أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

هدى ابنة الكاتب العظيم نجيب محفوظ، الشهيرة بأم كلثوم، زعلانه مما قلته عن والدها، الروائي الكبير، في برنامج" أطياف" الذي تعده وتقدمه د. صفاء النجار الأديبة والاعلامية المعروفة. البرنامج الذي أطل علينا منذ نوفمبر العام الماضي وأثار العديد من القضايا الثقافية المهمة في لقاءات وحوارات مع الشاعر الكبير أحمد حجازي، ود. حسين حمودة الناقد المعروف، وخالد داغر رئيس دار الأوبرا وغيرهم من أهل الثقافة والفكر. أعربت أم كلثوم عن غضبها في حوار مع الأستاذ محمود مطر بالعدد الأخير من مجلة الاذاعة والتلفزيون الصادر 15 مايو. ويقول أستاذ مطر إنه اتصل بها فشعر بمسحة حزن بل وغضب، وحين استفسر منها فقالت له إنها كانت تتفرج ببرنامج أطياف فسمعت أحمد الخميسي يتحدث للدكتورة صفاء النجارعن والدها نجيب محفوظ، وفي حديثه:" تحامل على أبي بشكل صارخ" وقال إنه: "حضر ندوات نجيب محفوظ فى كازينو أوبرا طوال عام ونصف العام لم يسمعه خلال هذه المدة يقول كلمة مفيدة للشباب". وأضافت أم كلثوم:" ومن المؤسف أن يسىء الخميسي إلى نجيب محفوظ ويصفه بما ليس فيه".

وبداية أود أن أؤكد للأستاذة أم كلثوم ابنة اديبنا العظيم احترامي الكامل ومحبتي غير المحدودة للأستاذ، أما حديثي فكان عن الطابع الشخصي للأديب الكبير من دون أن يمس ذلك بأي درجة وضعه كأديب مصري عالمي. ونظرا لأن د. صفاء النجار أديبة أساسا ثم إعلامية فإنها خلال حديثنا دققت وجهة الكلام بقولها : " بالطبع نحن لا نتحدث هنا عن الأديب لكن عن سمات شخصيته " وأمنت على ملاحظتها. كان حديثي عن سمات شخصية أوجزتها بقولي إن أديبنا الكبير كان أشبه بالهرم العظيم المغلق على أسراره. وهذه حقيقة لا تمس قدره لا من قريب ولا من بعيد، ولذلك عاش يتفادى الدخول في معارك صغيرة، ويتجنب أن يفتح على نفسه أبوابا كثيرة قد يقود إليها تشجيعه للبعض من دون البعض. نعم لم أسمع منه كلمة مفيدة للشباب، وهذا سلوك في إطار حمايته لوقته، وتفرغه للإبداع، ولم يكن وحده من بين العباقرة من حمى نفسه بهذه الوسيلة، أما أنه أفاد الأدباء الشبان فقد أفادهم إلى ما لا نهاية بأعماله ذاتها. وقد يجدر بي أن أذكر الأستاذة أم كلثوم أنني – وليست هي – من دافع عن الأستاذ حينما حصل على نوبل، وثارت الأقاويل بأنه حصل عليها لقاء موقف سياسي. ونفيت ذلك جملة وتفصيلا في كتابي " نجيب محفوظ في مرآيا الاستشراق السوفيتي" الصادر 1989، نشرته مجانا، وجمعت فيه كل ما كتب عنه في الاتحاد السوفيتي،  وقلت في الكتاب بالنص: " ولنهنأ نحن أيضا بأستاذنا وأديبنا الذي غمرنا ببهجة ترجرجت أمواجها من المحيط الي الخليج"، وأن الجائزة : " ليست هدية سياسية لأديبنا عن موقف يريد لنا البعض أن نضغط الأديب بداخله.. وأن نجيب محفوظ لم يسع إلى الجائزة لكنها هي التي مشت إلى عليائه". ولطالما دافعت عنه وحتى عن رؤيته لقضية السلام وكررت أنه لم يتاجر بموقفه ذلك، ولم يتربح منه، لكنه كان موقفه الفكري بالفعل الذي شاركه فيه توفيق الحكيم وحسين فوزي وآخرون من الرواد. ولا يمكن بكل محبتي هذه أن أسيء إلى الأديب الكبير الذي أسعدني زماني بأن ألتقى به مع محبتي لشخصه النادر الذي لم يتوقف عن الابداع والتأمل وإسعاد الثقافة والفن بأعماله.

***

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

الفن بما هو فسحة خيال وتأمل وتأويل حيث الكائن في سردية أحواله تجاه عناصر شتى وتفاصيل للقول بالفكرة النابعة من الزمن وتداعياته وتلوينات حكاياته حيث الراهن في تجليات تعاطيه وتفاعله وفق تعبيرية تتآلف عناصرها وتتنافر بما يمكن من اعادة القول أسلوبا ونهجا وتلوينا...

هكذا هي الكلمات والصور والسرديات في مخيلة الفنان حيث السؤال يتجه لكيفية التقبل في ضروب من التجدد وهضم الراهن باشتراطاته الجمالية والتقنية لما انطبع في الدواخل من سير وحكايات وسرديات ضمتها الرسوم والفنون والأعمال التي مرت عليها أزمنة ودهور ولم يمسسها غير حرص الفنان على النفاذ اليها محاولا ومحاورا لأجل التجدد تجاهها والافصاح عن اللحظة المبدعة التي لا تروم غير الولوج الى كنهها ومساءلتها وذلك بقلق الفن وتداعياته وجوهر فكرته...

في هكذا سياق نمضي مع تجربة فنانة تشكيلية وباحثة تخيرت هذا المنحى من مساءلة ما هو ميثولوجي فنيا وجماليا تقصدا لشواسع مخيلة وهواجس ذات فنية حالمة تغوص في السرديات الفنية الأسطورية وذلك بالعمل على ما هو عجائبي وفنطاستيكي لتكون الرحلة الفنية المتسلحة بحلمها نحو العوالم المفتوحة على الدهشة والسحر...

الفنانة التشكيلية الدكتورة سهير قضريب تمضي في نهجها هذا فنا وبحثا من خلال أنشطتها الفنية ومشاركاتها العلمية والأكاديمية وكذلك المعارض الفنية وهي المسكونة بالفن وتفاصيله منذ طفولة أولى حيث تقول عن هذا المجال الجمالي المعنية به "... إنّ مفهوم الذاكرة غالبا ما يشغلني كباحثة في الفنون التشكيلية وهو ما جعلني أخوض أكثر في "الميثولوجيا" كإشكالية أساسية في أعمالي. لعل مفهوم الذاكرة على علاقة مباشرة بمرحلة الطفولة التي تُعتبر مرحلة مهمة في حياة الإنسان حيث تتشكل مخيلته الابداعية. ويُعتبر عالم القصص والخرافات والاساطير العالم السحري الذي يقودني إلى الخروج من الواقع المحدود نحو الخيال اللامحدود والمنفتح على اللانهاية. لذلك سعيت من خلال تجربتي التشكيلية نسج قصص خرافية عجائبية في شكل تمثلات فنطازية تكونت من توليفات بصرية جمالية ملونة التفاصيل مشحونة برموز وعلامات انبثقت من تأثيرات الميثولوجيا وسحر الخرافة والخيال، امتزج فيه المرئي باللامرئي بتمازج الخط مع اللون والشكل ليخلق عالما مُشبعا ومُزدحما تولدت من خلاله أشكالا تراوحت بين الضبابية والوُضوح تنطلق بالمخيلة إلى التساؤل والتأويل...".

و الفنانة سهير متحصلة على  أطروحة دكتوراه تحت إشراف د. كمال كشو ضمن عنوان  "الميثولوجي في الصورة الفوتوغرافية: د راسة مقارنة" وقبل ذلك تمكنت من الحصول على درجة الماجستير في الفنون التشكيليةعن "العالم المخيالي للمرأة وتداعياته الهجينة في التصوير المعاصر" باشراف الفنان التشكيلي والأستاذ نور الدين الهاني...و اشتغلت بالتدريس لسنوات في التعليم العالي والتعليم الثانوي بصفاقس والقيروان وكانت لها معارض ومشاركات فنية تشكيلية منها معرض جماعي في مهرجان ثقافات الفراعنة  بقرقنة

و معرض جماعي في معرض الفنون السنوية بصفاقس ومعرض جماعي لأساتذة صفاقس في  معرض القصبة بصفاقس و معرض جماعي بقاعة المدينة  خليل علولو، صفاقس

و معرض جماعي بقاعة البلدية  صفاقس ومعرض جماعي مع Le Pont des Arts

صفاقس ومعرض جماعي في المركب الثقافي محمد الجموسي بصفاقس والمشاركة في المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالشابة من ولاية المهدية وفي المعرض الجماعي والورشات للمهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس و معرض جماعي ومشاركة في مهرجان Olivier National، Kalàa Soghra، بسوسة الى جانب  نشر مقال في كتاب جماعي بعنوان " الميثولوجيا الذاتية من السرد إلى التشكيل " والحصول على دبلوم الرسوم المتحركة في الإذاعات تحت إشراف الجمعية  وهي  عضو مختبر البحث: Laboratoire de Langue  وذلك فضلا الى التمكن من اللغات ومهارات الكمبيوتر: Windows، Word، Excel، Power Point، Outlook،و التنقل عبر الإنترنت والرسم، الخط، التصوير الفوتوغرافي، النقش...

الفنانة والباحثة سهير قضريب تعمل في سياق من البحث والرسم والذهاب كثيرا في دروب التشكيل وفق شغف عايشها منذ طفولتها وصولا الى الآن حيث الفن بأسئلته الكبرى ومنها جمال التعاطي تجاه الذاكرة وأساطيرها وحكاياتها العجيبة المألوفة والنادرة ...

و" لعل مفهوم الذاكرة على علاقة مباشرة بمرحلة الطفولة التي تُعتبر مرحلة مهمة في حياة الإنسان حيث تتشكل مخيلته الابداعية. ويُعتبر عالم القصص والخرافات والاساطير العالم السحري الذي يقودني إلى الخروج من الواقع المحدود نحو الخيال اللامحدود والمنفتح على اللانهاية..." كما ثقول وهي الموغلة في اللعبة الفنية حبا وغراما وسفرا مفتوحا على.. ذاته وعلى الآخرين.. وعلى العالم.

***

شمس الدين العوني

وَاللَهُ حَقٌّ وَإِن ماجَت ظُنونُكُمُ

وَإِنَّ أَوجَبَ شَيءٍ أَن تُراعوهُ

كان هذا البيت ردّي على أحدهم لدفع التهمة عن المعرّي، بيت من قصيدة قصيرة كان قد طالعني في قراءتي  الآملة والباحثة عمّا هو مغاير للسائد الذي تحاول عبثا تكريسه ماكنة معطوبة لمؤسسة حكومية محدودة النظر، طالعني منذ سنوات لم تعد قريبة، والمنشور ضمن كتاب اللزوميات الطبعة الستينية ذات الأوراق السمراء التي يفوح من ثناياها عبق الحنين لماضٍ ترغمنا قسوة الحاضر اللوذ إليه وإن لم يكن بأحسن حال منه، هذا البيت لمن يقرأه، ولديه أدنى معرفة بالدين يستشف منه عقيدة المعرّي السليمة، التي لا تحتمل أدنى شك، التي لطالما جردّوه منها قصار الذهن واتهموه بالإلحاد، وهو القائل في موضع آخر:

تَشابَهَتِ الأَشياءُ طَبعاً وَصورَةً

وَرَبُّكَ لَم يُسمَع لَهُ بِشَبيهِ

فهل يعقل أن يرمى بالإلحاد من يقول بالكمال لله تعالى، وينفي عنه التشبيه، ويقرّ بربوبيته بوضوح لا يشوبه الشك؟!.

لكن وكأنه كُتب على هذا الشاعر في كل زمان ومكان يعشش بهما قصار العقول والرؤى ممن ينصّبون أنفسهم أوصياء على الفضيلة ليمارسوا سطوة غبائهم المركّب على الآخر المختلف عنهم، أن يقذف بتلك التهمة في محاولة فاشلة لإلصاقها به، ومعظم هؤلاء الأدعياء ممن حرم نفسه متعة القراءة، ولم يكلفّها عناء البحث ودراسة ما هو بصدد نقده، وكل ما يستطيع فعله هو اقتباسه لآراء وأقوال أشدّ تحجّرا من عقله النضب واستحضارها في مناسبات مختلفة، فكيف لا يرمى بهذه التهم وهو ذلك الشاعر الناقم على بيئته الثقافية والاجتماعية، والواصف لها وصفا لا يليق إلّا بشاعرية المعرّي فينشد قائلا:

فَإِن يَكُ رَذلاً عَصرُنا وَأَنامُهُ

فَما بَعدَ هَذا العَصرِ شَرٌّ وَأَرذَلُ

فما عساه أن يقول لو إنه أدرك ما بتنا نعيشه من فوضى تكاد تلتهم باقي المتبقي من فضيلة، نعاها شاعر المعرّة منذ قرون بالية، ليطلقها صرخة  بلسان حالها أرضنا الخربة:

وَالأَرضُ لِلطوفانِ مُشتاقَةٌ

لَعَلَّها مِن دَرَنٍ تُغسَلُ 

وليُتخذ قرار اعتزال القوم قرارا لا رجعة فيه، إذ نقلت لنا المصادرقوله الذي يوجز رأيه: "لزمت مسكني منذ اربعمائة، واجتهدت على أن أتوفى على تسبيح الله وتحميده"، فأين تهمة الألحاد من قوله هذا؟!.

***

ابتسام الحاج زكي - العراق

........................................

* شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء وهو اللقب الذي أطلقه النقّاد على الشاعر أبي العلاء المعري.

 

...... وقالت نتاشا (وهو اسم الدلع طبعا، اذ انها نتاليا) - ليس عبثا عدم وجود مفردة تشيخوفيزم (اسم تشيخوف + لاحقة ... يزم) باللغة الروسية، (اي التشيخوفية)، وانما توجد فقط بالروسية كلمة (تشيخوفيانا)، وتعني الدراسات والآراء المختلفة عن حياة تشيخوف وابداعه، فعلّق فانيا (وهو ايضا اسم الدلع، اذ انه ايفان) معترضا على ذلك و بنبرة احتجاج واضحة - ولكن لا توجد بالروسية ايضا مفردات مثل – بوشكينيزم، او تولستويزم، او دستويفسكيزم ...الخ، ومع ذلك فانني لم أجد في الادب الروسي، ولا في الادب العالمي حسب اطلاعي، على شئ يشبه او يوازي او حتى يقترب من قصة تشيخوف (السيدة ذات الكلب الصغير)، فهناك قال لنا تشيخوف بشكل بسيط ومقنع ورائع حقيقة هائلة في الحياة الانسانية تكمن في ان الحب المتأخّر للانسان هو الحب الحقيقي، رغم انه الحب المستحيل، وانا غالبا ما اعيد قراءة نهاية تلك القصة، التي تلخّص تلك الحقيقة الحياتية وتؤكّد عليها، وأظن، انها واحدة من خصائص التشيخوفية كظاهرة ادبية، اي انه يحدد لنا حقائق موجودة في مسيرة حياتنا دون ان يلاحظها الانسان، او – ببساطة - لا يريد ان يراها او الاعتراف بها، رغم انها موجودة . انتبه الحاضرون الى هذا النقاش الفكري والذي انبثق بشكل عفوي بينهما، وانقسموا الى فريقين تقريبا، الاول يؤيد نتاشا، والثاني يؤيد فانيا، وكان هناك بعض الصامتين (وربما هم الاكثرية !!!)، ولكنهم كانوا يتابعون بدقة وامعان وانتباه شديد ذلك النقاش الفكري حول تشيخوف، الذي بدأ في لقاء (ما تبقى على قيد الحياة !!!) من خريجي كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين، اللقاء النادر جدا جدا، والذي ننتظره دائما بشغف كبير، لأنه يعيدنا الى حلاوة ذكرياتنا عندما كنّا طلبة شباب في كليتنا الحبيبة قبل اكثر من نصف قرن من الزمان .

صمتنا جميعا بعد تعليق فانيا، وهو صمت ضروري طبعا للتفكير والتأمّل وتحديد موقف واضح ومحدد تجاه هذا النقاش الغريب والطريف جدا بين زميلتنا نتاشا وزميلنا فانيا حول التشيخوفيزم، او التشيخوفية، وخرقت فيرا اخيرا هذا الصمت وقالت – أما أنا، فاعيد دائما قراءة قصص تشيخوف القصيرة، اذ انني بحاجة ماسة في حياتي الصعبة و المعقّدة الى الضحك، او في الاقل، الى الابتسامة، وقصص تشيخوف تلك تمنحني ذلك، اي انها (الدواء!!!) بالنسبة لي، هذا اولا، وثانيا، لأني أجد فيها عبقرية تشيخوف الشاب، العبقرية العفوية والنقيّة والخالية من اي تعقيد وتقعير، عبقرية طبيعية ونظيفة جدا وتنساب بهدوء وسكينة وتتغلغل رأسا في اعماق الروح، اذ انه كتب تلك القصص بسرعة ودقّة ودون اي (مكياج!!!) عندما كان شابا يافعا، وطالبا مشغولا بدراسة الطب صباحا . أجابت نتاشا معلّقة على هذا الكلام – لم أقل أنا شيئا يتناقض مع ما ذكرتما من كلمات عن تشيخوف، بل، اني اؤيد ذلك، وانا ايضا اطالع نتاجاته دائما ومعجبة بها مثلكم، ولكن هذا لا يعني بتاتا، ان هناك ظاهرة متكاملة في علم الادب يمكن ان نسميّها التشيخوفية في الادب الروسي والعالمي، فطرح فانيا عليها رأسا سؤالا (صارما وحادّا!)، وهو – وماذا يمكن ان نسميها في رأيك ؟ فابتسمت نتاشا وقالت – فانجكا، نحن في جلسة سمر لنستعيد ذكرياتنا الجميلة، وليس هدفنا الان صياغة دقيقة لمصطلحات علم الادب كما كنّا نفعل ايام الدراسة في الكليّة، فضحكنا جميعا تأييدا لها، ولكن فانيا قال وبنفس النبرة الغاضبة – ان تهربك من الجواب ذكي جدا يا نتاشا، ولكن التهرب بشكل عام يعني انك لا تعرفين الاجابة الدقيقة عن سؤالي . قال ساشا – فانيا، لا ضرورة لاطلاق مثل هذه الاحكام المتوترة، نحن ندردش ليس الا، وقد نختلف وقد نتفق في دردشتنا، وهذا أمر طبيعي جدا، ولو كان تشيخوف حاضرا معنا الان لما سمح لك ان تتصرف هكذا، اذ ان تشيخوف نفسه كان وديعا و مسالما جدا، ويتجنب بالذات التصادمات الفكرية مع الآخرين، فضحكنا مرة اخرى، وقال اليوشا وهو يضحك - فكرة رائعة يا ساشا، اذ يجب دعوة تشيخوف في اللقاء القادم والاستفسار منه مباشرة حول التشيخوفية، فهو الذي سيحسم الموضوع، فعلّقت فيرا قائلة – لقد قال لنا تشيخوف في رسائله الى اصدقائه ماذا تعني التشيخوفية، ولعل اهم عناصرها يكمن في الايجاز، الا تتذكرون جملته التي اصبحت مثلا معروفا في روسيا، وهي – الايجاز شقيق العبقرية ؟ فتعالت الاصوات من هنا وهناك تأييدا لفيرا، وقال اليوشا – نعم، نعم، هذا صحيح جدا، فالاطناب بالكلام والكتابة ظاهرة مملّة فعلا للمستمع والقارئ، خصوصا، وان عصرنا هذا باحداثه المتلاحقة السريعة لم يعد ملائما ابدا للاطناب، واريد ان اضيف، ان تشيخوف قال مرة في احدى رسائله لاديبة ناشئة – احذفي نصف القصة، وجاءت التعليقات من هنا وهناك مثل امواج البحر المتلاطمة، فهذا يصرخ – لا تنسوا اسلوب البساطة والوضوح والشفافية، وذاك يضيف – والكتابة عن المواضيع الانسانية الخالدة دون كلمات طنانة ورنانة، وثالث يقول – ولهذا فان الانسانية تتقبّله لحد اليوم، فصاحت نتاشا وهي تضحك مقهقهة – انا معكم ايها الزملاء الاعزاء، انا معكم فعلا وقولا، ودعونا نعود الى طبيعة جلسة السمر هذه، الجلسة النادرة واللذيذة، فتشيخوف يوحدنا ولا يفرقنا.......

***

أ. د. ضياء نافع

ها هي رحلة الفن الجميلة تأخذ طفلها المدلل المأخوذ بشغف التلوين والرسم والنظر الى جنانها حيث خطاه الأولى بالبقعة القابسية الجميلة ونعني وذرف حيث طفولة وبهاء ونشيد مفتوح على الالوان والأمكنة.. ها هي الفكرة الملونة تعنون مسيرة ولع وعشق للفن لحوالي ستة عقود (55 سنة) وكأن الأيام لديه فن وشعر ولوحات وغوص في الحكاية الباذخة التي سماها ولها وهياها..

محمد القماطي هذا الذي يعانق ابداعاته الملونة بالفنون من كلمات وأعمال فيها الكثير من ذاته المفعمة بأحاسيس شتى.. هي علاقة وجدان وتواصل وحوار مفتوح.. و اما اللوحة لديه فانها العنوان المفتوح على الدهشة والحنين والآه..

والفن.. مساحة من مساحات القول الجمالي.. ذلك ان الحيز الممنوح للذات من عناصر وتفاصيل وأشياء يجعلها تتماهى بما توفر لديها من مفردة تشكيلية نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان.. والفن تعدد اتجاهات وتيارات ورؤى مختلفة.. ولكن الفنان محمد تخير نهج ألوان من وحي الحوار الوجداني والانساني البليغ مع محيطه وحياته عامة وفق وعيه الجمالي.. أما المشاهد فانها خليط بين ما يعتمل في الذات من أفكار وهواجس ورؤى تنبع من أصل الفكرة.. والفكرة هنا هي هذا الحوار المأخوذ بالتواصل والود والفعل الكوني المشترك تجاه القيمة.. انها قيمة الانسان في تجلياته الثقافية والفكرية والانسانية العميقة.

محمد القماطي فنان وكاتب بما في المعنى من ولع وشغف لكن الرحلة اخذته الى عوالم الالوان ومتاهاتها فراح يبحث عن وجد دفين في الدروب.. الالوان صارت حكايته الباذخة التي يستلهم من تفاصيلها اشجانه وهواجسه قولا بالفن كملاذ وحلم مفتوح على الطفولة العائدة.. يفعل فعله الفني هذا في هذه الحياة بين شؤونها الشتى وألوانها المفعمة بالحلم ولكن الفن أعطى اللون الآخر للرحلة وأصواتها الملائمة.. وفق سفر الى الفكرة.. الى حدائق اللون.. الى الابداع التشكيلي..

التجربة كانت مفتوحة ومتواصلة وجديرة بالنظر.. أعمال متعددة نهلت من العلاقة الآسرة بالمدينة.. بالمشاهد بالمرأة وبالحنين والتراث والعادات وغيرها و.. بالمدن عبر جغرافيا الحنين بأمكنة مختلفة في تونس من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب..

هكذا ومن رحم كل هذا وتواصلا مع نغم القلب والفن كوجدان يتواصل المعرض الشخصي للفنان محمد القماطي وفق رغباته الفنية والانسانية والثقافية التي تخيرها فنانا وانسانا حالما وتواقا للاجمل في هذا العالم.

هذا المعرض يتواصل برواق الفنون ببن عروس حيث افتتح يوم الاربعاء 31ماي 2023.3350 محمد القماطي

و تحت عنوان "تاملات" وانطلق بحضور جمهور فنه وأحبائه وأصدقائه وزوجته الفنانة التشكيلية حورية القماطي وتم ذلك في حفل استقبال وافتتاح حضره أيضا جمال بن عمر معتمد بن عروس ومهذب القرفي المندوب الجهوي للشؤون الثقافية بولاية بن عروس ومديرة رواق الفنون ببن عروس الفنانة نزيهة الصولي الى جانب نخبة من الفنانين التشكيلين والفوتوغرافيين وثلة من الأدباء والشعراء ومثقفي الجهة والفاعلين من المجتمع المدني..

الأعمال الفنية تحلت بفكرة الفنان القماطي في تعاطيه مع الرسم والتلوين ومثلت جملة مراحل اشتغاله الجمالي وتميزت بتنوع مواضيعها وثيماتها وتقنياتها وعن هذا المعرض الخاص يقول القماطي ".. سعدتكثيرا بهذا الحدث المهم بعد مسيرة متواصلة امتدت الى 55 سنة مع الرسم وسعيت في رواق بن عروس لابراز بانوراما تجربتي الفنية التشكيلية التي أواصل العمل ضمنها بعد العديد من المشاركات في المعارض الجماعية واقامة المعارض الخاصة وهذا يفرحني وشكرا لكل من زارالمعرض وأحب أعمالي ويمكنني القول ان الحلم يبقى يرافقني للعمل والتجدد وتقديم المعارض.. ".

معرض ولوحات وتنوع في سياق الرحلة الفنية بكثير من حلم الفنان ودأبه وحيويته في مشهد فني تشكيلي تونسي متحرك ومتعدد التجارب الفنية بين الهواية والاحتراف وفي الاساليب والاتجاهات والأجيال.

