اخترنا لكم

تكتسب فلسفته قيمة إضافيّة عند إنسان الرأسمالية المتأخرة

«نيتشه قريب للقراءة، لكن الوصول إلى مغازيه أمر من الصعب بمكان». بهذه الجملة يقدّم البروفسور فيرنر ستيغماير كتابه الأحدث عن الفيلسوف الألماني المثير أبداً للجدل فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، الذي نُقِل إلى اللغة الإنجليزية بترجمة من الدكتور رينهارد جي مولر، وصدر بداية بنسخة إلكترونيّة ثمّ مطبوعة عن دار النشر التابعة لوقفيّة «فاونديشن فور أورينتيشن فيلوسوفي» في الولايات المتحدة الأميركيّة بعنوان «توجيه بشأن فلسفة فريدريك نيتشه». An Orientation to the Philosophy of Friedrich Nietzsche قد يفترض المرء، ونحن على مشارف الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، أن كل ما يمكن أن يُكتب عن فكر نيتشه قد نُشِر بالفعل، وأن فلسفته مهما كانت مفصليّة في مرحلة سابقة من التاريخ، فإن الزّمن تجاوزها، ولم تعد سوى جزء من سياق تتبع تطور الفكر الفلسفي الذي يقوم به الأكاديميون من قاطني الأبراج العاجيّة ليس إلا. لكن الواقع أن نصوصه ما زالت آسرة وقادرة على إثارة الجدل؛ سواء في أسلوب عرضها الفريد أو فيما تتضمنه من ثراء الأفكار، رغم أنّ كثيراً مما تحمله من المعاني صادم وغريب، بحيث يصعب على المرء أن يتقبله، أو حتى يستند إليه لتكوين مفهوم نظري متكامل عن العالم.

إن طروحات نيتشه تثير الحنق ربّما أكثر مما تقدّم ما يريح، وهي كذلك تماماً كما أرادها صاحب «هكذا تحدّث زرادشت»، و«كيف تتفلسف حاملاً مطرقة». لقد أقدم عامداً متعمداً على حرث الفضاء الفلسفي بأكمله من جديد، مقوضاً في طريقه جبالاً من مفاهيم طالما اعتصم الناس بها، بمن فيهم الفلاسفة والمثقفون، لمئات، بل آلاف السنين: الحقيقة، والعقل، والمنطق، والعلم، والأخلاق، والدين، والقانون، والدولة، والجوهر، والموضوع، والسبب، والنتيجة، والوعي، والإرادة والحرية، والحفاظ على الذات، والتقدم، وما إلى ذلك، دون أدنى محاولة لتقديم ولو حفنة صغيرة من يقين جديد، أو منظومة نظرية متكاملة بديلة.

بتحرر وصرامة يواجه نيتشه جمهوره بحقيقة الحياة البشريّة، فيشرّحها كما هي، دون ألوان أو رتوش، كواقع لا يمكن إنكاره، ولكن لا يمكن مع ذلك تحديده، وتتعذر معه محاولات إصلاحه. ولذلك ففلسفته تتعايش مع المفارقات وتتقبلها، وتتسبب لقارئها بالارتباك، حتى وإن قصد صاحبها التوجيه.

إننا ندرك اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن تأطيراً نظريّاً لوجهة ممارسة العيش في هذا العالم أمر لم يعد ممكناً بالاعتماد على منظومات يقينيّات كبرى متوارثة، ما لم يتجاوز المرء الحياة ذاتها، ويتبنى موقفاً (فلسفيّاً) متعالياً منها، عبر عبارات نقيّة لكنّها خارج سياق الواقع المجرّد.

على أن نيتشه يذهب (وفق ما يقول البروفسور ستيغماير) إلى أن الفلسفة تأتي من داخل الذات. فالبشر، ومنهم فلاسفتهم، ما هم في الخلاصة إلا كائنات حيّة لها احتياجات ومتطلبات، وتواجه تحديات وصراعات تشكِّل أفكارهم عن العالم بشكل لا إرادي، ولذلك فإن المرء يأتي بتصورات نابعة من تجربته الحياتية في ظل ظروف عيش معينة، ما يجعل من توجهه الفلسفي نتاج حاجة ذاتيّة، وتكون نظريته بالضرورة، سواء أكان إنساناً عادياً أو فيلسوفاً، كشفاً عن شخصيته الفريدة المتفردة.3951 نيتشه للقرن 21

وبناء على هذا التصوّر، فإن أي نظرية فلسفيّة عند نيتشه لن تكون صحيحة أو خاطئة، بقدر ما هي أعراض ألم ذاتي يريد شخص ما التغلب عليه. ومن نقطة الانطلاق هذه شكَّك نيتشه خلال حياته بكل شيء دون إبداء أي تحفّظ، وافترض أن التّفلسف مرجعه ومصدره دائماً شخص المتفلسف نفسه، بآفاقه ووجهات نظره وتوجهاته، التي عبرها فقط يمكنه استكشاف فلسفات الآخرين؛ ما يجعل إمكان وجود نظام فلسفي عالمي مجرّد تأمل مهلهل ومبالَغ به، فتنهار التفسيرات القائمة على المذاهب العقائدية، وتفقد الموضوعيّة الفلسفيّة المفترضة قيمتها لمصلحة وجهات النّظر الشخصيّة المحض.

ولذلك يذهب البروفسور ستيغماير إلى التنبيه إلى أن الاشتباك بكتابات نيتشه، لا سيّما نصوصه من الشّذرات، لا يمكن معها التوصّل إلى موقف نهائي يمكن الاستناد إليه في عملية اختيار توجُّه محدَّد نحو العلاقة بالحياة والعالم، وإنما يمكن للقارئ أن يستعين بمعول الهدم النيتشوي بقدر ما يشاء، بحسب رغباته واحتياجاته وآلامه، وهكذا عندما يوغل في أي من كتبه سيتسنى له أن يحدد إلى أي مقدار من نيتشه يمكنه تحمّله، وإلى أي مدى يستطيع عليه صبراً، في مواجهة عدم ثقته ضد كل يقين مطلق. والحق أنّ أغلبيتنا الساحقة ستصل معه إلى نقطة الفراق، حيث يحتاج البشر الضعفاء في النتيجة إلى شيء نهائي، وثابت، وسرمدي، للتمسُّك به، بعض سلوى الميتافيزيقا، وإن لم تظهر بشكل صريح أو منهجي، وتسربلت بثياب الدين، أو الأخلاق، أو السياسة، أو العلم، أو المنطق، أو حتى في مجرد الانغماس في اليومي والعابر مما يتطلبه كسب العيش والتعامل مع الآخرين.

إن فلسفة نيتشه، بخلاف مَن سبقه أو لحق به من المفكرين العظماء، تمرين مستمرّ على محاولة تبني توجُّه بشأن علاقتنا بالحياة والآخرين والعالم دون ميتافيزيقيا، وأداة تفلسف لممارسة نقد ذاتي راديكالي لمجمل تجربة الفكر البشري، وهذان، يقول البروفسور ستيغماير، يوسعان بشكل أو آخر مساحات اختيار مسار التوجه في الحياة، وهو أمر محرر دون شك لم يسبق إليه بهذه الصرامة والوضوح أي من الفلاسفة الكبار، لكنّه أمر مخيف أيضاً.

من هنا تكتسب فلسفة نيتشه قيمة إضافيّة لها عند إنسان الرأسمالية المتأخرة في القرن الحادي والعشرين، بعدما تناثرت صيغ الأفكار العالميّة الكبرى كِسَفاً، وتسارعت وتيرة التغيير المستمر على نحو غير مسبوق حتى لم يعد بمقدور جيل واحد أن يتوقع من الجيل التالي له أن يستوعب صيغ العيش التي اعتاد وتأقلم عليها وعدَّها مسلَّمات، وإطارات وعي جمعي مشترك.

ولعله يمكن الزّعم بأن «توجيه بشأن فلسفة فريدريك نيتشه» قد يكون أفضل تمهيد يمكن لقارئ معاصر أن يستعين به، إن هو قرر عبور بحر الفكر النيتشوي العاصف، وذلك بحكم ترفّع مؤلفه، البروفسور ستيغماير، عن تعجرف المتخصصين وفذلكة الخبراء، وقرب مترجمه البروفسور مولر من مزاج الفلسفة الألمانية والمناخ الفلسفي الأميركي في آن، فيقدّم ممراً يشق بحر الكتابات الأكاديمية الكثيرة في استكشاف تجربة نيتشه، لا بوصفها مشروعاً فلسفياً وإنما كنتاج مفكر يأتي من خارج التصنيفات الفلسفيّة والمذهبيّة المعتادة، وذلك من خلال استقراء المصادر التي شكّلت أفكاره، بما في ذلك تقلبات حياته ومزاجه، ومصاعبه الصحيّة، والمعارف الذين التقاهم، وقراءاته، ونماذج الكتابة الفلسفية التي جرّبها، وتوقعاته وأشواقه، و«المهمة» التي نذر نفسه لها، وخطوط التوجيه الذاتية التي تعامل بها، ومنهجيته النقدية في تناول التوجهات والنظم الفكرية المستندة إلى أوهام الميتافيزيقا، ومغامراته في «إعادة تقييم جميع القيم»، ودوافع استعداده الدائم لمساءلة كل عقيدة توافقت عليها مجموعة من البشر، متصدياً في الوقت ذاته للمحاولات الضحلة لتعليب المنهج النيتشوي في مفاهيم ونظم فكريّة تسهِّل إساءة تفسيرها، مثل فكرة الإنسان الأعلى (أوبرمنش)، وإرادة السلطة - ما دفع كثيرين إلى تبنى صورة نيتشه كنبيٍّ ملهم للفكر النازي - وكما ذلك التكرار المملّ على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطع مجتزأة مما وضعه نيتشه على لسان زرادشت، ما يخلّ بما أراد التعبير عنه.

وتتميز النسخة الإنجليزية من الكتاب بحاشية إضافية لا تتوفر في الأصل الألماني تتوجه قصداً إلى القراء في العالم الأنغلوساكسوني حول كيفية دراسة نيتشه اليوم، بالاستفادة بأبعد من نصوصه المنشورة، وذلك من خلال استقراء مراحل وعتبات تطور توجهاته الفكرية، كما تفهم؛ لا من النصوص المعروفة فحسب، بل وأيضاً من دفاتر ملاحظاته الشخصيّة التي نُشرت ونُقحت بعد أكثر من قرن على وفاته، وأمكن منها معرفة المزيد عن فلسفته، وكذلك، وهو ربما الأهم، عن طريقته بالتفلسف.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 فبراير 2024 م ـ 08 شَعبان 1445

 

ابتدأت ملامحه ترتسم على الأفق... والموجة الأصولية ستنحسر عاجلاً أو آجلاً، نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث

تقول لنا كتب التاريخ ما فحواه: في أواسط القرن الثامن الميلادي، حصل شجار داخلي كبير أدى إلى زعزعة العالم العربي. فقد تغلَّب العباسيون على الأمويين، واستولوا على السلطة بعد أن أعملوا المجازر فيهم. كل العائلة الأموية أُبيدت عن بكرة أبيها. ولم يبقَ منهم إلا شخص واحد نجا من الموت وهرب إلى آخر الدنيا: هو عبد الرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش. وهذا الشخص الواحد المذعور الهارب استطاع أن يؤسس إمبراطورية جديدة في الأندلس! من يصدق ذلك؟ معجزة حقيقية. على أي حال، هكذا انتقلنا من عهد السلالة الأموية التي استمرت قرناً تقريباً إلى عهد السلالة العباسية التي استمرت خمسة قرون. وقد بلغت فيها الحضارة العربية الإسلامية أوجها؛ بلغت ذروة العظمة والمجد. عندئذ انتقل مركز الإسلام والعروبة من سوريا إلى العراق، ومن دمشق إلى بغداد. وعندئذ أشرق العصر الذهبي بأنواره على العالم.

ينبغي العلم بأن الصراع بين العباسيين والأمويين دار حول مفهوم الإسلام الصحيح: أي صحيح الدين. كل طرف كان يتهم الطرف الآخر بالانحراف عنه، وعن نهج العقيدة القويمة المستقيمة، وذلك لكي يزيحه عن السلطة ويحل محله. والواقع أن العباسيين استخدموا هذا الأسلوب في الدعاية و«البروباغندا» لكي يسفِّهوا الأمويين ويشوِّهوا صورتهم. وقد نجحوا في ذلك كل النجاح. فقد أشاعوا عنهم أنهم انحرفوا عن نهج القرآن والشريعة، وأنهم منافقون، فاسدون، ماجنون، لا أثر للإيمان في قلوبهم. ونجحت الإشاعة وانتشرت في كافة الأمصار الإسلامية، الشيء الذي أدى إلى سحق الأمويين عام 750م وحلول العباسيين محلهم على رأس الإمبراطورية العربية الإسلامية. وهذا ما يدعوه المؤرخون «الثورة العباسية».

وهذا يعني أنك لا تستطيع أن تسقط أي نظام بالقوة «الخام» -إذا جاز التعبير- أو بالقوة المحضة فقط. وإنما ينبغي أن تسقط مشروعيته الإلهية أو الدينية أولاً. الآن نقول: مشروعيته الآيديولوجية أو السياسية. انظر الصراع الجاري حالياً بين التيارات الظلامية للإسلام السياسي، وبين تيار الإسلام المستنير الصاعد بكل قوة على الرغم من كل شيء. صحيح أنه لا يزال أقلية قليلة، ولكن حركة التاريخ تمشي في اتجاهه، والمستقبل له حتماً.

متى سنكف عن فهم الإسلام على أساس أنه تكفير وحرب وضرب وتفجيرات وطائفيات مشتعلة؟ متى سندرك أنه يوجد فهم آخر للإسلام: فهم حضاري وأخلاقي وروحاني عظيم. لأن «الربيع العربي» لم يدرك ذلك؛ فشل فشلاً ذريعاً. (أفتح هنا قوساً وأقول بأن سكوت معظم المثقفين العرب عن المجازر المخزية التي ارتكبها الأصوليون خلال العشرين أو الثلاثين سنة الماضية في الداخل والخارج، وكذلك اغتيال المثقفين والصحافيين في الجزائر وسواها، هو أكبر دليل على مدى تخلف الثقافة العربية؛ ليس فكرياً فقط، وإنما أخلاقياً وإنسانياً أيضاً. ولهذا السبب لا توجد لنا أي مصداقية ولا أي احترام على المستوى العالمي).

كنوز التراث أو ذخائر العرب

بين عامي 750 و1100م، كان جميع العلماء إما عرباً، وإما فُرساً، وإما أتراكاً من آسيا الوسطى، وإما بربراً أمازيغيين في الأندلس وشمال أفريقيا، وإما يهوداً، أو مسيحيين، أو مسلمين بطبيعة الحال. ولكن كانت هناك خاصية مشتركة تجمع بينهم جميعاً، ألا وهي: أنهم كلهم كانوا يفكرون ويكتبون باللغة العربية. صحيح أنهم كانوا يتحدثون بلغتهم الأم عندما يعودون إلى بيوتهم وعائلاتهم وأطفالهم، ولكن لغة العلم والفلسفة والمناقشات الفكرية الكبرى المحتدمة كانت تتم باللغة العربية. ولهذا السبب جرى استخدام تعبير «الحضارة العربية» وتفضيله على تعبير «الحضارة الإسلامية». لماذا؟ لأن كثيراً من العلماء آنذاك ما كانوا مسلمين؛ بل إن معظم المترجمين الكبار كانوا عرباً مسيحيين. ولكن كانوا كلهم يتقنون العربية ويؤلفون كتبهم الأساسية بها.

كانت اللغة العربية آنذاك لغة الحضارة العالمية. لهذا السبب نقول بأن مستقبل اللغة العربية أمامها لا خلفها، ولكن بشرط واحد: ألا وهو تبسيط قواعدها ونحوها وصرفها وصياغاتها التعبيرية. ثم بشرط تخلي المثقفين العرب عن ظاهرة التفاصح والتقعر. كنا ننتظر منهم تطوير اللغة العربية وتسهيلها، فإذا بهم يعقِّدونها أكثر فأكثر بنوع من الشطارة البهلوانية المزعجة والمقلقة فعلاً. ثم بشرط نقل كل العلوم والفلسفات الحديثة إليها. ثم بشرط اشتقاق آلاف المصطلحات الجديدة المقابلة للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية، بغية مواكبة روح العلم والعصر واستدراك ما فات. كل يوم ينبغي أن نبتكر مصطلحاً جديداً في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أيضاً. ثم بشرط حرية الإبداع والابتكار. ثم بشرط نقد الأصولية الظلامية وتفكيكها من جذورها، من أساسات أساساتها. وهذا هو الشرط الأساسي لتدشين حركة التنوير العربي القادم. على هذا النحو يمكن أن يعود العصر الذهبي مرة أخرى.

هذا وقد أبدع علماء الإسلام في كافة المجالات بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد (بين قوسين: أخشى ما أخشاه أن يصحح لي أحدهم تعبير «في كافة المجالات» فيصبح «في المجالات كافة»! يكاد يجن جنوني. هذا هو التقعر والتفاصح اللغوي بعينه. هذا التقعر المتفاصح سوف يلجم اللغة العربية، ويمنعها من التطور والانطلاق، وربما قتلها أو خنقها في نهاية المطاف. ومن الحب ما قتل. ومن الحب ما خنق. وهذه المعركة الكبرى كانت هي أيضاً معركة جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وبقية الرواد النهضويين. متى ستقترب اللغة العربية من لغة الحياة؟ هذا هو السؤال. متى سنردم الفجوة الحاصلة، والهائلة، بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية؛ بدلاً من أن نوسعها ونفاقمها ونصبح أضحوكة للأمم والشعوب؟).

انتصار عصر الانحطاط

نعود إلى صلب الموضوع، ونقول: ولكن هذا العصر الذهبي كان قصيراً مع الأسف الشديد؛ لأنه لم يستمر أكثر من ثلاثة أو أربعة قرون في بغداد العباسية أولاً، ثم في قرطبة الأموية ثانياً. بعدئذ ابتدأ عصر الانحطاط الطويل الذي لم نقم منه إلا بعد سقوط السلطنة العثمانية عام 1918. وهي السلطنة التي هيمنت على مقدرات العالم العربي من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. وفي تلك القرون الظلامية الأربعة لم يواكب المسلمون الحركة العلمية والفلسفية إطلاقاً؛ بل ولم يسمعوا بها. بل كانوا يغطون في نوم عميق عندما كانت أوروبا تنهض وتصنع العلوم والحضارات والمعجزات. وهكذا انعكست الآية؛ في تلك القرون الأربعة ظهر كل علماء وفلاسفة أوروبا الكبار، من أمثال: كوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، ونيوتن، وكانط، وهيغل، وعشرات آخرين؛ ولكن هل سمع بهم قادة السلطنة العثمانية وشيوخها الكبار؟ أبداً، لا. لم يسمعوا بهم، ولم يترجموا لهم كتاباً واحداً، ما عدا كتاباً واحداً في الطب؛ لأن السلطان كان مصاباً بمرض جنسي. وهذا يعني أن عصر الانحطاط استمر مدة ستة أو سبعة قرون؛ أي منذ القرن الثاني عشر، تاريخ سحق المعتزلة والفلاسفة وانطفاء أنوار قرطبة بعد أنوار بغداد، وحتى القرن التاسع عشر، تاريخ انطلاقة النهضة العربية في مصر وبلاد الشام، على يد: محمد علي، والطهطاوي، وبطرس البستاني، ويعقوب صروف، وشبلي شميل، والأفغاني، والكواكبي، وعشرات النهضويين الآخرين.

أخيراً، هكذا نلاحظ أن عصر الانحطاط والظلام هو الأكثر استمرارية ورسوخاً في تاريخنا. من هنا صعوبة الاستيقاظ والنهوض. كلما حاولنا النهوض انتكسنا وعدنا إلى الوراء. هناك قوى هائلة تشدنا دائماً إلى الخلف. من هنا صعوبة التخلص من الحركات الظلامية التي تهيمن علينا الآن. فالعصر الذهبي الأول لم يستمر أكثر من بضعة قرون في بغداد وقرطبة. والعصر الذهبي الثاني لم يستمر أكثر من قرن ونصف قرن: وأعني به عصر النهضة في القرن التاسع عشر وحتى عام 1970. بعدئذ صعدت الموجة الأصولية بقوة وعنفوان هائل، وتسلَّمت زمام الأمور منذ خمسين سنة وحتى الآن؛ بل وحتى قبل ذلك. يمكن القول بأن حركة «الإخوان المسلمين» التي تأسست عام 1928 هي التي قصمت ظلنهضة العربية التي كانت صاعدة بقوة من خلال التفاعل مع أفضل ما أعطته أوروبا. وهي التي أرعبت العلماء والمثقفين في شتى الأقطار. انظر محاولة اغتيال عباس محمود العقاد الفاشلة لحسن الحظ.

والآن، نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث: أي عصر التنوير العربي الذي ابتدأت ملامحه ترتسم على الأفق. فهذه الموجة الأصولية سوف تنحسر عاجلاً أو آجلاً، وسوف يحل الإسلام المستنير محل الفكر الإسلامي الظلامي المهيمن علينا حالياً. ولكن ذلك لن يتم قبل أن تحصل معركة كسر عظم مع الأصوليات السوداء المزمجرة. لن يتم قبل أن ننخرط في معركة فكرية شرسة جداً مع ذاتنا التراثية العميقة. وهي معركة ظل المثقفون العرب يتحاشونها خوفاً من الاشتباك معها. ولكن في نهاية المطاف لا بد مما ليس منه بد.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 19 فبراير 2024 م ـ 08 شَعبان 1445 هـ

لا شك في أن الصديق فتحي نقزو، أستاذ الفلسفة في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، قد أحسن إذ أصدر مؤخراً الترجمة العربية للكتاب الأخير للفيلسوف الألماني الأشهر كانط «صراع الكليات». في هذا الكتاب الذي نادراً ما حظي بالاهتمام المستحق، يتناول كانط العلاقة المعقدة بين الفلسفة واللاهوت والقانون (بالإضافة إلى الطب الذي ينتمي للكليات العليا).

لا يهمنا تلخيص هذا الكتاب الذي اعتبره البعض «الوصية السياسية» لكانط، وقد احتفى فيه بوضوح بالثورة الفرنسية، كما تضمن دفاعاً مستميتاً عن حرية التفكير والتعبير في مواجهة الجمود والتعصب.ما يهمنا من منظور كانط هو تناول هذه العلاقة الإشكالية المعقدة بين الفلسفة واللاهوت والقانون في سياقنا العربي الإسلامي، حيث يتم في الغالب الفصل بين هذه الأنظمة الخطابية المتمايزة.

وبغض النظر عن تحديد هل يمكن اعتبار علم الكلام الإسلامي لاهوتاً والفقه قانوناً، تتعين الإشارة إلى الروابط الكثيفة في تاريخنا الثقافي بين هذين المجالين وبين الفلسفة التي لم تكن في غالب الأحيان خطاباً جامداً يترجم النص اليوناني ويعلق عليه. ما نريد أن نبينه هو أن الاهتمام الفلسفي لم ينشأ في السياق الإسلامي الوسيط، كما يظن البعض عادةً، كمجرد استيراد لمدونة نظرية جاهزة ومكتملة، سواء من أجل تناول المسائل العَقَدية التي أثارت اهتمام المتكلمين، أو من أجل التبشير بأخلاق الاعتدال والسعادة التي شغلت الأدباء والكتاب في الحقبة الوسيطة.

في هذا السياق، تتعين الإشارة إلى أن الجوانب الميتافيزيقية من الفلسفة اليونانية لم تكن هي محور اهتمام فلاسفة الإسلام، كما يظهر من الكتابات الفلسفية المبكرة (الكندي وأبوبكر الرازي وثابت ابن قرة)، بل إن تركيزهم كان على الطبيعيات والأخلاقيات. بيد أن الطبيعيات لا تعني هنا الكوسمولوجيا الأرسطية، مِن صور وجواهر وأجسام فلكية، بل هي مظهر لـ«مجرى الخير في الوجود» حسب اصطلاحات ابن سينا، وهي إذن داخلة في المنحى الأخلاقي بدلالته الواسعة. عندما طرح الفارابي سؤال غياب مفهوم للوجود في اللغة العربية، كان يدرك أن نمط التفكير الفلسفي في الإسلام لا يتم عن طريق المنظور الأنطولوجي، بل من خلال المقاربة الأخلاقية العملية التي تتم من خلال مسارين هما: التدبير المدني للعيش المشترك والتشريع السلوكي وفق ضوابط وأحكام ملزمة وضرورية. ومن هنا أدرك كبار قراء الفارابي، من نوع ليو شتراوس ومحسن مهدي، مركزيةَ المسألة الأخلاقية القانونية (الشرائع والنواميس) في المنهج الفلسفي الذي أطلق عليه الفارابي نفسه تسمية «السياسة المدنية». وعلى عكس التصور السائد، لم يكن علم الكلام (الذي هو البديل الإسلامي عن اللاهوت باعتبار غياب منظومة مقننة تتناول مضامين وتفاصيل الاعتقاد الإيماني) بعيداً عن الفلسفة ولا عن التشريع القانوني.

لقد لاحظ المستشرق الألماني «جوزف فان أس» أن نظام الاعتقاد في الإسلام يقوم على الممارسة والتطبيق لا الاستكناه العقلي للمضمون الباطني للإيمان، بما يعني أن الاعتقاد بصفته نطقاً باللسان وتعبداً بالشرائع من باب الفقه والعمل. أما الفقه نفسه فلا يمكن اعتباره نسقاً قانونياً حتى في جوانب التشريع والمعاملات، بل هو من حيث أحكامه المتعلقة بالأفراد والمجموعة داخل في صلب الأخلاق بمنظورها الشامل. الأخلاق هنا بطبيعة الحال ليست أخلاق الواجب أو الأوامر العقلية الكونية بالمعنى الكانطي الحديث، بل هي مقاصد للعمل وموجهات للعمل وضوابط للفعل. ما نستخلص من هذه الملاحظات هو أن محددات الفلسفة في السياق الإسلامي الوسيط كانت بالأساس أخلاقية لا ميتافيزيقية، تدور حول الأوامر والالتزامات الإنسانية الكونية، لا المنظور الكلي الوجودي الذي تدور حوله الفلسفة اليونانية.

وفي إعادة بناء ميتافيزيقا أرسطو التي اضطلع بها ابن سينا في إلاهياته، نجد أنه أدخل تصورين جديدين على هذه الفلسفة، وهما: نسف أطروحة تلازم الوجود والماهية وما يترتب على هذا النسف من تفريق جوهري بين الكليات الذهنية والأعيان الفردية، وتقويض مسلمة أحادية العالم بالتمييز بين الوجود الضروري والوجود الممكن وما ينتج عن هذا القول من تعددية العوالم التي تبناها الكثير من مفكري الكلام والفلسفة. الفلسفة تصبح إذن ضمن هذا التصور ممارسة أخلاقية شرعية تهدف إلى إبلاغ الإنسان أعلى درجات الفضيلة والسعادة، وليست تأملا في جواهر الوجود وكلياته أو تكيفاً مع نظام الكون المطلق. ومن هنا نخلص إلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والكلام والفقه في السياق الإسلامي، بما يعني غياب صراع الكليات العليا والسفلى بالمعنى الكانطي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 فبراير 2024 23:45

الأدبي غير العلمي وكلاهما غير الاجتماعي والسياسي

غالبا ما ينظر الباحثون في قضية الاستشراق نظرتهم في أصعب المسائل وأشدها إرباكاً، ذلك بأن هذه القضية تتعلق مباشرة بإشكالية الهوية الذاتية الجماعية التي يعتصم بها أبناء المجتمعات العربية، وفي يقينهم أنها تقيهم انحرافات الانحلال الحضاري، والضياع الثقافي، والوهن السياسي. لذلك آثر معظم أهل الاختصاص أن يغلقوا على الاستشراق في محنة التنازع بين ضربين من التطرف: فإما أن يغالي الاستشراق في رسم الآخر الشرقي على صورة الذات الغربية، وهذا ما يحصل في أغلب الأحيان، وإما أن يكتفي برسم الذات الغربية على صورة الآخر الشرقي، من بعد أن يهيم المستشرق بسحر الشرق وعجائبه. لا بد، والحال هذه، من البحث عن الحل الوسطي الذي ينتقد الاستشراق من غير أن يكفره، ويمدحه من غير أن يمجده.

أعتقد أن أفضل السبل يقتضي الشروع في ثلاث خطوات منهجية أساسية: ينبغي للمرء أولاً أن يتفحص الخلفيات الثقافية والسياسية التي دفعت بعلماء الغرب إلى الاعتناء بالشرق العربي على تنوع منبسطاته الجغرافية وتباين تجلياته الحضارية، ويجب عليه ثانياً أن يميز تمييزاً حصيفاً بين منابت الاستشراق وأصنافه؛ إذ إن الاستشراق مذاهب وتيارات وتوجهات؛ ويتعين عليه ثالثاً أن يتحرى الآثار السلبية والإيجابية التي خلفها الاستشراق في وعي المجتمعات الشرقية، لا سيما العربية منها، ويستقصي الأبعاد التفاعلية التثاقفية التي استولدها التقابس الحضاري بين الغرب والشرق.

أبدأ أولاً بالخلفيات الثقافية والسياسية. من الواضح أن أزمة الاستشراق تقترن بأسباب سياسية ومعرفية. إذا اكتفى المرء بالأسباب السياسية، اتضح له أن عوامل الفساد المعرفي في بعض الاجتهادات الاستشراقية ترتبط بالخلفيات الثقافية التي ينتسب إليها المستشرق، وبالتصورات الآيديولوجية التي يبايعها، وبالأنظومات والهيئات السياسية التي تدعم مشروعه الاستشراقي وتموله. أما إذا تناول المرء الأسباب المعرفية، فإن البحث يضحي أشد استنهاضاً للعقل المستنير؛ إذ يحثنا على استجلاء العوامل المعرفية المحضة التي تجعلنا نرتاب من عملية الاستشراق في مقتضياتها المعرفية. ذلك بأن فهم الشرق العربي فهماً غربياً يختلف عن فهم الشرق العربي فهماً شرقياً عربياً. من جراء الاختلاف الخطير في الأنظومات الثقافية السائدة في الغرب وفي الشرق العربي، يستحيل على المستشرق أن يدرك خصوصية الفرادة الذاتية التي ينطوي عليها تراث الآخر.

أمضي ثانياً إلى التمييز الضروري بين منابت الاستشراق وأصنافه. يعلم الجميع أن البلدان الأوروبية التي توسعت توسع الاستعمار، ومنها على سبيل المثال بريطانيا وفرنسا وروسيا، ناصرت استشراقاً خاضعاً في بعض الأحيان لمصالح السياسات الخارجية الاستعمارية. أما البلدان الأوروبية التي لم تختبر إرادة الاستعمار في أقصى اندفاعاتها التوسعية، ومنها على سبيل المثال ألمانيا غير النازية والنمسا وهولندا، فإن استشراق علمائها استطاع أن ينعتق من خلفيات المصالح التوسعية، فاتسمت مبادراته الفردية بالوداعة المعرفية والانفتاح الرضي والرغبة الصريحة في التعلم والاستمتاع بإنجازات الحضارة العربية وفتوحاتها الثقافية وأمثولاتها الروحية. لا ريب في أن مثل هذا التصنيف لا يعني أن جميع الاجتهادات الاستشراقية المقترنة بمشيئة البلدان الاستعمارية كانت انحيازية تضليلية مؤذية، وأن الاجتهادات الأخرى كانت كلها موضوعية منزهة هادية. أعتقد أن في الاستشراق الثقافي المحض بعضاً من النزعة الاستعمارية الدفينة، وفي الاستشراق الاستعماري الصريح بعضاً من الحكمة المعرفية الحميدة.

زدْ على ذلك أن الاستشراق الأدبي غير الاستشراق العلمي، وكلاهما غير الاجتماعي والسياسي. ذكرت هذه الأصناف لأبين أن استشراق الأدباء الأوروبيين، لا سيما الرحالة من أمثال الرحالة البريطاني سير ويليام جونز (1746 - 1794) صاحب البحث الشهير في الشعر الشرقي ومترجم المعلقات العربية السبع، والفرنسي أنطوان - سيلڤستر دساسي (1758 - 1838) صاحب الأبحاث التاريخية في فقه اللغة العربية ومترجم نصوص فريد الدين العطار، والألماني المختص بالأدب العربي المسيحي غيورغ غراف (1875 - 1955)، ساهم مساهمة جليلة في استكشاف كنوز الأدب العربي القديم.

من الضروري في هذا السياق أن أخص الاستشراق الألماني بذكر طيب؛ إذ انفرد بميله الأكاديمي الصِّرف ورغبته الصادقة في الانعتاق من سطوة السلطان السياسي. صحيح أنه من العلوم الدخيلة في ألمانيا، ولكنه ما عتّم أن اندمج في النظام البحثي الجامعي الألماني، وقد آزرته العوامل السياسية المتعلقة بانكفاء المقاطعات الألمانية وإعراضها عن التوسع الاستعماري الجامح. فاكتفى المستشرقون الألمان بفضيلة البحث العلمي المحض، ولو أن الجيل الرومانسي من الاستشراق الألماني عاد فاستثمر لاحقاً الأبحاث المنجزة في توطيد التصورات القومية الجرمانية. بفضل جهود المستشرق الألماني هاينريش فلايشر (1801 - 1888) الذي اعتنى بتحقيق نصوص أبي الفداء والزمخشري والقاضي البيضاوي، تأسست في مدينة لايبتسيش عام 1845 الجمعية المشرقية الألمانية، وغايتها احتضان الاستشراق الألماني في إطار المؤسسة البحثية المستقلة.

أما ما اتصف به الاستشراق الألماني فالاجتهاد في تطوير فقه اللغة المقارن، والاستناد إلى خلاصاته من أجل تعزيز الأبحاث المتعلقة بطبائع الأعراق والأقوام والسلالات. ترسخ هذا التوجه بالاستناد إلى أعمال الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646 - 1716) الذي كان يولي اللسانيات مقام الصدارة؛ إذ كان مقتنعاً بأن الكلمات التي تختزنها معاجم الشعوب تكشف لنا عن هوية هذه الأقوام وأصلها وصلات القربى المنعقدة بينها وترحالاتها المتعاقبة. فضلاً عن ذلك، اتصف الاستشراق الألماني بالاعتناء الدقيق بدراسة اللغات القديمة، لاسيما السنسكريتية والسومرية، وذلك بخلاف الاستشراق الفرنسي أو الإنجليزي الذي كان شديد الميْل إلى تناول مسائل السياسة والتجارة والإدارة في الشرق.

أختم ثالثاً باستجلاء الآثار التي وَلّدها الاستشراق، على تباين وجهيه السياسي والثقافي، في الوعي العربي الحديث والمعاصر. إذا أردنا أن ننصف الظاهرة الاستشراقية العالمية هذه، سارعنا إلى التذكير بأن التأثير كان متبادلاً، أي ناشطاً في الاتجاهين. ذلك بأن المجتمعات العربية أدركت بفضل الاستشراق مقدار الغنى الحضاري الذي يختزنه تاريخها الأثيل، وقد اكتنفته ظلال الجهل منذ انطفاء شعلة التألق الحضاري العربي في القرن الثالث عشر حتى اتقادها مجدداً في عصر النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر. لا بد من امتداح الجهود الجبارة التي بذلها أهل الاستشراق الأوروبيون من أجل الكشف عن وثائق الوعي الثقافي العربي التي كان غبار الدهر يلفها في مكتبات العواصم العربية والغربية. أعرف أن هذا الجهد خضع في بعض الأحيان لتأويلات الوعي الحضاري الغربي. فكانت التسمية غربية، والمنهجية غربية، وكذلك طريقة التفكير وردود الفعل والأحكام والخلاصات.

