. بالتالي بات الأصل الأول والبديهي في شرعية السلطة هو : "عدم سلطة أحد على أحد".  هو أصل يترجم بأن الفرد يملك زمام أمره، ولا تأخذ أية سلطة شرعيتها إلا بالقبول والرضا الطوعي من الأفراد. ولما كانت السلطة السياسية شأناً متجمعياً لا فردياً فحسب، أي هي جزء من نظام علاقات الافراد داخل المجتمع، فإن الولاية، أي صلاحية الأمر والتدبير الشرعيين، تكون للأمة Nation بصفتها كياناً جامعاً للأفراد وناظماً لعلاقاتهم ومدبراً لشؤونهم.  مع شمس الدين، باتت السلطة السياسية من ملحقات الحرية الفردية وآثارها تتقوم بالمبادرة والابتكار، بعدما كانت تكليفاً دينياً تتقوم بالطاعة والإكراه.

مع شمس الدين تحررت السلطة من المذهب الشيعي ومن الدين معاً، ونجح أيضاً في إخراج السلطة من سطوة مؤسسات الدين ورموزه، ما فتح الباب واسعاً على مدنية الحكم وديمقراطية بل علمانية السلطة. بالتالي فكك ثنائية الولاء المتناقضة التي خلقتها نظرية ولاية الفقيه للشيعة المنتشرين خارج إيران، الذين يفرض عليهم وجودهم الموضوعي ومكانهم الثقافي الانتماء إلى بلدهم والولاء لدولتهم، مقابل ولاية الفقيه التي تلزم المتدين الشيعي أينما كان بطاعة الولي الفقيه والولاء الحصري له.

صحيح أن شمس الدين لم يقدم نظرية في طبيعة السلطة وحقيقتها، أو في آلياتها ومسوغات إكراهاتها وحالات قسرها ووجوه ممارستها للعنف المشروع، لكن شمس الدين نظَّر كفقيه ليخرج السياسة من سلطة النص الديني، ويحرر النص الديني من تحكماتها، ويصورها منطقة ابتكار وحرية إنسانيتين.

بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها، بات الشيعة أمام مفترق طرق مصيري وجليل. 

***

د. وجيه قانصو

عن موقع المدون في يوم الأحد 2022/12/25

  

من الدروس التي نتعلمها من ابن رشد أن مشكلة الدين مع الفلسفة لا تنبع من داخل الدين ذاته، إنما هي مشكلة خارجية سببها «عوام الفقهاء»، وعوام الفقهاء من الساسة والجمهور على السواء، هم في كل ملة ونحلة وأمّة، وليسوا من اختصاص أمة الإسلام.

فقد عُرفوا في بلاد اليونان، وعانى منهم أنكساغوراس وسقراط، اضطروا الأول إلى الهجرة، واضطروا الثاني إلى الموت الزؤام. ثم عرفوا في بلاد اللاتين فأعدموا الفيلسوف الإيطالي جوردانو حرقا، وأوشكوا أن يُلحقوا عالم الفلك الإيطالي جاليليو بسقراط، لولا حيلة نفعته في الحفاظ على حياته.

وعوامّ الفقهاء هؤلاء من المشاركين لنا في الملة وغير المشاركين يصدرون عن رؤية ظاهرية ضيقة تعتبر أن الموروث مقدّس وأن الخروج عمّا يسلم به الناس هو خروج عن النّظام، ولما كانت الفلسفة ضرباً من فكر حر يرفع منهجاً يقوم على دعامتين: الحوار والتعليل، وهما آليتان لا تسكنان إلا الفكر المنفتح، لم يكن لهؤلاء العوام أن تتّسع صدورهم لسماع ما سبق إلى فهمهم خلافه، فيتولّد عن هذا الموقف جرائم في حق الفكر وأهله. نلمس هذا في مدينتنا الإسلامية في مواقف متعددة، فالمنصور بن عامر هجم على مكتبة الخليفة المتنور الحَكم بن هشام الأموي في الأندلس، بعد وفاته، وهي التي كانت تضج بكتب العلم والفلسفة، فأحرق ما فيها من موادّ فلسفية.

وقد عانى ابن رشد هؤلاء العوام حتى إنه عندما يحكي عن محنته التي مر بها في عهد الخليفة المنصور الموحدي، لا يرى موقفاً مر به أشد من موقف إخراجه من المسجد مع ابنه محمد ورشقه بالحجارة، ولا يحكي عن النفي القاسي إلى «أليسانة»، التي كانت معروفة في الأندلس بسكنى اليهود، وكأن أهله بذلك أخرجوه من قوميته وملته إشارة ورمزاً.

عوامّ الفقهاء خطر على الفكر الحر عندما ينحصر فكرهم في دائرة التقليد وقصورهم عن درجة الاجتهاد، ولما كان فكرهم يدور في رحى التقليد لم تكن لهم تلك المقدرة على دراسة الفلسفة ومعرفة نظامها الفكري حتى يستطيعوا الحكم عليها حكماً موضوعياً، انطلاقاً من القاعدة الفقهية الشهيرة «الحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوره»، فيُسهموا بذلك في انتعاش الفكر الفلسفي بانتقاداتهم العلمية وجرأتهم الفكرية.

الفلسفة هي منهج في النظر، وليست موضوعات مقدسة تدّعي العصمة ولا تقبل النقد. ولنا في الإمام الغزالي، حجة الإسلام، نموذجاً رائعاً لفقيه مجتهد كتب «مقاصد الفلاسفة» قبل «تهافت الفلاسفة»، فعرض في الكتاب الأول فلسفة زمانه بلغة الفلاسفة ومنهجهم في النظر، حتى إن هذا الكتاب عندما ترجم اللاتين مقدّمته، حسبوا الغزالي فيلسوفاً مشائياً على غرار الفارابي وابن سينا. وحاول في الكتاب الثاني أن يُفنّد ما رآه خارجاً عن التّقليد الفلسفي الإسلامي، وإن كان قد شطّ في الحكم بالتكفير على مخالفيه.

لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن الغزالي كان فيلسوفاً، الأمر الذي شهد له به تلميذه وخصمه في الآن نفسه، ابن رشد الفيلسوف. قام ابن رشد في كتابيه، «مختصر المستصفى» و«بداية المجتهد» بأمر جليل، قدم الأدوات الضرورية لخلق المجتهد في المدينة الإسلامية، ونبّه إلى خطورة «عوام الفقهاء»، فلا ينبغي أن تخلو المدينة، عنده، من فقيه مجتهد، لأن المدينة إذا تمكّن منها هؤلاء العوام أهلكوا الفكر والنظر.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في 1 يناير 2023 23:30

 

«يوشع شرنيس» فيلسوف ومفكر سياسي أميركي شاب نشر مؤخراً كتاباً هاماً بالإنجليزية بعنوان «الليبرالية في لحظاتها المظلمة.. الغائية الليبرالية في القرن العشرين» (Liberalism in Dark Times: The Liberal Ethos in the Twentieth Century)، خصصه لنقد ليبرالية القرن العشرين، التي هيمنت على النصف الثاني من القرن الماضي، وظهر اليوم ما يواجهها من مأزق بنيوي حاد تجسدَ في الأزمة المالية سنة 2008 وبعدها صعود الشعبويات اليمينية على أنقاض الأحزاب الليبرالية العريقة.

ينطلق شرنيس من ملاحظة تركيز الاتجاه الليبرالي الكلاسيكي على النظم المؤسسية وعلى المبادئ العامة للعدالة والشرعية، مع إهمال المنطلقات الأخلاقية الجوهرية في النظام السياسي الاجتماعي. وتصدر هذه المقاربة الكلاسيكية عن نزعة واقعية متشائمة للطبيعة الإنسانية، مفادها النأي عن التدبير الأخلاقي للمجتمعات الإنسانية، والاكتفاء بوضع الهياكل المؤسسية الكفيلة بحماية حرية الإنسان وتجنيبه الاستبداد والظلم.

وقد برزت هذه الأطروحة لدى مختلف المفكرين الليبراليين الكلاسيكيين والمحدَثين في تعويضهم مبدأ الخير بمبدأ العدل في دلالاته الإجرائية التوزيعية المحضة. ما يلاحظه شرنيس هو أن هذه المقاربة المؤسسية الإجرائية لليبرالية لم تنجح في تجنيب المجتمعات الأوروبية خطرَ النزعات الفاشية والنازية ما بين الحربين، كما أنها في بعض الأحيان مهّدت الطريق للأنظمة الاستبدادية الاشتراكية، وهي اليوم المسؤولة عن أشكال الليبراليات الشعبوية التسلطية التي تتزايد في الديمقراطيات الغربية. وفي هذا السياق، ينتقد شرنيس الرؤية الاقتصادوية الضيقة للحرية الإنسانية، أي النظر إلى الإنسان من حيث هو مجرد ذات منتجة ومستهلكة دون اعتبار المقومات الأخلاقية للسلوك البشري.

وفي مقابل هذه الليبرالية «القاسية»، يدعو شرنيس إلى إعادة الاعتبار لليبرالية السلوكية أو القيمية، التي يرصدها لدى مفكرين أربعة، هم الروائي والأديب الفرنسي ألبير كامو وعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ريمون أرون والفيلسوف البريطاني أشعيا برلين وعالم اللاهوت الأميركي رينهولد نيبوهر. ما يجمع هذه الوجوه الأربعة التي عاشت في النصف الثاني من القرن العشرين هو التأكيد على الأبعاد الأخلاقية والقيمية في الواقع الاجتماعي الحي، ضمن سياق ليبرالي تُحترم فيه حريةُ الإنسان وحقوقُه الأساسية.

التركيز هنا ليس على المؤسسات الصورية المجردة، وإنما على نمط العيش الملموس، من خلال مجموعة من القيم الأساسية التي هي الأسس المعيارية لليبرالية العادلة من إيثار وانفتاح وتسامح وصبر وشجاعة وتواضع وحس نقدي. وإذا كان عالم الاجتماع الألماني المعروف ماكس فيبر سباقاً في التنبيه إلى علاقة الليبرالية بالقيم الدينية للمذهب الإصلاحي المسيحي، فإن الفكر الليبرالي في أساسه أهمل هذه الأبعاد الأخلاقية من منظور اقتصادي قانوني صرف للنظام الاجتماعي.

وهكذا نلمس لدى شرنيس نهج «أشعيا برلين» في نقد ليبرالية عصر الأنوار في اكتفائها بالمفهوم السلبي للحرية، بما يفضي إلى تبرير وتسويغ أخطر نزعات الاستبداد والتحكم باسم التعاقد الاجتماعي السيادي المطلق، بينما يغيب المفهوم الإيجابي للحرية المرتبط بقيم المسؤولية والتضامن.

ومن اللاهوتي الأميركي «نيبوهر» في نزعته المسيحية الواقعية، يستمد شرنيس فكرةَ الديمقراطية الملتزمة التي لا تكتفي باحترام الشكليات المؤسسية وإنما تكرسها للقيم الإنسانية، حتى لو كان من الضروري تنزيل هذه القيم في هياكل منظمة صارمة بدل تركها للنيات والدوافع الأخلاقية الفردية.

لا مناص من الاعتراف مع شرنيس بأن الفكرة الليبرالية التي كان يُعتقد بأنها ستسود في العالَم كله بعد نهاية الحرب الباردة، تعاني اليوم من مصاعب وإشكالات عميقة حتى في مجالها الأصلي في الغرب. كما يبدو من البديهي أن الرهانات الأخلاقية تعود بقوة في أيامنا هذه، نتيجةً لعاملين أساسيين: انحسار المدونة القيمية المرتبطة تاريخياً بالتراث الديني، وانهيار الأيديولوجيات الكبرى التي عوّضت في العصور الحديثة هذه التقاليد الأخلاقية.

إن ذلك الوضع المزدوج هو الذي يفسر اليوم الصدام المتزايد داخل المنظومة الليبرالية بين نزعة محافظة تحاول ترميم التقليد الديني والاجتماعي من منظور خطاب الهوية القومية والحضارية، ونزعة أممية تسعى لإعادة تصور المواطنة والحقوق الإنسانية ضمن إطار العولمة والمجتمع الكوني المفتوح.

وحاصل الأمر أن الأحزاب الليبرالية التقليدية في الديمقراطيات الغربية قد انهارت كلياً، وما نعيشه راهناً هو التأرجح بين خيار الديمقراطيات غير الليبرالية (حسب عبارة الزعيم المجري فيكتور أوربان) وخيار اليسار الليبرالي الجديد في تشكلاته المتنوعة المتغيرة. ومن هنا ضرورة إعادة التفكير في الأسس المعيارية والقيمية للمنظومة الليبرالية في ما وراء محدداتها الإجرائية والتنظيمية التي لا خلاف حولها ولا بديل عنها.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن الاتحاد الاماراتية في: 4 ديسمبر 2022 23:30

 

في منتصف القرن الـ20 راجت بقوة «أحاديث النهايات»، مثل نهاية الفلسفة، ونهاية الجغرافيا، وصولاً إلى أطروحة فوكوياما عن «نهاية التاريخ». لم تكن أطروحة نهاية الفلسفة تعني «بالخط العريض» انتهاء معناها، وإنما كانت تمهيداً لإعلان إعادة تشكّل الفلسفة بأنماطٍ جديدة وطرق فريدة. أخذت الفلسفة خطوطاً أخرى في تدخلها وفضولها وتجسسها على المجالات الأخرى، وبفضلٍ من طفرات مفهومية فجّرتها البنيوية وما بعدها استطاعت أن تتدخّل في مجالات «أنثروبولوجية» متجاوزة التحديدات الميتافيزيقية التي كادت تحصر بها، ومنهية الموضات والصرعات التي طرأت مثل «الوضعية المنطقية». دخلت الفلسفة في «المطبخ - السينما - الأزياء - الموسيقى - الكليبات»، كان هذا التدخّل الصارخ بمثابة إعلان بدء حقبة جديدة من علاقة الفلسفة بالبشرية. لم تكن فكرة نهاية الفلسفة إلا إعلان بدئها... كسرت الفلسفة جُدُر التقليد، لتجعل من أطرافه شلالاً لها، لم تسلم من مدّها وجزرها الأرجاء.

كان من اللافت دخول الفلسفة على السينما بأسماء فلاسفة كبار...، وعلى رغم عمر السينما القصير، الذي لا يتجاوز 100 عام، ظلت بمنأى عن درس معناها وتمظهراتها وتمدداتها في مجالات التفكير والحياة. وإذا كانت الفلسفة لم تستوعب بعد بشكل عام هذا الفن بالشكل نفسه الذي استوعبت به الفنون الأخرى، كالموسيقى والفن التشكيلي، فإن الفلسفة الحديثة نشطت على مستويات متفاوتة في رصد هذا الفن واللحاق بآثاره درساً وتحليلاً، هذا مع سبق برغسون وجيل دلوز لميشيل فوكو في استيعاب هذا الفن المدهش، ووجود تحليلات سريعة من فاتيمو وجاك دريدا، لكنها لا تصل إلى عمق اشتغال الفرنسي جيل دلوز.

لم يكن الانشغال الفلسفي بالسينما ذا هدف «سينمائي»، وإنما جاء كعمل فلسفي داخل «المفاهيم»، فهو يعمل داخل الصورة التي تنتج مفاهيم جديدة، وهو صلب تنظير جيل دلوز الفلسفي، الذي اعتبر الفلسفة كلها «تشكلات المفاهيم»، كما اعتبر الفيلسوف «صديق المفاهيم»، وتلك المفاهيم التي تنتجها السينما لا توجد بشكل مباشر، وإنما «ينحتها الملاحظ»، إذ يستقل الفيلسوف عن العمل السينمائي ليصبح «شغّيلاً» داخل المفاهيم التي يستخلصها من شريط طويل من المشاهد والصور، ولهذا يقول جيل دلوز: «المفاهيم التي تلحق بخصوصية السينما هي من أمر الفلسفة».

في يونيو (حزيران) 2012، ترجَم إبراهيم العريس كتاب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، الذي عنونه بـ«نجوم السينما»، وفيه مراجعة لمعنى النجم السينمائي ولشرط صناعته، كما يشرح العوامل «السيكولوجية» و«السوسيولوجية» التي تحدد هذه العلاقة، وبذل العريس جهداً واضحاً في ترجمة هذا العمل الذي أصبح كلاسيكياً في هذا المجال، وحين يكتب الفيلسوف عن «النجم السينمائي» إنما يعبّر عن تحوّل دور الفلسفة من جهة، ويعبّر عن اكتساح تاريخي للسينما التي باتت غذاءً يومياً للبشرية.