***

شمس الدين العوني

يشير مصطلح (سياحة ذوي الاحتياجات الخاصة) المرادف لمصطلح (السياحة الميسرة) أو (السياحة المتاحة) إلى نمط سياحي حديث نسبيا، ومرتبط بهذه الفئة من المجتمع. وشكل ما نسبته بين (10 % و12 %) تقريبا من اجمالي عدد السياح على مستوى العالم الذي بلغ (940) مليون سائح في عام 2010 مقابل (880) مليون سائح عام 2009 و(919) مليون سائح عام 2008، وفقا لاحصائيات منظمة السياحة العالمية. وتقوم هذه السياحة على توفير متطلبات وخدمات الضيافة (الايواء، الطعام والشراب....) والترفيه والترويح لهذه الفئة من الناس (فئة ذوي الاحتياجات الخاصة) التي وصل حجمها إلى (650) مليون شخص على مستوى العالم، بحسب منظمة العمل الدولية، ونحو (35) مليون شخص في المنطقة العربية، وفقا لمنظمة العمل العربية.. والعمل الجاد والدؤوب من أجل التغلب على كافة الحواجز والمشاكل التي تحول دون تمتع هؤلاء بالتسهيلات والامتيازات والخدمات التي يتمتع بها بقية السياح، وبغض النظر عن أنواعهم والفئات التي ينتمون اليها.  

ويعرف عن هذا النوع من السياحة بكونها عالية الكلفة بالمقارنة مع بقية أنواع السياحة لاحتمال قيام السياح من ذوي الاحتياجات الخاصة (أصم، أبكم، متوحد، متخلف عقليا، منغول، قزم، كبير السن، ضعيف النطق، ضعيف البصر.... الخ) إلى استصحاب مرافق له، يساعده في تحركاته وتنقلاته، وتحمله لنفقات إضافية نتيجة لذلك، أو حاجته إلى خدمات خاصة في مراحل معينة من رحلته السياحية، تقدم له من قبل مساعد من الشركة السياحية المنظمة للرحلة، واحتمال استخدامه لأدوات وأجهزة ومستلزمات إضافية، صحية كانت أو غيرها (كرسي متحرك، قصب اللمس، مقعد استحمام، جهاز فحص ضغط الدم، جهاز قياس سكري الدم، أدوات مساعدة على المشي، سماعات الاذن، طاولة اتزان.... الخ).

الأمر الذي يدفعه إلى تحمل تكاليف أخرى، لا تدخل ضمن ميزانية السائح العادي. وقد تكون بعض هذه الخدمات مجانية أو تشجيعية، تقدم من قبل الشركات والمرافق السياحية والفندقية في سبيل توفير رحلة سياحية ممتعة وناجحة وموفقة ومتكاملة الأركان لهم، وتأمين فرص التواصل والتفاعل الضرورية لهؤلاء في العملية السياحية، بعيدا عن المعوقات والحواجز البدنية والاجتماعية والنفسية، وبما يلائم مع المساعي الرامية إلى ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية في المجتمع، وبما يتناسب مع حقوقهم في العيش الكريم، اسوة بغيرهم من أفراد المجتمع، وبما يضمن حصولهم على الاحترام والتقدير بين أفراده. كقيام مطار الشارقة الدولي بتوفير المنحدرات والمصاعد والكراسي المتحركة لهؤلاء. وقيام مجموعة طيران الامارات بتهيئة صالة ركاب خاصة بهم في المبنى (3) من مطار دبي الدولي. بالإضافة إلى توفير كاونترات من أجل تقديم الخدمات الضرورية لهم.

وقيام السلطات المختصة في مطار لارنكا الدولي بقبرص بتوفير نقاط شحن للمقاعد الكهربائية، بالإضافة إلى المنحدرات الخاصة بحركة هذه المقاعد أثناء الصعود إلى باصات المطار والنزول منها، عملا باللائحة الأوروبية (2006 / 1107) حول حقوق المسافر من ذوي الاحتياجات الخاصة.  

و قد شهدت صناعة السياحة والسفر في السنوات الأخيرة ظهور شركات سياحية مختصة بتقديم برامج سياحية لذوي الاحتياجات الخاصة حصرا، مثل شركة (مصر للجميع) المصرية التي تستقبل زبائنها السياح من مختلف بلدان العالم. وتوفر لهم بالإضافة إلى الخدمات الأساسية فرص ممارسة هوايات عديدة مثل السباحة والغوص وصعود الجبال، ولقاء مبلغ إضافي (30 %). بالإضافة إلى ظهور مشاريع سياحية مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة مثل المرسى الخاص بأسوان في مصر الذي يوفر كافة الخدمات لهم على أعلى المستويات، شاملة نقلهم من المطار إلى المرسى بوسائل نقل مهيئة لهذا الغرض، واسكانهم في فندق عائم من فئة (5) نجوم (اماركو). وهو المشروع الوحيد من نوعه في أفريقيا والشرق الأوسط. ومعظم زبائنه من الأجانب والعرب من دول الخليج العربي بسبب كلفة برامجه العالية.  

و كانت وزارة السياحة المصرية قد أصدرت تعليمات في عام 2006، الزمت فيها الفنادق والمطارات والقرى السياحية بتهيئة وإعداد (10 %) من غرفها الفندقية والمصاعد ودورات المياه من أجل ذوي الاحتياجات الخاصة.

إن واقع سياحة ذوي الاحتياجات الخاصة في المنطقة العربية يشير إلى تهميش نوعي وعددي لهذه الفئة الغالية علينا في خارطة النشاطات والفعاليات والعمليات السياحية تقريبا، وقصور كبير من السلطات السياحية الرسمية والأجهزة الخاصة تجاهها، والمتمثلة في الشركات والمرافق والمنشآت السياحية والفندقية المكونة للقطاع السياحي الخاص. وقلة المبادرات التي أطلقت في المنطقة بهذا الشأن.  

وهنا لابد من الإشارة إلى بعض المبادرات الرائدة في هذا المجال، مثل مبادرة (السياحة للجميع) التي اطلقت تحت مظلة جامعة الشرق الأوسط الأردنية في عام 2011 بالتعاون مع (جمعية تنمية المرأة الأردنية للصم) من خلال إعداد دليل سياحي بلغة الإشارة، تخدم فئة الصم، لتمكينهم من زيارة المواقع السياحية الأردنية على الشبكة الأردنية. ومبادرة بعض المدن الترفيهية والمنتجعات السياحية في ينبع السعودية بتخصيصها واعدادها لبعض الأماكن ضمن منشآتها لتقديم برامج ومسابقات حافلة من أجل الترويح عنهم.  

و المبادرة التي أطلقتها (دائرة السياحة والتسويق التجاري) في دبي في 26 شباط  2002  للترويج السياحي لدبي كوجهة مهمة لهذه السياحة، بالدعوة إلى تهيئة وتكييف المناخ المطلوب لها، وبالتعاون المشترك بين القطاعات المعنية في الامارات العربية المتحدة.  

كذلك مبادرة الهيئة العليا للسياحة والاثار في المملكة العربية السعودية المتضمنة دعم ومساندة سباق ذوي الاحتياجات الخاصة المقام بممشى حديقة الملك سعود تحت شعار (أتحدى الإعاقة)، وضمن فعاليات صيف نجران 2011، ومنح فيه الفائز الأول جائزة رمزية بقيمة (1000) ريال، بالإضافة إلى تذكرة سفر من الخطوط الجوية العربية السعودية. وقيام (جمعية أصدقاء السائح) المشكلة في سورية في عام 2007 بإشراك الايتام وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم في ورش الرسم والتلوين والمسابقات الثقافية المقامة على هامش معرض الزهور الدولي 2008. 

***

بنيامين يوخنا دانيال

بين المشاهد والطبيعة الصامتة والأمكنة:

أعمال متعددة حيث الحلم بالابداع في مجالات الفن الفسيحة بين الحنين والنظر والاستلهام قولا بالرغبة الجامحة تجاه التلوين.

ضمن التجربة الذاتية مع الفن قد يكون الفنان حالما ومأخوذا باللعبة الجمالية التي تأخذه الى عوالمها المتعددة دبدنه في ذلك الحلم بالابداع حيث المجال الفسيح للحنين والنظر والاستلهام قولا بالرغبة الجامحة تجاه اللون ومشتقاته.فبالفن يرى الكائن حيزا من ذاته وهو المسافر بكثير من التمني والأمل قبالة عالم مكتظ بالمشاهد والعناصر والحكايات التي تحيل الى سرديات ملونة طافحة بالمعاني وبالشؤون والشجون...

من هنا نمضي الى عوالم الفنانة التشكيلية لبنى بوقلة التي تحلم بالعالم لتراه بمثابة علبة تلوين حيث أخذها الشغف بالرسم والتلوين منذ طفولة والى هذه الايام لترى في ذاتها تلك الأمنيات الملونة ...برز ذلك في مختلف أعمالها الفنية التي انطبعت من خلالها المشاهد ومنها قصر الجم الانيق وكذلك الحرفي المنهمك في خزفياته وشغلته الفنية مع الطين والطبيعة الميتة والتراث والمراة و غيرها من الابداعات وما تحيل اليه من بهجة الفنانة لبنى وهي تنقل جمال الأشياء في صمتها وسكونها... و غير ذلك من مواضيع وثيمات اللوحات التي تنجزها.شاركت في معارض متعددة منها معرض "الفن والألفة " بسيدي بوسعيد وبمارينا المنستير سنة 2023 وفي معرض " استلهام ثلاثي " مع الفنانة نعيمة القيزاني والجامعي والفنان غازي حسني وذلك برواق فني بسوسة الى جانب أنشطتها المختلفة في الفنون بمدينة ليون الفرنسية.

لبنى بوقلة فنانة تشكيلية تكونت ضمن ورشات " الفنانون المبتدئون " بليون حيث دراسة التصوير والرسم والفن عموما وبالمعهد الفرنسي" في حصص الرسم والفن التشكيلي والابتكارات اليدوية فضلا عن تدريب مع الفنان التشكيلي سمير بن علية.Dagneux "

هذا الى جانب الحصول على البطاقة في الاحتراف من الديوان الوطني للصناعات التقليدية كما أنها كانت صاحبة العديد من المشاركات في المعارض والأنشطة الفنية التشكيلية. وعن جانب من علاقتها بالفن التشكيلي والرسم تقول الفنانة لبنى بوقلة "... أنا أعتبر الفن تعبيرًا عن الذات أولاً وقبل كل شيء. حيث المشاعر من صميم الحياة وجوهر تفاصيلها وكل ما يحيط بي ... رسمت عوالم متعددة منها مشاهد الحياة والطبيعة والحيوانات التي أحبها قبل كل شيء، وبالتالي تعبر لوحاتي عن جانب مهم من مزاجي وخيالي لأحكي قصة يمكن للجميع معرفة صميمها وهوامشها وذلك من خلال تجربة المعيش.قد يرى البعض اللوحة بالطريقة التي تتناسب مع متطلبات رؤيتها من خلال الألوان أو الموضوع. وما يهمني هو أنني أطلق العنان لخيالي تجاه تقبل الجميع.بالنسبة لي، فأنا في بحث دائم عن نفسي في الرسم والفن بشكل عام، ولا أتوقف أبدًا عن الحلم بالإبداع والابتكار. أنا أبحث دائمًا عن مجالات جديدة للإبداع. لا أعرف ما إذا كنت قد انتهيت حقًا من العثور على أسلوبي، ولكن على أية حال، فأنا أعمل باستمرار على ذلك.بي طفلة في دواخلي هي لبنى بوقلة الفنانة الحالمة والرسامة المجتهدة المغرمة بالفن منذ الصغر، انضممت إلى نادي الرسم في اختصاص الرسم الزيتي، حيث تمكنت من تقنية الرسم الزيتي وكان ذلك لمدة عام تقريبًا...".

هكذا هي المساحة الفنية للرسامة لبنى بوقلى حيث ترى في الرسم والتلوين مجالات للحلم والقول بجمال الأشياء وبهاء العناصر ضمن تخير أسلوبي ولوني تعمل عليه في سياق تعاطيها الجمالي أملا في عالم أجمل بالفن حيث الانسان ينشد جمال العناصر والتفاصيل في كون من الصراعات والتداعيات المربكة.

هذا ومن خلال تنوع لوحاتها وما تحمله من عناوين ومواضيع فنية تشكيلية تسعى الفنانة لبنى بوقلة لابراز خصوصيات تجربتها التي تشتغل عليها في عوالم التلوين وذلك بالاعداد لمعرضها الشخصي في احدى الأروقة المعدة للفنون بالعاصمة فالرسم لديها حاة وعي وحب وجمال ورسالة الى الانسسان.

***

شمس الدين العوني

رواية مرافئ الحب السبعة نموذجا

هل لم تعد الحاجة تدعو الى مترجمين ادبيين؟

في زمن الانتشار المكثف للمعالجة المعلوماتية وذيوع البرمجيات الآلية، وآخرها انجازات برمجية "بين قوسين" الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي" وقدرته على محاكاة الانتاجات الآلية البشرية الى درجة أن وضع المترجمون ايديهم على قلوبهم خوفا من ضياع مناصب شغلهم.. لكن بإيجاز شديد، ما يسمى بالذكاء الاصطناعي ليس له من الذكاء الا الاسم، فما هو سوى نهب واستغلال للجهود البشرية ومحاولة انتاج مماثل بفعل سرعة المقارنات.. فالمنتوج آلي محاكي صرف، وسرعان ما يسقط هذا الروبوت في الاختبار إذا طلب منه صناعة نص مليء بالمشاعر والجماليات اللغوية والعناصر الثقافية.. فلا تنتج هذه الآلة غير كلمات جوفاء باردة، لا روح فيها ولا زخم، ولا نبض بشري صادق..

ولا عجب، فالمترجمون الادبيون بكل خلفياتهم العلمية والثقافية يعترفون بخيانتهم بدرجة ما لنص أدبي ما، فكيف بهذا الروبوت اللعين، الوليد غير الشرعي لحسابات وجشع الشركات الكبرى؟

إذن اين تتمثل صعوبات الترجمة الأدبية؟

يعترف الاختصاصيون اننا عندما نترجم نصا ادبيا فإننا نترجم كل مكونات هذا النص من محتوى وجمالية وايقاعات وايحاءات وتلميحات وخصوصيات ثقافية وما وراء الكلمات والاشياء الضمنية وما يريد المؤلف ايصاله الى قارئ اللغة الأصل.. لذلك يرى منظرو المجال انّ شروط الإبداع يجب ان يتضمن فضلا عن اجادة اللغتين، امتلاك ذائقة فنية وثقافة عميقة في كلي اللغتين.، ويتعين على المترجم ان يبدع عملا يضاهي او يقترب من العمل الاصلي، والامثل ان يبدو كانه مكتوب باللغة الهدف.

اعتبارا ان لا تكافؤ بين اللغتين في البنية والتراكيب والاستعارات وغيرها، كما ان القارئ الجديد قد يجهل كل شيء عن الثقافة المترجمة.

وفي مثالنا هذا الترجمة الفرنسية لرواية العلامة الدكتور علي القاسمي "مرافئ الحب السبعة" الصادرة في عدة طبعات منذ العام 2012 والتي حظيت باهتمام النقاد وكتب عنها عشرات الرسائل الجامعية..

في هذا العمل، كل عناصر الصعوبات والتحديات موجودة في هذا المؤلف الرائع،

ولنبدأ من البداية:

بعد مغادرة قسرية للوطن، واسفار وتنقلات عديدة، وشعور بثقل نفسي هائل، يستعد الكاتب لمعالجة تغريبته عبر الكتابة. فيستمر في مكتبه طوال اليوم والليل، يشرع في خط رواية متفجرة ذات ايقاع شعري خالص؛ لكنه كان يتوقف في كل مرة، يبلل الأوراق بالدموع ويقطّع ما كتب. ثم يعاود الكرّة من جديد.. ولو أنّ أصدقائه نصحوه بالتوقف قائلين له تصريحا أنه لن يستطيع الكتابة في هذه الظروف عن الوطن السليب والحرية المكبوتة والحب الخائب وذكريات الطفولة والأم والنخلة والقرية وحيواناته الأليفة ..

الا انه نجح في النهاية بعد مدة طويلة جدا-عشر سنوات-العقد الاول من القرن الواحد والعشرين..

إذن نحن امام ابداع ادبي عميق جياش، يفيض الما وشوقا وحنينا.. بوح انساني سام.. الرواية سيرة ذاتية شعرية درامية ملحمية معرفية، نبضت بمكنونات العراقي المهجّر ونثرت على الأوراق آمال الاحلام الكامنة في اللاوعي العربي.. فنجد التاريخ العربي والتغريبة الفلسطينية والاندلسية ومآسي الشعوب العربية وخصوصيات ثقافية فنية (من موشحات وتهاليل واشعار صوفية) وبطولات شعبية واعتزاز بالحضارة العربية وقصص حب عذري حزينة سعيدة..

كل هذا، الظروف التي كتبت فيها الرواية وروحها الفياضة،

علينا ابداعه بصدق واصالة؛

ويا لها من مهمة !

ولا بأس أن أحكي عن تجربة من سبقني في إعادة كتابة هذه الوراية، وهي محاولة فريدة قبلي انا من طرف المستشرق الروماني نيقولا دوبريشان، مترجم معاني القرآن الكريم وادباء عرب الى لغته.. هذا الرجل، أمام رواية مليئة بالإشارات الثقافية المحلية، اختار اسلوب الشرح والهوامش من اجل وضع القارئ في عالم القصة، وهكذا حفلت الرواية بهوامش كثيرة يحال المتلقي الروماني اليها.

اما من جهتي، فقد اردت انتاج رواية من دون مقدمات او هوامش، اردت ان يندمج القراء في عمل فني رائع دون توقف او شروحات..

لا ادري ان كنت مصيبا او مخطئا؟

للحقيقة، الرواية فضلا عن الزخم العاطفي والايقاع الشعري، عامرة بالنبرات الثقافية في كل ما كتب. فالقارئ الاجنبي اكيد انه لن يتلقى كما يتلقى القارئ العربي وقع كلمات بغداد، المستنصرية، ابو نواس، الحلاج، فاس، القرويين، محمد الصغير وخطاب امه اليه "نعم، ابكِ كالنساءِ ملكاً لم تدافع عنه كالرجال"، بل حتى اسماء شخصيات الابطال ووقعها، "أثيرة" المفضلة"، سليم (المفروض انه معافى لكنه دائما عليل بعشق الوطن والمراة.. )، اسم البطة "وفاء" رمز الاخلاص..

ولكي نرى بعضا من ذلك، لنقرا فقرات مختارة ومقابلها بالفرنسية:

عندما أوت حميدة إلى سريرها تلك الليلة، كانت تشعر بانقباضٍ لا تعرف له سبباً. لم تتمكَّن من النوم. تناولتْ كتاباً وراحت تقرأ في الفراش فلم تستطِع أن تفهم شيئاً مما قرأتْ. ألقتْ بالكتاب جانباً، وغطَّت رأسها في دعوةٍ منهكة للنوم. في منامها المنغَّص، رأت بغداد تحترق في الليل. كانت ألسنةُ اللهب تتصاعد إلى عنان السماء، وتغطّي المدينة الغافية على ضفتَي دجلة، بدثارٍ من دخان. في كابوسها المُريع، أطلّتْ من شرفة شقّتها على شارع أبي نواس، فتراءت لها كراسي المقاهي الممتدَّة على النهر تلتهمها النيران، وهي تلقي بنفسها في ماء النهر، للنجاة من ألسنة اللهب. وراح تمثال الشاعر أبي نواس يتلوّى وسط النيران وكأنَّ يوم القيامة قد حلَّ، وأُلقي بالشاعر السكّير في جهنم، دون أن تشفع له زُهديّاته وابتهالاته الشعريّة التي نظمها في أواخر حياته.

ومن بعيد، تراءت لها السواري الرخاميَّة لجامعة المُستنصِريَّة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى تحت النيران، وتتداعى جدرانها المزخرفة، وتذوب ألواح شبابيكها الزجاجيَّة الملوَّنة، فتجري ذائبةً في سواقٍ من لهبٍ، تجتاح الأزقَّة القريبة المؤدِّية إلى شارع المتنبي، فتحرق في طريقها الكُتُب والمخطوطات المكدَّسة في دكاكين الورّاقين، وفي المعاهد العلميَّة، وفي المكتبات، وفي بيوت الخواصّ، وفي صدور الرجال. تحترق أوراق الكتب ولا يتناثر منها في الفضاء إلا التكبيرات: " الله أكبر"، " الله أكبر"، " الله أكبر"، لتملأ الجوَّ مثل طائراتٍ ورقيَّةٍ لا تشدّها خيوط ولا يسوسها أطفال. وأمام أنقاض جامعة المستنصريَّة، وقف شبحُ الخليفة المستنصر بالله، حاسر الرأس، مُعفَّر الجبين، حافي القدمَين، وقد أذهلته الكارثة التي حلَّت بالجامعة التي شيَّدها.

كانت النيران تسري في كلِّ دربٍ من دروب المدينة العريقة، وتجتاح كلَّ مَعلمة من معالمها: المكتبات، المدارس، المصانع، المنازل، المعاهد، وأطلال الأَحبَّة. حتّى الحدائق العامَّة لم تسلم منها، فقد كانت النار تلفُّ جذوع الأشجار وتمحق أغصانها، فتتكسَّر باعثةً أزيزاً وأنيناً وأصواتٍ متنافرةً تختلط في ضجّةٍ رهيبة. وكانت ألسنة اللهب تلاحق الفراشات المتطايرة فراشةً فراشةً، فتحيلها إلى رماد؛ وتمتدّ إلى الزهور المتمايلة زهرةً زهرةً فتذرو وريقاتها هباءً.

أفاقت حميدة مذعورة وهي تتساءل: أين أنتَ يا زكي الآن؟

ص4

Cette nuit-là, dans son lit, Hamida se sentit déprimée sans savoir pourquoi. Elle ne parvint pas à s´endormir. Elle prit un livre et commença à lire sans rien comprendre. Elle jeta alors le livre et, épuisée, couvrit sa tête dans une invitation au sommeil. Dans son sommeil troublé, elle vit Bagdad s’incendier. Les flammes s´élevèrent dans le ciel, et la fumée enveloppa la ville qui était plongée dans le sommeil, sur les bords du Tigre. Un affreux cauchemar ! Depuis le balcon de son appartement, qui donnait sur la rue d’Abu Nuwas, elle vit alors les chaises des cafés dévorées par les flammes, et des individus qui se jetaient désespérément dans l’eau du fleuve. La statue du poète Abu Nuwas se tordait au milieu des flammes comme si le jour du jugement était arrivé. Le poète ivre était jeté en enfer, sans que les poèmes ascétiques qu´il avait composés à la fin de sa vie puissent intercéder.

Hamida aperçut au loin les pylônes marbrés de l’Université Al-Mustansiriya qui s’effondraient les uns après les autres sous les flammes, et les murs peints qui s’écroulaient. Les baies vitrées colorées se fondaient dans un ruisseau de flammes, qui envahissaient les ruelles voisines menant à la rue Al-Mutanabi, et brûlaient sur leur passage les manuscrits, qui étaient amassés dans les papeteries, les institutions scientifiques, les bibliothèques, les maisons et le cœur de l´humanité. Les feuilles des livres se consumaient, et seules les louanges qui évoquaient la grandeur de Dieu s´envolaient dans l´espace : « Allah est grand, Allah est grand, Allah est grand », remplissant l’atmosphère, tels des cerfs-volants sans fils, ni guide. Devant les ruines de l’Université Al-Mustansiriyya surgit le fantôme du calife Al-Mustansir Billah. Immobile, la tête et les pieds nus, et le front couvert de poussière, il était abasourdi par le désastre que l´université qu’il avait bâtie subissait.

Les flammes se propageaient dans tous les recoins de la ville majestueuse, s´emparant des bibliothèques, des écoles, des usines, des institutions… et atteignaient des êtres chers. Même les parcs publics n’avaient pas été épargnés : le feu cernait les troncs des arbres et balayait leurs branches, qui se brisaient en émettant un grondement. Au même moment, dans un vacarme assourdissant, se mêlaient des sanglots et des bruits discordants. Les flammes poursuivaient les cerfs-volants, les réduisant en cendres, et attaquaient les fleurs vacillantes, les réduisant en poussière.

Hamida se réveilla terrifiée en se demandant où était Zaki.

P14

آه يا نخلةَ أُمّي. لقد طوّفتُ في مدن الأحزان، وتنقّلتُ بين البلدان، عبرت البحار والشُّطآن، فلم أرَ مثلك في شموخكِ، وتناسق شكلكِ، وروعة لونكِ، وطيب ثمركِ. كلُّ الأشجار قميئة القدر بعدَكِ. شاهدتُ أشجار الأَرز الضخمة في ذرى جبال لبنان، ورأيت شجرة الباوباب العملاقة في جزيرة مدغشقر، وفي جنوب أفريقيا شاهدت الأهالي يتجمّعون في الربيع حول شجرة الجَكَرَنْدَا الزاهية بأوراقها القرمزية وهم يتمتمون بأمانيهم كيما تُستجاب، وفي أقصى بلاد سوس تلمّستُ شجرة الأرگان الصلدة التي قاومت زلزال أغادير؛ ولكن لم تدخل قلبي شجرةٌ مثلكِ، يا نخلةَ أمي، ولم يلذّ لي ثمرٌ كما لذَّ لي رُطَبكِ عندما كنت أتناوله مع اللبن المخيض. كلُّ الثمار لا طعم لها في فمي بعد رُطَبك، يا نخلة أمي. وكلُّ الأشجار تتضاءل، تتقزم، تتلاشى، إذا ما قورِنت بقامتك الفارعة وأنت منتصبة بإباء في دارنا القديمة الفسيحة الأرجاء. كم تمنيتُ أن أكون طائراً يحلّق في الأعال، يخترق الحدود دون أن تلحظه العيون، لأحطَّ على سعفة من سعفاتك التي يهزّها النسيم، كما كانت أُمّي تهزّ مهدي تحت ظلالك، أو كما كنتُ وأخوتي نتأرجح في أرجوحة نربطها إلى جذعكِ وأحد شبابيك المنزل. آه، يا نخلةَ أُمّي، كم أتمنّى اليوم لو أنّني صنعتُ تمثالاً معبوداً من تمرك، على عادةِ بعض عرب الجاهلية الرُّحَّل، وحملته معي في حقيبتي كيما ألتهم شيئاً منه عندما يعضّني جوع الحنين إلى الوطن.