ولكن كيف لنا أن نطلب من المستشرق الغربي أن يكف عن انتمائه الغربي، وأن يُجرّد وعْيه من ذاتيته الثقافية؟ الحقيقة أن الاستشراق فعل ثقافي خطير يُغني الذات حين تنظر في مرآة الآخر، يستفزها باختلافاته واستنهاضاته. لا يمكننا على الإطلاق أن نحرر الاستشراق من سحر الشرق، ولو أن أثر هذا السحر تجلى على وجوه شتى. لا ينجو المستشرق باستشراقه من شمس هذا الشرق ووهجها الحراق. فإذا به يرتد إما إلى ذاته يعيد النظر فيها، وإما إلى الشرق فيعتنق الإسلام أو الهندوسية أو البوذية أو المسيحية الشرقية كما فعل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883 - 1962).

كيف لنا أن نطلب من المستشرق الغربي أن يكفّ عن انتمائه الغربي وأن يجرّد وعْيه من ذاتيته الثقافية؟

أعتقد أن أزمة الاستشراق انبعثت حين انحرف المستشرقون في الحكم على قضيتين خطيرتين: مقام الإسلام في الوعي الحضاري الكوني، وصدارة الخصوصية الحضارية الأوروبية. يعلم الجميع أن بعض المستشرقين شيّعوا صورة قاتمة عن الدين الإسلامي، وقد استندوا إلى تأويلات قرآنية مجتزأة مبتورة. فأطلقوا الأحكام الظالمة المتعلقة بهوية الإسلام وتقويم مساره التاريخي ووظيفته الحضارية، فاختلط الاستشراق بمشكلات الحوار الديني اللاهوتي العسير المرْكَب. كذلك عمد بعضهم الآخر إلى البرهان على تفوق الحضارة الغربية الأوروبية، وفي مستندهم بعض الوقائع التي تدل على تفوق في المعرفة والعلم والاقتصاد.

أسوق مثالاً على عملية تسويغ التفوق الغربي، أستخرجه من اجتهادات بعض المستشرقين الرومانسيين الألمان الساعين إلى استثمار الأبحاث اللغوية المقارنة من أجل مناصرة الخصوصية الأوروبية. حاول رائد الرومانسية الألمانية مجدد النقد الأدبي فريدريش شليغل (1772 - 1829) أن يستند إلى أبحاثه اللسانية في نحو اللغة السنسكريتية لكي يبرهن في كتابه (في لغة أهل الهند وحكمتهم) أن السنسكريتية والفارسية من جهة، واليونانية والألمانية من جهة ثانية، لغات تشترك في خصائص لسانية أساسية لا تشترك فيها اللغات السامية والصينية والأمريكية والأفريقية. من جرّاء هذه المقارنة، خلص إلى إثبات وحدة الأقوام الأوروبية المنبثقة كلها من قوم أصلي افترض أنه عاش في الهند القديمة الممتدة بين منطقتي كشمير والتيبت وتكلم باللغة السنسكريتية. ومن ثم، استند شليغل إلى قاعدة الوحدة اللغوية المفترضة لكي يعارض الأقوام الهندو-أوروبية بالأقوام الأخرى، لا سيما السامية منها، ويستنتج أن اللغات التي يستخدمها غير الأوروبيين أدنى مرتبة في جماليتها التعبيرية.

خلاصة القول، إن الاستشراق اجتهاد ثقافي يفصح عن طبيعة الذات المستشرقة قبل أن يكشف عن خصائص الشرق المنشود. واجب العقل المستنير أن يستثمر أبحاث الاستشراق من أجل إدراك خصوصية كل شعب على حدة، وفرادة شخصيته التاريخية، وقيمة مساهمته الحضارية.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: نُشر: 17 فبراير 2024 م ـ 06 شَعبان 1445 هـ

 

بين كتاب خير الدين التونسي عام 1867 بعنوان «أقوم المسالك إلى معرفة أحوال الممالك»، وكتاب المفكر الإيراني جلال آل أحمد: «الإصابة بالغرب»، زُهاء المائة عام. خير الدين التونسي يقول إنّ «المدنية» الأوروبية بمثابة «السيل الذي لا يمكن دفعه» إلاّ بالانخراط فيه، أو يجرفنا السيل. بينما يرى جلال آل أحمد أنّ الغرب مرضٌ أُصبنا به، ويجب الخروج منه أو عليه أو يكون الهلاك!

وفي عام 1974، وبتأثير تجربة القرن أيضاً، انعقد مؤتمرٌ بالكويت عنوانه «أزمة الحضارة العربية»، حضره كبار المفكرين العرب، وتوصل إلى تشخيص معاكسٍ لتشخيص جلال آل أحمد: لا دخول في الحداثة والثقافة المعاصرة إلا بالقطيعة مع الموروث! وبين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي ما بقي مفكر أو كاتب عربي إلا واقترح مشروعاً شاسعاً لإلغاء تأثير الموروث في العقليات والنفسيات أو تأويل الموروث تأويلاً راديكالياً يلغي تأثيراته السلبية!

وبعد مقالة صمويل هنتنغتون عن «صدام الحضارات»، بـ«مجلة الشؤون الخارجية الأميركية» عام 1993، انتقل النقاش للدفاع عن الإسلام من جهة أو إدانة عدوانية الغرب من جهة ثانية. ولا حاجة لمتابعة وقائع المحاولات والجدالات بعد حدث عام 2001، وإغارة «القاعدة» على الولايات المتحدة، واندلاع الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي أو السني؛ فقد تغلّبت في الكتابات ظواهر ومظاهر التغالب والغلبة بين حوار الحضارات وتآلفها أو صراعها، وقد حاولتُ وقتها (2004) القيام ببعض المتابعات النقدية في كتابي: «الصراع على الإسلام».

وليس بسبب الحرب على غزة، لكن الكتابات ما عادت بعيدة من ذلك اليوم، بسبب التحزب الغربي لإسرائيل، صعد تيار العداء للغرب ونظام العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو تيارٌ جذري أو راديكالي يقول أنصاره من المفكرين والأنثروبولوجيين في الغرب وعندنا إنّ مشكلات الحضارة العالمية (الغربية) ليست علّتها على وجه التحديد في تيارات اليمين هناك، بل وفي الأصول «التنويرية» لتلك الحضارة التي تستبطن أفكار وسياسات التمييز وإلغاء الآخر، رغم ظواهرها الليبرالية والإنسانية التي تُظهر «الدولة الحديثة» تبنّيها لها زوراً وبهتاناً!

والواقع أنّ هذا النقض للتنوير، وبالتالي للدولة الحديثة، بدأه فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني المعروف. وترك تأثيراته على معظم فلاسفة القرن العشرين. ثم صار غرام فلاسفة فرنسا الجدد ومفكري ما بعد الحداثة الذين اشتهرت في أوساطهم مقولة «القطيعة» ليس مع الموروث الإسلامي بالطبع، بل مع الموروث الحداثي الأوروبي والغرب بعامة. ولذلك، وكما سلك فلاسفة ما بعد الحداثة بالغرب تجاه حضارتهم، سلك المفكرون العرب تجاه موروثنا في مسألة القطيعة، من دون أن يقولوا لنا شيئاً عن الحداثة الحديثة التي يريدون منا التنكر لموروثنا من أجل التمكن من الدخول فيها؛ إذ معظم هؤلاء كانوا من اليساريين ونقاد التفكير البورجوازي الغربي وقد أذهل العديدين منهم سقوط الاتحاد السوفياتي، ولاذَ بعضهم بالنهوض الصيني من دون أن يقولوا الكثير عن ميزات رأسمالية الدولة الصينية على الرأسمالية الأُخرى، ربما باستثناء إخراج رأسمالية الدولة الصينية لمئات الملايين من الفقر. بيد أنّ كاتباً عربياً (وليس هندياً على أي حال) لاحظ أنّ النهوض الاقتصادي الهندي أخرج أيضاً مئات الملايين من الفقر رغم النموذج المختلف عن النموذج الصيني!

ولنعد إلى التيار الآخر الفكري والاستراتيجي الذي يتقدم في السنوات الأخيرة، في الرؤية السوداوية للغرب وحداثته أو دولته الحديثة. تبلور هذا التيار تأسيساً على كتاب إدوارد سعيد: «الاستشراق» (1978)، والمستشرقون فئة اختصت بدراسة الحضارة الإسلامية فخانت قيم التنوير، بما أظهرته من تمييز واستنسابية وخدمة عملية الاستعمار، وظلت هذه الرؤى مؤثرة في ثقافات ما بعد الاستعمار. ومن أطروحة إدوارد سعيد (التي اتخذت من القضية الفلسطينية - سعيد فلسطيني الأصل - أمثلة حاضرة لها) تطورت دراسات التابع (Subaltern)، وعلى أيدي مفكرين من أميركا اللاتينية والهند، لتُدين الثقافة التي أنتجها وخلّدها الاستعمار تجاه الثقافات الأُخرى، وظلّت مرتبطة بأصلها الأصيل حتى اليوم في الأفكار والاستراتيجيات والمؤسسات. ومن دراسات ومقولات ومقتضيات ثقافة التابع لدى الغرب، تكونت الرؤية السوداوية للغرب وحضارته؛ فإدوارد سعيد عَدّ الاستشراق خيانة للقيم والرؤى التنويرية والإنسانية، أما تطورات دراسات التابع فترى أنّ سعيداً كان واهماً، وتعاني رؤيته من قصورٍ شديد، لأنّ قيم التنوير بالذات هي أصل الداء، والحبل السري لمؤامرة الدولة الغربية الحديثة التي يسودها الإحساس بالتفوق في العالم وعليه! فقيم الحرية والعدالة والسلام ووحدة الإنسانية التي تحمل الدولة الغربية رايتها لا تنقضها في الواقع سياسات الكيل بمكيالين فقط تجاه الآخر غير الغربي في النظام الدولي الذي صنعه وسيطر الغرب الأميركي والأوروبي فيه؛ بل إنّ هذه القيم والمقولات بحدّ ذاتها مقصور معناها وتأثيرها على الغرب ودولته ولا تتعداه.

ولا يزال الإسلاميون يستفيدون من هذا النقض للحضارة الغربية ودولتها الحديثة، وفي ظنهم أنّ ذلك شاهد على ما يقولونه منذ سبعين عاماً وأكثر عن مؤامرة الغرب على الإسلام وحضارته. وقد انقسموا إلى تيارين: التيار الذي يتهم السياسات الدولية بالكيل بمكيالين، والتيار الأكثر راديكالية الذي يستند لنقد الحضارة ونقضها لدى تياراتٍ في الغرب للمصير إلى الحلّ الإسلامي البديل لكل ما أنتجه «التقدم» الغربي المدَّعى. ولا تجوز الاستهانة بهذه النقود والنقوض؛ فقد قرأت لشبانٍ متفائلين بعودة الفلسفة للتفكير والتدريس بوصفها تنمّي التفكير النقدي، قرأت لهم مقالاتٍ تعد نقائض مفكري ما بعد الحداثة مثالاً ينبغي احتذاؤه!

ليس في العالم اليوم غير حضارة واحدة، وبداخلها وعلى حواشيها تياراتٌ كثيرة، كلّها نقدية بدرجاتٍ متفاوتة، لكنها وإن أظهرت خيبة من «القرن الأميركي»، تعمل من داخل تلك الحضارة. ويصبح إنجازها النقدي مشاركاً في صناعة الجديد بقدر ما يظل أميناً للقيم الإنسانية الكبرى التي ينبغي إحقاقها ولا يصحُّ التنكر لها. إنّ الأمل الذي لا شفاء منه يتمثل في القدرة على المشاركة في حضارة العالم والتأثير فيها من خلال القيم الإنسانية العالمية المشتركة. أما التمرد الطليق السراح بأي حجة كانت فيضعنا في خضمّ زوابع ودوامات لا مخرج منها غير اليأس العاجز أو إنتاج تيارات تخريبية عانينا منها كثيراً ولا نزال.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط للندنية، يوم: 16/2/2024م

 

الحب كتضافر خلاق بين عنصري الماء والتراب

واءمته الأساطير والكتب المقدسة والفنون مع الخصوبة وتفتح الحياة

لم يكن الفلاسفة والباحثون ليجافوا الحقيقة في شيء، حين رأوا في التجليات المختلفة للحب ما يختزل العناصر الأربعة للوجود، الماء والتراب والنار والهواء. وإذا كان الربط بين الحب والنار يتصل إلى حد بعيد بمجتمعات الرعي والصيد، حيث واءم باشلار بين النار المتولدة عن احتكاك الأجساد، وبين النار الطاهية للطرائد ونباتات الأرض، فإن الربط بين الحب وبين عنصري الماء والتراب بدا محصلةً طبيعيةً لنشوء المجتمعات الزراعية المستقرة، في وادي النيل وبلاد الرافدين، ومجتمعات أخرى مماثلة. وقد بدت النقوش والمنحوتات والنصوص المبكرة التي تركتها وراءها شعوب الشرق القديمة، كالسومريين والبابليين والكنعانيين، بمثابة تعبير رمزي عن مفهوم الحب في الشرق القديم، أو عن «طقوس الجنس المقدس»، وفق تعبير صموئيل كريمر. فقد ذهب كريمر إلى القول بأن الاقتران بإلهة الخصب «إنانا» كان الهدف الأول لملوك سومر، الذين كانوا يتوقون إلى مضاعفة المحاصيل ودفع الزرع إلى النمو.

ووفق الأساطير القديمة لم تكن «إنانا» متحمسة للاقتران بـ«ديموزي»، بل كانت تؤثر بحماس العيش في كنف الفلاح الذي يطعمها الثمار. إلا أن إصرار أخيها «أوتو»، إله الشمس، على زواجها من صديقه الراعي، فضلاً عن رغبة الفلاح المسالم في الانسحاب من المواجهة تجنباً للعنف الدموي، هما اللذان أخذا الأمور نحو نهاية مغايرة. ومن يتتبع النصوص القديمة المنسوبة إلى شعراء سومر، ممن نظموا القصائد والأهازيج احتفاءً بالزواج الإلهي، لا بد أن يلحظ التناظر الرمزي بين طقسي الحب والخصب، حيث صورة الرجل الماء، أو الزارع، تقابلها صورة المرأة التراب والأرض الولود. وهكذا تهتف «إنانا» بـ«ديموزي»:

يا زوجي

المخزن الكبير والإصطبل المبارك

أنا إنانا، سوف أحافظ عليه من أجلك

سوف أحرس «بيت الحياة» الذي لك

ومكان العجائب المشع في البلاد

وأغلب الظن أن قصة إنانا وديموزي كانت الأسطورة المؤسسة لثنائيات العشق المماثلة التي ابتكرتها مخيلات الشعوب القديمة من حاجتها إلى الخصب والنماء، فتقمصت إنانا أسماء عشتار وعشتروت وفينوس وأفروديت وإيزيس، فيما تقمص ديموزي أسماء تموز وأدونيس وأوزيريس، الذي رأى جيرار دو نيرفال في انبعاثه من الموت ما وثّق صلة المصريين بالماء العذب، وبنهرهم العظيم على وجه الخصوص. وقد بدا واضحاً أن موت تموز مقتولاً بأنياب الخنزير البري، ومن ثم تمكُّن عشتار، بعد نزولها إلى العالم السفلي، من إقناع الآلهة بإحيائه لشهور ستة من السنة، هو المعادل الرمزي لانطفاء الحياة في فصلي الخريف والشتاء، وعودتها في الربيع والصيف محملةً بأشهى الثمار والمواسم. وإذ يذهب جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» إلى القول بأن اسم تموز البابلي يعني الابن الحق للمياه العميقة، يرى في المراثي البابلية التي أعقبت موته، تأكيداً لهذا المعنى، حيث يتحول رثاؤه إلى رثاء للطبيعة نفسها، كما في هذه الأبيات:

طرفاه في الجنينة لم يسقها الماء

ولم تزهر بالنور قمتها في الحقول

صفصافةٌ تمزقت جذورها

فلم تسعد بالمياه الجارية

وقد توقف فريدريك هيغل ملياً عند الطبيعة الجسدية البحتة للعلاقة بين العاشقين في العصور القديمة. وإذ ينفي وجود الحب الرومانسي عند القدماء، يبرهن على صحة فرضيته بشعر سافو الذي «يُظهر الغليان الشهواني للدماء الفائرة»، وبتماثيل فينوس التي «ينقصها التعبير عن الإحساس الداخلي». على أن ذلك لا يعني خلو العلاقات القديمة من البعد العاطفي والروحي، بل يعني تعذر الفصل بين ما هو جسدي وما هو روحي في المجتمعات الزراعية الأولى، حيث الحاجة ماسة إلى التناسل وحفظ النوع، وحيث يأخذ الحب أبعاداً عملية ووظيفية، تماماً كما هو حال الشعر والفن في الأزمنة الأولى. والواقع أن بين الأساطير الإغريقية ما يكشف عن إعلاء لا متناهٍ للحب الروحي، وعن ربط وثيق بين الحب وانعكاساته الإبداعية، كما في أسطورة أورفيوس، الذي حوّل عشقه لأوريدبس إلى موسيقى فاتنة تدفع الكائنات برمتها إلى الانتشاء.

كما تكشف قصيدة «نشيد الأناشيد» المنسوبة إلى النبي سليمان، التي يرجح البعض أن العبرانيين استقوا مناخاتها وأسلوبها من النصوص السومرية القديمة أثناء مرحلة السبي البابلي، عن تحول دراماتيكي في طبيعة الحب لدى الأقدمين، حيث الوله العاطفي والروحي هو الوجه الآخر للشغف الجسدي الشهواني. وإذ يقر أنسي الحاج بالتباس هوية النشيد وتعدد مصادره، يشير في تقديمه له إلى طبيعته المسرحية المركبة، التي تعكسها الأصوات الثلاثة للعاشق والعاشقة والجوقة، لافتاً بالمقابل إلى تبادلٍ للأدوار بين الرجل والمرأة، «فسليمان هو الخصب، وخليلته هي الخصب أيضاً. كلاهما الذكر والأنثى، وإله الخصب وعبده، والسجال شهوة إلى الوصول والذوبان في الآخر». وبهذا يمكن للرجل أن ينشد:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها والكروم أزهرتْ

ويمكن للمرأة أن ترنّم:

أنا لحبيبي وأشواقه إلي

تعال يا حبيبي لنخرج إلى الصحراء

وننظر هل أفرخ الكرْم وهل نوّر الرمان

وهناك أبذل لك حبي

ولم تختلف العلاقة بين الرجل والمرأة في الديانات التوحيدية الثلاث، عما كانت عليه الحال في الأساطير والنصوص القديمة، حيث تكاد العلاقة بين الطرفين تنحصر برابطة الزواج الشرعي التي يكون التناسل وحفظ النوع غايتها الأهم. ففي الجانب الذي يربط الحب بالخصب، ليس ثمة من فارق كبير بين الآية القرآنية «نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم»، وبين النصوص السومرية التي تؤكد على الربط بين الفعل الجنسي وحراثة الأرض. وهو ما استمرت تردداته اللاحقة في الشعر العربي، حيث تردّ امرأة أبي حمزة الضبي، الذي لامها على عدم إنجاب البنين، بالقول:

ما لأبي حمزةَ لا يأتينا يظلُّ في البيت الذي يلينا

غضبان أنْ لا نلد البنينا تالله ما ذاك في أيدينا

ونحن كالزرع لزارعينا نُنبت ما قد زرعوهُ فينا

ولم تغب ثنائية عشتار وتموز عن بال الشعراء العرب المحدثين، بل استطاعت صورة الأخير عائداً من الموت، أن تحتل موقع القلب من الحداثة الشعرية العربية. وعن المعادلة المزدوجة للخصوبة تقول فدوى طوقان:

هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام سرّ الخصب واحدْ

ومع ذلك فإن الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. إذ ثمة في الشعر العربي تبدّل في المعادلة، بحيث تكتسب المرأة بفعل الترحل الدائم والجغرافيا الرملية الملتهبة، ملامح الماء وأدواره ومزاياه، وينقلب الرجل إلى صحراء من العطش والخوف والتيه. وهو ما يفسر استهلال الشعراء الجاهليين لقصائدهم بذكر المرأة، بوصفها رمزاً للجمال والطمأنينة والحدب، سواء كانت زوجة أو ابنةً أو أختاً أو حبيبةً.

وقد يجد الوجه المائي للأنوثة تجلياته المثلى في تجارب الحب العذري على نحو خاص. فإذ يغيب البعد الجسدي والتناسلي عن مسرح العشق، وتنحصر العلاقة ببعض الملامسات، تنتفي الصورة النمطية للرجل المطر الذي يخصب المرأة الأرض، لتصبح الأنثى المعشوقة هي الماء الذي يعصم الرجل من الذبول. وهو ما يجد ترجمته الأبلغ في قول المجنون، أو أبي صخر الهذلي في رواية أخرى:

تكاد يدي تندى إذا ما لمستُها

وينبت في أطرافها الورق الخضرُ

ولا يحتاج ابن الأعرابي إلى ملامسة حبيبته، بل يكتفي بالإنصات إلى صوتها وحلاوة حديثها لكي يتخفف من قحط سنواته المزمن، فيقول:

وحديثها كالقَطْر يسمعه

راعي سنينَ تتابعتْ جدبا

أما جميل بن معمر فيجد في ريق حبيبته المترع بالعذوبة، ما يرد عنه غائلة الوحشة والعطش الدهري، فيهتف ببثينة:

ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني

أظلّ إذا لم ألقَ وجهكِ صاديا

لم تختلف العلاقة بين الرجل والمرأة في الديانات التوحيدية الثلاث عما كانت عليه الحال في الأساطير والنصوص القديمة

على أن العلاقة بين الحب والماء لم تأخذ الدلالة نفسها لدى أمم الأرض المختلفة. فإذا كانت حاجة الشعوب التي تسكن الصحارى ومناطق الجنوب إلى الخصب، هي التي تقف وراء صورة الآخر منعكسة في الماء المعشوق، فإن الماء في الغرب ومناطق الشمال لا يكتسب الدلالة نفسها، لأن الشعوب هناك لا تعاني من ندرة المطر، بل من هطوله الدائم ووفرته المفرطة. ومع ذلك فإن الماء الذي يفقد سحره، كوجهٍ محلومٍ به، أو كمنقذ من العطش المحسوس، لن يكف عن اختراع وظائفه الأخرى على أرض الواقع، أو في مخيلات الشعراء والفنانين. فهو يملك أن يسيل بلا انقطاع كدموع منهمرة من مآقي العشاق المتباعدة مسالكهم. وهو، جارياً في ساقية أو نهر، يتحول إلى عدّاد لذاكرة العشاق مترع بالحنين وترجيعات الماضي. وهو، ساكناً في بحيرة أو بئر أو مياه راكدة، يوفر للمكتفين بعشق أنفسهم فرصة أن يروا في مراياه جمالهم النرجسي، حتى لو قادهم ذلك إلى الانتحار، أو الغوص غير الإرادي في لججه المهلكة. وهو بالمقابل الماء المغذي، الذي يبحث العشاق من خلاله عن الرجع الحليبي للأمومة الكونية، أو ذلك الذي يختزل كل ما يتوق القلب إلى بلوغه، ويرى فيه بول إيلوار «الماء الهادئ الشفاف في سكونه، والذي ينساب مثل جلد بالغ النعومة، ولا أحد يستطيع أن يجرحه».

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 30 يناير 2024 م ـ 18 رَجب 1445 هـ

لم يعد الدارسون عموماً اليوم يحصرون مفهوم الفلسفة الإسلامية في الإرث النظري والعملي الذي ورثه الفلاسفة المسلمون عن اليونان، وقرؤوه قراءات مرتبطة بهمومهم النظرية والعملية والثقافية، بل أصبح الاتجاه هو توسيع مجال هذا المفهوم ليضم التصوف وعلم الكلام والعلوم كما مثّلها الخوارزمي وابن الهيثم والرازي وغيرهم، بل إن بعض الدارسين المعاصرين لا يرون غضاضة في توسيع «ما صدق» الفلسفة الإسلامية لأكثر ليضم كل ما هو «إنساني مستوعب في العقل»، حيث تعتبر أن الفلسفة ما دامت يونانية، فحيثما دخلت إلى ثقافة أخرى، فإن الناتج لا يكون فلسفة يونانية، بل يكون «الفلسفي بحسب الثقافة المستقبلة»، ولابد من «تقصّي هذا الفلسفي وإرهاف السمع إلى صوته مختلطاً بعديد الأصوات الأخرى، واستخراجه واسترداده لينظر فيه المشتغلون بالفلسفة»، ومن هنا يصبح الأدب التخييلي جزءاً من فضاء الفلسفة، بل يجب التماس الفلسفة في الشعر الجاهلي، وكذا شعر أبي العلاء والمتنبي، دون إغفال هذه الطائفة التي «لا تحسب عادة على أهل العقل من أمثال ابن قتيبة وابن أبي الدّنيا وابن حبان، وبخاصة ما صنفوه في الأخلاق والعقل والفضيلة والإنسان الفاضل»، وكذا الانتباه إلى«أنظار اللغويين والنحاة حين يبحثون في الدلالة وعلاقات الكلمات بالأشياء». ويدعو لين غودمان، ممثل هذا الاتجاه، إلى التماس الحكمة في مقامات بديع الزمان الهمذاني باعتبارها«مقامات تأملية عنوانها الكبير التهكم».

إن أصحاب هذا الاتجاه على وعي بأن هذا الفلسفي هو نوع من «الفلسفة بالمعنى الضعيف»، لذا تجده يلتفت إلى ما يسميه «الفلسفة بالمعنى القوي»، لكن دون إقامة أي تراتبية تفضيلية بينهما، مع دعوة إلى أخذ فلاسفة الإسلام المعروفين مأخذ الجد. ومع ذلك فقد اختلف الدارسون في نعت هذه الفلسفة؛ فبعضهم يرى تسميتها بالفلسفة العربية أو الفلسفة العربية الإسلامية متنكّبا عن تسميتها بالفلسفة الإسلامية، على أساس أنها «استعارت المفاهيم والمصطلحات العربية التي تم نحتها وصياغتها باللغة العربية حصراً، وذلك لاستيعاب الفكر الفلسفي اليوناني في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية»، وبعضهم يميل إلى التمييز بين ما سماه «فلسفة الإسلام»، ويقصد بها علم الكلام باعتباره علماً إسلامياً أصيلاً عنده، وبين الفلسفة الإسلامية، ويقصد بها الأنظار المتأثرة بفلسفة اليونان، وتخص الفلاسفة الإسلاميين كالفارابي وابن سينا.

لكن الفلسفة الإسلامية عانت دائماً من نقيصتين؛ موقف سلبي تراوح بين حضاراتنا الإسلامية التي كانت تمج التفلسف عموماً وتقدح في أهلها، وبين الحضارة الغربية التي بادر مستشرقوها إلى التهوين من شأن الفلسفة الإسلامية باعتبارها وجهاً من وجوه الفلسفة اليونانية ليس غير. موقف أيديولوجي زجّ بالفلسفة الإسلامية في إطار الصراع الإيديولوجي وأخرجها من إطارها العلمي.

والموقفان معاً جاهلان بالفلسفة الإسلامية وبقضاياها وبإسهامها في النهضة الحضارية. إن البحث في مكانة الفلسفة الإسلامية يقتضي البحث في مكانتها في تاريخ الفلسفة ومكانتها في تاريخ الفكر الإسلامي أيضاً، فالفلسفة الإسلامية جزء أساس من تاريخ الفلسفة، وعلومها هي جزء أساس من تاريخ العلوم، فقط يجب العمل على تحقيق النّصوص الفلسفية وترجمتها إلى اللغات الحية لتصبح متاحة للقارئ العربي، وتبرز مساهمة المسلمين في التاريخ الفلسفي والعلمي الكوني في مختلف فروع المعرفة، وكذا حجم التأثير الفلسفي الإسلامي في الحضارة الأوروبية. وقد أصبحت أطروحة «رينان» التي تعتبر الفلسفة الإسلامية مجرد ترجمة للفلسفة اليونانية تقاوَم بأبحاث تبرز تفاعل الفلسفة الإسلامية المبدع مع التّراث اليوناني القديم، وإسهامها في تطوير كثير من فروع العلوم الفلسفية.

***

د. إبراهيم بورشاشن

8 فبراير 2024 23:30

إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة

غالباً ما نسأل أنفسنا على مشارف العام الجديد عن مآلات الزمن المقبِل علينا. يَطرح الأفراد على وجدانهم أسئلة التغيير الكيانيّ المنشود والتهذيب الأخلاقيّ المستحَبّ، في حين تستفسر الأمَم عن مسار التاريخ العالميّ المقترن بتطوّر العلاقات بين الحضارات، بين المجتمعات، بين الدوَل. أمّا النظر الفلسفيّ فيتأمّل في ارتقاء الوعي الإنسانيّ وانتقاله من طورٍ إلى آخر، سواء في النضج المتراكم أو في الانحلال المتفاقم. أخطرُ الاستفسارات تتناول مصير الإنسانيّة على تعاقب الأزمنة والعصور. فهل ساهمت المكتسبات العلميّة الجليلة والفتوحات التقنيّة المذهلة، لا سيّما في نطاق الذكاء الاصطناعيّ الذي وسم إنجازات العام المنصرم، في تعزيز قيمة الإنسان الكيانيّة وتوطيد كرامته الذاتيّة وترسيخ مقامه الفريد في الكون؟

في صميم الاستفسار الفلسفيّ الخطير هذا ينغرس الشكُّ في قدرة الإنسان على تغيير طبيعته المجبولة على تساكن الملائكيّة الراقية والبهيميّة المنحطّة. لا أعتقد أنّ تطوّر المعارف العلميّة يمكنه أن يبدّل في بنية التنازع الوجدانيّ الذي فُطِر عليه الكائنُ الإنسانيُّ. جلُّ ما في الأمر أنّنا أصبحنا نمتلك المفاهيم الدقيقة لكي نصف أحوال الاضطراب في التاريخ الإنسانيّ، ونُتقن استخدام الآلات المتطوّرة لكي نحلّل بنية المادّة في الإنسان، وفي الطبيعة، وفي الكون الأرحب. غير أنّ اتّساع المعجم اللفظيّ في الآداب والفنون والفلسفة، واختراع الآلات التكنولوجيّة الخارقة في العلوم التجريبيّة التطبيقيّة، لا يُفضيان إلى ولادةِ إنسانٍ جديدٍ، حتّى لو التحمت بخلايا جسده التحاماً كيانيّاً وثيقاً الأعضاءُ الاصطناعيّةُ المقوِّية، والشرائحُ الإلكترونيّة المتفوّقة، والأجهزةُ المعلوماتيّةُ المتنامية.

إذا ثبت أنّ البشريّة أضحت اليوم قادرةً على تحليل أسباب الانحلال الأخلاقيّ الفرديّ والجماعيّ، على نحو ما رسم مسارَه التصاعديّ عالمُ التاريخ والاجتماع والاقتصاد الفيلسوفُ التونسيُّ ابن خلدون (1332-1406)، فإنّ معرفة الأسباب النظريّة لا تؤهّل الوعي الإنسانيّ لتجاوز محنة الانعطاب الكيانيّ. نعرف اليوم أنّ الأمَم تنشأ وتنمو وتزدهر، ولا تلبث أن تضعف وتخبو وتتقهقر وتنحطّ وتنحلّ وتتلاشى وتَفنى. بيد أنّ ناموس التطوّر الطبيعيّ هذا لا ينطبق على حضارةٍ من الحضارات، أو أمّةٍ من الأمَم، أو مجتمعٍ من المجتمعات، بل قد يصيب البشريّة قاطبةً. إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ، فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة برمّتها، على نحو ما أومأ إليه الأديب اللبنانيّ-الفرنسيّ أمين معلوف (1949-....) الذي ما برح يحثّ الجميع على التحاور العقلانيّ البنّاء المستند إلى الاعتراف الصريح بالقيمة الاستثنائيّة الفريدة اللصيقة بتراثِ كلِّ حضارةٍ على حدة.

حسنًا يفعل العلماءُ حين يُرسلون إلى الفضاء الأعلى أسطواناتٍ إلكترونيّةً صلبةً شديدةَ المنعة الذاتيّة يستودعونها مجموعَ الإنتاج الثقافيّ العالميّ المتراكم منذ تفتّح الوعي الإنسانيّ. الظنُّ أنّ تفاقم العنف الحضاريّ واضطراب النظام البيئيّ وفساد العلاقات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة قد يُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى انقراض الجنس البشريّ في الهيئة الكلاسّيكيّة المألوفة التي نعرفها حتّى اليوم. ربّما تستطيع بعض مختبرات العلوم الفيزيائيّة وشركات الشحن الفضائيّ أن تضمن لكوكبةٍ من الكائنات البشريّة المتطوّعة شروطَ الحياة المستديمة على سطح القمر أو المرّيخ. حينئذٍ لا تملك البشريّة الباقية في الأرض إلّا أن تعاين انحلالها الحتميّ الآتي.

أعرف أنّ مثل التصوّر الأُخرويّ النشوريّ القياميّ هذا ما فتئ مقتصراً على خيالات الأدباء وصنّاع الأفلام السينمائيّة. بيد أنّ علامات الأزمنة المعاصرة في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا تُنبئ بانفراجاتٍ حضاريّةٍ واعدة. من المحتمل أن يظلّ التاريخ سائراً في دوران تكراريٍّ مطّردٍ من غير أن يُفضي إلى خاتمةٍ واضحةِ المعالم. في هذه الحال لا نملك إلّا أن نشاهد الناس في كلّ عامٍ جديدٍ يواظبون على الإفصاح عن نيّات التصالح والتغافر والتسالم، ولكن من غير أن يقرنوا مقاصدهم وأقوالهم بأفعال الإصلاح البنيويّ. لذلك ينبغي البحث عن العوامل الدفينة التي تحرّك التاريخ في اتّجاه الفساد والظلم والاضطراب والاحتراب. أفتكون غريزة الشرّ الناشبة في أعماق الطبيعة الإنسانيّة عاملاً حاسماً في إفساد المعيّة الحضاريّة؟ أم إنّ اختلال التوازن الجيوسياسيّ وتضارب المصالح الاقتصاديّة واستفحال الادّعاءات الآيديولوجيّة الاستعلائيّة الإقصائيّة عواملُ بنيويّةٌ أساسيّةٌ تؤثّر تأثيراً بالغاً في افتعال النزاعات والحروب؟

أعتقد أنّ التسويغَين الفرديّ والجماعيّ هذَين مرتبطان أوثقَ الارتباط، إذ إنّ الأفراد الصالحين المستنيرين المستمسكين بالفضائل الأخلاقيّة الرفيعة يمكنهم، من موقع مسؤوليّاتهم الإداريّة الخطيرة، أن يتدبّروا أعتى المعضلات السياسيّة والاقتصاديّة والآيديولوجيّة استعصاءً، وأن يلتئموا في محفل عالميّ تشاوريّ لكي يتباحثوا في أرقى الحلول عدلاً وإنصافاً. غير أنّ التهذيب الأخلاقيّ الروحيّ لم يَعد ينفع في منتديات التشاور العالميّة. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ العقل الإنسانيّ المعاصر المبنيّ على الفاعليّة الإجرائيّة والأداتيّة المنفعيّة أمسى عاجزاً عن إرشاد الأفراد إلى مسالك الصلاح. غالباً ما أشعر أنّ أهل السياسة والاقتصاد النافذين في المحافل الكونيّة يعانون انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة في معترك مباحثاتهم السياسيّة والاقتصاديّة المصيريّة الخطيرة.

أهل السياسة والاقتصاد النافذون في المحافل الكونيّة يعانون غالباً انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة

وعليه، ينبغي النظر في مسار العقل الإنسانيّ المعاصر وإرشاده إلى مبادئ الصلاح الأخلاقيّ العليا. إذا أردنا أن تتغيّر أوضاع المسكونة، كان علينا أن نتدبّر حركة العقل الذي غالباً ما يخون مبادئه الأخلاقيّة في ميدان الفعل التاريخيّ. كان الفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770-1831) يُصرّ على مكر العقل في التاريخ، واليقين الفلسفيّ الأرسخ عنده أنّ ضروب الفساد التي تعتري البشريّة إنّما هي حيَلٌ يبتدعها العقل الكونيّ حتّى ينضبط المسارُ الجدليُّ كلُّه في نظام التعقلن الروحيّ الأشمل المتجلّي في نهاية الأزمنة. من غرائب التفاؤل الأونطولوجيّ الهيغليّ هذا أن تنطوي حروب الناس المتناسلة على مقاصد التطهّر الأخلاقيّ الذي يُعِدّ البشريّة لأزوف زمن الروح المطلق.