في الكتاب يتساءل عن خفوت اسم المخرج على حساب اسم النجم، فهو يرى أن «السينما فقط هي التي اخترعت النجم وسلّطت الضوء عليه، وفي هذا المجال تناقضٌ أوّلي، فالنجم يبدو متمركزاً في الفلك الشمسي للسينما».

من المثير للشغف هذا التداخل بين السينما والفلسفة، إذ للأصدقاء عبارة مغرية تحضّ على مشاهدة الفيلم حين يوصف بأنه «فيلم فلسفي»، وبطبيعة الحال ثمة مخرجون سينمائيون لديهم أعمال فلسفية، منهم مثلاً المخرج الأميركي من أصل لبناني ترينس مالك، الذي أخرج فيلم «شجرة الحياة - The Tree Of Life»، فهو حاصل على درجة في الفلسفة من جامعة هارفارد للتكنولوجيا، وله أطروحات وترجمات عن هيدغر.

الفلسفة تتغذى على المجالات الحيّة، فهي ليست مرتبطة بدرس مجال واحد. الفلسفة آلية وفضاء، وليست موضوعاً. الفلسفة ليست فكرة أو تياراً، إنها أداة سبر أغوار، وتمنح قارئها ترسانة من أدوات التدخل، ومعاول التجسس، وديناميت النقد، الفلسفة لم تنتهِ، وإنما تبدأ، وتبدأ... إلى ما لا نهاية.

مع كل حالٍ من الخراب يجترحها الإنسان تعود الأسئلة إلى فضاء الفلسفة بحثاً عن التعليل لكل هذا التوحش وإرادة التخريب. كان نيتشه حاضراً في حروبٍ خاضتْها بلده ورأى الدماء والأشلاء كما رأى القوة والبطش، من عمق ذلك الحدث صاغ نظريته في إرادة القوة وإدانة الضعف ومحاكمة الأديان المحرّضة على التسامح والصمت، لهذا نجده في كتابه «عدو المسيح» ينتقد المسيحية والبوذية بحدّة، بينما يمتدح الإسلام لما فيه من فضاءٍ للقوة ومن مدح القتال في مواضعه اللازمة. وحين نشبت الحرب الأهلية الإنجليزية، كتب توماس هوبز نظريته في الدولة التي بناها على أصالة الشر في الإنسان.

وفي العصر الحديث، تساءل الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس عن قيمة الفلسفة في معضلات الإنسان. وحين ضرب تنظيم «القاعدة» أميركا في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أُجري مع هابرماس لقاء صحافي، قال فيه إن هذه الصدمة جعلته يدرك مستويات التفاؤل في نظريته الشهيرة في «التواصل».

مع كل هذه الأحداث التي تشاهد حالياً، واستمراء حالات القتل وبرك الدم، سواء في سوريا، التي يمارس فيها النظام قتلاً، ذكّر البشرية بما مارسه هتلر ضد اليهود، يعاد السؤال نفسه... سؤال الإنسان. قبل أيام، صدر كتاب للمفكر اللبناني علي حرب، بعنوان «لعبة المعنى - فصول في نقد الإنسان». جاء كتابه في سياق إدانة أفعال الإنسان تجاه الإنسان، إذ يكتب: «نحنُ الوحيدون الذين نلوّث الطبيعة ونُفسد في الأرض ونسفك الدماء، جُرحت كبرياؤنا وقامت قيامتنا عندما تجرأ أحدنا على القول إن القرد هو سلفنا، بل من أبناء عمومتنا، مع أن جماعة القردة أقل عدوانية من جماعة الناس، إن لم نقل أكثر مسالمة... نحنُ من صنفٍ يستهويه الملك قبل الدعوة، ويستوطن الخلق لا الحق، نحن من نوعٍ لا يتخلى عن الدنيا إلا إذا وُعد بالفردوس، ولا يزهد بالشيء إلا من فرط الرغبة فيه».

يأتي نقد علي حرب هذا شبيهاً بالنقد الذي وجّهه فلاسفة أوروبا ضد ممارسات الإنسان في بحر سني الحروب الأهلية والحربين العالميتين، وعلى الأخص في القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20.

نادى هوسرل الفلاسفة في القرن الـ19 أن العبوا دور «موظّفي الإنسانية» من خلال البدء بـ«ممارسة تهدف إلى تربية الإنسانية انطلاقاً من معايير الحقيقة بكل أشكالها»، ليأتي هابرماس بعده في كتابه «الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي»، قائلاً: «إن الفكر الفلسفي لا يرى نفسه في مواجهة ما يضعه أمامه الوعي التكنوقراطي من عوائق فقط، بل أيضاً في مواجهة أفول الوعي الديني. إننا نشهد داخل المجتمعات الصناعية المتقدمة للمرة الأولى فقدان الأمل بالخلاص والنعمة».

تأتي ورطة الإنسان بذاته أو وجوده، وورطته بمجموع علاقاته، لتجعله سجين أسئلة متناسلة من الصعب إيقاف طفراتها. وحين شاهد هوبز «الفلتان» في شوارع مدينته أعاد النظر في مفهوم الشعب نفسه ليجعل من الحاكم واحداً تفرّغت فيه إرادة المجموع، بل رأى «أنه بما أن الجسم السياسي خيالي، فإن إرادته وقدراته هي أيضاً خياليّة». أراد هوبز أن يفرّغ الفرد سلطته بيد الحاكم، لأن السلطة حين تتوزّع في جموع الناس يأتي الخطر، هكذا فكّر هوبز. بقيت أسئلة فشل الإنسان في بناء عالم قائم على التواصل والتحاور، أو على التجاور والتفاهم، وأصبحت القوة هي البديلة. لم يكن نشدان «السلام الدائم» لدى كانط إلا الرضا الذي يأتي بعد أن يبلغ السأم منتهاه. وجوه الخراب هذه ستبقى ما بقيت القوّة والسلطة والسيطرة والهيمنة، ولعل جنون «النووي» وبقاء سلطة الحرب قائمان ضمن خصائص الإنسان نفسه، ولا تسأل عن تلوّث الطبيعة وخيانة الأرض.

***

فهد سليمان الشقيران

كاتب وباحث سعودي

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية: السبت - 24 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 19 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16062]

 

سمعت متأخراً مقابلة المديفر في برنامجه مع خالد العضّاض وهو يروي وقائع تجربته مع السرورية، أحد تيارات الصحويات. وما كنت أعرف الكثير من التفاصيل المفزعة والتي لا تعليل لها إلاّ ظهور وجوهٍ من الوعي في أوساط المتعلمين المتدينين شكَّلت انشقاقاتٍ في التفكير والتصرف أضرّت بالدين والمجتمعات والدول الوطنية.

لقد انقضت تلك التجارب المؤسِّسة أو كادت بعد سقوط الاستيلاء الأصولي خلال ما صار يُعرف بالربيع العربي. بيد أنّ الدراسات خارج المجالين العربي والإسلامي انصبّت في السنوات الأخيرة على التأثيرات المتبادلة بين الصحويات والدول الديمقراطية والعلمانية. وهي ظواهر ذات شقين: يتعلق الأول باستعانة السياسيين في دول مثل أميركا والهند بالتيارات الدينية في الانتخابات، والشق الثاني سياسات الكثير من الدول تجاه الصحويات والإحيائيات في بلداننا بحجة الحريات الدينية والسياسية وأحياناً من دون حجة غير الضغط على إدارات الدول لبلوغ أهداف معينة في سياسات تصريف الموارد والسياسات الخارجية.

في هذا المجال كنت أعتمد في العروض الاستراتيجية وسياسات الدين على كتاب سكوت هيبارد «الدول العلمانية وسياسات الدين» 2007. وهو يدرس التأثيرات المتبادلة بين الأحزاب السياسية والصحويات الإنجيلية والهندوسية في الولايات المتحدة والهند. وهو يذهب إلى أنه ما كانت للسياسات الحزبية أدوارٌ في صعود الأصوليات في القرن الماضي وأمام تصاعد التنافس الحزبي مضت الأحزاب باتجاه كسب أصوات المتدينين الانشقاقيين أو الجدد. وقد كسب كارتر أصوات الكنائس البروتستانتية الكبرى، أما ريغان ومن بعده من الجمهوريين فقد كسبوا أصوات أولئك الجدد. وهو الأمر الذي حصل مثله في الهند في التنافس بين حزب المؤتمر وحزب «بهاراتيا جاناتا» -مع أنّ قيادة حزب المؤتمر صارت منذ الثمانينات تحسب حساباً للصعود الديني- القومي في أوساط الأكثرية الهندوسية الدينية.

وبين يدينا الآن دراسات كثيرة أهمها لبوتنام ولوكا أوزانو وأنزو باتشي. وهي تعتمد الإحصاء لجهتين: جهة زيادة عدد المتدينين، وجهة تسييس المتدينين وتحزُّبهم لطرفٍ أو أطراف معينة. أما بالنسبة لتدخل السياسات في نصرة هذا التيار أو ذاك في بلداننا فيستخدم الباحثون الاستطلاعات التي تعتمد تصريحات الدبلوماسيين وتحركاتهم ونشاطات جماعات المجتمع المدني، والاستشكال في مسائل الحريات الدينية والمدنية.

لماذا الاهتمام الآن بهذه الظواهر؟ بسبب استمرار ظهور الديني وتأثيره في السياسي، وبسبب اندلاع الشعبويات الواقعة بين الديني والقومي، وبسبب السيولة القابلة لكل تأثير في بلدان العالمين العربي والإسلامي.

لوكا أوزانو في كتابه «أقنعة الدين السياسية... الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة» يدرس ظواهر التبادل في التأثير في الهند وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهو يرى بعد طول تأمل أنّ تحولاً حصل بالفعل في الهند أيام رئيس الوزراء الحالي حيث استولى «الديني- القومي» أو «القومي - الديني» على السياسات الداخلية، وصارت الأحزاب الكبرى والمحلية واقعة تحت تأثيره. أما في تركيا فإنّ إردوغان صعد على ظهر المتدينين الجدد وأشباه الإخوان وفتح الله غولن، لكنه صار الآن يتجاوزهم جميعاً بعد أن متّن علاقاته بفقراء الأناضول والفئات الوسطى في المدن، وبدا مصارعاً في الإقليم والمجال الدولي؛ وإن كانت تحليلات أوزانو تقول إنّ شعبياته أكبر من شعبيات حزبه! فإذا بحثنا النهوض الديني في تركيا ندرك أنه صار عادياً بعد أن كان ارتداء غطاء الرأس ثورة هائلة. وإذا كنا نعرف أن إردوغان تلاعب بالإخوان ومعهم ضد مصر، أدركنا أنّ الدولة والنظام السياسي يملك أوراقاً يلعبها بالدين وتجاه الخارج أكثر مما هو تجاه الداخل. في الداخل وبعد أن انتهى زمان الرمزيات، صار لا بد من الاستنصار بسياسات المصالح، والأخرى الوطنية والقومية، وهو في ذلك مثل الأحزاب الأخرى العلمانية، التي لا تتظاهر بالنزوع الديني، فتقع في الإحراج عندما تضطر للتخلي عنه كما وقع لإردوغان مع إسرائيل ومع النظام السوري.

ويتابع لوزانو الأمر في السياسات الإسرائيلية فيجد أنّ الصراع الحزبي الهائل دفع الأقليات الدينية المتطرفة إلى الواجهة بحيث بدت أكثرية توشك أنْ تغيِّر وجه الدولة القومية والعلمانية أكثر من الهند بكثير. ويناقش كلٌّ من لوزانو وبوتنام مشكلات المخرج فيعدّان أنها موجودة بتغيير قانون الانتخاب، وحرمان أعضاء الأحزاب الدينية من الامتيازات؛ إنما مَن السياسي الذين يجرؤ على ذلك ولو كان من العلمانيين؟! ثم إنّ المتدينين الجدد هؤلاء يقتربون بعض الشيء من القوميين بخلاف السابق. وكلا الفريقين يجد عدوه في العرب وراء الخط الأخضر وأمامه، وعددهم يصل إلى عدد اليهود وأكثر إذا عددناهما معاً وهو التوجه الخطر الذي يسير نحوه الإسرائيليون المتطرفون.

أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فإنّ أحزاب الإسلام السياسي إلى تراجع، وآخرها ما حصل لحركة «النهضة» في تونس. لقد حظيت تلك الأحزاب؛ من ليبيا إلى المغرب وتونس والجزائر بفرص واسعة، لكنها فشلت في الإفادة منها. ولذلك فهي تتجه إلى الخفوت. والحالة الأوضح في هذا المجال حالة المغرب، حيث حكم الإسلاميون عشرة أعوامٍ وأكثر ثم خسروا في الانتخابات خسارة أسطورية.

وتبقى حالات لم يبحثها لوزانو في المجال البوذي في ميانمار وجوارها. لكن في هذه الحالة لا يمكن التمييز بين الدولة والجيش من جهة، وظهور العصبية البوذية بالفعل من الجهة الأخرى.

وتبقى الظاهرة الأميركية للإنجيليين الجدد. وهي ظاهرة تتسم ببعض الثبات منذ تزعُّم بيلي غراهام قبل أربعين عاماً. فميزة النهوضات الإنجيلية أنها تتحول إلى مؤسسات فلا يعود من الممكن التمييز بين أزمنة النهوض والهبوط أو السقوط. وهنا ينبغي التمييز بين الصحويات والشعبويات. فالمحافظون الدينيون أو المتشددون كان دعمهم لترمب متوسطاً. ودعمه التيار الشعبوي الذي التفّ حول شخصيته الكارزمية. والشعبويات غير الدينيات، وإن تقاطعت الأجندات في مثل منع الإجهاض وإلاّ فإنّ المطالب الشعبوية خاصة وانكماشية؛ والمطالب الإنجيلية عمومية وتبشيرية ومسيانية أحياناً. وعلى أي حال فإنّ فوز بايدن يدل عند بوتنام على هدوء موجات التطرف الإنجيلي وإن لم ينتهِ، بل هو ربما يبحث عن بطلٍ جديد!

ما صنعت الدول الديمقراطية الصحويات لكنها أفادت منها. ثم إنّ تلك الصحويات انقلبت عليها في مثل أفغانستان والعراق. أما في المجال العربي والإسلامي فإنّ الدول الوطنية عانت من هياج الصحويات السياسية والجهادية. وقد تصدعت الموجة وتراجعت لكنها لم تنتهِ، ولم تعد تستطيع اعتراض سبيل الدولة الوطنية الناهضة. أما لماذا كان ذلك كلّه؟ فيُعيد أهل الاستطلاعات ذلك إلى «العولمة» التي تشرذم الكبريات وتخترع الهويات الصغيرة والمتشددة. وهو كلام عام لا يبعث على الاقتناع رغم كثرة ظواهر التغيير الديني الهوياتي بالفعل.

***

د. رضوان السيد

عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية – أبوظبي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية: الجمعة - 16 جمادى الأولى 1444 هـ - 09 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16082]

قبل أيام توفي المؤرخ الفرنسي البارز بول فاين أهم مختصي التاريخ الروماني وأحد فلاسفة التاريخ المرموقين. وكنت قد قرأت له في الثمانينيات كتابَه الهام «كيف نكتب التاريخ؟» الذي شكَّل عند صدوره في بداية السبعينيات ثورةً كبرى في الكتابة التاريخية.

لم يسلك فاين في عمله المنحى الماركسي في التطورية التاريخية ولا الطريقة البنيوية في رصد الأنساق والهياكل الثابتة، بل إنه رفض حتى إطلاق صفة العلمية على التاريخ معرفاً إياه بأنه مجرد «رواية حقيقية» (في مقابل الرواية المتخيلة)، والمؤرخ لا يسرد حوادث يكشف فيها عن الماضي بل يبلور «حبكة» تأويلية لربط التحولات والجزئيات في ما بينها وتفسيرها لاحقاً. كان فاين من أقرب الناس للفيلسوف الأشهر ميشال فوكو وقد كتب عنه دراسة عميقة بعنوان «فوكو يحدِث ثورةً في التاريخ» قبل أن يكتب عنه بعد وفاته كتاباً طريفاً تناول فيه جوانبَ أساسية من حياته وفكره.