ص14

Oh ! Palmier de ma mère ! Je me suis promené dans les villes de la tristesse, j’ai voyagé de pays en pays, j’ai traversé les mers et les rivages, mais je n’ai jamais vu quelque chose de pareil. Je n´ai jamais rien vu de pareil que toi, de pareil que ta grandeur, que ta forme harmonieuse, que l´enchantement de ta couleur, et que tes délicieux fruits. Aucun arbre n´est égal à toi. J’ai vu les énormes cèdres qui parsèment les sommets du Mont Liban ; l´arbre géant de l’île de Madagascar ; les familles en Afrique du Sud qui se regroupent autour du Jacaranda (arbre subtropical orné de feuilles violettes) pour y murmurer leurs souhaits dans l’espoir qu’ils soient exaucés ; l´arganier (arbre coriace de la région du Souss au Maroc) qui a résisté au séisme d’Agadir… Cependant, aucun arbre n’a pu conquérir mon cœur comme tu l´as fait, palmier de ma mère, et aucun fruit n´a été aussi délicieux que les tiens… tes fruits que je mangeais avec du babeurre. Aucun fruit n´a le même goût que tes dattes dans ma bouche. Oh ! Palmier de ma mère. Tous les arbres s’affaiblissent, s´éteignent, s’effacent, en comparaison avec ta grandeur, toi qui est érigé avec fierté dans notre ancienne maison spacieuse. J’ai tant souhaité être un oiseau planant dans les hauts cieux qui dépasse les frontières en passant inaperçu, afin de me poser sur une de tes palmes que la brise secoue. Ainsi le faisait ma mère lorsqu´elle me berçait sous ton ombre fraîche, ou comme nous le faisions mes sœurs et moi-même lorsque nous nous balancions sur la balançoire que nous attachions à ton tronc et à l´une des fenêtres de la maison. Oh ! Palmier de ma mère. J´aimerais tant dresser une statue à ta mémoire, à la mémoire de tes dattes, qu´elles soient vénérées, comme avaient l´habitude de le faire certains nomades de l´Arabie préislamique… les emporter avec moi, dans mon sac, afin d’en manger un peu lorsque la nostalgie pour la patrie me dévorerait.

P23

إنَّك لا تدري، يا أبي، أنَّني منذ ذلك الفجر الذي احترفتُ فيه الرحيل، والشمس تشرق كلَّ صباح في عيني من العراق، وتغيب كلَّ أصيل في العراق، وأنَّ ساعتي أدمنت توقيت بغداد، أينما ذهبتُ، لأنَّ هذه الساعة التي أهديتَها إليّ ذات يوم، تعمل بالنبض، نبض قلبي الذي تجسّه في معصمي. وقلبي ينبض بحبِّ العراق.

تقول، يا أبي، إنَّني قد أنسى وطني حينما أعبر إلى الضفة الأُخرى، وأنتَ على يقينٍ، يا أبي، أنَّني في أيِّ المحيطات أبحرتُ، وفي أيِّ البحار نشرتُ أشرعتي، فإنَّ بوصلة القلب ستبقى متجهةً دائماً نحو منائر وطني، وأنَّ ساريتي ستظلُّ أبداً ملفّعة بشال أُمّي وضفائر أُختي. وسأستنشق عبير بستاننا في نسيم البحر. وسيغتسل طيف بلادي في مجرى مركبي، وأرى خيال أعناق نخلاتنا في الغمائم فوق السفن، وسيجري ماء الفرات على الدوام في عروقي وأوردتي وشراييني ودمعي. وسأظلّ صادياً ظمآنَ لن أرتوي إلا ببضع قطرات من ماء الفرات الفرات.

وطني هو ذلك النهر المنساب برقّة في أحضان قريتنا الوديعة. وطني هو النخلات التي تحنو على النهر ويتدلّى سعفها الطويل في مجراه، فتمتزج خضرتها بزرقة السماء على صفحة مائه. وطني هو البجع البري الذي كان يسبح مع مجرى التيار قادماً من أعالي النهر، فكنتُ أسبح نحوه جذلاً، أطلق صرخات الفرح، أطارده بمرح، ترفرف أجنحته، يرتفع طائراً على سطح الماء، فانبهر به.

وطني هو قبلة أمّي على جبيني، وضمّة أمّي إلى صدرها، وحكايات أمّي والنعاس يداعب أجفاني في دفء فراشي، وخلطة الحليب والزبدة والعسل التي كنتَ تسقيني في فطور الصباح، وجدائل أُختي الكبرى وهي تقودني إلى المدرسة.

وطني هو الراعية الصبيَّة، عيدة، ذات الوجه الأسمر المليح المتناسق التقاطيع، والجسم الناحل الصغير، والذؤابتين المنفلتتَين من عصابة رأسها السوداء. عيدة التي كنتُ أجري خلفها وهي مسرعة إلى عملها في المروج، وأنا أنادي: " عيدة، عيدة" فتلتفت نحوي ملوِّحةً بعصاها مهدّدة وهي تقول: " وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" فكنتُ أضحك للهجتها البدويّة، والحزم البادي على وجهها الأسمر الصغير.

هل كنتُ أعبث، يا عيدة، حين كنتِ تعملين بجدّ، فاستحققتُ لعنتكِ؟ إذن الآن وقد أدركتُ معنى العمل بعد هذا العمر، أعذركِ واطلب منك العفو. أتدرين، يا عيدة، أنَّ ذاكرتي ظلّت موشومةً بملامحكِ التي لوَّحتها شمس بابل بسحرها، موشومةً بعينيكِ اللامعتَين، بشفتيكِ المكتنزتَين. ما تذكَّرتُ طفولتي، يا عيدة، إلا وكنتِ أنتِ تركضين في مروجها الخضراء بهمَّةِ وحزم، تردّين نعجةَ شاردةً إلى القطيع، أو تنحنين لتحتضني حَملاً لم يستطع مجاراة القطيع، أو تعدّين غنمك بالعصا قبل العودة إلى المراح، وتركضين وتركضين وكلبك يجري خلفكِ دوماً، كما لو كان مشدوداً بخيطٍ إلى أذيال ردائكِ ذي القبّ والسلهام الطويل.

ولكنْ، قولي لي، يا عيدة، أين أمسيتِ اليوم؟ هل عدا عليك الزمن الذي لا يرحم كما عدا عليّ؟ هل غزا الشيب مَفْرِقكِ؟ هل أقعدتك الشيخوخة فلا تستطيعين المشي، بله الركض؟ أم أنَّ يد الموت قطفتكِ قبل الأوان كما كنا نقطف التفاح في بستاننا؟ وكيف مرّت حياتكِ؟ هل كنتِ سعيدة؟ أم أنَّ الناس في الأرياف لا يعرفون معنى السعادة؟ حسناً، هل تزوجتِ؟ وهل كان زوجكِ رجلاً طيّباً؟ هل عاملكِ برفق؟ هل أنجبتِ أطفالاً بمثل ملاحتكِ، وسمرتكِ، وحدَّة لسانكِ؟ وأين هم الآن؟ هل أُتيحت لهم فرصة التعلُّم في المدرسة؟ هل مارسوا أعمالاً أقلَّ عنتاً من الفلاحة والرعي؟ أم التهمتهم نيران الحروب الهوجاء التي دمَّرت وطني؟

أتذكَّرك، يا عيدة، فأضحك من أعماقي. أنا الذي نسيت طعم الضحك في فمي منذ سنوات. أضحك من كلماتكِ التي كنت تنطقينها بنبرة حادّة: " وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" هل كنتِ تعدّينني طفلاً شقياً يبتغي إضاعة وقتكِ فتردعيني بأقسى الكلام، وبتلويحٍ من عصاك الطويلة؟ ص80

Vous ne savez pas, père, que depuis cette aube où je suis parti, chaque matin le soleil se lève dans mes yeux en Irak et le crépuscule s´y couche aussi… ma montre est réglée sur l’heure de Bagdad, peu importe où je vais, parce que cette montre que vous m’avez offerte un jour, fonctionne par impulsion, l’impulsion du cœur palpable sur mon poignet. Or mon cœur bat pour l’amour de l’Irak. Vous dites, père, que je parviendrai à oublier ma patrie quand je passerai sur l’autre rive. Pourtant, vous savez bien que la boussole de mon cœur sera toujours orientée vers les phares de ma patrie, et que ma grande voile sera à tout jamais enveloppée du châle de ma mère et des tresses de ma sœur. Le parfum de notre verger, je l’inhalerai dans la brise de la mer. Le spectre de mon pays se lavera dans le courant de ma navigation, l’ombre de nos palmiers planera dans les nuages et dominera les bateaux, et l’eau de l’Euphrate coulera en permanence dans mes veines, mes artères, mes vaisseaux et mes larmes. Assoiffé, seule l´eau de l´Euphrate apaisera ma soif.

Car ma patrie, c’est cette rivière qui coule tendrement dans notre paisible village. Ma patrie, ce sont les palmiers qui se penchent sur la mer, les longues palmes tombantes, dont la couleur verte se mélange au bleu du ciel, irradiant ainsi la surface de l´eau. Ma patrie, c’est le cygne qui nage le long du cours d’eau en amont de la rivière, vers lequel je nage, exalté, lançant des cris de joie et le poursuivant pour m´amuser. À l´envol, il ne court pas à la surface de l´eau, mais décolle directement d´un seul élan, et cela m´impressionne !

Ma patrie, c’est ma mère qui baise mon front, me serre contre sa poitrine, me raconte des contes, tandis que bien au chaud dans mon lit, la somnolence caresse mes paupières. Ma patrie, c´est ma mère qui me sert au petit déjeuner ce délicieux mélange de lait, de beurre et de miel. Ma patrie, ce sont aussi les tresses de ma grande sœur qui me conduit à l’école. Ma patrie, c’est la petite bergère Aida au charmant visage brun et harmonieux, au petit corps maigrelet… Aida, derrière laquelle je courais alors qu’elle allait aux pâturages, tout en l’appelant « Aida, Aida ». Elle se tournait alors vers moi et brandissait son bâton menaçant en disant (d’un accent bédouin) :

Qu’une douleur aiguë te touche, que veux-tu d’Aida ?

Je riais de son accent, et de la fermeté apparente sur son petit visage foncé. Oh ! Aida. Je ne faisais que rigoler tandis que tu allais à la besogne. Est-ce que je méritais une telle malédiction ? Avec l´âge, j´ai enfin compris ce qu´est le travail… je te comprends et te demande pardon. Tu sais, Aida, ma mémoire est restée tatouée par tes traits que le soleil de Babel avait dessinés avec sa magie, marquée à tout jamais par tes yeux brillants, par tes lèvres pulpeuses. Chaque fois que je me souviens de mon enfance, Aida, je te vois courir dans les pâturages verts avec détermination et fermeté, ramenant une brebis errante au troupeau, te penchant sur un agneau n´ayant pu suivre le rythme du troupeau, ou encore comptant tes moutons avec le bâton. La joie de vivre ! Tu courais sans cesse, ton chien toujours derrière toi comme s´il était pendu à ta robe longue à capuche.

Mais, dis-moi, Aida, où étais-tu ce soir-là ? Le temps, impitoyable, t’a-t-il transgressée comme il m’a transgressé ? Le grisonnement a-t-il envahi tes cheveux ? La vieillesse t’a-t-elle estropiée ? Peux-tu encore marcher, sans parler de courir ? La main de la mort t’a-t-elle prématurément cueillie comme on cueillait les pommes dans notre verger ? Et comment as-tu vécu ? As-tu été heureuse ? (si les gens de la campagne ont le sens du bonheur). T´es-tu mariée ? Ton mari a-t-il été un homme bienveillant ? T’a-t-il traitée tendrement ? As-tu eu des enfants ayant ton charme, ton teint hâlé, et ton insolence ? Où sont-ils maintenant ? Ont-ils été à l´école ? Ont-ils exercé des professions moins pénibles que la besogne agricole, l’agriculture et le pâturage ? Les feux des guerres dévastatrices ont-ils ravagé ma patrie ?

Je me souviens de toi, Aida, et je ris au fond de moi. Moi, qui depuis des années a oublié le goût du rire dans ma bouche. Je ris des mots que tu prononçais sur un ton aigu « Qu’une douleur aiguë te touche, que veux-tu d’Aida ? ». Est-ce que tu me considérais comme un vilain garçon qui désirait abuser de ton temps ? Tu me dissuadais alors avec des mots durs en brandissant ton long bâton.

p.88

***

مصطفى شقيب - مترجم أدبي

يونيو 2023

يشهد المركز الثقافي الفاضل بن عاشور بالمرسى في الفترة من يوم السبت 10جوان الجاري الى غاية يوم 01 من شهر جويلية المقبل نشاط المعرض الثنائي بعنوان "حنين تونسي" حيث تتعدد الاعمال الفنية بقاعة العرض لتبرز حيزا من تجربتي الفنانة التشكيلية حذامي سلطان والفنان التشكيلي محمد علي خواجة .

هذا المعرض الثنائي مناسسبة لاطلاع جمهور الفن واحباء الابداع التشكيلي لفنانين مختلفين في الأسلوب والتجربة ليكون الجامع بالمناسبة هو ابراز الجمال، من خلال رموز ومعمار الموروث الثقافي بصفة عامة ... وتراوح الأعمال المبرمجة للعرض المشترك بفضاء المركز الثقافي الفاضل بن عاشور بضاحية المرسى بين الرموز البربرية والاشكال الهندسية التى اختص بها المعمار التونسي وفق سياق مخصوص لإضفاء جمالية على المجال الحاضن لمجمل اللوحات. كل ذلك وحسب العارضين "... لذالك اخترنا ان يكون اسم المعرض "حنين تونسي".

الفنانة التشكيلية حذامى سلطان لها عديد المشاركات والحضور المميز في الفعاليات الثقافية النشكيلية فضلا عن معارضها الجماعية والخاصة م منها معرضها المميز بدار الثقافة ابن رشيق منذ فترة وهي ذات تجربة في تنشيط نوادي الفنون ومع الأطفال وكما تقول عن نفسها "فنانة تلقائيةـ ترسم بشغف الأطفال لا تمثل مرجعا تشكيليا فحسب بل يقودها حبها للفن لتنطلق ريشتها الى الالوان بمزيج من مخيلتها المشبعة بمختلف حضارات بلادها لتبدع بأعمال فنية في الاغلب تشبه روحها الطفولية، تحاول الرسامة اختزال حضارات نشأت عليها وتركت اثرا في حياتها...". وبالنسبة للفنان التشكيلي محمد على خواجة فهو يشتغل من سنوات ومن خلال تنوع مشاركاته في المعارض والفعاليات الثقافية التشكيلية بالمهدية مسقط رأسه وبعدد من مدن البلاد التونسية و يسعى لابراز جانب من شغله الفني الجمالي حيث أنه تشبع بموروث ثقافي وشهدت لوحاته الفنية ابراز اشخاص رسخوا في ذاكرته الى جانب المعمار الذي احاط به في نشأته.

"حنين تونسي" مجال للفنون التشكيلية وفق نظرة شخصين هاما بالرسم والتلوين في دروب الفن الطويلة حيث اللعبة الشاقة والمضنية واللذيذة في تعاط متخير تجاه العناصر والاشياء والعالم انطلاقا من الذات...تلك الذات العالمة مثل أطفال في نشيد باذخ.

كل من الفانين اجتمعوا في معرض واحد رغم ان اختلافهما في مسار التجسيد والفن في الواحهم، فحذامي تبرز الجمال عبر الفن التجريديL’ART ABSTRAIT

إلا ان محمد على اختص في الفن التصويري L’ART FIGURATIF

تنطوي السياحة على كثير من الاهميات، منها اقتصادية وتنموية، ومنها اجتماعية وثقافية وتراثية، بالإضافة إلى الأهمية البيئية. ناهيك عن أهميتها السياسية المتمثلة في دورها الفعال في مد جسور العلاقات الطيبة بين الشعوب المختلفة وتوطيدها لأواصر الصداقة والاخاء فيما بينها، وإزالة أو الحد من الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والحضارية القائمة، وتمتين العلاقات السياسية والدبلوماسية بين حكوماتها.

بالإضافة إلى تعزيزها للسلم العالمي من خلال ايجادها لقنوات مباشرة وغير مباشرة وفعالة للتفاهم والتعامل الصادق والتفاعل العفوي بين أفراد هذه الشعوب التي هي في أمس الحاجة إلى مثل هذه التفاعلات والتعاملات في ظل الازمات والصراعات السياسية والاقتصادية والكوارث الطبيعية التي تعيشها الكثير من المناطق في العالم في الوقت الراهن. واتاحتها مختلف أنواع الفرص لكسب الثقة وإظهار الاحترام المتبادل وخلق الصداقات ومختلف أنواع العلاقات النبيلة بين السياح من مختلف الجنسيات والافراد من الشعوب المضيفة لهم، وخلقها السبل والوسائل المهمة للتعرف على العادات والتقاليد والقيم السائدة فيها، والاطلاع على الجوانب الحضارية والثقافية والاقتصادية البارزة من أجل تكوين فكرة كاملة ومشرفة عنها، ونقلها إلى الشعوب التي تنتمي اليها حين عودتهم لبلادهم الاصلية.

و يتعزز هذا الجانب بالتصرفات والسلوكيات الجيدة والمسؤولة التي تبديها الأجهزة الإدارية والخدمية التي تتولى إدارة وتقديم الخدمات السياحية في الشركات والمنشآت السياحية والفندقية المختلفة، مثل الفنادق والمطاعم ومحال بيع العاديات والتحف ووكالات السفر ومكاتب تأجير السيارات. بالاضافة إلى تلك التي تقدم في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تقدم الخدمات التكميلية في مجالات الصيرفة والتحويلات والاتصالات والامن والصحة وغيرها. مثل البنوك وأكشاك تبديل العملات ومكاتب تأشير جوازات السفر والمراكز الصحية والمطارات والنقاط البرية الحدودية والموانىء.. مع ضرورة تجنب كل أشكال الاستغلال المادي للسياح الضيوف، واعتماد الصدق والصراحة في التعامل معهم، وتقديم كل اشكال المساعدة والعون والارشاد لهم عند الحاجة، ودفعهم للشعور بالأمن والأمان، بعيدا عن كل أوجه التميز والتعصب.

كما تعني السياحة تسيير المزيد من الرحلات الجوية بين الدول من مختلف القارات. بالإضافة لى المزيد من الرحلات البحرية القريبة والبعيدة مع تنشيط النقاط البرية الحدودية بين الدول المجاورة، خصوصا في الموسم السياحي وفترات العطل والأعياد الوطنية والدينية، وأثناء إقامة المهرجانات والفعاليات الثقافية والرياضية، خصوصا لو وجدت اتفاقيات تقضي بإعفاء السياح من بلدان معينة من تأشيرة الدخول (الفيزا)، أو منحها مجانا عند الدخول مباشرة، أو الاستغناء عن جواز السفر والاكتفاء بهوية التعريف الشخصية. كما فعلت حكومة جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية) بسماحها لمواطني (99) دولة من الدخول للبلاد بدون تأشيرة دخول وفقا لاتفاقية الاعفاء من التأشيرة (الفيزا) ومنها (السويد، النمسا، هولندا، ايرلندا، اليونان، ماليزيا، المملكة المتحدة، سويسرا، تركيا، وسنغافورة).

كذلك تونس التي أعفت المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول، وخاصة للأغراض السياحية. ودولة قطر التي أصدرت (الهيئة العامة للطيران المدني) فيها تعميمها (14) في 20 – 9 – 2011 الخاص بإعفاء المغاربة من شروط التأشيرة عند دخول البلاد والبقاء لمدة لا تتجاوز (3) يوما، وإمكانية مغادرتهم دون تصريح. وأيضا جمهورية مصر العربية التي أعفت السياح التوانسة من رسوم الفيزا للفترة من 1 – 6 – 2012 ولغاية 31 – 8 – 2012. وسمحت بمنح السياح من الجزائر والمغرب وتونس والصين تأشيرة الدخول من منافذ الوصول بشرط المغادرة عند انتهاء المدة وبضمان الوكيل السياحي المحلي. وامتد القرار ليشمل السياح من الهند وكازاخستان ولبنان والأردن واذربيجان، وبذات الشروط بالنسبة للمجاميع السياحية (الكروبات) أو الافراد. وايران التي أعفت رعايا سورية وتركيا وماليزيا ونيكاراغوا والاكوادور وفينزويلا واذربيجان وبوليفيا وجورجيا. وايرلندا بالنسبة لرعايا المملكة العربية السعودية فيما يخص تأشيرة قبل السفر ولمدة (3) أشهر أو لحين انتهاء نفاد تأشيرة المملكة المتحدة أيهما أقصر.

و كولومبيا التي أعفت رعايا الامارات العربية المتحدة من التأشيرة المسبقة لأغراض السياحة وحالات أخرى. والبانيا بالنسبة لرعايا دولة القطر جميعا. أما الولايات المتحدة الامريكية فلها برنامج الاعفاء من تأشيرة الدخول (في. دبليو. بي) الذي يشمل (36) دولة مثل (المانيا، اليابان، استراليا، بلجيكا، فنلندا، الدانمارك، وإيطاليا). وهي إجراءات وتسهيلات مهمة وحيوية لأنها تساهم في تنشيط العلاقات التجارية والاقتصادية والدبلوماسية من هذه الدول، وهي كفيلة بمنحها دفعات قوية نحو الامام خصوصا في الوقت الراهن.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.......................

للمزيد من الاطلاع، ينظر (السياحة والازمات السياسية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2011.

و أيضا (السياحة في زمن الازمات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2011.

قد نضطر إلى الرحيل

وقد يُجبرنا أحدٌ ما على الرحيل

نغادر ولكن لا تغادرنا الأماكن

تحملها أرواحنا مخافة الفناء

نتجول في المدن، نسير بشوارعها، نحفظ الأسماء، نعرف مكان الأشجار، لا ننسى عطر الياسمين الذي يفوح من تلك الحديقة أو من ذلك المنزل، في أغلب أيام حياتنا نتجول في الشوارع والبيوت، في الأماكن وأيضاً في الأروح؛ فنحن نكتشف الآخرين كما نكتشف الأماكن، نشعر بأرواحهم كما نشعر بروح المكان، لذلك قد نحب من نقابل وقد لا نحبه، وقد نحب هذا المكان أو نكره مجرد الاقتراب منه.

ولكننا كما نتجول في المدن تتجول المدن بنا، حين نحب مدينة ما ونغادرها لا تفارقنا، يبقى ذلك الحنين الأبدي إليها، نريد أن نعود لزيارتها وربما للحياة بها، لا تفارقنا رائحة شوارعها ولا دفء بيوتها، ولا تفارقنا خضرة أشجارها أو ربما اتساع صحراءها، فالمدن تتجول بنا، لأننا لا ننساها ولا تنسانا؛ حتى حين تختفي تلك المدينة بسبب الحروب أو التطور العمراني أو لأي سبب، فهي لا تختفي من ذاكرتنا، نتأمل للحظات وربما لدقائق كل الأماكن التي أحببناها بها ويتملكنا حنين غريب لا يمكن شرحه ولا وصفه لأنه عميق بحجم عمق الروح، صامت ودفين، إنه حنين يجعل الروح ترحل بعيداً لأماكن غير مرئية وربما لم تعد موجودة ولكنها هناك في أعماقنا تقبع صامتة وراسخة ولا تغادر طوال حياتنا.

وهناك مدينة خاصة لدى كل منا حيث يجد نفسه، ويتآلف قلبه مع بيوتها وجدرانها ومع كل ما بها، مدينة في الروح يسكن إليها الجسد، وترتاح لها النفس، فلكل منا مدينة قابعة في الروح لا تغادر ولا تنهار ولا تعتريها عوامل التعرية لأنها محفوظة بعناية في الروح، وربما أكثر ما يحفظ التاريخ والأماكن والأحداث هي هذه الروح التي لا تنسى والتي تسجل الوجوه والأحداث والأسماء، هذا الأرشيف الأبدي والأزلي الذي لا ينسى ولا تتلاشي منه الذكريات هو المؤرخ الحقيقي لكل الأحداث، لذلك تحتفظ الروح بالمدن كأنها كنز دفين، لذلك وحين يجتاحنا الحنين أو الحزن تفتح خزانة الذكريات لتخفف من وطأة الشوق وتقول لنا لم أنسى واحتفظ بكل شيء، يكفي ان تُلقي نظرة سريعة لترى تلك المدينة التي تحب، لترى ذلك الوجه الذي أحبك، لترى الحياة التي كانت جميلة، لتعود لك الكلمات الدافئة، ربما احتضان أم قد ماتت، وربما ابتسامة حبيب قد غادر، وربما شوارع مدينة لم تنساها ولن تنساك.

إذا كان وجود الإنسان يقتصر على ما يرى فهو وجود ضيق ومحدود، فوجود الإنسان هو ما يرى وما لا يرى، هو ما يشعر به وما يتذكره، هو نداء الروح، وهمس النفس، هو حوار العقل وتأمل الروح، وهو أيضاً كل الذكريات التي مضت ولم يعد لها وجود، ولكن لا يزال لها وجود في النفس والعقل والقلب، وإلا فلماذا لا نفقد ذاكرة تلك الأشياء والأشخاص بمجرد أن نغادرهم أو يغادروننا؟ هذا لأن وجودنا فعلاً ليس ما نرى بل ما نشعر ونتذكر، كل ما مضى وكل ما نرغب به أن يحصل، كل الأيام الحزينة وكل اللحظات السعيدة. حين ندرك كم أن وجودنا شديد الثراء، عميق المعني، واسع الأفق سوف نشعر بمعنى آخر لوجودنا، وسوف ندرك عظمة الخالق التي أودعها بصدورنا وعقولنا، ومن أروع تلك الصور هو هذه المدينة التي تحيا في الروح، حيث لا يُجبرنا أحد على الرحيل وحيث نبقى دائماً وحيث نجد الدفء حين تغرق الحياة بالبرودة.

