اخترنا لكم

روبرت جورج، فيلسوف وقانوني أميركي من التيار المحافظ الذي له تأثير قوي في الإدارة الأميركية الحالية، وقد نشر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «البحث عن الحقيقة وقول الحقيقة» (Seeking truth and speaking truth)، مع عنوان فرعي هو «القانون والأخلاق في لحظتنا الثقافية». وكما يتضح جلياً من العنوان، فالمؤلف يسهم في النقاش الفكري المحتدم راهناً في بلاده حول القيم المدنية في مجتمع تعددي حر، تحكمه النظم الليبرالية، ويعيش توتراً متزايداً حول علاقة الحرية بالخير المشترك.

وقد سبق للمؤلف نفسه أن نشر في عام 1999 كتاباً آخر بعنوان «الدفاع عن القانون الطبيعي»، مقترِحاً فيه العودةَ إلى أفكار الفضيلة والخير الأسمى كما تصورها أرسطو وتوماس الإكويني، من منظور معياري موضوعي يرفض إرجاعَ القيم للذاتية المحضة والاختيار الشخصي الحر. في الكتاب الجديد يعمق روبرت جورج هذه الأطروحة بالرجوع إلى السياق الاجتماعي الراهن في بلاده، والذي يشهد احتدامَ الجدل في ملفات حيوية مثل الكرامة الإنسانية والتمييز الإيجابي والحقوق المدنية ونظام الأسرة والزواج.

منذ البداية، يلاحظ روبرت جورج أن المؤرخين يميزون تمييزاً غير دقيق بين هيمنة الإيمان الديني في العصور الوسطى وتحكيم العقل في عصور التنوير. والواقع أن اللاهوتيين الكبار من المسيحيين واليهود والمسلمين، مثل توماس الإكويني وابن سينا وابن ميمون آمنوا بقوةٍ بانسجامِ الاعتقاد مع العقل، ونظروا بإيجابية للعقل الطبيعي.

أما مفكرو الأنوار فلم يستبدلوا الإيمانَ بالعقل، بل إنهم في غالبهم جمعوا بين الاعتقاد الديني والعقل حتى في المجال اللاهوتي الضيق. وبعد عصر الإيمان وعصر العقل، ها هي المجتمعات المعاصرة تدخل في ما سماه المؤلف حقبةَ «الإحساس» age of feeling، أي بناء الأخلاقيات على محض الشعور الذاتي بمعزل عن الإيمان والعقل.

المشكل الذي يطرحه هذا التصور هو أن هذه النزعة الشعورية الذاتية تحولت في وعي مَن يؤمن بها إلى واقع موضوعي له انطباقاته العملية، التي من أهمها اعتبار هذه الإحساسات حقائق مطلقة دقيقة بما يفضي إلى ما سماه المؤلف حالةً من «الإطلاقية العدوانية» التي تدفع البعض إلى الحد من حرية التعبير، والبعض الآخر إلى ثقافة الإلغاء بما لها من انعكاسات فظيعة على حياة الناس ومساراتهم المهنية. من أجل تجاوز هذه الوضعية، يدعو المؤلف إلى الرجوع للمفهوم التقليدي للحقيقة، خصوصاً في القضايا الأخلاقية والسياسية الكبرى التي تمزق المجتمع حالياً.

والحقيقة تحيل إلى مرجعية موضوعية مستقلة عن مشاعرنا وإحساساتنا، ويتعين البحث عنها بشجاعة وتجرد لحسم الإشكالات المعيارية المحورية المطروحة في الواقع الراهن. إلا أن المؤلف يعترف بضرورة اعتماد ما سماه كانط «الاستخدام العمومي للعقل»، أي البحث عن الحقيقة في إطار جماعي لسد اختلالات الوعي البشري المعرَّض للخطأ والوهم. لا بد من اعتماد أخلاقيات النقاش العام وحرية التفكير والتعبير من أجل المراجعة المستمرة للأفكار والمعتقدات السائدة، وقبول مختلف الآراء وإن كانت شاذة، لأن من طبيعة الجدل البرهاني نفسه أن يقضي عليها ويلغيها.

تلك خلاصة أطروحة روبرت جورج التي تعبر عن اتجاه بارز حالياً في الفلسفة السياسية والأخلاقية الأميركية، يتبنى المفهوم اللاهوتي الوسيط للعقل والحقيقة، من منظور استقلالية الأفكار عن السياقات التأويلية البعدية، لغوياً واجتماعياً وقيمياً. لقد كانت هذه الفكرة، مع ما يرتبط بها من مذهب القانون الطبيعي، أساس الفلسفة الوسيطة (في جانبيها الإسلامي والمسيحي)، إلا أن الحداثة أدخلت بعداً جديداً حاسماً هو بعد الذاتية أي الوعي المفكر والإرادة الحرة.

ومع أن الفلاسفة المحدثين حافظوا على مطلب الحقيقة الموضوعية (سواء من خلال نموذج التحقق الموضوعي أو من خلال نموذج تداخل الذوات)، فإنهم أكدوا الارتباط العضوي بين المفاهيم النظرية والتقويمات الحيوية، بما يعني رفضَ أي انفصال للعقل عن دائرة الفعل الإنساني في أبعادها التاريخية والرمزية والقيمية.

إن الرجوع إلى العقل الوجودي (الذي بلوره أرسطو وابن رشد) بديلا من العقل الذاتي (الديكارتي) خيارٌ عقيم، حتى لو كان من الصحيح أن الخروج من أفق الحقيقة والعقل باسم جمالية الإحساس وحرية الاختيار المعيش انتحار جماعي، لما يؤدي إليه من نزعة نسبية تنسف مقومات الإجماع والتوافق مجتمعياً وكونياً. كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يقول، إن لغز الحقيقة الكبير هو أن كل الناس يؤمنون بها، لكنهم يختلفون في مضمونها الفعلي، لكن من دون شجاعة قول الحق - حتى لو كان معرضاً دوماً للتزييف والتلاعب - لا معنى للحرية ولا الديمقراطية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

22 يونيو 2025 22:25

مؤلفاته الأساسية شكلت خرقاً في تاريخ الفكر العربي

لطالما طُرِح عليّ هذا السؤال: ماذا تبقى من أركون؟ وفي كل مرة كنت أشعر بالضيق والانزعاج الشديد. في كل مرة كنت أشعر بالحاجة لكي أرد فوراً قائلاً: لقد بقي منه كل شيء تقريباً. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والحداثة. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والنزعة الإنسانية في زمن الوحشية والهمجية للفصائل المتطرفة التي شوهت سمعة الإسلام عالمياً ونزعت عن الدين الحنيف كل صبغة إنسانية وكل شفقة أو رحمة. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والأديان الإبراهيمية الأخرى كاليهودية والمسيحية. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين المذاهب الإسلامية المتصارعة على مدار التاريخ. وكل ذلك حققه على أسس علمية وتاريخية وفلسفية متينة وليس بشكل سطحي على طريقة «تبويس اللحى والذقون». كل هذا بقي من محمد أركون. هل هذا قليل؟ هذا كثير وأكثر من كثير. عندما يطرحون عليك هذا السؤال فإنهم يوحون، صراحة أو ضمناً، بأن فكر أركون قد فُهم وهُضم واستُوعب ولم تعد الثقافة العربية بحاجة إليه. وهذا شيء غير صحيح أبداً. ويا ليته كان صحيحاً. كنا أرحنا واسترحنا. ولذلك أنتهز هذه الفرصة لتوضيح الأمور وتصفية الحسابات. نعم، أجيب فوراً: لقد تبقى منه كل شيء، خصوصاً ذلك التفكيك الناجح والبارع للسياجات اللاهوتية الدوغمائية المغلقة والاعتقادات الطائفية والمذهبية الضيقة. بقي منه تفكيك تلك النواة التكفيرية الصلبة التي تكاد تستعصي على التفكيك من كثرة رسوخها على مدار القرون. هذا ما تبقى من محمد أركون. وهنا تكمن أهميته. هنا تكمن عبقريته. شرح ذلك يتطلب مجلدات. وعلى عكس ما يظن الناس؛ فقد فعل ذلك حباً بالإسلام والمسلمين لا كرهاً لهم، لأنه كان منصهراً فيهم قلباً وقالباً. ولو أنه كان خارجياً عليهم أو معادياً لهم، لو أنه كان مادياً ملحداً مثلاً، لما كانت لأبحاثه كل هذه الضجة والفرقعة والأصداء الكبرى. لقد فعل ما فعله على مدار خمسين سنة متواصلة خدمة للمسلمين وغيرة عليهم وحرصاً على إخراجهم من قوقعتهم وتحجرهم وعصورهم الانحطاطية الطويلة المزمنة.

ثم بقيت مؤلفاته الأساسية التي شكلت خرقاً في تاريخ الفكر العربي وقطيعة مع القرون الوسطى. لقد شكلت فتح الفتوح فيما يخص إضاءة غياهب الأعماق التراثية. انظروا دراساته عن القرآن الكريم. انظروا تحليله الأركيولوجي العميق لسورة «الكهف» مثلاً، حيث استعرض كل عضلاته الفكرية والأكاديمية وأضاءها بشكل غير مسبوق. درس فكري عملاق ولا أروع. انظروا كتابه الضخم الذي أصدرته «دار الساقي» عام 2017، بعنوان: «قراءات في القرآن»... إلخ. هذا غيض من فيض. بعد أركون لن يعود التراث العربي الإسلامي مفهوماً كما كان قبل أركون. لقد قسم التاريخ الإسلامي إلى قسمين: ما قبله وما بعده. كنا ندوخ عندما نسمع دروسه الأسبوعية عن «تاريخ الفكر الإسلامي» في باريس. ثم بعد أن ينتهي الدرس كنا نخرج إلى المقاهي المجاورة للسوربون ونظل نتناقش حولها ساعات وساعات، وأحياناً حتى يتقدم الليل. وكنا نتفق حولها ونختلف ونصرخ وتعلو أصواتنا ونكاد نشتبك بالأيادي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جَرّاها ويختصمُ

كنا نشعر أننا أمام مفكر عملاق يستعرض تاريخ الفكر الإسلامي كله من أوله إلى آخره في لحظة واحدة ويحرره تحريراً. كنا نشعر بأننا في عرس الفكر، في مهرجان الفكر. ولهذا السبب يبدو مشروع أركون أهم من كل المشاريع الفكرية التي تصدت لدراسة التراث وتجديده على مدار الخمسين سنة الماضية. هناك فرق نوعي بينه وبينها. هو في وادٍ وبقية المفكرين العرب، من أمثال محمد الطالبي وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، في واد آخر. وهؤلاء هم مشاهير الفكر العربي في هذا العصر. ومع ذلك فلم يستطيعوا أن يحلوا لنا المشكل التراثي. ولم يستطيعوا فك الانسداد التاريخي. لم يستطيعوا زحزحة الصخرة التراثية عن موقعها قيد شعرة. وحده أركون استطاع تحقيق ذلك. وهنا يكمن مجده وعظمته. هنا تكمن معجزته الفكرية. ولهذه المسألة سوف أكرس مقالتي هذه كلها.

ينبغي ألا نخطئ في النظر والتقييم؛ فهؤلاء المفكرون العرب مع احترامنا لهم لم يتجرأوا على الخروج من السياج الدوغمائي المغلق للاعتقاد التراثي اللاهوتي القروسطي، هذا على فرض أنهم فكروا في ذلك أصلاً. كان أركون يفرق دائماً بين الفضاء العقلي للقرون الوسطى والفضاء العقلي للعصور الحديثة. كان دائماً يفرق بين سقف القرون الوسطى وسقف الحداثة. ما يسمح به الثاني من حريات فكرية رائعة لا يسمح به الأول على الإطلاق. لماذا خرجت أنا من سوريا إلى باريس؟ ومن جامعة دمشق إلى جامعة السوربون؟ لكي أتنفس الصعداء. كنت أبحث عن حل أو خلاص بعد أن تفاقمت مشكلتي الشخصية والفكرية حتى وصلت بي إلى حافة الهاوية... نحن محكومون حتى الآن بسقف القرون الوسطى لا بسقف الحداثة، خصوصاً فيما يتعلق بالشؤون الدينية الحساسة. كل هذه الأشياء لم تخطر على بال مشاهير الفكر العربي المذكورين آنفاً. وبالتالي فأين هو التحرير الفكري الكبير المنتظَر في الساحة العربية؟ دلوني عليه من فضلكم. وحده أركون فكك هذا السياج اللاهوتي الكهنوتي الراسخ في العقلية الجماعية رسوخ الجبال منذ ألف سنة، وخرج منه كلياً. بل وعلمنا كيف نخرج منه نحن أيضاً. كان يقول لنا دائماً في درسه الأسبوعي الشهير في السوربون: افتحوا النوافذ والأبواب وشموا الهواء الطلق في الخارج. لماذا تنغلقون داخل جدران طوائفكم ومذاهبكم وتحجراتكم؟ انظروا كيف تحررت أوروبا من سجونها اللاهوتية وأقفاصها العقائدية. انظروا كيف تجاوزت انقساماتها المذهبية التكفيرية التي مزقتها إرباً إرباً، ودمرتها سابقاً. هناك مفهوم آخر للدين غير مفهوم القرون الوسطى المؤدي إلى المجازر والمذابح والتفجيرات العشوائية. متى سيفهم العرب ذلك؟ متى سيفهم المسلمون؟ متى سيفهم «الإخوان» والخمينيون الذين ورطونا في صراعات مدمِّرة مع العالم كله؟ وبالتالي فالمشروع الوحيد الذي له معنى في هذا العصر هو «نقد العقل الإسلامي» لا «نقد العقل العربي» على طريقة الجابري أو سواه. أقول ذلك مع احترامي الكامل لمحمد عابد الجابري ولجهوده الفكرية. ولكنه لم يستطع تحرير التراث من التراث، أو من الشحنة التراثية القمعية الرهيبة الموروثة عن العصور الوسطى. ولا أعتقد أنه هو ذاته كان متحرراً منها. أين هو المثقف العربي المتحرر منها أصلاً؟ دلوني عليه لكي أقبِّل يده فوراً وأنحني أمامه. وحده أركون استطاع تحقيق هذه المعجزة الفكرية. وحده أركون استطاع تحقيق هذا الخرق في جدار التاريخ المغلق للفكر العربي. وحده أركون تجرأ على فتح الباب الموصد المسدود المقفول عليه بالرتاج. ولهذا السبب أقول إن كل مشاريع تجديد التراث سقطت أو فشلت وبقي مشروع محمد أركون وحده صامداً في الميدان. مَن منا لا يرى أن المشروع الوحيد الذي له معنى في اللحظة التاريخية التي نعيشها هو نقد العقل الإسلامي: أي نقد العقل اللاهوتي الكهنوتي الموروث عن العصور الوسطى، وليس نقد العقل العربي؟ لا يوجد أصلاً شيء اسمه عقل عربي أو فرنسي أو ألماني أو صيني أو روسي... إلخ. العقل البشري واحد في شتى أنحاء الأرض. ولكنه يمر بمراحل متدرجة على مدار التاريخ حتى ينضج أكثر فأكثر طبقاً لتطور العلوم والفلسفات والظروف. بهذا المعنى فإنه يوجد عقل ديني غيبي غياهبي سيطَرَ على القرون الوسطى الإسلامية كما المسيحية، بل ولا يزال مسيطراً على عالم الإسلام حتى اليوم. وإلا فما معنى هيمنة الموجة الإخوانية - السلفية - الخمينية على العالم العربي والإيراني والتركي؟ أما أوروبا المسيحية، فقد تجاوزت هذه الانغلاقات اللاهوتية التكفيرية، بعد أن كانت غارقة فيها حتى النخاع. ولهذا السبب خلفتنا وراءها بسنوات ضوئية. والدليل على ذلك أننا لا نزال نتخبط في صراعاتنا الطائفية والمذهبية، في حين أنها تجاوزتها كلياً. لقد عزلت ذاتها من ذاتها وتراكماتها قبل أن تستطيع الانطلاق كالصاروخ. لقد انتصرت على ذاتها أولاً. ومَن ينتصر على ذاته ينتصر على العالم كله. ولو لم تتحرر أوروبا من الكابوس التراثي القروسطي التكفيري الرهيب الجاسم على صدرها لما استطاعت أن تنطلق وتحقق كل هذه الحداثة العلمية والفلسفية والتكنولوجية. وبالتالي فالشيء الذي ينبغي نقده وتفكيكه هو هذا العقل اللاهوتي التكفيري المتحجر الذي يتوهم امتلاك الحقيقة الإلهية المطلقة، التي على أساسها يذبح الناس ويفجر العالم. وهو شيء لم يتجرأ عليه محمد عابد الجابري ولا سواه. هذا شيء لا يزال يمثل اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة للفكر العربي كله.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 22 يونيو 2025 م ـ 26 ذو الحِجّة 1446 هـ

يتمنى الإنسان لو أنه عرف كل شيء من الأزل إلى الأبد، لكنه لا يعرف إلاّ كلمة أو نصف كلمة في موسوعة كبرى.. تمتدّ أجزاؤها بلا نهاية. لطالما كان الإنسان مشغولاً بالغيْب.. غيْب الماضي، وغيْب المستقبل.

وحيث إنّنا لا نعرف من الماضي إلاّ القليل جداً، فإن محاولة معرفة تاريخ العالم، وتاريخ الوجود الإنساني على هذا الكوكب، وتاريخ الكوكب نفسه قبل الوجود الإنساني.. هي محاولة دائمة لسبْر أغوار ذلك المجهول. في عام 1922 صدر في لندن كتاب «ويلز» الشهير «تاريخ موجز للعالم»، وفيه تحدث عن تاريخ الأرض، وتاريخ الحياة، وتاريخ الإنسان.. ليتوقف عند نهاية الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم.

وقد جاء الكتاب ممتعاً، وقابلاً للقراءة لا مجرد الاقتناء، حتى إن عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين رشحه للقراءة، لمن يريد فهم تاريخ العالم. بعد الحرب العالمية الثانية سطع فرع جديد في علم التاريخ هو «التاريخ الفكري».. وبعد أن كانت كلمة التاريخ كلمة جامعة من دون تقسيم حادّ أو تمييز واضح بين جانب وآخر، صار لدينا تواريخ لا تاريخ، فهذا هو التاريخ السياسي، وهذا التاريخ العسكري، وهذا الاقتصادي، وهذا الثقافي، وهذا هو التاريخ الاجتماعي، وتاريخ العلوم والفنون. راح المؤرخون العسكريون يدرسون تاريخ الحروب والمعارك، وراح مؤرخو السياسة يدرسون صعود وهبوط الدول، وسطوة أو ضعف النخب السياسية والحكومات والحكام، ثم راح مؤرخو الاقتصاد يدرسون حالة المال ومستوى المعيشة وحجم الفقر والثراء، ودور الاقتصاد في الحرب والسلام، ودوره في بناء المعالم المادية للحضارة. توقف مؤرخو الثقافة عند نمط الحياة من ملبس ومأكل، وعند تجارب الحياة، ووقفَ التاريخ الاجتماعي على دراسة الحياة اليوميّة والناس العادية، فيما بات يسمى دراسة «التاريخ من أسفل».

في عام 2025 صدرت الترجمة العربية لكتاب المؤرخ البريطاني فيليب فرناندز أرميستو، ويعد ذلك الكتاب «الأفكار التي شكلّت العالم» نموذجاً للتأريخ الفكري لعالمنا. تقوم أطروحة الكتاب على أن الفكر هو المبتدأ والتاريخ هو الخبر، أو أن الفكر هو السبب والتاريخ هو النتيجة، فليس العالم إلاّ نتاج تطور وحركة الأفكار، فالفكرة تسبق الحركة، والتاريخ لا يحدث في الواقع ابتداءً، ولكنه يحدث في العقل أولاً.

وقد رأى الكاتب أن يبدأ بدراسة الأفكار منذ بداية الإنسان لا بداية الحضارة، وحيث إن الإنسان - برأيه - موجود قبل (150) ألف سنة، فقد رأى ألا يكتفي بدراسة الخمسة آلاف عام الأخيرة، بل الخمسين ألف عام.. ليرى كيف كانت الأفكار صانعةً للتاريخ. يحظى التاريخ الفكري للعالم ببريق متجدّد، فهو تاريخ يتمدد من تاريخ الأفكار والمفكرين.. ليشمل تاريخ الفلسفة، وتاريخ العقل، والتاريخ الأدبي، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الإنجليزي «كولينجوود» في جملة بليغة..«إن التاريخ كله هو تاريخ الفكر». إذا كان من عظة في خبَر من غبَر.. فإن الإصلاح الفكري هو أهم أشكال الإصلاح وأكثرها جذرية، أو هو الإصلاح الأول الذي يليه كل إصلاح. فكما يبدأ التاريخ في العقل، يبدأ الحق والخير والجمال في العقل، ويبدأ الرخاء والسلام في العقل.

إن عالمنا يعاني حروباً مروعة، وهو مهدد بحروب أكثر ترويعاً، ويتحدث كبار قادة العالم عن احتمالات حرب نووية، أو إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة. إن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل داخل العقول، ولم يتبق إلاّ أن تنتقل من العقل إلى الميدان، وإذا كان التاريخ يحدث في العقل أولاً، فإن الحرب تحدث في العقل أولاً، ولسوء الحظ أنها حدثت بالفعل.

لا يزال بإمكاننا إنقاذ عالمنا، لا يزال بالإمكان إزاحة الحرب من العقل، ولا يزال بمقدورنا صناعة عالم أفضل. في ظل ثروة علمية لا مثيل لها. سيكون مؤسفاً للغاية أن تكون نقطة الذروة هي نقطة النهاية، وأن تصبح أعلى قمة في جبل الحضارة.. هي الخطوة الأولى نحو الوادي السحيق. العقل هو الحل.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يونيو 2025 23:30

لم يكن سيوران إلا شاعراً رأى بالفلسفة ممتطىً لبثّ أحزانه. مهمةٌ سهلة أن تتحدث عن البدء والنهاية، عن الحياة والموت، لكن الأخطر أن تؤسس لنظرية شاملة يمكنها منح البشرية المزيد من الوعي بوجودهم.

في كل كتبه ثمة عبارات نابية، واحتجاج غير ممنهج، وفوقيّة غير مبررة، وتجديف عادي يمكن لأي شاعر عاميّ أن يجاريه. الفيلسوف والكاتب الروماني «إميل سيوران»، ولد يوم 8 أبريل عام 1911 في قرية رازيناري الرومانية، وتوفي في 20 يونيو 1995.

لم يكن «سيوران» جاداً في تناوله الموضوع الفلسفي، ذلك أنه يعد الوجود كله مثيراً للسخرية والشفقة، فهو القائل: «إذا أمكن للإيمان أو السياسة أو الحيوانية النيل من اليأس، لا شيء ينال من الكآبة، لا يمكن أن تتوقف إلا مع آخر قطرة من دمنا».

وفي كتابه: «تاريخ ويوتوبيا» يكتب ضمن فصل: في صنفين من المجتمعات.. رسالة إلى صديق بعيد«أنا إذن متعلق بأرباع أفكار، وبأضغاث أحلام، وقد وقعت على الفكر خطأ، أو بسبب هستيريا لا علاقة لها ألبتة بالحرص على الدقة، أبدو لنفسي دخيلاً على المتمدنين، مثل ساكن كهوف شغوف بكل ما هو لاغ، منغمس في صلوات هدامة، فريسة هلع لا ينبثق عن رؤية للعالم، بقدر ما يعود إلى تشنج اللحم، وظلمات الدم، لقد بت في صمم تام عن نداءات الأنوار، وعن العدوى اللاتينية، حتى إنني أشعر بأسيا تتململ في شراييني».

رؤية سيوران الفلسفية تبث المأساوية في العالم بوصفها أصلاً، وأن أنشطة الناس اليومية ليست إلا هرباً من غلطة وجودهم، وأن الوجود بالنسبة إليه مثل عدم الوجود كله خلل. بل إن سيوران يعد نفسه «فيلسوف عواء»، ولا يعتني بالقارئ بوصفه شريكاً له في معنى النص، بل يبدد معانيه كالشرر، ويوزع بندقية قوله مرتجفاً مثل رامٍ مبتدئ، وإذا قرأناه وجدنا نصه الآتي: «الكتب الوحيدة التي تستحق أن تكتب، هي تلك التي يؤلفها أصحابها من دون أن يفكروا في القراء، ومن دون أن يفكروا بأي جدوى، وبأي مردود». يعد قوله وفلسفته هي عيشه، ولم يكن يحب تقليب الكلمات، بل أنى تهيأ الحرف أطلقه من دون ترتيب أو تشذيب، وهذا ما يلحظه القارئ أكثر في:«المياه كلها بلون الغرق»، ذلك أن الأسلوب كان محتشداً ضمن تكثيف العبارة، أكثر مما هو عليه في «تاريخ ويتوبيا».

لم يكن السطح العميق مغرياً لسيوران الذي يصب جام غضبه على مناهج هيغل وروسو، بل يعد الرديء الجيد، والتفاهة العامة هي الملاذ والملجأ، يكتب:«الشعوب التي لا تحتفل بالتفاهات والطيش، والأمور التقريبية، الشعوب التي لا تعيش مبالغتها الكلامية، هي كارثة بالنسبة إلى نفسها». الخلاصة؛ أن هذه النماذج هي فوّهات تعبير مشحونة بالذخيرة الوجودية، ولكنها في صميمها لم تستطع إضافة أي نظريّة فلسفية، أو محتوى عميق، وعليه فإنها تقترب من الشعر والخواطر والقصص أكثر من قربها من النظريّة الفلسفية العميقة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 يونيو 2025 23:15

في الجدارية الشهيرة «مدرسة أثينا» لرسام عصر النهضة الإيطالي رافائيل، جمع الرسام المفكرين الذين أثَّروا في الغرب، وبينهم أفلاطون وأرسطو وسقراط وأبيقور ومايكل أنجيلو. يتوسطهم الفيلسوف العربي المسلم الأندلسي ابن رشد، المعروف باسمه اللاتيني – أفيروس – الذي ساهم بقوة في تكوين العقل الأوروبي النهضوي. تمت ترجمة فلسفة ابن رشد من العربية إلى اللاتينية، ونالت اهتمام الفلاسفة والمفكرين والدارسين الأوروبيين. نقل ابن رشد فلسفة المعلم الأول أرسطو، إلى اللغة العربية وفسرها، ونقلها الإيطاليون عنه إلى اللاتينية، في حين قام الفقهاء المسلمون الأندلسيون، وخدم السلطان، بتشكيل جبهة واسعة وعنيفة معادية له، ووجهوا له عشرات التهم، فغضب عليه السلطان المنصور الموحدي، ونفاه إلى اليُسَانة بمنطقة قرطبة وحُرقت كتبه، بحجة مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة. كان ابن رشد فقيهاً وقاضياً وفيلسوفاً. استوعب ابن رشد فلسفة أرسطو المعقدة وفسرها، واهتم بها الأوروبيون، وساهم فكره في النهضة الأوروبية، التي فتحت أبواب النهضة والتقدم. آمن بتكامل العقل والشريعة الإسلامية وألفَّ كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». قال إن من خلق الشريعة، هو الذي خلق العقل، والهدف هو سعادة الإنسان، ويجب أن يُقدم العقل على النقل. ومن أقواله: كل أمة لها نبيّها، وفلاسفة الإسكندرية تحولوا إلى المسيحية عند ظهورها، كي يتوافقوا مع الجمهور ومعتقدات الأمة، وهذا ما حدث في سوريا والعراق، عند ظهور الإسلام ووصوله إلى أوطانهم.

ما كان لابن رشد في دنيا العرب، وما كان له في أوروبا، لا يغادران ما نعيشه اليوم، ونأمل في ألا يستمر قروناً. جدارية «مدرسة أثينا» الخالدة، هي الشاهد الحي على طول المسافة، بين عبقرية العقل، ووباء الجهل. كم من ابن رشد قدح عقله في منطقتنا، فكان مصيره التكفير والنفي أو القتل أو الهروب، حيث أضاء توهج عقله في أرض بعيدة.

ماذا يعني لنا اليوم، هذا الفيلسوف العربي المسلم، الذي ساهم في إقلاع العقل الأوروبي نحو النهضة، وما حققته بعد ذلك من رقي لم يتوقف؟ هو درس حي يجب أن نتخذ منه عبرة تحرك ما في الرؤوس. المفكر الدكتور مراد وهبة، وهب عمره يكتب ويتحدث في بلاد العرب وخارجها، عن الفيلسوف ابن رشد. أسس المفكر وهبة جمعيات عالمية لدراسة فلسفة ابن رشد، ودعا إلى تضمينها في المناهج الدراسية العربية. لم يهدف المفكر وهبة، إلى تعليم فلسفة ابن رشد للجيل العربي الحديث فحسب، بل قصد أيضاً إلى أخذ العبرة من استضاءة الأوروبيين بفلسفة ابن رشد، واضطهاد المسلمين له ونفيه وحرق كتبه. إلى اليوم نكرر ما كان منذ مئات السنين. محنة ابن رشد تعيش بشهيقها وزفيرها فينا.