ليست هذه الجوانب من شخصية واهتمامات فاين التي تشغلنا هنا، وإنما أردنا الوقوف على النموذج الذي كان آخر تجلياته في الفكر الأوروبي، أي المثقف التاريخاني. ولا نعني بالتاريخاني أتباع المدرسة التي تؤمن بالتطور الغائي للتاريخ عبر سردية التقدم الإنساني. وبهذا المعنى كان فاين بعيداً عن التاريخانية التي يستبدلها بنزعة شكية تهكمية عُرف بها لدى قرائه.

ما تعنيه التاريخانية هو ما كشف عنه فوكو في نص شهير حول مقولة «التنوير» التي نشرها كانط في صحيفة ألمانية سنة 1784 من كون التنوير بداية تحول نوعي في الممارسة الفلسفية التي أصبحت تنحصر في قراءة الحاضر والتأمل فيه، أي بعبارته «التأريخ للحاضر» والتفكير في الراهن. لقد اقتحم الفلاسفةُ المعاصرون في أغلبهم حقلَ التاريخ، وأصبح التاريخ لدى الكثيرين هو السياق الجديد للنظر والتفكير في الوضع الإنساني فهماً وممارسةً. لا يحتاج الأمر إلى بيان في الساحة الغربية، والسؤال مطروح بالنسبة للخطاب العربي المعاصر.

وقد لا نجازف بالقول إن المفكر المغربي عبد الله العروي هو المثال الأبرز للمثقف التاريخاني في الساحة العربية، ليس لكونه اهتمَّ بالمسألة التاريخية نظراً وممارسةً من حيث هو مؤرخ بارز ومفكر مقتدر، بل لكونه اتخذ من التاريخية أفقاً للتفكير في مسائل الهوية والتحديث والنهوض التي شغلت غيرَه من المفكرين العرب. منذ كتابه الأول الأساسي «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» (1967) يطرح العروي مفهوم «التاريخانية» منهجاً للفهم والتصور من منظور النقد الموضوعي وبديلاً عملياً لمفاهيم ملتبسة في الوعي الجماعي العربي مقابل الحداثة المختزلة في التقانة والإصلاح المؤسسي الإداري. والتاريخانيةُ تعني بالنسبة له الانخراط في مشروع نقدي ثقافي ومجتمعي واسع يعيد بناء الوقع العربي جذرياً.

ومن هنا لم تكن الكتابة التاريخية بالنسبة للعروي، المتشبع بالفلسفة والعلوم السياسية والتراث العربي الإسلامي، نمطاً من التخصص الأكاديمي والحرفية المهنية، فالمؤرخون وإن استفادوا بصفة واسعة من كتاباته التاريخية يرونه بالأساس فيلسوفاً ومفكراً وليس مجرد باحث راو أو موثِّق.

صحيح أن مسألة «التقدم» استأثرت باهتمام مفكري الإصلاح منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهي في عمقها إشكالية تاريخية وإن تم اختزالُها في مفهوم «التمدن» الذي يعني إعادة بناء وتحديث المؤسسات البيروقراطية والعسكرية للدولة. ومع بوادر تشكل الفكر القومي العربي في منتصف القرن الماضي، برزت الإشكالية التاريخية من منظور الوعي القومي بالهوية الحضارية التي تستند على التاريخ محوراً من أهم مقومات الذاتية الخصوصية القومية.

نلمس هذا التوجه بقوة في أعمال ساطع الحصري الذي أعاد قراءة واستخدام شيخ المؤرخين العرب ابن خلدون، كما نلمسه لدى قسطنطين زريق في كتابه الهام «نحن والتاريخ» الصادر في نهاية الخمسينيات.

لقد تركزت مقاربة زريق على ثنائية «التاريخ العبء» و«التاريخ الحافز» التي تفضي إلى فلسفة قومية للتاريخ بنفَس مستقبلي ملتزم. ولقد عرف الخطاب العربي في العقود الأخيرة نمطاً آخر من المثقفين التاريخانيين اهتموا بتاريخ الأفكار في إطار «المسألة التراثية»، إلا أن المنهج الذي غلب على أعمالهم تراوح بين تحليل الخطاب على الطريقة البنيوية والتحليل الأيديولوجي الذي يرصد المحددات السياقية المجتمعية.

لا يتعلق الأمر إذن في الحالتين بالتفكير في التاريخ ذاته ومن داخل حقله المفهومي، وفق المقاربة الجديدة للعلوم الإنسانية التي اعتبر لويس التوسير أنها تدور كلها في فلك «قارة التاريخ» التي تماثل في الأهمية الابستمولوجية قارتي الرياضيات والفيزياء. هكذا نخلص إلى أن التاريخ وإن شكل حقل اهتمام أساسي لدى المثقفين العرب، إلا أن الساحة العربية لم تعرف إلا قليلاً المثقف التاريخاني الذي هو فيلسوف الحاضر ومفكر اللحظة الراهنة.

***

د. السيد ولد أباه.. أكاديمي موريتاني

.................

عن صحيفة الاتحاد الإمارتية، 9 أكتوبر 2022

هل انتشر الإسلام بالسيف؟ هذا سؤال إشكالي، فضلا عن كونه سؤالا محرجا؛ إذ يجد المتأسلمون عنتاً شديدا في مقاربته، لأجل التناقض الحاصل بين افتخارهم القومي أو الديني الكبير بالغزوات التوسعيّة (أو الفتوحات) التي أسّست الإمبراطوريات الإسلامية في القديم.

وبين تأكيدهم المستمر على معقولية الدين الإسلامي، تلك المعقولية التي يفترض أنها تستقطب طوعا، دون عنف من أي نوع، أبناءَ الشعوب المفتوحة إلى الإسلام.

ويبقى، وسيبقى، السؤال حاضرا: هل انتصر الإسلام بالسيف؟

والجواب باختصار: نعم؛ ولا.  

وبالتفصيل أقول: من حيث كون الإسلام فُرِضَ على الناس فردا فردا، هذا لم يحدث كسياسة عامة، بل على العكس، كانت السياسة الأموية تنزعج من دخول الناس في الإسلام، لأن الجزية (أحد مصادر الدخل الرئيسة للدولة) ستسقط عن المسلمين الجدد.

ولهذا اختارت هذه الدولة القومية خيارا غير إسلامي (أي غير شرعي من وجهة النظر الدينية الخالصة)، وهو بقاء الجزية على الداخلين في الإسلام؛ بدعوى أنهم إنما دخلوا في الإسلام للهروب من الجزية تحديدا، وليس رغبة أصيلة في الإسلام.

هذا من حيث الإكراه العيني أو الفردي على دخول الإسلام بالقوة الخشنة. أما من حيث "الإكراه الناعم"، أي أن الإسلام انتشر تحت ظلال السيوف، وعلى إيقاع السيوف، وأنه لولا السيوف وتوابعها، لاختلف تاريخ الإسلام، فنعم، حددت القوة معالم التاريخ والجغرافيا في الإسلام.

لقد كان ثمة "إكراه ناعم"، وربما "غير مقصود بشكل مباشر" على الدخول في الإسلام. وأقصد هنا أن الدخول في الإسلام، في سياق الاستغلال اللإّنساني من قبل الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى، الأموية والعباسية والعثمانية، كان أحد مجالات الهروب الجزئي من هذا الاستغلال، وما يُرَافقه من قمع وقهر وإذلال.

تحكي الوقائع الصلبة على امتداد التاريخ الإسلامي أن الإنسان، المسلم وغير المسلم، كان مَسحوقا مقموعا منتهكا إلى أبعد الحدود. ولكن كونه مسلما بدا وكأنه يرفع عن "شيء" من هذا الظلم العام.

وهذا "الشيء الاستثنائي" الذي يعكس تسامحا نِسبيا ومحدودا، هو الذي سيصبح مطمع المُسْتَعْمَرِين من شعوب الأقطار المفتوحة بجيوش المسلمين، وهو ما سيدفعهم إلى الإسلام لإحداث تحوّل إيجابي نسبي في الموقع الاجتماعي.

وهنا يأتي السؤال الآخر: لماذا لا يقرأ الباحثون أو المؤلفون المسلمون تاريخهم على هذا النحو من الصراحة، وعلى هذا المستوى من الحياد العلمي البارد، حتى يفهموا أنفسهم أكثر فأكثر، بفهم تاريخهم على نحو أعمق وأصدق؟ لماذا يتعمدون عند البحث أو الكتابة سياسة التجميل والتبجيل، وكأنهم في محاورة شعرية تفاخرية تجد مشروعيتها في تكييف المُتَخيّل؛ لا في تحليل الوقائع !

في تقديري أن الأسباب كثيرة، ولكن أهمها ثلاثة أسباب:

أولا، ضعف شديد في الرؤية العلمية العامة للعلم في العالمين: العربي والإسلامي، إذ أن مفهوم "العلم" لا يزال غائما، بقدر ما هو مستوعب في التوجهات الخاصة اللاَّعلمية: الدينية والقومية...إلخ دوافع التحيّز ومحدداته التي تحيد بالباحث عن المسار الموضوعي للعلوم.

ثانيا، القداسة الدينية العقائدية التي يُضْفيها المسلمون على أشخاصٍ وقائع وأزْمِنةٍ لا يُمْكِن قراءة التاريخ قراءة موضوعية قبل نزع القداسة عنها. وهنا، ضرورة حَلْحَلَة العقائد المُسْبَقة التي تفرض نتائجها على البحث التاريخي قبل أن يبدأ، فلا يصبح البحث إلا تأكيدا وتأييدا لتلك العقائد، ولو بلي أعناق النصوص، وتقطيع أوصال الوثائق، ونسف قواعد المنطق.  

ثالثا، التوجّه العربي أو الإسلامي يتغيّا البحث عن خلاص لا يبدو أنه يلوح في الأفق أصلا. لهذا، فكل فرد، ومنهم الباحثون والمؤلفون فضلا عن غيرهم من عموم الناس، يبحث عن التماسك في الراهن من خلال مُتَخيّل مصطنع عن الذات، مُتخيّل يجد مشروعيته في مُتَخيّل التاريخ، إذ لا يستطيع البحث عن الخلاص التماسكَ من خلال الانشداد، وَعْياً، إلى معطيات الواقع المتهالك المتداعي.

إن الفرد هنا، ومن ورائه الوعي الجمعي، يتشبّث بالتاريخ بصورة متخيلة أو منتقاة أو مزيفة من التاريخ، لإمكانية تغذية التاريخ المتخيل بالأوهام. بينما الواقع بصلادته، بحدية وقائعه، بمباشريته المحرجة بصراحتها، لا يمكن القفز عليه، ولا التلاعب بإعداداته بسهولة، كما يحدث في واقع منصرم أو غائب لم يبق منه سوى نصوصه القابلة للتزييف وللتحريف وللتأويل الذي ينطق بمراد القارئ، لا بمراد النصوص. 

بهذا يصبح التاريخ هو الحديقة الخلفية لهؤلاء البائسين الذين يلجؤون إليه في كل محاولات الهروب من الواقع، بغية الاستمتاع بلحظات جميلة من لحظات غياب الوعي المتعمّد، حيث تستمتع الذات بأوهامها عن تاريخها، أي عن ذاتها، كيلا تُوَاجه حقائق ذاتها أو واقِعها بمواجهتها لحقائق التاريخ. 

***

محمد المحمود

عن الحرة في: 31 أكتوبر 2022

 

انتصار الثورة الإسلامية في إيران، في عام 1979، حدثٌ مفصلي في الشرق الأوسط، وهو رغم أهميته في ذلك الوقت على أكثر من صعيد، إلا أن خطاب الزعيم الروحي للثورة آية الله الموسوي الخميني، لم يُقرأ بشكل نقداني علمي في كثير من الكتابات المنشورة عربياً، رغم أنها ليست بالقليلة، حيث يمكن القول إن رهطاً من أربابها وقعوا بين ثنائيتين: التقديس والتدنيس. أي أن "الخمينية" كظاهرة دينية – سياسية، وما أفرزته من تمظهرات في الخطاب والحياة اليومية، بقيت إما محل تبجيل مفرط إلى حد "العصمة" لدى المغالين في حُبها، أو شيطنة مطلقة لدى مبغضيها، وكلا الفريقين بعيدان عن الاشتغال العلمي الهادئ، الذي يسعى لرصد الظاهرة أولاً، وفهمها ثانياً، وتفكيكها ثالثاً، ليحللها تالياً وتقديم قراءة لما فيها من عناصر قوة وضعفٍ، ومن ثم استنتاج رؤية بصيرة لكيفية التعامل معها ونقدها والتحرر منها.

من هنا، فإن "الخمينية السياسية" التي تُعتبر الرافعة الرئيسة حالياً لتيارات "الإسلام السياسي الشيعي"، هي ظاهرة مركبة، معقدة، يتداخل فيها الديني بالسياسي والأمني والاقتصادي، وفيها من حمولاتِ التأريخ الماضي وصراعاته المذهبية الشيء الكثير!

المدائح والشتائم، الحب والبغض، ثنائيات لا تصلح لبناء وعيٍ موضوعي، بل تقود نحو مزيد من التخندق والتحزب والعواطف الجياشة التي تحجب العقلانية في التحليل.

 الكاتب محمد الحرز، نشرَ مقالاً في صحيفة "اليوم" السعودية، بعنوان "الخمينية من تقديس الخطاب إلى تقديس الشخص"، في 9 أيلول (سبتمبر) 2022؛ رأى فيه أن "الخمينية" تمكنت من أن "تنزع قدسية الخطاب المتصل بالأساس باجتهاد المرجع، الذي يظل اجتهاداً بشرياً في نظر مقلديه، وبالتالي هناك حدود فاصلة بين خطابه وشخصه، وتضع بدلاً منه قدسية الشخص المتماهي مع شخص الإمام نفسه، ومن ثم تصل بهذه القدسية إلى أعلى مراتبها في شخص ولي الفقيه".

من هنا نجد التماهي بين مكانة المرجع وشخصه، وأيضاً شخص المرجع وأدواره، فيما أضافت "ولاية الفقيه العامة" بعداً جديداً أكثر خطورة، وهو أن لهذا الفقيه الذي تتوافر فيه الشروط، صلاحيات أوسع، لا تقتصر على "الأمور الحسبية" المقيدة في كتبِ الفقه، وإنما جعلته مستمداً لتلك المميزات مما كان لدى الإمام "المعصوم" من أدوار يقوم بها، كونه "النائب العام" له، وهو في حالِ غيبة الإمام المهدي بن الحسن، يحظى بجميع صلاحياته كـ"حاكم شرعي"، باستثناء أنه "أولى بالمؤمنين من أنفسهم" وأيضاً "ليس له حق التشريع"، إلا أن له العديد من المميزات التي تصيرهُ عملياً فوق "البشر" العاديين، وتعطيه صلاحيات استثنائية، وتجعله في مكانة "فوق المساءلة". وذلك رغم أن الدستور الإيراني يقول صراحة بوجود رقابة على منصب "المرشد الأعلى"، إلا أنه فعلياً فوق هذه الرقابة، خصوصاً في وجود بعض النظريات التي ترى أن دور "مجلس الخبراء" هو كشف شخص الولي الفقيه للناس وليس انتخابه!

هذه القدسية تمنحُ الولي الفقيه حصانة ومنعة فاقت ما كان يناله مراجع التقليد للمسلمين الشيعة من احترام وإجلال، ليضافَ إلى ذلك القوة السياسية والإعلامية التي عملت على تصوير الجمهورية الإسلامية في إيران، وكأنها الدولة الممهدة لظهور الإمام المهدي، وذهب الموقف في المغالاة أبعد من ذلك، فقد جرت المناداة بـ"الموت" على المختلفين مع الثورة، واصمين إياهم بـ"الأعداء"، كما في الشعار الشهير: الموت لأعداء ولاية الفقيه!

لقد تم إظهار المختلف مع الخميني وكأنه "رادٌ على الله"، لأن الفقيه هنا هو "حجة الله" على خلقه، مستندين في ذلك على الأثر "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم".