***

د.سناء أبو شرار

كثيرا ما نهرب من واقعنا المر المليء بالفوضى والأزمات إلى عوالم الخيال فنعوض فشلنا بالنجاح وإفلاسنا بالغنى وغرفتنا الضيقة بفيلا واسعة محاطة بحديقة جميلة تزينها أشجار التوت والبرتقال ياله من عالم خيالي جميل، ولكن للأسف هناك من يهرب إلى الخيالات السلبية وتوهم الأمراض والانتكاسات فيزيد واقعه مرارة وخيبة فاللجوء إلى الخيال الإيجابي وتصور عالم مثالي هو علاج لبعض أمراضنا هذا ما أكدته بعض الأبحاث العلمية..

ما هو تعريف التخيل؟

حسب الكاتب شين بي لياو هو: "تمثل الأشياء دون أن تكون ماثلة أمامك كما هي في الواقع، في التو، وبذاتها. يمكن للمرء استخدام التخيل لتمثل الإمكانات المحتملة لا الواقعية، ولتمثل الأزمان الأخرى لا الحاضر، ولتمثل وجهات النظر غير الخاصة به. وبخلاف الإدراك والاعتقاد، فإن تخيل شيء ما لا يتطلب أن يكون ذلك الشيء حقيقيا"(1).

يبين لنا الكاتب "رضا إبراهيم" أهمية التخيل وفوائده فيقول: "والتخيل يقدم للشخص أموراً هادفة، عند وقوعه تحت ضغط كبير أو ألم شديد، والتخيل يحفظ الصحة النفسية لدى صاحبه، ويبعدها عن المرض والاعتلال، وهناك حالات كثيرة أقر بها أسرى الحرب كمثال أثناء احتجازهم في معسكرات الاعتقال، بأنهم تمكنوا من إنقاذ أنفسهم من الانهيار النفسي، عبر صنع تخيُلات عاشوها أثناء فترة الأسر، ومن ثم بددت كربهم وأزالت آلامهم وقوت عزائمهم، بتحويلهم إلى عالم متخيل صنعوه بأنفسهم، وذلك كان فراراً صحياً وقائيًا ومنقذًا لهم. والملاحظ وجود كثير من البشر يشعرون باحتياجهم الشديد إلى القدرة على التخيل وافتقارهم له، إلا أن التطبيق المنهجي لتمارين التخيل، دوماً تخلق حساً قوياً بالقوة الذاتية الشخصية وبالسيطرة

فلن تكون في شكل محادثة بل مجرد صور تخيلية.. فنحن على الأرجح نتذكر صورا وليس كلمات”(2).

وإذا أراد الإنسان علاج امراضه ومخاوفه واوهامه عليه أن يستبدل التصورات السلبية بتصورات إيجابية فيتخيل نفسه في اماكن جميلة هادئة،تقول الدكتورة باربارا روزي مديرة مركز استشارات الطب البديل بسانتافي-نيومكسيكو ومؤلفة كتاب “استخدام التصور للصحة واللياقة”: “إذا أمكن للشخص أن يستبدل بالصور السلبية التي تضعه في حالة تأهب غير ضروري وغير مفيد صورة أخرى إيجابية كما في لحظة استرخاء على شاطئ البحر أو صورة له وهو يلعب مع أطفاله فإن هذه الصورة الإيجابية بدلا من أن تطلق الأدرينالين في الجسم تطلق المهدئات الطبيعية التي تجعل التنفس يهدأ والقلب يتمهل والتوتر ينخفض والجهاز المناعي يقوى وينشط”(3).

فيا صديقي لا تحرم نفسك من التخيلات الإيجابية، وأنت تقرأ القرآن تخيل وصف الجنة، تخيل نفسك بين بساتينها وانهارها من اللبن والعسل والخمر، أطلق العنان لخيالك فيوما ما يكون حقيقة تعيشها.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

..........................

المراجع:

1- شين بي لياو، فلسفة التخيل ترجمة ناصر الحلواني، موقع حكمة.

2- رضا إبراهيم، العلاج التخيلي وتحسين الصورة المثالية للذات، جريدة الجزيرة.

3- د. صهباء بندق، الجسم السليم في التخيل السليم، موقع إسلام أونلاين.

بقلم: جوزيفينا استرادا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

المرأة التي تمشي عارية في شوارع سانتا ماريا تثير الدهشة لدى الأطفال، والفرح عند الرجال، وعدم التصديق وغضب النساء. تجلس على زاوية سور خوانا إينيس دي لا كروز وسابينو، بجوار ورشة إصلاح الدراجات. يخرج الأطفال من منطقتين فقيرتين متجاورتين ويعبرون الشارع لمشاهدتها وهي تشم الغراء من الحقيبة التي كانت تملكها فقط. لا يبدو أنها تهتم بأنها عارية، لكن لا يمكن أيضًا أن يقال إنها اتخذت قرارًا واعيًا لإظهار لحمها الداكن السخى .

حتى عندما تجلس، يمكنك أن تدرك أنها امرأة طويلة. على مستوى الكتف، يبدو شعرها كتلة متشابكة تحتوي على كرات العلكة وقطع من الأوساخ والغبار والوبر. يرتفع صوت تصفيق واستهجان المارة عندما تفتح ساقيها وتبدأ في الخدش بقوة فى الجزء الأكثر حساسية من جسدها. في هذه المرحلة، لا يمكن للشباب، الذين يتسكعون دائمًا، أن يكتموا ضحكاتهم، غريزيًا، كما لو كانوا يخشون أن يكشفوا هم أيضًا عن أسرارهم في أية لحظة، فإنهم يلمسون أعلى فتحة سراويلهم .

وعندما تستلقي المرأة وتدير ظهرها لهم، يبدأ المتفرجون في إلقاء الأشياءعليها. تستغرق بعض الوقت للرد، لكنهم يعلمون جميعًا أنه بمجرد أن تجلس، ستقف على قدميها وتطارد مهاجميها. وبعد ذلك سيتمكن الأطفال من رؤية أن ثدييها ليسا، في الواقع، ملتصقين فى الواقع ببطنها الواسع. يذهب بعض الأطفال الصغار ويقولون لأمهاتهم إن "المرأة التي لا ترتدي سروالاً داخلياً أو أي شىء " أصبحت طليقة من جديد، وتمنعهم أمهاتهم من الخروج مرة أخرى .

كان هناك وقت رآها العديد من النساء بالقرب من تقاطع الداما ومينا. ثم جابت شارع أفينيدا جيريرو صعودا وهبوطا لمدة عامين. كانت تذهب للنوم محاطة بكومة من الملابس التي تبرع بها الأشخاص ذوو النوايا الحسنة، والتي كانت بمثابة وسادة وفراش. عندما سئمت من حزمة ملابسها، أحرقتها باستخدام نفس المذيب الذي تستنشقه.

تذهب المرأة السوداء الضخمة إلى مواقع البناء لتغتسل. يبلغ ابتهاج العمال ذروته عندما تنحني لتشرب من الصنبور. إنهم يتورطون في الإثارة عندما تلتقط حفنة من الليمون وتزيل ما تحت إبطيها. إن أي رجل جريء بما يكفي للاقتراب منها كان دائمًا يُصدم من ضراوة إهاناتها. لا تشتكي النساء اللواتي يعشن في منطقة كالي سور خوانا من العرض الجسدى الذي تقدمه بنفسها ولكن من حقيقة أنها أكثر حرية من الرجال. وبدلا من وضع حد للسلوك البذىء لهذه المرأة - الذي يثير أفكارا بذيئة حتى في أكثر الرجال قداسة - فإن الشرطة، كما يقولن، تقضي كل وقتها في القبض على السكارى.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: جوزيفينا إسترادا (مكسيكو سيتي، 1957) روائية وصحفية ومعلمة ومحررة. على مدى عقد من الزمان، قدمت ورش عمل في سجون النساء في مكسيكو سيتي وتشيكوناوتلا وجزر مارياس وبوغوتا.عملت أستاذة في في كلية العلوم السياسية والاجتماعية، منذ عام 1991م . جوزيفينا استرادا / ولدت في مكسيكو سيتي في 14 مايو 1957م. صحفي وكاتب ومحرر بأسلوب خاص يمزج بين الواقع والخيال. نشر القصص القصيرة والروايات والسير الذاتية والسجلات التاريخية والمقالات. من بين أعمالها المشهورة: "القط السيئ"، "أن تموت نفس الشيء"، "منذ فجر الله"، "منتصف الليل العذراء"، "علامات خاصة"، "ريكاردو غاريباي، مختارات موجزة" .

لماذا أكتب؟

أجابت جوزيفينا استرادا:

- أن العالم يمكن أن يكون مسالما، العالم لا يتغير سواء أكتب أم لا. ما لا يمكن أن يكون جيدًا في العالم، بدون كتابة، هو أنا ؛ لذا، لكي أكون في وئام مع نفسي أحتاج إلى الكتابة. لذلك أكتب بدافع الضرورة. إذا كنت لا تكتب بدافع الضرورة، يبدو لي أنه لا ينبغي عليك الكتابة .

كل مشاكل الحياة تأتي من أمرين اثنين: معلومات خاطئة أو معلومات ناقصة وعلاج هذين الأمرين يكون عبر الكتاب، فالقراءة المتبصرة العميقة تعطيك معلومات صحيحة و تثقفك فعندما تقبل على اتخاذ قرار مصيري يكون قرارك صائبا لأنك انطلقت من معرفة وخبرة في ذلك المجال عكس من يتبع الهوى و كلام الناس فيتجنب الصواب...

لهذا لا نستغرب أن بأخذ الكتاب هذه المكانة وينال المدح والذكر الحسن من شعوب العالم وخاصة من أهل الفكر والثقافة والسياسية..

تقول إليزابيت باريت براونينغ: " الكتاب هو المعلم الذي يعلم بلا عصا ولا كلمات ولا غضب. بلا خبز ولا ماء. إن دنوت منه لا تجده نائم وإن قصدته لا يختبئ منك. إن أخطأت لا يوبخك وإن أظهرت جهلك لا يسخر منك".

بينما المؤرخ الكبير ارنولد توينبي يقول:

"ليست الغرابة في كثرة القراءة ، بل في القراءة المجدية"

وفي المثل الإيطالي الذي يركز على أهمية القراءة يقول:

"من يكتب يقرأ مرتين".

أما الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت يبين لنا أهمية الكتاب فيقول: "الكتاب هو النور الذي يرشد إلى الحضارة".

والأديب اللبناني ميخائيل نعيمة يشير إلى أهمية وجود مكتبة في البيت فهي طريق الحضارة والتحضر يقول : "عندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة و السرسر و الكرسي و المطبخ ، عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قوما متحضرين ".

أما ابن الطقطقي فيقول:

"إن الكتاب هو الجليس الذي لا ينافق و لا يمل و لا يعاتب إذا جفوته و لا يفشي سرك".

وللجاحظ كلام جميل ومعبر عن أهمية الكتاب فهو في نظره: "الكتاب وعاء ملئ علماً، وظرف حشى ظرفاً ... وبستان يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر، وناطق ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء.

ولا أعلم رفيقاً أطوع ولا معلماً أخضع ولا صاحباً أظهر كفايةً ولا أقل جنايةً ولا أكثر أعجوبةً وتصرفاً ولا أقل تصلفاً وتكلفاً من كتاب".

ويقول ابضا واصفاً الكتاب: "فإنه يحيى القلب، ويقوى القريحة، ويبعث نتائج العقول، ويستثير دفائن القلوب، ويمتع في الخلوة، ويؤنس في الوحشة، ويفيد ولا يستفيد، ويعطى ولا يأخذ، وتصل لذته إلى القلب من غير سآمة تدركك ولا مشقة تعرض لك ".

وشاعر العربية الكبير أبو طيب المتنبئ يقول:

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ  /  وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كتاب.

هكذا نظر المفكرون المثقفون الكبار والسياسيون العظماء إلى الكتاب فكيف نفرط فيه ونتركه وحيدا بين رفوف المكتبات يأكله الغبار وتقتله الحسرة؟.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

هو مقهى صغير بل صغير جدا يعترضك وأنت صاعد أو نازل في نهج جامع الزيتونة بمدينة تونس العتيقة وفيه تتذوّق نكهة الشاي الأخضر بالنعناع أو فنجان قهوة بسكر زائد أو بقليل السكر.. في هذا المقهى كنت أجلس وأنا تلاميذ في الصادقية ثم وأنا تلاميذ في معهد ابن شرف ثم وأنا طالب في كلية الأداب بالقصبة.. لي في هذا المقهى ذكريات لاتنسى حيث كنت أجلس فيه أيضا لنيل قسط من الراحة عندما كنت أحلس على مدى عشرات السنين للمطالعة والبحث في رحاب دار الكتب الوطنية التي كانت بسوق العطارين واليوم مررت بها عندما فاجأني المطر فقلت لا بأس من تناول كأس شاي أخضر مُنعنع فجلست حذو شيخ جليل من زمان كنت أصادفه يسير الهوينى في زيه التونسي الأصيل من الشاشية الحمراء إلى لحفته البيضاء التي يتعمّم بها إلى جبته وبرنسه وبلغته وعكازه مع قفّته البيضاء فقلت هذه مصادفة ثمينة لأعرف هذا الشيخ وما كدت أستوي إلى جانبه حتى بادرني بالترحاب. 

وسُرعان ما جرى الحديث بيننا بسلاسة بعد أن أبديت له تقديري ومعرفتي له منذ سنوات عديدة وإعحابي بالتزامه بلباس زيّه التونسي الأصيل وإعجابي بمُحافظته على السّير حيث كنت ألقاه واثق الخُطى في كل الفصول مهما كان الطقس فبدا على أسارير وجهه السّرور والاِبتهاج وهذا ما شجّعني على الاِستزادة من حديثه فعرفت أنه جاوز التسعين وأنه من أهالي مدينة ـ كسرى ـ وسألني حينذاك ـ كالمُمتحن ـ عن موقعها وهل أعرفها ؟ فنزل سؤاله عليّ بردا وسلاما فقلت له ـ عجبا يا حاج من لا يعرف كسرى لا يعرف تونس! ـ وكأني أردت تأكيد معرفتي إيّاها قلت له ـ يا حسرتاه على كسرى القديمة العالية حيث المدرسة الاِبتدائية التي تقع على يسار الطريق وأمامها يوجد منزل ـ عم عمّار العمايري رحمه الله ـ والد صديقي محمد على العمايري وهو من أعزّ أصدقائي وقد تذوّقت مرات عديدة تين سانيته اللذيذ …عندئذ هَشّ سي الحاج وبَشّ وقال أنا درست في تلك المدرسة التي تأسّست سنة 1926 وعائلة العمائري تنتمي إلى نفس العرش الذي أنتمي إليه ثمّ مضى سيدي الحاج يسرد مسيرته الدراسية التي بدأها بحفظ جزء كبير من القرآن الكريم ثم درس الاِبتدائي في تلك المدرسة غير أن اِمتحان الشهادة الاِبتدائية أجراه في مدينة الكاف ثمّ اِلتحق بالعاصمة لمواصلة تعليمه الثانوي وبعد تخرّجه من مدرسة ترشيح المعلّمين قضّى سنوات في التدريس ثم اِلتحق للعمل بإدارة سكّة الحديد فشيخنا إذن متقاعد منذ أكثر من ثلاثين سنة وعرف في مختلف أطوار حياته أغلب جهات البلاد بمُدنها وقُراها فيحدّثك عنها مدينة مدينة وقرية وقرية حتى عن مختلف خصائص أهلها في العادات والتقاليد ناهيك عمّا تمتاز به تاريخيا وجغرافيا بما في ذلك النواحي الاقتصادية والعمرانية بالإضافة إلى أهم طبائع أهلها.

إن الجلوس إلى هذا الشيخ ـ مَتّعه الله بالصحة والعافية وطول العمر ـ مُتعة وإفادة فهو كتاب تونسي مفتوح عندما تُنصت إليه ساعة من الزمن خير من الجلوس إلى بعض أدعياء الأدب والثقافة وهم يخوضون في أمور الجوائز والتكريمات والدّعوات…

***

سُوف عبيد

أحلى ما قرأته وسررت به مؤخراً هو (الرحلة العراقية) المنشورة من قبل الأستاذ الدكتور يوسف غليسي من جامعة القسطنطينية في الجمهورية الجزائرية، وقد حظي هذا النشر المميز بإعجاب وثناء وتقدير كل من اطلع عليه وخاصة من العراقيين لما حمل من صدق ومحبة ووفاء ..

وبعد قراءتي الأولى لهذه الرحلة لأنها تتعلق بالعراق الوطن الحبيب، أعدت قراءتها ثانية لمعرفة مشاهداته في احتفال مئوية الشاعرة العراقية مازك الملائكة، وقد دعي للمشاركة فيه، والتقى العديد من الشخصيات المشاركة من العراقيين والعرب، ثم أعدت القراءة للمرة الثالثة وبالمتعة نفسها لأنه ذكر مدينتي المسيّب ذكراً طيباً في هذه الرحلة..

بدأ الدكتور يوسف غليسي سطور رحلته في وصف فرحته بدعوته لحضور هذا المهرجان، فقال: (حين بُشّرتُ بأنني مدعوّ إلى بغداد للمشاركة في تظاهرة عربية حاشدة بمناسبة مرور قرن على ميلاد شاعرة العراق الكبرى نازك الملائكة، تعثّرت لغتي، واستفاق حلمي الأثيل النائم في أعماقي، وراحت الكلمات الساحرات الصامتات ترقص طربا على لساني الأعقد!

تعاورتني مشاهد عراقية أخاذة متداخلة : حضارات بلاد الرافدين، الخلافة العباسية، مراقد الأئمة، الرصافة والجسر، شارع المتنبي، دجلة والفرات، الموسوعة الصغيرة، مجلات الأقلام والمورد وثقافات عربية...، مواويل ناظم الغزالي، قصائد السياب  والجواهري...، رائعة محمود حسن إسماعيل (بصوت أم كلثوم):

بغداد يا قلعة الأسود ... يا كعبة المجد والخلود

ثم تذّكرتُ حلما عجيبا رأيته السنة الماضية؛ إذ رأيتني مقيماً في مكان عراقي عليٍّ مقابل لقبّة مذهّبة تشعّ جمالا وجلالا، لم أعرف –حتى في منامي- أهيَ في الكاظمية أم النجف أم كربلاء؟

ورحتُ أغطّ في حلم تاريخي عراقي عميق...

وحين أفقتُ من نشوة الحلم، بدأتُ في التحضير (العلمي) لمناسبة الحلم؛ وقد كلّفتُ بمداخلة حول نازك، رهنتُ لها ما يقارب أربعين ليلة من ليالي العمر!)

ووصف الضيافة العراقية بـ(ضيافة فوق العادة .. وكرم لا حدود له!

لا جدال في الكرم العراقي الذي رسّخَتْه في ذاكرتي حكاية رواها لي د. عبد الله الغذامي، ذات لقاء خليجي قديم، عن سائق سيارة أجرة طوّفَ به جلّ صيدليات بغداد، بحثا عن دواء ضروري، فلم يُدركاه إلا في آخر النهار، وحين أدركاه، أصرّ السائق العراقي على أن يدفع ثمنه بنفسه، وألا يقبض أجرة السيارة أيضا! بعدما انتبه إلى أنّ الراكب ليس عراقياً بل هو ضيف العراق).

وعن أمنيته في زيارة مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: (كنتُ قد أخبرتهم بأنني أحلم – منذ زمن بعيد- بزيارة النجف وكربلاء!

نسّقتُ للأمر كما ينبغي!

قلتُ لوالدتي العزيزة، ممازحا لها، قبيل السفر: سأزور يا أمي سيدنا عليًّا –إن شاء الله- وسأدعو الله هناك أن يغفر لك تلك الزيارات (الجاهلية) القديمة إلى (سيدي الدراجي) الذي لا نعرف أصلاً له أو فصلاً!

ابتسمتْ وقالت: كنّا على نيّاتنا، نعتقد أنّه أحد أولياء الله الصالحين!)

واستذكر قصيدته القديمة التي كتبها سنة 1995م بعنوان (العشق والموت في الزمن الحسيني):

(أبكيكمُ آل الحسين تشيّعا

وتفجّعا.. وتشوّقا .. وتذكّرا

ذكراكمُ موج يزلزل شاطئي

ويهزّ قلبا بالعروبة خُدّرا

العُرْبُ قد هجرَ الحسينُ دماءهم

ودمُ الحسين إلى عروقي هاجرا

بغدادي! ودمُ الحسين فصيلتي

بغداديٌ شهَرَ الحسينَ ليثأرا

(نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى)

ما الحب إلا للحسين وحيدرا)

وحين بلغ باب العتبة المقدسة في زيارته للنجف الأشرف التي رافقه فيها الشاعر العراقي الدكتور حسين القاصد قال: (سلام عليك يا أمير المؤمنين، يا ابن عمّ رسول الله، وصهره وأخاه بالمؤاخاة في الدنيا والآخرة!

سلام عليك يا باب مدينة العلم...

أنظرُ إلى من النظرة إليه عبادة، أتقصّى تفاصيل المكان بعينيْن مذهولتين، تباغتهما الأنوار من كلّ جانب، والقلب يفيض خشوعا وخوفا ورهبة؛ بشكل يشبه المشاعر التي باغتتني حين رأيتُ الكعبة الشريفة أولّ مرة!

حين بلغنا الروضة الحيدرية خشيت في لحظات أن يغشى عليّ، في تلك الأجواء الروحانية الطاغية).

وغادر المكان المقدس في هدوء وسلام وفي داخله من المشاعر أوجزها في (كنت على يقين بأنني سأرجع يوما إليه!).

وفي طريق عودته إلى بغداد وقد حل الغروب قال: (كنت أمنّي النفس بزيارة كربلاء، وكنت أتمنى أن أقف على جسر المسيّب فوق نهر الفرات؛ وأن أغني بصوت عالٍ مع ناظم الغزالي:

"ميحانا .. ميحانا

غابتْ شَمِسْنا الحِلو ما جانا

حيّاك بابا حيّاك

ألف رحمة عْلى بيَّك

هاذولي العذِّبوني

هاذولي المرْمروني

وِ على جسر المسيّبْ سيّبوني...."

لا أدري كيف تسلل هذا المقطع الأخير تحديدا –كما هو- إلى ملامح قصيدة (وافرة) بدأت تتشكّل في خاطري، مطلعها:

(على جسر المسيّب سيّبوني) ***  خذوني نحو مرقده خذوني)

وحين لم تتحقق أمنيته هذه في الوقوف على جسر المسيّب خاطب رفيقه في السفر(أنت لا تدري كيف نصبَ ناظم الغزالي هذا الجسر على فرات قلبي!).

ولم ينته الحديث عن المسيّب بعد، فقد ذكر أن (طالب دكتوراه من مدينة المسيّب حين بلغته رغبتي في الوقوف على جسر المسيّب فعل كل مستحيل كي يجيئني إلى بغداد ليقودني نحو رغبتي، وظلّ يدعو ويصرّ وأنا وصديقي القاصد نتذرّع ونعتذر، حتى لا أدري كيف استطعنا أن نتملّص من بين يديه الكريمتين!)

***

جواد عبد الكاظم محسن

كنتُ في "المول" قاصداً التسوّق قُبيل حلول عيد الفطر المبارك.. وبينما أنا أهمّ بسؤال الموظفة البائعة في جناح الملابس عن إحدى المعروضات، رأيت فتاة صغيرة تركض نحوها وهي تحمل "موبايل" بيدها وتصيح بحبور:

- ماما .. ماما.. أمير ما مات.. أمير ما مات.

انتابني القلق لأول وهلة.. تصوّرت أن البنت تلقت اتصالاً من هاتفها عن مريض لهم في حالة خطرة أو في المستشفى..

سألت الأم البائعة:

- خير؟.. سلامات إن شاء الله.

ابتسمت البائعة وقالت لي:

-لا ما كو شي، هذه ابنتي متأثرة جدا على موت " أمير" في مسلسل خان الذهب.

وأضافت بنبرة أسى:

- كلنا تأثرّنا لموته.

دفعني فضولي الصحفي إلى أن أسأل البنت:

- إلى هذه الدرجة انتِ متأثرة بالمسلسل؟!

أجابت بعفوية:

- نعم.. لقد حزنت كثيراً على وفاة أمير.

ثم أردفت بتنهد ولهفة:

- يقولون في "الفيسبوك" إنه لم يمت وستكون هناك مفاجأة في الحلقة الأخيرة.

لم يكن حال البائعة وإبنتها إستثناءاً أو حالة نادرة في شدّة التفاعل مع أحداث مسلسل "خان الذهب" والتأثّر بها، فمتابعة المسلسل بلغت رقماً قياسياً لم يبلغه أي عمل فني أو درامي عراقي في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يدعو للتفاؤل بإمكانية تحوّل الدراما العراقية إلى قوة ناعمة للبلد.

والأمر اللافت هو أن ردود الأفعال على المسلسل تواصلت ولاتزال حتى بعد إنتهاء عرضه، وعندما تصفحت وسائل التواصل الإجتماعي بعد عرض الحلقة الأخيرة من المسلسل فوجئت بكم هائل من التعليقات التي ترثي "أمير" وتتحسّر وتتأسف وتتألم على وفاته مظلوماً. حتى أن بعض رواد "الفيسبوك" نقموا على المؤلف وأعتبروا موت "أمير" بمثابة إعلان لإنتصار الظالم وليس العكس كما ينبغي. كما لفتت نظري عشرات التعليقات التي طالبت بمحاكمة عادلة لبطل المسلسل وزوجته التي صبّ كثيرون جام الغضب عليها واعتبرو المآل الذي انتهت إليه (عندما شبت النار في يدها) لا يشفي غليلهم ولا يُمثل عقوبة عادلة على جشعها وجشع زوجها الذي بلغ مرحلة عدم التورع عن ارتكاب الجرائم بحق الأقربين.