يبقى السؤال الخطير الذي يؤرّق وعينا: هل ستستمرّ البشريّة على هذه الحال عاماً بعد عام؟ أم إنّ التاريخ سيُفرج قريباً عن مشهديّةٍ ختاميّةٍ مأسَويّةٍ تُفني الحياة على الأرض وتدفع بالفرقة الناجية إلى أعالي الفضاء الكونيّ؟ كلّ شيء ممكنٌ في قرائن الاحتدام الآيديولوجيّ الغضبيّ الالتهاميّ المستشري. ولكن هل نقبل أن يُقضى على الناس الطيّبين من ذوي الإرادات الصالحة وأن يؤخذوا بجريرة أهل الظلام والظلم والعنف والإجرام؟ لكي يتحرّر الناس من اجتراريّة الكلام التشاؤميّ هذا، ينبغي أن يتنادَوا ويتضامنوا ويتعاونوا من أجل استنقاذ مبادئ العقل النظريّ والعمليّ السويّة، وتهذيب الوعي الفرديّ والجماعيّ، وإرشاده إلى قيَم الكرامة والمساواة والحرّيّة والأخوّة والعدل. ذلك بأنّ الإنسانيّة المعاصرة لا تستحقّ الحياة في الأرض إذا ما أمعنت في ضلالها الآيديولوجيّ وانحلالها الأخلاقيّ.

ما معنى الحياة الإنسانيّة إذا انعدمت فيها مثلُ القيَم الأخلاقيّة الروحيّة الرفيعة هذه؟ أمّا الشرط الضروريّ الذي يمكّن المجتمعات المعاصرة من ترميم الرجاء الإنسيّ المتصدّع، فالتربية الرشيدة التي تصون عقلَ الأفراد في كلّ مجتمع على حدة، فتُحرّره من أوهام المخيِّلة المريحة، وقد أوجزها الفيلسوف الإنجليزيّ فرانسيس بيكون (1561-1626) في الأصنام الأربعة: صنم القبيلة أو المجتمعيّة الإكراهيّة القاهرة، وصنم الكهف أو المثاليّة الانعزاليّة، وصنم السوق أو الأفكار المتداولة الرائجة، وصنم المسرح أو الإيمان الأعمى المقيَّد بنماذج الماضي السلفيّة العقيمة. أعتقد أنّ العقل الفرديّ الذي ينعتق من هذه الأصنام يستطيع أن يساهم مساهمةً فاعلةً حاسمةً في إطار مجتمعه حتّى يحرّر الناس من محنة الفساد والظلم والاحتراب. حينئذٍ يصيب الرقيُّ العقليُّ الأخلاقيُّ هذا منتدياتِ القرار السياسيّ العالميّة. لا سبيل إلى خلاص الأرض إلّا بانعتاق العقل الفرديّ من سلاسل الجهل. بيد أنّ هذا الانعتاق مسؤوليّةٌ تربويّةٌ جليلةٌ في المقام الأوّل.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: نُشر: 6 فبراير 2024 م ـ 25 رَجب 1445 هـ

نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية (11 يناير 2024) ملفاً موسعاً حول تأثير الذكاء الاصطناعي على النظام الديمقراطي الحاضر، في أفق الانتخابات التي سيعرفها هذه السنة أكثر من نصف بلدان العالم، بما فيها الهند والولايات المتحدة الأميركية وإندونيسيا والمكسيك. ما تبيِّنه الصحيفة هو تنامي الخوف من التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي التوليدي الذي أصبح بمقدوره التلاعب بأصوات الناخبين والقضاء على شرعية المنافسة التعددية التي هي معيار الأنظمة الديمقراطية.

ووفق معهد أوكسفورد للإنترنت، فقد تعرّض أكثر من ثمانين دولة في العالم، خلال سنة 2020، لموجات خطيرة من حملات التزييف الإعلامي عن طريق وسائل الاتصال العمومية، مما يسمح بالتشكيك في صدقية ونجاعة الحريات السياسية والإعلامية في هذه البلدان.

ومن هذه البلدان الولايات المتحدة نفسها، رائدة الحكامة الديمقراطية في العالم. لقد تحدث كثيرون عن العلاقة التلازمية بين صعود الأنظمة الشعبوية المتطرفة في الديمقراطيات الغربية وبين نمط الاتصال الإلكتروني الراهن الذي قضى على المفهوم الوصفي والتمثلي للحقيقة، إلى حد أن مصطلحات جديدة دخلت منظومة المفاهيم الاجتماعية من قبيل «ما بعد الحقيقة» و«الحقائق المخترعة» أو «الحقائق البديلة».

ومع أن الإشكال له جوانبه الجديدة الظاهرة (الثورة المعلوماتية الحالية)، فإن له جذوره البعيدة؛ ولا ننسى أن الخطاب الفلسفي نشأ مع أفلاطون من أجل تصفية الكلام وتنقيته من سحر البلاغة وقوة الوهم (صراع الفيلسوف والسوفسطائي). بيد أن الفلسفة نفسها، وإن كانت استراتيجية توضيح وإجلاء وتمييز، اضطرت في السياق الوسيط إلى استخدام آليات الإشارة والتعبير الرمزي التي اعتبرها الفيلسوفُ الألماني ليو شتراوس نمطَ البناء الفلسفي في عصور التنوير الكلاسيكي الذي فرض عليه أن يكون باطنياً ونخبوياً.

إلا أن حقبة التنوير قامت على ما سماه كانط «الاستخدام العمومي للعقل» الذي يعني نقل الحقيقة إلى المجال المشترك، وتحويلها إلى رهان كوني يتحدد بالفاعلية البرهانية المفتوحة والمتاحة لعموم الناس. ومن هنا العلاقة الوثيقة بين الديمقراطية من حيث هي مسار نقاشي وتمثيلي عمومي وبين المسؤولية المعرفية والأخلاقية عن الوصول إلى الحقيقة ونشرها.

وما نعيشه راهناً هو الانفصال المتزايد بين الحقيقة والتداول العمومي، هذا الانفصال الذي يتخذ وجهين خطيرين؛ أولهما غياب المرجعيات الموضوعية والوسائط التحققية في الخبر المتداول عن طريق التقنيات الاتصالية، بما يعني انعدام كل الوسائل الممكنة لضبط الحقائق الفعلية وتمييزها عن الأخبار الزائفة.. وثانيهما الانفصام المتزايد بين الحوامل التقنية والمادة المضمونية التي تنتفي أهميتُها في المفعول التواصلي القائم على تقاسم المشاعر والانطباعات لا على تبادل المعارف والعلوم الدقيقة. وهكذا لم يعد التمييز الأصلي بين «الحقيقي» و«الوهمي» مطروحاً، مما يترتب عليه تحول إبستومولوجي هائل في مستوى الوعي والتصور والإدراك.

لقد تساءلت مرة الفيلسوفة الألمانية الأميركية «حنة أرندت»: ماذا يبقى من النظام الديمقراطي إذا انتفى مطلب الحقيقة، أي إدراك «الوقائع الفعلية»؟ وما الذي يميز عندئذ النظام الديمقراطي عن التجارب الاستبدادية التي تتركز على التلاعب بعقول الناس وتزييف الحقائق المقدمة لهم؟

وكانت إجابة حنة أرندت إشكالية، لكون الديمقراطية تقتضي من وجه آخر القولَ بالتعددية الشرعية للأفكار والآراء المختلفة، مما يعني عملياً الإيمان بغياب حقيقة موضوعية ومطلقة وأحادية، على عكس ما تدعيه الأنظمة السلطوية من مرجعية علمية يقينية لنماذجها الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن الديمقراطيات وإن كانت تتبنى أخلاقيات التسامح والتعددية الفكرية، فهي في الوقت نفسه تنطلق من النجاعة البرهانية للمقولات والآراء الخاضعة للتحقق الاستدلالي العمومي.

ومن ثم فإن الفرضية الاحتمالية الإبستومولوجية ليست عائقاً دون التوافقات العمومية الموزونة الضامنة لصلابة واستقرار النظام السياسي. في كتابها «هشاشة الحقيقي»، توضح الفيلسوفة الفرنسية مريام رفلولت دالونس أن المشكل الذي تطرحه مقولة «ما بعد الحقيقة» لا يتعلق فقط بنمط الإعلام أو الممارسة السياسية، بل يتمثل في تدمير الإمكانات الفعلية لبناء «عالم مشترك»، أي فضاء جامع بين أفراد يحتكمون إلى حقائق موضوعية فعلية مجردة، في ما وراء الحقائق العقلية الخاصة بالعلماء التي لم تعد منذ عصر عالم الفيزياء الشهير غاليليه مدار أحكام عمومية حرة.

عندما يتم التنكر للحقائق الفعلية الموضوعية وتصبح هذه الوقائع مجرد آراء وانطباعات، لا يبقى معنى للسياسة بمفهومها الحديث من حيث هي ممارسة اجتماعية مدنية تهدف إلى إقامة عالم مشترك يستوعب أنماط الوعي المتعددة والحرة.. أو بعبارة أخرى، فإنه عندما تنتفي الحقيقة تنتفي معها الحرية، ومن هنا فداحة الخطب وحدة الخطر.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 فبراير 2024 23:45

 

لا بد من تحرير مصطلح المواطن العالمي، وهذه فكرة طرحها برتراند راسل مميزاً بها الفيلسوف عن سائر المواطنين، وقد نقدت هذه الفكرة في كتابي «مآلات الفلسفة» لأنها فكرة غير إنسانية بما أنها تميز بين العقول والقدرات وهي تعود تأسيساً لأفكار أفلاطون بأن العقل يحكم، وهي الفكرة التي عارضها ديفيد هيوم وقال إن العاطفة هي التي تحكم وليس العقل، غير أن الذي أراه هو أننا نمر بمرحلة ثقافية لم يشهدها أي من الثلاثة، وهي مرحلة سقوط النخبة وبروز الشعبي -وليس الشعبوي- فالشعبي يعني الجماهير بصيغتها العريضة بينما الشعبوي هو مصطلح عنصري وطبقي ويقوم على شيطنة المختلف. أما الشعبي فهو الإنسان الحديث الذي تعلم العمل مع الوسائل الحديثة وأصبح هو «المتلقي» حسب نظريات التلقي، ومن ثم فهو الحاكم الذوقي والعقلي على أي مادة منتجة سواء كانت على جهاز «آيباد» أو في نظرية أو في الفلسفة، وبالضرورة هو الحكم وقوته أقوى من أي قوة أخرى بما أنه يملك حرية مطلقة في رفض المنتوج، وإن خضع أحياناً لسلطة الدعاية وقوة التأثيرات الإعلامية.

ولكن وبما أن وسائل التأثير تعددت فإن تعددها أدى لتفتتها وبمجرد سماع أو مشاهدة واحدة فإن مقارنتها بأخريات ستنافسها على تغير حال الاستقبال، ومن ثم أصبح فضاء الاستقبال مكتظاً بالمتنافسين مما يجعل المتلقي أمام الشيء ونقيضه، وهنا فهو لم يعد خالي الذهن ولم يعد تحت هيمنة قولٍ واحد ومتسلطٍ واحد، ولقد تعددت قوى التأثير ومن ثم تعددت فرص التمييز بين المتنافسين، وهذا هو المواطن الحديث الذي يختلف عن المواطن المثالي كما عند راسل.

والعقل لم يعد يحكم بوصفه عقلاً كلياً مطلقاً بل تعددت العقول كما تعددت الوسائل، حتى اللاجئ والمهاجر لم يعد غريب الوجه واليد واللسان كما كانت حال المتنبي في خراسان بل وصل لسدة القيادة الأمامية، وفي انتخابات حزب «المحافظين» الأخيرة في بريطانيا تنافس على القيادة خمسة مهاجرين، وواحد منهم أصبح رئيس الوزراء في بريطانيا، وهذا أمر لم يكن ليحدث فيما مضى بأن يتمكن مهاجر فرد ليس معه جيش ولا قوة غازية من أن يحكم بلداً له خبرة قرون في نظريات الحكم، لقد تغيرت مفاهيم المواطنة لتعني بالضرورة التعددية الثقافية، وهذا ما تحاول الشعبوية التصدي له والقضاء عليه.

***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 3 فبراير 2024 01:33

شهدت أوروبا الحديثة نوعيْن من التنوير، أحدهما يحاول التوفيق بين الدين والحداثة، والآخر كان يعمل على إنهاء الدين لأجل الحداثة.

المؤرخ الثقافي البريطاني «جوناثان إسرائيل» أستاذ التاريخ في جامعة برنستون ألف كتاباً مهماً، يتحدث فيه عن وجود نوعيْن من التنوير في أوروبا: التنوير المعتدل والتنوير المتطرف.

في عرضِه المميّز للكتاب، يوضح الكاتب هاشم صالح الفارق أنّ التنوير المعتدل يبرز في أعمال فلاسفة مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو، في القرن الثامن عشر. حيث كان التنوير المعتدل يسعى إلى تفاهمات وبناء جسور مع الدين ومع الطبقة الأرستقراطية الأوروبية. فقد تحاشى كل من مونتسكيو وديفيد هيوم النقد المباشر للدين، وقدموا تفاهمات مع الموروثات بدلاً من القطيعة معها.

وأما التنوير المتطرف فيمثلّه بالأساس الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا أحد أهم فلاسفة القرن السابع عشر، والذي أسس للقطيعة بين العقل والدين، ورفض أعمال الفلاسفة الآخرين في التوفيق بينهما، ودعا إلى الشك في كل طرح، وتحطيم كل شيء.

بغضّ النظر عن الاتهام بالإلحاد لبعض هؤلاء، ونفي الإلحاد من قبل آخرين، فإن الطريقيْن كانا مختلفيْن تماماً، طريقٌ يبحث عن توافق بين الروح والجسد، بين العقل والنقل.. وطريقٌ آخر يرى الإيمان بالعقل وحده، والعلم وحده، وإزاحة أو إلغاء كل ما عداهما.

لقد شهد العالم العربي الصراع بين الطريقيْن هو الآخر، وقد كان فلاسفة الإسلام وعلى رأسهم ابن رشد ممّن قاموا بمحاولات التوفيق بين الإسلام والعقل.

ولمّا عاد العالم العربي إلى الحداثة من جديد قبل نحو مائتي عام، وهي الحداثة التي قادها حاكم مصر القوي محمد على باشا، وشهدتْ أجيالها المختلفة نجوماً كباراً في كل المجالات، شكلّوا حداثة عاقلة وتنويراً معتدلاً، وكان ذلك التنوير مؤهلاً لانطلاقة كبرى تنافس الغرب، الذي سبق أن أخذ من الحداثة عند المسلمين في زمن الصعود، وسعى المسلمون لاستعادتها في زمن الانحدار.

ولقد كانت إسلاميات طه حسين وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، وكذلك إسهامات زكي نجيب محمود وحسن حنفي.. نماذج لذلك التوافق بين الأصالة والمعاصرة، وبين الليبرالية والدين.

شهدت الحداثة العربية تراجعاً بطيئاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تراجعاً كبيراً في عقد السبعينيات وما بعده، حيث طغى وجود جماعات الإسلام السياسي، وقام متطرفو هذه الجماعات بتقديم رموزهم ومؤسسي تنظيماتهم باعتبارهم روّاد التجديد الديني، والمنظرين المناسبين لهذه المرحلة!

كان صعود جماعات «الإسلام السياسي» الخطر الأول على الحداثة، لكن صعود التنوير المتطرف بالمقابل جاء ليمثل الخطر الثاني عليها.

أراد التنويريون المتطرفون عمل قطيعة تامة مع الدين والتراث، والنظر باستعلاء وازدراء لتاريخ ضخم يمتدّ أربعة عشر قرناً، ويضم في مراحله المتعاقبة فلاسفة وعلماء ومفكرين.. كانوا لعدة قرون قادة الفكر الإنساني في العالم.

إنّ التنوير المتطرف خطرٌ لا يقل عن الجماعات المتطرفة، فالمتطرفون جميعاً يقبعون في قاع سلّةٍ واحدةٍ.

لا مستقبل للعالم الإسلامي من دون العقل والإيمان، الدين والعلم.. المسجد والحداثة، ولا مستقبل من دون هزيمة المتطرفين من الجانبيْن.. هزيمة المتطرفين الإسلاميين وهزيمة المتطرفين التنويريين.

***

أحمد المسلماني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 فبراير 2024

 

فضاء الفلسفة الناصع يمكنه أن يولّد المزيد من الأسئلة الحيوية، وبخاصةٍ ونحن نعيش ضمن حومة من الأحداث المفصلية الكبرى، والتحديات الأخلاقية، والصراعات السياسية. المعنى الرئيسي للفلسفة هي السؤال، ولا يمكن فصل أي فلسفةٍ عن سؤالها، إذ الفلسفة تعمل على أسئلة كاتبها، وعلى وعي متلقيها، هذا هو الترابط المؤسس لأي موضوع فلسفي مطروح.

لذلك يعتبر «لويس ألتوسير» في كتابه المهم «تأهيل الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة» أن: «أي فلسفةً تريد أن تعرف نفسها حقّاً، بصدق، وتعرف المكان الذي تشغله في عالَم الفلسفة، وما يميّزها تخصيصاً عن سواها من الفلسفات، على هذه الفلسفة أن بالالتفاف الكبير حول تاريخ الفلسفة، وأن تُقدِم على أفعال قريبة وبعيدة، وأكثرها بُعداً عنها، كي تتمكّن من الرجوع إلى المنزل محمّلة بالمقارنات، ومن اكتشاف ما يجعل معرفتَها بنفسها أفضل قليلاً. كلّ الفلسفات الكبرى تقوم بهذا الالتفاف الكبير: كانط راح يبحث، لدى أفلاطون البعيد ولدى ديكارت القريب، عمّا يتعرّف به إلى نفسه. وماركس راح يبحث في نهاية العالَم، لدى أرسطو، ولدى الأقرب، لكن الأبعد أيضاً، لدى هيغل، عمّا يُعرِّف به نفسه. سنقوم بالتالي، نحن أيضاً، بهذا الالتفاف الكبير. سنقوم به مستعينين بالفلاسفة الأقرب والأبعد. لكنّنا سنقوم في الوقت نفسه بالتفاف كبير آخر: مبتعدين عن فلسفة الفلاسفة، كي نحلّل ممارسات الناس الملموسة».

وأعود إلى توصيف «جيل دلوز» أيضاً في تحديده لوظيفة الفلسفة والذي كتبتُ عنه فصلاً ضمن كتاب:«أعلام من الطراز الرفيع» يصر على أن تاريخ الفلسفة ليس نظاماً تأملياً بوجه خاص، إنه بالأحرى مثل فن «البورتريه» في الفن التشكيلي. «دلوز» احتقر الأساتذة الذين يدفعون ثمن رحلاتهم بالكلمات وبالتجارب، والندوات والمحاضرات، ونفى أن يكون مثقفاً لأن المثقفين يتحدثون في كل شيء، ولهم رأي في كل شيء، مذكراً بوظيفة الفلسفة - بحسب رأي صديقه «فوكو» ومن قبله «نيتشه» - «إن مهمة الفلسفة محاربة الحماقة».

وفي حوار معه قال: «نحن نقترب من الوقت الذي سوف يكون من المستحيل علينا أن نكتب كتاباً فلسفياً بالطريقة نفسها التي كتبت بها الكتب الفلسفية السابقة». بل رأى أن وظيفة الفلسفة ومبادئها الإغريقية يجب أن تفحص وتفتت وتضبط بتهمة وضع «ترسيمة» للمناهج والخطوط التي تسير بها، ويعد «دلوز» المفهوم «لا أهمية له منقطعاً عما يمفْهمه، لا يجهز كله، ينخرط في تكوين ذاته عبر تكوينه لغيره، ليس ثمة وحدة سكونية للمفهوم، أقصى ما يمكنه أن يفعله مع أشياء العالم، وأشياء الفكر، هو أن يجعل الشيء لا يأتي إلا ومعه نظامه، لأن نظام الشيء هو شيء أيضاً».

الخلاصة أن وظيفة الفلسفة مبنيّة على سؤالها، إذ لكل فلسفة أسئلتها الخاصة. فالفلسفة فضاء ممتد خالٍ من المضامين، وبطرح السؤال تتكوّن الفلسفات وتتخلّق، وعليه فإن التأهيل الحقيقي لأي مشروعٍ فلسفي كامن في التشجيع على السؤال، والاستفادة من حيوية العقل البشري الجبّار الذي يمكّن الإنسان دوماً من طرح الأسئلة الجديدة التي تشجع من فعالية المجال الفلسفي في سبيل تطوّر قوّة الإجابة أو محاولة الإجابة على السؤال.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 30 يناير 2024

توفي مؤخراً الفيلسوف الأرجنتيني المكسيكي ذو الأصول الأوروبية «أنريك دوسل»، أحد أهم فلاسفة نقد الكولونيالية ودعاة أخلاقيات التحرر التي تشكّل المحور الفلسفي في الفكر اللاتيني الأميركي.

ما نلمسه لدى دوسل هو المزج بين الفلسفات التفكيكية في نقدها للذاتية والوعي والتاريخانية والنظريات ما بعد الاستعمارية في أميركا الجنوبية التي سلكت نقد المركزية الغربية من حيث سردية الحداثة الكونية. ولا تبدو الرابطة بديهية بين الاتجاهين، ففلسفات ما بعد الحداثة في نسختها الغربية هي نتاج وأثر السيرورة الفلسفية الاجتماعية الغربية نفسها، في حين أن النظريات النقدية للكولونيالية تندرج في نطاق البحث عن حداثات وكونيات بديلة خارج هيمنة النماذج الفكرية والتاريخية الغربية.

ومع ذلك لا يمكن الفصل بين المسارين، بل إن التيار ما بعد الكولونيالي يتغذى أساساً من الأفكار التفكيكية التي قوضت المرتكزات المرجعية للحداثة الأوروبية، إلى حد أنه أصبح من المشروع التساؤل عن مدى أصالة وطرافة نقد المركزية الغربية في الأطروحات والمقاربات الجنوبية التي ترفع شعار القطيعة مع الهيمنة الغربية. في سياقنا العربي الإسلامي، برز التيار النقدي للغرب في كتاب المفكر الإيراني جلال آل أحمد (المتوفى سنة 1969) «نزعة التغريب» الذي اعتبر فيه الثقافة الغربية «وباء» يستهدف الروح والعقل ويؤدي إلى الاغتراب والاستلاب.

ولقد تأثر في هذا الكتاب بأفكار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في نقده للتقانة وثقافة الاستهلاك وطغيان العلم كرؤية للوجود والعالم. ومع أن النظرية التفكيكية دخلت مبكراً في الحقل الثقافي العربي، فإنها ظلت أساساً حبيسة الدراسات النقدية واللسانية، ولم تتأسس عليها أطروحة نقدية للمركزية الغربية في أبعادها الفلسفية والتاريخية. ونلمس هنا فرقاً كبيراً مع الفكر الإفريقي الذي ساهم مساهمة هامة في النظرية النقدية للكولونيالية منذ فرانتز فانون في الستينيات إلى أشيل بمبة وفلوين صار في الوقت الراهن. ما نعنيه بنقد الكولونيالية ليس النقد الأيديولوجي السائد في الأدبيات العربية المعاصرة، بل أوجه الحفر والنظر في سيرورة الكونية الحداثية الأوروبية في مقوماتها الفلسفية والمجتمعية والتاريخية. لقد تم هذا التوجه في الفكر الأفريقي واللاتيني الأميركي من خلال أسئلة ثلاثة كبرى: أولاً، هل يمكن التفكير في نمط من الحداثة خارج نموذج الوعي الذاتي بما يقوم عليه من مرجعية مغلقة على الهوية التأملية والإرادة المطلقة؟ لقد بينت الأبحاث التأريخية للفلسفة أن هذا النموذج له خلفياته اللاهوتية الخاصة بالعصر اللاتيني الوسيط ولا يشكل قطيعة فكرية كونية، بل إن اتجاهات فلسفية كثيرة معاصرة تسعى إلى تجاوزه وتعتبر أنه براديغم عقيم وفقير. بيد أن هذا النموذج هو الذي كرس في الآن نفسه قيم الحرية والإرادة الفاعلة والمسؤولية الشخصية التي هي مرتكزات الحداثة السياسية.. فكيف يمكن استيعاب هذه القيم خارج نموذج الوعي؟ ثانياً، كيف يمكن بلورة مقاربة تاريخية بديلة عن نزعة التقدم الغائي التي طبعت الفكر الأوروبي الحديث في تمديده لمسار المجتمعات الغربية بصفته قانون تطور البشرية الكوني؟

ما نلمسه لدى الفيلسوف المشهور هيغل هو بناء فلسفة لتاريخ الإنسانية تنطلق من محطات الوعي (الأوروبي) من الكونية المجردة إلى الذاتية الواعية انتهاءً بالدولة الشمولية المطلقة التي هي مرحلة اكتمال التاريخ وغاية التحرر الإنساني في قمته المطلقة. لقد وجهت النظريات الجديدة ضربة قاصمة لهذا النموذج التاريخاني، وأفسحت المجال أمام قراءات بديلة لتاريخية المجتمعات غير الغربية، خصوصاً في علاقاتها بشكل الدولة المركزية والديناميكيات الأهلية، بما يدعم النظرية ما بعد الكولونيالية.

ثالثاً: كيف يمكن التفكير في علاقة مختلفة عن مسار الحداثة الأوروبية بين الدين والمجال المدني، باعتبار أن مسار العلمنة القانونية والاجتماعية شكّل حسب عبارة عالم الاجتماع الأميركي «بيتر بيرغر» استثناءً أوروبياً خالصاً. في المجتمعات الهندية واللاتينية الأميركية، بل في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، يشكل الدين محور الهوية الاجتماعية وأرضية القيم المدنية المشتركة. ومن ثم فإن استغلاله الأيديولوجي هو في نهاية المطاف نمط من نزع القداسة عنه وتحويله إلى محور تصادمي في المجتمع بدل أن يكون عامل التحام وتضامن كما هو الواقع في التجربة التاريخية الإسلامية قبل نشوء الحركات المتطرفة والمأدلجة.

في أميركا الجنوبية ظهر تيار «لاهوت التحرر» الذي هو أحد تجليات الفكر ما بعد الكولونيالي، وفي أفريقيا جنوب الصحراء بلور عدد من الفلاسفة أطروحة «الأخلاقيات المقدسة الحيوية» مرتكزاً للسلم المدني والأهلي. أما الفكر العربي فما يزال غريباً عن هذه الاتجاهات والآراء.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 يناير 2024 23:30

تحدث ابن جني عن شجاعة العربية ووصف بعض سمات التصريف الأسلوبي فيها ومثّل له بقوله «اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف»، وما هو أهم من أمثلة ابن جني التي ليست أمثلةً حصريةً هي فكرته عن شجاعة اللغة العربية وسر ذلك يأتي من مهارات لغتنا في تصريف الكلام وتحويله بين أساليب تعبيرية لا تقف عند حد، وهذا هو سر العربية ومتى ما سلبنا عنها سرها فستفقد شجاعتها، وهذا الذي يفعله حراس اللغة من أنصاف النحويين وأنصاف اللغويين الذين ابتكروا قاعدة «قلْ ولا تقلْ» ونصبوا أنفسهم على أبواب الألسنة ليتحكموا بها وبذهنيات الإبداع والإنشاء فيشترطوا لصحة أي تعبير أن يكون قد قيل قبلنا بلسان شخص ما، وشرطُه وتأهيله الوحيد أن يكون ذاك الشخص المرجعي قد مات قبلنا بقرون!

ولهذا شاع في ثقافتنا سؤال غبي فرضته عقلية حراس اللغة، وهو سؤال يتجه دوماً ضد أي تعبير جديد بأن نسأل: هل هو قول فصيح؟ ومعنى فصيح هنا هو: هل ورد هذا التعبير عند سلفنا أم لا، فإن تبرع أحد النحاة وقال إن بيتاً ما ورد عن أعرابي مر في سوق المربد في البصرة قبل خمسة عشر قرناً وترنم ببيت من الرجز قال فيه تلك الكلمة فهنا ستسجل العبارة فصيحةً! أما إن جاء طه حسين مثلاً وكتب في كتابه «الأيام» صيغاً لغويةً مستجدة ومن مبتكرات مهارة طه اللغوية والذهنية فسينبري له نحوي تعيس ويصدر كتاباً يكشف فيه مئتي خطأ لغوي وأسلوبي على طه حسين في كتاب «الأيام».

وكذلك مرت فترة كانت إحدى الإذاعات العربية تذيع حلقات أسبوعية بعنوان «قل ولا تقل»، لم يترك فيها مقدم البرنامج تعبيراً صحفياً أو تعبيراً حديثاً إلا وقاسه على مقاييس أقوام ماتوا قبلنا بقرون ولم يروا ما رأينا ولم يعيشوا زمننا، ولكنّ البرنامج الإذاعي اشترط لبلاغتنا الحديثة أن تعيش زمناً مضى وتتلبّس بثوب وذهنية ذاك الماضي، فإن لم نفعل فسنكون غير فصحاء وربما غير عرب وإنما مستعربة، ثم شاعت هذه الفتنة الثقافية في الصحف وأفرد لها باب تحت هذا العنوان «قل ولا تقل» ترصد مجاميعَ من الصيغ والأسلوبيات الحديثة لتصفها بعدم الفصاحة وتقترح غيرها بدائل لها، وهذا إرث ثقافي توارثه تلامذة صنعوا سياجاً سلطوياً يلاحقون به الألسنة كي يحبسها في ثلاجات الموتى. وويحك يا ابن جني إذ تظن بنا شجاعة كشجاعة لغتنا ونحن هنا جبناء أمام كلماتنا نتوسل لأنفسنا عذراً من نحوي شبه جاهل كي يأذن لكلماتنا بأن تمر دون شطبة قلم تعيد نسخ كلماتنا وفق علمه المحدود بمحفوظاته من الألفية النحوية ومن شواهد النحاة التي كان كثير منها مزوراً ليكون على قياس دعاويهم النحوية.

وتلك حال لغتنا العربية ما بين شجاعتها وجبن حراسها.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 27 يناير 2024

ثقافة المجتمع العراقي قائمة على التنوع المفيد والمثري، وهي تنعكس في سلوك العراقيين وطباعهم على نحو واضح وملحوظ. كان المجتمع العراقي، بعربه وكرده وجميع طوائفه ومذاهبه ومكوناته.. متعايشاً ومنسجماً مع ذاته قبل العام 2003، لكن بعد ذلك أُصيب في توازناته الناظمة لانسجامه وتعايشه التاريخي، فتفرّق العراقيون طرائق قِدداً.

وكان المؤرخ وعالم الاجتماعي العراقي الدكتور علي الوردي (1935- 1995)، الذي تبنى النظريات الاجتماعية التنويرية وجمع بين رجاحة الفكر وبساطة الأسلوب، قد وصف شخصية المجتمع العراقي أحسن توصيف، وشخّص أدواءَها الفكرية والأخلاقية على نحو شديد الدقة، فحرّك الساكنَ بنقده الحاد لهذا المجتمع، لاسيما حين حلل نمط الشخصية العراقية وأسلوبها في كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، الصادر في عام 1965، إذ وصف هذه الشخصية قائلاً إنها تختلف عن أي شخصية أخرى في العالم.

لقد رأى الوردي أن العراقي متطرف في كل شيء، في شجاعته وعدمها، في كرمه وبخله، في وطنيته وفي تخليه عنها، في تديّنه ومجونه.. كما أنه عاطفي جداً، لكنه عنيف إلى حد الدموية.. وهكذا دواليك. أو باختصار شديد، إنه شخصيات في شخصية واحدة!وفي هذا الصدد يقول الوردي في نقد لا يخلو من حدة ومبالغة: «المجتمع العراقي يعاني ازدواجيةً بشكل مركّز ومتغلغل في الأعماق، فالعراقي كثير الهيام بالمُثل العليا في خطاباته وكتاباته، لكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عنها»!

الشعب العراقي حين يفوز منتخبه الوطني على الخصم في لعبة رياضية، يملأ الساحات والمدن والشوارع بأفراحه ويتوحد بكل مناطقه ومحافظاته وقومياته ودياناته ومنابعه وأطيافه.. ويلتف صفاً واحداً خلف منتخبه الرياضي، يؤازره بشدة، داخل العراق وخارجه، فيبدع في التشجيع، سواء بالأناشيد الوطنية، أو الأهازيج الشعبية، أو العبارات الرياضية المشجعة.. ويتحول الاحتفال إلى كرنفال تؤديه فرقة وطنية واحدة بألوان الطيف العراقي، تحت العلم العراقي الواحد، وبصوت موحد لتشجيع منتخبهم المتأهل، الذي يضم لاعبين من مختلف القوميات والطوائف والمناطق.

وفي هذا السياق فقد قابلتُ ذات مرة، قبل عدة أعوام من الآن، أحدَ المقاتلين السابقين في البيشمركة، وكان عمره يتجاوز الثمانين، وأخبرني قائلاً: كنا نقاتل ضد الجيش العراقي بضراوة في جبال كردستان العراق، لكن حين يلعب المنتخب العراقي مع منتخب دولة أخرى كنا نتوقف عن القتال ونتفرغ لمشاهدة المنتخب العراقي، وحين يفوز نطلق الأعيرة النارية في الهواء، فرحاً وابتهاجاً بالفوز، ثم نعود للقتال بلا هوادة! العراقيون في السياسة متفرقون ومتخاصمون، في الداخل والخارج، حول معظم القضايا الوطنية والأمور السياسية والطائفية، ولا يزال بلدهم يعاني المحاصصةَ الطائفيةَ، والشحنَ المذهبي والنعرات القبلية.. حتى إنهم إلى الآن لم يفلحوا في انتخاب رئيس للبرلمان بعد إبطال عضوية رئيسه.

ولو التف العراقيون حول مؤسساتهم الوطنية، كما يلتفون حول مدرب فريقهم ولاعبيه.. فسيتحدون على مسار بلدهم ونهجه، بعيداً عن الخلافات القومية والطائفية والمذهبية الطارئة التي تفرّق الأوطانَ وتفتك بها!

***

د. علي القحيص - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 26 يناير 2024 23:54

الإنسان الحديث إنسان مُزَعْزَع لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء

بما أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة، وبما أن العالم الجديد لا يمكن أن يولد دفعة واحدة، فإن الجيل الذي يعيش بينهما يشهد عادة كثيراً من التمزقات النفسية والانهيارات الداخلية. إنه جيل الاحتراق والعبور. عنيت جيلنا الحالي، أو جيل الكتاب الفرنسيين قبل 200 سنة. وهذه التمزقات والانهيارات النفسية هي التي عبّر عنها شاتوبريان بكل وضوح عندما قال: «لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين. وقد غطست في المياه المضطربة مبتعداً بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدت، وسابحاً نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة والذي لن أراه بأم عيني».