الأثر المروي أعلاه، ورغم أنه لا يخص الفقهاء المؤمنين بـ"ولاية الفقيه المطلقة" وحسب، بل يبحثه مختلف علماء الشيعة ويدرسون معانيه، إلا أن "الشيعية السياسية" استفادت منه في توكيد الصلة الوثيقة بين الفقيه والمعصوم، وأن الإمام الغائب يمثلهُ الفقيه العادل الشجاع مبسوط اليد، وهو آية الله الخميني ومن بعده خليفته آية الله علي خامنئي، بنظر أتباع "خط الإمام". فيما التيارات الأخرى تراه متمثلاً في مرجعياتٍ منافسة، حيث ترى "الشيرازية السياسية" أن المرشد في إيران ليس هو القائد الفعلي، وإنما الراحل آية الله محمد الشيرازي، والآن فريق منهم يعتقدون أن السيد محمد تقي المدرسي هو الأحق من بعده.

"التيار الصدري" في العراق، كان يؤمن في أن هذا القائد الذي تجب طاعته هو آية الله محمد صادق الصدر، وحالياً رغم عدم فقاهته فخليفته سياسياً ابنه مقتدى الصدر!

التفرعات أعلاه مهمة، لفهم ماهية "الولاية العامة" والتباينات حولها بين مجاميع "الإسلام السياسي الشيعي"، وهم فرقاء مختلفون، بينهم من التنافس والتنافر الشيء الكثير.

ما سبق يقود إلى أهمية وجود قراءات علمية تحليلة لظاهرة "الخمينية السياسية" وأخواتها، وهذا الجهد لا يمكن أن يقوم به آحادُ الناس، وإنما عبر وجود "بيوت أفكار" و"مراكز دراسات وبحوث" جادة، رصينة، بعيدة من الانحيازات العاطفية والسياسية، تنظم ورش حوارات وورش عمل يشترك بها باحثون أكفاء، لا ينظرون لسطح الظاهرة الدينية وحسب، بل يذهبون نحو دواخلها وما وراءها، وفق مناهج البحث الحديثة، ومن زوايا متعددة؛ وهي المراكز المتخصصة التي تأخر وجودها كثيراً في دول الخليج العربية والشرق الأوسط، وآن لها أن تكون واقعاً.

***

حسن المصطفى

المصدر: النهار العربي

02-10-2022 | 06:10

 

قال إنه ليس مؤسساً لعلم الاجتماع ولا لفلسفة التاريخ

يرى أركون أن ابن خلدون كان يتبنى موقف الانغلاق الأصولي فيما يخص الاعتقاد. فقد كان يدعو إلى الجهاد وإدخال الناس في الاعتقاد «طوعاً أو كرهاً»، حسب تعبيره الحرفي. قد يفاجئ هذا الكلام القراء الذين يعتقدون أن ابن خلدون مفكر تنويري من أعلى طراز! وهذا غير صحيح للأسف الشديد. فهو منغلق على ذاته مثل بقية الأصوليين المتشددين، ويعتقد بأن الأديان الأخرى كلها باطلة، ضلال في ضلال. وهذا مخالف لما جاء في القرآن ذاته، حيث تقول الآية الكريمة: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة، 62). بهذا المعنى فإن كلمة «الديانة الإبراهيمية» ليست خاطئة، وإنما صحيحة تماماً، بل وقرآنية، دون أن يعني ذلك خلط الأديان بعضها بالبعض الآخر، وإحلال ديانة جديدة محلها! هذا مستحيل وغير مستحب وغير ممكن أصلاً. ولكن التقارب بين الأديان الإبراهيمية ممكن بل ومستحب. وقد أمضى محمد أركون حياته كلها في تفكيك الانغلاقات الطائفية الضيقة وتحقيق التقارب والتفاهم بين الأديان الثلاثة بدلاً من التنابذ والعداء على مدار التاريخ. لقد فعل ذلك بكل عبقرية واقتدار ووسع من آفاق الفكر الإسلامي إلى أقصى الحدود. وأصلاً «لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان»، كما قال الفيلسوف اللاهوتي السويسري الشهير هانز كونغ، الذي كان يحترم أركون ويعرف مدى أهميته الفكرية. نضيف بأن قصص أنبياء بني إسرائيل تملأ القرآن كله. اسم موسى ابن عمران ورد أكثر من 130 مرة، وأما اسم إبراهيم الخليل فقد ورد أكثر من ستين مرة. وبالتالي فالإسلام دين إبراهيمي بامتياز. والأرومة واحدة للأديان التوحيدية الثلاثة. هذا شيء مؤكد. وهي بذلك تتمايز كلياً عن أديان الشرق الأقصى كالبوذية والهندوسية... إلخ. في كل الأحوال، فإن القرآن الكريم يعترف صراحة بالتعددية الدينية ومشروعية الأديان الإبراهيمية الأخرى، ولكن ابن خلدون وبقية الأصوليين الانغلاقيين المتزمتين لا يعترفون. فهل كلامهم أهم من القرآن؟ الكلام الإلهي يعلو ولا يُعلى عليه. وبالتالي فمن الخطأ اعتبار ابن خلدون رائداً للفكر الحر، المتنور، المتسامح، في التراث العربي الإسلامي. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. ابن خلدون ليس الفارابي ولا ابن سينا ولا المعري ولا ابن عربي من حيث الانفتاح الفكري على الآخرين. أين هو منهم؟ لا ريب في أن دراساته عن العمران وعلم الاجتماع تستحق التقدير، وكذلك نظرياته عن كيفية نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ولكنه على المستوى الاعتقادي ظل أصولياً انغلاقياً، بل ومعادياً للفلسفة بشكل قاطع. وقد عبر عن ذلك بكل وضوح عندما خصص في «المقدمة» الشهيرة فصلاً كاملاً بعنوان: «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»! وفيه يقول بأن الفارابي وابن سينا كانا ممن «أضلهم الله» لأنهم اتبعوا فلاسفة اليونان. كما ويزعم أن كل ما قالوه أو «ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه». وبالتالي فلا ينبغي أن نبني أوهاماً كبرى حول ابن خلدون. كل هذه الهالة الأسطورية التي نسجت حوله ينبغي تفكيكها دون إهمال بعض اللمعات والإضاءات. ينبغي أن نعرف محدوديته الفكرية فلا نعطيه أكثر من حجمه أو قيمته. ابن خلدون ليس مؤسساً لعلم الاجتماع والآنتربولوجيا! هذا هراء. هذا إسقاط للحاضر على الماضي. ابن خلدون ليس مؤسساً لفلسفة التاريخ. ابن خلدون ليس مونتسكيو ولا هيغل ولا كارل ماركس! كل هذه مبالغات وتهويلات.

ولكن أركون يلاحظ أيضاً أن الأصوليين في الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية كانوا مثل ابن خلدون من حيث الانغلاق والتعصب. فالأصولي المسيحي كان يعتقد جازماً بأن المسيحية هي وحدها الدين الصحيح على وجه الأرض وبقية الأديان خاطئة وغير مقبولة عند الله. وكذلك كان يعتقد الأصولي اليهودي. بعد كل ذلك يتوصل أركون إلى بلورة الفكرة الأساسية التالية: وهي أنه ينبغي التفريق بين عقلية العصور الوسطى/ وعقلية العصور الحديثة. فالأولى كانت تكفيرية إقصائية على عكس الثانية التي كانت متسامحة منفتحة تؤمن بمشروعية التعددية الدينية والاعتقادية، ولا تكفر أحداً بشكل مسبق. ولا تحرم أحداً من نعمة الله أياً تكون ديانته بشرط أن يكون طيباً، خلوقاً، فاعلاً للخير. لهذا السبب نلاحظ مثلاً أن الدولة العلمانية الحديثة في فرنسا تعترف بجميع الأديان قاطبة وتحترمها وتؤمن لأتباعها إمكانية ممارسة صلواتهم وشعائر دينهم كما يشاءون ويشتهون. عدد المساجد في فرنسا أكثر من 2500 مسجد. من يصدق ذلك؟ هذا في حين أن الدولة الأصولية المسيحية السابقة لم تكن تعترف إلا بدين واحد هو المسيحية، بل وحتى داخل المسيحية لم تكن تعترف إلا بمذهب واحد هو المذهب الكاثوليكي البابوي. ولهذا السبب تم اضطهاد المذهب الآخر البروتستانتي على مدار التاريخ حتى انتصار الحداثة التنويرية. هذا هو اللاهوت الأصولي التكفيري الذي هيمن على الاعتقاد طيلة القرون الوسطى.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن المسيحية الأوروبية في نسختها الكاثوليكية البابوية تطورت مؤخراً، وحققت قفزة نوعية بالقياس إلى لاهوت القرون الوسطى التكفيري هذا. فقد جددت لاهوتها القديم وتخلت عن احتكار الحقيقة الإلهية المطلقة لنفسها، واعترفت بمشروعية الأديان الأخرى بما فيها الإسلام: خصمها التاريخي اللدود. كما وتخلت المسيحية الغربية عن مفهوم الحرب المقدسة التي تقابل مفهوم «الجهاد» عندنا، والتي كانت قد أشعلت الحروب الصليبية في الماضي. بل واعترفت بمشروعية وجود «غير المؤمنين» أو بالأحرى غير المتدينين بأي دين. وقالت إذا لم يكن الإيمان نابعاً من الأعماق بشكل حر فلا معنى له. الإيمان لا يفرض فرضاً بالقوة على الناس. وهذا مطابق لما جاء في القرآن الكريم: «لا إكراه في الدين». أو: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». ثم قالت الكنيسة المسيحية إن الإيمان بالله واستحلال العنف وسفك دماء الآخرين لأسباب طائفية أو مذهبية شيئان متضادان لا يجتمعان. الإيمان الذي يقتل أو يخلع المشروعية الإلهية على القتل والذبح ليس إيماناً. كما واعترفت الكنيسة لأول مرة بحرية الضمير والمعتقد. باختصار شديد: لقد تخلت الكنيسة المسيحية عندئذ عن لاهوت التكفير وتبنت لاهوت التنوير وتصالحت مع الحداثة. وقد حصلت هذه الثورة اللاهوتية الكبرى إبان انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني بين عامي 1962 – 1965، ثم ترسخت لاحقاً أكثر فأكثر حتى يومنا هذا. انظروا تصريحات البابا فرانسيس ومواقفه الإنسانية الرائعة. كل هذه الثورة اللاهوتية التحريرية الكبرى التي حصلت في أوروبا على مدار القرنين الماضيين لم تحصل في العالم الإسلامي حتى الآن. وهذا ما يفسر لنا سبب القلاقل والحروب الأهلية والمجازر و«الدواعش»... إلخ. وذلك لأن الثورة التنويرية لم تنتصر عندنا بعد على الفكر الظلامي الراسخ كما حصل في أوروبا. هذه حقيقة أصبحت معروفة للقاصي والداني، للغرب والشرق. هذه حقيقة الحقائق. ولكن ممنوع أن تقولها! ولهذا السبب تعاني شعوبنا ما تعانيه من انقسامات وانفجارات هائلة للعصبيات الطائفية والمذهبية. وهي عصبيات هائجة مشتعلة لا تطفئها مياه دجلة والفرات. المشكلة إذن دينية لاهوتية قبل أن تكون سياسية. وهذه العصبيات المتفجرة هي التي تمنع تشكيل الوحدة الوطنية، بل وتهدد بتقسيم المقسم... إلخ. وفي هذا الجو من الخلخلة والقلق والرعب لم يعد أحد يثق بأحد.

لكن أركون يلاحظ أنه كان يوجد موقف آخر في الساحة العربية الإسلامية مضاد لموقف ابن خلدون الانغلاقي التعصبي. كان يوجد موقف أخلاقي ذو نزعة إنسانية حقيقية هو موقف مسكويه وأبي حيان التوحيدي وأبي الحسن العامري، وكل ذلك الجيل الرائع الذي ترعرع وكتب إبان ذلك القرن العظيم. من هنا عنوان أطروحته الكبرى لدكتوراه الدولة: النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. ونحن ندعو ذلك بالعصر الذهبي الذي انفتح على كل التيارات الفكرية الإبداعية، ولم يعد محصوراً بتيار واحد: أي التيار التقليدي المحافظ المعادي «للعلوم الدخيلة»، أو ما ندعوه الآن «بالغزو الفكري». أما ابن خلدون فقد عاش وكتب في عصر الانحطاط إبان القرن الرابع عشر. من هنا معاداته للفلسفة، أي للفكر العقلاني النقدي.

أخيراً يمكن القول بأن التساؤلات النقدية الجريئة التي كان يطرحها الفارابي والتوحيدي وابن سينا وبقية أقطاب العصر الذهبي على التراث ما عدنا بقادرين على طرحها الآن خوفاً من غضب الشارع الأصولي، الذي يشمل قسماً كبيراً من المثقفين أيضاً! من يستطيع أن يستشهد الآن بأقوال المعري عن «حرية الاعتقاد»، أو بأبيات ابن عربي الخالدة عن «دين الحب»؟ ينظرون إليه شذراً وربما اعتبروه عميلاً أجنبياً. بمعنى أن ما كان ممكناً قبل ألف سنة أصبح مستحيلاً بعد ألف سنة. ما كان ممكناً في القرن العاشر أو الحادي عشر أصبح مستحيلاً في القرن الحادي والعشرين...

***

بقلم: هاشم صالح

.................

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ليوم الثلاثاء - 15 جمادى الآخرة 1443 هـ - 18 يناير 2022 مـ رقم العدد [ 15757]

 

الجمود الفكري والعلمي والاجتهادي أحد أسباب تخلفنا وحتى تنهض أمتنا من جديد لا بد من كسر قيد الجمود. ولكي نتخلّص من الجمود وندخل في التجديد والاجتهاد المطلوب نرى القيام بالخطوات الأربعة الآتيّة:

(الخطوة الأولى): ترك مهاجمة من يترك التقليد:

ليت الجمود يقتصر على نفسه، بل –مع الأسف- يتناول كلّ من تجرّأ واقتحم غمار الاجتهاد، فلا يتلقّى تشجيعاً كما هو المفروض أنه الطبيعيّ والمنطقيّ، بل يُواجه بالاستهزاء والسخريّة والهجوم والاتهام. لا بدّ أن نترك عقليّة الهجوم على كلّ من يخالفنا ونتّهمه في دينه وعقله وانتمائه وولائه، فهذا: (مبهور بالغرب)، وذاك (يحبّ الظهور) لذلك يخالف الرأي السائد (المقرّرات)، والآخر (مشبوه)، وفلان (لم يأخذ عن الراسخين)، وعلّان (غير متخصّص)، و(دع عنك إرضاء اليهود والنصارى)، ودع عنك (الأقوال الشاذّة)، و(مَنْ قال بهذا قبلك؟!)، وهذا (مخالف للجمهور)، وهذا (خَرْقٌ للإجماع)، وذاك (عميل)، وهذا (دَرَس أو درّس أو عاش في الغرب).. مع أنّ كثيراً من رموزهم تنطبق عليه بعض الصفات الماضية، لكنّه لم يخالفهم، فلا مشكلة، أمّا لو خالفتهم فسيرمونك بكلّ تهمة، وسيلبسونك أيّ تهمة تناسبُك.. خالفْهم فقط وسترى العجب.. من قائمةِ التُهَمِ المجهّزة مسبَقاً.

صحيح أنّ الصواب من الجماعة أقرب، لكن هذا ليس بإطلاق، فكم رجّح علماؤنا قولَ عالم بخلاف الجمهور، وكان قوله هو المخلّص والموئِل في كثير من النوازل، فميزان الحقّ ليس بالإحصاء والأغلبيّة، فذاك مجاله بالانتخابات السياسيّة وليس طريقة للترجيح العلميّ! وإلا لكان الترجيح بحسب الأغلبيّة دائماً، وهذا ليس سبيل المحقّقين، نعم يمكن اللجوء للأغلبيّة عند تكافؤ الأدلّة، أمّا عند رجحان الدليل والحجّة على غيره، فندور مع الدليل أينما دار.

أمّا عن إرضاء الآخَر من اليهود والنصارى والغرب والآخرين كلّهم، فهؤلاء (الآخرون) متقدّمون وسعداء ومشغولون بأنفسهم، راضون بواقعهم، وهم ليسوا متآمرين علينا يريدون فَرْضَ حلولهم التي نجحت في مجتمعاتهم، فهم ليسوا حقول تجارب ثم يصدّرون لنا ما نجح عندهم، وهم لا يهتمّون بنا ولا بأفكارنا، إلا بمقدار ما يمسّ مصالحهم، ويؤثّر عليهم، بينما نحن من يذوق ويلات أفكارنا، وجمودنا، ونحن مَنْ تخلّفنا عن فقهائنا وعلمائنا العظام، الذين كانوا يجتهدون ويجدّدون، ويغيّرون أقوالَهم، ويخالفون شيوخَهم، ويتّبعون الحجّة والبرهان من أيّ إناء خرج، فنحن بحاجة للحكمة من أي إناء خرجت.