محطات كثيرة في الفكر العربي الإسلامي، أشعلت ومضات فكرية منيرة، لكنها خُنقت برياح الظلام الموروث، وغشَّى رماد الفقه العقول، وران على الحروف، وظل المنقول المتآكل هو الحبل الممسك بالرؤوس. يصدق عليه قول طرفة بن العبد:

لكالطِوَلِ المُرخَى وثِنْيَاهُ باليدِ.

أبو حامد الغزالي طاف في فجاج الفكر والفلسفة والدين والتاريخ، لكن حبل الفقه كان يشده إلى رعشات التضارب، ليتدحرج في متاهات التناقض.

الغزالي هو القائل: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى». وهناك من قال إن كبار الفلاسفة تأثروا بأبي حامد الغزالي، مثل ديكارت ونيكولا مالبرانش، وديفيد هيوم وإيمانويل كانت، وعدَّه البعض مؤسس مدرسة الشك الفلسفي. عارض المتصوفة المبالغين الذين قالوا بالحلول والمعجزات، وردَّ على الباطنية والقرامطة والإسماعيلية والباطنية.

ألَّف الكثير من الكتب، في مواضيع مختلفة، أهمها «المنقذ من الظلال»، و«إحياء علوم الدين»، و«قواعد المنهج». امتلك أبو حامد الغزالي قدرات فكرية وكتابية، ودخل إلى دائرة الفلسفة باقتدار، لكنه في الوقت ذاته حمل عصاه، وهوى بها على الفلسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، في معركة هدفها هدم الفلسفة، ودحر الفلاسفة وفي مقدمتهم الفيلسوف الفارابي، ومن معه من الفلاسفة المشّائين، متسلحاً بالقول، «إن الفلسفة دون العقيدة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة». في الواقع كان أبو حامد الغزالي فيلسوفاً، عندما هاجم الفلسفة والفلاسفة. وكان منهجه في ذلك فلسفياً. وعلق البعض على ذلك بالقول: «إن الغزالي ابتلع الفلسفة ولم يستطع أن يتقيأ ما ابتلع».

ردَّ ابن رشد على كتاب الغزالي بكتاب «تهافت التهافت». تناول فيه الأسس التي أقام عليها الغزالي مرتكزات نقده للفلسفة والفلاسفة، متسلحاً بما أخذه عن معلمه أرسطو وغيره من الفلاسفة الإغريق. سواء فيما يتعلق بالزمان والمكان والمصير والإنسان، أو عن النسبي والمطلق والكون والطبيعة وغيرها.

كان لأوروبا، جداريتها التاريخية الخالدة الباقية، وهي في الحقيقة الرمز والمعنى الشاهد على رافعة العقل الإنساني التي حققت النهوض الأوروبي الكبير. هناك كان وما زال أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد العربي الأندلسي، الذي قذفه الجهل المحنط إلى دنيا أقلعت نحو العصور الجديدة، فكان أيقونة جدارية العبقرية، التي ألقى عليها أبو حامد الغزالي ومن لفَّ لفّه عباءة ظلام التهافت. هناك من قال إن الغزالي ساهم بقوة، في وهن الحضارة العربية الإسلامية.

***

عبد الرحمن شلقم

السبت - 11 ذو الحِجّة 1446 هـ - 7 يونيو 2025 م

 

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً، أم منظّراً من طراز غنوصي عريق. ولقي هذا الطرح تفاعلاً كبيراً، لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات تستحق التأمل والمراجعة. هل يُنصف هيغل، بوصفه أحد أعظم أنظمة الفلسفة العقلية في التاريخ، أن نردّه إلى مجرد نزعة صوفية درويشية؟ الصورة أكثر تعقيداً. فهيغل، في بداياته، كان بالفعل أقرب إلى التصوف. كان يعيش في بيئة صوفية ألمانية، وتأثر بأفكار يعقوب بوهمه، كما اطلع على تراث المتصوفة المسيحيين في عصرهم الذهبي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. أولئك الذين مزجوا بين الحدس والفكر، وبين الكليّ والجزئيّ، وبين حضور الروح وحركة العقل. في كتاباته المبكرة، مثل «روح المسيحية ومصيرها»، كان مشغولاً بمفاهيم الاتحاد بالكل، والتجاوز الحدسي للحدود، والانخطاف الذي يتجاوز الثنائية بين الذات والموضوع. هذه البدايات لا يمكن إنكارها، ولا ينبغي التهوين منها. فهي تمثّل حجر الزاوية الذي انطلقت منه رحلته العقلية، رحلة الروح الثلاثية.

لكن هذه المرحلة لم تكن النهاية. شيئاً فشيئاً، بدأ هيغل يُخضع تلك الرؤى الحدسية لمنهجية عقلية متينة، ويعيد تأويل التجربة الصوفية في ضوء مسار جدلي متكامل. مثل معظم عظماء الفلاسفة الألمان، لم يرفض التصوف، بل احتواه داخلياً، وأعاد بناءه من الأساس. وكما لاحظ فريدريك كوبلستون في دراسته «هيغل وعقلنة التصوف»، فإن هيغل لم يكن صوفيّاً بالمعنى الساذج، بل فيلسوف عقلاني استخدم التصوف منجماً للمعنى، وأخضعه لبنية جدلية دقيقة.

التصوف، عند هيغل، لا يعني الانفصال عن الفكر أو الطيران في عوالم اللاعقل، بل يشكّل لحظة من لحظات تطور الوعي في سعيه نحو المطلق، وكيف بنى البشر حضاراتهم في أثناء الرحلة.

وقد استلهم من المتصوفة، لا سيما بوهمه ومايستر إيكهارت، فكرة الاتحاد بالكل، لكنّه أصرّ على إعادة تنظيم تلك الرؤى الحدسية ضمن منطق جدلي عقلاني يُفكّر بها دون أن يُفرّغها من قوتها الشعورية. لقد استبقى من التصوف عمقه، وحرّره من غموضه.

وتأكيداً لوجود الاتجاه المبكر، وجدنا هيغل في شبابه يكتب قصيدة رمزية بعنوان «إليوزيس»، مستوحاة من الطقوس الغامضة لمعبد إليوسيس اليوناني، وملأها بالإشارات إلى «الكهنة» و«الحكمة الخفية» و«الرموز المضنون بها». ورغم أن القصيدة لا تُعدُّ عملاً شعرياً عظيماً، فإنها تُظهر تلهف هيغل الشاب لاختراق الحجب، وكشف المستور، وتوقه إلى معرفة تتجاوز المألوف، وتساؤله حول قدرة اللغة على حمل المعنى الباطني. لقد كانت تلك القصيدة بمثابة اعتراف شعري بأزمة الحدس، كأعمى يتحسس طريقه في الظلام، وسعيه إلى بناء فهم أمتن. إنها لمحة نادرة عن عقل يتأرجح بين الخشوع الغامض والرغبة في الفهم، عقل سينتقل لاحقاً من القصيدة إلى النسق، ومن الرمز إلى المفهوم.

أما غلين ماغي، فقد أصاب حين أشار إلى أثر الهرمسية والرمزية في فكر هيغل، لكنه أخطأ حين تعامل مع هذا البُعد بوصفه قطيعة مع العقل، أو خيانة للفكر الفلسفي. فالحقيقة أن التصوف، كما ظهر عند هيغل، لم يكن نقضاً للعقل، بل أحد تجلياته. تجربة الصوفي، في صورتها الهيغلية، ليست رفضاً للتفكير، بل إدراك حدوده، والسعي لتجاوزها من داخله، لا عن طريق النفي، بل عن طريق التصعيد الجدلي. لم يكن العقل عنده سجناً، بل الجسر الذي يفضي إلى الحرية.

لقد بيّنتُ أن غلين ماغي فصل التصوف عن العقل، لكن التصوف، بعمقه وحدسه، هو فعل عقلاني أيضاً. حجة ذلك أننا في تقاليد الهند، نجد آلاف الكتب التي تعلن الحرب الفكرية على العقل، لكن هل كان ممكناً أن يفعلوا هذا بدون العقل؟ لا أحد يهرب من العقل. والخلاص منه وهم، أما الكمال فليس في إسقاطه، بل في إدماجه.

ومن هنا تكتسب عبارة برتراند راسل قيمتها الكبيرة، حين قال «إن الاتحاد الحقيقي بين الصوفي ورجل العلم هو أسمى ما يمكن أن يبلغه الإنسان في عالم الفكر». لقد رأى راسل أن المثالي ليس الانقسام بين الإيمان والعقل، ولا بين الحدس والتجريب، بل لحظة الجمع والانسجام. وهذه اللحظة النادرة هي عرش الفكر الذي سعى هيغل للجلوس عليه.

الكمال لا يتحقق في العقل وحده، ولا في التصوف وحده، بل في لحظة اتحادهما. اللحظة التي لا يُلغى فيها أحدهما لصالح الآخر، بل يُركّبان في هيئة جديدة. هيغل، في هذا المعنى، لم يكن مجرد صوفي عقلاني، ولا عقلانيّاً متصوفاً، بل كان المفكر الذي حاول أن يضمّ في فلسفته تلك الثنائية التي طالما شطرت الروح الإنسانية، فلا تبقى ثنائية.

وإذا شئنا الدقة، فإن مشروع هيغل يعلّمنا فقط كيف نفهم التصوف، ويعلمنا كيف نحفظ له كرامته الفكرية. لقد كان يعي أن لكل حدس روحي مكمناً عقلياً، وأن كل لحظة إشراق لها جذر في التجربة والتأمل. التصوف، حين يُنظر إليه بوصفه اجتهاداً داخلياً لفهم المطلق، لا يقل صرامة عن أي نشاط فلسفي آخر، بل قد يكون أكثر توتراً، لأنه يركض على الحافة القصوى للعقل. وهيغل، حين أعاد تأطير هذه الحركة، لم يكن يروّضها أو يدجّنها، بل منحها ما لم تمنحه لنفسها: وضوح البناء وصرامة المبدأ.

من هنا نفهم كيف يمكن للفلسفة أن تكون روحانية من غير أن تهجر الفكر، وكيف يمكن للحدس أن يستقيم في طريق العقل دون أن يُبتَر. إن فهم هيغل للتصوف لا يكشف عن ميول باطنية ضبابية، بل عن تصميم وجودي على جعل التجربة الداخلية قابلة للفهم، دون أن تُنتَزع منها شرارتها الأولى.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 16 يونيو 2025 م ـ 20 ذو الحِجّة 1446 هـ

 

ليست الشعبوية مجرد خطاب سياسي أو أداة في يد الزعماء الشعبويين، بل يمكنها أن تتسلل أيضاً إلى المجال الفكري، حيث لا يُتوقّع وجودها. فما يسميه بعض علماء الاجتماع «الشعبوية الفكرية» populisme intellectuel يشير إلى موقف يستخدم فيه المثقف هيبتَه الأكاديمية لتبسيط النقاشات المعقدة، وإنتاج ثنائيات جذابة، مع تجاهل الدقة والمساءلة النقدية. هذه الظاهرة، وإن بدت هامشيةً، تُلحق ضرراً بالغاً بجودة الحوار العام وبمسؤولية منتجي المعرفة في مجتمعاتنا.

من منظور فلسفي، ترتكز الشعبوية الفكرية على موقع «العلو المعرفي»، حيث يتقمص المثقف دورَ حارس الحقيقة في مواجهة «منظومة فكرية» مزعومة يصفها بأنها مهيمنة أو منحازة، سواء أكانت أكاديمية أم مؤسساتية أم أيديولوجية. وهنا، يظهر هذا المثقف بوصفه مقاوماً أو مهمشاً، بينما يستخدم قنوات التأثير الأكثر شهرة وانتشاراً لفرض قراءة أحادية للواقع. هذا النمط من الهيمنة الخطابية سبق أن نبّه إليه بيير بورديو في حديثه عن «القول المأذون»، والذي بوسعه فرض أطر تأويلية باسم الموضوعية، في حين أنه يُنتج تأثيرات اجتماعية وسياسية ملموسة.

أما من زاوية سوسيولوجية، كما نجد عند كريغ كالهون ونانسي فرايزر، فإن الشعبوية الفكرية تهدف غالباً إلى كسب «رأسمال من الصدى الشعبي»، من خلال تبسيط التعقيد الفكري. فهي لا تسعى إلى التوضيح بقدر ما تميل إلى التعميم، ولا إلى إثارة الأسئلة بقدر ما تسعى إلى تأكيد المسلّمات. العالم يُقسّم فيها إلى أخيار وأشرار، إلى مستنيرين ومضلّلين، إلى شجعان وخانعين. وتُميَّز هذه الشعبوية بخطاب يقوم على الثنائيات، والتعميمات الجارفة، والشكّ الدائم في البحوث التجريبية أو المناهج الدقيقة، مع النزوع إلى تثبيت الهويات والاختزال الفكري.

غير أن أكسل هونيث يذكّرنا بأن الاعتراف الفكري الحقيقي يتطلّب وساطةً نقدية مع الآخر، لا تصنيفه وشيطنته. فدور المثقف ليس في تأكيد قناعات الجمهور، بل في إدخال الشك حيث تسود اليقينيات، وفي إخضاع الفكر لحدوده الخاصة، وتجنّب إغراء السلطة المعرفية. والمعرفة، إن كان لها دور في المجال العام، فهو أن تُعلّمنا كيف نفكر ضد أنفسنا، كما قال ميشيل فوكو، أي أن نخرج من ردود الأفعال الهوياتية ومن الإغراءات الأخلاقية المريحة.

إن الشعبوية الفكرية تحول المثقفَ من ناقد إلى مؤدلِج، ومن باحث عن المعنى إلى موزّع للأحكام. وعندما يتحول المفكر إلى مهاجم ينقسم معه العالَم إلى «يمين» و«يسار»، أو يجعل من مفاهيم مثل «التقاطع» فزّاعة أيديولوجية.. فإنه يضلل النقاش ويجرّه نحو الابتذال.لكن هذا الانحراف لا ينشأ من العدم. فهو وليد الاستقطاب الاجتماعي، وانعدام الثقة في المؤسسات، والتحوّل في المشهد الإعلامي، حيث يغلب منطق الجاذبية على منطق العمق. المعرفة تصبح أداة تمييز واستعراض، والمثقف يتحول إلى شخصية هجينة تجمع بين الخبير والمحرّض، بين الرغبة في الشهرة وادعاء امتلاك الحقيقة.

لا يعني ذلك رفضَ كل أشكال الالتزام الفكري، فمسار الفكر حافل بمن جمعوا بين النقد والفضيلة. إنما المقصود هو مقاومة إغراء التبسيط، ورفض تحويل الأسئلة المعقدة إلى إجابات سريعة. المطلوب اليوم هو إعادة تأكيد أخلاقيات الفكر القائمة على بطء التحليل، واحترام التعدد، والابتعاد عن البطولة الزائفة.

وفي زمن تعلو فيه الأصوات وتنتشر الاختزالات، يصبح التفكير نفسه فعل مقاومة. إذ لسنا بحاجة إلى خطباء ملهمين بقدر ما نحتاج إلى مفكرين صبورين، يرفضون الانسياق، ويعيدون للمعنى هيبته.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 يونيو 2025 23:45

 

أعلامه الروّاد استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.

***

ندى حطيط

عن جريدة الشرق الأوسط للندنية، يوم: 16 يونيو 2025 م ـ 20 ذو الحِجّة 1446 هـ

بعد قرابة خمسين سنة من رحيل الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر، نُشرت مؤخراً الرسائل التي تبادلها مع فيلسوف ألماني آخر هو هانس غورغ غدامير. ومع أن غدامير تلميذ لهايدغر وقد تأثر بفكره التأويلي، إلا أنهما اختلفا في مسألة جوهرية، هي الموقف من التقليد، بما انعكس في مراسلاتهما بعد صدور كتاب غدامير الأساسي «الحقيقة والمنهج» سنة 1960.

لقد اعتبر هايدغر أن سؤال التقليد لدى تلميذه قد حجب الإشكال الفلسفي المحوري الذي هو نسيان الوجود، في حين اعتبر غدامير أن التقليد ليس عبئاً أو فراغاً، بل هو أفق الفهم والمعنى والإطار الأوحد لممارسة التفكير الرصين الجاد. ومع أن كتاب «الحقيقة والمنهج» ترجم إلى اللغة العربية منذ سنوات عديدة، إلا أن محدداته المنهجية الثرية لم يتم توظيفها في مقاربات قراءة وتأويل التراث التي سادت في الفكر العربي المعاصر منذ سبعينيات القرن الماضي. لقد طغى على الفكر العربي في المسألة التراثية منهجان أساسيان: المنهج التاريخي الأيديولوجي الذي ينظر للنص في سياق التحولات المجتمعية والزمنية دون عناية بنظامه النظري المعرفي الخاص، والمنهج الابستمولوجي الذي ركز على مفاهيم القطيعة والانفصال دون اعتبار للسرديات الطويلة والزمنية الممتدة.

وبعد أن شاعت أفكار هايدغر وامتداداتها في تفكيكية جاك دريدا، ألغيت العلاقة التأويلية بالنص، لحساب تأويلية الوجود ولم يعد ينظر إلى الخطاب إلا من حيث هوامشه وفراغاته وآثاره المطمورة. في كل هذا المناحي يغيب التقليد إما كخطاب من الماضي لم يعد له موقع في دائرة الدلالة والمعنى، أو كغطاء حاجب لسؤال الوجود في علاقته بالإنسان التي هي منبع اللغة والتعبير، حسب أعمال هايدغر الأخيرة.

ما يؤكده غدامير هو أنه لا سبيل للخروج من نسق التقليد؛ لأن كل إمكانات التفكير تقتضي استئناف محادثة سابقة على المرء، هو بالضرورة طرف فيها، وإنْ كانت متقدمة عليه وباقية من بعده. فعلى عكس ما تتوهم أفكار الأنوار، لا سبيل للتحرر من التقليد ولا معنى لاختزاله في السلطة المعرفية المقيدة والمعيقة للإبداع والتجديد. التقليد ليس كتلة موروثة جامدة، بل يتسم بالطابع الحواري المتجدد من خلال عملية التأويل التي لا تنحصر في الفهم والتفسير، بل هل إعادة إنتاج للمعنى.

وهكذا يعيد غدامير الاعتبار للأحكام المسبقة من حيث هي موجهات للقراءة والتأويل، لا غنى عنها في استراتيجية التناص والحوار المعرفي، ومن دونها ينغلق الإنسان في أوهام الذاتية الفارغة. لا نلمس هذه الأفكار الرائدة في الكتابات العربية السائدة حول التراث الذي هو مصطلح يفترض مسبقاً علاقة القطيعة مع منابع المعنى والدلالة والانفصال عنها. التراث هو ما خلفه الأقدمون من تركة تحمل بصمات عصرهم واهتمامات زمنهم؛ ولذا فإن العلاقة معها لا تكون إلا على سبيل التملك الاستلابي في حال التقيد بها، أو القطيعة التجاوزية في حال التخلي عنها. لا يختلف في هذا المنهج من يدعو للتماهي مع النص الأصلي مع نبذ التقليد التأويلي، ومن يدعو إلى الانفصال من منطلقات حداثية تنويرية مع هذا التقليد، كلاهما في موقف عدمي من العالم المشترك الذي يشكل الأفق التاريخي للمعنى والفهم. في كتابه «ثقافة الالتباس» a culture of ambiguity، يبين توماس باور أن الإسلام الكلاسيكي كان شديد الانفتاح والتسامح نتيجة لغياب سلطة تأويلية تحتكر المعنى والدلالة، بينما كرست الأيديولوجيات الأصولية المتعصبة الراهنة فكرة حصرية الحقيقة من خلال تصورها الأحادي المغلق لمرامي النصوص.

ومن منطلق هذه الملاحظة، توصل باور في كتاب آخر إلى غياب «عصر وسيط» في الإسلام لكون هذا المفهوم لا يتناسب مع الحركية التاريخية الفعلية للمجتمعات المسلمة التي لم تشهد مشكل الانتقال من المركزية التأويلية إلى العلاقة المفتوحة الحرة مع النص.

كان المفكر الراحل محمد أركون يجمل الديناميكية التأويلية في التراث الإسلامي في ثلاثية ما لا يمكن التفكير فيه، وما تم التفكير فيه، وما أهمل التفكير فيه (بمعنى أنه خيار ممكن، لكنه لم يقع بالفعل)، بيد أن هذه الشبكة المنهجية افترضت خطأ الانفصال بين القارئ المعاصر والنص الذي يخضع لتأويله، في حين أنه يتعرض لأفق ينتمي إليه مهما أعلن الاغتراب عنه، كما توهمت هذه الشبكة انغلاق المعنى في سياق تشكله الأصلي، والحال أن المعنى لا ينفك يتشكل ويتجدد بفعل القراءة نفسها.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني.

15 يونيو 2025 23:45

النقد الفكري لا يعني دحض الأفكار، أو العمل على إبطالها وإزالتها، بل مراجعتها وفحصها. في أوروبا بدأ نقد الفكر التاريخي الموروث مبكراً. الفلسفة كانت أداة العقل، التي حركت مسيرة الإنسان نحو النهوض والتقدم. الفيلسوف فردريك هيغل كان مهمازاً لدفع حيوية التفكير النقدي. كي تؤسس لزمن جديد، عليك أن تراجع أفكارك دون توقف، أي أن تنتقدها. فأنت لا تستطيع أن تفكر مثل إنسان عاش منذ مائة سنة مضت، أو سيأتي بعد مائة سنة، والزمن له تأثير على العلم والفلسفة. ويضيف هيغل: «لا نستطيع أن نضع قانوناً أو تشريعاً أو فلسفة، تلائم كل الأزمان، بل يجب أن نسخر أفكارنا لمعالجة أمور عصرنا، ومع تقدم الزمن، من الممكن لأي فكرة مهما كانت صحيحة، ألا تلائم الأجيال اللاحقة، ما لم تعدل أو تستبدل بها أخرى، والفكرة التي تزوجت هذا الزمن، ستكون أرملة في الزمن المقبل، والفلسفة هي الزمن، كتب في أفكار». في الغرب كان النقد هو الحادي لمسيرة الحياة، في كل المجالات وعلى كل المستويات.

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت في كتابه، «نقد العقل المحض»، أقام أعمدة مكينة لمنهج العقل النقدي، وكان له أثر في تأسيس منهج فكري نقدي عميق في كل أوروبا.

مدرسة فرنكفورت النقدية، التي تأسست سنة 1923 وضمت أساتذة من تخصصات مختلفة، في علم الاجتماع والفلسفة والأدب  وعلم النفس. اجتمعوا على منهج تفكير عقلاني، يقوم على النقد. حرية الفكر والرأي، وانتشار التعليم، كانا ماء الحياة الذي يروي العقل الغربي المبدع، والنقد المستمر هو السماد الذي يعطيه الخصوبة المتجددة.

في أواخر القرن الماضي، بدأ توجه عربي محاولاً تكريس تيار النقد الفكري في المنطقة العربية. الأستاذ المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، قام بعمل كبير لنقد العقل العربي. «العقل العربي المكَوَّن والمكَوِّن» كما وصفه الجابري، كان المحور الذي تحركت حوله اجتهادات الجابري. مشروع الجابري الكبير، لقي اهتماماً من النخبة العربية بمَن فيهم من أكاديميين ومفكرين ومثقفين. لكنه تعرض لعاصفة من النقد. هل يوجد عقل عربي واحد قديماً وحديثاً؟ وهل الغوص في الموروث القديم تاريخياً وأدبياً وفقهياً هو الهادي إلى تكوين هذا العقل وفاعليته التي نعيشها اليوم؟ ولماذا لم يخض الجابري بتوسع في نقد العقل الإسلامي الذي يشكل العامل المركزي في تكوين العقل العربي؟ المفكر السوري جورج طرابيشي، قضى قرابة ربع قرن من حياته، في تفكيك ما أنجزه الجابري في مشروعه الكبير، وأصدر عملاً ضخماً تحت عنوان، «نقد نقد العقل العربي». جورج طرابيشي المفكر والمترجم والمؤرخ، أسهم بقوة في تحريك تيار النقد الفكري بمخالفته المنهجية العميقة لما قدمه الدكتور محمد عابد الجابري. طرابيشي اشتبك مع الواقع الفكري والثقافي والسياسي العربي المعيش، بمحركاته الدينية والسياسية والآيديولوجية. رغم الاختلاف والخلاف بين الجابري وطرابيشي، فقد قدم الاثنان للمكتبة العربية، وللقارئ العربي إنجازَين كبيرين، أسهما بقوة في تحريك الفكر النقدي. هناك تابوهات حارقة في فكرنا العربي، يصعب بل يستحيل أحياناً الاقتراب منها والخوض فيها، خاصة الموروث التاريخي الفقهي، الذي يقود مَن يلامسه إلى التكفير والتهجير وحتى القتل. في ملحمة النقد الغربية والأميركية، ربح المنهج النقدي معاركه، بفضل حرية الفكر والرأي وسيادة القانون التي تكرست منذ انطلاق النهضة الأوروبية. محاولات لا تتوقف، خاضها أساتذة ومفكرون ودارسون عرب ومسلمون، في مخاض نقد العقل العربي والإسلامي. تعددت تلك المحاولات، منها ما اختلف ومنها ما اتفق.

الأستاذ الدكتور محمد أركون، اجترح منهجاً نقدياً للعقل الإسلامي، اعتمد فيه إلى حد كبير، على تجربة المدارس الأوروبية في كتابه، نحو نقد العقل الإسلامي، فهوى يرى، عكس محمد عابد الجابري، أنه لا يوجد عقل عربي أو إيراني أو تركي، بل يوجد عقل إسلامي ديني. ويرى محمد أركون أن كل القضايا التي أثارها الاستشراق، في بداية القرن العشرين، ينبغي أن تستعاد وأن تُدرس من جديد على ضوء العلوم الحديثة، وما توصلت إليه الإنسانية كعلم الألسنيات والسيميائيات وعلم النفس التاريخي والأنثروبولوجيا، أي علم الإنسان. أركون كان يرى أن هناك منهجاً إنسانياً مشتركاً في مدرسة الفكر النقدي. في كتابيه، «التشكيل البشري للإسلام»، و«معارك من أجل الأنسنة»، خاض أركون معارك طويلة، مع الفقهاء والمحافظين، وعمل رغم ذلك دون كلل، على نشر فكره عبر وسائل الإعلام المختلفة، العربية والأجنبية. أركون يرى في كل أعماله، أن تأسيس منهج تعليمي نقدي للموروث الديني، هو الطريق الذي يضمن الوصول إلى العصر الحداثي، الذي دخلته الأمم المتقدمة. قال: «لا يمكن للعالم العربي والإسلامي، أن ينطلق حضارياً إلا إذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة، لأنظمة الفكر الديني القديم المسيطر والراسخ الجذور، وكذلك ينبغي تفكيك كل الآيديولوجيات الغوغائية التي سيطرت علينا بعد الاستقلال».

موضوعات نقد العقل والموروث القديم، خاض فيها كثيرون قديماً وحديثاً، لكن الصوت المحافظ المتشدد، لا يزال هو الأعلى، أما النقد ونقده الموضوعي الفاحص، فيبقى قشرة بيضة الوعي، ولا يصل إلى بياضها وصفارها.

***

عبد الرحمن شلقم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 19 ذو الحِجّة 1446 هـ - 15 يونيو 2025 م

لم يكن المثقف يوماً كائناً منعزلاً عن أسئلة الوعي والمعنى، بل ظل حارساً يقظاً للقيم وساعياً نحو تأويل العالم في ضوء العقل والتجربة والضمير. لقد صاغت الحداثة صورته كممثل للعقل الكوني ومنظّر للعدالة، وناظم للمعرفة، في سياق كلي شمولي.

غير أنّ هذه الصورة تخلخلت مع تحولات ما بعد الحداثة، التي أعادت مساءلة المفاهيم المؤسسة: الحقيقة، العقل، التقدم، وأخرجت المثقف من موقع الناطق باسم الكل، إلى فاعل ضمن فضاء تعددي يتطلب الحذر والتواضع المعرفي. فالمثقف الحداثي قد تكلّف أحياناً دوراً يتجاوز المعرفي نحو ما يشبه النبوءة الفكرية، متكئاً على يقينيات عقلانية متعالية، ومتحدثاً باسم الإنسان المجرد، غير أنه، كما كشفت القراءات النقدية، كان في كثير من الأحيان يتكلم من داخل منظومة معرفية مشروطة، تستبطن تصورات مخصوصة للكون والإنسان والمعنى.