وبقدر ما يؤشر هذا التفاعل والتماهي مع شخصيات المسلسل إلى نجاح المؤلف والمخرج وكل كادر التمثيل فضلاً عن النجاح الذي يُحسب للجهة المُنتجة وللقناة التي قدمته للمشاهدين، فإنه يعكس من جانب آخر دلالات رمزية جديرة بالقراءة أنثروبولوجياً وسوسيولوجياً لكونها تعكس ثقافة وطبيعة المجتمع العراقي المعروف بشدة تعاطفه وتضامنه مع كل مظلوم، وتوقه الدائم للعدالة، سيما في سلوكه السياسي، على النحو الذي جعله لايرضى عن الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على الحكم في تاريخ العراق الحديث وتعاكست مع هذا التوق والشغف المجتمعي بدلاً عن مسايرته.

كذلك أظهرت رمزية التفاعل مع المسلسل تجذّر حضور قيم التكافل والتضامن في ذاكرة المجتمع، فالرفض للجشع والتنكر لصلة الرحم من أجل المال يؤشر لسلامة وحيوية المنظومة القيمية في المجتمع، وهي منظومة رمزية تواصلية بطبيعتها. والشاشات التي عرضت المسلسل كانت بمثابة تجسيد للمعاني التي انطوت عليها أنماط السلوك الفردي والإجتماعي لشخصيات العمل الدرامي، مما أوجد هذا المستوى من الإسقاط النفسي والتماهي مع الذين يشعر المشاهد أنهم يرمزون إلى ما يقبله أو يرفضه من قيم سلوكية.

إن مشاعر الغضب التي انتابت ملايين المشاهدين للمسلسل تجاه النفاق والخداع والجشع وخيانة الأمانة، حملت رسالة واضحة عن قوة وحيوية الوجدان الجمعي، وعن تحطم معادلة القسوة والصمت التي ارادت أنظمة الطغيان السابقة تعميمها وفرضها بالقوة على المجتمع العراقي.

وتبعا لذك وجدنا – من خلال استقراء المئات من تعليقات المشاهدين على منصات التواصل الإجتماعي – أن نسبة عالية جداً من المشاهدين لم يقتنعوا بما رسمه مؤلف المسلسل من نهايات قدرية لعبدة المال ومنتهكي الحرمات، فقد كانوا يأملون بأن يفرض القانون سلطته وأن تتم محاكمة علنية عادلة لهم لكي يعتبر الآخرون، وهذه – في تقديري - أهم رسالة لرمزية التماهي مع "خان الذهب" حرّيٌ بأهل السياسة أن يقرأوها بتمعّن.

***

طالب الأحمد

منذ يومين وصلتني رسالة من صديقة اقر بمعرفتها وبجمال أسلوبها وبخيالها الخصب الذي كانت تكتب به" يوميات عزرائيل" في أكثر من منتدى عربي..

وقد ضمنت يومياتها مواقف بين الهزل والجد كانت مثار اقبال كبير من قبل رواد المنتديات..

أذكر أني تركت  لمسات كثيرة على تلك اليوميات، لمسات تطول التركيب ودقة توظيف اللفظ، والمبالغة في الخيال، وهي أشياء لم أعد أجدها فيما تكتبه

اليوم وهكذا فقد صدق حدسي حين قلت لها: "قريبا سوف اقرأ لأديبة ستفجر الصفحات العربية بانبهار وأسلوب سردي أنيق"

رسالة الصديقة:

منذ أول عبارة قرأتها لك في صحيفة المثقف العراقية وأظنها بتاريخ 22ـ10 ـ 2020 ان لم تخني الذاكرة وهاجس الشك يتلاعب بي كون الأديب الأستاذ محمد الدرقاوي هو نفسه محمد سعد الذي كان يتحفنا في المنتديات العربية بأروع نصوص الخواطر،والقصص القصيرة، والأنشطة الذكية والمتنوعة  وقد تأكدت من ذلك وترسخت قناعتي بنص "خيبة" ثم" رسالة منسية " "وتحرش" قرأتها في موقع آخر باسمك الحقيقي.. 

كان أديبنا  محمد الدرقاوي يتخفى تحت اسم مستعار هو محمد سعد واسمين آخرين بهما أنهى علاقته بالمنتديات العربية الشبابية  ربما لغاية  لايدركها غيره لكن ما أدركناه نحن كقراء أن رزانته وآراءه وثقافته لم تكن صادرة عن شاب يافع كما ادعى في تعريفه وانما هو عقل راجح رزين كان يمارس الكتابة بثقة وبعد معرفي مع نضال مستميت  لا يخفى لتغيير بنى المنتديات وما يروج فيها وينفلت  من سلوكات..

هذه القناعة والثقة بك هي ما حفزني على أن أراسلك على ايميل قديم ظل مخزونا بين طيات احدى حواسبي، فلئن كنت أنت الشخص المعنى فسترد علي  بصراحتك المعهودة وان كان  الأستاذ محمد الدرقاوي ليس هو محمد سعد ولي في هذا شك عظيم فسيهمل الرسالة او يبعث بتوضيح..

تحياتي اليك أنى كنت من إنسانة قلت عنها يوما: قريبا سوف اقرأ لأديبة ستفجر الصفحات العربية بانبهار وأسلوب سردي أنيق..

كل التحية اليك

قصة الاسم المستعار

انتمائي للمنتديات العربية الشبابية كان بدعوة  من صديق عزيز يرحمه الله كان يشاركني الانتماء الى مهنة التعليم فيما يتعلق بالتأليف المدرسي على مستوى البرامج والمناهج والكتب المدرسية، و نظرا لتشابك علاقاته مع بعض الوجوه الثقافية من خارج الوطن فقد طرح علي اقتراح  هو نفسه قد تلقاه بعد أن تمت ملاحظة أن  أكثر المنتديات لايتداول فيها الا كل غث هزيل وسرقات يتم تشويهها من قبل جهلة ابعد ما يكونون عن المعرفة يدعون الشاعرية حبا في الظهور أمام الجنس اللطيف..ثم ما لبثت بعض المنتديات ان تحولت الى بؤر فاسدة يستغلها كل ذي مرض وعاهة.

ناقشنا الاقتراح ثم رسمت له  خطة دقيقة للانتماء الى  هذه المنتديات  كمنهج عمل لخصتها في شاب ثلاثيني اسمه محمد سعد مثقف بشواهد عليا  فقد زوجته اثناء اول وضع لها وقد تركت له هدية هي بنتهما عايدة، تعيش تحت حماية والدته الأستاذة الجامعية العاشقة لزوجها القاضي وهو بها متيم.. ثم تطورت الخطة بعد ان تداعت على محمد سعد  رسائل الحب وطلبات الإضافة الى خلق أنثى في حياته هي أخت زوجته وارتباطه بها..

كان الصراع في بداية الانتماء  قويا وعنيفا ونحن نهدم قبليات سادت فنحول مجراها الى مثل وقيم يسمو بها الفكر وتحارب العشوائية وغير قليل من العصبية  والسرقات الأدبية،ساعدنا في ذلك أوفياء لمبدأ التقدم والتغيير والطموح كما حاربنا أكثر من رجعي و متنطع  يهوى الحياة بين الحفر أو دساس بمكر..

بعد وفاة الصديق العزيز اثر حادثة سير  فضلت الانسحاب من مهمتي فاعلنت وفاة محمد سعد..

فهل أسبرت غورا ؟

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

سيدي جبل بن دعبل دفين ظل شجرة الزيتونة بباب التيزمي الرديفة

من التاريخ اللامادي والذي يُنقل بالتواتر والحكي الشفهي بمدينة أولياء الله الصالحين مكناس (13 ولي و12 ولية)، الولي الصالح سيدي جبل بن دعبل دفين باب التيزيمي (الثاني) في تلك الزاوية المنغلقة بالضيق والتي تحاذي شرقا شجرة زيتونة عتيقة، تماثل عراقة مكان وزمن. لأول مرة أقف على رأس قبر ولي صالح بدون قبة وخارج المقابر المألوفة، وتلك القطة الأمينة بالحضور، والحارسة للمكان بعيونها الملتهبة بالزرقة. نعم، إن لم تكن ابن مدينة مكناس، وتمر بساحة باب بردعيين، فقد تغريك الباب (باب بردعيين) بالمشاهدة والتي لها المرتبة الثانية من الشهرة بعد باب منصور، العالمي بالتفرد والترتيب التاريخي.

فرغم أن عمليات تثمين المدينة العتيقة بمكناس تعرف تعثرا متتاليا يلازم بالضبط هذا الباب التاريخي (باب بردعيين) ، وذاك الإقحام الزائد من داخل فسحة الساحة (باب في باب)، فإن الساحة تعاني الإهمال التام، وتشكل فوضى من المنظر غير المتناسق ولا يمس بتاتا إلى التسويق السياحي الحضاري (المدار السياحي)، وباتت الساحة في مرمى (الردم) والأتربة، وبقايا ما تساقط من الدور الآيلة للسقوط بالمدينة العتيقة.

في متوسط مساحة الساحة وأنت باتجاه مسجد خناثة بنت بكار العريق، وعلى يسارك تبدو تلك الشجرة الفريدة بالمكان، والتي تؤثث المنظر بشكلها المائل (زيتونة لا شرقية ولا غربية/ قرآن كريم)، وعلى ظلها الخفي يوجد قبر الولي الصالح سيدي جبل بن دعبل. قبر بلا زخارف ولا منمقات من القبب، قبر (منه للسماء) وأنفة دفين بالبقاء الموضعي التاريخي.

من بين ما ورثناه من الأثر الوافد من حكي الماضي، تغيب المعلومة الموثقة بالتدقيق، وتبقى الحكاية المتنافرة والغيبية حاضرة، وحتى الخرافية منها تؤثث السمع، وتستطيل في التخويف وبناء الكرامات والفزاعات الماضية. فقد قيل لنا أن الولي الصالح كان خديج الولادة (سبعة أشهر)، وقد توفيت أمه حين ولادته، تربى يتيما، وتعلم الذكر، واكتسب معرفة التصوف والزهد، ثم خرج بين القبائل تائها ناصحا إلى أن استقر به الحال في موضع دفنه وتحت إزار صوفي لازم سماءه، حيث تعايش في حياته مع كرم أهل المدينة العتيقة الطيبين والكرماء.3267 سيدي دعبل

يُحكى عن سيدي جبل أنه كان تقيا ورعا، يحمل بركات من قسط النية والذكر، عُرف بدعواته للنساء الحوامل، حتى بات بعد مماته يقام له موسما (تحييه القابلات بقيادة (مزوارة) أو أمينة عليهن، وغالبا ما ذكر أنه كان يقام في شهر شعبان، بما يشبه من احتفالات نسوية بالمعلمة (القابلة)، وكان أهل القصبات بمكناس والزيتون وغيرهم من المحافظين على هذه الطقوس، والزيارات المعلومة بالإنارة والحلاوة.../ الأستاذ علي زيان).

ومن بين ما ذكر من الأثر، أن النسوة الحوامل (الشهر السابع) عند زيارتهن لقبر سيدي جبل للتبرك والدعاء، يرددون لازمة (أسيدي جبل فكني من هذا الوحل) بخير وأمان. هذا عُرْفٌ من العادات الاجتماعية التي لا أساس لها من الصدق والتصديق (... وَ مَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ/ قرآن كريم/ سورة يوسف الآية 67)، ولكن نعمل من خلال هذا التوثيق إلى نقل الشفهي نحو الأثر المكتوب المادي، لا نريد نقل (الخرافة)، ولا نقل تلك العادات غير السليمة، ولكن نبحث أولا إلى التعريف بالتراث المادي واللامادي بالمدينة فقط، ولما لا ثانيا استغلال الخرافة والأسطورة  في التسويق السياحي. فمن يُرِدْ نقد الخرافة أو حتى التساؤل عمَّا ينفعنا من البحث عن سيرة هذا الرجل سيدي جبل بن دعبل، فإننا نعلن بأننا لا نسوق لا للأسطورة، ولا للأضرحة، ولا إلى المزارات، ولا إلى الصوفية الساذجة، بل نستوثق تحصين التراث اللامادي من التسرب والضياع.

***

محسن الأكرمين

ضمن  منشورات (دار هرمز للنشر والتوزيع والترجمة) صدرت في جمهورية إيران الإسلامية الترجمة الفارسية لمجموعة الشاعر العراقي يحيى السماوي (شاهدة قبر من رخام الكلمات).

قام بالترجمة  وكتابة المقدمة الشاعر والمترجم الإيراني كاظم القريشي. وقد تضمن الكتاب النصّ العربي أيضا.3260 الترجمة الفارسية لكتاب السماوي

يذكر أن (شاهدة قبر من رخام الكلمات) سبق وترجمت الى اللغتين الإنكليزية والفرنسية .

*** 

 

 

من فكرة الفن المحفوفة بالابداع والامتاع والأسئلة يمضي الكائن الى عوالمه بكثير من الحلم والنشيد تقصدا للقول بالأشكال والألوان والهيئات الجمالية في تعدد ملامحها وتنوع دروبها نشدانا لما به تسعد الدواخل وهي تعانق هواجس الكينونة واعتمالاتها.. ثمة بهاء كامن في القلب وهيام بثنايا الفن حيث المعاني العالقة بأبجديات القلق الجميل.. قلق البحث والانشداد لهاجس الابتكار والدأب تجاه ما هو اتيان بالجديد .

هي لعبة الفن من طفولات عابرة تسكن الذات وهي تعلي من شؤون الحلم وشجونه في أكوان التداعيات والتحولات وفق نظر وبحث واعادة اعتبار للكامن فينا من تأملات نحو القديم وتجاه الراهن.. التقاء القديم بالراهن في المجال الفني يقضي الى مساحات قول واعادة نظر بقصد التشكيل وما يحيل على جماليات مبتكرة.

هو قول بالمعنى المتصل بالحرية ومن ذلك وعلى سبيل المثال في العلاقة بالصورة الفنية من حيث الرسم الأكاديمي ضمن سياقات وآفاق البحث التشكيلي لتصبح العملية الإبداعية، هي مجال محاولات وتمارين شتى بعناوين التخييل النابع من كوامن الطاقة في الذات الفنانة التي ترنو الى الابداع نهجا وجمالا وضفافا.

هكذا نمضي في فسحة الابداع والفن بجمالياته مع الفنانة آسيا الكعلي التي تخيرت طرائق فنها وفق نهج مخصوص قائلة بالابداع والبحق والامتاع وقد انطلقت في تجربتها الفنية في الرسم باستعمال القلم الفحمي وقلم الرصاص، بغاية ونشدان لصفات تشكيلية وجمالية معينة بلغة بصرية ثنائية الأبعاد، ولتمثيل مواضيع كالمجسمات والمنحوتات النصفية والأجساد والطبيعة الصامتة بمختلف أشكالها، وهو مسار له صلة بالذاكرة وفق المتحوّل بين الحقب الزمانية .. .هي سياقات جمالية انتهجتها الفنانة التشكيلية والدكتورة آسيا الكعلي وعملت عليها في تجربتها المفتوحة بين البحث الأكاديمي والرسم والتلوين.. آسيا الكعلي فنانة تشكيلية وباحثة في مجال الفنون المرئية وخرّيجة المعهد العالي العالي للفنون الجميلة بتونس، متحصلة على الإجازة في الفنون التشكيلية (اختصاص رسم) وشهادة ختم الدراسات المعمقة اختصاص "علوم وتقنيات الفنون" بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس.و أستاذة بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة منذ سنة .2011 .متحصلة على الشهادة الوطنية للدكتوراه في مجال جماليات الفنون وممارساتها، مادة نظريات الفن بالمعهد للفنون الجميلة بسوسة. كاتبة عامة بالجمعية المتوسطية للفنون التشكيلية المعاصرة. شاركت في العديد من المعارض الجماعية بتونس، المنستير، سوسة، القيروان، الكاف، المهدية.كما أنها شاركت في العديد من الملتقيات والندوات العلمية بسوسة والمنستير وتونس ونشرت لها العديد من المقالات في مجال الفنون المرئية المعاصرة. لها عديد المعارض الشخصية:معرض تشكيلي فردي بعنوان" تجليات" بدار الثقافة بقصر هلال مارس 2013،معرض تشكيلي فردي بعنوان "عود على بدء" بالمركب الثقافي محمد معروف بسوسة جانفي 2021. معرض تشكيلي شخصي بدارالثقافة القلعة الكبيرة مارس 2023. شاركت في الملتقى الدولي للمبدعات العربيات بسوسة بعنوان "الثالوث المحرم في إبداع المرأة العربية، في ماي 2022 .و شاركت في المنتدى الدولي للفنون البصرية تحت إشراف المعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة وجامعة سوسة والجمعية الوطنية لتأطير الشباب من 21 إلى 26 سبتمبر 2022.و عن تجربتها تقول الفنانة آسيا ".. .انطلقت في تجربتي مع فن الرسم باستعمال القلم الفحمي وقلم الرصاص، لخلق صفات تشكيلية وجمالية معينة بلغة بصرية ثنائية الأبعاد، ولتمثيل مواضيع كالمجسمات والمنحوتات النصفية والأجساد والطبيعة الصامتة بمختلف أشكالها، هذا المسار الذاكراتي المتحوّل من حقبة زمنية إلى أخرى انعكس في هذه التجربة التي عكست بدورها مرونة هذه التقنية وانفتاحها ومطاوعتها للتوجهات الجديدة في مجال الابداع الفني. وهي رسوم تنتقل بنا من مرحلة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر، لتشكل رؤية أو قراءة في ذهن القارئ، بل تنتقل لتحيك رؤية فنية تترجم وتألّف ما بداخلنا من أفكار وذكريات، هي ليست رسوم صامتة، بل فيها روح مني، وأسلوب يترجم أفكاري وطريقة تناولي للمواضيع. فذاكرتي مع الرسوم، في تصفحها، وتأمّلها مؤانسة وحنين وعود واستمتاع، فالماضي عود وإمتاع ومؤانسة في الحاضر.. ( أفروديت تستحم، رسم يالقلم الفحمي، 1998 أفروديت تستحم، أكريليك على قماش أفروديت تستحم، فوتومنتاج رقمي، 2021) استمتعت برسم تمثال "أفروديت" باليونانية (Venus) إلهة الحب والجمال والاخصاب. حيث يتّسم جسم أفروديت بالرشاقة وتناسب المقاييس، أما ملامح الوجه فهي مثالية وخيالية من أي تعبير، حدقتا العينين محدّدتان والشعر مقسوم من الوسط بتموّج خفيف في خصلات كثيفة مجمّعة من الخلف. وكانت "أفروديت" من أكثر إلاهات الإغريق ظهورا في الفن نظرا لكونها شخصية قريبة من القلوب، ونظرا لظهورها في العديد من الأساطير. تتعدد الطرق والتقنيات. فتنوّع التقنيات والتجارب والبحث عنها من قبل الفنان ليس فقط إثراء للوسائل العملية، لكنها أيضا تعديد للمضامين التشكيلية الممكنة. فالتقنية تصبح مبدعة عندما نكفّ عن اعتبارها مجرّد وسيلة لتصبح عنصرا خلاقا في العمل الإبداعي. وبعبارة أوضح عندما يعمل الفنان على تجريب طرق جديدة لإيجاد علاقات مادّية في الإنتاج الفني هي مازالت مجهولة. وهذا ما بحث عنه الفنان الحديث والمعاصر. يقول رونيه باسرون (1920 – 2017 ) في هذا الغرض "ليس هنالك تقنية دون مشكل، التقنية في معناها التّام هي التقنية المفتوحة والمغامرة والمناضلة، هي تكتشف نفسها، هي مبدعة.. عملت على التلاعب بالصورة الأصلية في ساحة برمجيات "الفوتوشوب" من خلال استنساخها من النسخة الأصل وتركيبها مع صورة جديدة، لتتعدّد وتتحوّل وتتشابه في برمجيات الفوتوشوب، فالمعالجة الرقمية بوصفها عنصرا من عناصر التشكيل الفني أدّت حضورا مهما في بناء الفكرة وأهمّيتها الوظيفية والجمالية. ّ من بين الممارسات كذلك ما هو قابل للتحيين بلغة العصر والمعاصرة لكنّ العمل داخل السلسلة عادة ما يتأطّر تحت راية الممكن المتجدّد أو التنويعات ضمن الذات) (Variations dans le même فتكون المواكبة منصهرة مع التحوّل الطبيعي للعقل البشري في كل ما يحمله من رؤى وفي كل ما يتحمله خيال الفنان من انصياع للتطوّر العلمي ومن استجابة لمنطق التحوّل الوظيفي للأداة التي يستهلكها أو التي يعتمدها في ترجمة الخيال إلى لغة بصرية.. .هي فكرة تجاوز وحدة الاختصاص التي تؤدي بدورها إلى فكرة نفي الحدود بين مختلف الفنون، مما يعني ذوبان الفوارق وانتفاء الحدود بين مختلف الأشكال والتقنيات، وبالتالي ارساء علاقة جديدة تحاول أن تكون مطروحة بأثر فاعلية وبروز أكثر على الساحة الفنية بين المتلقي والعمل الفني.. إنّ الاهتمام بكل ما يتعلّق بذاكرتنا أصبح متقلصا جدا إن لم يكن منعدما. والذاكرة في التجربة الفنية مغامرة بحثية وجمالية في سياق الابداع الفني، ووسيلة نقل عبر الأزمنة تحملنا إلى المخزون الذي عايشناه وحفظناه في ذاكرتنا، حلمناه وتمثلنا صوره في خيالنا. في هذه التجربة اخترت الاشتغال على مجموعة من الرسوم بآليات تشكيلية وتقنية رقمية وفق منهج جمالي معاصر، رسوم تعود بي إلى فترة دراستي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، مارست هذه التقنية قبل دراستي الأكاديمية ثم صقلت موهبتي بعد دراستي في المعهد. لذلك سميتها ب"عود على بدء"، اخترت إعادة توظيف هذه الرسوم التراثية بإعادة رسم بعضها بتقنيات ومواد أخرى لتتحوّل إلى رؤى جمالية تسرد حكايات وذكريات، إنّ الذاكرة وهذه العودة تتطلّبان منّا قدرة على الإبداع والتغيير والنقد والتفتّح عل المعرفة. إنّ العملية الإبداعية، هي بالأساس تمرين على التجاوز والحرية.. .تدرّجت في الانتقال بالرسوم من مرحلة التعلّم والممارسة والاكتشاف إلى مرحلة التجريب والتجديد والانفتاح، انفتاح يمنحني أحقية التجاوز في بناء العلاقة المختلفة بالأشياء والمواضيع اخترت أن تكون التمارين الأكاديمية التشكيلية مواضيع لأبحاث متواصلة ومتجددة فاشتغلت عليها من جديد، تثمينا إنشائيا لما حصلته في المدة الزمنية الفارقة.. .وحسب اعتقادي فإن الفن هو بحث عن المعنى المتخفي في عمق الأشياء من وجوه ومنحوتات وطبيعة صامتة وتكوينات وتجريدات وغيرها من تقنيات وأساليب التعبير التشكيلي. هو بحث عن معنى متفرد يجد لذاته أشكالا عديدة ومتنوعة للتجلي.والعمل الفني لا يكون متكاملا إلا إذا كانت له روابط وثيقة بالفنان بذاته وبمجتمعه، وهو ليس عمل تلقائي محض، فالفن يشكل من أهم وثائق تاريخ الانسان. وقد تطور الفن التشكيلي الحديث والمعاصر، وظهرت الكثير من الأعمال التجريدية والمفاهيمية لهذا النوع من الفنون، استطاع الفن الحديث والمعاصر أن يغيرا المفاهيم التقليدية للصورة الفنية فجعلا منها فكرا وحدثا وحديثا. بل وموقفا أيضا تطرح مضامينه الخطوط والألوان والأبعاد والمسافات والأفكار منطلقا من ملامح الواقع ومرتبطا بحياة الفنان نفسه وبتجربته الحياتية.. .". آسيا الكعلي فنانة وباحثة بها قلق الفن الجميل وهي في مسارها الفني أبرزت في عديد المناسبات من تظاهرات ومعارض ومنتديات جدية تمشيها الجمالي المتخير وفي هذا الخصوص تعد لمعرضها الخاص بالعاصمة حيث المناسبة السانحة لأحباء الفن والبحث الجمالي للاطلاع على التجربة وتجلياتها المختلفة.

***

شمس الدين العوني

إلى أمي.. رحمة الله عليك..

مازلت أذكر.. وجه أمي حاضر بيننا في المنزل الكبير.. وفي بحة من حلقها تنادي محسن.. كانت حينها آخر كلمة تخرج من قلبها مسموعة، وهي تبكي معي مآسي قلبي الحزين بالفقد القريب.. كنت حينها في موضع القرب من ندائها.. قلت هاأنذا يا (الحاجة).. لكنها مارست غفوتها اللاإرادية بالمرة النهائية..

لازلت أذكر.. أن الموت حطم قلبي بالفقد مرتين تباعا، و(مرمد) حياتي بالتطويح والتبعثر.. كنت حينذاك أبكي (زهري) وحظي العاثر، وأحتسب أمري لله.. ولم أستطع ترميم حياتي الباقية. لازلت أذكر.. وجه أمي مبتسمة، تصفف شعرها المتسربل..و(مرود) الكحول لا يبعد عنها. مازلت أذكر.. حين باتت فاتنة بشعرها القصير النير بعد مرضها المُعْدم..كانت بحق أمي (الحاجة) جميلة وفاتنة وفي كل الصفات تتقلد ملكة جمال الأسرة. لا زلت أجد رائحة مِسْك مِنْدِيلها الذي كان فوق هامة رأسها عند فقدها الأخير.. فهو يحمل دمعة تسيل طيعة لروحها صاعدة نحو فضاء السماء. اليوم، لم أقدر أن أطوي صفحة غَدْوة، فالقدر لم يترك لي خيار أن أعيش كما أحببت حياتي.. حقا، لن ينسيني الحاضر في الماضي، ولن يخفف عني الجراح المضاعف.