هذا تصوير من أنجح ما يكون لعملية النقلة أو القطيعة التي تُمزقنا نحن الآن... ينبغي العلم بأن شاتوبريان ولد وعاش نصف عمره تقريباً في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة الفرنسية، ثم عاش نصف عمره الآخر في القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة 1768 - 1848 (80 سنة). وبالتالي فقد شهد كلا العالمين، القديم والجديد. ولم يكن من السهل عليه أن يحدث القطيعة مع العالم القديم الذي ولد فيه وترعرع في أحضانه. من يستطيع أن ينسى طفولته وشبابه الأول؟ وهو عالم مسيحي، كاثوليكي، زراعي، ريفي، في معظمه. هذا في حين أن العالم الجديد ابتدأ يصبح علمانياً، صناعياً، فلسفياً، مضاداً للدين عموماً أو قل للأصولية الدينية لكي نكون أكثر دقة. فالحداثة التنويرية لم تكن ضد الدين في المطلق، وإنما ضد التصور الانغلاقي القديم للدين. الحداثة ولّدت تأويلاً جديداً للدين المسيحي هو التأويل الليبرالي اللاطائفي الذي شاع وانتصر لاحقاً في كل البلدان الأوروبية المتقدمة. ولكن ذلك لم يتم دون مخاض عسير وصراعات هائجة. وهذا المخاض هو الذي ابتدأنا نعيشه نحن الآن في العالم العربي والإسلامي. وبالتالي فالمسافة الفكرية التي تفصل بيننا وبين الأوروبيين هي 200 سنة على الأقل فيما يخص المسألة الدينية. ما عاشوه وعانوه قبل 200 سنة من حزازات وطوائف ومذاهب وصراعات وحروب أهلية وتمزقات، نعيشه نحن ونعانيه الآن. لذلك قلت وأقول إن الزمن العربي الإسلامي غير الزمن الأوروبي، بمعنى أننا متعاصرون زمنياً، ولكننا لسنا متعاصرين معرفياً ولا فلسفياً ولا سيكولوجياً. بيننا وبينهم يوجد تفاوت تاريخي كبير. وينبغي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار لكي نفهم ما يحصل حالياً ولكي نستطيع أن نقيم علاقة صحيحة مع الفكر الأوروبي ومع أنفسنا أيضاً... ما أجمل أن تغطس مع شاتوبريان في كتابه الخالد «مذكرات ما وراء القبر»، هناك حيث يرتفع بالنثر الأدبي الفرنسي إلى أعلى عليين أو ينخفض به إلى أسفل سافلين! ليس في كل يوم يظهر كاتب كبير...

مهما يكن من أمر، فإن الإنسان الكلاسيكي كان قد انتهى في عصر الرومنطيقية وشاتوبريان. ونقصد به الإنسان الكامل، الخالد، الثابت، الذي لا يتغير ولا يتبدل. إنه إنسان القناعات المؤكدة واليقينيات الراسخة. إنه إنسان القيم الواثقة ذات الطمأنينة الكاملة التي لا تشوبها شائبة. وأما الإنسان الحديث فهو إنسان مُزَعْزَع، مترجرج، قلق، لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء. فالعالم القديم انهار أو كاد، واليقينيات الكبرى التي كان يركن إليها الإنسان القديم انهارت معه. لهذا السبب راح الشاعر الرومنطيقي يشعر بالهلع والجزع أمام العالم الجديد الذي ينفتح أمامه. لهذا السبب راح يلجأ إلى البكاء والنحيب والعويل. وهكذا امتلأ شعره بتلك البحة الغنائية الحزينة، أو النزعة العاطفيّة الفياضة والمؤثرة. لنستمع إلى أحد كبار الشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين ألفريد دوموسيه يتحدث عن تلك الفترة:

«وا أسفاه! لقد انتهى الدين. انتهى كل شيء. وغيوم السماء تتساقط مطراً. ولم يعد لنا أي أمل. لم نعد ننتظر أي شيء من الغيب، ولا قطعتين من الخشب تشكلان صليب الأمان بالنسبة لنا. وأما نجم المستقبل فلما يكد يبزغ بعد. إنه لا يستطيع الخروج من رحم الأفق. وإنما يظل مغلّفاً بالغيوم. وكالشمس الشتائية يتبدَّى لنا أحمر كالدم المراق عام 1793 (إشارة إلى الثورة الفرنسية). لم يعد هناك حب، ولا مجد. يا له من ظلام سميك، سميك، يطبق على وجه الأرض! وعندما يطلع الفجر الجديد للعالم سوف نكون قد متنا...».

بمعنى آخر؛ نحن جيل القطيعة، نحن جيل الاحتراق والعبور. نحن جيل الموت والولادة في آن معا. نحن جيل التمزق بين جيلين. سوف نشهد موت العالم القديم حتى النخاع دون أن يتاح لنا أن نكحل أعيننا بولادة العالم الجديد... هذا هو قدرنا ومصيرنا... نحن جيل التضحية والفداء. والعالم الجديد لن ينبثق إلا على أنقاضنا. لا أعرف لماذا أتذكر الآن تلك الأبيات الجميلة لخليل حاوي...

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديد

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

هل تنبأ خليل حاوي بتلك القطيعة الإجبارية التي ستفرض نفسها علينا إذا ما أردنا الانتقال من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار، أو من عصر العبودية إلى عصر الحرية؟ على الأقل فإنه أحس بخطورة المسألة ورعبها، وربما لهذا السبب انتحر... فما بالك لو أنه عاش وشهد ما يحصل في غزة حالياً؟ كان قد انتحر 10 مرات... ولكنه - وهنا تكمن شهامته - قبل بأن يكون الضحية وخشبة الخلاص للأجيال القادمة. قال ما معناه؛ ليمشوا على أضلعي، ليدوسوا على جسدي، ليتخذوه جسراً تحت أقدامهم ونعالهم، إذا كان ذلك سيساعدهم على العبور إلى الضفة الأخرى؛ ضفة الإنقاذ والخلاص. ولكن ما كان ينبغي عليه أن ينتحر لأنه فقد بذلك إمكانية التحول إلى قدوة عليا، إلى منارة، للأجيال القادمة. الانتحار ليس حلاً. الانتحار هزيمة غير مقبولة أياً تكن خشونة الواقع. الانتحار خور، جبن. الانتحار عيب بل عار. الانتحار لا يليق بالرجال. المتنبي لم ينتحر وإنما سقط مضرجاً بدمائه! هذه ميتة حقيقية، ميتة عزّ وشرف لا تليق إلا بأعظم شاعر عربي. ولكنه ليس الوحيد. معظم العباقرة الكبار سقطوا بطريقة أو بأخرى تحت ضربات القدر. سقراط، ديكارت، سبينوزا، جان جاك روسو، جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي. نعم. نعم. لقد قتلت الأخيرين السلطنة العثمانية البائدة بالسم الزعاف (العملية سهلة وبسيطة جداً، فنجان قهوة فقط!). هذه السلطنة التي يحن إليها البعض حالياً ويريد إعادتها مجدداً. ولكن الشعب التركي الكبير والمستنير لن يقبل بالعودة إلى الوراء. يقول لنا الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل سير؛ لقد درست حياة مثقفي فرنسا على مدار 400 سنة فوجدت أنهم كانوا جميعاً مهددين. ولا واحد منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا ملاحقين من قبل الأصولية والأصوليين، الظلامية والظلاميين. لماذا؟ لأنهم خرجوا على كهنة الماضي الذين تقدسهم الجماهير وفتحوا ثغرة في جدار التاريخ المسدود. لأنهم حاولوا - ونجحوا! - في فك الاستعصاء التاريخي. لأنهم دشنوا القارات البكر للفكر، هذه القارات التي لا تخطر على البال. فكان جزاؤهم الاغتيالات والملاحقات. ولكن نيتشه نبهنا منذ زمن طويل إلى هذه الحقيقة؛ كل فكر لا يقف على حافة الخطر لا يساوي قشرة بصلة. الفكر والخطر صنوان! وفولتير، أستاذ نيتشه، نبهنا إلى حقيقة أخرى؛ وهي أن الذين يزرعون بذور التنوير غير الذين يحصدون. قال؛ لن أرى بأم عيني نتائج فكري ومؤلفاتي، وهذا لا يزعجني أبداً أبداً. على العكس، أشعر بالسعادة القصوى لأن الأجيال القادمة هي التي ستقطف الثمار. وقد قطفتها. فلولا جهوده وجهود سواه من فلاسفة الأنوار لما تحررت فرنسا من تلك العصبيات الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية التي مزقتها طويلاً ودمرت وحدتها الوطنية.

ولكن بعد أن تحررت الأجيال الفرنسية من الأصولية والطائفية ما عاد مفهوماً استمرار معاداة الدين والقيم الروحية كما يفعل ميشيل أونفري بكل حماقة وتهور في فرنسا حالياً. لماذا يثقب هذا الشخص أبواباً مفتوحة؟ لطالما طرحت على نفسي هذا السؤال وأنا أقرأ كتبه الشيقة والمبدعة في قسم منها. هل فعلاً أن الأصولية المسيحية هي التي تهدد فرنسا حالياً أم الإباحية الجنسية المنفلتة كلياً من عقالها؟ ولذلك أقول؛ لا مصلحة للمثقفين العرب في تقليد التيار الإلحادي المادي الشذوذي المطلق السائد في الغرب حالياً. بل نحذر منه كل التحذير. فنحن ليست مشكلتنا مع الدين وسموه وتعاليه وإنما مع الظلامية الدينية. نحن مشكلتنا مع الطائفية التي تمزقنا وتمنع تشكيل الوحدة الوطنية العزيزة الغالية فيما بيننا. أقول ذلك وأنا أتذكر عبارة جبران خليل جبران الرائعة؛ ويلٌ لأمة كثرت فيها الطوائف وقل فيها الدين!

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 21 يناير 2024 م ـ 09 رَجب 1445 هـ

«هزيمة الغرب»، عنوان الكتاب الأخير للمؤرخ وعالم الإنتروبولوجيا الفرنسي المشهور «أمانويل تود»، وقد أثار فورَ صدوره هذه الأيام جدلا واسعاً متشعباً. الكتاب هو خلاصة قراءة «تود» للنظام الدولي الجديد من زاوية الحرب الأوكرانية الممتدة منذ سنتين. وعلى عكس المقاربات السائدة، يرى «تود» أن روسيا في طور الانتصار على حلف شمال الأطلسي الذي هو في حقيقته حلف جديد يتمحور حول مثلث «لندن- فرسوفيا- كييف»، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح في هذه الحرب لأسباب موضوعية جوهرية. وفي مقدمة هذه الأسباب ما أطلق عليه تود «العدمية الناتجة عن انهيار البروتستانتية»، وهو هنا يستعيد أطروحة ماكس فيبر الشهيرة في ربطه بين الإصلاح البروتستانتي ونشأة الرأسمالية الحديثة. لقد شكل العالَم البروتستانتي (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا والدول الاسنكدنافية) محورَ الرأسمالية الاقتصادية والليبرالية الفردية، نتيجةً لعوامل ثقافية أساسية من بينها انتشار الكتابة والتعلم، وأخلاقيات العمل، والانضباط المهني والمسلكيات الصارمة. بيد أن هذه القيم التي استمرت مدة طويلة في شكل قوالب ثقافية رغم تراجع الممارسة الدينية، قد انحسرت كلياً اليوم بما يفسر، حسب المؤلف، التقهقرَ الصناعي في هذه البلدان وانهيار النظم التعليمية فيها ودمار الأسرة وتخلخل آليات الانضباط الاجتماعي المرتبطة بها. وقد ظهرت هذه الثغرات خلال جائحة كورونا، وبرزت في الحرب الأوكرانية الحالية عندما بدا جلياً للعيان أن الصناعة العسكرية الأميركية عاجزة عن توفير حاجيات جيش كييف، بما ينذر بنصر روسي قريب في النزاع القائم، رغم الوعود الغربية. وفي هذا السياق، يرفض تود النظرَ إلى الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية كما لو أنه حرب استعمارية تقليدية، بالنظر إلى الوشائج العضوية بين منطقتي القرم ودونباس مع روسيا، كما يرفض اعتبارها حرباً بين الديمقراطية والاستبداد أو صداماً بين ما يسميه «الأوليغارشيات الليبرالية» و«الديمقراطية التسلطية». ما تعنيه هذه العبارات هو أن الديمقراطية التمثيلية في الغرب انهارت كلياً، وما أصبح سائداً في المجتمعات الغربية هو تحكم قوى بيروقراطية متنفذة لا تعبّر عن الجسم السياسي السيادي وإن كانت معايير الحرية السياسية متوفرة، بينما يتمتع النظام الحاكم في روسيا بشرعية حقيقية وقبول شعبي لا شك فيهما وإن كانت مساحة الحرية العمومية محدودة. الخلاصة التي يصل إليها المؤلف هو أن التوازنات المستقبلية للنظام الدولي ستتمثل في قيام حلف روسي ألماني له جذره الجيوسياسية والإنتروبولوجية العميقة، وانكفاء العالم البروتستانتي المتمحور حول الولايات المتحدة الأميركية على نفسه، وبروز الجنوب كقوة صاعدة مستقلة عن الغرب. ليس من همنا هنا تقويم أطروحة أمانويل تود، الذي عرف بحسه الاستراتيجي الثاقب، وهو الذي توقع عام 1976 تفكك الاتحاد السوفييتي انطلاقاً مِن نظريته في الأنساق القرابية والأسرية. ما نريد أن نضيفه هو أن أهمية أطروحة تود تتمثل في استخدامه العواملَ الثقافيةَ في رصد المعطيات الجيوسياسية، بدلا من نموذج صراع القوة المهيمن على الدراسات الاستراتيجية. بيد أن من ميزات عمل تود هو أنه تجنَّب مقاربةَ صدام الثقافات التي تبلورت في الأدبيات الأميركية وفي خطاب المجموعات اليمينية الراديكالية في أوروبا، وهي في عمومها تعاني من أوهام التحديد الغائم وغير التاريخي للهويات الثقافية المشتركة بالنظر إليها كأنساق اجتماعية جامدة بدل اعتبارها منظومات رمزية تتكيف مع التحولات والتغيرات التاريخية والمجتمعية المستمرة. ولقد اتهم تود بأنه يدافع عن الموقف الروسي ويناصر بوتين في حربه ضد أوكرانيا، وسخر البعض من توقعاته ومن إعلانه هزيمة الغرب. ولئن كان من المبرر منهجياً ومعيارياً التشكك في تقويمه السلبي للأداء الغربي في الحرب الأوكرانية الحالية وتنبئه بهزيمة الغرب وانتصار روسيا، إلا أنه نجح دون ريب في توجيه النظر إلى مكمن الضعف والهشاشة في السياسات الاستراتيجية للقوى الغربية التي تعاني من مصاعب جمة في ضبط توازنات العالم الراهن. لقد كتب كثيرون من قبل تود عن «نهاية الهيمنة الغربية»، وعبّر الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون عن هذا الوضع بعبارة «نهاية المركزية الغربية»، بعد قرون أربعة من السيطرة الأحادية على العالم. يقول تود في كتابه الأخير: لقد غدا من الصعب على الغرب أن يستوعب أنه لم يعد وحده في العالم، لكن عليه أن يفكر جيداً في ماذا يمكن أن يقدم للبشرية راهناً، بعد أن انحسرت قيمه المرجعية ولم يعد نظامه السياسي المجتمعي فاعلاً ولا ناجعاً في سياقه الأصلي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 يناير 2024 23:45

من زمان (1992) دخل أستاذنا الراحل حسن حنفي على إشكالياتنا مع الغرب عندما أصدر كتابه «الاستغراب» في مقابلة كتاب إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» (1978) وكنا نمزح معه عندما يكون مزاجه حسناً فنقول له: «لقد أردتَ بكتابك الضخم منافسة إدوارد سعيد لكنك لم تنجح!»، والحق أنّ حسن حنفي يمكن اعتباره متخصصاً في الفكر الغربي، فقد بدأ حياته الفكرية في الستينات بترجمة كتاب سبينوزا في الدين والسياسة مع دراسةٍ ضافيةٍ أفدنا منها جميعاً متخصصين وغير متخصصين في الفلسفة الغربية وفي علاقات الدين بالدولة. وما دعا إليه حنفي تحقق جزءٌ كبيرٌ منه؛ إذ بيننا اليوم عشرات المتخصصين في الفكر الغربي وفي الفلسفة الغربية وفي السياسات الغربية. والداعي إلى إثارة موضوع الغرب والعلاقة به من جديد الحملات الهائلة المعاصرة من جانب المثقفين والسياسيين والإعلاميين العرب على سياسات الغرب وأصوله الفكرية والتي بلغت الذروة في الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة، والتي مضت إلى ما هو أبعد من السياسيات إلى الفكريات والحضاريات كما سبق قوله. وعلّة ذلك موقف الغرب من سياسيين ومفكرين من الحرب، وليس الموقف السياسي وحسب، بل والموقف الفكري الذي يتجاوز القضية الفلسطينية إلى العرب والإسلام.

لقد دفعني ذلك، وبخاصةٍ أنني خضتُ مع الخائفين إلى إعادة قراءة كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد. والطريف أنني قرأت خاتمةً للكتاب كتبها إدوارد سعيد (1994) ينكر فيها الانطباع السائد أنه كان معادياً للغرب وهو لم يكن كذلك ولم يفكر فيه عندما وضع كتابه (1975-1976)! في كثير من الأحيان يستقلُّ النصُّ عن كاتبه وأطروحة «موت المؤلّف» صارت شهيرةً في الأدبيات الفرنسية. وبهذا المعنى، فإنّ استظهار إدوارد سعيد المتأخر (ونحن نأخذه مأخذ الجد) ليس دقيقاً على الأقلّ من حيث التأثير. فبعد كتابات النقد ما بعد الاستعماري، والتي بدأت قبل إدوارد سعيد (لدى طلال أسد مثلاً)، تطورت دراسات التابع (subaltern) وليس لدى العرب، بل لدى الهنود وفي أميركا اللاتينية. وهي تمضي أبعد من سعيد بكثير ولنتأمل كتابي وائل حلاّق الأخيرين: «الدولة المستحيلة»، و«قصور الاستشراق».

لا يستطيع مثقفو الشعوب التي كانت مستعمَرة نسيان ذلك الزمان القاتم، زمان السيل الذي لا يمكن دفعه (حسب خير الدين التونسي)، أو زمان الإصابة بالغرب (حسب الكاتب الإيراني: جلال آل أحمد). بيد أنّ الأمر لم يقتصر على ذلك الزمان؛ فحضارة الغرب هي التي صنعت نظام العالم، ونظام العيش فيه حتى اليوم. إدوارد سعيد يقول في خاتمة كتابه المتأخرة: إنّ ثقافة الاستشراق لا تزال سائدة وإن تغيرت صِيغُها وأشكالُها ووسائلها، مع ملاحظة أنّ القوة لا تزال تلعب دوراً رئيسياً فيها، وللقوة أيضاً أشكالٌ ووسائل وأدواتٌ لا تتناهى.

ما حاول أحدٌ الخروج على الشروط الفكرية والثقافية للغرب المهيمن (حسب تشارلز تايلور) غير المهاتما غاندي. وقد نجح في سياسة اللاعنف بالخروج من الاستعمار البريطاني. لكنّ الهند انقسمت، والهنود والصينيون وأُمم أخرى عديدة، يحاولون منذ عقود منافسة التفوق الغربي بتفوقٍ مُماثل، ولا يفكرون جدياً في الخروج على نظام العالم (الغربي) ولا الخروج على نظام العيش الذي صنعه وعاش وعيَّشنا في جوانبه ومفترقاته. فهناك مجالان للمقاربة أو المجاولة: جانب النظام العام للعالم في ظواهره ومظاهره - وجانب الثقافة وطرائق التفكير. والجانب الثاني هذا هو الذي لا يزال المفكرون الثائرون يجربون الخاطرات والمشروعات التغييرية في نطاقه وسياقاته. وقد أمكن بهذه المحاولات المستمرة منذ خمسة عقودٍ إنجاز عالمٍ نقدي من معالمه مدرسة فرنكفورت، وكتابات إدوارد سعيد، والإمبراطورية لنيغري وهارت وكتابات تشومسكي، وكل دعاة المذهب الإنساني.

ولماذا نطوف بعيداً؟ فقد قرأت قبل شهورٍ للناقد والمفكر السعودي سعد البازعي صاحب «معالم الحداثة» كتابه الآخر «المكوِّن اليهودي في الحضارة الغربية». ومن دون مضيّ في التفاصيل، فإنّ البازعي ذكر مجموعةً من المفكرين والفلاسفة والعلماء اليهود الذين أسهموا في صنع الحضارة الغربية الحديثة وبخاصةٍ منذ القرن السابع عشر وحتى زمنٍ قريب. وهكذا، فقد ساعدوهم في إنجاز مشروعهم الصهيوني للدولة، وقد اعتبروا ذلك المشروع دائماً إنجازاً لهم بالمعنيين الفكري والعملي. فالرئيس الأميركي بايدن ليس أول زعيمٍ غربي يعتبر نفسه صهيونياً، بل أحسَّ بهذا الإحساس مئاتٌ غيره منذ القرن التاسع عشر. بل هناك من يزعم أنّ نابليون بونابرت في مطلع القرن التاسع عشر كان يريد أيضاً إقامة دولةٍ يهوديةٍ أو لليهود في فلسطين. فالدولة اليهودية في فلسطين هي جزءٌ من التفوق الغربي والإنجاز الغربي. وبالطبع هناك مفكرون يهود اليوم يعتبرون أنّ المشروع الصهيوني أضاع روحه (لا أدري ماذا كانت روحه قبل الفساد!) مثل ساحاق وفنكلشتاين وتشومسكي، بل ويطالب جدعون ليفي الولايات المتحدة بالتدخل لإنقاذ إسرائيل التي أضاعت روحها بالحروب العنيفة والمستمرة على الفلسطينيين والعرب!

فهل تكون قضيتنا مع إسرائيل جزءاً من قضيتنا وقضية العالم الإنساني مع الغرب المهيمن؟

ما كان هارت (شريك نيغري في كتاب الإمبراطورية) يعتبر ذلك صحيحاً. وهو يرى أنّ التفرقة العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقيا كانت وطأتها أعظم وأفدح على الغرب بشقه الأوروبي على الأقلّ. لكنّ الغرب عندما وجد أنّ نظام التفرقة العنصرية ما عاد احتماله ممكناً، فإنه تخلّى عنه، رغم إصرار تشرشل هو وآخرين على إمكان استمراره. ولذلك؛ فإنّ الغرب المهيمن إذا شعر بأنّ العبء الإسرائيلي ما عاد احتماله ممكناً فإنه من أجل هيمنته بالذات سيتخلّى عنه. إسرائيل تتحول إلى كيانٍ ديني يعلو فيه صوت المتعصبين العنيفين، ولا أحد يستطيع تحمل أهوال الحروب الدينية سواء أكانت في ميانمار أو إسرائيل. لننظر كيف قاتل الجميع ضد «داعش» التنظيم الديني العنيف. مشكلة إسرائيل المستعصية ليست مشكلة الغرب وحده، بل هي مشكلة العرب أيضاً الذين برزت لديهم الحركات الأصولية والأصالية. مشكلة إسرائيل تنتمي إلى زمن الاستعمار الذي يجب أن يزول، والذي يؤخر زواله ظهور أنظمةٍ وتنظيمات مماثلة في الشرق الأوسط. وعندما نعتبر التحدي الإسرائيلي جزءاً من تحدي شباب العالم للحضارة الغربية، فإنّ ذلك يزيد من عمر الدولة العبرية؛ لأنّ الغرب ليس موشكاً على الزوال!

كان الكاتب اللبناني الراحل جوزف سماحة (مثل فنكلشتاين اليوم) يعتبر أنه لا حلَّ للمشكلة الإسرائيلية إلاّ الحلّ العربي(!).

ولنعُد إلى مشكلة العرب والعالم المتعَب مع الغرب. منذ الحرب الأولى، وعزّ الاستعمار الأوروبي، ما عادت أوروبا تستطيع الدفاع عن نفسها إلاّ بالجيوش الأميركية. وبعد قرابة القرن تجد أوروبا نفسها تحت وطأة الخوف من روسيا. أما الأميركيون فهم منقسمون، ولا ينبغي التقليل من شأن التيار الانعزالي في قلب أميركا. لكن لو فرضنا أنّ أميركا لسببٍ أو لآخر ما أمكن لها الدفاع عن الغرب الأوروبي الواقع في أصل حضارة العالم الحديث، فهل يعني ذلك أنّ هناك عالماً حضارياً جديداً على وشك التحول إلى بديل؟ أم أنّ الذي سوف يسود هو فوضى الحروب والسلاح والنوويات؟ فالذي ينبغي الخشية منه هو الكلام الكثير الذي يردده الاستراتيجيون الأميركيون وغيرهم عن: عالم ما بعد أميركا!

يتحدث المؤرخون عن الدورات الحضارية، ويتحدث استراتيجيون عن موجة العولمة الثالثة، لكن هل سيتغير نظام العالم أو تتغير حضارته لو أن الصين هي التي سوف تمسك بالزمام؟ لا أحد يريد «الإصابة» بالصين بعد «الإصابة بالغرب»!.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 07 رَجب 1445 هـ - 19 يناير 2024 م

ننطلق هاهنا من فرضية تُرجع القيم في أساسها إلى الحس الفطري في الإنسان الذي يسعى إلى التمييز بين الحسن والقبح، والذي يجعله الاطمئنانُ يرجح كفة الحسن على كفة القبح. فالبرّ، ليس سوى ما اطمأننت النفس إليه. ومن هذا المنبع الطّبيعي الأولي خرجت القيم الكبرى التي أسهمت في لحم الإنسان بأخيه الإنسان من أجل تحقيق العيش المشترك. ومن هنا يمكن اعتبار القيم العليا الشروط القَبْلية لقيام الفعل الأخلاقي، إذ لولا ها ما ميّز الإنسانُ بين الحسن والقبح ليختار التخلّق بأحدهما دون الآخر. ومن هنا وَلَّد التفاعلُ بين القيم الكونية والشّروط الاجتماعية لكل مجتمع ضروباً من قيم أصبحت سائدة في ذلك المجتمع، وأصبحت تستمد منها أخلاق أفراده، مثل القيم الثلاث المعلنة للثّورة الفرنسية: الحرية --المساواة – الأخوة. والقيم الثلاث المعلنة لدولة الإمارات: التسامح والسّلم والتضامن.

إن المبادئ الأخلاقية المطلقة يمكن أن تتغير من سياق إلى آخر. ومن هنا تتميَّز الأخلاق بطبيعة مفارقة، فهي من جهة تستمد وجودها من منظومة القيم الفطرية المجردة عن الزمان والمكان، وهي من جهة أخرى شديد الصّلة بالمجتمعات وأشكال التربية السائدة فيها، كما أنها شديدة الارتباط بالأطر النظرية سواء كانت فلسفية أو علمية، مما يمسّ الأخلاق بتغييرات تتفاوت عمقاً وجدّة. وفي تقدرينا فإن التّجدّد الأخلاقي لا يكون إلا ضرباً من تنزيل محلي للقيم الكونية، تتجدد الأخلاق كما يتجدّدُ البناء، فهي تبنى وتصنع انطلاقاً من النّموذج القبلي للقيم العليا الأولية.

يوحي الحديث الصحيح عن النبي الكريم الذي يقول فيه: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» [البخاري: الأدب المفرد/273]، بفكرة إمكان تجدد الأخلاق من جهتين:

أولاً جهة إكمال الأخلاق بالقوة وبالفعل معاً، وهذا مثّله العصر النّبوي الذي جدّد الأخلاق العربية ونفخ فيها روح كمالها البشري، ولعل أبرز مثال على ذلك ما كان يعرفه العرب من نصرة أخيهم ظالماً أو مظلوماً، فردّد الرسول الألفاظ نفسها، ولكن بمعنى أخلاقي جديد، فجعل نُصرة الأخ الظّالم بِحجْزِه عن الظّلم وكفّه عنه [البخاري: كتاب المظالم والغصب/2338]. ولعل «حلف الفضول»، الذي حضره الرسول قبل البعثة وأسهم فيه، وكان دائماً يَذكُرُه بخير وقد استوى بشراً نبيئاً، كان يجسِّدُ معنى عميقاً جدّده الرسولُ في قلوب أتباعه.

ثانياً: جهة التجدّد النّظري لهذه الأخلاق المكتملة بالقوّة والفعل، في ظل قيم إنسانية عليا أصلها في الفطرة وفرعها في العقل، وأغصانها في الحس والعاطفة والحدس. وقد أسهمت العلوم بعامة، والفلسفة بخاصة، في هذا التّجديد، مثال ذلك ما أعلنه سام هارس في كتابه «المشهد الأخلاقي» الذي نشره عام 2010 من «أنّ العلمَ التجريبي قادرٌ على الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية»، فدافع في كتابه على التّسليم بضرورة الحكم الأخلاقي المطلق، وقد وجد لذلك مصدراً في «العلم التجريبي»، حيث اعتبر الصّلاح المعيشي، بمعنى السّلامة من الآفات، هو المعيار الأخلاقي المطلق، فمعيار الأخلاق هو ما يترك من آثار في الأفعال، وفي صلاح معاش النّاس. فحسنُ الفعل عنده يكون بقدر ما يجلب من المصالح العاجلة، بخلاف السّوء الذي ينافر الطبع ويكون نقصاً.

نعم، تتجدّدُ الأخلاق، لكنّ تجدّدها هو تجدّد تمام وكمال، تجدُّدٌ يظل مرتبطاً بالأصول العليا والقيم المثلى التي تعارفت عليها البشريةُ قبل أن يُدَاخلَهَا هذا التغيير الذي نعرفه اليوم في كثير من البلاد، والذي يوشك أن يبدّل طبيعة الإنسان وفطرته الأولى.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية،يوم: 12 يناير 2024

 

يُتداول باستمرار موضوع نهاية الحداثة. وهذا التصعيد بأحاديث النهايات له خطّة صحيحة حين نتعامل مع الحداثة بوصفها جزءاً من تاريخ ماوصلت إليه البشرية وبالتالي تصلّب تاريخها وتحدد، ولمقولة نهايتها جانب خاطئ لأن الحداثة حين نأخذها بالمعنى البسيط متجددة وقائمة. لذلك يصرّ الفيلسوف المعمّر «يورغن هابرماس» على أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، بل ويعدّ «مابعد الحداثة» مشروعاً نقدياً للحداثة وليس مروقاً عنها. الحداثة بمفهومها البسيط متشعبة ومتوفرة، إنها تحديث متواصل، فكل انتقال في الفنون والسينما والأدب هو تحديث، وبالتالي فإن الحداثة شريكة في هذا المنجز، لكن حين نتعامل معها بحقبتها التاريخية المحددة فإن مقولة نهايتها قابلة للنقاش.

من قبل ترجم أستاذنا الراحل محمد سبيلا بحث «بودريار» عن «الحداثة» وهو من البحوث المهمة، وقد تطرّق فيه إلى أفكار كثيرة، منها أن الحداثة ليست مفهوماً سوسيولوجيا، ولا مفهوماً سياسياً، وليست بالتمام مفهوماً تاريخياً، بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية. فمقابل التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الأخيرة تفرض الحداثة نفسها على أنها شيء واحد متجانس، يشع عالمياً انطلاقاً من الغرب.، ومع ذلك فهي تظل مدلولاً ملتبساً يشير إلى تطور تاريخي وإلى تغير في الذهنية.

ويعتبرها معطى متشابكاً تتلاحم فيه الأسطورة بالواقع، واقع يتميز في كل المجالات، دولة عصرية، تقنية عصرية، موسيقى ورسم وعادات وأفكار عصرية، على هيئة مقولة عامة وضرورة ثقافية. ومن حيث إنها نشأت عن بعض التحولات العميقة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، فهي تتحقق على مستوى العادات وطرائق العيش، وأنماط الحياة اليومية، وقد تبلغ أحياناً صورة كاريكاتورية في النزعة التحديثية (Modernisme)، وبما أنها متحولة في أشكالها ومضامينها، في الزمن والمكان، فهي ليست ثابتة ولا تقبل الإحالة عليها إلا من حيث هي منظومة من القيم، وأسطورة.

وآية ذلك كما يعبّر بودريار أن تاريخ لفظ حديث أقدم من تاريخ مصطلح «الحداثة». ففي كل سياق ثقافي يتعاقب كل من القديم والحديث تعاقباً ذا دلالة. لكن مع ذلك لا توجد الحداثة، في كل مكان باعتبارها بنية تاريخية وجدالية تعبر عن التغير والأزمة. وهذه الأخيرة لا يمكن مشاهدتها إلا في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر، ولا تأخذ معناها الكامل إلا ابتداء من القرن التاسع عشر.

الخلاصة أن الحداثة لها جانب معقّد ذو اشتباك تاريخي لها بداية ونهاية، ولها جانب بسيط مما يعني استمراريتها، بدليل أن كل المشاريع التنموية العالمية، والأفكار الكبرى على مستويات تطوير نظريات الأدب والسياسة والدولة ذات بعد حداثي بمعنىً أو بآخر، إن الحداثة قد تكون ماتت على مستوى تاريخها المرتبط بأحداث سياسية ودينية، ولكنها بالمفهوم الفلسفي فعّالة وتؤتي أكلها إلى اليوم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 2 يناير 2024

لا يمكننا في العالم العربي أن نتجاوز حقيقة أن أحد أعمق مشكلاتنا في القدرة التي يتم فيها توجيه المجاميع الشعبوية من المنابر الدينية، وحتى عبر منصات الإعلام، هذه مشكلة علينا الإقرار بوجودها، فهي متلازمة متصلة عبر عقود ممتدة لم تنفك ولن تنفك إلا بمواجهتها، وفيما يعتبر الخطاب الديني من أبرز العناصر التي تشكل الهوية الثقافية في العالم العربي فمع ذلك، يشهد هذا الخطاب في بعض الأحيان استخداماً ملتوياً لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية، ما يؤدي إلى توجيه عقول الشعوب العربية في اتجاهات محددة، وفي الوقت نفسه، ينتج عنه استخفاف يهدد التنوع الفكري، ويقوض الحريات الفردية.

تعود جذور توظيف الخطاب الديني إلى فترات تاريخية عديدة، حيث استُخدم الدين وسيلة لتوحيد المجتمع، وتحقيق أهداف سياسية في عصور مضت، كان الخطاب الديني يُلهم الناس ويوجههم نحو الخير، لكن مع تغير الظروف وتعقيدات الحياة السياسية، بدأ يتحول إلى أداة لتحقيق مصالح قلة من الحكّام، ولذلك فإن الخطاب الديني يمتلك سلطة خاصة تمكنه من التأثير على العقول والسلوكيات الفردية والجماعية، وفي بعض الأحيان يتسلح القادة السياسيون بالدين، لتبرير قراراتهم وتوجيه التفاعلات الاجتماعية والسياسية. هذا يعزز تماسك السلطة، وفرض الرأي السائد دون مراعاة لتنوع الآراء.

ومكمن الخطر أن يتسلل الخطاب الديني إلى نظام التربية والثقافة، حيث يُشكل مصدراً لتشكيل قيم المجتمع، يُبرز وينمّي الدين تقاليد وعادات، ولكن يمكن أن يكون هذا التأثير إيجابياً أو سلبياً باعتماد السياق والتفاعلات الاجتماعية. ظهر الاستغلال السياسي للخطاب الديني كتكتيك فعّال في تحقيق أهداف سياسية، يتجلى ذلك في توظيف المفاهيم الدينية للتأثير في القرارات وتوجيه التصورات الشعبية، مما يفتح الباب أمام انتقادات حول استغلال العقائد الدينية لأغراض شخصية، عارض التوظيف السياسي للخطاب الديني في بعض الأحيان مع مفاهيم حقوق الإنسان. يمكن أن يؤدي التحكم في الرأي العام باستخدام الدين إلى انتهاك حقوق الإنسان، مثل حرية التعبير والدين والمعتقد.

تظل قضية توظيف الخطاب الديني في توجيه عقول الشعوب العربية محورية في فهم تحولات المجتمعات العربية. يجدر بالمجتمع العربي أن يدرك تأثيرات هذا التوظيف على التنوع الفكري، وضرورة الحفاظ على الحقوق الفردية والجماعية، لضمان تطوره المستدام وتقدمه الشامل، مع ذلك لابد من استيعاب حقيقة أن مبادرات الدول الوطنية التنويرية لم تستطع أن تغير الكثير في ظل انتشار وسائل التواصل، وكذلك توظيف بعض وسائل الإعلام في الانتهازية واستغلال العواطف الشعبية.