أما الفكر ما بعد الحداثي، فقد قلب الطاولة على هذه الطموحات، حين أبان أن كل خطاب هو نتاج سياقات، وأن الحقيقة ليست معطى خالصاً بل بناء رمزي، وأن المثقف ليس فوق التاريخ، بل غارق فيه. هذا التحول، رغم عمقه، لم يقد إلى إعادة بناء دور المثقف على نحو إيجابي، بل أدّى إلى انحسار سلطته الرمزية، وتراجع قدرته على إحداث الأثر الجمعي.

لقد تحوّل إلى «خبير» أكثر من كونه حاملاً لمشروع فكري، وابتعد عن الأفق التأويلي لصالح الأدوار الوظيفية. وفي ظل تسارع الزمن الرقمي، وتكاثر المنصات، وتفكك المرجعيات، صار حضوره باهتاً، وصوته عرضة للضياع بين ضجيج الآراء اللحظية. في هذا السياق، يبرز النموذج الذي قدّمه المفكر الإسلامي علي شريعتي، والذي لا يُستقى من مرجعية غربية، بل من فقه الوعي النابع من التجربة الحضارية الإسلامية.

لم يكن شريعتي يسائل موقع المثقف من حيث هو سلطة رمزية، بل كان ينظر إليه بوصفه حاملاً لأمانة فكرية ومعنوية، ينطلق من وجع الإنسان لا من تنظيرات متعالية. فالمثقف عنده ليس فقط من يُحسن التأويل، بل من يحمل همّ التغيير المعرفي، ويصوغ وعياً قادراً على ملامسة الضمائر لا مجرّد العقول. لقد اختار شريعتي أن يكون المثقف شاهداً لا خطيباً، مؤولاً لا مفسراً، سائلاً لا واعظاً. إنه المثقف الذي لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يذهب نحو إعادة فتح الأسئلة الكبرى للوجود والمعنى والكرامة.

ليس بالضرورة أن يقدّم أجوبة نهائية، بل إن يُبقي على جذوة السؤال حيّة، وعلى القلق المعرفي يقظاً، لأن لحظة السؤال هي لحظة التغيير الحقيقي. وهكذا يعود دور المثقف ليُعرّف من زاوية مسؤوليته الأخلاقية في حفظ الذاكرة، واستنطاق المعنى، وتجديد صيغ الفهم بعيداً عن الصخب الإعلامي أو الاستعراض الخطابي. ليس هو من يتصدر المنابر، بل من يقف خلف الكلمة الصادقة، والحكمة المسؤولة، والعقل الحاضر بضمير حي.

في زمن التشتت الرقمي والتسطيح المعرفي، تصبح الحاجة إلى هذا النوع من المثقف أمراً وجودياً، لا خياراً ثقافياً فقط. المثقف الذي لا يُعرّف بمكانته الأكاديمية، بل بأثره المعنوي، لا بسلطته الرمزية، بل بحضوره كضمير تأويلي يعيد ربط الإنسان بذاته، والتاريخ بمقاصده، والمعرفة بسؤالها النبيل: ماذا يعني أن نفكر لنكون أكثر إنسانية؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يونيو 2025 23:29

 

في إطار ابستمولوجيات الفضائل التي هي مبحث فلسفي جديد، بلورت الفيلسوفة البريطانية ميراندا فرايكر نموذجَ غياب العدالة الابستمية الذي تعني به أشكالَ الغبن والتفاوت الصادرة عن خلفيات معرفية وإدراكية، غالباً ما تكون غير واعية. وفي هذا السياق، تميز فرايكر بين نموذجين من غياب العدالة المعرفية،، يتعلق أولهما بالشهادة والتزكية ويتعلق ثانيهما بالتأويل والفهم.

النموذج الأول يعود إلى المصادرات القبْلية المسبقة ذات الصلة بالمنزلة الاجتماعية، مثل وضع المجموعات المهمشة والمقصية لأسباب تاريخية أو ظرفية حالية، بما يولد ضرباً من التشكك والتوجس إزاء أقوالها وشهاداتها، بغض النظر عن مضامين الخطابات والأفكار نفسها.

 أما النموذج الثاني، فينبع من المصادر التأويلية المتقاسمة التي تحول دون دمج واستيعاب بعض أنماط الخطاب والقول في دائرة المعقولية والمعنى، لكونها غير قابلة للضم إلى النسق المرجعي القائم.

 ما تؤكد عليه فرايكر هو أن حالات الاستغلال والغبن لا تتعلق دوماً بسياسات التمييز والاستغلال الاقتصادية (كما يرى اليسار التقليدي)، بل قد تنتج عن العوامل الثقافية ومحددات التمثل والتصور، أي صراع التصنيفات الذي كثيراً ما يلتبس بصراع الأصناف (الطبقات والفئات الاجتماعية).

 ومن هنا تبنت فرايكر مقاييس ابستمولوجيا الفضائل التي تعتبر أن نظريات المعرفة بنيت تقليدياً على مرجعية النص أوالخطاب من حيث براهينه الداخلية ومضمونه الموضوعي، دون اعتبار للوضع الأخلاقي لحالة المؤلف أو منتج القول. ووفق هذه الرؤية، لا تقاس صلاحية الخطاب بنسقه الدلالي أو قوته البرهانية، والحال أن المعارف الإنسانية ظنية احتمالية، لا توجد فيها حقائق مطلقة ولا يمكن التأكد علمياً من حقيقتها، ولذا كان من الأجدى التركيز على ظروف إنتاجها ومعايير تشكلها من حيث القيم الثقافية والضوابط المنهجية التي يتبعها ويعتمدها المؤلفون.

 لقد بلور القدماء، منذ أرسطو، منهجيةَ المنطق الصوري الذي اعتبروه ميزاناً لقياس المعارف الصحيحة، ثم تخلى المحدثون عن هذا المقياس محبذين المنهج الرياضي التحققي الذي وضعه ديكارت وطوّره فلاسفة العلم المعاصرون، قبل أن يكتشفوا أنه غير مجد في المعارف الإنسانية التي هي تجارب تأويلية تُنال بالفهم لا بالتفسير، وبالحدس لا بالبرهان الموضوعي.

 بيد أن الفكر الإنساني الحديث ظل متشبثاً بفكرة الكونية المعرفية، أي خضوع كل المجتمعات البشرية لنفس النماذج التفسيرية، على اختلاف سياقاتها التاريخية والاجتماعية.

ومنذ هيغل تكرست هذه الرؤية الخطية للتاريخ الإنساني في سيرورته الأحادية، وقدم فيلسوف الوضعية أوغست كونت قانوناً مرجعياً لهذه السيرورة في محطاته الثلاث المشهورة، قبل أن يدعي ماركس أنه اكتشف قوانين التاريخ البشري.

 إلا أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد خيارات فلسفية، بل باتجاه كامل سيطر على الدراسات الإنسانية، ولم تضعفه الاكتشافات الانتروبولوجية للمجتمعات المغايرة التي أطلق عليها الجيل الأول من علماء الأثنولوجيا عبارة «شعوب متوحشة» أو «بدائية».

 لقد طرح المفكر الأرجنتيني «والتر ميغنولو» خيارَ «العصيان المعرفي» epistemic disobedience في مواجهة ما اعتبره «السردية الغربية» التي قامت على احتكار الكونية وإقصاء الثقافات الأخرى من دائرة المعقولية والحقيقة. والهدف هنا هو بوضوح محاربة الهيمنة المعرفية الغربية وإعادة الاعتبار لابستمولوجيات الهامش (في أفريقيا وأميركا الجنوبية أساساً)، تقويضاً لمسلّمة اختصاص الغرب بالعلم والمعنى. ومن الجلي أن هذا الاتجاه أصبح له تأثير واسع في بلدان الجنوب، لكنه لم يؤد إلى نتاج فكري نوعي، في ما وراء المحاولات الهشة لاكتشاف فلسفة أفريقية شفهية بالاستناد إلى تراث الحكمة المحلي (فلسفة البانتو مثلاً)، أو السعي لاستبدال العلوم التجريبية بالممارسات السحرية والطوطمية في أميركا اللاتينية، وهو الاتجاه الذي بدأ مبكراً في أعمال عالم الأنتربولوجيا الفرنسي المعروف كلود ليفي شتراوس.

 فكرة العصيان المعرفي لتحقيق مطلب العدالة الابستمية الذي تحدثت عنه ميراندا فرايكر لا غبارَ عليه، وليس مدارَ اعتراض، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن نماذج وأدوات العلوم الإنسانية لا تزال من إبداع وإنتاج علماء غربيين.

 بل إن فكرة العصيان المعرفي ذاتها نشأت من داخل الفكر الغربي نفسه، مع محاولات الفيلسوف الألماني نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر إبطالَ التصور الثابت الذي قامت عليه الحداثة الأوروبية، أعني كونية العقل الذاتي وحياديته المعيارية. فمفكرو ما بعد الكولونيالية مضطرون اليوم للرجوع إلى التيارات التفكيكية والنقدية الغربية في الحملة الهجومية على المركزية الثقافية والمعرفية الغربية، وهم بهذا المعنى يعبرون عن أحد وجوه وتجليات الحداثة الغربية التي يتوهمون الخروج عليها!

***

السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 يونيو 2025 23:45

نبَّه المفكر الصديق السيد ولد أباه في جريدة «الاتحاد» الزاهرة («وجهات نظر»، في 2 يونيو 2025) إلى وفاة الفيلسوف الأميركي ألسدير ماكنتاير، صاحب الكتاب الشهير «ما بعد الفضيلة». وقد بدأ ماكنتاير كتاباته بين الفلسفة والأخلاق في ثمانينيات القرن العشرين بالنقاش الناقد لأطروحة فيلسوف القانون الأميركي جون راولز في كتابه «نظرية العدالة» (1971).

وتحت ضغوط حرب فيتنام والتفوق الأخلاقي لليسار في أفكاره حول العدل الاجتماعي والسلام، قدّم راولز حلولاً للأنظمة الليبرالية من داخلها، والتي اعتبرها إنقاذاً وتطويراً في الوقت نفسه. لقد بقيت الحقوق الفردية مسيطرةً في النظام السياسي، إنما ينبغي التعويض بشكلٍ ما على أولئك الأدنى حظاً في النظام السياسي والمجتمعي. لقد أنكر راولز أنه بقي أسيراً لنفعوية جون ستيورت ميل، وفي السياق نفسه ظلَّ بعيداً عن الجماعاتية الماركسية.

ألسدير ماكنتاير لم يكن ماركسياً، وقد اعتنق الكاثوليكية كما فهم لاهوتَها توما الأكويني، لكن جماعاتيته لم تبدأ من عند الأكويني بل من عند أرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير في أطروحته حول السياسة والأخلاق إلى نيقوماخوس بشأن «العيش معاً» أو العيش المشترك. فالفرد له حقوقه الطبيعية الأساسية، لكنه لا يستطيع تعقلَها أو ممارستَها إلاّ من خلال المجتمع في تشاركيته وقيمه الجمعية. فحتى المبادرات التي تُعتبر فردية لا يمكن ممارستها إلاّ في الجماعة ومعها.

لا يستقل الفرد بإنتاج أساسياته في المأكل والملبس والمسكن، وهو لا يحس حتى بفرديته إلاّ من خلال الاعتماد المتبادل. وما هو ظاهرة طبيعية في المجتمعات صار له معنىً أخلاقي لدى توما الأكويني (المحبة والتضحية، ومن الجماعة الصغيرة إلى مجتمع المدينة أو دولتها). منذ ديكارت والتنوير تطورت تلك العملقة للفرد والفردانية. وتمخضت عنها في الفكر والأنظمة السياسية راديكاليتان: راديكالية الفردانية في الأنظمة الليبرالية، وراديكالية الشمولية في الأنظمة الشيوعية. راولز، واستناداً إلى كانط، قال بالدستورية التي اهتمت بالتقنين لحقوق الأفراد، ولأن تطوراتها جرت خارج الدينين الكاثوليكي والبروتستانتي فقد تجنبت الأخلاقي والقيمي والخيري باعتبار ذلك كلّه خارجاً عن حقوق الأفراد التي يضمنها القانون، ولا علاقة لذلك بالأخلاق والفضائل الإنسانية التي اعتبرتها مستندةً للدين! «أماراتيا صن»، المفكر الاقتصادي الأميركي من أصلٍ هندي، والحاصل على جائزة نوبل، ذكر في كتابه «الهوية والعنف» (2006) أن العدالة في المجتمع تتناول الاقتصادَ ضرورةً، ليبقى المجتمع متوازناً ومستقراً.

أما ألسدير ماكنتاير فرأى أنه لا حاجة إلى هذا الخوف من فكرة الخير العام، وهو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ وإنسانية، ولها ظلال دينية، وهي ظاهرة في الفلسفة الإنسانية ما بين أرسطو (القانون الطبيعي للعيش معاً) وتوما الأكويني الذي اعتبر الأصولَ الدينية للخير الإنساني والعام. شكّلت فلسفة ألسدير ماكنتاير (أصول الفضيلة) تياراً بين الجماعاتيين. أما اليساريون من بينهم فأرادوا تجنب نفعوية ستيورت ميل. بينما أراد ماكنتاير، غير اليساري، في كتبه، وبخاصةٍ كتابه «ما بعد الفضيلة»، ثم دراساته عن الأخلاق في أزمنة الحداثة، أن يُماهي بين الأخلاق والفضيلة والخير العام، باعتبار ذلك كلّه خلاصةً للفلسفة الإنسانية المتقدمة في المجتمع المدني والعالمي.

ماكنتاير عميق الإيمان بعصمة الجماعة إذا صحّ التعبير، ولذا لا يرى مانعاً في أن تكون دولة الجماعة هي دولة العدالة والخير معاً، سواء أكان ذلك بالمعنى الإنساني أو بالمعنى التقوي الديني. فالخير (رأس الفضائل) تمارسه المجتمعات بالعطاء بشتى أشكاله وصيغه. وكذلك ينبغي أن يكون شأن الدول التي تطبق قوانين المواطنة والعدالة، أما دوافع سياساتها فهي الخير العام الذي يهب القانون طابعه الإنساني.

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 يونيو 2025 23:45

 

تعبّر الفلسفات باستمرار عن زمانيتها، فكل نظريةٍ تحمل معها لحظة انبجاس، منذ الإغريق وحتى اليوم. ونلاحظ أن الفلسفات تزداد مأساويةٍ مع تفاقم العثرات، ومشاهد النهايات. لن نتحدث عن معارك إسبرطة وأثينا، وإنما عن انبعاث الفلسفات الحزينة التي لقيت رواجاً لدى العالم في الثلث الأول من القرن العشرين، ومن ثمّ تلقّفها بعض المثقفين العرب بعد الهزيمة في 1967، حيث راجت الفلسفات الوجودية، والأحزان، والمشاعر الخلاصية، واتجه معظم المثقفين نحو هذه الحالة من النشيج الصاعد، وتحولت القصائد والكتب والأفكار إلى ملاحم من الدموع والنواح بل والبكاء. في مقدّمة تلك النظريات التي لقيت رواجها عربياً الفلسفة الوجودية.

وما كان رواجها نظريّاً فلسفيّاً بقدر ما ذُهب بها نحو الشعر والاحتجاج. اتجه المثقفون نحو كيركغارد وألبير كامو وسيوران، ولهذا الاسم الأخير حيويّته التي تؤثر على جيلٍ من الروائيين والمثقفين حتى اليوم، حيث يشعرون بالعزاء كلما زاد النواح والبكاء. إميل سيوران فيلسوف وكاتب روماني، من مواليد عام 1911، نشر أعماله باللغتين الفرنسية والرومانية، ولد في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية، والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. سيوران لم يكن إلا «شاعر الغضب». لم يمسك بناصية النظرية الفلسفية قط. إنه شاعر مشؤوم وحزين، وقصته غاية في التشرذم.

وألفت لتحليل مهم لإبراهيم جركس في بحثه بعنوان: «ماذا يعلمنا سيوران عن الحياة» حين قال: «وجهة نظر سيوران هي أنّك حين تحاول التخلّص من مشاعر الخوف والحزن تجاه الوجود وإنكارها، فإنّ ما تفعله حقاً هو عدم أصالة فكريّة. أنت لا تحبّ عدم الارتياح الذي تولّده فيك هذه المشاعر، لذلك تحاول أن تجد بعض التبريرات العقلانية للحياة التي تسمح لك بالشعور بتفاؤل أكثر. وهو يقول إنّ ما تفعله في الوقت نفسه هو تقييد نفسك بعقيدة الأمل الكاذب بأمور أسمى. الآن، مرّة أخرى، وعلى المستوى السطحي، قد يبدو الأمر محبطاً. وقد يخرج شخص ما من تلك النقطة بموقف مثل، «حسناً، ما الهدف من فعل أي شيء؟».

ولكن على مستوى أعمق، ما يقوله سيوران هنا هو مجرد التفكير في عدد الاحتمالات التي أصبحت مستحيلة بالنسبة لك عندما ربطتَ نفسك بعقيدة التفاؤل والأمل هذه». الخلاصة، أن الفلسفة عنوانها النظريّة القويّة العتيدة، فهي لا تبنى على الأحزان والدموع والشعر، حين تقرأ لفلاسفة كبار مثل كانط أو نيتشه أو هيدغر أو هوسرل أو سارتر وغيرهم الكثير تعرف أن الفلسفة وظيفتُها تكمن في إمداد الإنسان بالقوّة والحيوية والطاقة.

إن الاستسلام لأفكار البدايات والنهايات من دون تفسير اللحظة والزمن هو ضربٌ من الشعر والهذيان العام. الفلسفة أكبر من أن تختصر بمقولاتٍ وشذراتٍ عن البدء والنهاية، إنها تفسّر لحظتك التي بين يديك الآن، وعليه فإن صيغة سيوران الشعرية سببت الكثير من الآثار النفسية الكارثية، وبنظري أن مجاله روائي وشعري أكثر منه نظري فلسفي، بل وتفتقر أفكاره للحيوية الدنيوية، ولهذه الفكرة تتمة في المقالة التالية.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 مايو 2025 00:59

حين نتأمل في العلاقة الأولى التي تربط الإنسان بالعالم، نجد أنها لا تنشأ من سيطرة، ولا من حاجة، بل من رؤية: أن يُرى، أن يُلتقط حضوره من قبل عين الآخر. من هنا تبدأ كل قصة للكينونة، ومن هنا أيضاً تبدأ كل أزمة للوجود. فالاعتراف ليس مجرّد اتفاق اجتماعي أو اعتراف قانوني، إنه الشكل الأعمق للقبول بالآخر بوصفه جديراً بالحضور، مشاركاً في المعنى، ومحمولاً على القيمة. ومن هنا تتأسّس كل هوية، لا عبر انفصال الذات عن الآخر، بل عبر انتزاع الذات لمكانتها ضمن أفق أخلاقي مشترك. لكن هل يكفي أن يوجد الإنسان ليُرى؟ أم أن الرؤية مشروطة بمنطق لا يملكه، بقواعد يجهلها، وبسلطة توزيع خفيّة تتحكم في مَن يُعترف به ومَن يُقصى من دفاتر الوجود؟

في هذا السياق، لا يمكن فصل مطلب الاعتراف عن بنية المجتمع الرمزية. فما من ظلم أعمق من أن تكون حاضراً بلا أثر، مرئياً بلا اعتبار، متكلماً بلغة لا تجد أذناً تصغي إليها. إننا لا نُقصى فقط حين تُسلب منا الحقوق، بل حين يُعاد تأطيرنا ضمن تمثيلات تختزلنا أو تشوّه حضورنا أو تلغي تعددنا.

وهذا ما عبّر عنه أكسل هونيث حين قال إن المجتمع الذي لا يتيح لأفراده تحقيق ذواتهم دون المرور من تجربة الاحتقار، ليس مجتمعاً عادلاً بل هو جهاز يُعيد إنتاج الإقصاء ضمن أشكالٍ متقنة من الصمت أو التمويه أو التبرير. لكن، هل الاعتراف مسألة تخصّ فقط الفئات المهمشة أو الأقليات؟ أم أنه بنية كامنة في كل علاقة بشرية، في كل تفاوض ضمني حول القيمة، في كل سياق نُمنح فيه مكانة أو يُنكر علينا الحق في الظهور؟

هنا، تبرز أهمية ما نبّه إليه عالم الاجتماع الفرنسي أوليفي فوارول، حين دعا إلى تجاوز التفسير التبسيطي الذي يحصر الصراع من أجل الاعتراف في رهانات الهويات والاندماج الرمزي، ليؤكد أن الاعتراف هو محرك أعمق للنزاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل هو مفتاح لفهم التجارب الأخلاقية التي تُنتج الفعل الجماعي ذاته. الاعتراف، إذاً، لا يُختزل في فعل صادر عن طرف قوي لطرف ضعيف، بل هو التقاءٌ بين ذوات تُدرك أن وجودها لا يكتمل إلا حين يُؤخذ على محمل الجد.

وليس في الأمر أي نزعة مثالية: فالكرامة لا تحتاج إلى شروط تبريرية لتُمنح، ولا إلى انتماء وظيفي لتُحتسب. بل إن الخطر كل الخطر أن يُعاد تشكيل العلاقات الإنسانية ضمن مبدأ النفعية أو التمثيل المصلحي، بحيث يُمنح الاعتراف على أساس التكيّف، لا على أساس الأصالة، على أساس التشابه، لا على أساس الفرادة. في لحظة كهذه، يصبح الصراع على الاعتراف ليس مجرد تعبير عن التوترات، بل مرآة تعكس هشاشة البنية الأخلاقية للمجتمع. فما من مجتمع يمكن أن يدّعي الاستقرار، وهو يعيد بشكل دوري إنتاج فئات غير مرئية، غير مذكورة، غير معترف بها. إن الذين لا يُسمح لهم بأن يكونوا ذواتاً، يُعاد إنتاجهم كصدى باهت، أو ككائنات تُرى ولا يُصغى إليها.

وحين لا يجد الفرد مرآةً يرى فيها ذاتَه، فإنه يتيه بين صور الآخرين، أو ينكفئ إلى الداخل، أو ينفجر في وجه مَن تجاهله. هل نملك شجاعة إعادة بناء نظام القيم الذي يوزّع الاعتراف؟ هل يمكن أن نُؤسس لعلاقات يكون فيها الاعتراف غير مشروط، وغير مسوّغ، بل بدهي؟ وهل نمتلك القدرة على تربية أجيال لا تتعلم فقط كيف تطالب بالاعتراف، بل كيف تمنحه دون تردد، دون منّة، ودون ميزان مزدوج؟ قد لا تكون الإجابة قريبة، لكن السؤال ذاته هو علامة الوعي بأن الإنسان لا يُصبح إنساناً كاملاً إلا حين يُرى، ويُسمع، ويُحترم.. فهل نحن مستعدون لأن نرى ما لم نكن نراه؟

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 يونيو 2025 23:30

 

كل الفلاسفة مؤسسين ومتأخرين «نسوا» الوجود

ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟

لكي نفهم بقدر كافٍ ما يُمكن أن تعنيه هذه الجملة الخالدة، لا بد من الرجوع إلى خلفية هذا السؤال الوجودي. فقد اعتادت الفلسفة التقليدية، من أفلاطون إلى ديكارت إلى كانط، أن تتعامل مع الإنسان من زوايا متعدّدة: مرة، بوصفه كائناً عاقلاً، ومرة بوصفه حيواناً ناطقاً، ومرة ذاتاً معرفية تدرك العالم من خارجه. لكن الألمعي العبقري هايدغر رأى أن كل هذه الرؤى تفصل الإنسان عن عالمه، وتختزله في وظيفة أو خاصية، بينما تتجاهل السؤال الأكثر جذرية: ما معنى أن يكون الإنسان موجوداً في العالم؟ هنا يطرح هايدغر مشروعه البديل، ويجيب عن هذا السؤال من خلال تحليل كينونة الإنسان ككل، لا بوصفه نوعاً بيولوجياً أو ذهناً مفكراً.

كل الفلاسفة «نسوا» الوجود وهذا ينطبق على المؤسسين من أمثال أفلاطون وأرسطو، وعلى عظماء المتأخرين من أمثال ديكارت وكانط وهيغل، ونيتشه نسي الوجود بدوره، رغم أنه كان قاب قوسين أو أدنى من لمسه. المقصود بنسيان الوجود عند هايدغر هو أن الفلسفة الغربية، منذ أفلاطون وحتى نيتشه، انشغلت بالكائنات (الأشياء) لا بالكينونة، أي أنها ركزت على «ما هو موجود» الأشياء، الأجسام، الأفكار، الله، النفس، الطبيعة، لكنها لم تسأل عن معنى أن يكون الشيء موجوداً أصلاً.

الفلاسفة كانوا يسألون: ما هو الحق؟ ما هو الخير؟ ما هو الجسد؟ ما هي النفس؟ لكنهم لم يسألوا السؤال الأسبق: ما هو «أن يكون»؟ أو ما معنى الكينونة التي تسمح لتلك الأشياء بالظهور والوجود؟ بهذا المعنى، الوجود لم يُنفَ أو يُنكَر، بل تم افتراضه ضمنياً دون أن يُسأل عنه. وهذا هو «نسيانه»: الوجود ظلّ الخلفية الصامتة التي تقف عليها كل أسئلة الفلسفة، دون أن تصبح هي نفسها موضوعاً للسؤال.

هايدغر يرى أن هذا النسيان ليس مجرد سهو تاريخي، بل هو طريقة في الوجود نفسه، أي أن الكينونة تُخفي نفسها، وتدع الموجودات تتصدر المشهد، ولهذا ظنّ الإنسان أن فهم الأشياء يغنيه عن مساءلة الوجود. لكن نتيجة هذا النسيان هي أننا أصبحنا نتحرك داخل عالم من المعاني الجاهزة، والأنظمة التقنية، والمفاهيم الثابتة، دون أي انفتاح حقيقي على الكينونة بوصفها إمكاناً لا يُختزل.

هايدغر لا يريد أن يردّنا إلى ماضٍ ميتافيزيقي، بل يريد أن نستيقظ من نسياننا الطويل، ونطرح من جديد السؤال الذي نسيه التاريخ: ما معنى أن يكون هناك وجود؟ لماذا لم يكن عدماً بدلاً من الوجود؟ وكيف يكون الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن ينفتح على هذا السؤال؟

«الإنسان المهموم بوجوده»، هو الوحيد القادر على الانفتاح على الكينونة، وأن يطرح سؤال: ما معنى أن يكون هناك كائن أصلاً؟ هذا الإنسان لديه مزايا تختلف عن بقية الكائنات، فهو راعي الوجود، وهو من يسكن العالم بطريقة فريدة.

الإنسان لا يوجد «إلى جانب» العالم كما يوجد الحجر أو الحيوان، بل يعيش في العالم كعالم له. ألقي به من دون رغبته في عالم مليء بالأشياء والآخرين واللغة. يتفاعل مع العالم بما يسميه هايدغر: «الاهتمام»، وهذا «الاهتمام» هو ليس مجرد علاقة عقلية، بل علاقة وجودية: العالم ليس أمامي فقط، بل أنا منخرط فيه، منشغل به، معنيٌ به. هذا الإنسان يعيش الإمكان لا الثبات. من صفة هذا المهموم بوجوده ألا يكون هو/ هو في لحظة معينة، بل هو دائماً مشروع مفتوح على المستقبل. في فكر هايدغر، الإنسان ليس ما هو، بل ما يمكن أن يكونه. يسير نحو ذاته الممكنة، نحو ما يستطيع أن يكونه. إنه ليس كتلة موجودة، بل سيرورة وجودية نحو الإمكان. هذا المهموم بوجوده، عليه أن يكون ذاته دائماً. ما الذي يكشف معنى الإنسان؟ إنه الموت.

في مركز تحليل هايدغر للوجود، يقف الموت لا كحادثة في نهاية حكاية الحياة، بل كإمكان دائم يرافق الإنسان منذ لحظة وجوده. الإنسان يعرف أنه سيموت، وهذه المعرفة تفرده عن كل الكائنات. عليه أن يعترف بموته كأفق لحريته. ألا يهرب من القلق، بل يجعله طريقاً للمعنى. هذه المعرفة ليست نظرية فقط، بل تفتح أمامه الأبواب مشرعة ليظهر عمق حريته. الوعي بالموت يجعله مسؤولاً عن اختياراته، عن أن يكون ذاته بصدق.

هذا الإنسان يمكن أن يوجد بطريقتين: وجود أصيل، عندما يواجه موته، ويعيش إمكاناته بصدق، ويتخذ موقفاً من وجوده. ووجود مزيف «سقوط» عندما يذوب في الناس، ويعيش حياتهم، ويهرب من قلق الموت والمسؤولية. هذا هو «الانغماس في القطيع». هل رأيت ثيران الساقية يوماً؟ يدور الواحد منها ويدور، ثم في النهاية يموت، لم يرَ من الدنيا الشاسعة إلا قفا أخيه، لم يذهب لحظة ليرى ما وراء الأفق، لم يغامر قط باستكشاف ما وراء تلك التلال، ولم يسر يوماً صوب الشمس.

الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن يسأل عن معنى الوجود في النهاية، خصوصية الإنسان تكمن في أنه الكائن الذي، لا يكتفي بأن يوجد، بل يتساءل عن وجوده. يحمل الهمّ الوجودي، ويعيش القلق. ينفتح على الكينونة ولا يكتفي بالكائنات. وكلما انفتح على معنى الكينونة، أصبح أكثر إنسانية.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 يونيو 2025 م ـ 06 ذو الحِجّة 1446 هـ

منذ سنوات، ربما تعود لعام 2016، اعتبرت أنّ لدينا، مثقفين وإعلاميين، ثلاث مهمات أو أولويات: دعم تجديد تجربة الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وإقامة علاقات حسنة مع العالم.

وفي العقد الماضي وقبله بُذلت جهود كبيرة من الدول ومن جهات المجتمعات المدنية، وإنْ على تفاوت، في العمل لإحقاق هذه الأولويات. وأريد في هذه العجالة مراجعة الأولوية الثانية، وأعني بها استعادة السكينة في الدين. فقد تنبهتُ إلى أنّ نزعات التطرف والجموح باسم الدين عادت إلى الظهور والسواد بسبب حرب غزة، وبسبب المتغيرات في المجتمعات الغربية التي كانت تحتضن جماعات الإسلامويين. إنّ هذا التنبه استند أخيراً إلى ندوة أُقيمت بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية حول «الإخوان» وأفكارهم ونشاطاتهم في السنتين الأخيرتين. فهم يستعيدون من جهة أفكاراً وممارسات قديمة عُرفوا بها منذ عدة عقود، ومن جهة أُخرى يرفعون ألويةً «جهاديةً» التقوا على أساسها مع «داعش» و«القاعدة» من جهة، ومع اليسار المتطرف في الغرب من جهةٍ ثانية.

لقد أدركتُ، من خلال الدراسة والمتابعة منذ مطالع سبعينيات القرن العشرين، أنّ «الإخوان» في فكرهم وسلوكهم على مدى عقود هم بمثابة انشقاقٍ في الإسلام، وأن أولوياتهم إحداث تمرد على الحداثة والدولة الحديثة باسم الدين. ولذا مضوا بعيداً في مواجهة الدول الحديثة في مجالنا باعتبارها «غزواً» ثقافياً وسياسياً. بيد أنّ المسألة مع الدولة الوطنية على خطورتها ما كانت الأبرز، وبخاصةٍ أنّ الدول واجهتها بقوة، بل الأكثر خطورةً كان وما يزال دعوة هؤلاء المتطرفين الانشقاقيين إلى استعادة الشرعية من خلال الدولة الدينية التي تطبّق «الشريعة»! ويستند ذلك إلى اعتبارهم أنفسَهم ممتلكين للشرعية الدينية وليس المؤسسات الدينية القائمة.

والطريف أنّ هؤلاء اعتبروا دعوتهم التي كانت لكسب الجمهور، اعتبروها إصلاحاً في الدين! ونحن نعرف أنّ التفكير الديني السني القديم ما كان يعتبر الإمامة أو النظام السياسي من أصول الدين، بل اجتهاداً ومصلحةً يحددها كل قومٍ لأنفسهم. أما «الإخوان» فمنذ حسن البنّا يعتبرون النظام السياسي من أصول الدين، وجماعة «الإخوان» هي المكلفة بتطبيقه! وما دام قد صار جزءاً من الإيمان فلا عجب أن يشيع التكفير أو التفسيق ضد الذين لا يقولون بالإمامة أو الخلافة باعتبار أنها مُلزمة حتى في الأزمنة المعاصرة!

ما معنى استعادة السكينة في الدين؟

الدين قوةٌ ناعمة، وإلى العبادات والأخلاق، هناك قيم السلام والقسط والبر التي يدعو إليها القرآن بالدواخل ومع العالم. ولذا فالظروف المعاصرة، ومن أجل إمكانية العيش في العالم برحابة، والمشاركة في أمنه وتقدمه، لا ينبغي ولا يصح تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا لمواجهة العالم، كما حاولت «داعش» و«القاعدة» ومعها كثيرون من كُتاّب «الإخوان» وإعلامييهم.

إنّ استخدام الدين في تسويغ التطرف والإرهاب يحوّل الدين إلى قوة خشنة، سواء باسم المفاصلة أو باسم الجهاد. وقد شهدنا على انتشار الإسلاموفوبيا في الغرب بسبب هذه الدعوى، والانقسام في الدواخل حول فهم الإسلام ورسالته. لذا لا بد من استعادة السكينة التي تعني ثقة المسلم بدينه وشريعته، واللذين لا يمتلك المتطرفون الكلامَ باسمهما.

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 يونيو 2025 02:07

القرن الرابع الهجري، كان حلقة تاريخية شهدت حيوية فكرية، غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي. الدولة العباسية في شبابها امتلكت مقومات القوة المادية والعسكرية والفكرية. انفتحت على الفكر الإنساني، وهفا إلى عاصمتها الفقهاء والمفكرون وعلماء اللغة. كانت قصور الحكام منتدياتٍ للحوار، يلتقي فيها المفكرون والشعراء والسياسيون بمن فيهم الخلفاء والوزراء. عصر عقل وإبداع واجتهاد في الفقه، والأدب، والفلسفة والسياسة. زمن له حمولة ضوء إنسانية فريدة، تفاعلت فيه المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة. كان ذلك القرن زمن انطلاق النهضة في أوروبا، التي وُلدت في إيطاليا واتسعت في أطراف القارة القديمة، منها الفن، والأدب، والفكر والفلسفة. خاض معارك طويلة مع سطوة الكنيسة المسيحية الجامدة، في حين بدأ الوهن يضرب كيان الدولة العباسية. الصراع على السلطة في داخل الأسر الحاكمة، وتراجع مساحة الحوار والحرية الفكرية، وقمع تيار المعتزلة وغيرها. الهيمنة على عاصمة الخلافة تعددت أطرافهم، من البويهيين إلى القرامطة، ثم طوفان الغزو التتري.

اتسعت مساحة الضوء في العقل الأوروبي، وبدأت تضيق في دنيا العرب والمسلمين. في القرن السابع عشر، أقلعت أوروبا بقوة العقل العلمي، والفلسفة، والأدب والصناعة الحديثة، في حين هوى العرب والمسلمون، في وحل الظلام البهيم. بدأ في العالم عصر جديد بعقل إنسان جديد.

أدرك المسلمون أن العقل، هو القوة القادرة على دفعهم للالتحاق بالزمن الإنساني الجديد، بعدما عاشوا محنة الاستبداد التركي والاستعمار الأوروبي.

لقد خاض العقل الأوروبي، معارك عدّة وطويلة، ضد هيمنة الكنيسة على العقل، وعنفها الدموي في وجه العلماء والمفكرين، لكن هؤلاء حققوا النصر، وهدموا أسوار الظلام الكنسِية وأشعلوا أضواء الزمن الجديد.

اجتهد مفكرون عرب ومسلمون، على امتداد أوطانهم في مقاربات مختلفة، من أجل اجتراح بُنى فكرية تقود إلى النهوض، والولوج إلى الزمن الإنساني الجديد. لكن حالة مزمنة لم تغب عن تلك الاجتهادات، وهي ثقل الماضي الموروث. التراث التاريخي والفقهي، كان ولم يزل اليد الثقيلة، التي تلامس العقول وتحرك الأقلام. في معركة تحرير العقل الأوروبي، كان الاشتباك الفكري والفلسفي والعلمي الكبير، مع الموروث الديني الكنسي الظلامي المعادي للعقل. رجل الدين المسيحي الألماني مارتن لوثر، قاد ثورة احتجاجية على الكنيسة الكاثوليكية في روما، من داخل مذهبه في مطلع القرن السادس عشر، وترجم الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية، وكتب خمساً وتسعين رسالة نشرها في ألمانيا، سقت حدائق العقل الأوروبي اليافعة، بماء قيمة الإنسان المفكر العالم المبدع. المذهب البروتستانتي، الذي انتشر في شمال أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، قاد شعوبها إلى دنيا الابتكار والصناعة والإبداع والتقدم والحرية.

في عالمنا العربي تزاحمت الاجتهادات الفكرية على الطريق نحو النهوض، والالتحاق بالدنيا الجديدة التي أبدعها العقل. المفارقة التي لم تغب، كانت وما زالت هي إشعال ضوء زمن جديد بحطب رميم.

ما كتبه أو قاله فقهاء أو مؤرخو عصور ردمها تراب الماضي، هو ما يستضيء به أغلب من حاولوا إطلاق العقل العربي من قيد الظلام الثقيل. جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده وشكيب أرسلان، ومعهم ثلة من الذين شخَّصوا مرض الأمة، لكنهم لم ينجحوا في كتابة وصفة الترياق، القادر على الشفاء من الوهن المزمن. طه حسين المصري وخير الدين التونسي، شخصان عرفا خطوط الطول والعرض، لخريطة عقل الدنيا الجديدة التي يحلم العرب بالإقلاع نحو سمائها. طه حسين كتب الكثير في الأدب والتاريخ واللغة وغيرها، لكن الكتاب الذي أراه ومضة كانت يمكن أن تكون ناقوس يقظة، هو كتاب «مستقبل الثقافة في مصر». نشر طه حسين هذا الكتاب في العهد الملكي المصري سنة 1937 قبل ثورة يوليو (تموز). قدم في هذا الكتاب، مفهوماً موضوعياً للهوية بكل مكوناتها الجغرافية، والتاريخية، والثقافية والدينية. ماذا نأخذ من العقل الأوروبي الآن؟ أجاب طه حسين عن هذا السؤال، بطرح حزمة من الحقائق التي لا يُختلف حولها، وهي أن العلم مُكتسب إنساني مشاع. وقد أخذ العرب من الفلسفة اليونانية، ومن الفرس والرومان، وأخذ الأوروبيون الكثير من العلم والفلسفة والفكر العربي. قدم طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» خطة عملية واسعة للتعليم في مصر، تتضمن توحيد التعليم بعيداً عن المذاهب الدينية، والتدريب بما يؤهل الشباب للدخول في معترك الصناعات. لو تبنت مصر هذا الكتاب، لحققت نهضة تأسيسية شاملة. السياسي والمفكر خير الدين التونسي، في كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وضع معالم تضيء نحو المسالك التي تقود إلى النهوض، اقتداءً بما سلكته أوروبا. في السنوات الأخيرة، تلاطمت بحار التفكير العربي، بموجات من الأفكار التي تتحرك نحو نقد العقل الموروث. من محمد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وفؤاد زكريا، وعبد الله العروي ومراد وهبة وغيرهم. المأساة أن تلك الأفكار لم يكن لها فعل يغير ما راكمته عصور الظلام، في حين تندفع أعاصير التطرف والإرهاب الذي يلبس غلالة الجهل المقدس الموروث. وتستمر المعارك من أجل عقل ينير، ويحقق النهوض.

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 04 ذو الحِجّة 1446 هـ - 31 مايو 2025 م

 

لم يكن المنهج مرتبطاً بالفلسفة وحدها، فقط كان المنهج صديق المعارف كلها، لكنه أصبح لصيقاً بالفلسفة والعلم للآثار الكبرى، التي خلّفها التّعويل عليه والاعتماد عليه عبر تاريخ الفلسفة.

تعود كلمة منهج إلى méthodos في الإغريقية، فهي مشتقة من odós وتعني الطريق، وmetá وتعني صوب ونحو، فالمنهج يدل على الطريق الذي يسير في اتجاه معين، فهو مسار وطريقة، له هدف وغاية. ومن هنا اعتبر المنهج «مجموعة من الخطوات المنطقية والعقلانية، التي تجعل من الممكن الوصول إلى هدف ما». ومن هنا أصبحت للمنهج أبعاد عملية ونظرية، وقد بات المنهج في الفلسفة والفكر أداة حاسمة، إذ بدونه لا يمكن للنّشاط الفكري أن يسير ويحقق نتائجه المرجوة، فبدونه لا يمكن التفكير وفق خطة مدروسة ومحددة مسبقاً، وإلا كان مصير التفكير العاري من المنهج الفشل الذريع.

عندما صرح الغزالي أن العاطل من المنطق لا يوثق بعلمه، فهو كان يشير إلى هذه الحقيقة النّاصعة، وهي أنه من دون منهج، يرسم المسلك الذي يتبناه العقل في تحليل وفهم مجموع قضايا، فإن العقل يتيه ويضيع، مذكراً بالصنيع الأكبر لأرسطو، والذي أصبح به المعلم الأول، وهو وضع قواعد للعقل ومنهجاً للتفكير، وهي القواعد التي سار عليها فلاسفة الإسلام بتبينهم للمنطق الأرسطي والذّوذ عنه، وإن كان لبعضهم تحفظات عليه وخروج إلى مناهج فرعية تطعمه وتعضده.

فقد ظلّ المنهج الأرسطي يتربع على رؤوس الفلاسفة حتى وضع ديكارت كتابه الشهير «خطاب في المنهج»، والذي كشف به المنهج الأرسطي، وفتح الباب بقواعده الأربع لطريقة جديدة في اشتغال العقل العلمي والفلسفي، بعد أن كتب قبله فرنسيس بيكون كتابه «الأورغانون الجديد» الذي كان يقصد من ورائه تقديم منهج جديد مخالف للمنهج الأرسطي تأكيداً منه على المنهج الاستقرائي، على خلاف ديكارت الذي ركّز على المنهج الاستنباطي. وكلا المنهجين حركا العقلين العلمي والفلسفي وكان لهما أكبر الأثر في تحريك عجلة التّقدم للسيطرة على الطبيعة.

منذ أن تحرك العقل الفلسفي والمنهجُ رفيقُه، فمن المنهج التوليدي مع سقراط، في صيغته الكاملة في محاورات أفلاطون، إلى المنهج الجدلي الصاعد والنازل مع أفلاطون، إلى الأورغانون مع أرسطو، إلى المنهج التجريبي مع بيكون، والمنهج الرياضي مع ديكارت، إلى المنهج النقدي مع كانط، إلى المنهج الجدلي بأطروحته ونقضيها وتركيبها مع هيغل، إلى المنهج المادي التاريخي مع ماركس، إلى المنهج الفينومينولوجي مع هوسرل، إلى المنهج الهيرمينوطيقي مع شلايمخر، إلى المنهج الجنيالوجي مع نيتشه، إلى المنهج التفكيكي مع ديريدا، وغيرها من المناهج التي وسمت العصر الحديث حتى أصبح يسمى عصر المناهج، حيث نجد كل تيار فلسفي إلا ويتأسس على منهج متبع.

الفيلسوف هو مفكر- كاتب يلتزم طريقة في التفكير حتى وهو يتمرد ويرفض طرق فلاسفة آخرين. ومن هنا أهمية الاعتناء بالمناهج في الدراسات الأكاديمية، حيث إن الوعي ومعرفة هذه المناهج يساعد الباحثين على تتبع اختلاف طرق استدلال وتأمل الفلسفة لمواضيعها الأثيرة التي تنطوي تحت المواضيع الثلاثة الكبرى: الحق والخير والجمال، ويُزوّدُهم بطرق واضحة في الكتابة والتفكير، ويختصر عليهم كثيراً من الطرق الموحشة، التي قد يتعثرون فيها إذا خاضوها دون منهج واضح وقوي.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 مايو 2025 23:45

 

نحن نشهد ولادة مرحلة اقتصادية جديدة ستعاد فيها صياغة ماهية القيمة، والعمل، والملكية والعملة، ولربما نستيقظ ذات يوم ونحن نتعامل مع الخدمة كعملة، وأن تكون لتعاملات الأفراد اليومية عملات، وللتعاملات التجارية بين المؤسسات الحكومية عملات أخرى وجميعها رقمية ومشفّرة، حيث إن الأزمة القادمة ليست كسابقاتها لأنها ليست مجرد انهيار أسواق، بل انهيار مفاهيم وهو الأهم هنا، لكونه لا يدرّس في كليات الاقتصاد ولا في الأطروحات التقليدية للاقتصاد ومكوناته الرئيسية.

وفي تقرير أصدرته شركات «بلاك روك» و«غولدمان ساكس» في 2024 تشير الحقائق إلى أن 37% من الأصول المالية العالمية أصبحت تعتمد على تقييمات مبالغ فيها، لا تستند إلى أي إنتاج مادي حقيقي، وفي الوقت نفسه ذكرت شركة «ماكينزي الاستشارية العالمية» أن الاقتصاد العالمي قد خلق ديوناً تتجاوز 315 تريليون دولار، أي ما يعادل 336% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (IMF، 2024)، ولكن الأخطر ليس الأرقام، بل إن النظام بأكمله، يستند إلى فرضية خاطئة، وهي أن النمو غير المحدود ممكن على نطاق محدود.

إذاً الزيف الكبير أنه اقتصاد بلا قيمة، والاقتصاد الحالي قائم على ما يُسمى بـ«القيمة الافتراضية»، وهي قيمة لا تنتج من عمل أو مادة، بل من توقعات متبادلة بين أطراف في أسواق معقدة تحكمها خوارزميات، وتشير بيانات «وورلد إكونوميك فوروم» (2024) إلى أن 80% من تداولات الأسهم تتم اليوم عبر أنظمة ذكاء اصطناعي تتخذ قرارات في أجزاء من الثانية، مما يجعل الإنسان خارج دائرة القرار، فهل يمكن لمنظومة لا يفهمها أحد أن تستمر؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي الذي لا يملك وعياً أخلاقياً أن يحافظ على عدالة السوق؟!

ومن زاوية مختلفة، يشير علم البيانات ويتنبأ بالانهيار الكبير، وذلك من خلال تحليل بيانات 74 مليون معاملة مالية باستخدام خوارزميات التعلم العميق قام بها مركز MIT للأنظمة المعقدة (2025)، والذي كشف عن أن نمط التكرار الزمني المتسارع للتقلبات المالية العالمية يشبه النمط ذاته الذي سبق الانهيار الكبير في 1929، وانهيار 2008، ولكن مع تردد أعلى وزمن تفاعل أقصر بنسبة 700%، والنتيجة: الانهيار القادم سيكون أسرع وأعمق وأطول مدىً، وذلك ما تظهره كذلك بيانات «ستاندرد آند بورز» (2025)، وهي تشير إلى أن 62% من شركات المؤشر تمول أنشطتها بالدين لا بالإيرادات، مما يجعلها عرضةً للسقوط بمجرد ارتفاع الفائدة،  وأيضاً بسبب وصول الدين الأميركي العام إلى 36 تريليون دولار، وارتفاع نسبة الفائدة إلى 6.5% وفق الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في الربع الأول لعام 2025 ونحن أمام قنبلة زمنية مالية إذا ما دمجنا ذلك بمفارقة الذكاء الاصطناعي ونهاية الوظيفة كبنية اجتماعية وفق تقرير PwC Global AI Impact(2025)، والاستغناء عن 300 مليون وظيفة بحلول 2030، ومعظمها وظائف متوسطة الكفاءة، فما يحدث ليس إعادة توزيع للثروة، بل تحوّل جذري في تعريف الإنسان الاقتصادي.

 وفي الحقيقة، العمل البشري لم يعد ضرورياً لإنتاج القيمة، فالرأسمالية نظام يخلق قيمته من التوسع لكن في عالم محدود، هذا التوسع يصبح انتحاراً، فالاحتباس الحراري، وندرة المياه، وتصحر الأراضي الزراعية، كلها ليست«مشاكل بيئية»، بل نتائج مباشرة لاقتصاد يستهلك أكثر مما ينتج!

وأكد تقرير الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (2024) أن الموارد الطبيعية يتم استهلاكها اليوم بمعدل 1.75 ضعف قدرة الأرض على التجدد، إذاً، نحن نأكل من مستقبل لم يعد موجوداً! ولا تكمن الأزمة في الأرقام وحدها، بل في الفلسفة التي بني عليها الاقتصاد العالمي: الفردية، والربح الأقصى، والاستهلاك، والمِلْكية المطلقة.

 لقد أكل النظام أبناءه، وبالتالي نحن نحتاج إلى ولادة فلسفة اقتصادية جديدة يكون فيها الإنسان منتجاً للقيمة المعنوية لا المادية، ويكون الذكاء الاصطناعي أداةً لا حاكماً، وتعاد فيها صياغة مفاهيم مثل العمل، والغنى، والنجاح، وتباعاً ستتغير كل المفاهيم والأطر المتعلقة بتجهيز موظف من الروضة إلى الجامعة، وهو ما أراه شهادة وفاة لنظام انتهى، فهل يكون التفوق للأقوى، أم للأكثر وعياً؟!

***

سالم سالمين النعيمي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 مايو 2025 00:56

في ندوة باريس التي نظمتْها، الأسبوع الماضي، مؤسسةُ الفكر العربي مع معهد العالم العربي، سُئلتُ: ما هي خصوصية الفكر المغاربي داخل السياق الثقافي العربي الأوسع؟

 لا مندوحة من الإقرار بوحدة الثقافة العربية من حيث الاهتمامات والرؤى والمواقف، ومع ذلك لا يمكن إنكار خصوصية الفكر المغاربي ضمن هذا النسق الثقافي الشامل.

لقد بدا لي أن أحد مظاهر هذه الخصوصية يكمن في حجم الاهتمام الفلسفي الكبير لدى الكتاب والمثقفين المغاربة، بما فيهم غير المتخصصين في الدراسات الفلسفية.

كثير من الناس لا يعرفون أن عبد الله العروي، الذي كتب سلسلة المفاهيم النظرية حول الحرية والدولة والأيديولوجيا والعقل والتاريخ، ليس فيلسوفاً، بل مؤرخاً وعالِم سياسة، لكن حضور نصوص روسو وسبينوزا ومونتسكيو وهيغل.. كان لافتاً في جل أعماله. وفي كتابه الصادر قبل سنوات حول «الفلسفة والتاريخ»، يتبرّأ العروي من صفة الفيلسوف التي أُلصقت به، لكنه يعترف بميله العميق للتفكير الفلسفي وتوظيفه للمفاهيم والمصطلحات الفلسفية في كتاباته التاريخية والسياسية.

 نفس الحكم يصلح على مؤرخ بارز آخر هو التونسي هشام جعيط، الذي كتب دراساتٍ شديدةَ الأهمية حول الفكر العربي الإسلامي الوسيط، وموضوعات التنوير والتحديث في الخطاب العربي المعاصر، وكان له حضور لافت في الحقل الفلسفي التونسي، لكنه لم يكن متخصصاً في الفلسفة ولا مشتغلا بها.

كثيرون أيضاً لا يعرفون أن محمد أركون ليس فيلسوفاً، بل دخل إلى حقل التفكير الفلسفي من باب الدراسات الإسلامية والآداب، لكنه وظف مقولات التأويليات والابستمولوجيا ومناهج تاريخ الفكر في المنحى الذي عني عنه، وهو ما أطلق عليه مقولة «الإسلاميات المطبقة» (على غرار العقلانية التطبيقية لدى غاستون باشلار).

بعض الأدباء أيضاً سلك المسلكَ نفسَه، مثل الروائي التونسي الفذ محمود المسعدي الذي كتب عدة أعمال إبداعية لا تقل عمقاً وأهميةً عن نصوص نيتشه التي غيرت مجرى الفكر الفلسفي المعاصر.

وفي الورقة التي قدمتُها لندوة باريس عن «مسارات الفلسفة المغاربية الراهنة»، ميزتُ بين نهجين أساسيين في هذه الفلسفة، أطلقتُ على أحدهما: النهج التأويلي الابستمولوجي، وعلى الآخر النهج الديكولونيالي التحديثي.

في المستوى الأول، تبرز المحاولات التي سعت لتقديم قراءة جديدة للتراث العربي الإسلامي بتوظيف آليات النقد الابستمولوجي وأدوات تحليل الخطاب وتفكيك النص. ومع أن هذا النهج بدأ في السبعينيات مع الطيب تزيني في سوريا وحسين مروة في لبنان، إلا أنما ميز الكتابات الفلسفية المغاربية هو الخروج من المدونة الماركسية الكلاسيكية إلى تاريخ الأفكار والمفاهيم وحفريات المعرفة وتأويلية الخطاب، بما هو ظاهر في أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومَن تلاهما تواطؤاً ونقداً في الساحة الفلسفية المغاربية. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن هذا المنحى قد تطور فلسفياً في السنوات الأخيرة في اتجاه بناء تأويلية نظرية تطبيقية مركّبة تستلهم أفكار ومناهج الهرمنوطيقا الفلسفية المعاصرة، كما هو واضح بقوة في أعمال الفيلسوف التونسي محمد محجوب.

 وفي المستوى الثاني، نلاحظ أن مسلك نقد الدراسات الاستشراقية والتمثلات الاستعمارية بدأ مبكراً في الفكر المغاربي من خلال كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي في أربعينيات القرن الماضي، قبل مقالة الباحث المصري أنور عبد الملك حول أزمة الاستشراق المنشورة في مجلة «ديوجين» الفرنسية سنة 1963.

وقد شكل كتاب هشام جعيط «أوروبا والإسلام»، الصادر سنة 1978، محطة حاسمة في هذا النقد الديكولونيالي، قبل انتشار عمل أدوارد سعيد الشهير حول «الاستشراق» الذي يعتبره الكثيرون الوثيقة المرجعية للديكولونيالية.

 إلا أنما ميز الفكر المغاربي هو الخروج من سردية محاربة الغزو الثقافي الغربي، والنظر إلى الخطاب الاستعماري في سياق العلاقة المعقدة بمسار التحديث الفكري والمجتمعي، بما هو بارز في كتابات جيل كامل من فلاسفة المغرب العربي، مثل علي أومليل وفتحي التريكي وفتحي المسكيني.. إلخ.

 لكن ما هي الحصيلة الإجمالية لكل هذه التجربة الفلسفية الغنية؟

 لقد لاحظتْ متدخلةٌ في لقاء باريس أن الإسهام الأول لمفكري المنطقة المغاربية يتمثل في كونهم أدخلوا إلى النسق الدلالي العربي الكثيرَ من المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي غيّرت نوعياً طبيعة الحقل الثقافي العربي في عمومه. ولا شك في أن هذه الملاحظة صائبة، فلا أحد ينكر أن الفكر العربي المعاصر غدا يتكلم بلغة جابرية ويستخدم مفاهيم وإشكالات عروية، وينزع إلى السؤال الفلسفي في ما وراء ضيق التخصص والاهتمام.

***

د. السيد ولد أباه - *أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 26 مايو 2025 00:13

«لقاء الحضارات» هو عنوان كتاب مشتركٍ للكتاب الفرنسي إيمانويل تود وزميله اللبناني الأصل خليل كرباج، وقد صدر قبل خمسة عشر عاماً، وعنوانه الفرعي «تحولات المجتمعات المسلمة حول العالم». وقتها كانت وجهة نظر الكاتبين أن الضغوط الهائلة المستمرة على الشرق الأوسط بعد غزو العراق سوف تفجّره نهائياً، لأن المشكل الرئيس في فلسطين لم يجد حلاًّ، وقد أُضيف لذلك الآن العراق بعد غزوة عام 2003.

لقد اعتقد إيمانويل تود، الناقد الحادّ للسلوك السياسي والثقافي الأوروبي، أنّ الولايات المتحدة بهجوم 11 سبتمبر 2001 فقدت القدرةَ على ممارسة الانضباط، وما عاد مصطلح «القوة الناعمة» الذي أطلقه جوزف ناي عام 1990 (توفي قبل شهر) ينطبق عليها. ولذا صار الاعتماد على أوروبا في تبادلٍ تاريخي كبير. وكانت أوروبا قد عجزت عن مكافحة انطلاقات الوحشية النازية، فتدخلت الولايات المتحدة لإنقاذ الحضارة الإنسانية، والآن أتت اللحظة التي تكررت عبر التاريخ، حيث يكون على أوروبا أن تتخذ موقفاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لماذا قال تود وزميله ذلك؟ لأنّ المجتمعات الإنسانية، والمسلمة منها على وجه الخصوص، شديدة الشوق والتطلع إلى عهودٍ للسلام والتعاون. هناك مسلمون عنيفون من الشبان، وهؤلاء يأباهم المسلمون أكثر من غيرهم، وهم يضرون مجتمعاتهم أكثر مما يضرون غيرهم، وهم قلةٌ متفلتة بين جماهير المسلمين في العالم والذين يزيدون على المليار. عندما نشر هنتنغتون كتابه «صِدام الحضارات» (1993) واعتبر فيه أنّ الإسلام يمتلك حدوداً دموية، ردَّ عليه مئاتٌ من المسلمين مستنكرين ومذهولين.

لا يريد المسلمون مخاصمةَ العالم ولا إخافتَه، ومفكّروهم يعتبرون العلاقات بين الحضارات لقاءات وفُرص تفاهم وتعايُش، وأنه ينبغي التوقف عن الضغط العسكري والفكري والثقافي، كي لا يحصل المزيد من الانفجارات التي تهدّد سلام العالم المهدَّد أصلاً.