يجب التعويل على الحجّة والبرهان في نقاش من يجتهد، ولا نترك القول والاجتهاد الذي قدّمه، ونهاجم القائل: هل جمعتَ شروط المجتهد؟ هل حفظتَ كذا؟ هل فعلتَ كذا؟ بدلاً من مهاجمة القائل واتهامه بكلّ نقيصة ناقشْ فكرتَهُ وأدلّتَهُ، اعتبره لم يملك شروط الاجتهاد التي تشترطها، لكنّه استطاع أن يتعب ويأتي بقولٍ ويستدلّ عليه، ويأتي بالحجج والأدلّة، وقدّم وجهة نظره في اجتهاده ذاك، فلنناقش الفكرة ولنترك المتكلّم.

(الخطوة الثانية): نشر ثقافة الاجتهاد والتجديد:

لن نستطيع الإبداع العلميّ، وأن يكون لنا شهود حضاريّ في عصرنا، حتّى نحطّم الأصنام الفكريّة المزيّفة التي نعكفُ عليها، وننشر بدلاً عنها أفكاراً صحيحة، قابلة للتطبيق، ونناضل في نشرها حتّى تضحي مألوفة معروفة، وتأخذ حقّها من التطبيق والانتشار. فالفكرة تأخذ قوّتها من صحّتها وحجّتها وأدلّتها أوّلاً: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) ثمَّ من صلاحيّتها للتطبيق في الواقع ثانياً، ومن مدى انتشارها ثالثاً، فما فائدة فكرة ممتازة غير معروفة؟! ومن تطبيقها عمليّاً رابعاً، وإلا فستبقى فكرة لا أثر لها في أرض الواقع. وآفة العلم الجمود والتحجّر والانغلاق، وكثيراً ما نبني أسواراً عالية ونسجن أنفسنا داخلها، فمن أين يأتي التجديد؟

فإذا كنّا التزمنا بالمدرسة الفكريّة التي نشأنا فيها بحكم الظروف، ولم نخترها بعد دراسة مقارنة، وإذا كنّا لا نقرأ إلا لنفس المدرسة، ولا نسمع إلا لها، ولا نزور إلا رموزَها، ولا نصاحب إلا منها، من أين سنسمع الرأي المخالف أو الحجّة المُغايرة؟! بينما علينا أن نربي (طلّاب علم) باحثين، يتعشّقون الأسئلة الجديدة، ويجِدّون بالبحث والتفكير في حلّها، يتقنون فنّ البحث، وحلّ المشكلات، والحفر المعرفيّ، والإتيان بحلول (من خارج الصندوق) كما يُقال، أي: من خارج المقررات التي يحفظونها، أو من داخل الصندوق، إذا كان ما في الصندوق صالحاً لزماننا، فالمشكلة لا تبرز أصلاً لو كان القول القديم المعروف المنتشر يُنجِد ويُسعِف ويَصلُح، المشكلة تبرز عندما يصبح ما حفظناه يلائم زماناً سابقاً، والواقع قد تغيّر مائة وثمانين درجة!

ويلزمنا أن نضع منهاجاً ينتج بنهايته طالبَ علمٍ مؤهّلاً للاجتهاد بدرجاته المختلفة، وتقف درجة الطالب الاجتهاديّة مكان وقوفه، بحسب قدرته وإرادته وهمّته، بمعايير دقيقة وواضحة، وللإنصاف فقد سبقنا الشيعة الإمامية في هذا الأمر.أمّا أن نربيّ ببغاوات يكرّرون ما حفظوه، فالببغاوات لا يصلحون إلا للعَرْض والتندّر.

وقد قدّم الفاروق عمر رضي الله عنه أعظم نموذج لفقيه يراعي الواقع ويتفاعل معه، ويقدّم المصلحة المعتبَرة شرعاً بما لا يُعارض مقاصد الشرع، فأوقف العمل بعدّة نصوص قرآنيّة، مراعاة للواقع، الذي تبدّل برأيه رضي الله عنه، والحقيقة أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يوقف العمل بالنصّ بالتشهّي بل إنّ شروط العمل بالنصّ لم تعد تتحقّق، والواقع الذي جاء النصّ له قد تبدّل.

ولو كان بعض الجامدين في زمنه لأنكروا عليه ترك العمل بالنصوص! وكثير من فقهائنا رووا أحاديث وخالفوها في اجتهاداتهم، لأنّهم قدّموا نصوصاً أخرى عليها، مراعين مقصد الشارع الحكيم، والمبادئ العامّة التي رسّختها النصوص، فعلوا ذلك كلّه باجتهادهم ورأيهم. كما فعل الإمام مالك رحمه الله في أحاديث رواها في الموطأ ولم يعمل بها، ومثله الإمام محمد صاحب أبي حنيفة الذي روى الموطّأ، وهذا مشهور معروف في كتب الفقه التي تذكر الأدلّة ووجه الاستدلال، حيث يسوقون القول ويذكرون الأدلّة التي أخذوا بها ورجّحوها، كما يذكرون الأدلّة التي خالفوها والردود عليها.

(الخطوة الثالثة): الاستفادة من أطروحات المفكّرين والباحثين المعاصرين:

من المفيد أن ينظر المتخصّصون في الفقه في الاجتهادات المعاصرة الجديدة، وبخاصّة في آراء (المفكّرين) من غير المتخصّصين في الفقه، فهؤلاء المفكّرون أقرب لروح العصر والواقع والعُرف البشريّ، وأكثر انعتاقاً من قولبة وتأطير الاجتهادات القديمة، التي يغلب عليها ثقافة تلك العصور، فليأخذوا من اجتهاداتهم المعاصرة ما يرونه صالحاً، ثمَّ يؤصِّلونه ويذكرونه كاجتهاد معاصر.. فعند المفكّرين منجَم غنيّ من الاجتهادات المعاصرة الممتازة، كثير منها مؤصّل، وبعضها ينقصها التأصيل، فكثير من المفكّرين لا يصبرون على الـتأصيل، وربما بعضُهم لا يتقنه، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يستعين بالشباب من صغار السنّ، يعجبه حِدّة ذكائهم في حلّ المشكلات، فلماذا نزهد نحن بأقوال غير المتخصّصين من الأذكياء وأصحاب الرأي؟!

ومن البدهيّ هنا أن نقول: كلّ من يجتهد يخطئ، فليست كلّ أفكارهم صحيحة بطبيعة الحال. لكن المثقف المتخصّص بتخصّص ما قد يرى آراء فقهية في مجال تخصصه تكون موفقة ومناسبة لروح العصر والدين، أكثر من رأي الفقهاء القدماء، لأن الواقع تغيّر، وظهرت فيه تفاصيل لا يحيط بها عادة إلا الفقيه المعاصر، ومن التوفيق أن المجامع الفقهية تستعين بالمتخصصين في اجتهاداتهم المعاصرة.

(الخطوة الرابعة): نشر الاجتهاد المقاصدي:

هذا لا يعني فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، ليقول في دين الله برأيه وهواه، دون علم وبرهان، لكنْ لو قال مثقّف أو مفكّر -غير متخصّص- رأياً دينيّاً، فعلينا أن ننظر فيه بحياديّة كاملة، ولا نردّه لمجرّد كونه خرج من غير متخصّص، فالعبرة هنا بطريقة الاستدلال والحجّة والبرهان، (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ). نحن ندعو المتخصّصين إلى أن ينفتحوا على كلّ الأقوال والاجتهادات، قديمها وحديثها، ما كان ضمن المذاهب الأربعة، وما كان خارجها، المهمّ أن يكون ممّا نُقل إلينا مع دليله وحجّته، وعندها لا يهمّنا مَنْ القائل؟ بما أنّ القولَ ودليلَه أمامنا، نستطيع تأمّله ووزنه بميزان العلم والحُجّة والبرهان.

فالمطلوب الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وأن يجتهدوا بما يناسب روح العصر، مراعين مقاصد الشارع الحكيم، والقيم العامّة، والمبادئ القطعيّة، فهذا هو لبّ الدين وبه يكون صالحاً لكلّ زمان ومكان. أمّا النصوص التفصيليّة فقد راعت الظروف الخاصّة زماناً ومكاناً وحالاً، فالمهمّ الحفاظ على النسق العام والمقاصد القطعيّة والمبادئ الراسخة، وعدم تضييع المبادئ العامّة لنصّ جزئيّ جاء في حال خاصّة.

هذه خطوات أربع عساها تساهم في طريق التخلّص من الجمود والدخول بالتجديد المنشود، ولعل بعض الباحثين يساهمون في خطوات أخرى حتى تكتمل الرؤية ويتضح المنهج. والله من وراء القصد..

***

د.حذيفة عكاش

د.حذيفة عكاش إعلامي وباحث إسلامي، مدير عام مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام في إسطنبول، دكتوراه في الفقه المقارن. معدّ ومقدّم برامج تلفزيونية، مهتمّ بتجديد الفكر الإسلامي والسياسة الشرعية.

***

حذيفة عكاش – دكتوراه فقه مقارن

باحث إسلامي – مدير مؤسة رؤية

عن مدونات الجزيرة ليوم: 23/1/2019

 

 

كانت كلمة النقد، هي عنوان عقود ثلاثة، لمسيرة طويلة عاشها الفكر العربي. أعمال ضخمة أعطاها علماء كبار، سنوات من جهدهم وأعمارهم. الدكتور محمد عابد الجابري، قضى قرابة العشرين سنة باحثاً في التراث العربي، وقدم مجلدات ثلاثة، تحمل عنواناً رئيساً؛ نقد العقل العربي. «البيان والبرهان والعرفان»؛ محطات وقف عندها الباحث الكبير واعتبرها مكونات العقل العربي عبر القرون.

لم يعتبر الجابري ما أنجزه مشروعاً فكرياً متكاملاً، وإن رآه بعض الباحثين والمفكرين كذلك. تحدث الجابري في محاضرات ألقاها في كثير من البلدان العربية عن ثلاثيته البحثية. أُجريت معه مقابلات إعلامية مكتوبة ومرئية. نال الاهتمام والتبجيل لسنوات، لكن أعماله الضخمة التي انتقد فيها مسارات العقل العربي، كانت محل نقد واسع من باحثين وأساتذة عرب في مشرق الوطن ومغربه. المفكر والمترجم جورج طرابيشي، كان أبرز الناقدين لنقد الجابري. وهب سنوات من عمره لنقد نقد الدكتور محمد عابد الجابري للعقل العربي. ويمكننا القول إن جهد جورج طرابيشي النقدي، كان موسوعة مضافة لأعمال الجابري. قال الجابري: نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. أراد الجابري منذ البداية، أن يكون قارئاً حداثياً للتراث، وليس ممجداً له. اجتهد ليكون موضوعياً محايداً ومقيّماً للتراث. كتب الجابري مستهِلاً عمله: لا يمكن تبني التراث ككل؛ لأنه ينتمي إلى الماضي، ولأن العناصر المكونة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر. وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه. الجابري أستاذ أكاديمي، وسياسي متحزب، وله انتماء أيديولوجي قومي تقدمي، وإن اعتبره بعض الدارسين أن به شيئاً من المحافظة. قد يكون في الأمر بعض مما ذهبوا إليه، فلكل مفكر أو دارس، هدف يتحرك نحوه. الدكتور محمد عابد الجابري، عاش ودرس وكتب في حلقة زمن عربي مأزوم. ولم يغب السؤال الذي حمله المفكرون والمثقفون العرب في رؤوسهم لعقود طويلة، وهو: لماذا يستمر سقوطنا في هوة التخلف، في حين يواصل الآخرون التحليق في فضاءات النهوض والتقدم؟

التخلف ضرب من المرض، ولا شفاء منه إلا بعد تشخيصه، كي يُصار إلى كتابة وصفة الدواء.

التجربة الأوروبية في الانتقال إلى رحاب النهوض والتقدم، كانت ولا تزال حاضرة في حياة الشعوب التي تجاهد من أجل الانعتاق من ربقة التخلف. كان تحرر العقل هو ومضة الانطلاق في أوروبا، وكانت المعركة الكبرى مع قبضة الكنيسة، وكان العقل هو وقود الإقلاع؛ العقل الفاعل في رحاب الحياة بكل جوانبها، وكان نقد العقل هو سماد الخصب في الفكر. إلى اليوم وبعد قرون من تقدم العلم في كل المجالات، لا تزال أوروبا تواصل نقد ذاتها، ومراجعة ما هي فيه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وحتى نفسياً.

الماضي مستنقع مليء بالوحل، مثل ما هو مخزن لما أبدعه الإنسان في مسيرته الطويلة الشاقة. النقد هو الغربال الموضوعي الذي ينتخل من الموروث ما ينفع الناس اليوم، وما هو ثقل لا مندوحة من التحرر منه. لقد اشتبك المفكر والأستاذ الباحث محمد الجابري مع التراث في رحلة طويلة، شكّلت نقلة نوعية في مسيرة الفكر العربي. لسنوات طويلة، كان العرب يكررون استحضار أسماء وإنجاز الأولين في قرون رحلت. هناك من وقف عند إضافات مفكري أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وخاصة في مصر الملكية. كان الاشتباك المستمر مع الموروث الديني، وخاصة ما يفرضه الدين من قيود على الفكر. في أكثر من موقعة، استطاع المحافظون إلجام أصوات التجديد باسم الدين. لا تزال الانتكاسات تتوالد، وصار التكفير والتخوين وتهمة الرِّدة، الرصاص الذي يُطلق على من يحاول إشعال ضوء العقل لإنارة السبيل نحو النهوض والتقدم.

الجابري خاض المعركة التي عاشها من سبقوه، بسلاح نوعي ثقيل جديد. لم يقترب من الموروث اللاهوتي، إلا بقدر محسوب، فلم يُطلَق عليه رصاص الكلام المقدس، بل احتفى بعمله الباحثون والمثقفون والإعلاميون على امتداد الوطن العربي، وإلى اليوم هو حاضر بقوة.

المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي في عمل غير مسبوق، أعطى سنوات طويلة من عمره وجهده لنقد نقد الجابري للعقل العربي. ساق ما اعتبره هنات منهجية ومرجعية لعمل الجابري، بدايةً مما أورده عن «رسائل إخوان الصفا»، والمراجع التي عاد إليها عن أعمال فلاسفة أوروبيين كبار، والتقسيم الجغرافي للموروث المعرفي العربي. جورج طرابيشي قدم بنقده للنقد الجابري، إضافةً تستحق أن نحتفي بها؛ فهي لم تكن هجاء، بل اعتراف بأهمية ما أنجزه الجابري. وهل يهب إنسان قرابة عشرين سنة من عمره، لدراسة وتقييم عمل يسطره في أربعة مجلدات، عاد فيها إلى مئات المراجع، هل يفعل كل ذلك لنقد عمل لا يستحق؟ كان الاشتباك العلمي الموضوعي بين القامتين العربيتين، نموذجاً أسّس لمدرسة في الاختلاف الإيجابي الذي يضيف ولا يخوّن أو يفسّق أو يكفّر. كسب العقل العربي الكثير مما أنجزه الجابري وطرابيشي.

الأستاذ الدكتور محمد أركون، خاض معركة النقد هو الآخر، ووجّه نقده للعقل الإسلامي، في أعمال عديدة، لكن كتابه «نحو نقد العقل الإسلامي»، توجّه مباشرة إلى بيت النار التراثي. لم يكتفِ بالرحيل في رحاب ما كان في الزمن السحيق، بل استحضر ما مضى ليقرأ ما هو معيش اليوم في دنيا المسلمين، وما ينتجه من تقييم الآخرين للإسلام. لأركون منهجه الخاص في دراسة الموروث بحكم تكوينه منذ الطفولة، إلى دراسته في «السوربون» على أساتذة فرنسيين مستشرقين كبار. تسلح أركون بشجاعة بحثية صدمت البعض، ونالته سهام التخوين والانحراف، من الكتائب المسلحة بالخوف من التفكير.

أعمال الجابري وطرابيشي وأركون الكبيرة، تستحق أن تكون محفلاً متجدداً للدراسة والنقاش، تكون موضوعات لرسائل الماجستير والدكتوراه، وأن تدرس في الجامعات العربية؛ فهي تحفز العقول، وتزيل الركام الذي كدسه الماضي في العقول، وفي الطرق المؤدية للتقدم والنهوض.