تثبت الحوادث في المنطقة وحتى العالم أن الخطاب «الإسلاموي» وفي معيته اليساري العربي هو آفة، تستثمر جماعات الإسلام السياسي في عقول قطيع من الاتباع الذين عطلوا أدمغتهم.

لا يمكننا أبداً ممارسة إنكار أنه لا يوجد مستثمرون يستفيدون من هذا الخطاب وقيادة المجتمعات نحو أزمات متوالية، وفي هذا الإطار على الدول الوطنية كل المسؤولية بأن تعمل على معالجة موضوعية لهذه المشكلة تنطلق من تجديد الخطاب الديني فهذا هو المدخل للتصحيح، أن تبقى المجتمعات العربية معرضة لموجات خطاب الكراهية التي تهز أركان الدول الوطنية العربية.

فلول «الربيع العربي» هم ذاتهم من عادوا وسيعودون يهاجمون أوطانهم فغايتهم «دولة الخلافة» الوهمية. التنوع الثقافي يعززه المحتوى التعليمي القائم على المعرفة والتنوير، واحترام الحقوق لكل الأديان والمذاهب والقوميّات.

التنوع رافد من روافد القوة المستدامة في عصر تتقدم فيه الأمم بأدوات المعرفة، وليس بمعاول الجهل المتمترسة وراء جدران الأزمات، والتي تظهر في كل مرّة لتؤدي مهمة استثمارها في عقول القطيع دون محاسبة وعقاب، وقد قيل في المثل «من آمن العقاب أساء الأدب» ومن آمن العقاب أساء للأوطان.

***

هاني سالم مسهور - كاتب يمني

31 ديسمبر 2023

لم يتردد الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميلي في القول إنه يريد إزاحة الأقلية السياسية المحترفة التي اعتبر أنها «أفسدت» بلاده وقادتها إلى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. مثل كل الزعماء الشعبويين الذين صعدوا في الحقل السياسي خلال السنوات الأخيرة، يركز ميلي هجومَه على النخب المهيمنة على الإدارة ومؤسسات الدولة العمومية، ويرى أنها غدت معزولةً في الشارع المحبَط والغاضب الذي يلتف حول قادته القريبين منه، على حد قوله.

ولا يتعلق الأمر فقط بالديمقراطيات الناشئة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ففي كل الديمقراطيات العريقة تتجاوز القاعدةُ الانتخابية للحركات الشعبوية ثلثَ السكان وفي أغلبها أصبحت هي القوة السياسية الأولى. ليس من همِّنا هنا تفسير هذه الظاهرة التي يمكن، وبسهولة، ربطها بأزمات العولمة الاقتصادية والتقنية، وانهيار ثنائية اليمين واليسار التي أطَّرت لمدة قرنين الحياةَ السياسية، وتنامي تأثير وحضور شبكات التواصل الاجتماعي.. بل ما يهمنا هنا هو تأثير المعادلة المذكورة على سلطة وحضور النخب الفكرية والبيروقراطية التي قادت في السابق عمليةَ بناء الدول وتحديث المجتمعات.

وعلى الرغم من النقد الجذري الذي وجّهته المدرسة الماركسية لمفهوم «الأنتلجنسيا» من حيث هي طبقة برجوازية صغيرة متحالفة مع القوة الرأسمالية المهيمنة، فإن الأنظمة الديمقراطية في الغرب حكمتها دوماً النخب المؤثرة والفاعلة التي تداولت على السلطة عبر الآليات الانتخابية التعددية. لقد طرح كثير من علماء السياسة والاجتماع سؤال العلاقة الإشكالية بين الشرعية الشعبية التي تفترض نفاذ القاعدة الجماهيرية العريضة للسلطة مباشرةً باعتبارها متحكّمة في الرهان الانتخابي، وبين سلطة النخب المستفيدة عملياً من المسار التمثيلي الانتخابي رغم كونها أقلية محظية ضيقة. وإذا كانت الديمقراطيات الحديثة تتميز بالحركية التداولية المفتوحة، حيث لا تكون السلطة حكراً على فرد معين أو مجموعة بعينها، فإنها تتأسس في الوقت نفسه على ما سماه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بالتمايز الاجتماعي أي التخصص الوظيفي في مجتمعات معقدة تديرها العقلانية البيروقراطية. وفي هذه الحالة، ليس ثمة اختلاف كبير بين طبيعة القيادات السياسية وطريقة توجهاتها. فحتى أحزاب اليسار الاشتراكي التي كانت قريبة من الأيديولوجيا الماركسية، بعدما وصلت للسلطة في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين انتهجت نفس أساليب الحكم والتسيير التي كانت تعتبر خاصة باليمين الليبرالي. وبعد نهاية الحرب الباردة، توطد هذا التوجه، وبرزت أطروحات عديدة حول عودة الأفلاطونية السياسية، أي حكم الخبير العالِم القادر وحده على ضبط وإدارة الملفات الاقتصادية والفنية المتخصصة التي تتجاوز التصدعات السياسية.

ولا شك في أن الموجة الشعبوية القوية الحالية هي في عمقها ردة فعل احتجاجية على هذه الأطروحة، ومحاولة حثيثة لإعادة الاعتبار للمفهوم الصدامي السيادي للسياسة، لكن من الواضح أنها تواجه مقاومةً حادةً مِن النخب الفكرية والبيروقراطية، التي وإن كانت تراجعت انتخابياً في السنوات الأخيرة فإنها قادرة على إفشال أي نظام حكم يقصيها ويحاربها.

وهكذا ندرك كيف فشلت إجمالا الحكومات الشعبوية في إدارة الملفات التي تبنتها مثل مشاكل البطالة والقوة الشرائية والاندماج الاجتماعي.. مما حدا بها إلى التحول نحو قضايا زائفة مثل خطر الهجرة والتعددية الثقافية والهوية القومية المهددة.

لقد حدث التحول نفسه في العالم العربي في سياق بما سمي «الربيع العربي»، عندما وصلت للسلطة حكومات شعبوية ترفع الشعار الديني الاحتجاجي وتوجه هجومها الجذري للنخب الفكرية البيروقراطية المتحالفة مع الأنظمة السابقة. لكن ما حدث هو أن هذه الحكومات فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة الملفات الاجتماعية وفي تسيير السياسات العمومية.. نتيجةً للمواجهة المحتدمة مع النخب الإدارية والثقافية والمالية التي كان بيدها القرار والنفوذ.

في تونس خلال عهد سيطرة حركة «النهضة» وحلفائها، قالت لي شخصية مرموقة من القيادات البيروقراطية المعروفة: «بعد أن حملنا الوافدون الجدد مسؤوليةَ كل مشاكل البلاد وأقصونا من كل مراكز القرار والتأثير، رجعوا يطلبون دعمنا ومساعدتنا مكتشفين أن الدول تدار بالخبراء الفنيين الأكفاء وليس بباعة الكلام الذين تطرب لهم الجماهير لفترة محدودة قبل أن تتخلى عنهم عندما تدرك عجزهم ومثاليتهم الفارغة».

كان أفلاطون مؤسس الفلسفة على وعي بهذه الحقيقة، معتبِراً أن طريق السياسة هو الخطابة والجاذبية العاطفية، كما في الأنظمة الديمقراطية، لكن فن القرار يقتضي العلم والمعرفة والتقدير الموضوعي الجاد. وما نشهده اليوم هو انقلاب السياسة على العلم الذي ستكون له آثار مدمرة على إدارة الدول وتسيير المجتمعات.

*** 

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 يناير 2024

في أربعينيات القرن الماضي ظهر مصطلح (الشعر الحر)، ليفتح حركة شعرية ثارت على عمود الشعر العربي، وعلى فحولية القصيدة، وانفتحت أبواب الجدل على شعراء وشاعرات هذه القصيدة، وثارت ثائرة المحافظين ضدها بمثل ما تجادل حولها غير المحافظين، ودخل العروضيون على مائدة الجدل، وظلت حيوية المصطلح شديدة القوة وعريضة التمدد والانتشار لدرجة شملت كل صاحب قلم وصاحب ذائقة شعرية، وامتد ذلك لثلاثة عقود عامرة وثرية بالجدالات والنقاشات.

غير أن مصطلحاً عروضياً طل برأسه من وسط الجموع، واخترق صفوف النقاشات وهو مصطلح (شعر التفعيلة )، وهو مصطلح صحيح من حيث حاله العلمية ودقة تعبيره في وصف القصيدة ذات الوزن غير العمودي. وحقيقة فهي قصيدة تعتمد التفعيلة، وتستن لها طريقاً خارج شروط البحور المقننة بأعداد محددة ومنضبطة من التفاعيل.

ولكن السؤال المعرفي هو عن التخلي عن مصطلح الشعر الحر، وسنرى أن كلمة (الحر) هي مربط الفرس، وهي العلة التي خلقت مصادمة تثير الحساسية الأكاديمية ضد مشكلة الحرية، بما أنها تعني التمرد على الشرط العلمي المنضبط، فالعروض كعلم تمكن من احتلال التصور الأكاديمي للشعر، ومسألة الخروج عن هذا التصور تحت معنى الحرية سيكون مثيراً ومهدداً للعقلية القواعدية التي تعبد القاعدة، وتعارض الاستثناء أو الثورة على المستقر، وهذا أدى عملياً إلى انسحاب مصطلح الشعر الحر تدريجاً إلى أن اختفى تماماً، ولم يعد أحد يستخدم هذا المصطلح، وحل محله مصطلح شعر التفعيلة، وهذه هزيمة ثقافية لمعنى الحرية، وانتصار للمعنى العروضي، وقد تقبل الكل هذه التسمية حتى معارضو هذا النوع من الشعر إذ تراضوا فيما بينهم بمصطلح قصيدة التفعيلة مكتفين بهذا النصر الذي يضمن لهم سلطة المعنى العروضي ونفي الخروج عنه وكأنها عملية استحواذ ذهني، وهذه واحدة من الألاعيب الذهنية المحافظة التي تقاوم الجديد، وتظل تقاومه إلى أن تنهكه وتستولي على زمامه، حيث ابتكرت طرقاً لاحتوائه، وإعادته لبيت الطاعة من مصطلح يحمل معاني التمرد والانعتاق إلى مصطلح يفرض القيد العروضي، أي أن النص شكلٌ وجسد، ولم يعد روحاً متقدة بحس الحرية.

وصحيح أن مصطلح الشعر الحر يلتبس مع مصطلح «وايتمان»، الذي يعني الشعر المنثور، وهو الشعر الذي رفضه «تي.إس. إليوت»، ولكنه عربياً استخدم ليعني القصيدة التي تعتمد وزناً يقوم على التفاعيل وليس على نظام البحر الخليلي.

والغريب أن مصطلح الشعر الحر لم يستخدم لقصيدة النثر، ولا للشعر المنثور مع أنه يتسق مع مصطلح «وايتمان»، وآثر جماعة قصيدة النثر استخدام المصطلح الفرنسي، وبالتالي فإن مصطلح الشعر الحر عافه قومٌ، وعف عنه قومٌ آخرون، وكأن مصطلح حرية الشعر مخيفٌ، أوكأن الشاعر يتسلح بمصطلح يحمي حماه، وينظم ضربات قلبه ضد معنى الحرية الشعرية.

***

د. عبدالله الغذامي -كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم 29/12/2023

 

إذا كان ابن مسرة قد تحّدث عن «علم المحن»، فإن «الآجري» في كتابه «أخلاق أهل القرآن» فضّل الحديث عن «علم النّعم»، وهما في الحقيقة علم واحد ذو وجهين منسجمين. وإذا كان الحديث عن علم المحن مقروناً بمفهوم «الابتلاء»، فإن الحديث عن "علم النّعم" مقرونا بمفهوم "النّعمة" باعتباره حالة الإنسان المترفّه، الذي يعيش دعة وسعة، وينعم بالفرح والسرور والأمن والسّلام. وإذا كان ابن مسرة قد أحجم عن الكتابة في علمه، فإن «علم النّعم» كان محظوظاً، حيث كتب فيه ابن أبي الدنيا [281 للهجرة] كتاباً سماه «الشّكر»، ثم جاء بعده الخرائطي [327 للهجرة] فكتب «فضيلة الشكر لله على نعمته، وما يجب من الشكر للمنعم عليه».

إن «علم النعم» هو في أعمق معانيه، علم إنساني له موضوعه ومفاهيمه ومنهجه، وإن كان لم يتميّز عند المسلمين علماً مستقلاً، لتردّدهم فيه، كما تردّد ابن مسرة في علم المحن أيضاً.

نعم، لقد نشأ «علم النعم» في أوساط المحدّثين، والسّبب في ذلك أن الآثار في الشّكر كثيرة، سواء في القرآن الكريم أو في السّنة النبوية، وعندما تحدّث الآجري عن «علم النعم» فلعلّه كان يقصد أن يجمع ما قيل في ذلك في إطار نظري معين، أو لعلّه قصد التّنبيه على ضرورة فعل ذلك، أو لعلّه كان يعني بالعلم، التّصور والتصديق كما كان شائعاً في تصوّر العلم في عصره، القرن الرابع. لكن الذي يبدو مرجّحاً أن الآجري، كان قاصداً أن يجعل من هذا العلم جسراً للتواصل ومبعدة للخلاف المُفرّق، فقد كان هذا الرجل يكره التعصب المذهبي، ما جعل مجايليه مختلفين على أي مذهب كان هذا الفقيه الكبير.

لكن عندما نتأمّل السّياق الذي حضر فيه الحديث عن «علم النعم»، أو «علم شكر المنعم» في كتاب «الآجري»، نجده علماً ناشئاً في سياق الحديث عما يمكن تسميته بالأمراض الخُلُقية التي يحملها بعض حملةُ القرآن الكريم، وينبههم «الآجري» إلى أن سبب ما يتخبطون فيه من علّات ترجع إلى عدم العناية بهذا العلم، لكن دون أن يفصل القول في ذلك. إذ غاية العلم عنده غاية أخلاقية.

رتّب كتاب «محمد بن جعفر الخرائطي» ما يُرَغِّب في الشّكر وَيُزَهِّد في الكفر، واهتم المفسرون بهذا العلم من خلال وقوفهم عند مفهوم «الحمد» الذي ورد في خمس وعشرين آية من القرآن الكريم، وأفاضوا في التّمييز بين الحمد والشكر، وكذلك صنع اللّغويون وأصحاب المعاجم في اهتمامهم بهذا المفهوم، لكن الذي سيرفع هذا المفهوم إلى درجة كبرى من التجريد هم المعتزلة، إذ معهم أصبح مفهوم «شكر المنعم» مفهوماً ذا دلالة خاصة، وسيتم تداوله داخل الحقل الكلامي بِلُوَيْنات دلالية تختلف بين المعتزلة والأشاعرة. وسيظهر مفهوم الشّكر في سياق فلسفي إسلامي مع الكندي في كتابه في الفلسفة الأولى، وابن رشد في المقالة الصغرى من تفسير ما بعد الطبيعة، اللّذين وجدا مناسبة فلسفية أرسطية طريفة ليقدما تصوراً لمفهوم الشكر يؤسس لثقافة الاعتراف.

قدّم المسلمون في ثنايا علومهم المختلفة مادّة علمية غزيرة في موضوع الشّكر والحمد، وهي مادّة قمينة بأن تؤسس عند المسلم ثقافة الاعتراف، وتنهض بهِمّة المفكرين إلى بناء «علم النعم» موضوعاً ومفاهيم ومنهجاً. وتظهر قيمة هذا العلم في أنّ شكر النعم امتحان وجودي، ومن فشل فيه أخفقت رسالته في الوجود.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 ديسمبر 2023

رحل الأسبوع الماضي عن عالمنا الفيلسوف الإيطالي البارز «توني نغري» الذي يعتبر أهم الوجوه الفكرية المجددة للماركسية في حقبة ساد فيها الانطباع بنهاية الأيديولوجيات وانهيار اليسار الثوري.

لم يكن «نغري» مثقفاً ماركسياً تقليدياً على غرار قادة الأحزاب الشيوعية الأوروبية وزعماء الحركات النقابية العمالية، ولم يكن يؤمن بديكتاتورية الشغّيلة والقضاء على الاستغلال الرأسمالي وسلطة البورجوازية الليبرالية. ومع أنه عاصر بقوة أحداث مايو 1968 في ايطاليا، بل انخرط في التنظيمات اليسارية الراديكالية العنيفة في بلاده بما قاده الى السجن سنوات عدة، ثم الى المنفى الباريسي، إلا أنه أدرك منذ السبعينيات أن الطوباوية الماركسية قد تجاوزها الفكر الفلسفي ولم تعد قادرة على صناعة التاريخ. بدلاً من نصوص إنجلز ولينين وماوتسي تونغ التي تلقفها المثقفون اليساريون في العالم، سعى «نغري» مبكراً إلى قراءة أعمال الفيلسوف الهولندي «سبينوزا»، التي اعتبر أنها تؤسس لمقاربة حداثية للسياسة تقوم على قوة المحايثة وديناميكية الجمهور، بدلاً من مقولات الليبرالية السياسية الحديثة التي انتهت إلى التأثير القوي على الفكرة الماركسية التي تحولت لاحقاً إلى عقيدة للدولة المركزية الشاملة.

لقد كان في قراءته لسبينوزا قريباً من أستاذه الفيلسوف الفرنسي «جيل دلوز»، لكنه على النقيض منه ظل متشبثاً بالعمل السياسي الملتزم. وعلى عكس الكتاب الماركسيين الذين حاربوا بقوة حركية العولمة ووجدوا فيها التعبير الأقصى عن الرأسمالية «المتوحشة» (أطروحة سمير أمين )، تحمس لها «نغري» واعتبر أنها قلب كامل لمنظومة الحداثة الليبرالية وتفويض حاسم لنموذج الدولة القومية، الذي قامت عليها تاريخياً.

ما تكرسه ديناميكية العولمة التي أطلق عليها مقولة «الإمبراطورية» (التي تعود في أصلها إلى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد)، هو تشتت وتبعثر مركز السلطة، وغياب بؤرة محددة لها، بما يفتح آفاقاً جديدة للأطروحة الشيوعية الكونية، بدلاً من الدولة القومية السيادية التي هي الآلية الملائمة للرأسمالية الصناعية التقليدية. ما تغير مع العولمة حسب «نغري» هو انبثاق الاقتصاد القائم على الذكاء الاصطناعي، وتشكل نمط العمل غير المادي، وقيام السلطة الحيوية (مقولة ترجع لميشال فوكو التي تتخذ من الرغبات وأنماط تسيير السكان مادة للفعل السياسي).

ومن هنا ضرورة تغيير أدوات العمل السياسي، بالتخلي عن النسق الحزبي ووهم التغيير عن طريق المنافسة الانتخابية كما ساد لدى التنظيمات الاشتراكية الأوربية. المطروح حسب نغري هو الرجوع إلى منطق «الجمهور» بالمفهوم السبينوزي أي حركية الذوات الفردية المستقلة القادرة على بناء واقع مشترك يحدث التغيير النوعي المنشود على الأرض.

لقد أثرت هذه الأفكار بقوة في التيار الواسع الذي سمي بحركة العولمة البديلة التي انطلقت من بورتو الغرو واجتاحت كبريات المدن الغربية على هامش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، قبل أن تنتقل إلى الميادين العمومية في وول ستريت ومدريد وباريس.. واتخذت أحيانا صيغاً تنظيمية سياسية على غرار «فرنسا المتمردة» في فرنسا و«بودموس» في إسبانيا و«سيريزا» في اليونان.

لقد بدا من الواضح أن هذه التنظيمات التي حقق بعضها مكاسب انتخابية ملموسة لا فرق بينها مع النزعات الشعبوية الجديدة الصاعدة، وإن كانت تختلف عن صيغها اليمينية باعتماد نمط من الشعبوية اليسارية دافعت عنها الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف القريبة فكرياً من توني نغري. ومع أن نغري تحمس بقوة لما سمي بالربيع العربي ووجد فيه بشائر عصر ثوري جديد سينتقل إلى العالم كله، إلا أنه اعترف بخطأ تقديره وقلت كثيراً إطلالاته الإعلامية في السنوات الأخيرة.

لم يؤثر نغري كثيراً في الفكر العربي رغم الترجمة المبكرة لكتابه الرئيس «الإمبراطورية» (التي لم تكن موفقة إلى حد بعيد)، وظلت الماركسية الكلاسيكية هي المهيمنة على قطاع واسع من اليسار العربي. عندما ناقشت قبل سنوات المفكر المصري الراحل سمير أمين حول أطروحات نغري قال لي إن قراءاته لنصوص ماركس زائفة ولا يمكن قبولها، كما أن تحليلاته للواقع العالمي هشة وعديمة الفائدة.

إن نقطة الخلاف الأساسية بين نغري وسمير أمين تتعلق بنموذج المثقف اليساري الثوري الذي ظل الماركسي المصري متشبثا به ولو ضمن مقاربة جديدة للنزعة الجنوبية عالم ثالثية، في حين اعتبر نغري أن عصر العولمة هو حقبة الفرديات الفاعلة التي تمارس نشاطها من خلال الشبكات المفتوحة في سعي حثيث للتحكم في الديناميكية الأفقية الكونية التي لا سقف لها ولا حدود.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 24 ديسمبر 2023 23:32

* بعض الأشخاص يتعايشون مع الكذبة كي يبتدعوا لأنفسهم حياةً أفضل

* إن ما يدعونا إلى الكذب هي ما يمكن أن نسميها «الحقائق الجارحة» وذلك لأن الحقيقة ليست دائماً مقبولة

من دون شك، نحن نعيش في عالم مفتوح ومكشوف على كل الميادين والجهات، وذلك بفضل تطور تكنولوجيا وسائل الاتصالات والإعلام عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأقمار الاصطناعية، والذكاء الاصطناعي، بحيث يأخذ الضخ الإعلامي مداه الأقصى ويصل إلى المجتمعات كافة، متخطياً كل الحدود الجغرافية والسياسية. ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هي التالية: كيف يمكننا أمام هذا العصف الإعلامي التمييز بين الحقيقة والكذب؟ وماذا يدفع الناس إلى الكذب وتشويه الحقائق؟ وهل يمكن تبرير حجب الحقيقة أو تزييفها لدواعي الخير؟ وبشكل أوضح، هل يمكننا أن نعيش من دون أن نلجأ إلى الكذب في سبيل غايات شريفة؟ من حيث المبدأ، إن الحقيقة يجب أن تقال وتُعلن وليس فقط أن تُعلَم؛ ولكن الحياة الغنية بالتجارب عبر التاريخ علّمتنا أن الشر قد يكون أحياناً خادماً للخير، كما أن الألم قد يكون وسيلة للشفاء.

حول هذا الموضوع الراهن أبداً خصصت المجلة الفرنسية «Question de philo (سؤال في الفلسفة)» عددها الصادر في خريف العام الحالي 2023 تحت عنوان «مقاومة الكذب- هل نستطيع العيش مع الحقيقة؟».

إذن، ما الذي يدعونا إلى الكذب؟ وما الذي يمنعنا من العيش مع الحقيقة في حياتنا اليومية؟ ومن دواعي الكذب الخشية من الأحكام الظالمة وعدم التفهم والتجاهل والإبعاد. لذلك، إن الفرد يصنع لنفسه صورة معينة يحتمي وراءها، ولكن هذه الصورة قد تُلزمه وتدفعه أحياناً كثيرة إلى الكذب. وثانياً، الخشية من أن يُظهر الفرد نقاط ضعفه، وذلك لأننا بشر وطبيعتنا تدفعنا إلى الخضوع لإغراء الآخرين لكي يقبلوا بنا حتى لو اضطررنا أحياناً إلى الكذب كي تكون لنا قيمة أمام الآخرين. ثالثاً، قد نكذب لكي نعيش معاً بشكل أفضل بحسب المحلل النفسي Pascal NEVEU في كتابه «الكذب للعيش معاً بشكل أفضل»، ورابعاً، إن ما يدعونا إلى الكذب هي ما يمكن أن نسميها «الحقائق الجارحة»، وذلك لأن الحقيقة ليست دائماً مقبولة وذلك لأنها من الممكن أن تؤذي المعنيين بها. بالنسبة إلى أفلاطون، إن الحقيقة هي غالباً ما تكون جارحة بالنسبة إلى سامعها كما بالنسبة إلى قائلها. ولذلك، فإن كل مجتمع يستند إلى كمية من الأسرار والأكاذيب. ولكن، كون الحقيقة جارحة ومضرة هل يستدعي أن يكون سبباً كافياً كي لا تُقال أبداً؟

رابعاً، التوهم بخلق حياة خاصة، حيث إن بعض الأشخاص يتعايشون مع الكذبة كي يبتدعوا لأنفسهم حياةً أفضل. وهناك أشخاص يستطيعون التعايش مع الكذبة طيلة حياتهم. وبحسب المحلل النفسي Pascal Neveu فإن الكاذب يعيش، عبر، ومن خلال نظرة الآخر إليه، ويحاول أن يكون منظوراً من الآخَر بوصفه شخصاً مختلفاً ويريد أن يكون معروفاً من قبل الجمهور.

ومقابل هذه الأكاذيب المذكورة أعلاه، هناك أكاذيب يمكنها أن تحمينا تجاه الحقائق الجارحة وتسهم في تجميلها أحياناً، وبالتالي يمكننا تسميتها «الأكاذيب الحميدة»، التي تهدف إلى فعل الخير. من جهة الأخلاق والدين، إن الكذب يقضي بأن يموّه الإنسان فكره بقصد الخداع. وهذا القصد يميز الكذب عن الاستعمالات الأخرى الخاطئة للكلام والمقبولة بهدف التسلية والتنويع. وبهذا المعنى، فإن الكذب يعدّ بمثابة عيب أو خطيئة من قبل التقليد الفلسفي والأخلاقي والديني حتى لو كانت بعض أشكال الأكاذيب مشروعة من قبل بعض الفلاسفة، ومنهم بنجامين كونستان في مناظرته مع كانط حول «حق الكذب». على هذا الأساس، فإن الأخلاق والدين يميزان تقليدياً ثلاثة أنواع من الأكاذيب: 1- الأكذوبة المرحة التي تطلق من أجل الدعابة أو من أجل السخرية. 2- الأكذوبة المفيدة أو الخدومة بعيداً عن الأذى. 3- الأكذوبة المؤذية وهدفها إيذاء الآخر ويمكن تسميتها «الخبيثة»، وهي الأخطر في نظر الأخلاق والدين في الشرق والغرب. في هذه الحالة، إن غالبية أكاذيبنا قد تكون بمثابة أفعال ارتكاسية وغريزية نلجأ إليها لنحمي أنفسنا. ولكن هل هذا يبرر هذه الأكاذيب؟

أمّا علم النفس الاجتماعي فيحسب خمسة دوافع للكذب كشكل من أشكال إخفاء المتكلم لفكره وهي: الحفاظ على صورته وإظهارها، والإقناع للحصول على ميزة إضافية، وتجنب النزاعات (بطريقة دبلوماسية)، وعدم إزعاج محاوره من خلال التعاطف، وتغطية أو تبرير غيابه. وهنا يبرز نموذجان من الانفعالات: السلبي: الخشية من أن ينكشف الشخص بوصفه كاذباً والشعور بالذنب. أما الإيجابي الذي يغلب غالباً لدى الكاذب المعتاد: فهو الشعور بلذة الكذب. ومع هذا النوع، الكاذب يصبح سيد انفعالاته.

أما من جهة علم الاجتماع فيمكننا أن نميز نوعين من المواقف تجاه الكذب: 1- الأكاذيب الأنانية التي تسمح للشخص بتقديم صورة حسنة عن الذات أو بحماية صورته في نظر محاوره، وذلك من خلال المبالغة في مزاياه وإخفاء عيوبه، والحصول على ميزة إضافية أو فرصة عمل، أو بيع شيء لا يحتاجه. وكذلك يتجنب عقاباً أو نزاعاً أو قطيعة. 2- الأكاذيب الغيرية: هنا نكذب كي نجنّب الألم أو الإزعاج أو من أجل سعادة الآخرين. على سبيل المثال، نتحاشى الحديث عن ما يقال عنهم أو عن طريقة لباسهم. ولكن بعض علماء النفس يسمون ذلك «الأكاذيب الدفاعية»؛ لأن الهدف منها حماية علاقتنا بالآخرين. أضف إلى ذلك، هناك دوافع مختلفة تدعونا إلى اللجوء إلى الكذب وتسمح، بنظرنا، بحمايتنا تجاه الآخر، يمكننا تصنيفها بحسب خطورتها: أكاذيب مزيفة لدى الطفل وعفوية ومن دون أية قصدية مؤذية؛ وهذه يمكن ربطها بإبداع الطفل الطبيعي. وأكاذيب - رغبات تبحث عن نكران الواقع، وهذا ما يدعو إلى الكبت وغير مقبول (يمكن أن نكذب على أنفسنا)، وأكاذيب غيرية هدفها حماية الآخرين (الابن، الصديق، الحبيب...)، وأكاذيب نفعية أو خدماتية تهدف إلى اكتساب خير ما أو خدمة ما أو الحفاظ على حب أحد ما أو تجنيب عقوبة معينة. وأخيراً الأكاذيب العدوانية التي يغذيها الحقد والحسد وهدفها الإيذاء.

وفي ختام هذا الموضوع، لا بد من الاستشهاد بأحد المهتمين الاختصاصيين بالتحليل النفسي Pascal Neveu مؤلف كتاب «mentir pour mieux vivre ensemble (نكذب كي نعيش معاً بشكل أفضل)»، حيث يعدّ أن الكذب يشكل جزءاً من حياتنا فيقول: «الكذب هو كوني ويشكل جزءاً من حياتنا. وإن الطفل يتعلمه باكراً، وحتى الحيوانات تعرف استخدامه. فمع أطفالنا ورب عملنا وفي بيتنا الزوجي نحن نكذب جميعاً لأسباب مختلفة: كي لا نقول الحقيقة أو كي نخفيها من خلال ممارسة الكذب بإغفال أو بعفوية، أو للحصول على صداقة معينة وعدم فقدانها... نحن في الوقت نفسه فاعلون وضحايا ومتواطئون مع أكاذيبنا. لماذا نحن نكذب؟ أين ومع مَن تعلمنا الكذب؟ ما الغاية من أكاذيبنا؟ هل هي عوامل سلام أو مولدة نزاعات؟ هل نحن قادرون على كشفها وبأية وسائل؟ وهل نضع لأنفسنا حدوداً؟ ومن دون الحكم على الكذب أو شيطنته وأيضاً من دون تقييمه يجب التأمل حول ماهية الصدق، وما هي الحقيقة؟ ومَن هو الذي يمتلك الحقيقة؟ وما علاقة الكذب مع الأنا؟ ومتى نتوقف عن التمييز بين الواقع والكذب؟ إن إقامة سلسلة للكشف انطلاقاً من ثلاث فئات كبرى من الأكاذيب قد تفيدنا بوصفها إنذاراً من أجل فهم ما إذا تركنا عالم الكذب كي نحمي أنفسنا أو من أجل الغرق في رفض وجودنا».

***

د. حسن منصور الحاج

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنيةن يوم: نُشر: 20 ديسمبر 2023 م ـ 06 جمادي الآخر 1445 هـ

في كتابه الصادر مؤخراً بالفرنسية تحت عنوان «التاريخ العالمي للفلسفة»، يتناول الفيلسوف الشاب فنسان سيتوت الإشكالية المنهجية المألوفة في تاريخ الفلسفة، حيث يتم عادة التأرجح بين مقاربة داخلية نصية تحصر الفلسفة في الموروث اليوناني وتأويلاته وامتداداته اللاحقة، ومقاربة خارجية تربط الفلسفة بالسياقات الحضارية والاجتماعية وترى أنها رصيد مشترك بين الثقافات الإنسانية الكبرى.

من الواضح أن سيتوت يتبنى الرؤية الثانية، لكن من منظور جديد ومتميز. فلئن كان ينفي المركزية اليونانية الغربية في الفلسفة (أطروحة هيغل- هايدغر)، إلا أنه ينطلق في الآن نفسه من العلاقة المعقدة بين ثلاثة أنماط من التشكلات الثقافية الكبرى عرفتها كل الحضارات الأساسية وهي الدين والفلسفة والعلم. في هذا السياق، يقف المؤلف عند ثماني حضارات كبرى هي: اليونان والرومان والإسلام وأوروبا وروسيا والهند والصين واليابان، معتمداً معيارين أساسيين لانتقاء العوالم الحضارية التي عرفت الثلاثية المذكورة، وهما: الاستمرارية التاريخية والنوعية الكيفية.

فإذا كانت الحضارة اليونانية عرفت بالممارسة الفلسفية التي تكرس المنحى المفهومي وتربط الحقيقة بالبرهان العقلي والبناء المنطقي، إلا أن هذا التوجه لم يكن خاصاً بالثقافة اليونانية، بل هو نمط من النزوع النظري الذي عرفته الحضارات الأخرى. كل الحضارات طرحت أسئلة ثلاثة جوهرية هي: من ماذا يتشكل العالم؟ وما هو الخير والشر؟ وما هو المسلك الذي يجب على الإنسان اتباعه في طريق العيش؟

إن هذه الأسئلة الثلاث تحيل إلى مقاربات مختلفة هي الأنطولوجيا (مبحث الوجود) والأكسيولوجيا (مبحث الأخلاق) والباراكسيولوجيا (مبحث الممارسة).

وفي كل حضارة تبرز أنواع ثلاثة من الطرق المنهجية للرد على هذه الأسئلة: إما بالرجوع إلى التقاليد والمعتقدات والرواية المقدسة (الدين)، أو باعتماد مسلك الاستدلال البرهاني (الفلسفة)، أو باختيار طريقة التحقق التجريبي والصياغة الصورية (العلم).

ويبدو أن سيتوت يتبنى المنهج الوضعي التاريخي المعروف لدى أوغست كونت بقانون الحالات الثلاث، ولو من زاوية جديدة، معتبِراً أن كل حضارة تمر بثلاث مراحل متتابعة في المسار الفكري.

- المرحلة ما قبل الكلاسيكية: التي تهيمن فيها المعتقدات الدينية.

- المرحلة الكلاسيكية حيث تنفصل الفلسفة عن الخطاب الديني.

- المرحلة ما بعد الكلاسيكية التي يهيمن فيها العلم الصوري التجريبي على الحقل الثقافي.

وإذا كان يحسب لسيتوت خروجَه من المقاربة المركزية اليونانية الغربية في تصور الفلسفة وتاريخها، فإنه ظل سجين الرؤية الوضعية التاريخانية التي تفصل جذرياً بين الدين والفلسفة والعلم حتى ولو كانت جذور هذه التشكيلات الثقافية مشتركة. إن هذه الرؤية تنبع من المركزية الثقافية التي ينتقدها لكونها تعتبر الحالة الوضعية خط اكتمال المسار الحضاري، وترى في الفلسفة خط القطيعة مع الدين، في حين أن الأمر هنا يتعلق فقط بالحضارة الغربية وليس بثقافات كونية أخرى يقترن فيها المقدس بالمفهوم والأنساق الرياضية الطبيعية.

ولنكتفِ هنا بالإشارة إلى أعمال مروان راشد التي بينت أن مسار الفلسفة في التاريخ الإسلامي تقاطع مع المباحث الكلامية والممارسات العلمية التجريبية. لم تكن هذه العناصر الثلاثة متنافرة أو متعارضة، بل إن الحركة الفلسفية الحقيقية تمت من داخل الحوار الكثيف المتواصل مع الفكر الديني، بما ولد الإشكالات الخاصة بالفلسفة الإسلامية الوسيطة، سواء من داخل علم الكلام (علم الكلام الفلسفي الذي تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته)، أو من داخل الفلسفة (الفلسفة الإلهية لدى ابن سينا وفلسفة الإشراق اللاحقة). كما أن نظريات اللغة والكلام في التقليد الإسلامي كانت وثيقة الصلة بالفكر الرياضي والعلمي (مثل ارتباط نظرية الجوهر الفرد في الطبيعيات أو الأحوال البهشمية بالجبر ونظريات الحركة والضوء).