ما أُعجب تود (الذي توفي قبل شهرين) بتطورات ما بعد عام 2010 في العالم العربي واعتبرها انفجارات لا تبشر بخير. لكنّ وجهة اهتمامه تركّزت حول مظاهر «الانهيار» الأوروبي. ما عجزت أوروبا عن كبح جماح الولايات المتحدة فقط، بل سارت في ركابها. إنما الأفظع أنه من الناحية الداخلية فإنّ أوروبا فقدت المناعة وتوشك أن تسيطر فيها تياراتٌ لا تريد السلام ولا العلاقات الحسنة مع العالم.

إنّ هذه النزعات الثأرية غير المبرَّرة تتصاعد ولن يوقفها التقدم التكنولوجي المتسارع، بل يشجّع عليها، والطريف أنّ هذا المدَّ الاتصالي والذكاء الاصطناعي يصاحبه جزرٌ لجهة صعود القيم الأخلاقية الإنسانية وتفاهمات العيش المشترك.     وفي كتابه «انهيار الغرب»، قبل وفاته بسنتين، ذكّر إيمانويل تود بما سبق له ذكره في «لقاء الحضارات».

هناك صوتٌ جديدٌ فقط وهو صوت سلامٍ عالمي: صوت البابا فرنسِس الذي يقول لا سلام في العالم إلاّ بالسلام مع الإسلام. إنما المهمة الآن (2022، عام صدور الكتاب) إنقاذ الغرب الأميركي والأوروبي من نفسه، وقد ينفع فيه المسعى الصيني والآخر الهندي للنهوض والتغيير.

لكنّ تود ليس عظيم الأمل لهذه الناحية بسبب النزعة القومية القوية لدى الأمتين الكبيرتين: فأين هم دعاة لقاء الحضارات وسط هذا العالم الذي يغصّ بمشكلات الغذاء وفساد البيئة والاندفاع باتجاه الحروب غير الضرورية وغير المبررة؟!

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الاماراتية، يوم: 24 مايو 2025 23:45

في ملاحظة طريفة، يذهب الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه إلى القول بأن الصراع الدائر راهنا في أغلب المجتمعات العالمية يتركز في خط الحدود الفاصلة ما بين الهويات الثقافية العضوية والهويات السياسية المصطنعة. والهويات الثقافية هي ما تعبّر عنه مقولة «القبيلة» إذا فهمت بالمعنى الأوسع الذي هو الانتماء القائم على التشابه في الأصل والمحددات الطبيعية الثابتة، والهويات السياسية هي بالأساس الدولة المدنية القائمة على معايير المواطنة والحرية والمساواة.

دوبريه يعبّر عن هذه الثنائية بعبارتَي «القرابة» و«الأخوة»: أولاهما شعور تلقائي فطري يبدو عادياً ويطفو في ساعات التأزم والفتنة والتفكك، وثانيتهما اختيار توافقي وصيغة مؤسسية مخترعة هشة بالضرورة ومعرّضة دوماً للتحلل والضياع.

لا شك في أن ابن خلدون قد انتبه إلى هذه المعادلة في نظريته الشهيرة حول العصبية، عندما أجلى الفرق بين القرابة النسبية والرابطة التلاحمية التي هي وحدها شرط البناء السياسي المنظم.

وما يلاحظ دوبريه هو أن العالَم يعيش راهناً عودةَ القبيلة التي اعتقد الكثيرون أنهم تجاوزوها من خلال شكل الدولة الحديثة القائمة على التعاقد الاجتماعي والشرعية القانونية المدنية. ومن هنا يجزم أن الحالة القبلية ليست ظاهرة قديمة من الماضي السحيق، بل هي من سمات المجتمعات ما بعد الحديثة، بقدر ما ترجع في الآن نفسه إلى ما قبل الحداثة. وبالنسبة لدوبريه لم ينجح سوى العالم الغربي في تجاوز القبيلة من خلال مفهوم الأخوّة الذي هو العنصر الهام من ثلاثية «الحرية والمساواة والأخوة» التي بلورتها الثورات الدستورية والسياسية الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر.

في البلدان العربية والأفريقية، يرى دوبريه أن حالة الأخوة المدنية كانت طوبائية وهشة، ولذا سرعان ما انهارت عند الهزات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها هذه البلدان، فرجعت البنيات القبلية العضوية إلى الواجهة وعوضت الأشكال السياسية للدولة. والواقع أن مفهوم الأخوة نادراً ما يحظى باهتمام نظري دقيق في الفكر العربي المعاصر، في مقابل مفهوم المساواة الذي له جذور تراثية قوية ومفهوم الحرية الذي شكّل محور اهتمام الخطاب العربي الحديث. ولطالما اختُزل هذا المفهوم في اعتبارات القرابة النسَبية أو القومية أو الانتماء الديني والطائفي، دون أن يؤسَّس على محددات نظرية رصينة.

وفي التراث الوسيط، نجد كتابات غزيرة حول الصداقة والصحبة والألفة، لكن نادراً ما نلمس ما يقابلها حول الأخوّة. وفي الفكر العربي الحديث نلاحظ تركيزاً قوياً على معايير المواطنة المدنية، بمنأى عن أرضيتها الأنتربولوجية، أي الرابطة الإنسانية القائمة على التعاطف والتضامن خارج وشائج النسب والقرابة. وما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن أحد الأسباب العميقة لقصور المواطنة في السياق العربي هو هذا الاختزال القانوني الإجرائي الذي يفتقد جدياً إلى مرجعيات نظرية ومعيارية تؤسسه على فكرة الأخوّة. ولا شك في أن وثيقة «الأخوّة الإنسانية» الصادرة في أبوظبي عن البابا السابق فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب شكّلت نقطة تحول أساسية في مقاربة البناء النظري المحكم لمفهوم الأخوة في دوائره الثلاث: المواطنة والدائرة الدينية والرابطة الإنسانية المشتركة.

وبعد ذلك نشر البابا فرنسيس رسالةً بعنوان «كلنا إخوة» (fratelli tutti) ركّز فيها على معاني السلم والتعايش الجماعي والصداقة، معتبراً أن مقولةَ الأخوة هي القاعدة المرجعية لمدونة حقوق الإنسان المعاصرة. ما حذّر منه البابا هو صعود النزعة الشعبوية الجديدة في الغرب، والتي أفضت إلى تضييق مجال الأخوة الإنسانية إلى النطاق الوطني المحدود، بما انجرّ عنه إقصاء ومحاربة المهاجرين واللاجئين والأغراب. لكن هذه النزعة انعكست داخل الحقل الوطني نفسه الذي أصبح مدار التناقضات والصراعات الهوياتية المدمرة. والأمر هنا يتعلق بما أشار إليه دوبريه من تجدد النزعة القبلية بمعناها القرابي النسبي المغلق (لا العصبية التلاحمية المفتوحة)، وهو الوجه الآخر لما سماه الفيلسوف التشيكي جان باتوشكا «تضامن القلقين» (solidarity of the shaken)، أي المجموعات التي تعرضت للاضطهاد والعنف والتنكيل الجماعي فانغلقت على نفسها ووجدت في الانكفاء والعزلة طريقاً للأمن ومسلكاً للحماية.

خلاصة الأمر، أن الفكر العربي بحاجة اليوم إلى معالجة واستيعاب مفهوم الأخوة، بإخراجه من محددات الهوية الضيقة، والنظر إليه في أفقه الأخلاقي والإنساني المتسع، شرطاً لا محيد عنه من أجل استنبات القيم المدنية والسياسية الحديثة التي هي أساس المواطنة في ما وراء دلالاتها القانونية الإجرائية المحدودة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 18 مايو 2025 23:45

الفلسفة هى علم ابتكار المفاهيم. هذا هو تعريف الفلسفة الذى قدمه الفيلسوف الفرنسى جيل ديلوز. والمفهوم هو لفظ مكثف الدلالة يشير إلى ظاهرة معقدة ومتشابكة الابعاد. فأنت حين تستخدم كلمة العولمة تشير إلى تطور الرأسمالية وثورة الاتصالات وسهولة حركة الأشخاص ورءوس الأموال والسلع والأفكار، وإلى تزايد الاتفاقيات الدولية. وجاءت فلسفة ديلوز زاخرة بالمفاهيم المتدفقة التى تزيح بعضها بعضا فتكون خير تعبير عن الصيرورة بوصفها جوهر الوجود.

الوجود فى نظر ديلوز عبارة عن سطح بلا أعماق ملىء بالتجاعيد التى تخفى الكثير. عمليات الفكر هى تعامل مع طيات السطح فالتضمين implication والشرح explication والتعقيد complication كلها مشتقة من الجذر pli أى الطية.نحن أمام صفحة تخترقها مسارات لتدفقات رأس المال أو تدفقات الرغبة، ثم تتقابل فى نقطة التقاء لتنتشر من جديد فى اتجاهات أخرى وقد تغير حالها. يصوغ النظام العام هذه التدفقات فى إطار معيارى، أو يختارالمتمرد الخطوط التى يهرب بها من هذا النظام العام. إنه يرفض التوطين terrétorialisation ويقوم بعملية ترحيل déterrétorialisation. هذا التصور جعل ديلوز يحتفى بمفهوم الرحّال الذى ما أن يستقر على أرض حتى يحمل عتاده ويرحل. وحركة الرَحّال هذه فى الفكر أو فى الفن هى التى تسمح بالتجديد والإبداع الذى يواكب الصيرورة فى مقابل فكرة الثبات التى ليست إلا وهما من أوهام العقل.

فى كتاب، ضد أوديب، يعترض جيل ديلوز وفيليكس جوتارى على مفهوم فرويد عن الرغبة التى يصورها على أنها عبء ملقى على عاتق الإنسان وتصيبه بالمرض والتوتر ولا سبيل لاستعادة التوازن إلا بالتخلص منها، إما عن طريق التسامى أو طريق الإشباع. الرغبة عند ديلوز ليست فقداً وليست اندفاعا داخليا يريد أن يتخارج، وإنما تبدأ من الخارج وتولد من خلال لقاء. الرغبة ليست حاجة تتطلب الإشباع ولكنها إنتاج وإبداع. الفرحة التى تسببها الرغبة هى فرحة اكتشاف وليست فرحة إشباع.

المفهوم الشائع والخاطئ عن الرغبة ظهر لأن فرويد قصر الرغبة على الجنس، فى حين أن الرغبة تتجاوز ذلك. ويجدر بالإنسان أن يعمل على تأجيجها بدلا من إخمادها، ومن هنا يكون سعى الإنسان للتدخل فى العالم ليس نابعا من تصورات فكرية أو معايير أخلاقية ولكن من اندفاعات عاطفية. حملة ديلوز ضد التحليل النفسى جعلته ينظر إلى المحلل النفسى على أنه بمثابة القسيس الذى يتلقى الاعترافات ولكن فى مجتمع حديث، ويعتبر التحليل النفسى وسيلة لتحويل الأفراد إلى هاربين من رغباتهم، قائلا إن أريكة المحلل النفسى هى المكان الوحيد لمواجهة الواقع، هى الأرض الأخيرة للإنسان الأوروبى فى عالم اليوم.

وفى فلسفته للتاريخ يميز بين السياسات الكبرى والسياسات الصغرى. الأولى هى تغيرات تتم على مستوى الكتلة. والثانية تتم على مستوى الجزيئات. وهو مجاز يستعيره من الفيزياء، فأنت حينما تشطر صخرة يظل تركيب الحجر كما هو. أما حينما تتدخل فى إحداث تغيير فى الجزيئات الدقيقة على نحو ما يحدث فى علم النانو تكنولوجى فإن التغيير يكون جذريا. كذلك يكون الحال فى السياسة، فأنت حين تغير النظام من ملكى إلى نظام جمهورى، سوف يكون هذا تغييرا مبهرا مثل الألعاب النارية ولكن تظل الحياة اليومية للفلاحين والعمال كما هى. فى حين أنه عندما تمد خط سكة حديد إلى قرية معزولة أو تنشئ فيها مدرسة للبنات تكون قد أحدثت تغييرا أكثر جذرية. مثل هذه التغيرات البسيطة هى وحدها الحاملة لوعد تغيير حقيقى ملحوظ للعالم. ومن هذه النظرة جاء تأييده المتواصل الذى لا يلين لكفاح الشعب الفلسطينى، فهو الكفاح الذى من شأنه أن يغيّر بصورة جذرية الإطار المعيارى الظالم للعلاقات الدولية.

الجذمور rhizome هو جزء يقطع من ساق بعض النباتات ويستخدم فى إعادة إنباتها. ويستخدم ديلوز هذا المجاز ليشير إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو الرجوع إلى لحظة الميلاد الأولى، وكذلك أيضا التخلص من التعلق بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات، من هنا نقده لولع هيدجر ببواكير الفكر اليونانى، ونقده للانشغال بأطروحة نهاية الفلسفة. عبارات ديلوز: كونوا جذامير ولا تكونوا جذورا، وفلنبدأ بالوسط، تحولت إلى شعارات ملهمة للكثير من الحركات الطليعية الفكرية والفنية.

لم ينسب ديلوز نفسه إلى أفكار مابعد الحداثة ولكن انتاجه الفكرى اقترن بها. فخلال عقد السبعينيات كان ديلوز هو مرشد هذه الجماعة من اليساريين التى تتمسك بالرغبة وبنزعة الترحال وبالفرحة والاحتفال، وبالتدفق الحر والكلام والإذاعات الحرة. إنه الاعتراض الذرى المفتون بمواجهة الإرادات القوية للمسيطرين.

***

د. أنور مغيث

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الثلاثاء 15 من ذي القعدة 1446 هــ 13 مايو 2025 السنة 149 العدد 50562

 

من الطبيعي أن تكون حركة التاريخ مرتبطة بشبكةٍ من النزاعات والمفاجآت والكوارث والانهيارات. فالتاريخ بحالةِ حركةٍ مستمرة، ولكن القوّة تكمن في استيعاب هذه التحديات التي تتصاعد أو لجمها.

على سبيل المثال شكّل مثال «الحروب الصليبية» نقطة انطلاق كثير من الباحثين والدارسين للعلاقة بين الإسلام وأوروبا. لم تكن العلاقة ثابتة، بل إن تلك الحروب الدامية تستمد قيمتها من مآلاتها المرعبة والتي دوّنها التاريخ.

ومع بلوغ العولمة ذروتها حتى الآن في المجالات الاقتصادية والتقنية، دأبت الماكينات الإعلامية على وصف العالم بالقرية الصغيرة، وذلك إغراقاً في التفاؤل والاغتباط بما وصلت إليه المجتمعات من تعارف، بسبب ازدياد التبادلات الاقتصادية الحرة، وغرق الفضاء بالأقمار الصناعية، وانفجار ثورة الإنترنت، وصولاً إلى انكسار الحدود بين الأمم، وتحدّي الذكاء الاصطناعي.

لقد عدنا إلى ما تنبّأ به هنتنغتون وبوضوح أن صغر العالم قد يسبب ضربة للتعايش بين الحضارات، باعتبار التقارب محفزاً لإدراك الفروقات، ومن ثم البحث عن الهويّة الخاصة، وخصائص الذات، ونقائص الحضارات الأخرى.

وبمناسبة كل هذا التغيّر ربما يكون النقاش ضرورياً مع دراسة رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فيتالي نعومكين، تحت عنوان: «شبح هنتنغتون يطوف العالم».

يقول: «منذ البداية، بدا لي أن نظرية هنتنغتون هي ابتداع لا علاقة له بالواقع. بدا كأنه لم يبق سوى القليل وسينتصر فيه التسامح والتعاون والتقارب والإثراء المتبادل للحضارات، والميل إلى التسوية السلمية لجميع النزاعات بين الأعراق والأديان. من المناسب أن أذكّر كيف اختلفتُ بالرأي، في مقالتي التي نُشرت في روسيا عام 2007 ولاقت رواجاً على نطاق واسع تحت عنوان (مبارزة الحضارات)، مع برنارد لويس الذي ادّعى في محاضرته (الهجوم الأخير للإسلام) أن الحملات الصليبية للغرب كانت رداً غربياً (شبه جهادي) على (التوسع الجهادي للشرق العربي الإسلامي)».

لم يكن برنارد لويس وحده في ذلك التوصيف، بل لنعد لكتاب ألبرت حوراني «تاريخ الشعوب العربية».

حوراني في الصفحة 293 يقول: «كانت العلاقة على هذا الصعيد بين الجانبين (الإسلام - أوروبا) تتخذ شكل حرب صليبية من جهة، وشكل جهادٍ من جهة أخرى، إلا أنه كانت هناك أنماط أخرى من العلاقات، فقد كانت هناك التجارة، وبوجهٍ أخص تلك التي تتم على أيدي تجار أوروبيين من البندقية وجنوة في القرون العثمانية الأولى، ومن البريطانيين والفرنسيين في القرن الثامن عشر».

الخلاصة، أن السؤال الرئيسي الحالي يتمثّل في إمكانية تجاوز نظرية «صراع الحضارات» إلى «نقاش الأفكار». لأن النظرية التداولية والنقاشية أكثر غنىً وإفادةً من الأولى المتصارعة، ذلك أن التمادي في الصراع الحضاري يثبّت نزعات الهيمنة، وربما أعطى غنىً وقوةً للأصوليات الصاعدة، هنا مربط الفرس، أظنّ أن خيار النقاش أهمّ من نظريات الصراع والتصادم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

12 مايو 2025 23:45

 

هذا موضوع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية العولمة التي أصبحت موضوعًا تقليديًّا في الفكر الراهن؛ ولكنه يرتبط بذلك الجانب الثقافي من تأثير العولمة الذي يبقى دائمًا متجددًا ومثيرًا للتأمل والجدال. والحقيقة أن حالة «الهيمنة الثقافية» ليست مقترنة بحالة العولمة الراهنة وحدها، وإنما هي حالة عامة طالما اقترنت بالاستعمار عبر العصور، خاصةً عندما يكون المستعمر صاحب حضارة، ويبقى زمنًا طويلًا في البلاد التي يستعمرها.

وربما يكون الاستعمار الفرنسي هو المثال البارز هنا؛ لأن هذا الاستعمار كان مهتمًّا دائمًا بالتأثير في الجانب الثقافي لدى مستعمراته (وهو ما يُعرَف بعملية «الفرنسة»)؛ وهو التأثير الذي نجده ملحوظًا في الثقافة المغاربية، ليس فقط من حيث اللسان وإتقان اللغة الفرنسية، وإنما أيضًا من حيث التوجهات الغالبة في المجال المعرفي والأكاديمي (وربما لهذا السبب نفسه؛ فإن المفكرين والمبدعين الحقيقيين في دول المغرب العربي -من الكبار والشباب- لا تهيمن عليهم تلك التوجهات، ويبدعون مشاريعهم الفكرية والأدبية الخاصة التي تمتد في عمق وجودهم العربي).

ومع ذلك، يتبدى لنا بوضوح أن الهيمنة الثقافية في عالمنا المعاصر، ومنذ عقود طويلة، قد اتخذت صورة جديدة مختلفة عن صورتها المقترنة بالاستعمار التقليدي: فالاستعمار التقليدي كان يسعى إلى الهيمنة الثقافية بفضل هيمنته بقوة السلاح، وكان يستخدم عادةً أدوات محدودة في هذه الهيمنة تتمثل في اللغة والتعليم بوجه خاص.

أما الصورة المعاصرة من الهيمنة الثقافية، فهي نتاج لما يُسمى «الاستعمار الناعم»، وهو شكل جديد من الاستعمار أو الهيمنة من دون حاجة لاستخدام القوة العسكرية في الغزو والاحتلال (وهو ما يتكلف كثيرًا من ناحية، ويخالف القوانين الدولية من جهة أخرى). ولا شك في أن الهيمنة الثقافية هي نتاج للهيمنة الاقتصادية والسياسية لبعض الدول الكبرى، ولكنها بدورها تدعم الهيمنة الاقتصادية والسياسية لهذه الدول.

ومن هنا بدأنا منذ عقود عديدة نسمع ونرى ظواهر عديدة للهيمنة الثقافية، منها -على سبيل المثال- ما يُسمى «الأمركة»، وهي ظاهرة تعبّر صراحةً عن تأثير أمريكي يريد الهيمنة في مجال الثقافة بمعناها الواسع الذي يشمل اللغة والفن والقيم، بل الملبس والمأكل أيضًا، أي يشمل أساليب العيش ومجمل رؤية الناس للعالم.

ولهذا فإن اللغة الإنجليزية قد ترسخت مكانتها في العالم باعتبارها اللغة الأولى في الاستخدام، وهي مكانة قد نشأت في الأصل بفعل هيمنة الإمبراطورية البريطانية التي ورثت نفوذها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى هذه اللغة لم تسلم من ظاهرة «الأمركة»؛ فلقد حرص الأمريكان على شيوع مصطلح «الإنجليزية الأمريكية» American English، أي اللغة الإنجليزية على الطريقة الأمريكية من حيث النطق والتعبير بأساليب مخصوصة، وهي اللغة التي يستخدمها كل من يتعلم اللغة أو يدرس في مراكز ومدارس وجامعات أمريكية.

وبوجه عام يمكن القول إن اللغة الإنجليزية في حد ذاتها هي أداة رئيسة للهيمنة الثقافية، بجانب أدوات الفن والقيم الأخلاقية والجمالية وأساليب العيش. ومن هنا بدأنا نرى مظاهر هذا التأثير في شتى بقاع الأرض، بما في ذلك عالمنا العربي بطبيعة الحال.

ونحن جميعًا نرى مظاهر هذا التأثير في أساليب بعض الشباب في الملبس والمأكل والسلوك، وفي اللغة الأمريكية التي يتباهون باستخدامها على حساب اللغة العربية التي هي عندهم لغة الطبقة الأدنى التي يتعلم أبناؤها في مدارس وجامعات حكومية. ناهيك عن استخدام اللغة الإنجليزية في أسماء المحلات التجارية والمشروعات والمؤسسات الكبرى، وذلك على سبيل الدعاية وإظهار التميز.

ماذا تفعل الدول إزاء الهيمنة الثقافية؟ ما دور الهوية هنا؟ حينما نسعى إلى الإجابة عن هذا السؤال العويص، لا بد أن نستبعد ابتداءً بعض التصورات المغلوطة عن الهوية، ومنها أن الهوية تبقى ثابتة جامدة: ذلك أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا يكمن في لحظة معينة من الماضي أو التراث، وإنما هي تكمن في شخصية شعب أو أمة، كما تشكلت هذه الشخصية عبر التاريخ من خلال إبداعها في مجال الثقافة بمعناها الواسع، وإبداعها في مجالات العلم والمعرفة عمومًا هكذا تتأسس الهوية وتترسخ باعتباره الذات الكلية لشعب أو أمة ما. هذه الهوية قد تتعرض لحالة من الخفوت والتواري أو الطمس بفعل هيمنة ثقافة الآخر.

ولكننا لا بد أن نلاحظ في الوقت نفسه أن هذه الحالة لا يمكن أن تحدث بفعل تأثير يأتي من خارج الذات، اللهم إلا إذا كانت الذات نفسها في حالة ثبات يجعلها غير قادرة على الإبداع. وبعبارة أخرى أكثر وضوحًا نقول إن هذه الحالة تحدث حينما تصبح الأمة نفسها غير قادرة على الحفاظ على هويتها من خلال إبداعها الخاص، وعلى رأسه الإبداع في مجال الثقافة بمعناها الواسع.

وهكذا، فإن الهوية لا يهددها تأثير يأتي من الخارج، وإنما هو يأتي من الداخل حينما لا يسهم هذا الداخل في تشكيل الهوية والحفاظ عليها. وعلى هذا فإن الهوية لا تعني انغلاق الذات على نفسها وعدم انفتاحها على الآخر؛ لأن هذا الانفتاح نفسه يكون ضروريًّا لإثراء تكوين الذات نفسها، ولكن من دون هيمنة لثقافة الآخر على ثقافة الذات.

خلاصة القول إنه لا يمكن مواجهة الهيمنة الثقافية التي تهدد الهوية إلا من خلال إنتاج الثقافة وتمكينها، بدءًا من إعلاء شأن اللغة وتمكينها في العلم والمعرفة والدراسة، وحتى إعلاء شأن الفنون والآدب وتمكينها في ثقافتنا؛ فضلًا عن الانفتاح على ثقافة الآخر، لا باستيرادها وترويجها، وإنما بإخضاعها للفحص والنقد

***

د. سعيد توفيق

عن جريدة عمان العمانية، يوم: 06 مايو 2025

 

كتاب الفيلسوف الإيطالي جاليمبرتي في ترجمة عربية

يطرح «كتاب الانفعالات» للفيلسوف والأكاديمي الإيطالي أومبرتو جاليمبرتي الانفعالات بوصفها تعديلاً في كياننا النفسي، وفي علاقتنا بالعالم، مؤسِساً طرحه وتأملاته في ظلال التاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، والتكنولوجيا.

صدرت الترجمة العربية للكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة بتوقيع المترجمة المصرية الدكتورة نجلاء والي، ويقع الكتاب في خمسة أجزاء يتنقل فيها الكاتب بين مختلف النظريات التي تشرح الآليات الكامنة وراء الانفعالات، وصولاً لتأثير التقنية الرقمية عليها.

ورغم الجهود العلمية المبذولة عبر التاريخ لرصد الانفعالات، فإن جاليمبرتي يعتبر أنها ما زالت عملية معقدة، ويرجع ذلك إلى أنها تقبع في مناطق مجهولة داخلنا، وتضرب بجذور ثابتة في الجزء الأقدم من عقولنا، وتظهر آثارها في الجزء الأكثر نبلاً في وجداننا، وفي مشاعرنا وحياتنا الاجتماعية، وتوقف الكاتب عند طبيعة الانفعالات التي تتفرق بين علوم ومجالات متعددة، ما بين علم الأعصاب وعلم النفس وعلم التربية والاجتماع، والفلسفة، وحتى بوصفها مسألة «ثقافية».

حالة طوارئ

تتجه بنية الكتاب إلى محاورة النماذج الفلسفية المؤسِسة حول الانفعالات، ومجاورتها مع نماذج أكثر معاصرة، فيعود لأصل الأشياء ورصد رحلة تطوّر المشاعر لدى «إنسان الكهف» الذي يقول الكاتب إنه لولا المشاعر التي كانت تقوده لكان الجنس البشري قد انقرض، حيث يمثل شعوره بالخطر أقدم الانفعالات التي حافظت على حياته، فطوّر استجابة «لحظية» لمواجهة الخطر، حيث الوقت يجب أن يكون وجيزاً بين إدراك العامِل المُحفز للانفعال والاستجابة لها، سواء للامساك بالفريسة قبل هروبها، أو أن يهرب هو نفسه من حيوان مفترس.

ولعل هذا المشهد «البدائي» هو ما طوّر تكريس الانفعال بوصفه «رد فعل عاطفياً عميقاً»، يظهر بصورة حادة ولمدة وجيزة نتيجة محفز بيئي مثل خطر، أو محفز عقلي كذكرى، أو حتى من وحي الخيال، فالانفعال في علم اللغة يعني التحرك فيما وراء الشيء أو ما بعده، كما يشير المؤلف.

يضع الكتاب هذا النموذج الأولي في مُقاربة مع التحليل النفسي لدى فرويد الذي يُفرّق بين الخوف الذي يتطلب وجود شيء معين نخشاه، والقلق الذي يمكن تعريفه بعملية انتظار حدوث خطر، أو الاستعداد له، وقد يكون الخطر نفسه مجهولاً، والرعب المرتقب للخطر دون استعداد مسبق له، وهنا تلعب المفاجأة دورها.

ومن ثم، يتتبع جاليمبرتي حالة التفكيك الفلسفي الطويلة لتعقيدات الانفعالات مثل الغضب، والغيرة، والقلق، حتى الضحك والبكاء، ويستخدم تعبير «فقد النظام» باعتبار الانفعالات صورة من إعادة ضبط هذا النظام المُختل، فالفيلسوف الألماني كارل ياسبرز يرى الضحك والبكاء «آفتين من آفات الجسد، الذي لا يجد لهما طريقاً للخروج»، فيفقد نظامه عند نقطة معينة، ويقول الكاتب: «فقد النظام رمز، كما أن هناك رمزية في كل تعبير وإشارة، ولكنها ليست شفافة في الضحك والبكاء؛ لأن كلاً منهما استجابة متأخرة؛ استجابة على الحافة، يقتصر الضحك والبكاء على الإنسان، فهما ظاهرتان بشريتان فحسب».