***

عبد الرحمن شلقم

.....................

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، السبت - 3 جمادى الأولى 1444 هـ - 26 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16069]

 

التحوّل في تيار الشيرازي مؤسّس على منهجية قديمة، لكن جرى تفعيلها في السنوات الأخيرة (أرشيف)

لم تتسنَ لي متابعة كل الردود على مقالة «الشيرازيون و«طقسنة» التشيّع»، رغم الحرص على عدم تجاهل «العلمي» منها، وهو قليل على كل حال، ولعل أهمه كان رد الشيخ عبد العظيم المهتدي من البحرين (وكيل مرجعية الشيرازي)، ومقالة إبراهيم جواد المنشورة في «الأخبار» في 13 كانون الأول 2014 بعنوان «الشيرازيون بين المطرقة والسندان!».

في المبدأ، تمثّل ظاهرة «النقد» علامة حيوية في أية مدرسة فكرية، فيما تواجه المدارس المغلقة التي تحرم أتباعها من ممارسة حقهم في التفكير الحر والمساءلة والنقد خطر الزوال أو العزلة والجمود، والأخطر النزوع نحو التطرّف والعنف... وعليه، فإن النقد حياة الفكر، فلا يتجدد الا به، وإن أولئك الذين استسلموا لوهم «سلامة المعتقد» توقّف بهم الزمن، وتعطّلت الدورة المعرفية في حياتهم، وراحوا يلوكون أفكاراً بالية منفصلة عن سياقها التاريخي والإنساني.

في الشكل، لست منحازاً ضد شخص أو تيار فكري أو سياسي أو حزبي ما، وليس بمقاربة كهذه يمكن لأي فعل نقدي على المستوى الفكري ان يؤتي ثماره. وإن الحديث عن «التيار الشيرازي» ليس عن شخص ولا عائلة ولا جماعة، وإنما هي هوية عرف بها التيار منذ نشأته، فلو اخترنا اسماً آخر لجهله الناس، وفي كل الأحوال لا مشّاحة في الأسماء.

ولإعادة تصويب مواضع الجدال، فإن من الأفكار التأسيسية التي تصلح كمنطلق ومدخل هي: أن التشيّع يمثّل في صيرورته التاريخية ثورة في الاسلام، ليس على قاعدة الانشقاق عن الشريك السنّي، ولكن على قاعدة التكامل في إدارة حركة الإسلام عبر التاريخ. نعم، هناك من أراد تصويره على أنه ثورة على الإسلام، وبذلك «خسر» الاسلام قوة ثورية كانت دائماً تلعب دور الحارس على حركته، تماماً كما هو الدور الذي لعبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب منذ اختار الصحابة غيره لتولي منصب الخلافة... وما مقولات الخليفة عمر بن الخطاب «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن»، و "لولا علي لهلك عمر» الا دليل على محورية الدور الذي لعبه علي في تسديد موقع الخلافة. نذكر على سبيل المثال، مشورته الحاسمة للخليفة عمر عندما تجمّع الفرس بنهاوند لحرب المسلمين، فكان رأي الناس له هو «النفير إليهم»، فيما كان رأي الإمام علي خلاف ذلك، فقال له: «... إنك إن أشخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات...»، فعدل عمر عن قرار الذهاب بنفسه للحرب، وقال: «هذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه».

التجارب اللاحقة تؤكّد هذه الحقيقة أيضاً، منذ تولي ابنه الحسن الخلافة ثم تنازله عنها لاحقاً دفعاً للفتنة ثم ثورة الحسين في كربلاء على خلافة يزيد لتصحيح الانحراف في حركة الإسلام (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي...)، وصولاً الى تجارب باقي الأئمة وتالياً الفقهاء. في الخلاصة، كان يمثّل التشيّع دور الضابط الإيماني والتنظيمي الذي يحول دون خروج الإسلام عن المسار الذي رسمه رسول الله (ص). ولذلك، كان التشيّع يحضر حيث تكون الحواضر الكبرى للإسلام. وإن تحوّل التشيّع الى مذهب للسلطة كان يعني تعطيل ديناميته وروح الثورية، هذا ما جرى في عهد البويهيين، ثم الصفويين وبدايات القاجاريين، وحين تحرّر الفقهاء من قيود السلطة التي تحالفوا معها في وقت سابق أو خضعوا لها قهراً حوّلوا التشيّع الى طاقة ثورية تغييرية منذ ثورة التنباك في ايران في عهد ناصر الدين شاه في نهاية القرن التاسع عشر، ومروراً بالثورة الدستورية بقيادة الملا محمد كاظم الخراساني والشيخ محمد حسين النائيني وآخرين في مطلع القرن العشرين ولاحقاً ثورة العشرين في العراق بقيادة الشيخ محمد تقي الشيرازي، وثورة تأميم النفط في ايران بقيادة الشيخ الكاشاني وصولاً الى الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني. وفي الخلاصات، أمكن القول إن النهوض الاسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة تأثر على مستوى الأفعال أو ردود الفعل بالثورة الإسلامية في إيران التي تأسست على ثورة شيعية في الإسلام.

وبالعودة الى الردود على مقالتي حول الشيرازيين، أبدأ من دعوى التعريض بمعتقدات المذهب، لا سيما الغيب والشفاعة.

هناك مشتركات منهجية بين التفكيكية والوهابية من ناحية العودة الى النص الديني

وحقيقة الأمر أن التعريض ليس بالمفاهيم ولكن بالأفهام، فلا بد من الفصل بين ما هو متعالٍ/ إلهي وما هو بشري، فالكلام ليس عن الغيب كمفهوم ديني وإنما عن الفهم البشري له وتداعياته على السلوك الفردي والجماعي، وكذلك الشفاعة، والتوسّل، والنذر، والحزن... وحين نتحدث عن ثورية التشيّع إنما نعني بذلك فهماً ثورياً للمفاهيم الدينية (الشيعية على وجه الخصوص).

كان التيار الشيرازي يشتغل في بدايات تشكّله وقبل نزوعه نحو الطقسنة المستقيلة على تعميم خطاب ثوري مؤسس على فهم متطوّر للمفاهيم الشيعية. ونذكر على سببيل المثال، كتاب «الثورة الرسالية» للمرجع الحالي في كربلاء محمد تقي المدرسي حين وجّه نقداً شاملاً للمفاهيم المسؤولة عن «تخلّف الشيعة» بحسب وصفه، وشخّص أهم معالم هذا التخلّف من أجل إعادة تظهير الصورة الثورية للتشيّع. تحدّث عمّا أسماه «الطلاق بين الشيعة والتشيّع»، وأعاد تفسير الولاية والامامة والعصمة والغيبة «أي غياب الامام المهدي»، والشفاعة وغيرها. فقال بأن العصمة ليست ذاتية «وانما هي تأييد من الله للإنسان الذي يتجاوز ذاته وواقعه بعد أن يرتفع بارداته الحرة الى مستوى تلقي هذا التأييد»، وتحدّث عن غيبة الامام المهدي وقال: «ليست الغيبة انتظاراً سلبياً لواقع معسول يأتي في آخر الزمان، كما أنها ليست (فراغاً) في قيادة الأمة... إنما هي عملية فصل بين الأشخاص والقيم لكيلا يصبح الأشخاص هم القيم...». وفي هذا كلام كبير وخطير جداً لأنه يشي بانقشاع القداسة عن شخص الامام.

وفي حديثه عن الشفاعة يؤكد السيد المدرسي أن عمل الانسان هو شفيع له يوم القيامة «وحيث تتجسد الولاية في شخص الامام تكون الشفاعة للإمام، والواقع إنها ليست للإمام، وإنما هي لعمل الانسان وتحمله لمسؤولية الانتماء الى الإمام وحبه وطاعته له وتضحيته في سبيل الله تحت لوائه». ويخلص: «وليست الشفاعة بديلاً من الايمان بالله، إذ الشفاعة تكون عند الله، ولا تكون سلطة على الله، بل دعاء إليه، فإن شاء استجاب وإن شاء لم يستجب».

وعلى خطى القراءة الإيديولوجية والثورية التي قدّمها علي شريعتي، يتحدث المدرسي عن تشيّع المسؤولية، ويؤكد في السياق ذاته الاتباع المسؤول لا التقليد الأعمى «الذي يريح الانسان من تبعات التفكير، وحرية الرأي، ومسؤولية الاختيار». يؤكد دائماً المسؤولية، وأن الانسان مسؤول عن تاريخه وصلاحه وفساده.

ينقد المدرسي الثقافة الشيعية السائدة حينذاك والتي جرى إحياؤها مجدداً، وقال بأن ما تبقى من هذه الثقافة الشيعية هو القشرة القائمة على اجترار وتكرار الجدليات والاستمرار في خط العداء ضد كل الفئات الأخرى ومن ذلك «اجترار المآسي والدموع اللامسؤولة» في إشارة الى ذرف الدموع أيام عاشوراء والاكتفاء بها عن العمل. يقول المدرسي في توصيف حاد (ماذا بقيت من الدموع الشيعية؟ بقيت قطرات ماء رخيصة تتساقط على أحضاننا المليئة بالجريمة والفساد لتغسلها ـ كما نزعم ـ ولنقوم من مجلس العزاء محصّنين ضد عذاب الله، وضد محاسبة التاريخ... تماماً كبكاء أهل الكوفة بعد مقتل سيد الشهداء». ويخلص: «أصبحت الدموع وسيلة للتحلل من المسؤولية، بدل أن تكون وسيلة لتكريس المسؤولية، وتعميق الشعور بها». وعلى هذا المنوال قارب المدرسي الفرائض الدينية التي فقدت معانيها وتحوّلت الى مجرد طقوس فارغة المعنى، وانتقل منها الى الطقوس الشيعية: «فأصبحنا نزعم أن لمجرد قراءة الأدعية والزيارات تأثيراً غيبياً في أوضاعنا في الدنيا او في الآخرة... فمن قرأ زيارة عاشوراء أربعين يوماً فسوف تقضي حاجاته في الدنيا والآخرة...». أليس هذا ما يشاع اليوم وما سوف نأتي عليه هنا.

حديث المدرسي عن الغيب له مدلول خاص ويقوم على المقابلة، أي الشهود «وكلما ازداد وعي الانسان كلما استطاع أن يؤمن بالغيب من خلال إيمانه بالشهود. ان يؤمن بالصانع من خلال ما صانع، والزارع من خلال ما زرعه...»، وهكذا هي رسالات الانبياء.

ونسف المدرسي فكرة التمايز على أساس الانتساب للنبي صلى الله عليه وآله، وقال: «إن الذي يزعم أن الله خلق الناس درجات، ثم رفع بعضهم على بعض عبثاً، وأعطى أناساً ما لم يعط آخرين، إنه ينسب الى الله الظلم والجهل والعجز، تعالى ربنا عنه»، بل رفع الاسلام شعار «العمل الصالح» كقيمة أساسية عند الله، وخلص الى أن «التشيع هو العمل الصالح» على أساس أن العمل هو «الطريق الوحيدة لنجاة الانسان».

وانتقد أولئك الذي رفعوا الأنبياء والائمة عن مقام البشر وخاطب من قال بأنهم خلقوا من نور «إذا كان النبي وأوصياؤه من نور، وليسوا من تراب، إذن فما هو فضلهم على الناس؟ كلا... إن الرسول بشر... وأوصياؤهم بالطبع من البشر». ويواصل نقده الى من أضفى قداسة خاصة على سلالة الرسول (ص)، وقال: «زعموا أن أبناء الرسول مكرّمون الى يوم القيامة، حتى ولو خالفوا الله واتبعوا شهوات السلاطين» ورد عليهم قائلاً: «عجباً الرسول لا ينجيه إلا عمله، بينما أبناؤه يدخلون الجنة حبوة؟». وعنّف أولئك الذين يوالون أجساد الانبياء والائمة وليس قيمهم «فإذا بنا نزعم انتماءنا للرسول وإلى الأوصياء، بمجرد حبنا لهم، وتعظيمنا لأجسادهم، ألا تعساً لأمة حوّرت مفاهيمها وبدّلتها من بعد علم».

هذا هو الخطاب الذي كان يعتنقه التيار الشيرازي في مرحلته الثورية، ما وهبه شعبية في الوسط الشيعي، وجعله متميّزاً بحضوره الشعبي ومواكبته لحركة الأفكار الاسلامية عموماً.

التحوّل في تيار الشيرازي مؤسس على منهجية (مستمدة من المدرسة التفكيكية) وهي قديمة ولكن جرى تفعيلها في السنوات الأخيرة لتصبح النجم الهادي للتيار في نزعته الطقوسية.

إن المشكلة اليوم ليست في مجرد رأي في كتاب بل تحويل الرأي الى اتجاه شعبي عام

لا بد من الإشارة إلى أن المنهجية التفكيكية (لا علاقة لها بتفكيكية جاك دريدا)، ليست ابتكاراً شيرازياً، وقد أسبغ الشيخ محمد رضا حكيمي عليها هذا الاسم ولكن جذور تشكّلها تعود الى ثلاثينيات القرن الماضي في خراسان (مشهد) الايرانية.

والمدرسة التكفيكية تتلخص في «تمحيص معارف الوحي من تأثيرات المنطق والفلسفة اليونانية والتأويلية للفلاسفة والمتصوفة والعرفاء»، أي عملية فصل بين العقل والنقل في إطار تحرير النص من آليات فهمه المستمدة من خارج مجاله، أي وفق المناهج العقلية المعتمدة... وهذه المدرسة، في جوهرها، محاولة لفهم المعارف القرآنية بعيداً من مناهج التأويل، أي فصل المعرفة القرآنية عما لحق بها من التأثيرات الكلامية والصوفية والفلسفية، وكذلك الحال بالنسبة للسنّة (الحديث النبوي وروايات الأئمة)، وهي عودة الى العقيدة التقليدية أي فهم القرآن والسنّة بآليات مستمدة منهما (على غرار المقولة الشائعة تفسير القرآن بالقرآن). في الخلاصات، تقدّم المدرسة التفكيكية رؤية منهجية خاصة تقوم على الفصل ما بين الأفهام البشرية والمفاهيم الالهية، ما يعيد الإشكالية مجدداً الى النزعة السلفية التي ترى بأن فهمها الخاص للنص هو نهائي، رغم أنها تبقى في نهاية المطاف مجرد فهم (أنظر: محمد رضا حكيمي، المدرسة التفكيكية، ترجمة عبد الحسن سلمان وخليل العصمامي، دار الهادي، بيروت الطبعة الأولى 2000).

تفريق الحكيمي بين مدرسة الوحي (الدين ـ القرآن)، ومدرسة العقل (الفلسفة ـ البرهان)، ومدرسة الكشف (الرياض ـ العرفان)، لا يغيّر من حقيقة أن «المدرسة التفكيكية» تندرج هي الأخرى في خانة الأفهام البشرية للنص الديني، بل هناك ما هو أخطر من ذلك، إن عزل العقل عن عملية فهم النص سمح لعناصر غير عقلية مثل «الذوق» و«الاستحسان» و«الانكشاف» بالتدخّل لجهة إرساء «صلاحية» مفتوحة لمئات إن لم يكن آلاف الرويات من دون التحقّق في صحة وسقم الكثير منها... الطريف أن الحكيمي في تأكيد نقاوة النص الديني بمعزل عن المؤثرات الخارجية لا ينكر وجود الفلسفة الإسلامية باتجاهاتها المتباينة: المشائية والاشراقية والاسكندرانية.