بل إن مناهج كتابة تاريخ الفلسفة الغربية نفسها تخلت عن هذا الفصل الصارم بين الدين والفلسفة والعلم، باعتبار أن الأنساق الفلسفية الكبرى قديماً وحديثاً كانت في أغلبها صياغات برهانية لمضامين عقدية أو لاهوتية، كما أن حركة العلم تسبق عادة المقاربات الفلسفية، إلى حد أن دومنيك ديزانتي يقول إن كل فلسفة تستبطن علوم عصرها، وكل تحول كبير في النظر الفلسفي تم من داخل الثورات العلمية الكبرى.

وبقي السؤال التقليدي مطروحاً: هل تشكل تفكير فلسفي حقيقي خارج المسار اليوناني- العربي - الأوروبي عبر نصوص الحكمة والتأمل والتفكير الأخلاقي التي لا تخلو منها ثقافة إنسانية كبرى، أم أن الفلسفة كما كان يقول هايدغر تتحدث بلغة الوجود وتعتمد المفهوم والبرهان أداةً مميزة؟

سؤال نعود إليه لاحقاً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 ديسمبر 2023

 

في القرن التاسع عشر عندما كان العثمانيون والعرب يريدون التقدم ويلتمسون سبيله كان الحديث عن أوروبا باعتبارها النموذج المبتغى من الحداثيين والإصلاحيين. وإنما كانت مشكلة المشاكل في هذا الوعي ذاته أنّ أوروبا كانت قارة الإغارة والاستعمار. وما أمكن الوصول إلى بعض التجاوز للمشكل إلاّ عندما ظهرت الحركات الاستقلالية التي تريد إخراج الأوروبيين من الديار بالقيم المستعارة من أوروبا نفسها! أمّا مصطلح أو مفهوم الغرب السياسي والحضاري فبدأ شيوعه في القرن العشرين عندما تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ أوروبا مرتين في الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945). وقد استند هذا الدعم إلى الهويتين النسبية والحضارية. فالأميركيون والكنديون والأوستراليون من أصولٍ أوروبية محفوظة ومراعاة وإن خاضوا صراعات ونزاعات للاستقلال السيادي والسياسي عن تلك الأصول. وعلى كثرة النقاشات في علاقة الأصل بالفرع الذي صار أهمَّ وأقوى بكثير؛ فإنّ استتباب المصطلح (=الغرب) بعد الحرب الثانية إلى جانب اعتبار الأصول، علته الضرورات الاستراتيجية حيث ما عادت أوروبا قادرة بمجموعها على الوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، كما لم تستطع من قبل الصمود في وجه ألمانيا النازية. رمسفيلد الوزير البارز في إدارة بوش الابن، ثم دونالد ترمب الرئيس الأميركي السابق سمّيا أوروبا القارة العجوز وهما يقصدان عدم القدرة على الدفاع عن النفس والحاجة إلى أميركا (الحلف الأطلسي) في ذلك، وفي الوقت نفسه يتجرأ بعض الأوروبيين على الخروج على إرادة الولايات المتحدة في مسألة مثل الحرب على العراق، ومثل بعض المواقف المتمايزة كما في النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني أو قضية الشرق الأوسط!.

قبل أربعة أشهر صدر للبروفسور ماك سويني كتاب نقدي عنوانه «الغرب - تاريخ الفكرة وتطوراتها». وفي الكتاب نقد كبير للتمييز الذي يمارسه «الغرب» تجاه الحضارات الأُخرى منذ عصورٍ وحتى اليوم. فحتى عندما كانت أوروبا مسيحية كانت تعتبر نفسها مميَّزةً دينياً وإثنياً على الصينيين والهنود والمسلمين. وفضلاً على أن كل حضارة تعتبر نفسها مميزة؛ فإنّ الحديث قبل الأزمنة الحديثة كان يدور حول «أوروبا» في الغالب وليس حول «الغرب». أما أوروبا باعتبارها «هوية» مميزة فقد بدأ التفكير فيها في زمن النهضة بعد القرن السادس عشر، والارتباط بالتراثين اليوناني والروماني. ويلفت المؤرخون للدولة القومية إلى أنّ فكرة أوروبا حتى باعتبارها «قومية» لقيت دفعاً مع حركة الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن التاسع عشر وقد تطوع أوروبيون من مختلف البلدان (نموذج اللورد بايرون!) إصغاءً لنداءات الوحدة الأوروبية والهوية الأوروبية الواحدة والمستمرة منذ حضارة الإغريق!.

مسألة «الغرب» مختلفة، وتكونت في القرن العشرين، والعامل الرئيسي فيها الولايات المتحدة، وقد بدأت قرابية واستراتيجية ثم صارت في الحرب الباردة حضارية ومباراة في «التفوق الأخلاقي» على ما وراء الستار الحديدي بالحريات وبالديمقراطية وحتى بالنجاح الرأسمالي! ولا يزال الأمر يتطور حتى سقط الاتحاد السوفياتي - كما سقطت أسوار أريحا في العهد القديم -، وطوّر هنتنغتون فكرة الحضارة اليهودية - المسيحية التي تتبارى معها حضارات أخرى لن تلبث أن تنضمّ إليها حتى في القيم الحضارية باستثناء الإسلام الذي يملك تخوماً منبعةً مع الحضارة الغالبة مغمسةً بالدم!.

صورة «الغرب» المعاصر رغم تردّي الصورة في اصطدامها بالواقع، تلتقي مع الصورة الأوروبية عن الذات في ما بين زمان النهضة والأنوار وزمان الاستعمار. وكتاب سويني يذهب إلى أنّ الصورة متضمنة في نظام الفكر الأوروبي والغربي حتى اليوم. وصحيح أن الكاتب الألماني شتيفان فايدنر في كتابه «ما وراء الغرب»، يعالج مسألة التفوق والتمييز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ لكنه يرى معالم باقية لذلك ظهرت حتى في الحرب الروسية - الأوكرانية!.

وما عدنا في حاجةٍ إلى تلمُّس معالم أو مضامين مستبطنة بعد الحرب بين إسرائيل و«حماس»؛ فقد ظهر ذلك بأجلى وضوح ولثلاث جهات: الاستثناء لإسرائيل واليهود باعتبارهم أقلية مهددة بالفناء أو الإفناء من أعداء السامية - والحضارة اليهودية - المسيحية التي ينبغي حفظ عاملها الأول - وحضارة التحرر والنضال والاستنارة والتي قادها اليهود ضد النازية وفي المدارس النقدية كما بدا في بيان يورغن هابرماس الفيلسوف الألماني البارز. وصحيح أنّ كثيرين غربيين من أنصار إسرائيل يبدأون أحاديثهم بمقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ لكنهم ما يلبثون أن يقولوا إنهم يهود (بلينكن) أو صهاينة (الرئيس بايدن). وما قالت وزيرة خارجية ألمانيا في حديثٍ مع «العربية» إنها يهودية أو صهيونية، لكنها ما أنكرت أنّ إسرائيل استثناء وأن مدنييها هم بمعنًى من المعاني أغلى من مدنيي غزة وأطفالها. بيد أنّ الإعلاميين الدوليين والعاملين في المؤسسات الإنسانية العالمية بدوا مروَّعين أكثر بسبب الفيتو الأميركي على المشروع العربي في مجلس الأمن والذي يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية!.

غوتيريش الأمين العام للأُمم المتحدة معني بوحدة المعايير في مجلس الأمن وفي القانون الدولي. وعندما حاول أحد الإعلاميين أن يلفت انتباهه إلى أنّ «حماس» هي التي بدأت الحرب، أدان غوتيريش ذلك بشدة وطالب «حماس» بإطلاق سراح المحتجزين. لكنه تابع قائلاً: لا يجوز التوقف عند هذا التصريح ضد هجوم «حماس»، بل لا بد من النظر في أحوال المدنيين بغزة في الشهرين الأخيرين، حيث تُزالُ كل آثار الحضارة وإنسانية الإنسان.

مسألة: «الحضارة» وهي عارضة في إجابة غوتيريش، تعيدنا إلى «الغرب» ومفاهيمه الحضارية والإنسانية والتي صارت قوانين نافذة في ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان. لا يقبل غوتيريش ولا رئيس «الأونروا» ولا رئيس الصليب الأحمر ازدواجية المعايير. أما السياسيون «الغربيون» فلا يعتبرون هذه القوانين والتنظيمات ساريةً على قدم المساواة، وفي حسبانهم أنّ هذه القوانين نافذة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وشعبها، لكنْ لا يصح إنفاذها لدى الأطراف الأُخرى المتصارعة مع الكيان المحتلّ لأنهم لا ينتمون إلى الحضارة اليهودية - المسيحية أو حضارة الأمل والتحرر والتنوير. ولا يحتاج الأمر إلى تخمينٍ كثيرٍ فالاختلاف هنا في الحقيقة هو اختلافٌ في «القيمة الإنسانية» التي يتشارك فيها الغربيون مع شعب إسرائيل مهما احتلّ ومهما مارس، ولا يتشارك فيها مع الآخرين حتى لو كانوا أطفالاً لا يعرفون معنىً للنزاع كله.

حضارة الغرب شأنها في ذلك شأن حضارة أوروبا من قبل تبدو مقاييسها الآن ذاتية وليست عالمية أو إنسانية!

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 01 جمادي الآخر 1445 هـ - 15 ديسمبر 2023 م

 

صراعات الناس لا سيّما الحضاريّة منها لم تنبعث من الخواء

في أغلب الحروب التي أدمت وعيَ البشريّة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين يدّعي المتحاربون أنّهم يحاربون من أجل أسمى القضايا وأشرف القيَم. أشدُّ الحجج تأثيراً تلك التي تقترن بالهويّة الجماعيّة، وفي طليعتها صونُ الأرض، وحمايةُ العرض، والدفاعُ عن وجود الجماعة، والذودُ عن الدِّين. أمّا الحجج الأضعف فتلك التي تتعلّق بشرعيّة المصالح، وضرورات التوسّع، ومقتضيات الازدهار. ليس غريباً عن وضعيّتنا البشريّة الاقتتالُ في سبيل إعلاء الذات الجماعيّة، سواء على مستوى القضايا المقترنة بالهويّة الجماعيّة، أو على مستوى المسائل المرتبطة بشرعيّة المصالح. غير أنّ السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في مثل الأوضاع المأسَويّة هذه ينبثق من ضرورة التفكّر الهادئ في مسألة العنف: هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف تسويغاً فلسفيّاً يجعلنا نرضى به سبيلاً وحيداً إلى فضّ الخلافات ومعالجة الاختلالات وتقويم الاعوجاجات وتهذيب أهواء النفس الغضبيّة الفرديّة والجماعيّة؟

تقاتل الناسُ في القديم من الأزمنة، وما برحوا يتقاتلون حتّى اليوم، وفي ظنّهم أنّ الاحتراب السبيلُ الوحيدُ الذي يُنقذ الكرامة الإنسانيّة ويفرض العدالة الكونيّة فرضاً مطلقاً. بيد أنّنا ندرك جميعاً في قرارة أنفسنا أنّ العنف لا يولّد سوى العنف. إن بعض الفلاسفة، وفي طليعتهم الفيلسوف الإغريقيّ هيراقليطُس الأفسُسيّ (القرن السادس قبل المسيح) عاينوا الاحترابيّة (polemos) في جميع مظاهر الحياة. فتصوّروا الوجودَ كلَّه مفطوراً على التصارع، وعاينوا في التناقض المضطرم انبعاثاً جديداً وبركةً كونيّةً تُعزّز فينا النموّ والابتكار والازدهار. كذلك سار على هذا النهج فلاسفةٌ معاصرون من أبرزهم هيغل (1770-1831) الذي جدل الواقعَ كلَّه جدلاً تشابكيّاً حيويّاً، فتَصوّر الكائنات كلَّها في تقابلٍ وتعارضٍ وتواجهٍ يُفضي إلى استيلاد أعظم الأمور فرادةً وتألّقاً وسموّاً.

لا أعتقد أنّ العنف الذي تناوله الفلاسفة على هذا النحو يشبه العنف الذي يرتكبه أهلُ الأرض حين يتقاتلون تقاتلَ الإفناء العبثيّ المقيت. بين عنف التناقض الخلّاق وعنف الاحتراب المهلِك بونٌ شاسعٌ أو مسافةٌ ضوئيّةٌ لا يجوز الاستخفاف بها. ذلك أنّ الاختلاف الشرعيّ بين الكائنات الإنسانيّة قد يُفضي إلى بعضٍ من التكامليّة المثمِرة. أمّا الخلافات الجسيمة التي تنبثق من تشنّجات الهويّة الجماعيّة وتضارب المصالح المنفعيّة، فتعيث في الأرض فساداً وإهلاكاً. لذلك آن الأوان لكي نتدبّر مظاهر العنف الاحترابيّ هذا تدبّراً عاقلاً يتيح لنا أن نستدلّ على مناهجَ أخرى من معالجة الخلافات الحادّة التي تنجم عن الواقع الجيوثقافيّ والجيوسياسيّ والجيواقتصاديّ الراهن.

لن أدخل في متاهات التنظير الآيديولوجيّ الذي يرسم خريطة الأرض رسماً استبداديّاً يعزّز لكلّ ذاتٍ جماعيّةٍ منعتَها وحقوقَها ومصالحَها الخاصّة، ويحرم الذات الجماعيّة الأخرى من أدنى مقوِّمات العيش الكريم. أصابتنا مثل هذه المحَن في القديم من الزمان، وما برحت تُصيبنا اليوم في جميع بقاع الأرض. قد يكون الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ من أخطر الأدلّة على انعدام سبيل المباحثة العقلانيّة الهادئة واستفحال النهج العنفيّ الإباديّ. ولكن إذا نظرنا في مسار الصراعات العالميّة، تَبيَّن لنا أنّ العنف غالباً ما يسبق التحاور والتفاوض والتسالم الرزين المبنيّ على الحكمة والعدالة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نناصر طريق الحكمة العقلانيّة قبل أن نؤيّد العنف الإهلاكيّ. حين يبلغ الظلم أشدّه في بعض الأوضاع، يُزيَّن لبعض الناس أنّ الحلّ الوحيد الاحترابُ الإفنائيُّ حتّى يخضع الظالمون، ويرتدع المعتدون، ويتوب الضالّون.

غير أنّ صراعات الناس، لا سيّما الحضاريّة منها، لم تنبعث من الخواء الزمنيّ والصفاء التاريخيّ. ثمّة أخطاء جسيمة وارتكابات مشينة وانتهاكات مقزّزة تغاضى عنها حكماءُ المسكونة، فأفضت بنا إلى الانحرافات والمظالم والأوبئة الأخلاقيّة المستشرية. إذا ثَبت أنّ الحروب لم تحلّ المشكلات العالقة، وأنّ العنف أذلَّ الناس المتحاربين إذلالاً كيانيّاً، وأنّ كلَّ صراعٍ سيُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى الاسترخاء والتهادن والتفاوض والتبادل والتسالم، ولو في حدود المقدار التفاعليّ الحضاريّ الأدنى، فلماذا يستميت الناسُ في الاقتتال العبثيّ؟ ولماذا يهيّجون النفوس من أجل معاداة الآخرين وتكفيرهم وإسقاط كرامتهم الإنسانيّة اللصيقة بماهيّتهم الأصليّة؟ ولماذا نواظب على تسويغ شرعيّتنا الاستبداديّة بواسطة تأجيج التناقض المميت وإدامة الصراع المهلك وتأبيد الحقد الحضاريّ؟

أعتصم بالاستفسارات الفلسفيّة الجذريّة هذه، وأنا على يقينٍ من أنّ الأجوبة عسيرةُ المنال، إذ إنّنا نُتقن فنَّ التقيّة والتورية والحجب والإخفاء حتّى نُظهر ما لا نُضمر، ونُعلن ما لسنا به مقتنعين. أقولها بصراحةٍ وشفافيّةٍ: ما الأفضل والأجدى والأرقى؟ أن نكافح كفاحَ المقاومة اللاعنفيّة التي تستلهم قيَم الروح الإنسانيّ السامية، على طريقة غاندي ونيلسون مانديلا وأطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيّين؟ أم أن يَفني بعضنا بعضاً على نهج الإبادة العبثيّة التي تُزهق الكيان الإنسانيّ وتُفسد الحياة وتُعدم الرجاء الحضاريّ الكونيّ؟ هل يعتقد الناسُ حقّاً أنّ الرصاصة أشدُّ وقعاً في مسار التوبة الروحيّة الإنسانيّة من وداعة الاعتصام السلميّ وعزيمة الاحتجاج الفكريّ وحكمة المقاومة الثقافيّة الصابرة؟

لستُ على البراءة الساذجة التي تجعلني أنتظر ثمارَ النهج الاعتراضيّ السلميّ منذ المظاهرة الاحتجاجيّة الشارعيّة الجماعيّة الأولى. ولكنّ خبرة الحياة علّمتنا جميعاً أنّ ضحايا الاقتتال العبثيّ يُدفنون في تربة العقم الحضاريّ، في حين أنّ شهداء المقاومة السلميّة يُزرعون زرعاً في وعي البشريّة ويُثمرون رقيّاً بهيّاً في تضاعيف الزمن الآتي. ما دام الناس سيموتون موتاً من أجل الدفاع عن قضاياهم العادلة، فلماذا الموت العبثيّ؟ ولماذا الاقتتال الإفنائيّ الذي يُفسد الحسَّ الإنسانيَّ الحضاريَّ في المعسكرَين معاً؟ إذا كان لا بدّ من الموت بسببٍ من تعنّت الظالم، فليَمت الإنسانُ شهيدَ المقاومة السلميّة التي تهيّئ للناس أرقى سبُل التسالم الكونيّ المقبِل. أمّا موتُ الاقتتال الحاقد فلا يُفضي إلّا إلى تفاقم الاحتراب الإهلاكيّ.

لا سبيل إلى الانعتاق من حروب الهويّات المتشنّجة والمصالح المتضاربة إلّا بواسطة الارتداد الكيانيّ إلى فلسفة اللاعنف التي نادى بها عقلاءُ الأرض وحكماؤها، ومنهم الفيلسوف الفرنسيّ جان-ماري مُلِر (1939-2021) الذي ناصر نهج غاندي السلميّ، وبنى نظريّةً فلسفيّةً متناسقةً متكاملةً في تأصيل اللاعنف على جميع مستويات الحياة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، وأنشأ معهد البحث في حلّ الصراعات اللاعنفيّ (Institut de recherche sur la résolution non-violente des conflits)، وشارك في إنشاء المجلس العالميّ المشرف على أوّل جامعةٍ تُعنى بتدريس اللاعنف في العالم، ومركزها الأساسيّ في لبنان. في عرفه أنّ حكمة الحضارات الإنسانيّة تختزن كنوزاً لا ثمن لها من المبادئ والقيَم والمناهج والسبُل والخطط التي نستطيع أن نستثمرها في فضِّ أعتى الخلافات الكونيّة استعصاءً على الحلّ السلميّ.

وعليه، أعتقد أنّه من واجبنا أن نبحث بحثاً هادئاً عن الطريق السلميّ اللاعنفيّ الأمثل الذي يُفضي بنا إلى التفاوض الحازم من أجل فكّ عقَد التاريخ، وشفاء الوعي الجماعيّ الشقيّ من أسقامه الآيديولوجيّة المتراكمة. في مطلق الأحوال، يبقى التسالم الودود والتفاوض المستمرّ والتعاون الصادق من أفضل السبُل التي تتيح لنا أن نتوب عن معاصينا، ونهذّب أخلاقيّاتنا، ونصيب خصمنا بالعدوى الروحيّة الصالحة، ونرتقي معاً في معارج النضج الفرديّ والجماعيّ. حتّى لو لم نحصل كلُّنا على جميع المطالب التي نَعدّها من صميم حقّنا الحضاريّ الأسمى، فإنّ التسالم الراقي الذي نختبره مع خصمنا يفعل فيه فعلَه الاختماريّ البطيء حتّى يرتدّ ارتداداً جميلاً إلى سبيل المعيّة الحضاريّة البهيّة. ليس الزمن المتباطئ بالمعثرة المانعة، إذ إنّه من الأفضل لنا أن نطوي الأيّام مقاومين مقاومةً سلميّةً في سبيل ارتداد خصمنا الظالم، عوضاً عن ضياع الزمن عينه في احترابٍ إفنائيٍّ عبثيٍّ يُفسِد فينا جوهرَ إنسانيّتنا.

***

د. مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 11 ديسمبر 2023 م ـ 27 جمادي الأول 1445 هـ

الحجاب والبرقع ما بين الديانات الثلاث

لقد ارتبط الحجاب والنِقاب في أذهان الأفراد بالدين الإسلامي، ويذهب الكثيرون إلى اعتبارهما أحد رموز التّطرف والمغالاة، ولهذا اقتُرنا بظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب خاصة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. لكن الحقائق التاريخية تكشف لنا ما يتم التعتيم عليه، وهو أن الحجاب سابقٌ للدين الإسلامي وأنه موروثٌ اجتماعي سابق للديانات التوحيدية في حدّ ذاتها، فنجده في منحوتات تعود لحضارات متعددة كالحضارة الآشورية، والأكادية، والسومرية، والهندية. لكن بالطبع دون أن نغفل اختلافه بين هاته الحضارات نظرا لاختلاف ثقافة اللباس من عصرٍ إلى عصرٍ ومن مجتمعٍ الى آخر.

ومن هنا سيفهم القارئ أن الحجاب هو موروثٌ اجتماعي مرادٌ به التمييز بين المرأة الحرة وغيرها من الغانيات والإماء، لكن السؤال المطروح هو، هل أن البُرقع أو النِقاب يُعد موروثا اجتماعيا أيضا؟

للإجابة عن هذا السؤال، نقول، إن الديانات التوحيدية الثلاث لم تخرج عن السياق الاجتماعي وأن وجوب ارتداء الحجاب هو ليس الا التزاما بالمعايير الاجتماعية لا الدينية، ولهذا سنوضح موقع الحجاب والنقاب في الأديان التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.

الحجاب والنقاب في الديانة اليهودية

يُعد الحجاب في الديانة اليهودية واجبا على النساء وقد جاء في الاصحاح 24 من سفر التكوين، وهو من أقدم الأسفار اليهودية، “أن امرأة سألت عبدا مَن هذا القادم، فقال لها سيدي، فأخذت الحجاب وتغطت”.

كما نجد في نصّاً في التلمود مفاده “يغطي الرجال رؤوسهم أحيانا ويكشفونها أحيانا أخرى، ولكن النساء يغطين رؤوسهن دائما ولا يغطي البنات الصغار رؤوسهن البتّه”، كما وردت عبارة أخرى في التلمود تأمر النساء اليهوديات بارتداء الحجاب وهي كالآتي: “على بنات إسرائيل ألا يخرجن بشعر مكشوف”، هذا بالنسبة للحجاب.

أما بخصوص النقاب أو ما يسمى البُرقع، فإنه كان منتشرا أيضا في المجتمع اليهودي باعتباره شكلا من أشكال الحجاب السائدة آنذاك وكدليل على هذا نجد في نشيد الإنشاد الرابع لسليمان النبي نصّ مفاده: “لشدة ما أنت جميلة يا حبيبتي عيناك من وراء نقابك كحمامتين”.

أما في سفر التكوين فنجد: أن امرأة اسمها ” تامار” روت أن امرأة رأت رجلا جاء لجز الغنم فنزعت عنها ثياب ترملها و تبرقعت وتلفعت”، وهنا نستنتج أن الحجاب والنقاب في الديانة اليهودية كانا مفروضين على اليهوديات آنذاك وهناك من يعتبره من العادات القَبلية، أما اليوم فلا نجده إلا عند بعض الطوائف اليهودية المتشددة كجماعة “الحريديم” التي يطلق عليها “طالبان اليهود”، حيث تفرض هذه الجماعة على نسائهم ارتداء ” “الفرومكا” باعتباره نقاب اليهود العائد، كما أصدرت هذه الجماعة فتوى بمنع استعمال الهواتف أو بيع الألبسة القصيرة، أو تجوّل النساء عاريات الرأس، وقد أثارت هذه الفتوى الجدل بين من يساندها ويعتبر احتشام المرأة اليهودية من أساسيات التشريع اليهودي وبين من يعارضها ويعتبرها ضربا من ضروب الرجعية والعودة إلى المنطق القَبلي العشائري.

الحجاب في المسيحية

أما بالنسبة للحجاب في المسيحية فقد ورد ذكره ستّ مرات في الإنجيل، وهو لم يرد على لسان السيد المسيح لذلك لا يعتبره المسيحيون إلزاما من الناحية الدينية، بينما نجد في رسائل “بولس الرسول” عكس هذا، فقد وصف عدم تغطية المرأة لرأسها بالأمر المشين، كما ذكر في الإصحاح الحادي عشر في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، ” احكموا في أنفسكم: هل يليق بالمرأة أن تصلّي إلى الله وهي غير مغطاة”.

ولا يرى المسيحيون حرجا في عدم ارتداء النساء الحجاب لأن ذكره اقترن بوجوب ارتدائه في الصلاة وليس الحياة اليومية، بينما يعتبرونه إلزاما للبتوليات اللواتي يكرّسن أنفسهن لخدمة الكنيسة والصلاة اقتداء بالسيدة العذراء.

لكن ما لاحظناه وجود اختلاف بين المدارس الدينية المسيحية وهذا الاختلاف حالة طبيعية نظرا لتعدّد الطوائف والمراجع الدينية، ناهيك أيضا عن اختلاف التأويل فنجد مثلا: في كتاب الدسقولية، وهو يُعد أحد أهم المراجع التعبّدية والتشريعية والسلوكية للكنائس الأولى وللكنيستَين الأرثوذكسية المصرية، والأثيوبية أو الحبشية كما يطلق عليها، ويضم هذا الكتاب تعاليم رُسل المسيح الاثني عشر، وقد تضمّن من جملة الوصايا إلزام المرأة المسيحية الحجاب فقد ورد فيه القول التالي: “لا تتشبهن بهؤلاء النساء أيتها المسيحيات إذا أردتن أن تكن مؤمنات. اهتمي بزوجك لترضيه وحده. وإذا مشيت في الطريق فغطي رأسك بردائك فإنك إذا تغطيت بعفة تُصانين عن نظر الأشرار”.

وفي قول آخر نجد: “كون مشيكِ ووجهك ينظر إلى أسفل، وأنت مطرقة مغطاة من كلّ ناحية”، وهي نفس التعاليم التي وردت في المراسيم الرسولية، والمجموع الصفوي.

وهي بدورها من التعاليم الأرثوذكسية وهذا يمكن أن يفسّر سبب اختلاف حجاب راهبات الأرثوذكس عن راهبات باقي الطوائف، باعتبار أن أتباع الأرثوذكسية أكثر التزاما بتعاليم المسيحية وأكثر تشددا في تطبيقها، فنجد أن حجاب راهبات هذه الطائفة يتميز باللون الأسود واتساع الملابس تخاله لباس نساء الشيعة لو لا وجود الصليب على صدور الراهبات.

الحجاب في الإسلام

يعتبر العديد من المسلمين الحجاب فرض على النساء بموجب الآية 31 من سورة النور: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾، لكن يذهب العديد أيضا إلى اعتبار أن الحجاب حتى وإن كان فرض فإن النّص الديني لم يعطِ شكلا واضحا له لأن الغرض من الآية الكريمة هو الاحتشام وتغطية الجسد بما يتماشى مع ثقافة اللباس في ذاك العصر، كما يرى البعض أن تحريم الألوان أو فرض الملابس الفضفاضة هو اجتهاد من العلماء.

لكن مع بداية الحداثة وانتشارها في العالم الإسلامي أصبح ارتداء الحجاب مؤشّراً لتخلّف المرأة، فعزفت النساء في أغلب المجتمعات الإسلامية إلى نزع الحجاب تماشيا مع الثقافة الجديدة التي سادت مجتمعاتهن، لكن مع أواخر سبعينات القرن الماضي ومع القيام الدولة الإيرانية بتوجهها المذهبي أصبح الحجاب فرضا ورمزاً للأصالة الدينية، وتحوّل في مرحلة متقدمة خاصة مع جماعات الإسلام السياسي سواء كان في تركيا أو في تونس أو في غيرها من المجتمعات التي برزت فيها حركات الإسلام السياسي رمزا للانتماء السياسي الجَمعي، كما أصبح الحجاب في عصرنا الحالي رمزا يبرز التمايز العرقي من خلال طريقة ارتداء الحجاب أو حتى شكله.

أما بالنسبة للنقاب فهو يُعد رمزا للإسلاموفوبيا سواء كان في المجتمعات الغربية، أو بعض المجتمعات التي لم تألف وجوده كثقافة للباس وارتبط سياق ظهوره بأسباب سياسية كما حصل في تونس، فالعديد من التونسيين رغم انفتاحهم وإيمانهم القطعي بحرية اللباس إلا أنه في مرحلة ما بعد الثورة واعتبروا النقاب وسيلة لتخفّي الإرهابيين كما حدث حين هرب الإرهابي “أبو عياض” من جامع الفتح في تونس، أو حينما فجرت منقّبة نفسها قرب دورية للشرطة في وسط العاصمة تونس، لذلك اعتبره التونسيون من المعيقات الأمنية والتواصلية في نسيجه الاجتماعي.

وأخيرا لا يمكن أن نربط الحجاب بالإسلام أو بغيره من الديانات نظرا لأنه اجتماعي بالأساس والأديان بصفة عامة لم تخرج عن السياق الثقافي للمجتمعات التي نشأت فيها، ويبقى شكل اللباس وتوارثه من صنع الإنسان في إطار تأسيسه لخصوصيته الثقافية.

***

صابرين الجلاصي

أستاذة وباحثة تونسية في علم اجتماع الأديان والانثروبولوجيا الدينية

عن موقع الحل، يوم الجمعة, 8 ديسمبر 2023

 

في المقالة الماضية عرجتُ على وجهة نظر الفيلسوف المعمّر إدغار موران حول «العقل المحطّم»، وبما أنه فيلسوف لم يوقفه العمر عن المثابرة في متابعة الأحداث، فإنه أدلى برأيه كغيره من الفلاسفة الآخرين في أحداث غزة مع إسرائيل الدائرة الآن.

قبل ذلك أبدأ بمادة نُشِرت قبل أيام في «بي بي سي» لخَّصت آراء 4 فلاسفة من تحرير جوي سليم حول الحرب في غزة نشرها موقع الوكالة.

البداية بموقف الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر، إذ تصر على ضرورة أخذ تعبير «إبادة جماعية» على محمل الجد، لأنه يصف ما يحدث بالفعل؛ فالهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضاً السكّان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون للقصف والتهجير، وتُعدّ بتلر واحدة من عشرات الكتّاب والفنانين اليهود الأميركيين الذين وقّعوا رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن يدعون فيها إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وهي أيضاً عضو في المجلس الاستشاري لمنظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام». وكانت بتلر نشرت مقالاً في 13 أكتوبر (تشرين الأول) في «لوس أنجليس ريفيو بوكس»، تحدثت فيه عن أهمية وضع سياق تاريخي للأحداث الأخيرة، قاصدة بذلك هجمات «حماس» في السابع من أكتوبر. وقالت مؤلفة كتاب «قوة اللاعنف» إنه «لفهم كيفية وقوع حدث ما، أو ما هو معناه، يتعين علينا أن نتعلم من التاريخ. هذا يعني أنه يتعيّن علينا توسيع رؤيتنا إلى ما وراء اللحظة الحالية المروعة، من دون إنكار رعبها، في الوقت ذاته الذي نرفض فيه السماح لهذا الرعب بأن يختزل كل الرعب الموجود»، وأضافت بتلر أن «وسائل الإعلام المعاصرة، في معظمها، لا تفصّل الفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني لعقود من الزمن في شكل تفجيرات وهجمات تعسفية واعتقالات وقتل».

أما الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك؛ فقد تحدث بحفل افتتاح الدورة الخامسة والسبعين من «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب»، واستغرب من الحضور أنه «في اللحظة التي يذكر فيها المرء الحاجة إلى تحليل الخلفية المعقدة للوضع، فإنه يُتهم، كقاعدة عامة، بدعم أو تبرير إرهاب (حماس)»، ومنذ بدء هجوم «طوفان الأقصى»، شبَّه الفيلسوف السلوفيني، المعروف بوصفه واحداً من أشهر المفكّرين المعاصرين الأحياء وأكثرهم تأثيراً، حركة «حماس»، باليمين الإسرائيلي الحاكم في الوقت الراهن (كل ذلك بحسب «بي بي سي»).

أما الفيلسوف الجنوب أفريقي ديفيد بيناتار، فانتقد ما سمّاه «لوم الضحية»، أي «تحميل إسرائيل مسؤولية هجمات (حماس)»، وقال إنه كان يجب «التفكير في العواقب المحتملة لعدم قيام إسرائيل بضرب حماس (أو ضربها بشكل غير كاف) رداً على المجزرة». ورأى مؤلف كتاب «الأفضل ألا نوجد إطلاقاً - الضَّرر الكامن في المجيء إلى الوجود»، أن «إسرائيل ليست مستعمرة لأي بلد ولم يتم إنشاؤها على هذا الأساس»، مضيفاً أن الإسرائيليين «لديهم روابط الأجداد مع هذه الأرض».

بينما على موقعه الإلكتروني، دوّن الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين نصّاً مقتضباً بعنوان «صمت غزة». وكتب أغامبين، الذي عُرف باهتمامه بموضوعات متنوعة تراوحت بين فلسفة اللغة وفلسفة الأخلاق والقانون والأدب: «أعلن علماء من كلّية علوم النبات في جامعة تل أبيب، بالأيام الأخيرة، أنهم سجلوا بميكروفونات خاصة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تصدرها النباتات عند قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. في غزة لا توجد ميكروفونات!».

بينما نشرت الوكالات خلاصة الرسالة التي وقَّعها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، رفقة 3 آخرين، حول «التضامن المفهوم مع إسرائيل واليهود في ألمانيا»؛ أن «هجوم (حماس) مذبحة مع النية المعلنة للقضاء على الحياة اليهودية بشكل عام». يعلق السيد ولد أباه على هذا الموقف: «ورغم تشبث هابرماس بالنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، فإنه في الحقيقة لم يسعَ يوماً إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جلياً في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية».

بينما بدا موقف إدغار موران أكثر حكمة، حين كتب خلاصته عمران عبد الله: «فيما يشبه وصايا الحكماء المعمرين، يواصل عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران (1921) دق جرس إنذار الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا»، منبهاً بشكل خاص إلى مخاطر تفاقم العنف والجهل على مصير البشرية، دعا المفكر الفرنسي - صاحب كتاب «هل نسير إلى الهاوية؟» - لاتخاذ موقف و«عدم نسيان القضايا العادلة»، مشيراً إلى أنه يتخذ موقفاً يتمثل في القلق الإنساني تجاه أولئك الذين يعانون «وفي الوقت الحالي هم في غزة، أن الأمر ربما لا يكون سهلاً؛ ففي الواقع ليس الجميع ضد الحرب، وهناك أوقات يجرفنا فيها التيار، ويطلب منا أن نختار جانباً ونتخذ موقفاً. أنا أتخذ موقفاً من قلق الإنسان. إننا نعيش في عالم من عدم اليقين، حيث مصير الإنسان أمر منسيّ تماماً»، وفسر ذلك بقوله «لم تتعرض الإنسانية قط لمثل هذا القدر من المخاطر، لأنه إذا انتشرت الحرب على نطاق واسع واستُخدمت الأسلحة النووية وغيرها، فإننا لا نعرف إلى أين نتجه؟ لأي تراجع، أو لأي انحطاط. إننا بحاجة لمواجهة هذا العالم الذي يبدو فوضوياً، الفوضى تحمل في طياتها قوى التدمير والإنشاء (التكوين)».

اللافت الذي يستحق التوقف أن موران دعا إلى «عدم كراهية العدو»، حين قال: «خضتُ الحرب (العالمية الثانية) من دون كراهية للألمان. كنت أكره النازية وآيديولوجيتها، لكنني أعتقد أن المسألة الحقيقية هي عدم الاستسلام لهذه العملية الحتمية التي تؤدي إليها الفكرة الخاطئة بأننا نواجه وحوشاً دائماً، أو أناساً من الطبقة السفلية، أو حيوانات».