كسر العدم

يُحاوِر المؤلِف النموذج الأفلاطوني حول المشاعر ما بين ثنائية الجسد والروح، ويسعى لربطها بأفكار داروين، وكارل يونغ، مروراً بجان بول سارتر الذي يتوقف عن تأمله لدلالة الانفعالات، فعلى سبيل المثال إذا كانت التغيرات الفسيولوجية الناشئة عن الغضب لا تختلف من حيث القوة عن تلك الناجمة عن الفرح، بما في ذلك زيادة في نبضات القلب وزيادة في صلابة العضلات، فهذا التشابه في الظاهر لا يعني أن الغضب شعور قوي بالفرح، وذلك ببساطة لأن دلالة الفرح تختلف عن دلالة الغضب، وإذا لم نفهم الدلالة فلن نفهم الفرح والغضب، وإن حددنا ورصدنا الأسباب والعلامات التي تصاحبهما.

ويؤكد أنه لا يمكن إدراك الانفعالات بمعزل عن سياقها الوجودي الأشمل، فإذا كان وجودنا نفسه انفتاحاً على العالم، فالانفعال إذا هو خبرة هشاشة الوجود في اللحظة التي يبدو لنا فيها هذا الوجود أو العالم مختلفاً وغير مألوف، فيترتب على ذلك فقد السيطرة، والشعور بالخطر الوشيك وتهديد خفي بالعدم يجتاحه، وربما يمكن هنا استعارة صوت هيدغر الذي اعتبر القلق هو «استشعار العدم»، وفي تيه القلق نحاول غالباً أن نكسر الصمت المطبق ببعض الكلمات التي ننطق بها بشكل عشوائي، وهو دليل على حضور العدم؛ فالقلق يكسر العدم.

تسليع المشاعر

تبدو الخبرة الانفعالية إذًا أكثر التجارب التي تظهر لنا هشاشة انفتاح الإنسان على العالم، ويشير الكاتب إلى أنه يظل هناك دائماً قدر من عدم الاتساق بين موضوعية الموقف والشحنة العاطفية التي تصاحبها، أو ما يصفه بـ«الشلل» الذي نشعر به دائماً بما لا يتناسب مع المناسبة التي سببته.

ويتوقف الكاتب عند تسخير «الانفعالات» في العصر الحديث بغرض التسليع، حيث تصبح «تسليع المشاعر» سلعة لترويج سلع أخرى، لا على أساس ما تثيره من انفعالات وليس على أسس عقلانية، بما في ذلك استغلال الساسة للعواطف في الخطابات الشعبوية، علاوة على مخاطر «تبدد الواقع» والعزلة التي يخلقها التواصل الاجتماعي الافتراضي، مُفصِلاً في الجزء الأخير من الكتاب تحديات ما يصفه بـ«النمو الانفعالي» للجيل الجديد، الذي يفتقر للتجاوب العاطفي، والذي يسمح لهم بالشعور اللحظي وقبل التفكير العقلاني، فهو يرى أن شبكة الإنترنت تسببت في «تراجع القدرات العقلية، واختزال عالم الانفعالات والمشاعر الذي لا يمكن التحقق عبر قنواتها»، ويتتبع الكاتب مسارات التعبير الإنساني بدايةً من مراحل ما قبل التاريخ حيث التعبير عن المشاعر بالنحت والرسم على الحجارة، وصولاً للتخلي عن تلك الرموز المرئية مع اختراع الكتابة، وصولاً لأجيال الديجيتال، حيث لم تصل إليهم المعارف من خلال «الكتاب» ولكن من خلال «المشاهدة»، ويؤكد الكاتب في النهاية أنه لا يُدين الإنترنت الذي فتح آفاقاً من الفُرص، ولكن في الوقت نفسه لا يعفيه من دوره في إبعادنا عن الانفعالات واستبدالها بأخرى زائفة تشبه الأوهام والهلاوس: «من يهجر الواقع ويذهب إلى عالم افتراضي، والأكثر من ذلك أن هذا يحدث دون دراية من جانبنا ودون عِلمنا».

تبدو الانفعالات كما يصفها المؤلف طريقة لفهم العالم والتعامل معه، ووسيلة للاستمرار في الوجود، ويدعو لإدراكها ليس بوصفه خللاً فسيولوجياً، ولكن بوصفها «سلوكاً منظماً» يسمح للهروب مما لا يمكن أن يتحمله الإنسان؛ الدموع والعواطف الجياشة التي تجتاح شخصاً عندما يذكّره حديث بحب كبير ضائع لا يمكن استرجاعه، وهي مشاعر يصفها أومبرتو جاليمبرتي بأنها ليست «فوضى تعبيرية، ولكنها سلوك مناسب لوجود غير قادر على مواجهة ما حدث، ولا يستطيع التسليم بالفقد».

يُفصّل المؤلف غاية الانفعال هنا بوصه سلوكاً تعويضياً له القدرة على إثارة حضور آخر قادر على تخفيف المعاناة الناتجة عن وحدة لا يمكن درؤها عند التعبير عن هذه العواطف، لتكون تلك الدموع حلاً مفاجئاً ومباغتاً للصراع.

ويتوقف الكتاب عند محطة الانفعال الجمالي، بوصفها تلك الانفعالات التي تقودنا خارج الواقع وخارج عالمنا، كتلك التي تنتابنا ونحن مشدوهون بالموسيقى، والشِعر والفنون، حيث يستدعي القريب البعيد، لنبلغ نقطة أسمى، أو ما وراء الأشياء، يستدعي الكاتب هنا «هوميروس» الذي كان يستدعي وهو أعمى، ربّات الشعر ليحكين له ما حدث في طروادة، فالانفعال بالفنون يقودنا خارج سطوة العقلانية، ما دعا هايدغر لأن يقول إن الفنانين أكثر عرضة للجنون.

***

القاهرة: منى أبو النصر

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية يوم: 12 مايو 2025 م ـ 15 ذو القِعدة 1446 هـ

 

في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، الذي التأم مؤخراً، حضرتُ عدداً من الندوات الفكرية المهمة التي استعرضت التجربةَ الإماراتية الناجحة في الحوار الثقافي والانفتاح الفكري والتسامح الكوني. لقد كانت حصيلة هذه التجربة مجموعة من الوثائق المرجعية المهمة التي أصبحت لها أصداء عالمية نوعية.

ولسنا هنا بصدد التعرض لهذه الوثائق المهمة، من إعلان المواطنة الشاملة، وحلف الفضول الجديد، ووثيقة الأخوَّة الإنسانية، ولكن وجدنا من الضروري الوقوفَ عند خلفياتها النظرية والمنهجية المتميزة.

وبالرجوع إلى المصطلحات الفلسفية الأساسية التي بلورها جون رولز في نظريته الشهيرة حول العدالة، نرى أن المقاربة المذكورة هنا قد استندت إلى ثنائية التعددية المعقولة والإجماع التركيبي.

وتختلف التعددية المعقولة عن فكرة الحقيقة العقلانية المغلقة التي وضعتها الابستمولوجيات التجريبية الأولى في تصورها للقانون الطبيعي من حيث هو التعبير الموضوعي عن العلاقات الواقعية الثابتة بين الظواهر، كما تختلف عن الأطروحات التاريخانية الغائية التي تحدد اتجاهاً واحداً لحركية العقل والمعنى بما نلمسه في أفكار التنوير الأوربي الكلاسيكي والمقاييس الهيغلية الماركسية اللاحقة. ما تعنيه مقولة التعددية المعقولة، هو أن العقلانية ليست محصورة في نسق معرفي بعينه ولا منظومة علمية معينة، وإلا غدا الحوار ممتنعاً والنقاش مستحيلاً. ومن هنا أمكن لمختلف الثقافات والأنساق العقدية أن تساهم في جدلية الحوار المفتوح حول القيم الإنسانية والمعايير الكونية من منطلقاتها المرجعية الذاتية، شرط اعتماد اللغة البرهانية والتفكير العقلاني الرصين.

 أما الإجماع التركيبي فهو البديل عن نمطين آخرين من التوافق الجماعي، أحدهما يصدر عن ما سماه كانط «سلطة المؤسسة الحاكمة» (المعرفية أو السياسية أو العقدية)، وثانيهما يصدر عن الوثوقية الفكرية التي كثيراً ما تتغطى بواجهة علمية زائفة. والإجماع التركيبي لا يفترض سقفاً مسبقاً للحقيقة، ولا يبطل أو يفند الآراء المخالفة باعتبارها خالية من المعنى، وإنما يبحث عن قواسم مشتركة وحدوداً دنيا توافقية.

 هذا المنهج يختلف عن أفكار الخصوصية الحضارية والأصالة الذاتية، باعتباره يراعي مقتضيات الكونية الإنسانية التي لا محيدَ عنها في إدارة وتدبير أوضاع البشرية الحالية.

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الخطاب العربي المعاصر هيمنت عليه في العقود الماضية ثلاث مواقف نظرية جذابة، لكنها خطيرة ومضللة:

الموقف الأول هو «حق الاختلاف الثقافي» الذي كرسته الأدبيات المعيارية العالمية، وبصفة خاصة اتفاقيات اليونسكو. الخلفية التي صدر عنها هذا الموقف هي الخلفية الحقوقية الشاملة التي تصون تميز الشخصية الحضارية للأفراد من حيث هي محدد هويتهم وإطار التعبير عن ذاتيتهم. بيد أن هذا الحق لا يمكن أن يصطدم بمدونة حقوق الإنسان الكبرى، ولذا يختزل عادة في الاعتبارات اللغوية والطقوس الدينية والعادات السلوكية.

الموقف الثاني هو ما نلمسه في أدبيات ما بعد الكولونيالية التي بدأت في الفكر العربي بصفة مبكرة، من خلال أعمال مالك بن نبي الذي ربما يكون قد تأثر بكتابات فرانز فانون الذي هو مؤسس هذا الاتجاه قبل أن يكتمل في كتاب أدوارد سعيد الشهير «الاستشراق». وفي الآونة الأخيرة، تزايد الاهتمام بالنقد ما بعد الكولونيالي ووصل إلى حد المطالبة بالقطيعة الحاسمة مع التراث الفلسفي والاجتماعي الغربي بصفته مظهراً للهيمنة والتسلط والإقصاء.

 الموقف الثالث هو ما تبلور في سياق نقد المركزية الثقافية الغربية والتحيز المعرفي في المعارف الاجتماعية، وهو ما ظهر بقوة في أعمال عبد الوهاب المسيري وتلاه آخرون كثُرٌ رفضوا السمةَ الموضوعية الإجرائية في براديغمات ونماذج العلوم الإنسانية.

إن هذه التوجهات النظرية تقطع الطريق أمام مسؤولية بناء جسور اتصال وحوار غني مع الثقافات الأخرى، مع التنويه إلى أن هذا الحوار لا معنى له إذا كان مجرد استنساخ لتجارب ومنطلقات الآخرين. لقد كان الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور يقول إن مَن لا يمتلك حضناً خاصاً به وأرضيةً ينتمي إليها، لا يمكن أن يتحاور مع الآخرين أو يستقبلهم في مأواه الذاتي. كما كان يقول إن نموذج الحوار الثقافي المطلوب هو الترجمة التي تسمح بنقل المعاني والأفكار رغم اختلاف اللغات والألسن.

ما تؤكده نظرية التعددية المعقولة والإجماع التركيبي هو أن الحوار المفضي إلى توافقات كونية ملزمة ممكن ومتاح، مع الإبقاء على التنوع والاختلاف والتباين، فلا نقاش إلا مع المغايرة والتعارض. أما الاحتماء بالخصوصية والذاتية فهو مسلك إلى الجمود والتقوقع؛ يمنح أمناً زائفاً وطمأنينةً خادعةً، فضلاً عن كونه خياراً انتحارياً في عالم مفتوح لا حدود له ولا فواصل فيه.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 11 مايو 2025 23:45

 

برتراند راسل في سيرته الذاتية المكتملة

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته. يسوّغون الأمر لا بكثرة تصانيف الفيلسوف بل بثوريتها، ويرون أنّ كتابَيْ فيتغنشتاين (رسالة منطقية - فلسفية) و(أبحاث فلسفية) هما المثابتان الشاخصتان في فلسفة القرن العشرين. ربما تكون شخصية فيتغنشتاين الإشكالية وما انطوت عليه حياتُهُ من أنماط سلوكية غير سائدة أو متعارف عليها هما ما ساهما في إعلاء شأنه الفلسفي. لا أظنُّ أنّ معظم الفلاسفة مهما بلغت خواصهم الرواقية من مرتبة عليا سيرتضون أن يتخلّوا طواعيّة عن ميراثهم المالي الضخم من إمبراطورية آبائهم، ثمَ يكتفون بالعمل معلّمين في مدرسة ابتدائية على تخوم جبال الألب النمساوية، أو العمل بوّابين في عمارة كما فعل فتغنشتاين.

لو شئتُ الإدلاء بصوتي في تصويت حرّ لصالح مَنْ هي الشخصية الفلسفية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين فسأختارُ برتراند راسل Bertrand Russell من غير مُنازع. ليس الأمرُ محض ذائقة شخصية أو انجذاباً فردانياً لسلوك محدّد بقدر ما هو نتيجة منطقية لخصائص انطوت عليها حياة رسل وشخصيته وآراؤه الفلسفية. عاش راسل ما يقاربُ قرناً كاملاً (1872 - 1970)، وتلك مساحة زمنية حفلت بضروب الثورات العلمية والتقنية والفلسفية والاجتماعية، ومن الواضح أنّ مَنْ يعيش طويلاً يرى كثيراً، ولن يكون بالتأكيد كمن عاش قليلاً. تخيّلوا معي بدايات راسل حيث كانت وسيلة النقل السائدة في المشهد اليومي هي حصانٌ يجرّ عربة متثاقلة، ثم مع نهايات حياة راسل وقبل وفاته بسنة يشهد بعينيه كيف وطأت قدم الإنسان تربة القمر لأوّل مرّة. من جانب آخر عمل راسل على أنسنة الاشتغال الفلسفي عبر الانغماس في حياة حسية كاملة جعلته أبعد ما يكون عن الشخوص الفلسفية المتعالية التي تلامس مثال الآلهة الإغريقية. تزوّج راسل غير مرّة، وساهم في التظاهرات التي دفع أثمانها سجناً وإبعاداً من وظيفته الجامعية، كما لم يكتفِ بوظيفة الأستاذ الجامعي المختال في أروقة جامعة كامبريدج الأرستقراطية بل (دسّ أنفه) في كلّ المعضلات العالمية: من الحروب العالمية والأسلحة النووية ومعضلة المجاعة وشبح الشيوعية والنظم السياسية الشمولية. خصيصة أخرى تميّز راسل: لم يكتفِ بالكتابة عن المعضلات الفلسفية التقليدية الممتدّة والمتوارثة منذ العصر الإغريقي حيث صُنِعت الفلسفة؛ بل تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة حتى ليصعب على المرء أن يذكر مبحثاً أو اشتغالاً إنسانياً لم يتناوله راسل في كتاباته. أظنّ أنّ هذه الأسباب الثلاثة تكفي للتصويت على أحقّيته في أن يكون الشخصية الفلسفية الأكثر أهمية في القرن العشرين.

لقائي الفكري الأوّل مع برتراند راسل حصل عندما قرأتُ قبل عقود كتاب (صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى Portraits from Memory and Other Essays) الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينات القرن الماضي ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد عام 1975) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة. ربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين لوقت طويل رغم أنّ معظم مؤلفات راسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية.

كتابُ «صورٌ من الذاكرة» واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل التقاطاتٍ ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته بالأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب ذلك الفصلُ الذي يحكي فيه راسل عن بواكير علاقته بالفيلسوف ألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead الذي صار أستاذاً لراسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر (أصول الرياضيات Principia Mathematica) الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 - 1913. يروي راسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولطالما سعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة؛ لذا راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا راسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه؛ فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا راسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بِـ(الأسئلة الكبرى The Big Questions) التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها.

تتناثر نتفٌ من سيرة راسل في كتاباته العامّة؛ غير أنّ القارئ المتفحّص سيكتشف بعد طول مراسٍ في قراءة رسل أنّ سيرته الذاتية يمكن مقاربتها في مؤلفاته الثلاثة: صورٌ من الذاكرة، تطوّري الفلسفي My Philosophical Development، تطوّري العقلي My Mental Development. المشترك الأوّل بينها هو شهادة راسل لطبيعة علاقته في أطوار مختلفة من حياته بعدد من الشخصيات الثقافية اللامعة في الساحة البريطانية؛ أمّا المؤلّفان الآخران فهما أقرب إلى اللغة الفلسفية الصارمة. لن تكون هذه المؤلفات الثلاثة بديلاً بأيّ شكل من الأشكال لسيرة راسل الذاتية التي ارتضى لها أن تحمل توصيفاً صريحاً متمثّلاً في عنوان (سيرتي الذاتية)؛ لذا سيكون من قبيل البديهة العامة أن تحرص الأوساط الثقافية العربية على ترجمة هذه السيرة الذاتية جنباً إلى جنب مع ترجمة كتبه الأخرى التي تُرجِمت ترجمات عديدة وبطبعات كثيرة. الغريب أنّ الجزء الأوّل فقط من سيرة راسل (وهو الجزء الممتد من ولادته عام 1872 حتى انفجار الحرب العالمية الأولى عام 1914) تُرجِم منذ سبعينات القرن الماضي بترجمة تكفّل بها أربعةٌ من أساتذة جامعة القاهرة. لا أعرف السبب الذي جعل أربعة من أساتذة الفلسفة يتشاركون جهد ترجمة عمل سِيريّ ذاتي غير متطلّب لجهد استثنائي ولا يتجاوز بالكاد حاجز الأربعمائة صفحة. أظنّ أنّ الترجمة جهدٌ لا يتناغم مع التشارك ويميلُ بطبيعته الإبداعية إلى الفردانية، وربما كان تعدّد المترجمين سبباً في عدم رواج الجزء الأوّل من سيرة راسل الذاتية. كان الأمر مثلبة بوجهيْن: الاكتفاء بترجمة عربية غير مشجّعة للجزء الأوّل من السيرة، ثمّ غضّ النظر عن ترجمة الجزأين الآخرين منها. ربّما تقدّمُ جهات النشر تسويغاً بثقل المادة الفلسفية في السيرة الذاتية وعدم تناغمها مع أذواق القارئين وتطلعاتهم القرائية، وهنا أقول: سيرة راسل الذاتية أقلّ في صرامتها الفلسفية بكثير من مؤلفات مترجمة لراسل لقيت قراءات موسّعة، ثمّ إنّ الخصيصة النخبوية في مؤلفات راسل معروفة ومشخّصة منذ زمن بعيد، ولن ينغمس أيّ قارئ في قراءة راسل إلّا وهو يعرف مسبقاً طبيعة التضاريس المعرفية التي ستواجهه. نخبويته ليست متقاطعة مع حجم قراءته أبداً مثلما أثبتت مؤلفاته الكثيرة.

جهدٌ طيّبٌ يستحقّ كلّ التقدير ذاك الذي نهضت به دار (الرافدين) العراقية عندما نشرت مؤخّراً ترجمة عربية كاملة لسيرة راسل الذاتية في أجزاء ثلاثة، تناول كلّ جزء منها مقطعاً زمنياً ممتداً لبضعة عقود من حياته. أهمّ ما يمكن قولُهُ عن هذه السيرة أنّ من الخطأ أن يستبق القارئ الحقيقة فيظنّ أنّ السيرة هي محض سيرة فكرية أو فلسفية خالصة. الأصحّ وصفُها بأنّها سيرة حياتية مطعّمة بنكهة فلسفية أو فكرية لا يمكن التنصّل من مؤثراتها بعيدة الغور في تشكيل صورة حياة أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين.

تناول راسل في الجزء الأوّل موضوعات طفولته وشبابه ودخوله جامعة كامبريدج وخطوبته وزواجه الأوّل وكتابته المؤلف الأشهر (مبادئ الرياضيات) ثم عودته لجامعة كامبريدج ثانية. في الجزء الثاني من السيرة (الممتد بين سنوات 1914- 1944) تناول راسل الحرب العالمية الأولى وتجربته مع روسيا والصين وزواجه الثاني ثم إقامته في أميركا، في حين تناول في الجزء الثالث (الممتد بين سنوات 1944-1967) عودته إلى بريطانيا وانشغالاته السياسية والثقافية (من قبيل تأسيسه مدرسة خاصة عمل مديراً لها). من المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ راسل حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1950؛ لذا فإنّ كل قراءة له تعني قراءة نصّ أدبي رفيع فضلاً عن قيمته الفلسفية الدسمة.

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 7 مايو 2025 م ـ 10 ذو القِعدة 1446 هـ

مرّ زمنٌ طويل من التلاقي بين الدراسات الإسلاميّة والغربية بشكلٍ خاص. وما كانت تلك الدراسات اعتباطية، وإنما لها شررها السياسي، وهدفها الاجتماعي، أو جذوتها الدينية.

وآية ذلك أن الاستشراق الألماني كان متمايزاً عن الاستشراق الفرنسي على النحو الذي يشرحه الأستاذ الدكتور رضوان السيد في كتابه عن «الاستشراق الألماني». إن النقاش حول موت الاستشراق تصاعد الآن وبخاصةٍ مع التغيير في أسلوب العلوم والمناهج البحثية. والسياسات الجامعية الأوروبية المستجدّة هي أكبر مثال على ذلك.

ما عادت الهيمنة السياسية أو العسكرية هي أسّ الدرس، وإنما تطورت العقول نحو الدراسات في الإسلام بطرقٍ مغايرة. هذا التجدد يعني أننا أمام مجالاتٍ علمية وبحثية وأكاديمية غير التي كانت عليها من قبل.

قبل أيام صدر كتابٌ مهم عن مركز المسبار للدراسات والبحوث بعنوان: «الجامعات الأوروبية: المساقات - الفرص - الثغرات». الكتاب يتناول الإسلام في عدد من الجامعات الأوروبية والأميركية، فيركز على برامج تدريسه في جامعات ألمانيا والنمسا والدنمارك والسويد والنرويج وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا والأميركتين.

وبحسب مقدمة رئيس تحرير المركز الأستاذ عمر البشير الترابي، فإن الكتاب يهدف إلى: «بناء قاعدة معرفية حول الدراسات الإسلامية المعاصرة وبناء مناهجها في الأكاديميات والمعاهد الأوروبية والأميركية، ويضيء على مسارات وبرامج تدريس الإسلام ومساقات التعايش والتفاهم والأديان المقارنة، والتحديات التي تواجهها، والنقاشات الدائرة حولها، وتأثير الدوافع والأهداف في خلق الاختلافات المنهجية والمخرجات التربوية المتباينة».

 يركز الكتاب المهم على أن فرضيات التأريخ لولادة الدراسات الإسلامية في المجالين الأوروبي والأميركي، استعجل أغلبها تعميم نظريات، مثل «موت الاستشراق»، الذي استمر لمدة قرنين وانقضى في السبعينيات من القرن العشرين، مما أدى إلى استقلال الدراسات الإسلامية، وهي نظريّة لا تفارق «نظريات التفسير السياسي» التي ربطتها بتفاقم ظاهرة العنف الديني، وإرهاب ما بعد ثورة الخميني 1979، والتحولات في السياسة الدولية بعد هجمات 2001 الإرهابية، مما ساهم في ولادة مسارات بناء خطاب الإسلام المحلي المتعايش مع قيم مجتمعه وحدوده الوطنية، والذي يؤهّل منهجه الأئمة الأوروبيين والأميركيين لحماية الأمن الروحي لمسلمي بلادهم. وكلها نظريّات وجيهة، ولكنّ تعميمها يحتاج إلى نظر، لذا اختار الكتاب دراسة كل سياق على حدة، متتبعاً مساراته، ومساقات جامعاته، وتحقيبه التاريخي، مع استحضار شهاداتٍ لأبرز الباحثين.

تعليقي: إن هذه الدراسات المتجاورة بين الإسلام والغرب حيويّة، إنها ليست استشراقاً كما ساد في القرون الماضية، ولا استغراباً على ثقافة الغرب كما هو عنوان الأستاذ حسن حنفي «مقدمة في علم الاستغراب». بل مع هذه الموجة من الدرس والتحليل يجب الخروج من هذه القوقعة وتنويع الدرس والاطلاع.

الخلاصة: ما نشهده من كثافة بحثية أوروبية تجاه الإسلام ومعارفه وعلومه وتاريخه مفيدة بل وضروريه.

هذا التلاقي بين الثقافة الغربية الصاعدة وبخاصةٍ في مجالات التاريخ، مع دراسات العلوم الدينية، والانثربولوجيا يمكنه أن يؤسس لنقاشٍ مختلف عن التضاد الذي ساد بين النخب الإسلامية والغربية في السابق. لكن هل انتهى الاستشراق؟! البعض يقول انتهى، ولكن الأكيد أنه بات من المهام الدراسية القديمة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

5 مايو 2025 23:45

في مقالة منشورة مؤخراً بمجلة «فورين آفيرز» الأميركية، كتبت جنيفر هاريس، الباحثة المرموقة في الشؤون الاقتصادية الدولية، عن ما سمته «المنعرج ما بعد النيوليبرالي» في التوجهات الرسمية للإدارة الأميركية الجديدة.

وحسب الباحثة، فما تشهده الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة هو القطيعة مع السياسات النيوليبرالية التي اعتمدها الرئيس الأسبق رونالد ريغان في إيمانه بفاعلية الأسواق ونجاعتها العملية الصادرة عن النظام الطبيعي للأشياء. لقد ساد في أيامنا انطباع قوي بأن العولمة الليبرالية قد أدت إلى تكريس البطالة والغبن وتقويض الهياكل الصناعية وأصبحت في مصلحة خصوم أميركا المنافسين.

لم تتغير كثيراً السياسات الحمائية والجمركية التي بدأها الرئيس ترامب في عهده الأول، طيلة حقبة خلفه «الديمقراطي» بايدن. وهكذا نرى أن النخب السياسية الأميركية تلتقي عموماً في نمط جديد من «الرأسمالية الديمقراطية» على أنقاض الأيديولوجيا النيوليبرالية التي عرفتها الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي.

 وبالنسبة لهذه النخب لا بد من تصحيح أخطاء الأسواق التي تعاني من عدة اختلالات خطيرة، من بينها تركز الثروة في يد فئة قليلة ضيقة وتكريس سلطة أقلية سياسية محترفة مقطوعة الصلة عن عامة الشعب.

لا فرق بين «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» في هذه النزعة الوسطية الجديدة التي تغذيها دراسات عدد من علماء الاقتصاد البارزين. وهكذا ترى هاريس أن «الإجماع ما بعد النيوليبرالي» يقوم على فكرتين تتعلقان بمقتضيات التوازن والبناء. التوازن حاجة ضرورية للحد من ميل الأسواق إلى التفاوت وانعدام المساواة بحيث لم يعد لأغلب الناس قدرة على التحكم في الحياة الاقتصادية، بما ينتج عنه كبح الإبداع والنمو وتأجيج الكساد والأزمات الاجتماعية. أما البناء فيتجلى في ضرورة استخدام سلطة الدولة ومواردها من أجل تنشيط الحقول الاقتصادية الحيوية والاستثمار في التقنيات الجديدة ذات الأثر الاجتماعي الملموس على حياة الناس.

 وتخلص الباحثة إلى أن قرارات ترامب الأخيرة لا تخرج عن نطاق هذا الإجماع ما بعد النيوليبرالي الذي له انعكاسات واضحة في مجال السياسة الخارجية للدولة العظمى، تبرز في الضغوط القوية التي تفرضها الإدارة الجديدة على شركائها الدوليين من أجل الانسجام مع رؤيتها الاقتصادية التي هي محور فلسفتها الديبلوماسية والاستراتيجية.

وفي هذا السياق، تلاحظ هاريس أن الرئيس السابق بايدن اعتمد المنظور ما بعد النيوليبرالي، مع الحرص على حصره في المجال الاقتصادي المادي دون معالجة مقتضياته السياسية والمجتمعية. وهكذا غاب الجدل الفلسفي الفكري الهام حول مفهوم الحرية في المشروع الحداثي الأميركي الذي عرف منذ تشكله حواراً معقداً ومتجدداً بين المفهوم الليبرالي الفردي التقليدي للحرية والمنظور الاندماجي لهذه القيمة الكبرى التي تعني أيضاً الاستقلالية والمشاركة المدنية النشطة. وما نشهده حالياً مع الظاهرة الترامبية، في ما وراء جوانبها الاستعراضية المثيرة، هو انفجار هذا الجدل النظري الأيديولوجي المعلق.

ما نستخلصه من مقالة جنيفر هاريس هو أن المجتمع الأميركي يشهد راهناً نقلةً نوعية داخلية، تنهي في آن واحد تراث الكينزية التي برزت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الأولى وحروب النصف الأول من القرن العشرين، والسياسات النيوليبرالية التي انطلقت مع الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان وأدت في مراحلها الأولى إلى مكاسب سياسية واقتصادية ملموسة.