إذن، الكلام ليس مجرداً عن «نص» مقابل «نص» كما توحي جداليات «التفكيك» بل هو في الحقيقة «نص» مقابل أفهام متعدّدة، وهنا مكمن الخلاف الحقيقي. لأن العودة الى «القرآن والسنة» بحسب الاتجاهات النقلية (الحنبلية السلفية/ الشيعية الاخبارية) في التاريخ الاسلامي كانت دائماً محفوفة بخطر الحشوية والاختراق، بمعنى التساهل في التعامل مع الروايات ما يجعل إمكانية اندماجها في البنية الدينية راجحة. وبعيداً من البحوث اللفظية لفهم النص الديني لناحية فهم دلالاته وأحكامه، ومشتقات الألفاظ وما تحمله من مداليل، إلا أن العودة الى النص ذاته لفهمه بنص مماثل من سنخه أو من ظاهر النص نفسه يعود بنا الى الحقيقة ذاتها أن النص يفقد استقلاله وتجرّده في اللحظة الذي يصبح في متناول عقول البشر، وبالتالي فإن التمايز عن مؤثرات خارجية أو استقلال ذاتي للنص مجرد جدل في مناهج فهم النص. وإن القول بأن لا جامع مطلقاً بين العلوم البشرية والعلوم الالهية يزيد في تعقيد فهم النص الديني ولا ينقذه من المؤثرات الخارجية (الفلسفية والصوفية...)، لأن الفصل بين البشري والالهي ليس واقعياً، وإن مرجعية النص حتى وإن توسّلت النص الديني نفسه تبقى بشرية على مستوى الاختيار في الحد الأدنى. ما يبعث على الغرابة، أن الذين يشرحون مدرسة التفكيك يتوسّلون لغة فلسفية ليست مستمدة من النص الديني!

تعريف المدرسة التفكيكية للعقل يختلف تماماً عن تعريفه في المدارس العقلية الأخرى. فالعقل هنا بحسب ما تكشف عنه الروايات الشيعية المبكرة (الكافي للكليني مثالاً)، تضع أربعة أبعاد للعقل: الأول، البعد الكوني، حيث العقل، المتنزّل من نور الله، فكان المخلوق الالهي الاول، الثاني البعد الاخلاقي ـ المعرفي، حيث تكون للعقل قابلية أو قوة فطرية للمعرفة العلوية أو المتعالية، الثالث، البعد الروحي، حيث يكون العقل مصدر الايمان، أو «الحجّة الباطنة»، والرابع، البعد الخلاصي الانقاذي في عملية الحساب يوم القيامة، حيث يخضع بنو البشر للحساب على قدر عقولهم. فالعقل هنا ليس منفصلاً عن فضاء النص، بل هو جزء من مجاله الحيوي، وهو مصمّم للحصول على الحقائق النورانية لاندماجه في فضاء النص وحركته. ولذلك يعرّف الأصفهاني العقل بحسب العلوم الالهية «النور الظاهر بذاته لكل من هو واجد له». في حقيقة الأمر، هذا التعريف المحدّد للعقل ليس عقلاً مجرّداً ولا حرّاً ولا تمكن ممارسة عملية عقلية مستقلة بل هو أداة تظهير النص وفق فهم محدّد، وهذا الفهم بحد ذاته عملية عقلية، وهذه العملية بالقطع ليست نهائية ولا جزءاً حميمياً من النص الديني. بالمناسبة، هناك مشتركات منهجية بين التفكيكية والوهابية من ناحية العودة الى النص الديني (الكتاب والسنة) على أساس دعوى أن فهمهما ليس بحاجة الى أدوات أخرى منطقية وأصولية ولغوية، على أساس أن النص واضح وجلي!

تيار التفكيكية (ومثاله الأبرز الشيرازية) جمع بين سيئات الخطّين: الأخباري والشيخي. وبالرغم من أن المدرسة الأخبارية شهّدت تطوّراً جوهرياً على مستوى المنهج، أي طرق التحقيق في صحة الرواية ووضعها أو ضعفها، الا أن المرجعيات الشيرازية (ونخّص بالذكر السيد محمد الشيرازي، والسيد صادق الشيرازي والسيد محمد تقي المدرسي) من بين مرجعيات أخرى خارج التيار أيضاً، اعتمدت منهجية الميرزا مهدي الأصفهاني (ت 1946) في فهم النص الديني (الشيعي هنا) كما هو بمعزل عن أدوات أخرى فلسفية ومنطقية وأصولية. في آليات فهم النص الديني يضع الأصفهاني الإمام المعصوم كمرجعية وحيدة في فهم القرآن، ولكن السؤال: ومن يثبت ان رواية ما بحد ذاتها صادرة عن الإمام من دون الرجوع الى مناهج التحقيق اللغوية والأصولية والتاريخية وغيرها.

وبحسب التحقيق الذي قام به الشيخ محمد باقر المجلسي مؤلف «بحار الأنوار» في كتاب «الكافي» للكليني فإن من أصل 16.199 رواية هناك 9.485 رواية ضعيفة أو مجهولة. وإذا أضفنا الى ذلك أن ثلاثة أرباع الروايات الشيعية الواردة في الكافي منسوبة الى الامامين الباقر والصادق عليهما السلام يكون كثير مما يروى عنهما يقع في خانة الروايات الضعيفة أو المجهولة.

ما يعتقده البعض بأن المدرسة التفكيكية هي أقرب الى أهل البيت عليهم السلام على مستوى التعامل مع الرواية الدينية من دون إعمال العقل ومناهج التحقيق، هو ما فتح الباب على مصراعية أمام اعتناق الشيء ونقيضه، لأن المجاميع الروائية الشيعية خضعت لعملية دس واسعة النطاق من قبل أناس مقرّبين من الائمة ومن رواة كبار يحيطون بهم ولاتزال آثارهم باقية.

إن أولئك الذين دافعوا عن المدرسة التفكيكية إزاء تهمة «الاخبارية» أخفقوا في تقديم فروقات جوهرية بينهما. وحتى على مستوى العقل الذي يحتج به التفكيك كفارق عن الاخبارية ما هو في الواقع سوى العقل المندمج في سلطة النص، وجزء من فضائه، وإن الأخبارية خصوصاً في مرحلتها المتطوّرة (الفرقة الوسطى) بدت أقرب الى الاتجاه الأصولي في إعمال العقل في فهم وتحقيق النص. وإن مجرد اعتراف المدرسة التفكيكية بالمنهج الأصولي في فهم النص الديني عنى التناقض في دعوى المدرسة التي تراهن على النص الديني في تظهير معناه، بينما المنهج الأصولي المستمد من خارج النص مصمّم لفهمه.

كل ما سبق يبقى في إطاره النظري، والعبرة في الآثار العملية. فحين نقول بأن النقلة الانقلابية في تيار الشيرازي من الثورية الى التقليدية الطقوسية لم نقصد انتقالاً ثقافياً بل منهجياً. وحين نتحدث عن النزوع الحشوي في التيار والجمع بين سيئات الأخبارية والشيخية، هناك من الأدلة ما يكفي (ومن شاء فليرجع الى موسوعة الفقه للسيد محمد الشيرازي التي بلغ عدد أجزائها المئة والخمسين وفيها يظهر الحشد الروائي غير المحقق).

وسوف نتوقف عند مثالين لبيان النزعة الطقوسية المتعاظمة لدى تيار الشيرازي والمتناقضة مع الرؤية الثورية للتشيّع كما صاغها رموز التيار في مرحلة سابقة.

المثال الأول: كتيب للسيد محمد الشيرازي بعنوان «السيدة أم البنين» في الطبعة الثانية سنة 2000. وأم البنين هي فاطمة الكلابية زوج الامام علي بن أبي طالب وأم لأبنائه الأربعة العباس وجعفر، وعثمان، وعبد الله وقد استشهدوا جميعاً في كربلاء مع أخيهم الامام الحسين.

طبّق السيد الشيرازي الرواية المنسوبة الى الامام الرضا عليه السلام في حق أخته فاطمة المدفونة في قم «أن من زارها عارفاً بحقها وجبت له الجنة» (ونقلها عن كتاب عيون أخبار الرضا وبحار الانوار وسفينة البحار)، فطبّق الرواية على أم البنين، من دون تحقيق في أصل الرواية سنداً ومتناً وشرعاً وعقلاً، وقال في ص 18: «وهكذا بالنسبة الى ما للسيدة الجليلة أم البنين من المعنوية العالية والمقام العظيم... حيث يمكننا أن نحس بشيء من ذلك عبر ما نراه من الآثار المترتبة على التوصل بها وجعلها شفيعة عند الله عزوجل في قضاء الحوائج...». وزاد على ذلك «فإن النذر لها يحل المشاكل الكبيرة التي هي بحاجة الى الإمداد الغيبي من الله سبحانه، كشفاء المرضى الذين لا شفاء لهم بحسب الظاهر، وإعطاء الأولاد لمن لم يرزق ولداً، ودفع البلايا وغير ذلك...»، ويعلّق «وهذا مما عليه ألوف القصص من المشاهدات والمنقولات...». وحتى يخلي المسؤولية يحيل الأمر على القصور الذهني (وهذا شيء لا تصل الى معرفة كنهه عقولنا).

وخصّص باباً بعنوان «إحياء الذكرى» واعتبرها «من أهم ما يلزم» (ص 31). وفي باب «الكرامة الالهية» يقول: «وأم البنين صاحبة الكرامات الكثيرة التي نقلت عنها متواتراً وشوهدت كذلك، وذلك بالنذر أو التوسل بها لتشفع عند الله...». ويعلّق: «وقد سمعت طيلة حياتي كثيراً من كراماتها المتواترة...» (ص38). وفي باب «زيارة قبرها» يقول: «ومن الاصح أن تراب قبرها الطاهر له الأثر الخاص...»، ثم يقول: «ولا يبعد بقاء جسدها في القبر... وإن لم أجد لذلك نصّاً...» (ص 42).

حين المقارنة بين هذه القراءة للتاريخ بتلك التي عرضناها في «الثقافة الرسالية»، ألا يظهر الفارق جليّاً بين تشيّع المسؤولية وتشيّع الاستقالة، بل بين تشيّع «العمل الصالح» وتشيّع «التحلل»، ومن ثم تشيّع الثورة وتشيّع السكون.

المثال الآخر، ولكن عن عقيدة التفويض التي بدت راسخة في التيار الشيرازي في السنوات الأخيرة. في كتاب السيد محمد الشيرازي «فاطمة الزهراء عليها السلام (ط 1999)» وكتاب «فاطمة الزهراء امتداد النبوة» ينطلق من حديث قدسي مزعوم يخاطب فيه الله نبيّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) قائلاً: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة ما خلقتكما»، ثم يشرح الحديث «فالمحقق للغرض من الخلقة هو وجود الرسول وفاطمة الزهراء والائمة الأطهار...». ويضيف: «فلولاهم لكانت خلقة العالم ناقصة...». وراح يسهب في شرح هذا الحديث وأحاديث أخرى ضعيفة تنتهي للقول بأن النبي والائمة مع فاطمة الزهراء هم «أساس خلق الكون، وقد جعلهم الله الوسائط في خلق العالم والعلّة الغائية له... فلولاهم لساخت الأرض، ولهم بما فيهم السيدة فاطمة الزهراء الولاية التكوينية إضافة الى التشريعية... ومعناها أن زمام العالم بأيديهم حسب جعل الله سبحانه، كما ان زمام الاماتة بيد عزرائيل فلهم التصرف فيها إيجاداً وإعداماً» (ص 110). والكتاب كله تقريباً ينتصر لعقيدة المفوّضة ويتطابق في مضمونه مع كتاب الشيخ أحمد زين الدين الاحسائي «شرح زيارة الجامعة». والسؤال: أين هذا الحديث من مرجعية القرآن ومعارفه، وأين هو من آية «وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون».

إن مجرّد تبني غير الشيرازية لهذا الرأي لا يعني تبرئة سواهم، بل يزيد الحاجة الى فصل ما هو تشيّع خالص ونقي وما هو غلو ومدسوس. ولا بد من توضيح نقطة جوهرية: إن الثورية لا تتموضع في مقابل الغلو وإنما في مقابل التقليدية، ومن الناحية التاريخية فإن الكثير من الفرق الثورية الشيعية كانت تعتنق معتقدات غلوائية بدءاً من حركة التوابين بقياد سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن عبيد الله الثقفي، وبيان بن سمعان، وعبد الله بن معاوية، والمغيرة بن سعيد، والصائد النهدي، والحارس الشامي، وعبد اللّه بن حارث، وحمزة بن عمار البربري ومحمد بن أبي زينب واسمه مقلاص بن الخطاب ويعرّف أبو الخطاب. فهؤلاء كانوا ثوّاراً في زمن الأمويين ولكنَّ الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ذاقا الأمرّين منهم لكثرة ما دسّوا من روايات في كتب أهل البيت، وتسلّل كثير منها الى المصادر الروائية الشيعية.

إن المشكلة اليوم ليست في مجرد رأي في كتاب، بل في «جمهرته» أي تحويل الرأي الى اتجاه شعبي عام، وهنا مكمن الخطورة. وقد لحظنا كيف تحوّلت القنوات الفضائية التي يموّلها ويشرف عليها الشيرازيون الى أدوات لترويج أفكار الغلو التي تنتهي الى تخدير الوعي الديني، فكل من أراد التحرر من المسؤولية وجد في تلك القنوات بلسماً زائفاً. وإن الكلام ليس عن شخص نكرة ومشبوه في لندن، فماذا عن شقيق المرجع، مجتبى الشيرازي المفتون بكل ما هو بذيء من اللفظ ضد رموز المسلمين السنّة والشيعة على السواء... فهل صدرت فتوى من المرجعية الشيرازية السابقة واللاحقة تتبرأ من أفعاله؟ وليس الأمر مقتصراً على شقيق المرجع بل هناك من أبناء المرجعين محمد الشيرازي وصادق الشيرازي من يدير قنوات فضائية فتنوية ويدعو الأتباع للتبرّع لها. وفي مثل هذه الأجواء الموبوءة أعيد إحياء موبقة السب واللعن لرموز المسلمين، وهل غير تلك القنوات من سنّ تلك السنّة السيئة؟!

ما يفعله التيار الشيرازي على مستوى الرموز هو عملية إحياء روائي منفلت، تقوم على مزاعم متهافتة كالقول بنهاية زمن التقيّة، وإحياء ما اندرس من علوم آل محمد. في واقع الأمر، هو عملية إحياء لتراث فرق الغلو وطقوسها ومعتقداتها التي أوقفت شعر الامام الصادق عليه السلام حين سأله يحيى بن عبد الله: إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب، قال: سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت شعرة في جسدي إلا قامت. ثم قال: لا والله إلا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله (أنظر: رجال الكشي والأمالي وبحار الأنوار).

صحيفة الرأي اللبنانية

العدد ٢٤٨٦ الثلاثاء ٦ كانون الثاني ٢٠١٥

 

عبد الله العلوي

* أستاذ حوزوي ـ العراق

..................................

للاطلاع

الشيرازيون و«طقسنة» التشيّع / عبد الله العلوي

عندما أرادت أنجليكا نويفرت الدارسة الألمانية البارزة في مجال البحوث القرآنية قبل عشر سنوات، التعبير عن انزعاجها مما آلت إليه البحوث حول القرآن في الغرب، قالت إن هناك «حالة فوضى عارمة في تأمل النص القرآني، وما عادت هناك مقاييس أو معايير يمكن الاحتكام إليها»..

إنّ مناسبة هذا الحديث اليوم عن الدراسات القرآنية في الغربين الأوروبي والأميركي هو «الكشف» الذي أُعلن عنه في مدينة برمنغهام البريطانية. فضمن مجموعٍ يحتوي على أوراق متناثرة من مخطوطاتٍ قرآنية متأخرة، جرى العثور على خمسة رقوق (جلد جمل) مكتوب عليها سُوَر قرآنية أو الأدق أقسام من السُوَر (من السورة 18 إلى السورة 20). وسرُّ الاحتفاء بهذه الرقوق ما ذكره ديفيد توماس الخبير الذي كتب تقريرًا عن الرقوق المكتشفة بالمصادفة أنّ الرق مبكِّر جدًا يعود إلى ما بين 600 و645م، أي إلى اثني عشر عامًا بعد وفاة رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه في الحد الأقصى. والخط - كما قال الخبير - حجازي، وهو الخط السابق على الخط الكوفي، الذي اشتهر أنّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان كتب به النُسَخ الست الأولى من المصاحف، التي أرسلها إلى الأمصار. وهذا يعني بالنظر إلى قِدَمِ الرقّ أنّ أجزاء النسْخة المكتشفة سابقة على الجمع العثماني. وهي تُظهر وضوحًا وانتظامًا وفيها خط تزييني بين السُورَ، كما أنّ فيها نقطًا أو إعجامًا. وهو أمرٌ ما كان معروفًا أو منتظمًا في الخط الحجازي والخط الكوفي المبكر. وهذا يعني أيضًا وأيضًا أنّ الكاتب عاش في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم وربما كان من أصحابه. والسردية أو الرواية الإسلامية الكلاسيكية (التي رفضها سائر المستشرقين خلال المائة والخمسين سنة الأخيرة) أنه كان هناك جمعان للقرآن بطريقة رسمية: الأول زمن أبي بكر بإلحاحٍ من عمر بعد استحرار القتل بقراء القرآن في وقعة اليمامة ضد مسيلمة. وقد ظلَّ هذا الجمع نسخة واحدة (وما تحول إلى مصحفٍ بين دفتين)، أودعت في بيت أمّ المؤمنين حفصة بنت عمر. والثاني زمن عثمان، الذي استعان بنسخة حفصة، وبحفظ المسلمين الأوائل، وبالنُسَخ الخاصة لعددٍ من الصحابة الذين كانت لدى بعضهم نُسَخ أو أجزاء مكتوبة على العُسُب واللخاف والأكتاف.. والرقوق. كان الجديد في الجمع العثماني ليس الجمع بين الدفتين فقط؛ بل وإعدام أو إحراق المكتوبات الخاصة الأُخرى.