إلى أبي.. رحمة الله عليه،

لا زالت أذكر.. وجه أبي حصنا وافدا من ذكريات الساقية والحقل. لازلت أذكر.. صوت أبي في مرض موته.. وهو يوصيني خيرا بالعائلة، ويقول: (دِيرْنِي) في بالك، وادع لي بالرحمة، وزر قبري.. ولا تناساني ما حييت يا محسن.. فحين، أقف عند مرقد أبي رحمه الله، يكون خطابي بعد تلاوة ما تيسر من القران الكريم والدعاء، لا زلت يا أبي تسكن قلبي وعيوني.. ورضاك يغطيني سترا وأمنا. لا زلت أذكر.. رائحة تراب يد أبي الفلاح، وتلاوة حزب المغرب ببيت جدي العتيق. لا زلت أذكر.. حكاياته لقصص عنترة بن شداد، وسيف ذي يزان. لا زلت أذكر.. أن الإفادة من الروايات عنده رحمه الله ليست في لغة الحكي، ولا في قطع الرؤوس، والفوز بالحبيبة وعرش الملك، بل في خلق باحة تفكير ترفض عيش الاستبداد، وتبحث عن ترصيف الطريق نحو الديمقراطية العادلة بالكرامة، بين محاسبة الفساد وبناء دولة الحق والقانون، بين تجاوز القهر والحكرة وتحقيق الكرامة الاجتماعية.

إلى أمي.. رحمة الله عليها

لا زلت أذكرك.. حين عَلمتنا من أميتها الأبجدية أن العلم بوابة لمسك فراشات نور سماء بالعقل والسؤال. لا زلت أذكرك.. حين كنا نستظهر عليها دروس كنانيشنا التعليمية، وهي تنبهنا وتصحح لنا مقاطع يمكن أن نقف عليها سهوا أو تلاعبا مُتمردا. لا زلت أذكرك.. حين اكتشفنا فيما بعد أنها كانت لا تعرف رسم الحرف والكتابة، وإنما كانت تجيد الإنصات، وميزة الاستماع لقلوبنا وعقولنا وحركاتنا. تسلتهم نبرات أصواتنا و تفكك آليات تفكيرنا الصغيرة بقلب الأم المربية.

لا زال وجهك أمي.. بعد سنوات الفقد، وطنا عندنا لكل فراشات المرحة بالحياة بمقبرة سيدي عياد.. فيا قلبي جرحك طال، ولو كنت أريد الإطناب قد أكمل ديوانا من الأحزان، وبكائي قد يسقي مراقد موتى العالم.. فلله الأمر، وبالصبر متسع الفضل..

إلى أبي.. رحمة الله عليه،

لا زلت أذكر.. حين كان يمثل لنا شدة الظلم باسم "الغول" بلا تخويف ولا استكانة ولا تطاوع، بل كان يصنع فينا قوة حافز لمجابهته بالنضال والتنوير، والتحرر من شبكة عقد الانغلاق.. ومن تفكير صندوق الخوف..

إلى أمي.. رحمة الله عليها،

لا زلت أذكرك.. حين كنت أمي تتقنين بعفوية فن التربية على القيم والأخلاق.. حين عَلمتنا شرعية السؤال بلا قيود، علمتنا البدء من تملك مسالك الإنسانية وتأكيد وجود التفكير المتحرر. علمتنا أن من الحب تكون البداية والمصالحة مع الذات والآخر..

إلى أبي وأمي.. ،

لا زلت أذكركما.. حين علماني أن التغيير يأتي من شجاعة الثقة في حلم المستقبل. لا زلت أذكركما.. حين علماني أن الهوية المتعددة حماية لوحدة الوطن. لا زلت أذكركما.. حين علماني قيم تعزيز الانتماء إلى الوطن مهما قسا على ناسه، حين علماني حمل قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار. لا زلت أذكركما.. حين علماني أن الاندماج بين الثقافات والحضارات الإنسانية تربية على المواطنة وعلى القيم الكونية. فيا قلبي جرحك قد طال واستطال.. فسلام لكما ليلة جمعة من صمت الفراق..

***

محسن الأكرمين

لا يمكن لعاقل أن يجهل قيمة الكتاب ودوره في تغبير حياة الإنسان بل تغيير للمجتمعات نحو الأفضل يقول الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر.. مبينا فوائد الكتاب:

"الكتَابُ هُو الجَليسُ الذي لاَ يُطريكَ والصَّديقُ الذي لَا يُغريكَ، والصَّاحبُ الذي لاَ يُريدُ استخرَاجَ مَا عندَكَ بالمَلَق.

الكتَابُ لاَ يُعَاملكَ بالمَكر، ولاَ يَخدُعكَ بالنّفَاق، ولا يحتَالُ عَلَيكَ بالكَذب.

الكتَابُ هُوَ الذي إن نَظَرتَ فيه أطَالَ إمتَاعَكَ، وشَحَذَ طبَاعَكَ، وبَسَطَ لسَانَكَ، وجَوَّدَ بَنَانَكَ، وفَخَّمَ أَلفَاظَكَ، وبَحبَحَ نَفسَكَ، وعَمَّرَ صَدرَكَ، ومَنَحَكَ تَعظيم العَوَام، وصَدَاقَةَ المُلُوك"

والشواهد على إعدام الكتب من التاريخ كثيرة تؤرخ لهذه المأساة المتجددة في كل عصر ومصر فهذا عبد الله بن المقفع صاحب "كليلة ودمنة" الذي ألّف كتاب "رسالة الصحابة" وهي مخطوطةٌ تتضمّن النصح، فيما يتعلّق بإصلاح شؤون الإدارة في الخلافة، والقضاء على الفساد بين الحاشية والجيش والقضاء، فقد تمّ استدعاؤه إلى العاصمة بغداد، وقُطعت يدُه اليمنى، وتمّ شيُّها على النار، وأُرغم على أن يأكل منها قبل أن يُقتل، وكان ذلك في عصر الدولة العباسية، في عهد أبي جعفر المنصور!

وكان مصير الحلّاج الذي اشتهر بالتصوف مصيرا ماساويا فقد ضُرب ألف سوطٍ، وقُتل، وقُطّعتْ أطرافُه الأربعة، وذرّ الرماد في نهر دجلة بعد إحراقه، وتم منع وإتلاف كتبه، وهي تزيد على الخمسين كتاباً، ولم يصلنا منها سوى كتاب "الطواسين".

وكتب التاريخ تسجل لنا بحروف من دم ما لحق بالشاعر والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، فكانت التهمة الموجهة إليه الزندقة والإلحاد، وخاصة في كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف" وهو كتاب في التصوّف ألّفه للسلطان محمد الغني بالله، فتمّ القبض عليه بعد فراره إلى المغرب، وخُنق وحُرق ودُفن في مدينة فاس، بعد أن قام القاضي النباهي بإحراق كتبه في ساحة غرناطة ومصادرة أملاكه.

هذه بعض الصفحات الماساوية من التاريخ التي تناولت قصة إعدام الكتب وإعدام أصحابها ولكن هذه الكتب بعثت من رماد المأساة وانتشرت وخلدت بينما الذين أصدروا الحكم نساهم التاريخ وذكرت اسماؤهم باستحياء في الصفحات السوداء لتبقى عبرة للأجيال أن الفكرة لا تموت ولا تدفن ولا تسجن بل خلقت لتعانق الآفاق...

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

.................................

المرجع:

1- حسام الدين الفرا، إعدام الكتب حرقا وأغراقا وتمزيقا ودفنا، موقع أورينت نت

رغم ما قيل عن الفوضى من مساوئ وأوصاف ترتبط بالانفلات وغياب الأمن، الا ان هناك من هو مسكون بها ويتخذ منها سلوكا واسلوبا للعيش، فالشاعر رامبو في كتابه (فصل في الجحيم) يقدّس فوضاه ويقول عنها (وجدت فوضى روحي شيئا مقدساً)، ويختارها البعض من الكتاب عنوانا لكتبه مثلما فعلت احلام مستغانمي في (فوضى الحواس ) وكذلك الشاعر قاسم شاتي في ديوانه (اتبعيني ايتها الفوضى)، وكتاب الباحث والمؤرخ المتخصص في شؤون الشرق الأوسط بييرجان لويزار: (جذور الفوضى)، وهذا مؤشر على انه ليس هناك اجماع على سلبية الفوضى، وشخصيا أجد نفسي طبيعي أمام منظر الفوضى وتحديدا في الطريقة المتبعة في عرض الكتب خصوصا التي مضى على صدورها زمن بعيد، فمن محاسنها انها تنّشط الذاكرة عند البحث عن كتاب ما وذلك من خلال ترادف عدد كبير من العنوانات المختلفة، وايضا قد تفاجأ بكتاب سمعت به دون ان تحصل عليه وقت صدوره، يضاف الى انك ومن خلال البحث قد تعثر على الطبعات الأولى من الكتب المهمة فهي الان تعد من النفائس . 

في مدينة الديوانية هناك مكتبة ضخمة تضم كتبا بمختلف المعارف والآداب وتعد واحدة من المحطات الثقافية للعديد من مثقفي المدينة، ولكن الذي يميز هذه المكتبة عن غيرها هو فوضى الكتب التي عبارة عن اكداس، فالكتب فيها تتشابك فوق بعضها البعض ودون تبويب حيث تجد في الكدس الواحد يتعانق الكتاب العلمي مع الكتاب السياسي والأدبي لذا فزائر المكتبة يصاب بالدوار وهو يغوص في اكداس الكتب بحثا عن كتابه المفضل، وهذه المشقة اللذيذة في نبش الكتب اكاد اعيشها يوميا فلم يحدث لي ان انهيت جولتي اليومية في المدينة  قبل المرور بهذه المكتبة للاستئناس بمنظر تزاحم المعارف وتشابكها .

وصادف اني يوما وخلال بحثي بين الكتب لأجد ما يرضي ذائقتي الثقافية عثرت على ديوان الشاعر الفريد سمعان (في طريق الحياة) الصادر عام 1952 وبتقديم الشاعر السياب فاقتنيته على أمل تقديمه هدية لشاعره المذكور، وفعلا عند تواجدي في احدى دورات مهرجان المربد الشعري في البصرة وكنت قد حملت الديوان معي التقيت الشاعر سمعان في مطعم الفندق الذي يستضيف وفد المهرجان وامام عدد من الأدباء عرضت عليه نسخة الديوان وخيرّته بين اهدائه لي بتوقيعه او أهديه اليه في حال عدم امتلاكه نسخة منه، فأجابني مبتسما انه فقد الديوان منذ وقت طويل ويفضل ان اهديه اليه وهذا ما حصل حيث تركت الديوان بين يديه وانا في غاية الرضا والسرور . .

***

ثامر الحاج امين

لا زال الروس يطلقون عليها تسمية – مكتبة لينين (ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين!)، ولازال الوصول الى تلك المكتبة يعني الذهاب الى محطة مترو تسمى (مكتبة لينين)، رغم ان الامر الاداري بتغيير تسمية المكتبة قد صدر عام 1992 عند انتهاء (العصر!) السوفيتي وولادة دولة روسيا الاتحادية، اذ انها اصبحت منذ ذلك الحين رسميا - المكتبة الوطنية . اختلف المترجمون العرب بترجمة تسميتها الجديدة، فمنهم من يقول – مكتبة الدولة، او، المكتبة الحكومية، او، المكتبة الرسمية، او، المكتبة العامة ... الخ....الخ، ولكننا نميل الى استخدام مصطلح المكتبة الوطنية، التسمية المستقرة في اذهاننا – نحن العراقيين – طوال النصف الثاني من القرن العشرين ولحد الان، اما بالنسبة للروس في الوقت الحاضر، فليس مهمّا كيف تسمّى مكتبتهم الاولى رسميّا، اذ انها بالنسبة لهم كانت وستبقى على ما يبدو – مكتبة لينين، والامر كذلك حتى بالنسبة للاجيال الجديدة من الروس، وقد وقف أحد العراقيين المرحين مرّة في مركز موسكو (اي ليس بعيدا عن تلك المكتبة) وأخذ يسأل الروس – اين تقع (مكتبة الدولة)؟ وكانت الاجابات قاطبة تتوزع بين اجابتين لا غير، وهما - (لا أعرف) او (تقصد مكتبة لينين؟)، وهي تجربة ضاحكة طبعا ضمن تجارب الشباب المرحة، ولكنها حيوية وفريدة في آن واحد، اذ انها تعني ما تعنيه في مفاهيم علم الاجتماع .

وعندما وصلنا في بداية الستينيات الى موسكو للدراسة في جامعاتها، لم تكن مكتبة لينين تخطر ببالنا اصلا، ولكن عندما ازدننا معرفة وعمقا في دراستنا، بدأنا نشعر بضرورة الذهاب الى المكتبات العامة (اذ لم تكن في تلك الفترة الاتصالات الالكترونية كما هو الحال في الوقت الحاضر)، واكتفينا في البداية باستخدام المكتبات العامة، التي كانت موجودة ومتوفرة في جامعاتنا ليس الا، ولكننا بالتدريج وصلنا الى القناعة بضرورة الانتقال الى مكتبة لينين واستخدام مصادرها المتنوعة والغنيّة، والاستفادة من تنظيمها الدقيق والمدهش، ولا زلت اتذكّر (الانبهار!!!) عندما دخلتها لاول مرّة، اذ اكتشفت عالما خاصا، مليئا بملايين الكتب والدوريات، ويخضع لتنظيم صارم وانسيابية دقيقة، خصوصا وان الادارة قد منحتنا – نحن الاجانب – حق استخدام القاعة رقم (1) في تلك المكتبة، وهي القاعة المخصصة للعلماء وكبار الشخصيات، وكنّا نرى بينهم، مثلا، مولوتوف، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي السابق ايام ستالين، وكان يواظب يوميّا تقريبا على الجلوس في تلك القاعة بمفرده ويطالع بانتباه الكتب الموجودة امامه على الطاولة، وكان النظام السائد في المكتبة يمنع ادخال الحقائب، وكان هناك مكان خاص عند المدخل نضع فيه حقائبنا ونأخذ رقما خاصا، وعندما نخرج نستلم الحقيبة وفق الرقم، وكانوا يسمحون فقط بادخال دفاتر الملاحظات، وعند الخروج كانوا يلقون نظرة بشكل سريع ومؤدب على تلك الدفاتر (ربما خوفا من وجود وريقة مقطوعة من الكتب)، وقد لاحظت، ان مولوتوف كان يخضع ايضا – وبكل روح رياضية – لهذا النظام العام عندما يخرج من المكتبة. وتوجد في المكتبة كل وسائل الخدمات للقراء من مطعم ومقهى ...الخ، اذ ان المكتبة تعمل منذ الثامنة صباحا حتى العاشرة ليلا .

كل هذه الانطباعات كانت قبل اكثر من اربعين سنة مضت، وعندما عدت الى هذه المكتبة العتيدة قبل سنوات قليلة، وجدت انها قد ارتدت حلّة جديدة زادتها جمالا وتألقا، اذ اصبحت الكتب الشرقية – مثلا - في بناية مستقلّة تقع مقابل المكتبة، وهي بناية تاريخية جميلة، وعندما طلبت منهم كتابا عراقيا صدر في بغداد عام 1945، ساعدني الموظف المختص بالعثور عليه في الفهارس الخاصة، ثم اخبرني بعد حوالي نصف ساعة ان هذا الكتاب دخل في خزانات خاصة للحفظ، وانني اقدر ان اطلع على الفلم المستنسخ منه في قاعة خاصة معدّة لتلك العروض، وحدد لي موعدا دقيقا لذلك . ويسود المكتبة الان نظام الكتروني في الدخول لها والتسجيل والخدمات الادارية الاخرى، وهناك برامج ثقافية ومعارض كتب متنوعة جدا في قاعاتها العديدة ....

في الستينيات كانوا يقولون لنا، ان مكتبة لينين تشغل المكان الثاني عالميا بعدد كتبها ودورياتها، وهو (33) مليون، وذلك بعد مكتبة الكونغرس الامريكية، التي كانت تحتوي على (40) مليون، ولكن هذه الارقام قد تغيّرت في الوقت الحاضر، وهناك الان خمس مكتبات تقف في الصدارة عالميا، ومنها طبعا المكتبة الوطنية لعموم روسيا، اي مكتبة لينين كما يسميّها الروس، وقد اطلعت قبل مدّة على احصائية تشير، الى ان عدد الكتب والدوريات الموجودة بهذه المكتبة حاليا أكثر من (44) مليون، وان هذه الكتب والدوريات ب (367) لغة من لغات العالم .

المكتبات العامة دليل حضارة الامّة، والحفاظ عليها والاعتناء بها وتطويرها دليل حيوية تلك الامّة، والحليم تكفيه الاشارة يا اولي الالباب ...

***

أ.د. ضياء نافع

أي جمال يبقى لزخات المطر الغاضبة حينما تكسر صلابة وقوة جسد عليل؟ هل للمطر دور غير إحياء الأرض ومن يدب عليها، وما ينبت في تربتها؟

الجواب الذي يحضر المرء دون أن يصرف وقتا طويلا في التفكير هو أن للمطر فوائد وأدوارا كثيرة، ومنافع جمة للكائن البشري. أليس المطر رمز الحياة والتجدد؟ ألا يعد ضيفا عزيزا كلما حل في حضرة الغياب؟ أليس صديقا مفرحا للأطفال؟

كلما هطل المطر تذكرت طفولتي، واستحضرت تلك الابتسامة المشرقة الطاهرة التي تظهر على وجوه سكان القرية كلهم؛ إذ الشيوخ يرون المطر إعلانا على موسم معطاء، والأطفال يعتبرونه لحظة فرح وانشراح، ومدعاة للبهجة والسرور.

إن فرح الوجود والكينونة يتحقق في تلك اللحظة الزمنية التي يهطل فيها المطر على رؤوس الطفولة، تلك اللحظة التي تتحرر فيها الذات من الضيم والغم اللذين يخلفهما الجفاف. وهكذا، أضحت للمطر أدوار سيكولوجية تدخل الفرح والمرح في نفوسنا ونحن أطفال صغار، وتحملنا على تناسي كل الأمراض التي يمكن أن يلحقها بنا الاستحمام بالمطر.. لم نكن حينها ننصت إلى نصائح الأهالي، ولا نلقي بالا لتحذيراتهم ووعيدهم، وإنما كان كل همنا هو أن نسرق هذه اللحظة الثمينة من الوجود؛ اللحظة التي تحن لها الذات كلما طال غيابها، أو لاحت في الأفق غيمة عابرة.

كما أن ما يحركنا للاستحمام والاستجمام بقطرات المطر هو اعتقاد راسخ لدى الأهالي؛ مفاده أن المطر يزيل الأدران من الأبدان، والأحزان من النفوس. بل ذهبوا إلى أن للمطر دورا في إبطال السحر، وما يسمونه ب"العكوسات"؛ أي كل ما من شأنه أن يثبط مسيرة المرء، ويسهم في بعثرة دورة القدر كما يزعمون، ومن ثم، تأتي الحاجة ماسة إلى الاغتسال بماء المطر البارد حتى تتطهر النفوس والأجساد. لذلك، لا غرابة في أن نسمع، ونحن في القرن الواحد والعشرين، من لا يزال يعتقد في هذه المعتقدات والتمثلات؛ فيرى في المطر فرصة لإبطال السحر والشعوذة، ومطهرا للنفس البشرية مما يثقلها.

لكننا لم نعد نستقبل المطر بفرح الوجود، فرح الطفولة والكينونة؛ لأننا تجرعنا علقم قطرات المطر الغاضبة، وتألمنا مما يترتب عنها من نزلات البرد، وارتفاع حمى الجسد العليل. لذلك، لم يعد اهتمامنا محصورا في المطر لذاته، وإنما في الفوائد والمنافع التي يمكن أن نجنيها منه، وسبب هذا التحول هو الجفاف الشديد الذي شاخت معه نفوسنا وأرواحنا.

***

محمد الورداشي

من البديهي أن تنجم عن النشاطات والفعاليات السياحية اللامسؤولة أو غير المدروسة على النحو المطلوب الكثير من الخروقات والتجاوزات بحق البيئة الطبيعية والاحياء الحيوانية والنباتية التي تزخر بها، وذلك من خلال تهديدها والحاق الاضرار والخسائر بأنظمتها ومواردها وعناصرها ومقوماتها. وإلى درجة قد ترتقي لمستوى الجريمة البيئية بمفهومها الواسع.    

وتشمل هذه الجرائم سوء إدارة القمامة السياحية التي ينتجها السياح داخل وخارج المرافق والمنشآت السياحية والفندقية والمتسببة لأنواع عديدة من التلوث (ينتج السائح الواحد على متن سفينة سياحية في البحر الكاريبي نحو 3،5 كغم من القمامة يوميا مقابل 0،8 كغم للشخص على الساحل وفقا لمجلة كوكبنا – برنامج الأمم المتحدة للبيئة، المجلد 10، العدد 3 / 1999)، والاعتماد الكلي على مصادر الطاقة التقليدية (البترول ومشتقاته والفحم الحجري والغاز الطبيعي) في إدارة وتشغيل هذه المرافق والمنشآت التي تصدر عنها حتما ملوثات مضرة بالبيئة، وعدم اعتمادها لمصادر الطاقة الخضراء (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) بديلة لها، وإن بطريقة جزئية وتكميلية، لتترك بصمة كربونية واضحة (البصمة الكربونية للسياحة). بالإضافة إلى عمليات الردم والتجريف المفرطة على السواحل لغرض إنشاء مشاريع سياحية جديدة وتوسيع القائمة منها على نحو غير مشروع، وصب الاسمنت فوق الشعاب المرجانية لإقامة المرابط ومد الجسور لرسو القوارب والسفن السياحية. وكسر وتحطيم هذه الشعاب من خلال الحركة الكثيفة أو غير المدروسة لهذه القوارب والسفن، والاستعمال غير السليم للأدوات المستخدمة في الرسو (تنتشر الشعاب المرجانية في 109 دولة تقريبا وقد تضررت في 90 منها جراء حركة السفن السياحية والمتاجرة بها في السياحة). كذلك أنشطة الصيد التي يمارسها بعض السياح، والهادفة إلى اصطياد الحيوانات والطيور والأسماك النادرة والمهددة بالانقراض.    

و جمع ونقل البذور واللقى والمستحاثات والحشرات والنباتات من قبل بعض السياح الهواة من المواقع الطبيعية الاصلية التي يزورونها، وعدم تنظيم حركة السياح إلى المحميات الطبيعية بالشكل المطلوب من قبل الشركات السياحية المسؤولة عنها، أو الخروج بهم ليلا وازعاج الحيوانات الموجودة فيها في أوقات استراحتها، وعن طريق اثارة الجلبة والضوضاء والإضاءة المبهرة الصادرة عن مصابيح السيارات والزوارق والمصابيح اليدوية وفلاشات آلات التصوير (ارتفعت الزيارات إلى 10 متنزهات وطنية جبلية في الولايات المتحدة الامريكية منذ 1945 بنسبة 1200 % - الناس والكوكب).     

و أيضا تنظيم الرحلات السياحية السيئة التخطيط إلى المناطق الحساسة والهشة بيئيا. وارتياد البر والقيام بالنزهات الخليوية والتخييم في الأماكن الطبيعية المحظورة، والاضرار بالحياة الفطرية بشكل او بآخر عن طريق قطع الأشجار وإتلاف النباتات واشعال النيران، والإساءة إلى المناظر الطبيعية، وتشويه جمالية المناطق المزارة. وكلها ممارسات ونشاطات بعيدة عن الاستدامة البيئية التي باتت مطلوبة اليوم وبصورة ملحة ولأسباب عديدة. 

***

بنيامين يوخنا دانيال

...................

للمزيد من الاطلاع، ينظر (السياحة والبيئة: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2011. وأيضا: -

1 – Mary Clifford & Terry D. Edward، Environmental Crime. Jones & Bartlett Learning، 2011

2 – Rob White، Environmental Crime: A Reader، Willan 2009.

3 – Rob White، Crimes Against Nature: Environmental Criminology. Willan 2008.

ضمن تواصل مسيرته الفنية في مجالات الفنون التشكيلية والنحت بصفة خاصة حيث عرف كنحات بعديد الاعمال لفترة تناهز الستة عقود يقدم الفنان الهاشمي مرزوق عددا من منجزاته الفنية في معرضه الشخصي الجديد بعنوان « Postures et mouvements » وذلك برواق صلاح الدين بسيدي بوسعيد في الفترة من 20ماي الجاري الى 10 من جوان المقبل وذلك بعد سلسلة من المعارض الشخصية والجماعية والمشاركات المتعددة في الفعاليات الثقافية الفنية بتونس وخارجها وكذلك صدور كتاب فني أنيق بالنصوص والصور عن تجربته في مقدمة ونصوص للناقد حسين التليلي.

معرض فني في مسيرة فنية متواصلة وفيها الجديد تجدد الفن وسياقاته الجمالية وهكذا.. انه الفن بما هو جوهر النظر تجاه الأشياء.. العناصر.. الآخرين.. العوالم.. بما يعنيه ذلك من حوار تجاه الذات وهي تنحت رؤاها مثلما ينحت الماء مجاريه في الصخر.. ثمة حنين ونشيد من قبيل الموسيقى الأولى.. موسيقى البدايات..