الخلاصة أن مواقف هؤلاء الفلاسفة بقدر ما تتناقض، وبقدر ما يختار كل من أولئك موقعه من الطرفين، فإن ما يهمنا إرباك الحدث بوصفه خارج التحديد النهائي. إنه جزء من أزمة فوضى، وجذره أن القصّة التي أسست للحرب الدموية الدائرة الآن تتعلق بتاريخ مشحون بالعداوة والتطاحن بين «حماس» وإسرائيل. إن الحدث بمعنى آخر يرمز لفشل في المقاربة المتجاوزة، وآية ذلك أن الفيلسوف المعمّر موران يفضّ الاشتباك بين كراهية العدو وحربه، ويدلل على ذلك بتجربته لا الفلسفية فحسب، وإنما التاريخية في الحرب العالمية أيضاً. إن هذه الآراء توضح مستوى تشظّي الحدث وعدم اقتصاره على الصراع على الأرض ولا باستعمال السلاح، وإنما بجوانب الصراع المضمرة الأخرى بين المتحاربين المجترّين لخصومات التاريخ.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

7 / 12 / 2023م

ليس كل مثقفي الغرب كتلة واحدة صماء بكماء عمياء

بداية دعونا نسجل الملحوظة الأساسية التالية: معظم مثقفي الغرب إن لم يكن كلهم أدانوا بشدة عملية «حماس» الترويعية التي فاجأت العالم ليلة 7 أكتوبر (تشرين الأول). ومعظم مثقفي العرب (مع بعض الاستثناءات القليلة) أشادوا بها وصفقوا لها وعدّوها نصراً مظفراً. وهنا يكمن انقسام حاد بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين من أميركان وأوروبيين. ولا أعرف كيف يمكن ردم الهوة بيننا وبينهم هذا إذا كان يمكن ردمها يوماً ما... بلى أعرف. أطمئنكم يمكن ردمها. والدليل على هذا ذلك البيان الرائع الذي أصدره أكثر من 100 مثقف أميركي وأوروبي رد فعل على بيان هابرماس وجماعته. فقد عدّوا بيانه متحيزاً أكثر من اللزوم لصالح إسرائيل. وهذا يعني أنه ليس كل مثقفي الغرب كتلة واحدة صماء، بكماء، عمياء. هناك تيارات ونقاشات خلافية ديمقراطية عديدة بينهم. هناك توجهات مختلفة ومشارب شتى. وبما أن حرية التعبير والتفكير متوافرة في بلدانهم فإنهم يستطيعون التعبير عن آرائهم دون أي خوف من التخوين أو التكفير أو حتى الاعتداءات الجسدية. وهذه نعمة كبيرة يتمتعون بها وتحسدهم عليها جميع شعوب الأرض. من المعلوم أن بيان هابرماس وجماعته صدر بتاريخ 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وأما البيان الذي رد عليه فقد صدر بعد عشرة أيام تقريباً، بالتحديد يوم 22 نوفمبر 2023. ماذا قال هؤلاء المثقفون في بيان الرد المهم والمحرج لفيلسوف الألمان الأكبر؟ قالوا ما معناه: إننا متفقون مع هابرماس على إدانة عملية القتل والخطف التي أصابت المدنيين الإسرائيليين من طرف «حماس» يوم 7 أكتوبر. ومتفقون معه كذلك على ضرورة حماية الحياة اليهودية في ألمانيا من موجة معاداة السامية التي أخذت تتصاعد مؤخراً. ونحن متفقون أيضاً على ضرورة حماية الكرامة الإنسانية أو البشرية للجميع باعتبار ذلك أحد المبادئ المركزية والأساسية الأخلاقية الديمقراطية التي تأسست عليها الجمهورية الاتحادية الألمانية. كل هذا نحن متفقون معه عليه.

ولكن ما يقلقنا في «إعلان مبادئ التضامن» الذي أصدره هابرماس وجماعته هو أنه حصر هذا التضامن (ظاهرياً على الأقل) بالإسرائيليين فقط. فالحرص على الكرامة الإنسانية التي عبر عنها البيان وبحق لا يمتد بالشكل الملائم لكي يشمل المدنيين الفلسطينيين في غزة بشكل متساوٍ مع المدنيين الإسرائيليين الذين أصابتهم واختطفتهم «حماس» في غزوتها «الإرهابية» المعروفة. لا ريب في أن بيان هابرماس مهتم بمصير الفلسطينيين، ولكن ليس بالشكل الكافي. فهو فيلسوف تنويري ولا يستطيع أن يخرج على مبادئ التنوير أكثر مما يجب. ينبغي على جميع المثقفين الاعتراف بأن فلسطينيي غزة معرضون الآن للموت والدمار.

ثم يردف البيان المضاد لبيان هابرماس قائلاً:

التضامن في نظرنا يعني أن مبدأ الكرامة البشرية واحد وينبغي أن يشمل الجميع أي سواء كانوا يهوداً أو عرباً، إسرائيليين أو فلسطينيين، لا فرق. كلهم بشر وبالتالي فكلهم متساوون في الحقوق والكرامة الإنسانية. وهذا مبدأ أساسي نصت عليه فلسفة الأنوار التي ترفض بشكل قاطع التمييزات الطائفية والعنصرية بين البشر. وهي الفلسفة التي يعتنقها هابرماس ذاته ويدافع عنها باستمرار. وهذا المبدأ الإنساني يجبرنا على التضامن مع جميع السكان المدنيين الذين تسقط على رأسهم غصباً عنهم كارثة الحروب وويلاتها عندما تندلع فجأة.

ثم يردف البيان قائلاً:

بيان هابرماس وجماعته ينص على ثلاثة مبادئ ينبغي أن تتحكم بالحروب: الأول هو مبدأ الرد بالمثل. وهذا يعني ألا يكون الرد فاحشاً جداً يتجاوز العدوان الأصلي بما لا يقاس. ولكننا نلاحظ أن رد إسرائيل الهمجي تجاوز فعلة «حماس» الهمجية أيضاً بأضعاف مضاعفة. والثاني هو تجنب الخسائر المدنية بقدر الإمكان. لكننا نلاحظ أن الكوارث المدنية التي نزلت على رأس أهل غزة كانت مرعبة بل وأكثر من مرعبة. والثالث هو أن يكون شن الحرب بغية تحقيق السلام في نهاية المطاف، وليس الحرب من أجل الحرب، أو القتل من أجل القتل، أو الانتقام من أجل الانتقام. ونحن متفقون معه على ذلك. ولكن ما يقلقنا هو أنه لا يلح بما فيه الكفاية على ضرورة احترام القانون الدولي الذي يمنع ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كالعقوبات الجماعية وتدمير البنى التحتية المدنية: كالمدارس، والمشافي، وأماكن العبادة. غزة كلها تحولت إلى أشلاء. من يستطيع أن يشاهد التلفزيون الآن؟ من يستطيع أن يشاهد تلك الأكفان والنعوش الصغيرة والأمهات؟

أكثر من 100 مثقف أميركي وأوروبي: التضامن في نظرنا يعني أن مبدأ الكرامة البشرية واحد وينبغي أن يشمل الجميع أي سواء كانوا يهوداً أو عرباً، إسرائيليين أو فلسطينيين، لا فرق. كلهم بشر

هذه هي المناقشة التي دارت بين هابرماس ومعارضيه من المثقفين الغربيين الآخرين. وأعتقد أن ردودهم عليه كانت أقوى من ردود معظم المثقفين العرب الذين فقدوا أعصابهم وراحوا يعدمونه بجرة قلم أو يكيلون له الشتائم. على هذا النحو نرجو أن نكون قد وضحنا إشكالية هابرماس بما فيه الكفاية. لم يخن الرجل مبادئ التنوير إلى الحد الذي نتصوره. فقد حجم الحملة الإسرائيلية على غزة وفرض عليها الشروط. ولكن ليس بالشكل الكافي. لا ريب في أنه بدا ميالاً أكثر من اللزوم لصالح إسرائيل التي يخشى عليها وحدها من الإبادة. ويعتقد البعض في أوروبا أن فيلسوف الألمان يفكر على النحو التالي: المسلمون كثيرون جداً ولا أحد يستطيع إزالتهم من الوجود على عكس اليهود. من يستطيع أن يبيد ملياراً ونصف المليار شخص؟ والعرب أنفسهم كثيرون: 500 مليون شخص. وبالتالي فهم راسخون رسوخ الجبال والمنطقة كلها لهم من المحيط إلى الخليج ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ولكن اليهود قليلون جداً لا يتجاوز عددهم في العالم كله 15 مليون شخص. يضاف إلى ذلك أن هابرماس ملاحق بعقدة النازية. وبالتالي فلا يستطيع أن يكون موضوعياً ولا حيادياً تماماً، كما فعل جيل ديلوز أو مكسيم رودنسون في فرنسا مثلاً. وهذا ما يهمله المثقفون المحترمون الموقعون على البيان المذكور المعنون على النحو التالي: «الرد على بيان مبادئ التضامن لهابرماس وجماعته. نطالب بالكرامة الإنسانية للجميع». وعددهم يبلغ 107 بالضبط. ومعظمهم فلاسفة وأساتذة جامعات كبرى في أميركا وأوروبا كجامعة كولومبيا بنيويورك، وجامعة أكسفورد، وجامعة ييل... إلخ. الشيء الذي يذكر لهابرماس، الذي ينبغي أن نعترف له به هو أنه أدان العنصرية بشكل واضح وصريح في بيانه. لقد أدانها بشكل مطلق. وهذا يعني أنه لم يدن العنصرية الممارسة ضد اليهود فقط والمدعوة بمعاداة السامية. وإنما يعني كلامه ضمناً إدانة العنصرية الممارسة ضد جميع البشر الآخرين المقيمين في ألمانيا، ومن بينهم العرب والأتراك بطبيعة الحال. هابرماس لم يشرع العنصرية ضد العرب! ولا التمييز ضد المسلمين! هذا شيء لا يمكن أن يصدر عن فيلسوف تنويري كبير مثله. إنه ضد التشهير أو التشنيع بأي شخص لأسباب عنصرية أو طائفية. وكيف يمكنه ألا يكون كذلك؟ أليس هو فيلسوف التنوير الأول في هذا العصر؟ ومعلوم أن معركة التنوير الكبرى كانت ضد التمييز العنصري والطائفي بين البشر. قبل انتصار التنوير في أوروبا كانت الطائفية مشتعلة حتى داخل المسيحيين أنفسهم وليس فقط ضد الآخرين. كانت الأمور على النحو التالي: ويلٌ للبروتستانتي في البلدان الكاثوليكية، وويلٌ للكاثوليكي في البلدان البروتستانتية. أصلاً التنوير ظهر رد فعل على المجازر الطائفية التي كانت تحظى برضا ومباركة وتشجيع الأصوليين والإخوان المسيحيين. كان التكفير والتكفير المضاد في أوجه آنذاك بين المذهبين الأساسيين للمسيحية الأوروبية. وكان يشعل النفوس بالحساسيات المذهبية ويهيجهم على بعضهم البعض. هذه نقطة أساسية لا ينبغي أن تغيب عن بالنا. التنوير حسم مشكلة الطائفية في أوروبا وقضى عليها. وهذا الإنجاز العظيم هو الذي أتاح تشكيل الوحدة الوطنية المتراصة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا إلخ. التنوير قدم أكبر خدمة للشعوب الأوروبية. التنوير أنقذها من براثن الحروب الأهلية والطائفية. وهو الذي أدى إلى تفوق أوروبا على جميع شعوب الأرض. التنوير ليس كلمة مجانية تلقى هكذا في الفراغ... التنوير ليس تسلية أو مزحة. التنوير حل مشكلة حقيقية وفتح الآفاق المسدودة المستعصية. التنوير أنقذ أوروبا من براثن المفهوم الظلامي والطائفي للدين. هل هذا قليل؟ وبالتالي فلا ينبغي أن نقسو على هابرماس أكثر من اللزوم. ويرى البعض أن هابرماس يفكر على النحو التالي:

هناك طبيعة خاصة جداً لتاريخ الشعب اليهودي تميزه عن جميع شعوب الأرض. وذلك لأنه كان دائماً مهدداً بالإبادة والمجازر على مدار التاريخ. كان دائماً أقلية محتقرة ومهانة تعيش في الغيتوهات المغلقة على ذاتها سواء في البلدان الأوروبية المسيحية أو في البلدان العربية الإسلامية. لهذا السبب يتوجس هابرماس ومعظم مثقفي الغرب خيفة من «حماس»، لأنها ليست فقط حركة مقاومة وإنما هي أيضاً وبالدرجة الأولى جماعة دينية تابعة للإخوان المسلمين. وهابرماس كمعظم مثقفي الغرب يعتقدون أن هذه الحركات تريد إبادة اليهود لأسباب دينية. هناك فتاوى لاهوتية عديدة تكفر اليهود وتبيح دمهم. لهذا السبب أيضاً لم يستطع هابرماس التضامن مع الشعب الفلسطيني بالشكل الذي كان مرجواً ومطلوباً من فيلسوف كبير مثله. وينبغي الاعتراف بأن قضية فلسطين التي هي قضية حق وعدل، وظلم وقهر، دفعت ثمناً باهظاً لكل التفجيرات التي ارتكبها الأصوليون منذ ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية الكبرى حتى اليوم.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 ديسمبر 2023 م ـ 22 جمادي الأول 1445 هـ

كان الفيلسوف المسيحي غوتفريد فيلهلم فون لايبنتز (1646 - 1716) أكثر ارتباطاً بالفلاسفة الشكوكيين من أي فيلسوف آخر في نهاية القرن السابع عشر. ربطته علاقة شخصية بالثلاثة البارزين في ذلك الوقت؛ الأب سيمون فوشيه، والأسقف بيير دانييل هوييه، وبيير بايل. وككل الفلاسفة منذ أيام سقراط وأفلاطون، نشر كثيراً من كتبه المشهورة بوصفها إجابات عن أسئلة هؤلاء الشكوكيين أو للتعامل مع المشكلات التي أثاروها. وربما أشهر بيان عرض فيه لايبنتز آراءه الميتافيزيقية هي رسالة أرسلها في 1695 إلى فوشيه سماها «النظام الجديد».

لا شك أبداً في أن لايبنتز لم يكن شكوكياً، ومع ذلك فقد عدّه المشككون في عصره صديقاً أقرب من كل الميتافيزيقيين في تلك الفترة. وبينما هاجم فوشيه وهوييه وبايل الديكارتية وآراء مالبرانش وسبينوزا ولوك، فإنهم تعاملوا مع ميتافيزيقا لايبنتز بدرجة من الاحترام وضبط النفس لم تحدث قط في تعامل الشكوكيين مع رؤى الفلاسفة الدوغمائيين، وربما يرجع هذا إلى أسلوبه الدبلوماسي، وهو الدبلوماسي الكبير، في التعامل مع الناس، ومعهم خصوصاً.

وفي حين تعاهد آرنولد ومالبرانش وبيركلي على محاولة تدمير خطر الشكوكيين الذي يطارد الفلسفة الأوروبية، كان لايبنتز شديد الهدوء في معالجته التحديات التي تواجه العقلانية. وفي حين كان كثيرون لا يرون في حجج الشكوكيين سوى أنها خطرة للغاية، أو أنها ستقلب كل اليقين في المعرفة الطبيعية والموحى بها، وأنهم لم يستطيعوا رؤية الشكوكيين إلا بوصفهم شخصيات شيطانية عازمة على تدمير كل الثقة في النظرية المسيحية، وجد لايبنتز قيمة كبيرة وإلهاماً نافعاً في شكوك أصدقائه، وكان يرى فيهم أفضل نقاد فلسفته، وأن شكوكهم لن تتسبب في تدمير العالم العقلاني والديني، بل يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف أعمق المبادئ الأساسية للفلسفة والدين.

في ذلك الزمن، تعرض الشكوكيون للهجوم من جميع الأطراف، بوصفهم شياطين لا يستحقون المناصب التي شغلوها، واضطهد الكالفينيون الفرنسيون بايل في هولندا، وحاول المتعصبون مثل آرنولد فضح ما عدّوه الخطر الخبيث في دعاوى هوييه. في مقابل هذا، كان لايبنتز يعاملهم كأعز أصدقائه، وعندما أدان قاضي روتردام بايل وعزله من منصبه، سعى لايبنتز إلى إيجاد وظيفة جديدة له في ألمانيا.

تعرَّف لايبنتز على مشكلات الشكوكية مبكراً، فقد كتب أحد أساتذته ونشر بحثاً يرد به على فرنشيسكو سانشيز، كما أنه نشر هجوم سانشيز الشكوكي على الرياضيات. ويبدو أن لايبنتز قد أخذ بعض هذه النقاط الشكوكية على محمل الجد واستمر في مناقشتها مع علماء الرياضيات طوال حياته. وقد انغمس حقاً في عالم الشكوكيين عندما ذهب إلى باريس في مهمة دبلوماسية ابتداء من عام 1672.

لم تثر صداقة لايبنتز مع هوييه أي جدل، فكل واحد منهما كان يكنّ احتراماً كبيراً للآخر، ويفرح بموافقة الآخر له على آرائه. يبدو أن لايبنتز قد عدّ هوييه رجلاً يتمتع بسعة الاطلاع الهائلة في المسائل المتعلقة بتاريخ الدين. كما أنه يثمن بشدة نقد صديقه للديكارتية، ولذا دعمه بأدلة جديدة لاستخدامها في طبعة جديدة من كتابه «الرقابة على الديكارتية»، فقد كان ينظر لمناوشاته مع الديكارتية بوصفها عملاً مكملاً لجهد هوييه. ثم عاد ونشر بصورة مستقلة في تسعينات القرن السابع عشر بعضاً من هجماته على فلسفة ديكارت بناءً على اقتراح هوييه وتشجيعه. وبعد أن تقاعد هوييه وطواه النسيان وأهمل ذكره بقي لايبنتز يتذكره ويجلّه.

ومع كل هذا، كان بايل هو المؤثر الأعمق في لايبنتز، ومعه تبادل الأفكار الأكثر حيوية وأهمية عبر الرسائل، مع أن هناك شكاً كبيراً في أنهما قد التقيا فعلاً. ويبدو أن أول اتصال بينهما كان عام 1687، عندما أرسل إلى بايل رسالة حول كتاب للأخير كان بعنوان «أخبار جمهورية الرسائل» ويظهر من المراسلات أن لايبنتز كان حريصاً على أن يسمع من بايل رأيه في مشاكساته ضد الديكارتية، بغرض تطويرها.

مع صدور قاموس بايل بدأت مرحلة جديدة في علاقة الرجلين، فبعد سنوات من محاولة إقناع فلاسفة من مثل مالبرانش ولوك بالنظر في فلسفته الجديدة، وجد لايبنتز الاعتراف والتأييد من قبل بايل الذي عدّه واحداً من أبرز العلماء الميتافيزيقيين في ذلك العصر. وفي مقالة بايل عن أرواح الحيوانات كتب يقول: «ثمة صعوبات تنطوي عليها فرضية لايبنتز، إلا إنها تشير إلى مدى عمق عبقريته». لم يمنعه التقدير من انتقاد نظرية لايبنتز، كما أعلن أنه لم يكن جاهزاً بعد لتفضيل نظرية لايبنتز على نظرية مالبرانش؛ لأنه كان يريد أن ينتظر حتى يُحكِم لايبنتز عمله. فكتب لايبنتز ليجيب عن النقاط التي انتقده بايل بسببها، ثم جلس ينتظر الرد بفارغ الصبر، وكان بايل سعيداً بأن اعتراضاته قد دفعت لايبنتز إلى تطوير آرائه، وكتب معلقاً: «أنا الآن أعتبر هذه النظرية الجديدة فتحاً مهماً سيكون من شأنه توسيع حدود الفلسفة». هذا تعليق مهم يدل على وعي هؤلاء العظماء بدور الشكوك في تطور المعرفة.

إنه لأمر يثير الدهشة حقاً حين ننظر في المناقشات بين لايبنتز والشكوكيين فنجد الحوار الراقي السلمي، بعكس النقاشات الحادة المختلفة بين رجال الدين وفلاسفة القرن السابع عشر، مثل تلك التي جرت بين ديكارت وغاسندي، أو مالبرانش وآرنولد. لقد بذل لايبنتز وأصدقاؤه الشكوكيون قصارى جهدهم ليكونوا لطفاء، بعضهم مع بعض، وليقدموا صورة مشرفة للحوار الحضاري الخالي تماماً من التجريح، حتى في المراسلات الثنائية. يصعب أن نتصور أن مثل هذين؛ السلام والهدوء، ومثل هذا الإعجاب المتبادل والنيات الحسنة، يمكن أن توجد في ذلك العصر، والفضل في ذلك، فيما يظهر، يعود إلى لايبنتز ونفوره من الصدام.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 4 ديسمبر 2023 م ـ 20 جمادي الأول 1445 هـ

النقطة الوحيدة التي تحسب له هو أنه كان أكبر مفكك للأصولية والظلامية

بداية دعونا نطرح السؤال التالي: كيف حوّل المثقفون الفرنسيون من أمثال فوكو وديلوز ودريدا، نيتشه، إلى مفكر يساري تقدمي؟ هذا ما يكاد يجنن جاك بوفريس ويطير عقله. ومعه الحق. نيتشه يعلن نهاراً جهاراً على المكشوف أنه ضد قيم الحداثة: كالديمقراطية، والاشتراكية، والتقدم الاجتماعي، والمساواة بين البشر، بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة. وكان مضاداً لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية 1789، والذي يعد مفخرة فرنسا عالمياً حتى الآن. لهذا السبب كان حاقداً على جان جاك روسو الذي كانت كتاباته تعد بمثابة إنجيل الثورة الفرنسية. نيتشه كان مفكراً رجعياً حقيقياً. كان مدافعاً عن النزعة الأرستقراطية الراديكالية التي لا تعترف بمبدأ المساواة بين البشر؛ هذا المبدأ الغالي على قلب جان جاك روسو ومعظم فلاسفة الأنوار. ما هي العقيدة السياسية لفريدريك نيتشه؟ إنها تتمثل فيما يلي: هناك النخبة الأرستقراطية من الرجال الاستثنائيون الموجودون على رأس المجتمع أو الهرم الاجتماعي، وهناك جماهير الشعب الموجودة في أسفل الهرم. وهذا هو النظام الطبيعي الذي ينبغي أن يسود ولا اعتراض عليه أبدأ. ومهمة الجماهير هو الكدح والتعب والشغل والطاعة الكاملة العمياء للنخب المثقفة. ينبغي أن تخدم هذه الجماهير الغفيرة النخبة الأرستقراطية لكي تستطيع التفرغ للقيادة والحرية والخلق والإبداع. هذا هو نيتشه الحقيقي.

النقطة الوحيدة التي تحسب له هو أنه كان أكبر مفكك للأصولية المسيحية والظلامية الدينية. هنا تكمن عبقريته. وكان أكبر محطم للأصنام والمعبودات والشخصيات التي نعتقد أنها مثالية قداسية في حين أنها كانت بشرية عادية بل وأكثر من عادية. انظر لتكالب بعض رجال الدين على الأموال والأرزاق والوجاهات في كلتا الجهتين الإسلامية كما المسيحية... ولكن العامة يتعلقون بهم ويقبلون يدهم ويقدسونهم تقديساً. انظر لقصص بعض البابوات الفاسدين المنحلين في القرون السابقة كالبابا ألكسندر بورجيا الذي كان أبعد ما يكون عن المبادئ الدينية والفضائل الإنجيلية. وقد اشترى بابويته بالفلوس التي انهمرت مدراراً على الكرادلة لكي ينتخبوه. وخلف وراءه عشرة أولاد وثلاث بنات من عشيقات مختلفات. وقد عيّنهم في مناصب عليا في المجتمع الإيطالي بعد انتخابه. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن البابا يوليوس الثاني الذي خلفه عام 1503 فقد كان مستبداً دموياً مولعاً بشن الحروب. لقد خان المبادئ الإنجيلية كلياً، ومع ذلك فقد ظلت عامة المتدينين تقدسه كالصنم المعبود. وقل الأمر ذاته عن بعض الدعاة الكبار الذين أصبحوا أغنياء جداً عندنا، بل ومليونيريين بفضل المتاجرة بالدين. لا داعي لذكر الأسماء... نعم لقد ساعدنا نيتشه بمطرقته الفلسفية على التحرر من هيبة شيوخ التزمت والتقعر والإكراه في الدين. يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر. يدعونك إلى الزهد في الحياة الدنيا وعينهم على الشهوات والملذات والأموال التي يتكالبون عليها تكالباً. كل هذا كشف القناع عنه فيلسوف الألمان وحررنا منه. من هذه الناحية كان تنويرياً كبيراً. لتسقط الأصنام والأوثان التراثية إذن ولنتحرر منها كلياً ولنتنفس الصعداء لأول مرة في حياتنا. لنتجرأ على أن نفكر بأنفسنا دون أي وصاية لاهوتية أو كهنوتية فوق رؤوسنا. هذه هي وصية كانط لنا. هذا أول مبدأ من مبادئ فلسفة التنوير. فالله زودنا بعقول لكي نشغلها لا لكي نلغيها أمام شيوخ الفضائيات وجماعات الإسلام السياسي الذين يعرفون كيف يستغلون الدين وهيبته وقداسته. إنهم بارعون في ذلك إلى أقصى حد ممكن. ولكن لعبتهم انكشفت بعد سقوط ما يدعى «الربيع العربي». لكأن الربيع يمكن أن يكون أصولياً ظلامياً. الربيع سيكون تنويرياً، أو أنه لن يكون!

أنا مدين لنيتشه بأشياء عبقرية كثيرة. يضاف إلى ذلك أن أسلوبه في الكتابة بركاني، عبقري، متفجر، لا يضاهى. أنا أدوخ، أخرج عن طوري عندما أقرأ نيتشه. أكاد أقوم وأقعد. لا أستطيع أن أبقى هادئاً. حقا إن من البيان لسحراً. وربما كان أكبر كاتب في اللغة الألمانية. ولكني لا أستطيع الاتفاق معه على هذه النزعة النخبوية والاستعلائية الكاسحة. لا أستطيع القبول بإدانته للحداثة ومنجزات الحداثة جملةً وتفصيلاً. هنا أقول له ستوب، قف: خط أحمر! فقد رفض رفضاً قاطعاً المثل العليا للحداثة كحقوق الإنسان والمساواة بين البشر وحق التصويت العام للشعب، ومشروع المدرسة للجميع، والسعادة والرفاهية للجميع، إلخ. ورفض كل السياسات التضامنية مع الفقراء والمنبوذين والمستضعفين. ووصل به الأمر إلى حد القول: ينبغي أن نحمي الأقوياء من الضعفاء وليس العكس. وعلى هذا المنوال يمكن أن نقول: ينبغي أن نحمي الأغنياء من الفقراء الذين يحسدونهم ويكادون ينهشونهم نهشاً. لماذا لا نصرخ: يا إلهي ما أجمل الأغنياء وما أبشع الفقراء؟ عيب! ثم صعد نيتشه من لهجته إلى حد القول: «لينقرض الضعفاء والفاشلون! هذا أول مبدأ من مبادئ فلسفتنا الإنسانية المحبة للبشر! بل وينبغي أن نساعدهم على هذا الانقراض»... وهذا يشبه ما فعله النازيون عندما قضوا على المرضى والمقعدين والمعاقين، وعدّوهم عالة على المجتمع. ثم يضيف: «ما هي أسوأ النقائص أياً تكون؟ الشفقة على الفاشلين والضعفاء: عنيت المسيحية». ويحك! هكذا نلاحظ أن أفضل ما جاءت به المسيحية كدين محبة وشفقة ورحمة يدينه ويعده نقيصة. هنا تكمن خطورة نيتشه. إننا نفهم هجومه على الأصولية المسيحية التي كانت لا تزال قوية في عصره وقادرة على الضرب والقمع، والإكراه والقسر. وذلك على عكس ما هي عليه الآن، حيث لم يعد لها وجود في أوروبا، وحيث أصبحت هي الخائفة لا المخيفة. ولكننا لا نفهم أن يدين أفضل ما جاءت به المسيحية وكذلك الإسلام: أي الشفقة والرحمة على الضعفاء والفقراء واليتامى والمحتاجين وابن السبيل... هنا لا نستطيع أن نمشي معه خطوة واحدة إلى الأمام. هنا نفضل أن نكون مع مفكر عملاق آخر هو جان جاك روسو الذي كان يذوب ذوباناً في أحضان الشعب الطيب الفقير الذي يكدح كل نهاره لتأمين لقمة العيش له ولأطفاله.

ليس غريباً إذن أن تكون النازية قد وجدت ضالتها فيه واتخذته هادياً مرشداً لها ولآيديولوجيتها. ليس غريباً أن يكون النازيون قد رأوا في نيتشه «أيقونة العهد الجديد» الذي أرادوا إقامته وترسيخه في ألمانيا. ليس غريباً أن يكونوا قد اتخذوه قدوةً ومثالاً لكي يحتموا في ظله ويضربوا بسيفه. نقول ذلك وبخاصة أن شهرته كانت قد أصبحت أسطورية. لقد اندلعت بعد موته كالرعد القاصف واكتسحت السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. كانت كتبه خصوصاً «هكذا تكلم زرادشت» تباع بالملايين. لقد أصبح الإنجيل الخامس كما توقع هو شخصياً. وكانت شبيبة ألمانيا تعبده عبادة في حين أنه لم يلق في حياته أي اهتمام ولم يبع من كتبه أكثر من عشر نسخ! من يصدق ذلك؟ كل هذا النجاح الباهر حصل بعد موته عام 1900 بالضبط. ولهذا السبب قال عبارته الشهيرة: «هناك أشخاص يولدون بعد موتهم». كان يعرف أن لحظته آتية لا ريب فيها. وهذا السطو من قبل هتلر على نيتشه وفكره ما كان لينجح تماماً لولا تعاون أخته إليزابيث التي كانت عضواً في الحزب النازي منذ عام 1930. ومعلوم أن هتلر زار متحف نيتشه الذي يضم أرشيفاته ومحفوظاته في مدينة فايمار عام 1933: أي بعد توليه السلطة مباشرة تقريباً. وهناك انحنى أمام أخته إليزابيث كما تشهد الصورة على ذلك. وقد أهدته عصا الفيلسوف لكي يتبرك بها أو يتعكز عليها في نزهاته اليومية إذا شاء. وفي عام 1934 ترأست إليزابيث هذه بحضور هتلر الاحتفالات بالذكرى التسعين لولادة أخيها الفيلسوف الشهير. ومعلوم أن النظام الهتلري نظم احتفالات ضخمة بهذه المناسبة وبحضور كبار القادة النازيين. وعندما توفيت إليزابيث نيتشه في العام التالي عن عمر مديد حضر هتلر شخصياً تشييع جنازتها.

هذا الكلام لا يعني أن كل فلسفة نيتشه نازية من أولها إلى آخرها! لا، لا، أبداً، أبداً. ما إلى هذا قصدت. وإلا لما بقيت على مدار الأجيال ولكانت قد ماتت في أرضها. وذلك لأن فلسفته ضخمة، واسعة، متشعبة لا يمكن حصرها بهذا الجانب فقط. فلسفته تحتوي على إضاءات عبقرية عديدة كما أسلفنا. ولكن لا يمكن إنكار هذا الجانب المتطرف واللامسؤول من فكره. لماذا اعتمد هتلر على نيتشه كمنظر آيديولوجي أكبر للنازية، ولم يعتمد على كانط أو هيغل مثلاً؟ وهما من أعظم العقول الفلسفية التي أنجبتها ألمانيا. سؤال لا يمكن تحاشيه. والواقع أننا عندما نقارن بين انفجارات نيتشه الفكرية والأسلوبية الخارقة وبين هيجانات هتلر وخطبه النارية المشتعلة التي كهربت الشعب الألماني كهربة نلاحظ وجود أوجه تشابه عديدة. ونكاد نقول هذه من تلك!

على أي حال لا يمكن اعتبار نيتشه مفكراً حريصاً على المساواة بين البشر ولا على النزعة الإنسانية اللهم إلا إذا كنا من «جماعة العميان»، كما يقول جاك بوفريس. من هنا حملته الشديدة على فوكو وديلوز ودريدا الذين حولوه في ستينات وسبعينات القرن الماضي إلى مفكر يساري تقدمي غصباً عنه! هذا في حين أنه كان مفكراً نخبوياً، أرستقراطياً، استعلائياً، محضاً. كان يحلق في الأعالي أو أعلى الأعالي. كان يفكر «والناس تحته على مسافة ستة آلاف قدم» كما يقول هو شخصياً. هو من فوق وكل البشرية تحته! كل العنجهية الأرستقراطية تجسدت في شخصه، كما أن كل العنجهية الآرية الألمانية تجسدت في شخص هتلر.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 3 ديسمبر 2023 م ـ 19 جمادي الأول 1445 هـ

إن وضعت بعض المكرونة في الماء وغليتها، ثم صفيت الماء وأضفت إليه علبة صوص جاهزة فمبارك؛ لقد طبخت. وإن ذهبت مع أصدقائك إلى ملعب مستأجر، وانقسمتم فريقين متنافسين، فمبارك؛ لقد لعبت كرة قدم. لكن النشاط الأول لا يجعل منك طباخاً، والثاني لا يجعل منك لاعباً محترفاً. ثم إن الاحتراف نفسه لن يجعل منك بالضرورة فناناً في أي منهما. هناك مسافة شاسعة بين الفعل وبين فن الفعل. وفي هذه المسافة تكمن إنجازات الإنسان. تكمن قدرة عينة عشوائية من أفراده على إبداع يشبه الإعجاز.

المساحة بين الفعل وفنه ليست فراغاً. مليئة بمستويات متدرجة من المهارة. من لاعب عادي في نادٍ مغمور إلى لاعب في «البريميرليغ»، إلى ميسي ورونالدو ومارادونا وبيليه.

والفروق المهارية التي لا تخطئها عين سببها فروق بسيطة للغاية من الناحية الجينية. يشترك الإنسان مع الشمبانزي في 98.8 في المائة من الـ «دي إن إيه (DNA)». كل هذه الفروق الشكلية والحضارية والعقلية، كل الهندسة والطب والبيولوجي والجيولوجي والمعمار وعلوم الفضاء والتفاضل والتكامل، أحدثها اختلاف أكبر قليلاً من 1 في المائة من جيناتنا.

أما بين البشر، فالفروق أدق. أي شخصين يتشابهان في نحو 99.9 في المائة من «الدي إن إيه». بمعنى أن الفروق بين البشر في المواهب والقدرات والقوة العضلية والتفوق الذهني، كل هذه المعجزات في الفنون، والموسيقى والشطرنج، سببها اختلاف لن يتعدى 0.1 في المائة بيننا. لو تخيلنا أن الشخص منا مُكَوَّنٌ طبيعياً من 1000 عنصر، فأنت وأنا ونيوتن وأينشتاين متشابهون في 999 عنصراً منها، ومختلفون فقط في عنصر واحد بين الألف.

في المفارق، وفي الأزمات، وفي المهمات الجسام، وتحت الضغط، يعظم تأثير هذا العنصر البسيط، وتختلف مسارات الأمم، وتتباين إنجازات الأفراد. وبهذا الفارق البسيط بين رؤية ورؤية تتغير الحياة. فلا تستهن بالفروق الضئيلة، وبالتغيير البسيط في عاداتك، أو الاختلاف البسيط في وجهات النظر التي تستمع إليها.

من عادة المجتمعات التقليدية أن تعيد إنتاج آرائها، مرة بعد مرة. وأن يكتفي المتميزون فيها بالاحتماء بالكتلة الصلبة الموروثة من طرح العقول. في حين أنها لن تتطور إلا بفضل الرؤى التي تبحث عن مسار جديد، ولو في واحد من ألف من عناصره.