وعلى الرغم من الصلات الجلية بين التقليد «الليبرتاري» الذي يركز على المعايير الفلسفية للحرية كقيمة إنسانية عليا مطلقة والتقليد «النيوليبرالي» في تصوره للسياسات الاقتصادية من منظور منطق السوق الذاتي والحد من تدخل الدولة، إلا أن الأمر يتعلق في الحقيقة بخلفيتين نظريتين متمايزتين، وإن صدرتا عن نفس الرؤية الليبرالية الكبرى التي تأسست عليها الثورة الأميركية الحديثة.

ما بعد النيوليبرالية هي من جهة تكريس لنهج الإصلاحات الاجتماعية لتصحيح اختلالات السوق، لكنها تختلف مع الكينزية في نزعتها القومية الانكفائية وفي تدخلها الانتقائي في الحقول التقنية والصناعية المؤهلة للدعم والحماية. كما أنها تلتقي مع النيوليبرالية في السياسات الضريبية والخصخصة الواسعة، لكنها تختلف عنها في الدور السياسي الضبطي والتوجيهي للسلطات العمومية.

ويمكن القول إن الإجماع ما بعد النيوليبرالي له صيغتان: شعبوية محافظة هي التي نلمسها اليوم مع الرئيس ترامب، ويسارية راديكالية تظهر بقوة لدى الجناح الهوياتي الحقوقي في الحزب الديمقراطي. وما تلتقي فيه النزعتان على اختلافهما هو الوعي بضرورة الحفاظ على الريادة الأميركية من خلال التحكم في عناصر القوة الاقتصادية والتقنية التي هي أدوات الديبلوماسية العالمية الجديدة.

***

 د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

4 مايو 2025 23:45

الفلسفة مغامرة العقل البشري في بناء الحقيقة، ومنذ أن ظهرت الفلسفة، وهي موضوع شكّ، وما يزال البعض اليوم يُشكّك فيها على أساس تغوّل العقل البشري. وتبدأ مشكلة الفلسفة في معارضتها للدّوكسا باعتبارها مجموعة المعتقدات التي تؤكد نفسها بقوة الدليل دون الحاجة إلى دعمها بالحجج، والدّوكسا بعيدة عن العلم، فهي أداة معرفية غير مشبعة، لكنها تعطي معرفة هي شرط لسعادة العمل في مجال ما، حسب بورديو.

إن الفلسفة هي إدراج العقل في العالم، فهي طريقة خاصة في التّفكير، وقد لا يكون لها أثر مباشر على الواقع، ولهذا السبب اعتبرت الفلسفة لا معنى لها عند بعض فقهائنا، حتى قال شاعرهم الفقيه: فاقذف بأفلاطون ورسطالس وذويهما تسلك طريقاً لاحبا ودع الفلاسفةَ الذّميمَ جميعَهم ومقالَهم تحت الأحق الواجبا يا طالب البرهان في أوضاعهم أعزز علي بأن تعمر خائباً.

إن الفلسفة وإن لم تكن ضرورة من ضرورات الحياة، بدليل أن أهل البادية لم يعرفوها، فإن الحياة الإنسانية لا تكمُل إلا بها، فالفلسفة بهذا المعنى هي ضرورية في الكمال الإنساني لارتباطها بالصّنائع والعلوم، وما يكون من جهة الأفضل والكمال هو أهم مما يكون من جهة الضرورة، فلكي يحافظ الإنسان على بقائه الدّنيوي يكفيه أن يستعمل قوّته الغاذية والمولدة، أكلا وتناسلا، لكن إذا رام البقاء الأزلي، فلا مندوحة له من استخدام قواه العقلية وتفعيل قيمه الإنسانية العليا، فبهذه تحصل له أولى مراتبه، ثم مع الاعتناء بالعلم والمعرفة والفنون يتدرّج الإنسان في مراتب الكمال الإنساني، ومن هنا أهمية الفلسفة عموماً.

فإن من حاجات النّاس إلى عمرانهم البشري، الصّنائع والعلوم، وإنّ واقع النّاس المرتبط بمعيشهم لا يفرز إلا مشكلات عملية، ومن هنا فهو بعيد عن الفلسفة مهتم بالأمور العملية. إنّ العلم، الّذي هو المحرّك الأول للتّقدّم الإنساني، لا يقوم إلا على النّظر، وللذّات الفلسفية دور أكبر في تشكيل الواقع وبنائه، والغريب أنّ هذا الدّرس الذي تعلّمناه من كانط أشار إليه الجاحظ بعبارات قوية ورائقة، يقول الجاحظ: «ولولا ما أبدعت لنا الأوائل من كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودوّنت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بهم ما غاب عنا، وفتحنا بهم كل مستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خسئ حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة»، مشيراً إلى ما يستفيده العقل الدّارس للفلسفة من قدرة على الاكتشاف والإبداع المعرفي وحلّ المشكلات التي يعجز عن حلها عقل غير متمرس بالفلسفة.

والنّاظر في تاريخ الثّقافة الإسلامية يجد أن العلماء الذين شفُّوا على أقرانهم، وكانت لهم إبداعات جليلة، أكثرُهم تمرَّس بالفلسفة درساً وفهماً، وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال. وتظهر قيمة الفلسفة، بشكل جلي، في عصر الذّكاء الاصطناعي الذي يشكل تحدّياً كبيراً للعقل البشري، وبالفلسفة يستطيع هذا العقل أن يحافظ على ذاته من الانهيار والسّقوط. إنّ أعظم ما في الإنسان فكرُه، والفلسفة ضرورية لكمال الفرد، إذ كلما كانت الذّات قادرة على التّفكير بنفسها تفكيراً عقلانياً ونقدياً، كلما كانت ذاتاً حُرّة ومسؤولة، تتمتّع بالفاعلية والرّشد، وتساهم في تنوير مجتمعاتها.

إنّ الفلسفة باعتبارها نظر في الإشكالات، بما تحويه من غموض وصعوبات وإحراجات ومفارقات، كفيلة بأن تحفظ للعقل وجوده أولاً، ثم كماله المعرفي ثانياً، وأن تحفظ للإنسان إنسانيته الأصيلة ثالثاً. فمجال الفلسفة هو مجال الاكتشاف واليقظة الفكرية الدائمة، ومن هنا أهمية الاعتناء بالمناهج الفلسفية التي تمخّض عنها تاريخ الفكر النظري.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 مايو 2025 23:36

من الطبيعي أن يتخاطر العلم مع الفلسفة، وهذا مشهود عبر التاريخ. والفلاسفة مثل أشباح الليل في الأساطير سرعان مايعودون فجأةً بمعاولهم ومفاهيمهم ولو بعد مئات من السنين. وأكبر أمثلة العود الفلسفي بعث الفيلسوف هيراقليطس على يد نيتشه في القرن العشرين، مع أن هيراقليطس من فلاسفة القرن الخامس قبل الميلاد. ميّزة العلم أن عالم منفتح على المجالات الأخرى، على سبيل المثال استفاد الفيزيائيون من نظرياتٍ موسيقية، ونظرية «الأوتار الفائقة» أكبر مثال على ذلك. لنقرأ ماكتبه أينشتاين عن تأثره العلمي المفهومي المستلهم من الأفكار الموسيقية.

في هذه الأيام يعتبر موضوع الذكاء الاصطناعي أساسياً في مجالات العلم والفلسفة والقانون والسياسية والنظريات الأخلاقية، بيد أن الذي لفتني عدا عن النظريات الحديثة حول هذا الفتح العلمي تلك الدراسات غير التقليدية عن مفهوم الذكاء الاصطناعي بحيث تتجاوز الطرح النظري المحدّث يومياً في المجلات والدراسات والندوات وعالم الأكاديميا.

إن دراسة مثل التي كتبتْها الباحثة فاطمة فرهود بعنوان:«ما الذي يمكن للفيلسوف ابن سينا أن يعلمنا عن الذكاء الاصطناعي» أعتبرها مغامرة ممتعة.

في هذه الدراسة ركّزت على نقاطٍ أختصر منها الآتي: *«في عام 2022، طور بليك ليمون المهندس في جوجل علاقة جيدة بمحاورة رائعة، فقد كانت ذكية، ثاقبة البصيرة وفضولية، وكانت حواراتهما تجري بانسيابية تامة حول مواضيع تتنقل بين الفلسفة والتلفزيون وأحلام المستقبل.

ولكن كانت هناك مشكلة واحدة: وهي أن تلك المحاورة عبارة عن روبوت ذكي للدردشة».

*«السؤال الذي يطرح نفسه: هل نعرف حقاً شخصاً عندما نتحدث معه؟ تشير كلمة «شخصية» عادة إلى الوضع الأخلاقي، ففي معظم الأطر الأخلاقية، تظهر اعتبارات معينة».

*«عاش ابن سينا قبل اختراع المطبعة، فضلاً على الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، كان مهتماً بالكثير من الأسئلة نفسها الذي يفكر بها أخصائيو أخلاقيات الذكاء الاصطناعي اليوم، أسئلة مثل: ما الذي يجعل الشخص شخصاً، على خلاف الحيوان؟!».

*«كان ابن سينا معنياً أيضاً بمقارنة العمليات الداخلية التي قد يخضع لها البشر والحيوانات للوصول إلى نواتج سلوكية متماثلة. وكان عدّ أن القدرة المميزة للإنسان كشخص هي قدرته على إدراك «الكليات»، فبينما لا تمتلك الحيوانات سوى القدرة على التفكير في الأشياء الجزئية».

*«إن التمييز الذي قام به ابن سينا بين علم النفس البشرى والحيواني يشبه إلى حد بعيد التمييز الذي يبحثه علماء الكمبيوتر المعاصرون فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي».

الخلاصة، أن المفاهيم الفنيّة والفلسفية والعلمية آخذ بعضها برقاب بعض، فهي تتداخل على المستويين المنهجي والتحليلي، وعليه فإن هذه النقاط التي وردت في الدراسة حول ابن سينا والذكاء الاصطناعي أعتبرها متقدّمة في التحليل وتستحق النقاش، فالعلم نهرٌ، والمجالات هي الجداول والسقيا النهائية من مصلحة البشر.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 28 ابريل 2025 23:45

كان يرى أن العالم الإسلامي سائر على طريق التقدم والاستنارة

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة في كلا العالمَين العربي والإسلامي. وربما كانت أجمل صورة سيحتفظ بها التاريخ عنه هي عندما رأيناه يوقِّع في أبوظبي على وثيقة «الأخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بتاريخ 4 فبراير (شباط) عام 2019. عندئذٍ تَعانق الإسلام والمسيحية لأول مرة على الأرض العربية من خلال هاتين الشخصيَّتين الدينيَّتين الكبيرتين. وهي الوثيقة التي تدعو إلى السلام العالمي والعيش المشترك بين الأمم. إنها تدعو إلى الحوار والتعاون والتفاهم بين مختلف الأديان والأقوام والشعوب. وهذا يمثل تطبيقاً حرفياً أو شبه حرفي للآية الكريمة التي تقول: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» (الحجرات الآية 13).

ولكن المصيبة هي أن التيار الآخر المتشدد الذي يجتاح العالمَين العربي والإسلامي حالياً يرفض هذا الانفتاح والحوار والتعايش. إنه يراهن على الانغلاق والتعصب وإثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهييجها إلى أقصى حدٍّ ممكن. فأي التيارين سوف ينتصر يا ترى؟ هل التيار الظلامي هو الذي سينتصر أم التيار الأنواري؟ هل المسلمون الحقيقيون هم الذين سينتصرون أم المتأسلمون المتاجرون بالدين كما يقول ممدوح المهيني في مقالة رائعة هنا في «الشرق الأوسط»؟ بناء على انتصار هذا التيار أو ذاك سوف يُحسم مصير العرب والمسلمين ككل. ليس لدينا أدنى شك في أن تيار الانفتاح والتقدم هو الذي سوف ينتصر في نهاية المطاف؛ لأنه يتماشى مع حركة التاريخ؛ ولأن العرب صناع حضارات كما برهنوا على ذلك في الماضي إبان العصور الذهبية. وليس لدينا أدنى شك في أن تيار التعصب والانغلاق سوف ينهزم؛ لأنه مضاد لحركة التاريخ. ولكن متى سيتحقق ذلك؟ المعركة لن تكون سهلة ميسورة، وإنما صعبة وضارية. هذا أقل ما يمكن أن يقال. قوى الماضي التي تشد إلى الخلف لا تزال حتى الآن أقوى من قوى المستقبل التي تشد إلى الأمام. القوى الظلامية الشعبوية الراسخة طيلة عصور الانحطاط لا تزال أقوى من القوى النهضوية التنويرية التي تبزغ أنوارها حالياً في شتى ربوع العالم العربي.

لتوضيح هذه النقطة أكثر، دعونا نَعُدْ إلى البابا ذاته وإلى تاريخ الأديان المقارنة. فعن طريق المقارنة تتوضح الأشياء. و«من لا يقارن لا يعرف» كما يقول المثل الصيني. لقد عبَّر البابا يوماً ما عن خطورة الحزازات المذهبية داخل المسيحية، عندما قال ما فحواه: «عندما كنت طفلاً صغيراً في بلادي، الأرجنتين، كانوا يقولون لنا إن البروتستانتيين جميعاً كفرة، سوف يذهبون إلى الجحيم. جميعهم عن بكرة أبيهم». كان ذلك في أربعينات القرن الماضي عندما كان البابا في التاسعة أو العاشرة من عمره. عندما يقول البابا هذا الكلام بعد أن كبر وبلغ من العلم والنضج مبلغه فإنه يكاد ينفجر بالضحك. ثم يضيف: كنا نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا يمكن أن يدخل الجنة إلا الكاثوليك؛ لأنهم الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية.

وقد استطاعوا فرض هذه الفكرة لأنهم الأقوى والأكثر عدداً. نقول ذلك على الرغم من أن البروتستانتيين هم جماعة الإصلاح الديني. وبالتالي فهم الأكثر عقلانية وتطوراً في فهم الدين المسيحي، وهم الأكثر تحرراً من قوالب العصور الوسطى البالية والعقائد الدوغمائية المتحجرة. ولكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم لأنهم أقلية، والحق دائماً مع الأكثرية. والأكثرية كانت تعدّهم زنادقة وكفاراً، بل ومرتدين عن الدين. ولذلك كانت تذبحهم وتُعمل المجازر فيهم على أساس طائفي محض. ولهذا السبب فروا من فرنسا بمئات الألوف هائمين على وجوههم. أما الآن فقد انتهت الحزازات المذهبية في أوروبا المستنيرة المتحضرة، وأصبحت من مخلفات التاريخ. ولم يعد الكاثوليكيون يكفِّرون البروتستانتيين أو يحرمونهم من نعمة الله ودخول الجنة. فلماذا لا يتحقق ذلك يوماً ما بين المسلمين عندما يستنيرون ويتحضِّرون؟ لا شيء مستحيلاً في التاريخ. حركة التقدم والتطور سوف تفعل فعلها يوماً ما بعد أن يتثقف الشعب ويتعلم. ثم يضيف هذا البابا الطيب قائلاً: «نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري. نحن جميعاً من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين إلى آخره من مخلوقات الله، أو من عيال الله، كما يقول المفكر التونسي محمد الطالبي». فلماذا لا نؤمن بالوحدة من خلال التنوع والتعدد؟ لماذا لا نعدّ أنفسنا جميعاً إخوة في البشرية والإنسانية والآدمية؟ وهذا هو مضمون الوثيقة التاريخية الموقَّعة في أبوظبي. الناس الطيبون الأخيار موجودون في كل الأديان والمذاهب. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين الانغلاقيين يرفضون ذلك رفضاً قاطعاً. إنهم لا يقيمون وزناً لأي شخص إن لم يكن ينتمي إلى طائفتهم أو مذهبهم، أو حتى تنظيمهم الحزبي ومرشدهم الأعلى. نقول ذلك على الرغم من أن القرآن الكريم يقرُّ صراحةً بالتنوع والتعددية. ألم يقل: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»؟ ولكنه لم يشأ. هل الله عاجز عن جعل الناس كلهم على دين واحد؟ مستحيل. معاذ الله. الله قادر على كل شيء. ولكنه شاء التنوع والتعددية لحكمة تعلو على عقولنا وأفهامنا. وهذا يعني أن الفرقة الناجية كما يفهمها البابا هي تلك الفرقة التي تجمع كل الناس الطيبين الفاعلين للخير أياً كانت أديانهم ومذاهبهم. نقطة على السطر.

ثم يذكِّرنا البابا فرنسيس بهذه الحكمة الجوهرية: ينبغي أن نتحاشى المغالطات التاريخية. بمعنى لا ينبغي أن نسقط مفاهيم الحاضر على الماضي. بمعنى آخر لا ينبغي أن نحاكم أناس الماضي المساكين المحدودين عقلياً على ضوء مقاييس الزمن الحاضر. في الماضي كنا متعصبين وطائفيين لأن عقلية ذلك الزمان ما كانت تستطيع أن تتصور وجود دين آخر صحيح غير الدين المسيحي، أو وجود مذهب واحد صحيح غير المذهب الكاثوليكي البابوي. لم يكن يخطر على بالهم إطلاقاً إمكانية التعايش مع الآخر المختلف ديناً ومذهباً. كيف يمكن أن تتعايش مع كافر؟ أعوذ بالله، معاذ الله. ولكن أوروبا تطورت وتقدمت وتجاوزت كل هذه الانغلاقات المذهبية والطائفية. لقد خلفتها وراء ظهرها بسنوات ضوئية. ثم يردف البابا قائلاً: «إن العالم الإسلامي، الذي لا يزال غاطساً جزئياً في ظلمات العصور الوسطى، سائر على طريق التقدم والاستنارة لا محالة. ولكن ينبغي أن نكون صبورين معه. فهذه الطفرة المعرفية والإيمانية ليس من السهل تحقيقها بين عشية وضحاها». وهذا ما يقوله ريجيس دوبريه أيضاً وكل عقلاء الغرب. الأصولية المتطرفة لن تنتصر في نهاية المطاف في العالم العربي، ولكنَّ هزيمتها ليست بالأمر السهل، فالثورات العلمية والفلسفية والسياسية، بل وحتى الدينية، التي هضمتها الشعوب الأوروبية على مدار ثلاثة قرون، لا يمكن للشعوب العربية أن تهضمها على مدار ثلاثة عقود. يلزمنا وقت أطول. ثم إننا لا نهدف إلى استئصال الدين كما يزعم بعضهم، وإنما فقط إلى استئصال المفهوم الطائفي والظلامي والتكفيري للدين. فرق كبير.

(نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري).. البابا

ثم يرى البابا أنه لكي يتمكَّن العالم العربي من تجاوز الأصولية القروسطية المظلمة فإن عليه أن يقبل بتطبيق المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على نصوصه التراثية الكبرى مثلما فعلنا نحن مع الإنجيل والتوراة. فهذه هي الخطوة الأولى التي لا بد منها لتجاوز العقلية الانغلاقية والتفسيرات القديمة للدين. وهذا ما فعلناه نحن في أوروبا. ولولا ذلك لبقينا نذبح بعضنا بعضاً على أساس طائفي أو مذهبي حتى الآن. لا يمكن تجاوز الطائفية إلا عن طريق ثورة عقلية وفكرية حقيقية، خصوصاً فيما يتعلق بفهم الدين وتفسيره. هذا شيء مؤكد. وبالتالي فأمام المسلمين مهمة ضخمة ينبغي أن يحققوها في السنوات المقبلة. كان الله في عونهم.

هذا، وقد صرَّح البابا في أثناء زيارته التاريخية الناجحة جداً للعراق عام 2021 قائلاً: «شيئان متضادان لا يجتمعان بأي حال من الأحوال: الإيمان بالله من جهة، وارتكاب العنف والتفجيرات العشوائية من جهة أخرى. من يؤمن بالله لا يمكن أن يستبيح دماء الناس الآمنين. ولا يمكن أن يمارِس أعمال التفجير والتكفير والترويع. كفانا عنفاً، كفانا تطرفاً، كفانا تعصباً. الرسالة موجهة للدواعش وكل الجماعات المتطرفة بطبيعة الحال».

أخيراً لقد كشف لنا البابا في مذكراته الأخيرة سراً دفيناً مهماً، وهو أنه تعرَّض لعملية اغتيال حقيقية في أثناء وجوده على أرض العراق. ولكن الله نجاه منها بمعونة المخابرات البريطانية. وهي من أقوى المخابرات وأكثرها دقةً وفاعليةً في العالم. ففي أحد لقاءاته العامة خلال تلك الزيارة، كان هناك شخصان داعشيان مدججان بالقنابل ومستعدان لتفجير المكان كله بمَن فيه البابا وغير البابا. مجزرة حقيقية. ولكن المعلومة البريطانية الحاسمة وصلت قبل آخر لحظة لحسن الحظ، فتمكنت السلطات العراقية من القبض عليهما وتحييدهما. انظر بهذا الصدد مذكرات البابا الصادرة في الترجمة الفرنسية عن دار نشر «ألبان ميشال» قبل بضعة أسابيع، في 400 صفحة بعنوان: «البابا فرنسيس مفعم بالأمل». السيرة الذاتية التي شكلت حدثاً تاريخياً في مجال النشر. ظهرت بشكل متزامن في أكثر من 100 بلد.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 26 أبريل 2025 م ـ 28 شوّال 1446 هـ

توفي البابا فرنسيس عن عُمرٍ عالٍ لكنه لم يقض منه في المنصب السامي غير اثني عشر عاماً (2013-2025)، قضى منها ثلاث سنوات مترحلاً في أنحاء العالم، وثلاث سنوات على سرير المرض. ولعلَّ أفضل ما يمكن قوله عنه وما نقدّر أنه كان يحبه أنّ قضيته الكبرى كانت أنسنة العمل الديني، بل والتفكير الديني. عندما انتُخب للبابوية عام 2013 شغلته في خطاب التتويج إذا صحَّ التعبير قضيتان: قضية السلام وقد صار العالم عالم حروبٍ وقلاقل- والقضية الثانية: العلاقة بالإسلام. لقد قال وكرر ذلك مراراً في خطاباته ورسائله السنوية: لا سلام في العالم إلا بالسلام مع الإسلام! وإذا حسبنا رحلاته العالمية وأسفاره فسنجد أكثر من ثلثها إلى الديار الإسلامية: زار مصر وزار المغرب وتركيا وزار إندونيسيا، وذهب إلى بنغلادش من أجل زيارة مخيمات اللاجئين الروهينغا الفارين من ميانمار؛ وكانت رحلته الكبرى إلى أبوظبي حيث أصدر مع شيخ الأزهر أحمد الطيب وبرعاية ومتابعة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وثيقة الأخوة الإنسانية يوم 4 فبراير 2019، والتي صارت ذكراها يوماً عالمياً للحوار.

الخصوصيات التي تميز بها البابا فرنسيس كثيرة، بيد أنّ أهمَّها أنه ليس أوروبياً بل هو من الأرجنتين بأميركا اللاتينية، وهو يمتلك نزعةً إنسانيةً غلابة في زمن القسوة والحروب.

جاء فرنسيس إلى البابوية بشكلٍ شبه مفاجئ وبعد بابوين كبيرين: يوحنا بولس وبنديكتوس السادس عشر كما سمى نفسه، وهو ألماني محافظ ما لبث أن استقال عام 2013 بحجة العجز الجسدي. عانى البابا بنديكتوس من جموح الشباب وثوريتهم، وعانى البابا فرنسيس من جمود المحافظين، وعدم ميلهم لكشف عيوب الإدارة الكنسية سبيلاً لإصلاحها، وتغليب القداسة على الإنسانية في العمل الديني.

في علاقات الكنيسة الداخلية التفت البابا فرنسيس للشباب، والتفت لإصلاح الكهنوت، وفكّر كثيراً بتكهين النساء. أما خارج الكنيسة فقد كانت أكبر إنجازاته في ثلاثة مجالات: الحوار بين الأديان- والحوار مع الإسلام- والعمل من أجل السلام. آخر كلماته قبل الوفاة كانت عن ضرورة وقف الحرب الروسية - الأوكرانية، والحرب على غزة.

منذ العام 2004 (رسالة عمّان) بدأ المسلمون يوجّهون رسائل للعالم في التبرؤ من الإرهاب، وفي التماس المصالحة والمسالمة، وفي بذل جهودٍ لاستعادة العلاقات مع الأديان والثقافات بعد هجمات «القاعدة» عام 2001 على الولايات المتحدة، ثم في سائر البلدان الأوروبية والبلدان العربية والإسلامية، وصولاً إلى القاعدة و«داعش» بسوريا والعراق.

ظلَّ البابا منذ العام 2013 يوجِّه نداءات للسلام مع المسلمين، ثم صار يزور الدول العربية والإسلامية، ويدعو لنبذ التطرف وصنع الانفتاح والسلام. وفي العام 2018 بدأ العمل على وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا وشيخ الأزهر بعد أن تزاورا وتوثقت العلاقة بينهما. وشجع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان العلاقة والوثيقة ووجدها فرصة لتقديم مبادرة كبيرة للتواصل والحوار الغني. وساعدت في ذلك سوابق البابا فرنسيس في ضرورات التواصل الوثيق مع الإسلام. وأخيراً جرت الدعوة إلى مؤتمر السلام والأخوة في أبوظبي، وكانت الوثيقة الفريدة مفاجأة مدهشة بالفعل. فقد مهَّدت بمقدمة إنسانية عامة احتضنت البشر جميعاً مؤمنهم وغير المؤمن، وقالت: إنّ العالم الإنساني ينبغي أن يكون عالم محبةٍ وأخوة ما دام البشر مخلوقين لخالق واحد، وبينهم مساواة في القيمة الإنسانية. وبعدها كانت هناك سطور في التقدم الذي حققته الإنسانية في النواحي التكنولوجية. لكنّ الملاحظ التراجع والتحدي في رؤية العالم المعنوية والمادية، حيث تسود الحروب وتنتشر المجاعات، ويُظلم الناس ويُهانون ويُهجَّرون ويُقتلون.

أولى الرسائل في الوثيقة رسالة السلام إلى العالم المضطرب، ثم الذهاب إلى جدولة مشكلات العالم واقتراح حلولٍ لها موجهة لقيادات العالم، في نوعٍ من اللوم على بعضها لأن السلام ما عاد أولويةً عندها. وتختتم الوثيقة بالدعوة للعمل الحثيث من جانب الجميع: رجال الدين، والسياسيين والمثقفين، وأولي النوايا الطيبة، من أجل استنقاذ العالم من مشكلاته. والأمل بالإيمان بالله، والثقة برحمته وفضله.

بوفاة البابا فرنسس خسرت عوالم الفقراء والجائعين والمهجرين وذوي الحاجة والضائعين في متاهات الحروب ومطامع الأقوياء، هؤلاء جميعاً خسروا بوفاة البابا صوتاً صارخاً في البرية لصالحهم.

ترك البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية قويةً وموحدة، لأنها تحتاج إلى زعيم كارزماتي مثل فرنسِس، وإلى الشجاعة التي تُعطي الزعيم والقائد الفرصة للتجديد والتقدم، دونما خشيةٍ من الانقسام. فلنتوقف عند وفاة هذا الحبر الجليل للاعتبار والاستذكار. وقد كان يقول: إنسانية الإنسان لا تظهر إلا بالسلام؛ فأين هي اليوم وسط الحروب التي قضى البابا وهو يريدها أن تتوقف في كل مكان وبخاصة في أوكرانيا وفلسطين؟!

***

د. رضوان السيد

21 ابريل 2025 23:15

جيلان متصارعان تشكلا بعد 1958 في العراق... الأول سياسي والثاني ثقافي

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى ديكتاتورية في المنطقة، والثاني ثقافي وأدبي قصصي، خاض صراعاً تقنياً وفنياً في النفق الديكتاتوري نفسه، وجاء ضمن تدرّج وتطور الريادة القصصية في سبيل ترسيخ النوع الأدبي، وكلاهما في الغالب يشتركان معاً في قاعدة الحلم الثوري، وينطلقان منها في التعبير عن سلوكهما السياسي والأدبي.

من المفارقات شديدة اللبس والتعقيد أن النزاعات الشرسة للأحزاب والتنظيمات السياسية وألويتها الأدبية في ما بينها التي أعقبت العهد الجمهوري من 1958 وحتى عام 2003، ارتبطت عضوياً بصيغة الحلم الثوري الزائف بوصفه منهجاً آيديولوجياً صارماً، يمزج بين السعي إلى تسلم إدارة الحكم وتطبيق التصورات القومية والوطنية وإغواء حركة التحرر الدولية والأممية وما سمّي بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، الحلم الذي يفرض على الأدباء أو نصوصهم، ولا يأبه من الجانب السياسي بالعنف أبداً مهما بلغ من تنكيل وقتل وإبادات ما دام الوصول للهدف وسدة الحكم هو الأول.