و الفن كذلك ومع ذلك هو هذا السفر الدفين قولا بالدهشة واللمعان في عالم معتل يشغله الصخب وضجيج الحالات.. هذا ما يفعله الفن بالكائن وهو ينشد لدواخله تحكي شجنه العالي.. من هنا كان لا بد من حكابة تلون أحوال الفنان الطفل المسافر بين دروب شتى يجمعها عنوان لافت هو فعل الازميل والأنامل والروح.. تنكب على فعل النحت.. انكباي الطفل على دميته يصغي اليها يهبها شيئا من ذاته من طمأنينة مفعمة بالبراءة.. بالوداعة.. تحكيها خطاه الأولى.. حيث لا مجال لغير القول بالوجد والحميمية نحو الذات.. انها لعبة الفنان الباذخة التي يرتجي من خلالها نحت أصواته وألوانه المحبذة والمحمودة في مساحات الشواسع.. شواسع الكيان..

هكذا نلج عوالم فنان طفل يحاور المادة يمنحها شيئا من أنفاسه وهو يدندن أغنية بها شجن قديم تجدده الأنامل.. تعددت أعماله من مختلف الأحجام وعديد المواد من البرنز الى النحاس والرخام والخشب وغير ذلك..

بعد الأعمال المتعددة التي منها تماثيل عرفتها شوارع وساحات تونسية تختصر علاقة ومحبة الفنان للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.. كان المجال لعدد من الأعمال الفنية التي هي منحوتات مختلفة المواد والتي تميزت بحركيتها وتعبيريتها البينة حيث المرأةالغارقة في الرقص والفرس في عنفوان الحالات والمرأة على الدراجة.. و غيرها.. أعمال وأمثلة تصويرية بتقنية التخطبط للمنحوتات.. و " منحوتات ".. هو العنوان الجامع للمعرض الخاص السابق للفنان الذي انتظم قبل سنوات بفضاء العرض برواق الكمان الأزرق.. الفنان الذي نعني هو النحات الهاشمي مرزوق ابن مدينة المحرس والمقيم بتونس العاصمة من سنوات..

حدثني عن تجربته وعن أعماله القديمة والجديدة.. كان ذلك منذ فترة وببيته بضاحية باردو حيث انتصبت منحوتاته بأرجاء بيته الى جانب لوحات تخطيطاتها ومراحل تصورها.. كان السيد مرزوق يحدثني بشغف كبير تجاه عمله وانتصاره لمنجزاته الفنية التي تنوعت منذ منتصف الستينات والى الآن.. رجل ثمانيني بروح طفل وفنان لا يهمه ضجيج الساحة الفنية وتقلب أحوالها فهو لا يفكر في غير عمله الذي ينجزه وهو في حالة من الرقص الروحي مثل زنجي قديم..

في المنحوتات اشتغال على الحركة وتفاعلات الجسد.. و منذ أكثر من خمسة عقود سعى سي الهاشمي مرزوق الى تنويع مواد منحوتاته في تلويناتها وأشكالها وأحجامها ديدنه الجمال المصقول والحركة في تنوع تعبيريتها كل ذلك ضمن سنوات من العمل المتواصل والدؤوب وبحرفية ومهارة عرف بها بين جيله من الفنانين..

وكان هناك صدور لكتاب فني عن تجربة الفنان في تأليف للناقد التشكيلي حسين التليلي المهتم بالفنون التشكيلية ضمن عنوان " الهاشمي مرزوق والنحت في تونس " وتصميم غلاف وصور للفنانة ايناس مرزوق.. يسافر بنا الباحث والناقد حسين التليلي في عوالم التجربة الفنية للنحات مرزوق عبر مراحلها من البدايات الى الآن في نصوص تقرأ التجربة والمنجز..

تجربة ومسيرة.. و مجال مفتوح بهذا المعرض بقاليري الكمان الأزرق.. منحوتات مضافة لأعمال عرف بها الفنان في مراحل منها البدايات وما بعدها ومنها تماثيل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة والمنستير والقيروان وطبرقة الى جانب الحضور الفني عبر دروع وهدايا فعاليات ثقافية تونسية منها تظاهرات قرطاج السينمائية وقرطاج المسرحية وقرطاج الموسيقية ومناسبات أخرى.

في هذا المعرض تجوال فني يشي بحيز مفتوح على اشتغال حرفي فني من قبل فنان يحاور المادة ويحاولها قولا بالفكرة تنهض على جانب مهم من حلم تشكل منذ البدايات ليتحول الى شغف فني تعددت به ومن خلاله منجزات الهاشمي مرزوق الذي لم يجد الطريق معبدة في سنوات الستينيات بل انه كابد وتمسك بولعه الفني ليبلغ هذه اللحظة.. لحظة جمالية باذخة يستعيد فيها الفنان مثل متقبل فنه خلاصة التجربة والمنجز و الانطلاقة الجديدة.. نعم هكذا حدثني وأنا أهم بمغادرة بيته –المعرض المتحف السابق للفيولون بلو قائلا.. انا مواصل في عملي بنفس الروح والدأب والعزم.. الفن حياة مفتوحة..

بين الزيارة والمعرض.. بين لقاء المنزل بباردو وقاليري صلاح الدين وقبله الكمان الأزرق وكتاب حسين التليلي.. تمكث تجربة فنان محرسي قديم متجدد لا يلوي على غير القول بالفن كملاذ ومتنفس ومجال تعبيري هام في حياة الناس.. معرض جديد للفنان الهاشمي مرزوق بقاليري صلاح الدين في الفترة من 20 ماي الجاري الى 10 من جوان المقبل وذلك بعد سلسلة من المعارض الشخصية والجماعية والمشاركات المتعددة في الفعاليات الثقافية الفنية بتونس وخارجها.

***

شمس الدين العوني

لو التقى غوركي بصندوق من الذهب لكان من الأغنياء الذين نساهم التاريخ ولكن التقاؤه بصندوق سموري غير حياته وادخله التاريخ من ابوابه الواسعة وصار من عظماء الإنسانية لأن صندوق سموري يحتوي على كنز آخر لا يقدر بثمن، يسافر بك إلى عوالم وفضاءات في أي لحظة ودون تاشيرة، يفتح عقلك على انوار الفكر والحكمة والبصيرة ..

لندع الكاتب حاتم إبراهيم سلامة يقدم لنا هذا الصبي الذي عاش طفولة محرومة مشردة ذاق فيها ألوان العذاب يقول:

"كان غوركي فتى أشعث طويلا نحيفا عريض الكتفين أصفر السحنة، صبي مشرد، بائس تعيس، صعلوك، يرتدي معطفا فضفاضا، لم يكن يدور بخلد أحد أبدا وهو يرى هذا الصبي بهذه الهيئة أن يتوقع له مستقبلا في الدنيا، لم يكن أحد يتوقع أن تكون له مكانة في الدنيا أو سبيلا ليكون من عظمائها أو يظن أن هذا الاسم سيعبر حدود وطنه إلى كل أوطان العالم كأحد أهم وأعظم  الكتاب الثائرين الذين خدموا الإنسانية..

ولد عام 1868 في روسيا ومات أبوه بالكوليرا وهو في الرابعة من عمره ثم ماتت أمه قبل أن يبلغ العاشرة وعاش مع جده الذي كان قاسيا غليظا عليه حتى طلب منه عندما بلغ العاشرة أن يهجره ليستقبل قسوة الحياة وهو في هذا السن الصغير ويرتمي في أحضان الجوع والتشرد والبؤس وقسوة المعيشة.

بدأ العمل في محل أحذية وانتقل ليعمل غسّال صحون على باخرة وكان في هذه الباخرة على موعد مع القدر الذي غيّر حياته ووضع منها أو خطواته نحو المجد المُخبّأ له فقد كان معلمه على الباخرة طبّاخا اسمه "ميخائيل سموري " والذي أيقظ فيه حُبّ الكتب وعشق القراءة فقد كان هذا الطبّاخ يمتلك صندوقا مليئا بالكتب يحمله معه أينما سار وذهب واستطاع سموري الطباخ أن ينمي في الفتى الصغير حب الكتب والقراءة ومن هذا الصندوق تفتحت الآفاق الكبرى للصبي الصغير وكان التحول الرهيب لهذا الفتى المشرد التعيس ليصير فيما بعد من أعظم الكتاب والأدباء الروس ".

عندما نتأمل في حياة غوركي الذي كان شديد العشق للقراءة ومولعا بحب الكتب نكتشف عظمة الكتب التي بإمكانها أن تغير حياتك وتنتشلك من عالم الجهل والضياع والتشرد إلى عالم التأثير والعظمة والتميز فلنتحضن الكتب ففيها دفء الحياة ومتعة السفر وصدق الصحبة.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

........................

1- حاتم إبراهيم سلامة، القراءة المجد الذي أضعناه

ذات حصة دراسية مخصصة للنصوص القرائية، توقفت رفقة تلاميذي عند نص شعري معنون ب"قلت للشعر"، وهو قصيدة شعرية للشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي. فحدث أن طرحت سؤالا على التلاميذ في إطار مناقشة القصيدة: لماذا يكتب الأدباء والكتاب والشعراء ليلا؟ ولم يلجأون إلى فعل الكتابة أصلا؟

تعددت الإجابات المقدمة من قبل التلاميذ؛ إذ أجاب بعضهم بأن الليل وقت الهدوء ومن ثم التركيز على فعل التفكير والتذكر..إلخ؟ وقال آخرون إن غياب النوم هو الباعث على فعل الكتابة.

وأمام تعدد الإجابات، ارتأيت أن أبسط سؤالا ثالثا، كان الهدف من طرحه هو معرفة الأنشطة التي يقوم بها التلاميذ الساهرون ليلا، وكيف يصرفون الأرق والملل عن أنفسهم. فكانت الإجابات أيضا متباينة ومختلفة بين من يقضي ليله في مواقع التواصل الاجتماعي، وبين من يشاهد التلفاز، ومن يتأمل سقف غرفته، ومن يعد رسوم السقف وزخرفته.. إلخ. فقلت لهم متسائلا: لماذا لا تكتبون شيئا ما؟ مثلا؛ أن تأخذوا ورقة وقلما، ثم تشرعون في كتابة الخواطر والمشاعر التي تختلج أنفسكم في تلكم اللحظة بالذات.

استرعاني استغراب المتعلمين، واندهاشهم من كلامي. فانطلق أوضح قصدي قائلا: إن ثمة علاجات متعددة ضد الملل والأرق، بل ضد الفراغ الذي يعد مدخلا تتسلل منه مختلف المشاعر السلبية التي تنخر النفس الإنسانية؛ فمثلا، هناك من يجد علاجه في تلاوة القرآن الكريم، ومن يلفاه في الاستماع إلى قطعة موسيقية مفضلة لديه، ومن يسامر قريبا له يسكن معه البيت نفسه، ولكنّ هناك أناسا كثيرين يجدون دواءهم وضالتهم في القراءة والكتابة. وهكذا، نكون أمام التداوي بالكتابة حينما نفرغ كل همومنا ومشاغلنا، ونملأ فراغنا المهول بفعل الكتابة.

أن تكتب معناه أنك ترغب في تفريغ نفسك مما يثقلها، وتسعى إلى مشاركتهم مع الآخرين علهم يحملون معك قسطا منه، أو يفكرون في حلول فعالة له.

إن الكتابة، أيها التلاميذ وأيتها التلميذات، ملاذ ومأوى آمنان مطمئنان لمن لا مؤنس له ولا رفيق.. إنها بلسم يشفي الجروح العميقة التي تتركها الحياة وبناتها التي تأتي تباعا، ومن ثم، تأتي الكتابة لتحقق للنفس البشرية الهائمة توازنا ما، وتنتشلها من قسوة الفراغ والخواء.

أن تكتب معناه أن لك هما يثقلك، ورسالة محددة تروم إبلاغها إلى الآخرين. والنتيجة أن الكتابة تتحول إلى مصرف للآلام والأوجاع، ومساعد على تحمل عنت الدهر وصروفه.

وما دام الإنسان موجودا، فإن عليه أن يكتب وجوده، ويقدم صورة عن نفسه باعتباره ذاتا حربائية: تحزن وتفرح، تنعم وتشقى، تضحك وتبكي، وترغب وتمل، وتقبل وتدبر.. إلخ. ومنه، تأتي الكتابة بحسبانها فعلا يحتضن تقلبات النفس البشرية، وخلاصا تبتغيه الأنفس التي ضاقت بها الأرض بما رحبت.

اكتبوا ما يحضركم في الليل البهيم، لكي تحققوا كوجيطا متمثلا في المعادلة التالية: أنا إذن أنا حي. وهذه حكاية أخرى سنقف عليها في فرصة أخرى.

***

محمد الورداشي

ما بقينا نُهدهِدُ أنفسنا بالتفكير الايجابي ونلتزم به، فإننا حتما نبحث عن جرعة من الحقيقة التي قد تُنْعِشُ المستقبل بالتغيير. حتما، الكل يفكر في أن زمنا من عمره قد ضاع منه وتسرب دون عيشه بالتمام، وهذا الفزع قد يأتي متأخرا. فحين نتحرر من عدم الاهتمام بالزمن، تبدو الحياة خرفة، وقد تبيت تبلل مكانها قعودها. ولهذا ففي صغر سن العمر كل الأشياء تحمل الإثارة، وتزيد من تطلعات الاهتمام بالأفق والحلم. لكن الفشل المركب التجريبي، وحتى المتحرك لا يمكن الهروب منه ولا معه، فالذات قد تبقى عالقة ومتواجدة حيثما وصلت. لذا قد تكون الفكرة المترددة بالعقلانية أن: تجد حلا يناسبك (أنت وأنا ونحن) أولا، وقد يمنعك (أنت وأنا ونحن) من تناول فاكهة الخيبات الممطرة رعدا وبرقا.

اليوم لا ينقصنا غير الجواب عن سؤال: كيف تضحك من دموع تذرفها وحيدا؟ قد يكون هذا السؤال مفزعا، من حيث البناء التركيبي، لكن صدق الإجابة التي نبحث عنها اليوم تماثل سؤال: كيف يجب أن نتحمل الألم؟ وكيف نحول أثر الألم إلى أداة حياة؟

لن أتحدث اليوم عن كيفية ربح الذات السوية بلا خسائر وبلا صناعة مطبات حياتية آتية، بل سأتناول الحل من حيث تقبل الألم من غير أن يشكل الألم نقمة مستديمة، ويصبح مهلكا لنا بالإفراد والجمع، ونبيت نسيا منسيا. فأعظم الحقائق فزعا في الحياة أكثرها إزعاجا للذوات، فحين نسمعها سواء أتت بخبر النجاح أو الفشل، تبكي العيون.

لن نختلف البتة، فقد لا نرغب في سماع الحقائق البشعة المزعجة للأنفس، لماذا؟ لأن في تركيبتنا النفسية العميقة تسكن الأشياء المغلوطة، وتتخفى عن الظهور كذلك الأشياء السليمة. فالاهتمام بأمر مهما صغر حجمه وشكله يحمل مثال (أصغر الكلاب أشدها نباحا) هي مواطن الألم قبل التراكم الكمي. ووحين يبيت نوعيا يمثل حركة من التفكير الهائل والخوص في همِّ الحياة، ولما لا الخروج بأفكار مدهشة والعثور على السعادة في مواضيع مؤلمة ومتخفية. فالأشياء الايجابية المصممة للفرحة قد تمثل هدهدة للحياة غير مريحة، فيما ثقل السلبيات قد يزيد ويدفع نحو الاكتئاب ومداومة عيش الألم. فالقلق بات مزدوجا ومكررا في عصرنا الحديث، لأن الخوف بات إحساسا بالذنب والاخفاق، ويتعلق بالترابط بقلقنا بخصوص ما يتعلق بالقلق نفسه.

كيف يمكن أن تكون سعيدا؟ كيف يمكن أن تكون حياتك بائسة؟ إنها حلقة العلاقة بين الجنة والنار، والتي تتكرر بالمفاجآت الممتلئة من جيل لآخر، ومن عهد (قابيل وهابيل). فلا منطقة وسطى توجد ما بين الجنة والنار !!! لكن أن تكون سعيدا حين تكون مستنيرا من الناحية الروحية، وتُواصل البحث عن حقيقة السعادة مثل (حي بن يقظان)، أن تُحارب الألم واليأس حين تعلن جهارا (إلى الجحيم أيها الألم !!)، فاللامبالاة الذكية تكسبنا القفز عن تفكير (لا تحاول) وتقعد منبوذا جريحا، إلى مناولة العمل بأمر (حاول) لمعرفة حقائق الحياة.

***

محسن الأكرمين

يمضي العمر سريعا، وعبر محطات زمنية نقف بشكل مؤقت لكي نعود إلى ذكريات قديمة، نتذكر وجوه كثيره. إنهم المعـلمون الذين تعـلمنا على أيديهم شتى العلوم والمعارف خلال الدراسة في مرحلة الإعدادية والثانوية.

كانوا أساتذتنا من عدة بلدان عربية: تونس، المغرب، السودان، مصر، فلسطين، الأردن، السعودية، بالإضافة إلى أبناء بـلـدنا الأساتذة العمانيين الذين كانت أعدادهم محدودة في ذلك الزمان.

إن سنين الصبا وأيام المراهقة تعيش داخل أعماقنا للأبد، لذا فإن الجزء الأكبر من أسماء هؤلاء ووجوههم ومواقفنا معهم لا تُمحى؛ لذا بقت الذكريات خالدة، كما أن أيامنا السالفة كانت جميلة جدا لأن مدارسنا أصبحت نماذج لتجمعات عربية أشبه بما يمكن وصفه  "وطن عربي مصغر".

لكن حينما تركنا مدارسنا وأنطلقنا إلى الجامعة أهملنا التواصل مع أساتذتنا...البعض منهم ظلوا على أرض عٌمان لسنوات محدودة ثم رحلوا إلى بلدانهم أو بلدان آخرى وبعد مرور سنوات طويلة من العطاء نتسائل: كيف أصبحوا؟ وما هي أحوالهم؟  هل هم أحياء أم أموات؟

ولكن لأن زماننا زمن التواصل السريع بسبب توفر وسائل التواصل الاجتماعي ولوجود مجموعة من زملائنا يمتلكون مهارة النفس الطويل في التواصل مع هؤلاء الاساتذة مهما باعدت بينهم السنوات والمسافات, فإننا نتفاجئ  يوما ما بخبر نبأ وفاة أحد هؤلاء الاساتذة أو يُتناقل مقال لأحدهم أو تصلك صورة أحدهم وقد غير الزمان حاله من الشباب إلى الشيب.

عند هذه اللحظة  يصحو الضمير ونتمنى لو تلتقي بهم من جديد لتتسائل عن أحوالهم وبعد حين تدرك  أنه لا فائدة من الندم وعليك فقط أن تبدأ وتستمر بعادة تكرار الدعوات لهم بالصحة والعافية والبركة إن كانوا أحياء وإن كانوا أموات بإن يشملهم المولى عزوجل بالرحمة والمغفرة.

أخيرا أقول سلاما لهم أينما كانوا وأينما حلوا أجساد وأرواحا فقد تحملوا الصعاب من أجل لقمة العيش وتحملوا قسوة الظروف، كم كانوا كرام وسخائهم بالعلم نحونا لا حدود له، ولا نقول أنهم ملائكة فكل أنسان له صفات ايجابية وآخرى وسلبيه.

أخيرا أعبر لهم عن امتناني وشكري الجزيل  بعدد قطرات المطر  فهم الذين بثوا فينا البذور الأولى للعلم والمعرفة وآثار أفعالهم في شخوصنا لا حدود لها.

***

هيثم بن سليمان البوسعيدي

 

يُعالج الكاتب الروائي الانجليزي سمرست موم، في روايته الخطيئة السابعة، موضوعًا مُلحًا وخطيرُا هو الخيانة الزوجية. اما وصفه لها بالخطيئة السابعة، فإن هذا يعود إلى أنها الوصيّة السابعة بين الوصايا العشر في الكتاب المقدّس. وهي لا تزنِ.

يفتتح موم روايته هذه بحوارية بين امرأة وعشيقها. بعد أن شعر الاثنان باكرة الباب وهي تتحرك واعتقدت المرأة أن مَن حرّكها هو زوجها. نفهم من هذه الحوارية كلّ ما يريد الكاتب إيصاله إلينا. وينتهي هذا الموقف وكأنما شيئًا لم يحدث إلا أنّ ما يحدث في الواقع عكس ذلك. الزوج وهو طبيب في مهنته، يكتشف خيانة زوجته ويخبرها أنه يمتلك كلّ الادلّة على خيانتها له، ويخيّرها بين أمرين كلاهما مُرّ. إما أن ترافقه إلى بلدة منكوبة بالكوليرا، وإما أن يفضحها ويفضح عشيقها، وبين هذين التخييرين يتوصّل معها إلى خيار ثالث هو أن تطلب من عشيقها، المتزوّج أصلً، أن يرتبط بها. الزوجة تتوجّه إلى عشيقها، لتكتشف أن كلّ ما كان يقوله لها ما هو إلا كلام في كلام، ولتجده يشجعها على مرافقة زوجها الطبيب إلى مدينة الكوليرا.. مدينة الموت. في هذه الاثناء نعرف عبر عودة إلى الماضي أن هذه الزوجة وافقت على ارتباطها بزوجها الطبيب لسبب أبعد ما يكون عن الحب، وأنها إنما أرادت أن تتزوّج منه لأن أختها ستتزوّج قريبًا.

بعد أن تكتشف الزوجة عبث حبيبها المعبود، توافق على مرافقة زوجها إلى مدينة الموت، وهناك تكتشف إنسانية زوجها، عبر تقدير الجميع له ولعطائه للأهالي المنكوبين، بل إنها تكتشف إنسانيتها خلال تطوعها لمساعدة الاخوات الراهبات في مواجهة وباء الكوليرا الفتّاك القاتل.

ما إن تستقر أمور هذه الزوجة حتى تجد نفسها وقد فقدت زوجها.. بعد أن توفي بعدوى. سرعان ما يوحى إليها أنه قد يكون جرّب مصلًا جديًدا للكوليرا على نفسه. هذه المرأة تعود إلى هونج كونج، لتعرض عليها زوجة عشيقها المُغفّلة أن تقيم معها ومع زوجها في شقتهما. بعد تردّد توافق الزوجة، لتكتشف مدى نذالة عشيقها وخداعه لها أكثر فأكثر. تقرر هذه المرأة.. الزوجة.. العودة إلى مسقط رأسها، وهناك تقرّر مرافقة والدها المحامي إلى الجزائر، لكن هذه المرة بعد أن تكون قد تعلّمت الدرس تمامًا، وثابت إلى رُشدها.

كما في رواياته السابقة، منها ليلة غرام، يبرع موم في تقديم الحَبكة القصصية، كما يبرع في تقديم الشخصيات، حدّ أنك تكاد تلمسها بيدك، وتشعر أنك تعرفها. هذه الرواية أشبه ما تكون بفيلم سينمايي. يصوّر حياة كاملة، لها بداية، وسط ونهاية. رواية ممتعة. مشوّقة وجديرة بالقراءة.

***

ناجي ظاهر

...................

*صدرت عام 1985 ضمن روايات الهلال القاهرية. وهذه هي قراءتي الثانية لها

يعتبر القطاع السياحي من أكثر القطاعات انتاجا للقمامة المتمثلة في الزبالة والقاذورات التي يخلفها السياح داخل المرافق والمنشآت السياحية والفندقية جراء اقامتهم وتناولهم الطعام والشراب، وتمتعهم بشتى أوجه الترويح (الاستجمام) والترفيه فيها. بالإضافة إلى تلك التي يتركونها خارج هذه المرافق والمنشآت أثناء تجوالهم وترحالهم على السواحل وفي الجزر والغابات، مثل العبوات المعدنية والبلاستيكية والزجاجية الفارغة وأكياس النايلون والملاعق والصحون البلاستيكية وسفر الطعام والمناديل الورقية وعلب المعطرات ومزيلات الروائح وواقيات الشمس والأدوات الرياضية ولهايات ولعب الأطفال المهملة وعلب ومشعلات السكاير وبقايا الطعام وإطارات السيارات المتضررة والمظلات المكسورة وبقايا الكراسي البلاستيكية والمعدنية وغيرها كثيرة.

وهي كما يلاحظ الأخطر على البيئة الطبيعية لصعوبة ادارتها ومعالجتها على النحو المطلوب. ففي جزر المالديف التي تستقبل أكثر من (10) آلاف سائح اسبوعيا (750000) سائح سنويا أي أضعاف عدد سكانها البالغ 309000 نسمة تقريبا 2015) والمعروفة كمقصد سياحي مهم على خارطة السياحة الاسيوية، ينتج السائح الواحد فيها قرابة (3،5) كغم من الزبالة والقاذورات في اليوم الواحد كمعدل. الامر الذي دفع السلطات المعنية في عام 1992 إلى تكديس أطنان القمامة اليومية الناتجة عن النشاطات السياحية المختلفة في جزرها ضمن جزيرة اصطناعية من القمامة السياحية (ثيلافوشي)، تمتد وتتوسع بمعدل (1) م يوميا داخل مياه المحيط الهادي، ودون توقف رغم النيران المشتعلة فيها ليل نهار للتقليل من حجمها والتخلص منها.

و كذلك الامر في جزيرة (بالي) الاندونيسية التي تفتقر على نظام فعال للتخلص من القمامة، وهي معروفة بمنتجعاتها وفنادقها ومنشآتها السياحية التي تستقبل سنويا مئات الألوف من السياح من مختلف بلدان العالم. أما في فرنسا فتشكل قمامة السياح (10) في المائة من اجمالي القمامة في البلد بحسب الكلمة الملقاة من قبل الخبيرة الاستشارية الدولية (فيرونيك لينا) في ندوة (استدامة السياحة وإدارة المناطق الساحلية في منطقة البحر المتوسط) المنعقدة في تركيا في شباط 2008 تحت مظلة (الاتحاد الأوروبي)، وفي اطار البرنامج البيئي الاورومتوسطي (سماب) لأولويات العمل البيئي المنبثق من مؤتمر (هلسنكي) في تشرين الثاني 1997.