إن استمعت إلى رأي ووجدت أنك سمعته من قبل كما هو، بكل عناصره، في الموضوع نفسه. فاعلم أن عقلك لا يرى هذا الرأي، يكدسه ويملأ به الخزانة، لكن إن ارتداه فلن يميزه، كزي عمال موحد في بلد شيوعي. مصير هذا الرأي سيكون كمصير سابقه. إن خسرت بسبب المسار السابق خطوة، فستخسر بسبب تكراره خطوة أخرى على الأقل، وغالباً أكثر، لأنك تقف على الرصيف نفسه، ربما في انتظار غودو، بينما الحياة تمضي.

في كثير من جوانب الحياة في منطقتنا، في الاقتصاد وفي السياسة وفي العلاقة مع العالم، تقرأ رأياً مكتوباً منذ 50 عاماً، وتقرأ رأياً حديثاً يحظى بالتأييد، فلا تجد بينهما اختلافاً. كائن الرأي لم يتطور. يزيد الأمر سوءاً أن البيئة من حوله تطورت. ومن لا يتكيف مع تطور البيئة ينتهي. حتى صارت الثقافة الغالبة لا تكاد تحتفي بصاحب رأي على قيد الحياة، ولا ترى الفارق بين الأصالة والتقليد، بل تحتفي بآراء قديمة مُحَنَّطة، وتحتضن من يعيد إنتاجها مرة بعد مرة.

وصنعة الرأي موجودة في كل الحرف، ومُشَخَّصة في حرفة المقال أو النقاش الإعلامي، موجودة في حرفة كرة القدم، حيث خطة اللعب رأي، والتشخيص الطبي رأي، والأحمال التدريبية رأي.

من الصعب افتراض أن ما يجري على الرأي السياسي والاقتصادي من جمود لا يجري على قرارات التخطيط والتنمية، ولا يجري على قطاعات الحياة الأخرى. وأن هذا هو السبب الحقيقي في قلة المواهب البارزة بالنظر إلى حجم الإمكانات المادية والبشرية والجغرافية الموجودة في المنطقة.

يحتاج الموهوب لكي يصل إلى مستوى الفنان في حرفته إلى أن يشتغل على نفسه، وأن ينمي صنعته، ويحتاج أيضاً إلى مستويات موازية من التراكم المهاري في محيطه، تطور خططه، وتنمي أحماله التدريبية، وتشخص مشكلاته بما استحدث العالم من معرفة. هذا ما يجعل لاعباً موهوباً التحق بأكاديمية برشلونة صغيراً يصير ميسي، بينما مواهب أخرى دُفنت في تربة ريف ناءٍ، أو ضاعت في زحام حضر عشوائي منفلت كأعصاب الأحمق، تسبق أفعالُه أفكارَه.

***

خالد البري

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم:

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023 - 13 جمادي الأول 1445 هـ

 

قد تبدو الفلسفة في المجاميع الشعبية وبالصيغ العمومية حتى التعليمي منها غير مرحب بها، وأظن أن مرد ذلك لسببين أولهما: تشتيت الثبات الذي تحدثه. وثانياً: لعدم إيمان من يتلقاها بأهمية الأسئلة الفلسفية على واقعنا.

ثمة تشويه مرده إلى سذاجةٍ تعتورها غير أن انتشار ذلك التشويه والتشنيع حد الفجور بالخصومة يجعلنا أمام دفاعٍ عن الفلسفة، بوصفها النشاط العلمي الأكثر تماساً بالإنسان ووجوده. يمكن قراءة الحداثة كأثر من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي محتوى الحداثة، فتلازم مسار الفلسفة بمسار الحداثة شديد الإلحاح، أو على حد وصف هيغل: «يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها، خارج مفهوم الحداثة».

بمعنى أن الحداثة بمواضيعها لم تكن مجرد نقْلة ضيقة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية، بل غدت «التقنية» – ذاتها – موضوعاً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع، يأتي من كون كل نظرية فلسفية مهمة أنتجت دينامية مختلفة للحياة، إذ يمكن الرجوع إلى النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي رسختها الطروحات الفلسفية وجادت بها على العالم، ويمكنني هنا التذكير بإسهامات فلسفية أساسية.

من أبرز إسهامات الفلسفة أنها حوّلت الإنسان إلى موضوع للدراسة، وإذا كان «فوكو» كتب عن «كانط»: «ما كان يهم كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يُسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية»، فإن الفلسفة بالنسبة له لم تكن مجرد موضوع تأملي، خصوصاً إذا وافقنا «هيغل» بأن فلسفة كانط هي: «بؤرة العالم، ونوع من التأويل الذاتي له، وأن عصر الأنوار ينعكس في فلسفة كانط».

صحيح أن الوعي الفلسفي بالحداثة تجلى بوضوح لدى «هيغل»، لكن ما يميز فلسفة «كانط» – بحسب فوكو – أنه وضع الإنسان «موضوعاً للدراسة»، كما أنه – وفق فوكو أيضاً – «أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً للتفكير».

أسهمت الفلسفة في ترسيخ مبدأ الذاتية، وهو مفهوم متعدد الدلالات، لكنه ارتبط فلسفياً بمفعولات النزعة الإنسانية، فهو بالمعنى العام يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية، وحريتها وشفافيتها، ومبدأ الذاتية يضم وفق «هيغل» الحياة الدينية والدولة، والمجتمع، والعلم والأخلاق، والفن، كل تلك الفروع تبدو جميعها تجسيداً لمبدأ الذاتية.

من إسهامات الفلسفة الأساسية أيضاً تدشين الفضاء العلماني، إذ يرى «لوك فيري» أن «كانط» هو الذي دشن فضاء الفكر العلماني في الغرب، ويكتب «هابرماس»: «إن فلسفة كانط كانت ضمن مخاض الحداثة، باعتبارها عصراً كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد معياريته وضماناته الخاصة من ذاته، فتلك الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة «علم، أخلاق، فن»، ما جعلها منطلق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعلمانية، والذاتية والعقل والنقد».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

28 نوفمبر 2023

لا أدري، هل أصبح الإنسان رخيصاً إلى هذه الدرجة في دنيا العرب ومعتقداتنا السائدة؟ نعم، لقد أصبح الإنسان، ذاك الذي كرّمه الخالق في الأزل، وفضّله على كثير من خلقه تفضيلاً، والذي قال فيه سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم: “لأن تُهدم الكعبة حجراً حجراً، خير عند الله من أن يُهدر دم مُسلم”، مهاناً متهماً في كل سلوك أو فكر يتبناه، من رجال ومؤسسات وأحزاب وميليشيات نصبت نفسها وكلاء لله في أرضه، لا يعرف مقاصد الرحمن إلا هي، ولا يُمكن الوصول إلى علم العليم أو دخول جنته إلا من خلالها وما يقول رجالها، مع أن الإسلام دين فطرة وبساطة وتيسير وعلاقة مباشرة بين الإنسان وخالقه، حرامه أقل من القليل، وحلاله هو الأصل في الأمور، ولكن العلة تكمن في الرجال، وفي المؤسسات، وفي الأحزاب والميليشيات، حين تجعل من نفسها وسيطاً فيما لا يحتاج إلى وسيط، ومفسراً لما لا يحتاج إلى تفسير.

لقد آمن الأعرابي القديم بالإسلام ومارسه من دون حاجة الى وسيط ومفسر لما هو واضح، والحديث الصحيح عن ذاك النجدي ثائر الشعر “الذي نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول”، والذي تعهد بأن لا تزيد عبادته عن الأركان الخمسة، حيث علق الرسول قائلاً: ” أفلح إن صدق”، خير برهان على بساطة الإسلام، ناهيك عن حديث أبي ذر الصحيح، الذي يؤكد فيه نبي الرحمة أن من شهد أن لا إله إلا الله، دخل الجنة، وإن زنى أو سرق، برغم أنف أبي ذر، وفق ما ورد في الحديث على لسان الرسول الأكرم، ولكن المعضلة تكون حين يتحول الدين البسيط إلى مؤسسة معقدة (خصوصاً إذا كانت المؤسسة حزباً أو ميليشيا مسلحة)، ينتمي إليها أفراد يأسرهم خطاب المؤسسة وفكرها وأهدافها، ويعيدون بدورهم إنتاج هذا الخطاب، على أساس أن المؤسسة وحدها هي من يمثل الدين الصحيح، وغيرها فيه خروج عن المحجة البيضاء. فحين تتحول الأديان إلى مؤسسات ذات أهداف وغايات ومناهج موضوعة، ليس من الضروري أن تكون متسقة مع جوهر الدين، فحينها لا يعود الدين ديناً، وإنما يتحول إلى أداة تتحكم بالأبدان وتوجه العقول وتحكم السلوكيات، وتُنسى الروح والقلب في خضم هذا التعقيد لما هو بسيط، اللذان هما محل الإيمان أولاً وآخراً، ومن ثم تكون بقية الأشياء.

لم تكن دعوة المسيح، عليه السلام، مثلاً إلا دعوة أخلاقية وإرشاد روحي، هدفه صقل الروح الإنسانية كي تصل إلى درجات عليا من الرقي والسمو، ولكنها تحولت على أيدي الرجال إلى مؤسسات ذات مال ونفوذ وتسلط على البلاد ورقاب العباد، فعانت أوروبا القروسطية القمع والقتل وسفك الدماء والتفتيش عما في الصدور، باسم المسيح ودين المسيح، والمسيح وتعاليمه من كل ذلك براء، بل هي المؤسسة ورجالها، الذين اتخذوا من دين المسيح مطية نحو المال والسلطة والنفوذ، وجعلوا من أنفسهم طبقة من رجال دين (اكليروس)، لا ينتقدهم أحد، ولا يقترب من ساحتهم أحد، ولا يُسألون عما يفعلون، فلحومهم مسمومة بسم زعاف، ومن يفعل ذلك، فمآله النار وبئس القرار في الآخرة، وعذاب الويل في الدنيا، وبذلك جعلوا من رب العباد أداة في أيديهم، لتحقيق مآرب لا علاقة للرحيم بها، والعياذ بالله. فالمسيح يقول مثلاً: “أحبوا أعداءكم”، ورجال المؤسسة كرهوا الناس جميعاً، وخلقوا الأعداء حين لم يوجودوا، وسفكوا دماءهم. ويقول المسيح أيضاً: “من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر”، كتعبير عن التسامح في أقصى درجاته، ولكن المدعين بحماية دينه كانوا يبحثون عمن يرجمونه بالحجارة، ويحرقونه بالنار، فعُلقت النساء في محاكم التفتيش من الأثداء، وحُرقت ساحرات لم يكن بالساحرات. وخشيتي اليوم في دنيا العرب والمسلمين من طبقة من رجال الدين تنتمي إلى أحزاب وميليشبات تزعم أنها تمثل الدين الصحيح، كما تمثل الكنيسة وكهنتها دين المسيح، لا يجوز المساس بهم، فلحومهم سم زعاف، ولحوم بقية الخلق لحم حلال لذة للطاعمين. فالدين الذي يُبشر بالرحمة، ويبشر بأن بغياً دخلت الجنة لكلب سقته بخفها، كما دخلت النار امرأة لهرة حبستها، كما ورد في حديث سيد الخلق، هو الدين نفسه الذي تحول عند البعض إلى خطاب نقمة وخوف ووعيد، ومنادياً بسفك الدماء وجز الرقاب، حين تحول إلى مؤسسة، وتحكمت فيه أهواء الرجال وغاياتهم ومحدودية أفهامهم. نعم.. ليس في الإسلام رجال دين أو كهنوت أو اكليروس، كما لم يكن في المسيحية الصافية، أو يهودية موسى عليهم السلام جميعاً، أو حتى في تعاليم “المستنير” بوذا، أو المعلم كونفشيوس، ولكن حين يتحكم الرجال في الدين، ويُختزل ما هو خطاب مفتوح إلى القلوب، إلى خطاب ضبط مغلق مُنفر للقلوب، فإن الدين لا يعود ديناً، بل هو شيء آخر يمكن وصفه بأي صفة، ما عدا صفة الدين.

بناءً على هذا المنظور، نستطيع أن نفهم تلك الفتاوى “الغريبة ” التي تصدر عن أحزاب وميليشيات وشيوخ يقولون بأن من يتعرض لهم بالنقد أو المعارضة، فهو يعترض على الدين، أي أنهم طبقة لا يجوز المساس بها (اكليروس، كهنوت)، بينما كان فقهاء الماضي التليد، يمشون في الأسواق، ويتكسبون من عرق جبينهم، ويرفضون الأعطيات وما لم يكسبوه بجهدهم، ويناقشون الناس ويناقشونهم، ويسعون لليسر لا للعسر فيما يفتون به، بعد تردد وخشية وتفكير عميق، ويعترفون بالخطأ إن أخطأوا ولسان حالهم مقولة مالك: “كل يؤخذ منه ويرد، إلا صاحب هذا القبر”، أو مقولة الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

إن هؤلاء الشيوخ في الحقيقة منسجمون مع أنفسهم، ومع الفكر الذي يحملون، والخطاب الذي يعلنون، ولكن انسجامهم مع أنفسهم يجب أن لا يكون على حساب الإنسان، وحياة الإنسان وكرامته وحريته، ولا على حساب مصير وطن ومواطن… وهذه الفتاوى الغريبة ستستمر في الصدور والذيوع في دنيا العرب والمسلمين، طالما تحول الدين إلى مؤسسات وأحزاب وميليشيات، تحاول أن تحشر ما هو عصي على التحديد، بعلم أو من دون علم لا فرق، في قالب ضيق محدود.

لقد ابتلينا في هذا العصر بخطاب ديني يبشر، باسم الله والعياذ به، بالعنف والدمار وسفك الدماء، وخطاب ديني آخر ينبذ ذاك الخطاب، ولكن كلا الخطابين في النهاية يشتركان في جذر فكري واحد، ومن هنا تكون فتاوى العنف المكشوف في الخطاب الأول، وخطاب العنف المستتر في الخطاب الآخر، ومسلم هذا العصر ضائع بين الرحمة والقسوة، التسامح والاقصاء، في عالم أصبح يخشانا، وأناس أصبحوا لنا من الكارهين، ونحن فيه من الهائمين، ولدين الله غير مستوعبين، ولرسالة محمد غير واعين.. اللهم لطفك.. اللهم لطفك.. اللهم لطفك.

***

تركي الحمد – مفكر سعودي

عن صحيفة لبنان الكبير، يوم: 25 / 11 / 2023.

حرب أوكرانيا كشفت عن ظاهرة ثقافية بأن الإنسان أصبح كائناً سياسياً وبصيغة عالمية، وكل حدث يحدث في هذا العالم الذي نعيشه يتحول لخبر حي على الشاشات تستقبله كل العيون ثم يتلوه تفاعل حي على منصة (X)، ويشترك البشر كلهم في التفاعل لدرجة أن ترى من يظهر تذمره في المنصات من سيطرة خبر ما على تغريدات الحسابات، وهو تذمر يكشف تعمق الظاهرة لدرجة الإدمان وهي تشكل حيويةً تفاعلية تظهر فيها الآراء والتوجهات وتكشف عن المخزون الثقافي والتوجه السياسي والاجتماعي لكل مغرد ومغردة.

والعالم أصبح اليوم على (كف شاشة) وهو التعبير الذي أطلقته في كتابي (ثقافة تويتر)، وهذه ثقافة تتجه مع ما سماه «ديريدا» بالحداثة الفرنسية التي تجمع بين الفلسفة والأدب والسياسة، وهذا وصف لا يخص فرنسا بل نجده في معظم ثقافات العالم الجديد، عالم ما بعد الاستعمار، مذ تشكل الوعي الوطني المقاوم للمستعمر وتركزت اهتمامات جميع طبقات المجتمع البشري على دور السياسة في صناعة الأحداث، بما في ذلك الخبر الذي أصبح سياسياً بالضرورة، وعلامة ذلك هي شيوع نشرات الأخبار على كل فضائيات العالم، وكلها خطابات سياسية بتوجهات وتوجيه سياسي، مع مشاهدات لا حصر لها مما سيس الفضاء البصري والسمعي، وجعل الكرة الأرضية كلها تتكلم سياسة ً وتفكر سياسةً، ومن ثم تشعر سياسة وقد تدرجت البشرية من المذياع إلى الجريدة إلى التلفزيون إلى الفضائيات ثم إلى فرص التفاعل الحر، وكلها عوامل أسهمت لجعل الناس تتسيس فيتحرك حس الفضول في البشر لمعرفة الخبر وقد أصبح ذلك سهلاً ومتنوع المصادر ثم تغريهم مواقف غيرهم لكي يدخلوا معهم في مبارزة ذهنية في تفسير الحدث ووصفه بصفات تتسق مع ميول المتحدث.

ولا ينافس السياسة إلا الاقتصاد ثم المناخ، خاصةً بعد الأحداث الكبرى في الفواجع المناخية وتقلبات الحال في أوروبا صيفياً بين شدة الحرارة مقابل أيام تقع فيها فيضانات، وهذه أيضاً تتحول لأخبار سياسية إذ تعزو ذلك لأخطاء السياسيين في سياساتهم المناخية، ومن ثم أصبح كل حدث يفهم وفق النظر السياسي.

وما لبثت أن وقعت أحداث غزة فيما بعد السابع من أكتوبر 2023، لتزيح أوكرانيا عن تصدر الشاشات الفضائية وتجلب معها تاريخ سبعة عقود من صراع كوني لم تستطع البشرية حسمه رغم التوافق على أن «حل الدولتين»، هو الحل الذي ليس في الأفق غيره. ورغم القناعات حول هذا الحل لكنه يظل بعيداً مما يعزز استمرار الصراع والتصعيد المتصل، ويعزز فكرة تسييس الإنسان والثقافة ويعزز فكرة الاستقطاب الذي يجعل الحل في حال تأجيل مطلق.

وفي النهاية تتم برمجة التفكير العام والحر على نظريات التأويل السياسي ونظريات الاستقطاب الذي لا يقوم على العدالة ولا على الحقوق، وإنما يقوم على الغلبة والإكراه الذهني مع تحويل الحقيقة من كونها شرطاً للحل إلى كونها تسليماً بواقع مفروض، ويظل المعنى السياسي هو المرجعية الأولية حتى في تصويت مجلس الأمن الذي يتصرف دون حس أو مخافة من مشاهدة العالم على الألاعيب السياسية.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 24 نوفمبر 2023 23:38

يتميز الكاتب والمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي بانشغاله بفكر الاختلاف؛ فعليه تتأسس ممارسته الفلسفية، كما انشغل بسؤال الكتابة، مُعلياً من شأن التأمل والنقد والشك، ما جعله مقروءاً بشكل أوسع. ترجم لعشرات المفكرين والمبدعين والفلاسفة؛ منهم بورديو، وبارت، ودولوز، والعروي، مواصلاً شغفه بالفلسفة وتجريب مفعولها في اللغة. في كل هذا لا ينطلق بنعبد العالي من مسلَّمات، ولا يريد أن ينتهي إلى خلاصات وإجابات، بل غايته طرح الأسئلة، وهو ما تبلور في كتابيْه «ما لم يُقَل بعد»، و«ما يتعذّر قوله». فاز بـ«جائزة العويس»، هذا العام، في الدراسات الفلسفية... هنا حوار معه حول هموم الفلسفة والكتابة والأوهام المعاصرة التي ينادي بمقاومتها.

* يرى بعض الدارسين أنك أخرجت الفلسفة من خطابها المتعالي المنشغل بالمقولات الكبرى، وأنت تتحدث عن الفلسفة وكرة القدم، والطبخ والنحافة والموضة والموبايل والكذب وغيره... فهل تتفق معهم على ذلك؟

- ربما ينبغي أن ننطلق من ملاحظة أولى؛ وهي أن الفلسفة لم تكن دوماً تحيا «في برج عاجي». لا نحتاج إلى التذكير هنا بشخصية سقراط، الذي كان يجوب أنحاء «المدينة»، ولا يبرح أغوار أثينا كي يحاور الشباب و«يزعجهم»، بل يُحرجهم، وليواجه أفراداً احترفوا «فن الكلام». قد يقال إن هذا لم يكن ممكناً إلا لأن الفلسفة ترعرعت في مخاض «التجربة السياسية» عند الإغريق. صحيح، ولكن ينبغي ألا ننسى أنها لم تكن غائبة، حتى في غمار «التجربة الطبيعية»، والتي فيها نتصور الفيلسوف مشاركاً، معنيّاً بالتحولات الكبرى التي ستُفتَح أمام المعرفة وأشكالها التقنية (ولا أقول تطبيقاتها؛ لأن التقنية ليست مجرد تطبيق لنظرية). فيلسوف مثل ديكارت، لم يكن غائباً عما سيؤسس للحداثة العلمية، ومن ثم للحداثة الفلسفية. قد يردّ علينا بأن الفلسفة سرعان ما انعزلت، فغدا الفيلسوف «أستاذ جامعة». الشيء الذي سيترسخ مع الفلسفة الألمانية، لكن، حتى ها هنا ينبغي ألا نتصور الفلسفة غائبة عن التحولات الكبرى، والطفرات الصناعية والعلمية والسياسية، فهؤلاء الفلاسفة الذين نقول عنهم إنهم كانوا منحصرين داخل أسوار الجامعة، كانوا في علاقة وطيدة وعميقة مع ما يجري، لستُ مضطراً إلى أن أعطي مثال ماركس، بل أكتفي بأن أسوق من نعتوا بـ«المثاليين» كحال كانط وهيجل.

هذا ليس فقط دفاعاً عن الفلسفة، وإنما هو فحص لما انتقل إلى مدارسنا وأصبح يدرَّس كـ«مادة الفلسفة». لا داعي لأن أعدِّد المعوقات التي واجهت هذا الانتقال، فأشير إلى خصوصية الممارسة الفلسفية في العالم العربي، وما تعرفه من صعوبات تتمثل أساساً في غياب الدرس الفلسفي في كثير من معاهدنا التعليمية، وعدم مواكبة برامجنا لمستجدّات ذلك الدرس، فضلاً عن عدم التوفر الكافي لأمهات النصوص بلغة متيسرة، الأمر الذي يضع عراقيل في وجه ممارسة الفلسفة تفكيراً وتدريساً، وربما كتابة وتأليفاً.

هذا ما جعلني أختط مساراً «يقترب من الممارسة الفلسفية بالابتعاد عنها»، لا لإخراجها من الدرس المدرسي والجامعي فحسب، بل لإضفاء نوع من التشويق على لغتها وموضوعاتها، ومحاولة إخراج السؤال الفلسفي إلى الساحة العمومية، والانشغال اليومي.3972 عبد السلام بنعبد العالي

* هل هي دمقرطة لفعل التفكير...؟

- لنقل دمقرطة السؤال، بينما يبقى الفكر، كما تُعرِّفه الحداثة الفلسفية بأنه «أعدل الأشياء قسمة بين الناس».

* ومع ذلك تقع الفلسفة على جبهة الرفض، باعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة والممانعة «ضد الراهن»، كيف للفكر أن ينفصل عن الراهن الذي تُغرقنا فيه وسائل ووسائط الإعلام مثلاً، بينما يستدرجه الراهن إليه، وإن اقترب منه نقدياً؟

-قال فوكو مرة عن الأيديولوجيا إنها ستدخل من النافذة إن أنت طردتها من الباب، فعندما كنا نقابل بين الفلسفة والأيديولوجيا، كنا نفترض مقدّمات أساسية؛ أولها أنه ليس هناك كوجيتو أيديولوجي. لا تقدّم لك الأيدولوجيا نفسها على أنها كذلك. لا تقول: أنا أيديولوجيا، إنها تتخذ دوماً صيغة اتهام للآخر: أنت أيديولوجيا، لذلك فحتى في حال فضحها كأيديولوجيا، سرعان ما تتقنع وتتخفّى، لذلك فهي محتاجة إلى فضح لا يكلّ، أو، كما تقول، ممانعة غير مهادنة. أما عندما دخلت الوسائط الجديدة على الساحة، ولم يعد الصراع الفكري يقتصر على أوهام الأيديولوجيا، فإن الأمور «تشبكت» مع الشبكة العنكبوتية، التي تجعل من الواقع واقعاً فائقاً، كما بيّن بودريار.

* ألّف جاك دريدا كتاباً بعنوان «أن تفكر هو أن تقول لا». وقد استعرتَ هذا العنوان لتجعله عنواناً لمقالة جديدة لك، لكنك استحضرت هذا المبدأ الفلسفي «التفكيكي» منذ عقود، وأنت تجعل من الفلسفة فكراً للاختلاف والانفصال بدل الاتصال. لكن، كيف يمكن لفكر الاختلاف والانفصال أن يحافظ على استمرارية التراكم الفلسفي والفكري، أم أنك تقول لا للتراكم نفسه، وعلى الفلسفة التي تنادي بها أن تقول لا للفلسفة نفسها؟

- ستسمح لي بأن أطيل في الجواب عن هذه النقطة، وربما على حساب غيرها، وذلك استبعاداً لمفهوم ساذج عن الاختلاف يجعله مجرد تبعثر. أعتقد أن علينا أن نستحضر أولاً وقبل كل شيء، المعاني المتعددة التي كان مفهوم الاختلاف يعنيها عندما غدا «مفهوماً» فلسفياً على يد أبي الجدلية هيغل. لتوضيح مفهومه عن الاختلاف، يبدأ هيغل باستبعاد موقف رائج يدعوه هو «الموقف الساذج عن الاختلاف» أو «الموقف الاختباري». يرى هذا الموقف أن الأشياء المتباينة تختلف عن بعضها اختلافاً بحيث لا يبالي أحدها بالآخر indifférente، ما دام كل منها مطابقاً لذاته مكتفياً بها. ما «يقف» عنده الموقف الاختباري من الاختلاف هو التنوّع. في هذا «الاختلاف الساذج» يغدو الكائن مُجزّأً إلى عناصر متعددة، وأطراف مبعثرة (خارج) بعضها عن بعض. إن هذا الاختلاف لا يرقى، حتى إلى مستوى التعارض، وبالأحرى التناقض. فالتنوع والتبعثر لا ينتعش إلا إذا تلقت الأشياء التي تشكّله السلب أو النفي، الذي هو سرّ الحركة التلقائية عند هيغل. والسلب لا يكون إلا (بجرّ المخالف نحو آخره لا بإبعاده عنه). هذا الجرّ هو ما يميز الاختلاف الأنطولوجي عن مجرد «التباين الساذج».

ينبغي إذن أن نميز بين مجرد «التباين الساذج» وبين «الاختلاف». الاختلاف يضعنا أمام متخالفين مُبعداً أحدهما عن الآخر، (مقرّباً بينهما في الوقت نفسه)، أما «التباين الساذج» فإنه يَعرضهما منفصلين متباينين، بينهما تباين وبَوْن. الاختلاف يقوم «في» الهوية، أما التباين فيحصل بين «هويات» متباعدة وكيانات منفصلة. الاختلاف «مفهوم» أنطولوجي، وليس مجرد مفهوم أنثروبولوجي إناسي، إنه ما بفضله يتحدد الكائن بوصفه زماناً وحركة، وما يصبح به التعدّد خاصية الهوية، والانفتاح سمة الفكر وسمة الوجود.

ما أريد أن أستخلصه من كل هذا هو أن القول بالانفصال لا يعني التبعثر، كما أن التفكيك لا يعني العدمية. أكاد أذهب عكس ذلك وأقول: هناك ضرورة للتفكيك؛ لأن هناك فيضاً من الحقائق، وربما أكثر مما يلزم.3973 عبد السلام بنعبد العالي

* كتبتَ عن الكتابة، اشتغلتَ على فعلها نفسه، مطوراً ما أسّس له رولان بارت ودريدا وموريس بلانشو وكيليطو، وآخرون في هذا الباب، هل يمكن القول إنها دعوة إلى التفكير في التفكير نفسه، نقداً وتفكيكاً له، بعدما ظل التفكير الفلسفي، ردحاً من الأزمنة واثقاً في خطاباته ومفهوماته ومقولاته، انطلاقاً من اعتقاد مفرط في المقدمات النظرية والصرامة المنهجية.

- ربما لا يسمح المقام ولا المجال لتفصيل هذه النقطة، والحديث عن علاقة الفلسفة بالأدب، أو، كما تقول مع بارت، علاقتها بالكتابة. ما دمت قد تحدثتَ عن التفكيك، فيمكن أن نقول باختصار إن مجال الكتابة يسمح لنا بأن «نمارس الفلسفة» ونفكك كثيراً من الثنائيات الميتافيزيقية، لعل أهمها ثنائيات معنى/مبنى، حقيقة/مجاز، أصل/مشتق. ولا أخفيك هنا أن اهتمامي بقضايا الترجمة ربما مكّنني من الانكباب على بعض تلك الثنائيات، وثنائية أصل/نسخة، على وجه الخصوص، فلست أهتم بالترجمة بحثاً عن «نظرية في الترجمة»، وإنما ممارسة للفلسفة، وتفكيكاً لأزواج الميتافيزيقا.

* عن مستقبل التفكير، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينوب عنا في التفكير. وعموماً، ينسى الذين ينكرون على الذكاء الاصطناعي ذلك أنه مِن صنع الفكر الإنساني نفسه، وهو مبرمج من لدن هذا الإنسان، وكأنه يدعوه إلى التفكير بدلاً منه ونيابة عنه؟

- إن كان لا مفر من أن يقارن الإنسان نفسه بمنتوجاته، فأنا أشعر بأنني متفوق على هذا الذكاء (الذي أستفيد منه وأستخدمه)، لا لأنني أكثر ذكاء منه ولا أغزر منه معرفة، وإنما فقط لأنني أتميّز عنه بقدرتي على النسيان.

* الفلسفة عندك فن، فن للعيش، كما ناديت بذلك. دعْني أطرح السؤال مقلوباً: كيف يمكن أن نعيش هذا الفن، أن نحيا فلسفياً على الأرض؟

- كي لا أتجاوز المساحة التي حددتها لي للإجابة عن أسئلتك، أقول باختصار شديد: أن نعيش بصحبة الشك.

* من كونديرا، استعرتَ مفهوماً آخر هو «البلاهة» لتوصيف ما يطبع عالم اليوم وخطاباته. هل مردُّ ذلك إلى تكرار الخطابات الجاهزة والمسكوكة فقط، أم لأنه يردد اليقينيات والمسلَّمات والمصادرات... بينما الفكر عندك خطاب غير جاهز وغير نهائي، منطلق وغير مطلق، منسرح ومتوثب؟

- تحدثنا عن علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا. الفلسفة اليوم لم تعد تكتفي بمقاومة الأوهام ومكرها، وإنما تنصبّ على ما يدعوه دولوز الترهات والحماقات وأشكال البلاهة La bêtise، مقاومة أشكال البلاهة ربما لا تكفيهما رصانة العقل الديكارتي، ولا حتى صرامة النقد الأيديولوجي وشراسته، وإنما تحتاج، ولنقل فضلاً عن ذلك، لعقلانية ساخرة تقف عند ومضات الحياة المعاصرة، لا لتترصد أخطاء المعارف، ولا لتكتفي بفضح أوهام الأيديولوجيات، وإنما لترصد «منطق الخلل» الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها، ولتفضح اللافكر الذي يتخفى من ورائها.

* أخيراً، ماذا عن مفكر اسمه عبد السلام بنعبد العالي؟

- لنقل إنني لا أنفكُّ أبتعد عنه، ربما اقتراباً منه.

***

المغرب : مخلص الصغير

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 20 نوفمبر 2023 م ـ 06 جمادي الأول 1445 هـ

 

عبر التاريخ استفادت العلوم الإنسانية من ورش الصراعات السياسية، وأثرت الحروب والثورات وتشظّياتها بإنتاج مذاهب متفرّعة متجاوزة.

وإذا خصصنا الحديث عن الفلسفة، فإن الواقع له أثره في تثوير التيارات المتضاربة، وشهد تاريخها صراعاتٍ مريرة وصلت حد العته بالهجوم الشخصي المتبادل بين فلاسفة كبار؛ مثل خلاف شبنهور وهيغل، والأخير المسؤول عن لجنة الامتحان خلفاً لفيخته، واختلفا بشكلٍ عنيف حتى وصف شبنهور هيغل بـ«المشعوذ» وبأوصاف أخرى تنظر بمقدمة كتابه «نقد الفلسفة الكانطية».

ساحات النقاش بكل أشكالها تسهم حتى من دون ترتيب في إنتاجٍ مختلف، وحين تخاصم طويلاً «دريدا» و«هابرماس»، لم يلتقيا إلا بعد لأي، وأثمر اللقاء عن كتابٍ مشترك حول «الفلسفة والإرهاب» بمبادرة من الباحثة جيوفانا بورادوري.

لم يكن الفيلسوف الفرنسي والرئيس السابق لقسم الفلسفة في المدرسة العليا للأساتذة «آلان باديو» على وفاقٍ مع الفيلسوف الفرنسي «جيل دلوز»، والسبب ألخصّه من روايته. لقد شهدت فترة الستينيات انتشار «المراهقة السارترية» و «لاكان جاك»، وهو المحلل النفسي الفرنسي، والمنطق الرياضي. و«جيل دلوز» لم يكن متصلاً بمرجعيات تلك الموجة، انشغل بأفلاطون، و«ديفيد هيوم« و«نيتشه»، و«هنري برغسون»، بينما «باديو» لديه مراجعه أفلاطون، هيغل، والفيلسوف الألماني إدموند هوسرل. وبالنسبة لباديو، فإن «دلوز»، كان ذوقه أميل إلى حساب التفاضل، كان ينهل منها الاستعارات. وباديو يرى في «دلوز» الملهم الفلسفي لظاهرة «الفوضويين» العدوَ اللدود، ثم يفصح عن تأسيسه لعصابة هجوم على درسه الأشهر في المنابر الجامعية آنذاك، إنها قصّة خلاف منهجي طويلة، انتهت أوائل التسعينيات من القرن العشرين.

حين تواصل «باديو» مع «دلوز»، وذلك بعد وفاة زميله «غيتاري»، طالباً منه البدء بتراسلٍ مستمر، هدفه تسليط الضوء على «دقة الوضوح، أو تميّزه المبهم» لتدوين كتابٍ حول فلسفة «دلوز» التي عاد إليها «باديو» بعد مقاومة لها امتدت لثلاثة عقود، لقد جاء إليه متأخراً إذ داهمته حينها حالة مرضية، ومزاجه ليس على ما يرام، وبعد عددٍ من الرسائل بينهما مزّق الورق كله وبشكلٍ فظ وأرسل بغضب: «لا أريد نشر هذه الأوراق»… عاد باديو إلى مقرّه ليدوّن كتابه «دلوز صخب الكينونة»، وضمّن مقدمة الكتاب هذه القصة المختصرة.

لقد جاء الكتاب كما يروي باديو «نتيجة صداقة صراعيّة بقيت، بمعنى معين، من قبيل الممتنع أن يحدث».

والكتاب يشبه «دلوز» أكثر من «باديو»، متجاوزاً للمنهج التسلسلي؛ كل فصلٍ منه هو قصيدة أو لوحة أو رسمة لمفهوم يتخيّله، يتناول بشاعرية فلسفية «مفهوم الواحد، تواطؤ الكينونة، الجدلية المضادة، مسار الحدس، في أساسٍ يعاود تفكّره، العود الأبدي والاتفاق، الخارج والطيّة، ومفهوم الطيّة»، المفهوم الذي سبب عودة باديو لدلوز؛ يصفه بابن القرن العشرين على الإطلاق. التفكير فرقٌ وتعرّف إلى الفروق. الأنطولوجيا تتطابق مع تواطؤ الكينونة. الأثر الذي لا يقوم على تراتبية هو تكثّف تكيانات، وتآينُ أحداث. منهج دلوز يرفض الاستناد إلى التوسيطات، منهج مضاد للجدلية".

تلك السجالات الأبدية أو الطارئة تحدث زخماً علمياً، ولكن الساحة العربية اليوم تفتقر لمناخات مماثلة من السجال الحيوي، وإن بَعُد مدى الاختلاف، لكنه ينتج تفجرات متعددة لتحفر مساراتٍ جديدة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 21 نوفمبر 2023

الصفحة 2 من 7

في المثقف اليوم