ومنذ نولدكه، بل قبل ذلك منذ أبراهام غايغر (في ثلاثينات القرن التاسع عشر)، سلك المستشرقون مع القرآن ما سلكوه في دراسات العهدين القديم والجديد، وهو ما عُرف بالطريقة أو المنهج الفيلولوجي التاريخي. فالنص يُحسَبُ عُمُرُه بحساب أقدم المخطوطات المعثور عليها منه. ولأنّ الإنجيل ما عُرف من مخطوطاته غير نسخة باليونانية تعود لعام 225 للميلاد؛ فإنّ البحوث حتى اليوم ما استقرت لديهم بشأن اللغة الأولى التي كُتبت بها وهل هي الآرامية أو العبرية، ومتى كُتبت الأناجيل الأُولى، وهل هي صحيحة النسبة إلى مَنْ نُسبت إليهم وبخاصة الأناجيل الأربعة المنسوبة لحواريي المسيح الأربعة - فضلاً عن وجود أكثر من سبعين إنجيلاً اعتبرت كلها منحولة أو مزوَّرة بحسب ما ارتأته المجامع الكنسية في القرنين الرابع والخامس للميلاد! وعندما نقول إنهم سلكوا مع «قدم» القرآن مسلكهم مع نصوص «العهدين» فإنّ ذلك يبدو منصفًا. بيد أنّ أحدًا منهم ما أصغى لحُجج المسلمين وقتها وملخصها أنّ تلقي المسلمين للقرآن مختلفٌ عن طرائق تلقي أهل الديانتين الأُخريين لنصوصهم المقدسة. فالمسلمون يعتمدون على الحفظ والتلاوة والتواتر من جانب الجمع الكثير إلى الجمع الكثير. وهذا معنى ظهور القراء (أي الحفاظ) في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم. على مدى قرنٍ وأكثر ظل الدارسون يقولون إن الجمع العثماني أسطورة، لأن المصاحف المنسوبة لعثمان على الرقوق والمنتشرة في عدة مكتبات يعود أقدمها للقرنين الثاني والثالث للهجرة. وعندما تنبهوا إلى نقش آياتٍ كثيرة من القرآن من سورة مريم على مسجد قبة الصخرة المنسوب بناؤه ونقشه إلى عبد الملك بن مروان (مات سنة 86هـ)، قال معظمهم: هذا جزء بسيط، وربما اخترعه الأُمويون، لكنْ حتى لو كان أصيلاً، فما الدليل على وجود الأقسام الأُخرى في هذا الوقت المبكّر؟! وعندما جادلْتُ وانسبورو (الذي صدر له كتاب عام 1977 قال فيه إنّ القرآن كما نعرفه اليوم اكتمل ظهوره في القرن الثالث الهجري!) قال في النهاية: ما لم تظهر مخطوطة كاملة من القرآن من زمن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فسأظل ثابتًا على رأيي! وزادت باتريشيا كرون (توفيت في 12 يوليو/ تموز 2015 ولها ولزميلها مايكل كوك دراسة بنفس المعنى، صدرت عام 1977 أيضًا): ولا بد أن تكون بخط النبي نفسه! ثم تكاثرت الكشوف ليس لمصاحف كاملة، بل لآياتٍ وسُوَرٍ تعود لستينات القرن الهجري الأول. لكنْ عندما تزايد عليهم الأمر انصرفوا عن تتبع قدم مخطوطات النصّ إلى البحث في أُصول القرآن باعتباره نصًا مترجمًا عن السريانية! ولا أُبالغُ إذا قلتُ إنّ بين أيدينا الآن نحو المائتي كتاب، والألف مقال، تبحث جميعها في الأصول السريانية للقرآن، وكلها ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة!

لقد رأيتُ صُوَر رقوق برمنغهام. ولا شكّ في عمرها بحسب الفحص الكيماوي. لكننا نعرف أنّ الرق كان يكتب عليه أكثر من مرة بعد محو السابق. ثم إنّ الخط ليس حجازيًا تمامًا بل فيه أمارات الكوفي. إنما المشكلة مع الانتظام والتزيين والإعجام والوضوح والجمال في الخط، والذي لا يبدو مثله حتى في رقوق مصاحف صنعاء! فهل صورتنا عن تاريخ الخط العربي، والخط القرآني تحتاج لتعديل؟ أم أنّ الرقّ قديم، لكن الكتابة متأخرة وتعود لما بعد الجمع العثماني؟

في كل عقدٍ أو عقدين، وعلى مدى أكثر من قرن، بحسب تطور المصالح والرؤى للإسلام والمسلمين، كانت كل خنزوانة بشأن القرآن تعتبر نفسَها العلمَ ذاته. ويأتي عربٌ ومسلمون فيقلِّدون ويؤولون ويحاولون التوافق مع آخر منتجات «العلم الحديث». ثم تمضي الموجة، وتظهر خنزوانة أُخرى فتتكرر السيرة ذاتها. بعد التدوينيات والسريانيات، ظهرت في السنوات العشر الأخيرة مقولة أنّ القرآن يمثل «روح الحقبة الكلاسيكية المتأخرة» (ما بين القرنين الثالث والسابع للميلاد)، وقد «حبكت» النكتة مع الأستاذ الألماني غريغور شولر (ترجمتُ له مقالة عن تدوين المصحف في العدد الثاني من مجلة التأويل المغربية) فكتب: كنا نقول إنّ القرآن ظهر بعد النبي بمائتي عام، ومع مقولة الكلاسيكيات، أخشى الآن أننا ذاهبون للقول إنّ القرآن ظهر قبل النبي بمائة عامٍ مثلاً!

 

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية

31 – 7 - 2015

يتحرك الذكاء الاصطناعي بسرعة كبيرة لدرجة أن العلماء أنفسهم يجدون صعوبة في مواكبته. والعام الماضي، بدأت خوارزميات التعلم الآلي في إنتاج أفلام بدائية وصور مزيفة مذهلة، بل أصبحت هذه الخوارزميات تكتب أكواداً برمجة بنفسها. وفي المستقبل، ربما ننظر خلفنا إلى 2022 باعتباره العام الذي تحول فيه الذكاء الاصطناعي من معالجة المعلومات إلى إنشاء محتوى إلى جانب كثيرين من البشر. لكن ماذا إذا نظرنا إليه أيضاً على أنه العام الذي اتخذ فيه الذكاء الاصطناعي خطوة نحو تدمير الجنس البشري؟ صحيح أن هذه الأصوات مبالغ فيها ومثيرة للسخرية، لكن شخصيات عامة مثل «بيل جيتس» و«إيلون ماسك» وستيفن هوكينج- وفي الماضي، عالم الرياضيات آلان تورينج- عبروا عن مخاوفهم بشأن مصير البشر في عالم تتفوق عليهم فيه الآلات في الذكاء. فقد ذكر ماسك ذات يوم أن الذكاء الاصطناعي أصبح أكثر خطورة من الرؤوس الحربية النووية.

وعلى كل حال، لا يُعامل البشر الأنواع الأقل ذكاء جيداً بشكل خاص. فمن ذا الذي يقول إن أجهزة الكمبيوتر المدربة على البيانات الخاصة بجميع جوانب السلوك البشري، لن «تضع أهدافها قبل أهدافنا» كما حذر عالم الكمبيوتر مارفن مينسكي ذات مرة. لكن المنعش في الأمر أن هناك بعض الأخبار الجيدة. فهناك عدد متزايد من العلماء يسعى إلى جعل أنظمة التعلم العميق أكثر شفافية وقابلية للقياس. ويجب ألا يتوقف هذا الزخم. ونظراً لأن هذه البرامج أصبحت أكثر تأثيراً في الأسواق المالية ووسائل التواصل الاجتماعي وسلاسل التوريد، فستحتاج شركات التكنولوجيا إلى البدء في إعطاء الأولوية لسلامة الذكاء الاصطناعي على قدرته. والعام الماضي، وفي عدد من مختبرات الذكاء الاصطناعي الكبرى في العالم، ركز ما يقرب من 100 باحث متفرغ على بناء أنظمة آمنة، وفقاً لتقرير حالة الذكاء الاصطناعي لعام 2021 الذي يصدره سنوياً المستثمران «إيان هوجارث» و«ناثان بانيتش». ووجد تقرير هذا العام أنه ما زال هناك نحو 300 باحث فقط يعملون متفرغين على سلامة الذكاء الاصطناعي.

ويرى «هوجارث» خلال مناقشة معي على «تويتر سبيسز» هذا الأسبوع حول التهديد المستقبلي للذكاء الاصطناعي أن الأمر لا يقتصر على أن هناك «قلة قليلة من الأشخاص يعملون على إخضاع هذه الأنظمة فحسب، بل أيضاً يسود نمط من انعدام القانون». ويشير هوجارث إلى أنه في العام الماضي ظهرت موجة من أدوات وأبحاث الذكاء الاصطناعي من مجموعات مفتوحة المصدر تقول إن الآلات فائقة الذكاء يجب ألا يتحكم بها عدد قليل من الشركات الكبيرة وتصنعها سراً، لكن يجب إنتاجها في فضاء مفتوح. وفي أغسطس 2021، على سبيل المثال، طورت منظمة «EleutherAI» (إيليثير أيه. أي) التي تقودها هذه الجماعات مفتوحة المصدر نسخة عامة من أداة قوية يمكنها كتابة تعليقات ومقالات واقعية حول أي موضوع تقريباً، تسمى «GPT-Neo» (جي. بي.تي-نيو). والأداة الأصلية، المسماة (جي. بي.تي-3) طورتها شركة «OpenAI» (أوبن أيه. أي)، وهي شركة ساهم في تأسيسها ماسك وتمولها مايكروسوفت التي توفر إمكانية وصول محدودة إلى أنظمتها القوية.

ثم، هذا العام، بعد أشهر من إبهار «أوبن. أيه. أي» لمجتمع الذكاء الاصطناعي بنظام ثوري لتوليد الصور يسمى «DALL-E 2» (دال-إ.2)، أصدرت شركة مفتوحة المصدر تدعى «Stable Diffusion» (ستيبل ديفيوشن) نسختها الخاصة من الأداة للجمهور مجاناً. وتتمثل إحدى فوائد البرامج مفتوحة المصدر في أنه من خلال توافرها للجمهور، يقوم عدد أكبر من الأشخاص بتمحيصه باستمرار بحثاً عن أوجه القصور. وهذا هو السبب الذي جعل برنامج «لينكس»، تاريخياً، واحداً من أكثر أنظمة التشغيل المتاحة للجمهور أماناً. لكن طرح أنظمة ذكاء اصطناعي قوية متاحة للجمهور يفاقم أيضاً خطر إساءة استخدامها. وإذا كان الذكاء الاصطناعي محتمل الضرر مثل فيروس أو تلوث نووي، فمن المنطقي، ربما، أن يكون مركزي التطوير. فالفيروسات يجري فحصها في مختبرات السلامة الحيوية ويتم تخصيب اليورانيوم في أوساط خاضعة لقيود مشددة. وتخضع الأبحاث المتعلقة بالفيروسات والطاقة النووية لإشراف تنظيمي، لكن على الرغم من متابعة الحكومات للوتيرة السريعة للذكاء الاصطناعي، لا توجد حتى الآن مبادئ استرشادية واضحة لتطويره.

والذكاء الاصطناعي عرضة لإساءة الاستخدام من خلال إنتاجه في فضاء مفتوح، لكن لا أحد يشرف على ما يحدث حين يتم ابتكاره خلف أبواب مغلقة أيضاً. وحالياً على الأقل، من المشجع أن نرى تزايد التركيز على السيطرة على الذكاء الاصطناعي، وهو مجال متطور يشير إلى تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي «خاضعة» لأهداف البشر. ولدى شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة مثل «ديبمايند» و«أوبن أيه. أي» التابعتين لشركة ألفابت، فرق كثيرة تعمل على السيطرة على الذكاء الاصطناعي. وخرج كثيرون من باحثي هذه الشركات ليدشنوا شركاتهم الناشئة التي يركز بعضها على جعل الذكاء الاصطناعي آمناً. ومن بين هذه الشركات هناك شركة «أنثروبيك Anthropic» التي ترك فريقها المؤسس «أوبن أيه. أي» وجمع 580 مليون دولار من المستثمرين في وقت سابق هذا العام، وأيضاً شركة «كونجكتشر» التي دعمها في الآونة الأخيرة مؤسسو شركات «جيتهاب» و«سترايب» و«إف.تي.إكس. تريدينج».

وتعمل شركة «كونجكتشر» على افتراض أن الذكاء الاصطناعي سيعادل الذكاء البشري في السنوات الخمس المقبلة، وأن مساره الحالي ينذر بكارثة للجنس البشري. لكن حين سألت كونور ليهي، الرئيس التنفيذي للشركة، عن سبب رغبة الذكاء الاصطناعي في إيذاء البشر في المقام الأول، أجاب قائلاً: «تخيلي أن البشر يريدون إغراق واد لبناء سد لتوليد الطاقة الكهرومائية، وهناك أوكار نمل في الوادي. هذا لن يمنع البشر من البناء، وأوكار النمل ستغرق على الفور. لم يفكر أي إنسان بحال من الأحوال في إيذاء النمل. لقد أرادوا فقط المزيد من الطاقة، وكانت هذه هي الطريقة الأكثر فعالية لتحقيق هذا الهدف. وبالمثل، يحتاج الذكاء الاصطناعي المستقل إلى مزيد من الطاقة، وتواصل أسرع، ومزيد من الذكاء لتحقيق أهدافه».

ويعتقد ليهي أنه لمنع هذا المستقبل المظلم، يحتاج العالم إلى «مجموعة من الرهانات»، تتضمن التدقيق في خوارزميات التعلم العميق لفهم كيفية اتخاذ القرارات بشكل أفضل، ومحاولة تغذية الذكاء الاصطناعي بالمزيد من التفكير الشبيه بالإنسان. وحتى لو بدت مخاوف ليهي مبالغاً فيها، فمن الواضح أن الذكاء الاصطناعي لا يسير في طريق يتوافق فيه تماماً مع مصالح البشر. وما على المرء إلا إلقاء نظرة على بعض الجهود في الآونة الأخيرة لإنتاج روبوتات محادثة. فقد تخلت مايكروسوفت عن برنامج الروبوت «تاي» لعام 2016، الذي تعلم من التفاعل مع مستخدمي تويتر بعد أن نشر رسائل عنصرية وجنسية الإيحاء في غضون ساعات من إصداره. وفي أغسطس من العام الجاري، أطلقت شركة «ميتا بلاتفورمز» برنامج دردشة أدعى أن دونالد ترامب ما زال رئيساً، بعد أن تدرب على الرسائل النصية الشائعة على الإنترنت. ولا أحد يعرف إذا ما كان الذكاء الاصطناعي سيعيث الفساد في الأسواق المالية أو ينسف سلسلة توريد الغذاء يوماً ما. لكنه قد يجعل البشر يعادون بعضهم البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما قد يكون يحدث بالفعل. وحين يتعلق الأمر بـ «اصطفاف الذكاء الاصطناعي»، سيمثل تغيير هذه الحوافز بداية جيدة.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست سينديكيت»

***

بارمي أولسون

اخترنا لكم هذا المقال عن صحيفة الاتحاد الإماراتية ليوم 21 نوفمبر 2022 16:45

 

الصفحة 5 من 7

في المثقف اليوم