و بحسب دراسة للباحثة (انتصار أحمد الطلالوة) في قسم الجغرافيا الطبيعية في جامعة الملك سعود السعودية فان (68.6) في المائة من الذين شملتهم الدراسة رأوا ان مساهمة السياح والزوار في تلوث الشواطئ (الخبر والدمام والقطيف) بما يتركونه من نفايات وبقايا.

و من هنا ظهرت اتجاهات ترمي إلى دعم ثقافة معالجة القمامة التي ينتجها القطاع السياحي باعتماد تكنولوجيا حديثة مقرونة بسبل مبتكرة وجديدة فعالة ومؤثرة، تأخذ بها إدارات المرافق والمنشآت السياحية والفندقية العاملة فيه، للتعامل مع القمامة، مع ضرورة توعية السياح بأهمية البيئة والدفع باتجاه الاستدامة التي صارت مطلوبة في الوقت الحاضر وعلى مختلف الأصعدة. مع تشجيع أنماط أخرى من السياحة وفقا لقواعد وأسس الاستدامة، مثل السياحة الايكولوجية والسياحة الايكوثقافية والسياحة المجتمعية الثقافية.

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

للمزيد من الاطلاع، ينظر (السياحة والبيئة: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2011.

كوكب الأرض.. هذه الكرة العالقة في الفراغ.. اللاممسك لها غير الجاذبية.. هل سألنا أنفسنا ماهي الجاذبية.. العلماء يسمون القوة الماسكة للأجرام السماوية بالجاذبية.. لكن ماهي الجاذبية.. هل هي ملموسة أم هي محسوسة.. هل هي فوضوية، أم لها قوانين.. كالتي حددها (نيوتن) وآخرون!؟..

كوكب الأرض هذا الذي هو ذرة في الكون.. تعيش عليه مخلوقات بشرية وحيوانية ونباتية، (دارون) يقول حكمتها نظرية الإرتقاء والتطور.. حتى إذا صحت هذه النظرية، لكن من أين بدأت الحياة.. ما هي الخلية الأولى.. لماذا كل المخلوقات ليست عاقلة أو مدركة؛ سوى الإنسان، لماذا لم تستمر معطيات ومخرجات هذه النظرية.. لماذا توقفت عن التطور، لماذا لم يرتق الإنسان أكثر.. لماذا لم يبلغ الكمال المطلق، لماذا لم يخلو من الأخطاء والظلم والكذب والعدوان!؟..

أسئلة محيّرة جداً ؛ والناس مازالوا يجهلون أجوبتها، رغم أن عمر المتحجرات البشرية تجاوزت ١٥٠ مليون سنة حسب التحليلات الكربونية المكتشفة، وكذلك الحيوانات والنباتات وغيرها!!!..

اليوم؛ الناس يتقاتلون ويتصارعون من أجل البقاء.. هم بهذا يعودون إلى اصلهم الحيواني.. فلا يزعلوا، لأنهم هم يؤمنون بنظرية دارون الذي وصفهم هكذا.

أما آن لنا نحن البشر أن نقف لحظة لنرى آيات الله سبحانه وتعالى في الآفاق وفي أنفسنا!؟..

أما آن لنا أن نؤمن بالبعث والقيامة، لكي نتقي ونتورّع ونخشى ﷲ سبحانه وتعالى.. ونحن نرى الناس يذهبون بالتوابيت إلى المقابر تاركين وراءهم كل هذه الدنيا إلى أبد الآبدين، فهل في الحال ما يجعلنا هكذا.. منا كافر ومنا ملحد ومنا منافق!؟..

اللهم إنّا نسألك حسن الطاعة وبعد المعصية

***

رعدالدخيلي

تُعتبر رواية "ليلة غرام" للكاتب الانجليزي البارز سمرست موم، رواية تاريخية.. تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الاوروبي المكتوب، وتبرز قدرة صاحبها على التخييل فيها جلية واضحة، سواء كان من ناحية الحَبكة الروائية أم من ناحية تصوير الشخصيات وتقديم الاحداث بأسلوب مشوق.

يقصّ موم في روايته هذه باسلوبه المبهر الساحر قصة السياسي العجيب مكيافلي، مع الامير الرهيب سيزار بورجيا، ويُمحور أحداث روايته حول مطامع هذا الامير وأهدافه متوسلًا قاعدة مركزية آمن بها وعمل وفقها.. هي الغاية تبرّر الوسيلة، ويحكي موم في روايته كيف أعجب مكيافلي بهذا الامير الداهية الذي أوحي إليه بتأليف كتابه الخالد "الامير" الذي ضمّنه هذا المبدأ السياسي وغيره من المبادي الملتوية التي تبرّر كلّ شيء في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود.

تتخلل هذا كله قصة إعجاب مكيافلي بزوجة شابة تصغر زوجها التاجر المعروف بسنوات عديدة، وهي الثالثة التي يتزوّجها رغبة منه في أن تنجب له ابنا يرثه ويخلّد اسمه، وهو ما لم يتحقّق له بسبب عُقمه. مكيافلي يبدأ بحبك الحيلة تلو الحيلة ليصل إلى تلك الزوجة، ويبدع موم هنا في عملية التخييل الروائي فبطله مكيافلي، يبدأ من الراهب تيموتو فيحتال عليه ويقنعه بأن يسهّل الطريق عليه للوصول إلى تلك الزوجة التي يشدّد عليها زوجها الحصار، بعدها يقنع أمها. بأن تمهّد له طريق الوصول إلى ابنتها.. بعدها يقنع زوجها الغيور بالسفر ليلة واحدة لطلب من أحد القديسين أن تحمل زوجته، رغبة منه في أن يخلو له الجو.. فينال مأربه.. وعندما تُهيأ له كلّ الظروف ليعيش ليلة الغرام المنشودة، يُفاجأ بالأمير سيزار بورجيا يبعث من يطلب منه أن يحضر اليه لأمر خطير ولا يحتمل التأجيل، وفي هذه الاثناء يرسل مكيافلي تابعه الشاب المرافق له.. ليهئ له اللقاء بتلك الزوجة الشابة وقضاء ليلة غرامه معها. مكيافلي يعتقد أنه بإمكانه أن يتخلّص من اللقاء بالأمير خلال وقت قصير، إلا أن الأمير يجتذبه إليه. . باطلاعه على تفاصيل خطة تمنى طوال الوقت أن يطلع عليها. هكذا تنتهي ليلة الغرام دون أن ينال مكيافلي وطره من تلك المرأة الفاتنة، وتتطور أحداث الرواية ليعرف مكيافلي من صديقه التاجر زوج تلك المرأة، أن زوجته قد حملت أخيرًا وأن الله استجاب لدعوات ذاك القديس الذي طلب شفاعته.. الرواية تنتهي ليتبيّن لنا أن تلك الزوجة حملت من تابع مكيافلي الشاب، وهو ما يعني أن ليلة الغرام كانت من نصيبه وليس من نصيب مَن خطّط لها ودبّر أمرها، أما فيما يتعلّق بسيزار بورجيا فإن الرواية تحكي قصة صعود نجمه وأفوله.. فموته.

رواية جميلة تتعمّق في أغوار التخييل الروائي. وتستحق القراءة رغم مضي العشرات من السنين على صدورها.

يذكر أن الكاتب الانجليزي سمرست موم من أشهر كتّاب الرواية في القرن العشرين. ولد عام 1874 درس الطب والقانون، إلا أن الأدب جذبه إليه، فأبدع فيه أكثر من ستين عملًا روائيًا وقصصيًا، تحوّل العديد منه إلى أفلام سينمائية شاهدها وأعجب بها الملايين من الناس في شتى ربوع العالم. عاش موم ستة وتسعين عامًا وبقي يبدع وينتج حتى أيامه الاخيرة في الحياة

*** 

 ناجي ظاهر

..............

* ليلة غرام، ترجمة حسين القباني. صدرت ضمن سلسلة روايات الهلال عام 1961

في مارس هذا العام 2023 أقر مجمع اللغة العربية في القاهرة صحة العديد من الكلمات التي تجري في حياتنا اليومية، من ذلك كلمة "فيسبوكي" المشتقة من " فيس بوك" إشارة إلى الشخص المنتسب للموقع، وجمعها على "فسابكة"، وكلمات أخرى مثل " تأبيدة " بمعنى الحكم بالسجن مدى الحياة، ونحو خمسين كلمة أخرى كانت تعد من العامية المصرية. وقبل ذلك بشهر - في فبراير - أقر كلمة تثاقف بمعنى  تبادل الثقافات. جدير بالذكر أن مجمع اللغة تأسس في ديسمبر عام 1932 عهد الملك فؤاد الأول، وبدأ عمله عام 934، باسم " مجمع فؤاد الأول للغة العربية" ونص مرسوم انشائه على أن يكون نصف أعضائه من المصريين والنصف الآخر من العرب والمستشرقين، بهدف الحفاظ على اللغة العربية وإعداد المعاجم، وكان طه حسين رئيسا له من سنة 1963 حتى 1973. ولقد أثار إقرار الكلمات الجديدة السؤال عما إن كانت المعاجم الجديدة بحد ذاتها كفيلة بحل مشكلة المسافة بين العامية واللغة الفصيحة. وهنا تجدر ملاحظة أن النقاش داخل المجمع لإقرار كلمات جديدة - كما يتضح من صفحة المجمع – يسترشد أساسا بالتساؤل عما إن كان للكلمة أصل في اللغة الفصيحة أم لا، وما إن كانت قد وردت في معاجم سابقة أم لم ترد. ومعنى ذلك أننا لا ننظر إلى الحياة لكن إلى الكتب والقواميس التي تشكلت لغتها في مجرى حياة سابقة، وبداهة فإن كلمة مثل تلفزيون و" تلفزة" لم ترد في مختار الصحاح وفي لسان العرب، ولا وردت كلمة مثل " فيديو" وغيرها مما أسفرت عنه حياتنا المعاصرة المختلفة. وعندما نحاول الحفاظ على لغتنا – وهذا ضروري للغاية – فإن علينا أن نقوم بإنعاشها واغنائها بمفردات الحياة الجديدة، كما أن علينا أن نعترف بتلك المفردات وندخلها إلى معاجم اللغة ليصبح استخدامها سليما. من ناحية أخرى فإن مجمع اللغة العربية مشكورا يحاول ملاحقة التطور العلمي والثقافي، لكن المجمع بمفرده لن يتمكن من الحفاظ على اللغة، لأن اللغة قضية أعم، التعليم فيها هو الجبهة الأولى والثانية والثالثة، فإذا أردنا أن نصون لغتنا وجب علينا أن نعيد النظر في مناهج تدريس اللغة في المدارس، خاصة ما يتعلق بالجانب الأدبي، حيث يدرس التلاميذ قصائد من نوع قصيدة النابغة الذبياني: "أتاني أبيت اللعن أنك لمتني.. وتلك التي أهتم منها وأنصب"، فيظل التلميذ يلعن الذبياني والتعليم واللغة ما بقى له من عمر، بينما ينبغى لنا أن نبدأ التعليم بقصائد حديثة سهلة تعقبها قصائد الشعر العربي القديم. أيضا مطلوب أن نعيد النظر في قواعد النحو العربي الذي جعل اللغة العربية رابع أصعب لغة في العالم بعد الصينية والكورية واليابانية، وعلى سبيل المثال فإننا مازلنا نستخدم صيغة المثنى، بينما مرت معظم اللغات بتلك الصيغة ثم شطبت عليها في تطورها مثلما فعلت اللغة الروسية وغيرها، ولا بأس بالمرة من تشكيل لجنة لمراجعة اللغة الحكومية الخاصة بلافتات الشوارع قبل إجازتها لأن تلك اللافتات أمست قلعة شامخة لأخطاء اللغة العربية. وإلى جانب تعديل مناهج التعليم تتبقى مشكلة وسائل الاعلام والأدب، وقد كتب في ذلك العميد طه حسين قائلا : " إحسان العربية يفرض على الكاتب الشاب والشيخ ألا يُذكّر المؤنث ولا يؤنث المذكر.. فإن فعل غير ذلك فليس من الأدب في شيء.. وإني ليحزنني أن أقول إن كثيرا من كتّابنا ومن كتاب يرون أنفسهم كبارا يتورطون من هذا كله في شر عظيم، ولو شئت لضربت لذلك أمثالا يخجل لها أصحابها من الشيوخ والشباب جميعا ". 

***

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري 

تستقطب الاحياء الفقيرة المنتشرة حول المدن والبلدات الماليزية عددا من السياح الأجانب لا بأس به، ومن جنسيات مختلفة، فيبلغونها فرادى وبجهود شخصية. رغم توافر عنصر الخطورة والمجازفة، أو ضمن مجموعات صغيرة منظمة، يرافقها دليل أو مرشد سياحي، مكلف من قبل شركة أو وكالة سياحية وطنية، تلبي رغبة هؤلاء في مشاهدة الفقر والفقر المدقع السائد فيها على نحو بين، وما ترتبط به من أوجه العوز والحرمان والقهر الإنساني والاذلال البشري.

و تعتبر الاحياء الفقيرة المنتشرة حول (كوتا كينابالو) عاصمة ولاية (صباح) من أبرز الحالات بالنسبة لسياحة الاحياء الفقيرة في ماليزيا. وتقع على الساحل الشمالي الغربي من جزيرة (بورنيو). كما توجد مثل هذه الاحياء الفقيرة على أطراف العاصمة (كوالالمبور). وتكون في الغالب على هيئة عشوائيات معقدة، متكونة من أكواخ متفاوتة الاحجام وعلب صفيح بائسة غير مؤهلة للعيش، وتفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية الضرورية للعيش الإنساني.

و للحكومة الماليزية خطة جدية وفعالة لمكافحة الفقر في الريف والمناطق الحضرية. وقد نجحت في تخفيض معدله إلى (3،8 %) في عام 2009 مقابل (16،5 %) في عام 1990 وفقا للاحصائيات الوطنية. وهو انجاز كبير صارت نتائجه ملموسة. ويشمل البرنامج توليد فرص العمل المناسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود من سكان هذه المناطق مع توفير مساكن بديلة لهم، وعلى ضوء خطة تنمية اقتصادية واجتماعية طموحة.

علما شهدت ماليزيا منذ عام 1971 خطة من اربع مراحل لتوفير السكن في البلاد وبأنواع مختلفة مع التركيز على الاقتصادي منه، وعلى النحو التالي : إسكان الفقراء 1971 – 1985 واصلاح السوق 1986 – 1997 وتطهير الاحياء الفقيرة 1998 – 2011 والإسكان الحكومي الميسر 2012 ولحد الآن. حيث تم بناء نحو (1،3) مليون وحدة سكنية منخفضة التكلفة من قبل القطاع الحكومي والقطاع الخاص خلال الفترة 1971 – 2010 تجاوبا مع احتياجات الفقراء السكنية مع التخطيط لإنشاء مليون وحدة سكنية أخرى على نفس المنوال بنهاية عام 2020 وفقا للباحث (سيافي شويد) من الجامعة الإسلامية العالمية الماليزية. وهي إجراءات وخطوات تحد من الاحياء الفقيرة وما ترتبط به من سياحة محدودة (سياحة الاحياء الفقيرة) يوما بعد يوم.

***

بنيامين يوخنا دانيال

كوالالمبور – ماليزيا في 7 ك 1 / 2013

رفيعٌ إذ يَتَجَزَّلُ الأديبُ بصرفهِ مَداخلَ بيانٍ تخلُبُ نبضَ كلَّ ذي روضٍ نجيب، وبَديعُ إذ يتَنزَّلُ الخطيبُ بذرفهِ منازلَ عنانٍ تسلبُ لٌبَّ كلِّ ذي لُبٍّ لبيب، ووَدِيعٌ إذ يتغزّلُ الحَبيبُ بحرفهِ تَغَزُّلَ حنانٍ بهوىً لوليفٍ او جَوًى لحبيب.

ثُمَّ فظيعٌ أن يَتَلَبَّسَ الشِّعرُ تَلبيسَ إبليسَ فلا كَفَّةٍ من تشذيب، ووضيعٌ أن يَتَلَمَّسَ حواسَ بذيئةٍ دنيئةٍ فلا عِفَّةٍ من تهذيب، فيتَنَفَّسَ تحتَ الماءِ بشِعرٍ(حُرٍّ) فيغرقَ يغرق في بَقْبَقَةٍ قد بَقْبَقَها لنا العَندليب .

وإنَّما الشِّعرُ الحرُّ، وَيْ! حرٌّ!

من أيِّ شيءٍ تَفلَّتَ ففلَتَ فتَحرَّرَ من تكليب! ألم يعلموا أنَّ طوقَ المفاعيلَ هو لهَم والدٌ حبيبٌ وماهو بطاغيةٍ  ولا رقيب، ولقد عقٌّوا أباهُمُ وكذبوا على أنفسِهُمُ فإستَظَلّوا بأفياءِ (شعرٍ) لا يمتُ لوَشيجَةِ الشِّعرِ لا من قَريبٍ وَلا من بَعيدٍ بعرقٍ نسيب، فذاكَ شعرٌ فاقدٌ لما في أصولِ الشِّعرِ وبحورهِ مِن لذَةٍ في تركيب، وعاقدٌ على فصاحةٍ كريهةٍ وبلاغةٍ بنشرةِ الأخبارِ شبيهةٍ وفي بحورِالتِّبيانِ تخيب. شعرٌ زائفٌ قد شاعَ في ذا عصرٍ بأدبٍ يَبَسٍ رتيب، وذاعَ في سماءِ صُحفِ العَرب الضيّقِ الرحيب، وفي وعثاءِ مواقع تواصل رهيب. ولقد مالو فقالوا:

{يا سيدتي إجعليني سفيراً في مملكةِ فؤادكِ} الحبيب، {إنني أشتهي تحطيمَ قيودِ العزلةِ السرمدية}  بتغريب.

واهٍ! حمداً للهِ أنَّها طردتكَ من مملكةِ قلبِها يا ذا سطرِ رغاءٍ غريب! ويا لكَ من سفيرِ أجوفٍ وشاعرٍ أجلفٍ كئيب! ويا لهُ من صَفيرٍ أخنَف فجَنَفَ عن جَزائرِ كلِّ شاعرٍ وأديب، وحَنَفَ عن مَنائرِ كلِّ حكيمٍ وخطيب.

وإنّما مثلُ الشِّعرِ الحرِّ عندي كمثلِ  تَأْتَأَةٍ  لفنلندِيٍّ  تَعلَّمَ الضَّادَ بترهيب، وسَأسَأةٍ  بحمارٍ هنديٍّ ليشربَ الماءَ بترغيب. ومثلي حينَ أقرأُ ذا الشِّعرَ كمثلِ عربيٍّ يقرأُ تَرْجَمَةً لشعرٍ كوريٍّ، وإنَّهُ لهُ لربيب.

وكلُّ أولئك هينٌ أمرُهُ غيرُ عجيبٍ ولا مُريب، وإنَّما الغَريبُ المُريبُ أنَّ كثيراً مغرمونَ بذا ثُغَاء على ما فيهِ من رَداءَةِ وعَقرِ بيان، ومن دَناءَةٍ ونقر بنان، ومن بَذَاءَةِ وفَقرِ وجدان رتيبِ، وتراهمُ (يتمنَوْنَ الموتَ على صَدره) بلا تأنيب و (فوق دفاتر أشعارهِ) بلا ترتيبٍ. ومَساكينَ هُمُ أولئكَ النَّاس من ذوي ذوقٍ فقيرٍ ورُبَما كئيب، ذاك أنَّهم مَحرومونَ فلا يتنَسَّمونَ نَسَماتِ حدائقَ بيانٍ بزَهوِ حرفٍ مهيب، بل يَتَوَسَّمونَ قَسماتِ علائِقَ بنانٍ بلغوِ ذرفٍ رهيب، وإنَّما مَثَلُهُم كمثلِ مَن كَفَرَ بنَعيمٍ مُقيمٍ بتَطييب، ونَفَرَ لغَريمٍ عَقيمٍ بتَرحيب، فكانَ مآلُ ذوقِهمُ كمآلِ (لُقمانَ تجشَّأ من غير شِبَع)  وذلك لَعَمري مآلٌ مُتَبَتِّكٌ متهتِّكٌ مَعيب.

ألا ليتَ الذَّوقَ تَعَلَّمَ فَعلِمَ إرتِجال عَبرةِ عنترةَ " بذرفٍ عجيب:

أَتاني طَيفُ عَبلَةَ في المَنامِ

فَقَبَّلَني ثَلاثاً في اللَثامِ

وَوَدَّعَني فَأَودَعَني لَهيباً

أُسَتِّرُهُ وَيَشعُلُ في عِظامي

ألا ليتَهُ سَعَى فَوَعَى جمالَ زفرة عنترةَ النّقيب:

حَكِّم سُيوفَكَ في رِقابِ العُذَّلِ

وَإِذا نَزَلتَ بِدارِ ذُلٍّ فَاِرحَلِ

وَإِذا بُليتَ بِظالِمٍ كُن ظالِماً

وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلِ

(بقبقةُ العندليب: إشارةً الى هلوسةِ أو (قصيدة)  للشاعر نزار قباني يقول فيها (إني أتنفسُ تحت الماء أني أغرق أغرق أغرق) وقد غنّاها المغني المشهور (عبد الحليم حافظ) والملقب بالعندليب الأسمر).

***

علي الجنابي

كان كاتب الحكايات العالمي هانز كريستيان أندرسن مولعا بأدب بلزاك، وعده أعظم أدباء القرن 19، ومن ثم قرر في مارس 1857 أن يزور بلزاك في بيته، وكان المتفق عليه أن لا تطول الاستضافة عن أسبوع واحد، لكن أندرسن بقي خمسة أسابيع كاملة، مما أدى – ليس إلى توطيد العلاقة كما كان مرجوا – بل إلى تدهورها بين الكاتبين، مما يبين أن الإفراط في المودة قد يؤدي إلى النفور، خاصة أن بلزاك كان حينذاك غارقا في بناء رواياته التي وضعت أساس الواقعية في الأدب الروائي، ولم يكن لديه فسحة من الوقت للثرثرة. وتوقفت المراسلات بين الكاتبين بعد تلك الزيارة الودية. ولم تكن تلك فقط إحدى عجائب بلزاك، ذلك أنه كان أديبا ثوريا وهو يصف الواقع ويرسم الشخصيات والأحداث ويستقرئ الواقع، لكنه – سياسيا - كان من أنصار النظام الملكي وهيمنة الكنيسة. ساقتني إلى تلك الذكريات أنني أعيد الان قراءة الروائي العظيم، ذلك أنك في العشرين تقرأ بلزاك، وفي الخمسين تقرأ بلزاك آخر، في سنوات الشباب تقرأه بعاطفة متقدة، في ما بعد تقرأه مثل زواج عماده الفهم وليس الشعور. ومن البدهي الآن ألا نتقبل في أدب بلزاك الاسهاب و الإطالة في وصف مكان ما أو وجه شخص ما ، أو الاستشهاد بنصوص قوانين القضاء في شأن أو آخر، لكن ذلك لا يسقط القدرة العبقرية على تحليل الشخصيات، ووضع اليد على التناقضات داخلها، وابتداع الأحداث من منظور تقدمي مدهش. وفي روايته البديعة " الأوهام الضائعة" بأجزائها الثلاثة الصادرة ما بين 1837 و1843، تطل علينا عباراته الموجزة البليغة مثل قوله: " هل ينتصر مرض الإنسان؟ أم إنسان المرض؟"، وقوله: " الفن مجال مثل الشمس تنبت الغابات العظيمة والذباب والبعوض". وفي" أوهام ضائعة " يلقي الروائي العظيم من خلال شخصية " لوسيان" الضوء على القوانين التي حكمت وتحكم عمل الصحافة منذ نشأتها وربما حتى الآن. فيها يسعى " لوسيان" الشاعر لشق طريقه إلى العمل الصحفي فيرتطم بواقع ذلك المجال القائم على المصالح المتبادلة والخضوع للسلطة، إلى أن يصرخ: " باريس مجد فرنسا. باريس عار فرنسا " ! يوضح أحدهم للوسيان ما يجري قائلا: " الصحفيون يكررون المواضيع الممجوجة أو يكتبون عن ترهات باريس في الصحف، أو يعدون كتبا حسب طلب تجار الكتب السوداء، أو يتبجحون بموهبة وليدة بناء على أوامر من أحد باشاوات صحيفة ما، وسوف يجعلونك تكتب المقالات عن الكتب، وتكتب المقالات ضد نفس الكتب" ، وهو ما قام به " لوسيان " لاحقا في رحلة الصعود التي تتبدد فيها أوهامه المثالية عن العمل الأدبي والصحافي، بينما تتحطم أحلام صديقه " ديفيد سيشارد" في أن يقدم اكتشافا علميا جديدا. وعن انكسار الأدب والعلم في قبضة الرأسمالية الصاعدة يقول جورج لوكاتش: " تصور رواية الأوهام الضائعة مجرى رسملة الذهن أو الروح وتحويل الأدب إلى سلعة في كل شموليته بدءا من صناعة الورق وصولا إلى مشاعر وأفكار الكتاب، حيث يصبح كل شيء سلعة (الصحف والمسارح ودور النشر) ويغدو المجد كما يقول أحدهم هو: " اثنا عشر ألف فرنك من عائد المقالات، وألف فرنك وجبات عشاء فاخر"، وتمسي قدرات الصحفيين والأدباء سلعة ومادة للمضاربة في سوق الرأسمالية ". ولكن رواية بلزاك بحد ذاتها تؤكد أن هناك دوما أصواتا تظل تنطق بالحقيقة التي جسدها بلزاك فنيا قبل أن يجسدها فكريا وفلسفيا.

***

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري 

في المثقف اليوم