بعد عقود من خوض التجربة المرّة، وصل العنف إلى ذراه في الصراع داخل الحلم الثوري نفسه في الغالب بين الأحزاب الثورية على وجه التحديد، سواء كانت في السلطة والمعارضة، أو قريبة منهما إلى الحد الذي شطر الأحلام الثورية في معادلة متوازنة ومتضادة ومنعكسة من العنف بينهما، بين سدة الحكم وأبواب السجون، فالاثنان الجلاد والضحية، ثوريان، يشتركان في تقمص الحلم نفسه وتبني فراديسه المنشودة وتبادل الأدوار بين السلطة والسجن، وكلاهما صادق في التعبير والسلوك، وربما كلاهما متواطئ مع الآخر في لعب الأدوار حتى أن السلوك العنفي والميليشياوي الذي تمارسه السلطة من وقت لآخر في تصفية خصومها الثوريين المعارضين على شاكلتها هو نفسه ما تمارسه الفئات المهيمنة للسجناء أنفسهم ضد بعضهم داخل أسوار السجن.

والواقع كان للجلاد أسماؤه الأدبية والثقافية المنظمّة معه مثلما كان للضحية أسماؤها التي لا تخفى، ومنهم من غادر دور الضحية وأصبح جلاداً، والعكس صحيح، وتظل قاعدة الحلم الثوري مشتركة بينهما.

في ظل هذه المفارقة الشرسة، ولد هذان الجيلان المتزامنان في الستينيات من القرن الماضي، أحدهما تمثل في ارتقاء الديكتاتورية، وثانيهما أدبي وثقافي لم يخرج عن الإجهاز الكلي على الأدب والثقافة من قبل السلطة قبل وأثناء ارتقاء الديكتاتورية، الأول، لم يتخط مخاضات القتل والتنكيل فقط إنما أوصلها إلى ذراها في الحروب والهجرة والحصارات الاقتصادية، والثاني، الجيل الأدبي الذي نشأ بين السلطة والمعارضة والسجن والمهجر وما بينهم، وشهد اصطفافاً واستقطاباً ضمنياً هنا وهناك.

في غضون ذلك، استطاع الجيل الستيني الأدبي أن يحيا ربيع النشر والانتشار في بداية السبعينات إذ كان عدد يسير من الأحزاب الثورية متحالفة بهشاشة مع السلطة، وتيسر لها عن طريق دور النشر الخاصة بها أن تصدر عدداً من المجاميع القصصية لأدباء يحسبون منها وسط احتراز ومراقبة السلطة.

وفي ظل هذه المعادلة السياسية للأدب، استفحلت أزمة هذا الجيل الأدبي والقصصي بالتعبير عن نفسه داخل المنظومة الحزبية، سواء في السلطة أو المعارضة، وشعر البعض من القاصين بأنهم سوف يفقدون النسق الإنساني كلياً في قصصهم طالما كان التعبير جارياً ومتعسفاً على وفق الحلم الثوري المنشود الذي هو مجرد تلقين لفكرة استشراف مستقبلي للناس والمجتمع، وشرعة أمل زائفة، وكان العمال والكادحون والفقراء هم إشارات سياسية ملقّنة أكثر منها مصائر واقعية في ظل مجتمع شبه تحولي بين الريف والمدينة.

وللخروج من هذا المأزق، طفق القاصون والروائيون محمود جنداري وجمعة اللامي ومحمد خضير وجهاد مجيد وعبد الإله عبد الرزاق وآخرون، يستخدمون التشفير والتجريد والترميز والأسطرة والمكابدة الصوفية ومحاولة استيقاف الحاضر والمستقبل الزائفين والعودة إلى الماضي بوصفه منطقة تقنية آمنة لبناء قصصهم ورواياتهم.

وعبر تلك المناورة الأسلوبية البارعة، تمكن القاصون والروائيون من التسامي والتعالي على أزمتهم السياسية والفنية، واستطاعوا على نحو معين من تضليل الرقيب المؤسساتي ونشر نتاجهم وتلقيه على مستوى عام ومقبول داخل النفق الديكتاتوري نفسه.

ولعل هذه المناورة الأسلوبية، لم تكن نابعة عبر شكلها الطبيعي ضمن سياقات نشأة ونمو القص والروي في البلاد، وحسب قدر ما كانت تخفي خلفها كواليس وندوب تعرض هؤلاء الأدباء للتنكيل والاحتواء السياسي التي كانت تمارسه المؤسسات المتسلطة بمعنى أن التقنية التي نشرت فيها مجاميع مثل «المملكة السوداء» و«لأوفيليا جسد الأرض» و«الثلاثيات» و«حكايات دومة الجندل» وغيرها كثير، تتضمن مضمراً مستتراً من حجم صراعها الفني مع الرقيب السلطوي، وبحاجة إلى الكشف والتحليل بعد سقوط الرقيب، ولا يعني ذلك الاعتراف بل وضع المعادلة الأدبية في مواقعها الصحيحة بين المجتمع والثقافة وليس قاعدة الحلم الثوري واحتكار السلطة للأدب.

بعد عام 2003 الذي يمثل نهاية الجيل الستيني السياسي، وخروج الجيل الستيني الأدبي من نفقه المعتم، لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة، لم يلق أحد منهم أردية النفق الآيديولوجي الخانق ويعيد وصفها على نحو جديد، يتصل بالمرجع والمحيط الأدبي الاجتماعي والإنساني حين كانت السلطات تصادره باسم الحلم الثوري السائر في رسم هزيل للانعطافات المجتمعية الموهومة المقبلة، وما كانت المرحلة التي أسدلت الستار على هذا الجيل مجرد طور زمني عابر، يمكّن الأدباء الستينيين من التواصل والإنتاج بنفس القدرة السابقة.

وإذا كان الجيل السياسي على نحو عام قد تمخض عن دنس التجربة، فإن مخاض الطهر الأدبي لدى الأدباء على نحو عام أيضاً، يساويه في نتائج الخيبة والفشل العميقين لكل التجربة اليسارية عربياً ومحلياً طالما أصيب الحلم الثوري بالإخفاق المريع، وهذا ما جعل القاص والروائي إبراهيم أحمد «وبالرغم من أنه يحسب على جيل ما بعد الستينيين»، ينظر بنفور إلى سنين الدنس، ويصب جام غضبه على الفاعلين السياسيين، فيما كشف جمعة اللامي الكبير في كتابه «مذكرات السومري» التمزقات السياسية وممارسة العنف والتنكيل داخل السجون من قبل السجناء أنفسهم.

إنها دعوة إذن لكتابة المذكرات على نحو يزيح العتمات عن الغامض وراء قصة الستينيات العراقية. بعد 2003 لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة.

***

محمد خضير سلطان

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، ويوم: 19 أبريل 2025 م ـ 21 شوّال 1446 هـ

كتاب غريب يتبنى رأياً صادماً

لم يحيّر عالمَ الفكر أحدٌ مثلما فعل هيغل. ما زلت ترى في أي معرض كتاب في العالم وبكل لغات الدنيا كتباً جديدةً عن هيغل بعد مائتي سنة من موته. كل التيارات الفكرية بعده تأثرت به وأخذت منه ما تريد، خصوصاً منهجه الديالكتيكي. كل فلسفات القرن العشرين حاولت التحرر من قبضته، حسب ميشيل فوكو، في قراءات متعددة من الماركسية إلى الوجودية، ومن الموالين إلى المخاصمين.

وقع في يدي مؤخراً كتاب غريب ولافت للنظر اسمه «هيغل والتقليد الهرمسي» لأستاذ أكاديمي يُدعى غلين أليكساندر ماغي ذهب بهيغل إلى تفسير صادم ومختلف. من وجهة نظر ماغي، هيغل هرمسي وليس فيلسوفاً.

لا يشكك في أن تأثير كانط وفيخته وشيلينغ على هيغل كان مهماً، لكنه لم يكن التأثير الوحيد. هيغل ليس باحثاً عقلانياً عن الحقيقة، ففي كتاب «ظاهريات الروح» زعم هيغل أنه وصل إلى المعرفة المطلقة. وهذا يخالف نهج الفلاسفة في تعريفها بحب الحكمة، ويتوافق تماماً مع طموحات الهرمسية، وقد كان هيغل مشغولاً بالفلسفة الهرمسية، وكان متأثراً بممثليها منذ صباه، ومتحالفاً مع الهرامسة طوال حياته. تقسيم حياته إلى مراحل مضلل. عادة ما يردّ أمر الهرمسية إلى فترة شباب هيغل فقط، وهذا أمر خاطئ، بل هم معه طوال حياته.

هناك اشتراك في مبدأ العلاقات الداخلية بالنسبة لهرمس وهيغل. الكون ليس مجموعةً من التفاصيل المترابطة بصلات خارجية، ولا يمكن تفسير الطبيعة تفسيراً آلياً ميكانيكياً. بل إن كل شيء في الكون مترابط داخلياً، ومرتبط بكل شيء آخر. هذه القوى، مثل الطاقة أو النور تنتشر في كل مكان. يتجلى هذا المبدأ بوضوح فيما يسمى باللوح الزمردي لهرمس، الذي يبدأ بالسطور الشهيرة «كما في الأعلى، كذلك في الأسفل». لقد أصبحت هذه القاعدة المبدأ، لأنها وضعت الأساس لفكرة وحدة الوجود من خلال التعاطف والتوافق بين مستوياته المختلفة. وأهم ما تتضمنه هو فكرة أن الإنسان هو العالم الأصغر، الذي ينعكس فيه العالم الأكبر، كما في قصيدة ابن سينا، وأن معرفة الذات تؤدي بالضرورة إلى معرفة الكل. باختصار، يمكن حصر أفكار هرمس في أن المطلق يحتاج إلى الجزئي والفردي لكي يكون مطلقاً، بتأمل الإنسان فيه. ويستطيع الإنسان أن يكمل نفسه من خلال المعرفة، بحيث يعرف جوانب أو لحظات من المطلق. ويعتقد هيغل بالمفهوم الدائري للمطلق وللكون، وهذا يتضمن عودة المطلق إلى ذاته من خلال الإنسان الذي يرتفع فوق الطبيعة ويصبح سيدها من خلال المعرفة العميقة.

بالنسبة لماغي، فإن هرمسية هيغل تَثبت بسبب اهتماماته التي تتوافق مع المزيج الغريب من اهتمامات الهرامسة، وتشمل الخيمياء وتعاليم القبالة والتنويم المغناطيسي والروحانية وعلم الآخرة ولاهوت بريسكا وتصوف إيكهارت وبوهمه، والأنظمة السرية الرمزية. إنه يأخذ منهم حتى الرموز الهندسية، المثلثات والدوائر. وتعتبر قضية بوهمه بائع الأحذية الصوفي هي القضية الأكثر إثارة للدهشة، إذ يمنحه هيغل في محاضراته عن «تاريخ الفلسفة» مساحة أكبر من مساحة أكابر الفلاسفة.

مع البحث، اتضح أن ما قرره ماغي ليس جديداً تماماً، فغالباً ما يتم وصف هيغل بأنه صوفي، واتهمه شيلينغ بأنه نقل الكثير عن بوهمه. وهيغل لا ينكر أنه صوفي. وقد سبق الباحث فوغلين ماغي بالقول إن فكر هيغل ينتمي إلى التاريخ المستمر للهرمسية الحديثة منذ القرن الخامس عشر، وذلك في كتابه «حول هيغل: دراسة في السحر»، مشيراً إلى «ظاهريات الروح» باعتباره كتاباً سحرياً يجب الاعتراف به كعمل سحري.

من الخطأ أن نتعامل مع الهرمسية باعتبارها فكرية بحتة، إذ لا يحدث التنوير الهرمسي بمجرد تعلم مجموعة من العقائد. لا تكفي معرفة الأفكار فحسب، بل يجب أن يكون للفرد خبرة حياتية حقيقية بحقيقة الفكرة. ينبغي أن يوجه الإنسان إلى الاستنارة بعناية. يجب علينا استكشاف الأزقة العمياء التي تعد بالتنوير ولكنها لا تفي بوعدها. بهذه الطريقة فقط سيكون للفكرة المطلقة معنى. إنها طريقة ملتوية للغاية، للتخلي عما اعتاد عليه المرء وصار يتملكه الآن، والعودة نحو الأشياء البدائية القديمة. هيغل يحافظ على كل من اللحظات الفكرية والعاطفية لهذا المفهوم الهرمسي للبدء.

التنوير، بالنسبة للهرامسة ولهيغل، ليس مجرد حدث فكري نتوقع أن يغير حياة المستنير، فالفلسفة، بالنسبة إلى هيغل، تتعلق بالعيش السعيد. باختصار، الرجل الذي يحقق الثقة بنفسه لم يعد إنساناً عادياً. إنه لا يحتاج إلى الهروب من العالم لإنقاذ نفسه، بل يريد اكتساب معرفة العالم لتوسيع ذاته على حساب الطبيعة، واستخدام هذه المعرفة لكي يرتقي إلى المطلق. ومعرفة كل شيء تعني بمعنى ما السيطرة على كل شيء. وختم ماغي كتابه قائلاً إن «فكرة استقلال العقل وتطوره التدريجي ذات جذور غير عقلانية عميقة».

ستكون نتائج ماجي معقولة للقراء الذين يفترضون أن «التصوف» بشكل عام غير عقلاني، وهذا ما لا نوافق عليه وسنناقشه في مقالة قادمة. ماجي لم يقدم أي حجة لهذه الفرضية مع ما يرد عليه من أن الفلسفة الهرمسية وغيرها من الاتجاهات الصوفية قد أثرت على المفكرين العقلانيين من مثل بيكون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز ونيوتن، ولعبت دوراً غير مقدّر حتى الآن في تشكيل الأفكار والطموحات المركزية للفلسفة والعلوم الحديثة. ومن المعروف أن هيغل كان مهتماً بشدة بأفلاطون وأرسطو وبلوتينوس وبروقلس، وكل منهم يمكن تفسيره، وقد تم تفسيره بالفعل، على أنه صوفي في جوانب مهمة. لكن هؤلاء الكتاب معروفون أيضاً، بالتزامهم بالعقل، لذا فإن مجرد تذكرهم من شأنه أن يثير الشك حول فرضية ماجي بأن التصوف في حد ذاته غير عقلاني، وهذا باختصار غير صحيح، فالتصوف الألماني - خصوصاً مع المايستر إيكهارت - هو أول شكل تجلت فيه المثالية الألمانية في تاريخ الفكر.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 أبريل 2025 م ـ 21 شوّال 1446 هـ

يتمخّض التّاريخ الفلسفي، المحمّل بالسّيرورات القانونية والوقائع الاجتماعية والأحداث السياسية، في كل مرة، عن مفاهيم أساسية، يقوم بنحتها عقل نقدي ذو شقين، شق نظري ينوء بأعباء العقل النظري في معالجته للمفارقات والإشكالات، التي ما يفتأ النظر يثيرها للكشف عن خبايا المجهولات النظرية، وشق عملي يحمل أعباء العقل العملي في مكابدته للواقع السّياسي والأخلاقي وهو يُنَزِّلُ مخرجات العقل النظري ليكشف بها خبايا الواقع العملي في تعقيداته وتشابكاته السّياسية والقيمية. ومن هذا المفاهيم التي يصدق عليها هذا القول مفهوم المواطنة.

إن مفهوم المواطنة، مثل غيره من المفاهيم السياسية الحديثة، خرج، من رحم هذا المخاض الطويل في القرن الثامن عشر، ليؤسس لذات حقوقية مستقلة يتمتع بها الأفراد داخل الوطن، الذي ارتضوه سُكنى لهم، وارتضوا أن يخضعوا لقوانينه في إطار من التّعاقد الواضح بين الحاكم والمحكومين. وبهذه الدّلالات التي تشبّع بها هذا المفهوم تميّز تميزاً واضحاً عن كل الدّلالات العتيقة، التي كان يحملها، والتي كانت تجعل منه مفهوماً هلامياً لا يستقر له حال من أساس نظري وعملي متين.

لقد تميّز تصور الإنسان القديم للمواطنة بكثير من القصور لعدم إيمانه بالمساواة الحقيقية بين الناس، فكانت المواطنة عنده لا تتعدّى «الإنسان الحر»، بل حتّى النّساء استُبْعِدن عنها، فضلاً عن العبيد والأطفال والأجانب، ورغم أن اليونان كانوا سبّاقين إلى الاهتمام بالمجال السياسي، أي بمشاركه الفرد في الحوار والقرار السياسي، فإن الاستبعاد والاقصاء كان جزءاً من تفكيرهم السياسي، بل إن ما سمي بـ«المواطنة المستقلة» في إيطاليا لم تكن سوى مواطنة ضيقة جداً يمنحها الإقطاعي للتّجار لحركتهم الاقتصادية والاجتماعية، لكنها، مع ذلك، أثَّثَتْ لفضاء حر كان له أثر اقتصادي كبير وحركة تنويرية بارزة في المجتمع. إلا أن القرن الثّامن عشر كان العصر الذهبي للمواطنة، خاصة مع تشكّل نظرية العقد الاجتماعي، وتشكل الدولة القومية، رغم أن هذا المفهوم لم يُنصف المرأة في حينها. لكن مفهوم المواطنة أصبح أداة نظرية وعملية قوية في يد «المواطن الإيجابي»، يناهض بها العبودية في أشكالها المختلفة.

وقد أسهم ارتباط مفهوم «المواطنة» بمفهوم «الحق» في تسريع نضج مفهوم المواطنة واتساع دلالاته النظرية والعملية، وأصبح حاضناً للاختلاف، باعتبار أن الاختلاف بين الناس، بمختلف جنسياتهم وأعراقهم وقيمهم وعاداتهم، يجب أن يكون اختلاف تنوع وليس اختلاف شقاق وتضاد، كما أصبح حاضناً للمساواة، ومُحرِّضاً على تحمل المسؤولية الاجتماعية والقانونية الكاملة للفرد داخل البقعة الجغرافية، وتحت ظل السلطة السياسية التي ارتضى العيش تحت ظلالها.

لا يزال مفهوم المواطنة، مثل غيره من المفاهيم، يحمل في داخله الكثير من المفارقات، ففضلاً عن مفارقاته المحمّلة بأثقال التاريخ النظري والعملي، ظهرت مفارقات جديدة خاصة مع تعدد صور المواطنة المختلفة واتساع أفقها مع «المواطنة الرقمية» و«المواطنة العالمية»، وخاصة أيضاً مع ما تعانيه مجتمعاتنا من ضيق في فهم هوياتها، إذ إن فهم الهوية في أبعادها المتعددة وانفتاحها على الأفاق الممكنة، التي يفتحها العصر لها لا يزال يحتاج إلى جهد تربوي كبير.

إن مفهوم المواطنة اليوم، بفضل حيويته الكبرى والإجماع المنعقد عليه، أصبح يتمتع بسلطة مركزية كبرى تؤهله لتحقيق الأمن والتعايش الاجتماعي وتلاقي الهويات المختلفة يداً واحدة في بناء أوطانها وإعمارها. وإن الذي يشجع على هذا القول أن مفهوم المواطنة هو بناء نظري وعملي، وإن بناء نظرياً قوياً لمفهوم «المواطنة الإجرائية» أنفع لمصالح الدول في تبيئة مفهوم يُلْحمُ أعضاء المجتمع على اختلاف مشاربهم، ويسدّد الولاء للحق والقانون والعُرف، ويحفظ للمجتمع تماسكه واستقراره الاجتماعي وأمنه السياسي والاقتصادي.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 ابريل 2025 23:45

 

الفلاسفة أشهر من الفلسفة، والقراءة عن الفلاسفة أمتع كثيراً من القراءة في الفلسفة. وعلى الرغم من أنّه يصعب الفصل بينهما، فالفلسفة هي نتاج الفلاسفة، لكن طبائع الفلاسفة، وعمقهم ورصانتهم، وجنوحهم وجنونهم.. ومعاركهم وحروبهم.. كلها أمور أكثر تشويقاً من أطروحاتهم نفسها. ولذا فإني لم أندهش حين قال لي أحد الناشرين الكبار: إن الكتب التي جرى تأليفها عن الفلاسفة أكثر توزيعاً من الكتب التي ألفها الفلاسفة أنفسهم.

وبطبيعة الحال، فإن صعوبة وتعقيدات النصوص الفلسفية تقف وراء ذلك، فكتاب «رأس المال» الضخم والصعب يمكن اقتناؤه بسهولة، لكن إذا أراد أحدهم أن يطالع حقاً ما في الكتاب، فإنه سيبحث عن الشروح والمختصرات، وسيذهب إلى شراء كتب عمّا قاله كارل ماركس في «رأس المال»، وليس ما قاله هو شخصياً.

إن الفيلسوف الألماني الكبير «هيجل» لا يمكن فهمه بسهولة، وقد تندّر أحدهم قائلاً: إن هيجل لا يمكنه فهم كل ما كتبه هيجل. ومع ذلك فإن اسم «هيجل» ملء السمع والبصر، ولا يخلو حديث فكري جادّ في الشرق أو الغرب من إشارة للفيلسوف الكبير، لكن قراءته الحقيقية من المؤلفات الصادرة بقلمه محدودة للغاية.

لقد أدرك بعض الفلاسفة تلك المفارقة، وراحوا يحاولون جذب الأضواء لأنفسهم كلما انحسرت الأضواء عن الفلسفة، وربما كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر نموذجاً لذلك، فالفيلسوف الذي روّج «الفلسفة الوجودية» حول العالم، وجعل منها «ترند فلسفي» لعقدين أو يزيد من الزمان، اختار السياسة طريقاً للإضاءة على الفلسفة، فنزل إلى الشوارع متظاهراً، وخاض صراعاتٍ سياسيةً وأيديولوجيةً حادّة، وزار دولاً في مختلف أنحاء العالم، واختار مواقف سياسية تقدميّة عززت من شعبيته وحضوره.

أصبح الفيلسوف الوجودي أشهر من الفلسفة الوجودية، وصارت أخبار سارتر أهم كثيراً من طبعات كتابه «الوجود والعدم».

وفي مصر كان الفيلسوف عبدالرحمن بدوي نموذجاً قريباً من ذلك، فمقالات بدوي السياسية في الشأن المصري، وإقامته لمدة طويلة في فرنسا، وأداؤه القاسي مع تلامذته ومريديه.. كل ذلك جعل منه مادةً إعلامية فلسفية جذابةً أكثر من نصوصه الفلسفية ذاتها.

 وقبل سنوات قال لي الدكتور فؤاد زكريا: كان عبدالرحمن بدوي شخصاً صعباً للغاية، ولم أعرف مشتغلاً بالفلسفة امتلك كل هذه الصفات غير الودودة كما امتلكها بدوي. وقبل شهور روى لي الإعلامي والناقد السعودي محمد رضا نصر الله قصة لقائه مع عبدالرحمن بدوي في باريس، وهو اللقاء التليفزيوني الوحيد الذي تم إجراؤه مع الفيلسوف الكبير، وكان من بين ما روى.. صعوبة الحوار، بل وصعوبة التعامل مع الدكتور بدوي، وقد كان اللقاء مهدداً بالإلغاء طيلة الوقت.

وربما كان الدكتور زكي نجيب محمود استثناءً من ذلك، وهو ليس الاستثناء الوحيد عربياً أو عالمياً، ولكنه استثناء متكرر، حيث كان زكي نجيب سهل العبارة، مباشراً في الإصلاح الفكري، واضحاً في أسلوبه وغاياته، جذاباً في العرض والنقد. وهو ما يجعله - في تقديري - صاحب أهم مشروع فكري عربي، ذلك أنه المشروع الأكثر ثراءً وانضباطاً، وكذلك الأكثر وصولاً وتأثيراً.

 لقد عانى الفكر العربي من كون «الفلاسفة أهم من الفلسفة»، فمن محمد جابر الأنصاري إلى جورج طرابيشي إلى حسن حنفي وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبدالرحمن وبينهم وغيرهم كثير.. أصبحت أخبارهم وإشاراتهم ومقتطفاتهم.. هي ما بقي من مشروعاتهم، أمّا مشروعاتهم الفكرية نفسها، فقد غابت نصوصها الأصلية عن الحياة العامة، وبقيت محدودة داخل أسوار الباحثين والمتخصصين.

ثمّة ما يجب عمله إزاء ذلك كله، إذْ يجب دعم وتطوير «الإعلام الفلسفي» في العالم العربي، والسعي لمساندة مشروعات للشروح والمواجيز والخلاصات، بطريقة احترافية غير مخلة، والإفادة من ثورة الاتصالات في استقطاب الشباب لتلك المضامين الكليّة والأفكار الجادة والتصورات الوجودية.. للعالم وللحياة.

لقد بدأتُ في الهيئة الوطنية للإعلام في مصر بإطلاق أول برنامج تليفزيوني فلسفي بعنوان «الفلسفة الآن»، آملاً أن تجد الفلسفة طريقاً لها.. من النخبة إلى المجتمع، ومن فصول الدراسة ومدرجات الجامعة.. إلى أزقة القرى وشوارع المدن.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 16 ابريل 2025 23:57

يعاد في هذه الأيام النقاش حول الحداثة وعلاقاتها بالدين والمجتمع، وبخاصةٍ في ظلّ الأسئلة التي يفرضها التطوّر العلمي والتقني وبلغ ذروته مع الذكاء الاصطناعي.

والحقّ أن الحداثة لم تكن منذ انعكاسها الأول خارج الهواجس والتهم العميقة، وذلك باعتبارها معادية للدين بالنسبة للبعض، هذه الفكرة رسمت الموقف البسيط مع المنتج الحداثي، الفني، والفلسفي، والمعرفي، والتقني. وضعت الحداثة بإزاء الدين، باعتبارها ستحلّ محله، أو ستقوّض بنيانه، أو ستهدم قيمه. انتقل العداء للحداثة من العامي الوعظي ليحولها بعض دارسي الفلسفة إلى منهاجٍ مفهومي، باسم الدهرانية، أو العلمانية الشاملة، أو الداروينية الاجتماعية. بينما الحداثة لم تبثّ يوماً لظاهرتها تعريفاً يتفق عليه الجميع، فهي تشمل كل الرحلة الأوروبية الطويلة منذ القرن السادس عشر، وحتى عصور الأنوار، وزلازل كوبرنيكوس وغاليليو والثورة الفرنسية، وصولاً إلى فتوحات الفلاسفة في نظرية المعرفة، فالحداثة بمعناها العام هي قصة تحولات الإنسان نحو اكتشاف ذاته وعلاقاته بالعالم. واكتشاف موقعه من الأشياء لا يعني العدوان عليها، ومن ذلك فهم الدين، ولا يمكن اعتبار تلك الرحلة مقتصرة فقط على جانبٍ محدد يتعلق بالحرية، أو الانشقاق عن هيمنة الكنيسة، بل الرحلة أشمل وأعم.

ومن المفارقات أن الحداثة بتحولاتها وصرعاتها المتصلة بتطور العلوم الإنسانية، ومن ثم توسع المشروع البعدي منها ضمن انتقالاتٍ من الكليات إلى الجزئيات، ومن المتن إلى الهامش، ومن الصرح إلى الزاوية ومن الإنسان إلى ظلّه، اتهمت بكونها حالة مسيحية، وذلك من قبل منتقدي الحداثة في القرن العشرين منذ نيتشه وهيدغر وحتى ليوتار وباديو وفوكو وبارت ودلوز. واعتبرت نظريات كانط وهيغل مجموعة تنويعات عقلانية على المسيحية كما يكتب نيتشه، ويعتبر فوكو أن مهمة الفلسفة «الإفلات من قبضة هيغل».

مثلاً يتساءل هشام جعيط عن مفهوم الحداثة: «هل هي كلٌ وبنيان مرصوص، أم هي شذرات وبؤر، علم، اقتصاد رأسمالي، صناعة، تنظيم سياسي، فيما أن الواقع الإنساني في الحقيقة بحر لا ساحل له، يضم ألف عنصر من العناصر، وفيما أن الزمان متراكب؟! لكنه يخلص بمفهوم أشمل: وخلاصته: «أن الحداثة أسسها في الأول العلم الطبيعي بوصفه الأمر الأكثر تجدداً وله الأهمية القصوى... فالعلم جد وليس بالهزل، وهو الطريقة النموذجية التي أوصلت الإنسانية لمعرفة كل شيء في العالم تقريباً بعد قرونٍ من المجهودات المضنية».

الخلاصة، أن الحداثة ليست أيديولوجيا بديلة، ولا تحمل معها لاهوتاً للبشرية، وإنما هي رحلة مستمرة بدأها الإنسان لتجويد طريقة رؤيته للأشياء، مع الإصرار على التعلم والاكتشاف اليومي لمفاهيم جديدة، مع قابلية أبدية لتغيير الرؤى النموذجية، تلك أنجح الوسائل لتأقلم الإنسان مع هذا الكون، ولا داعي للتوجّس من منتجات الحداثة على كافة المستويات، بل إن من الحكمة الانتقاء منها والبناء على نتائجها وفتوحاتها المعرفية، وأن ندرس كل جديدها بقوّة وشجاعة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

14 ابريل 2025 23:45

في المثقف اليوم