أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

لطالما اثارت في نفوسنا قصة (خالد في الغابة) الكثير من مشاعر الخوف الممزوجة بالفضول، والقصة التي وردت ضمن دروس القراءة في المرحلة الابتدائية نجحت مبكرا في اطلاق العنان لمخيلتنا وتساؤلاتنا، فمفردات امثال غابة وحيوانات واسد كانت جديدة علينا، ومما زاد دهشتنا هي تلك الاجواء الغامضة التي كشفتها الرسمة المصاحبة للقصة والتي تسببت بإثارة الرعب في قلوبنا  خاصة ونحن لم نزل اطفالا ونصدق كل ما نقرأه أو نسمعه،  وكنا غير قادرين لاستيعاب فكرة اقتحام ولد صغير  لعالم الغابة المتوحش والوقوف بكل هدوء وجرأة وسط مجموعة من اشرس الحيوانات واكثرها فتكا بالإنسان والغريب ان تلك الوحوش تقف هادئة متفرجة دون ان تفترس (خالدا) بل تستقبله وتبادله نظرات الاعجاب!!.

والقصة التي تعاطفنا مع بطلها في وقت مبكر من دراستنا، صارت من اكثر الحكايات التي علقت في ذاكرتنا لكونها كانت اول قصة خدعتنا وزورت الحقائق مبكرا من دون قصد طبعا، اذ اننا لما كبرنا ونضجنا، اكتشفنا ان الطفل (خالد) الوديع وعديم الحيلة، والذي يرتدي بجامة النوم المشطبة المعروفة بـ(البازة) هو غير خالد الذي رأيناه في ارض الواقع!!.

لقد اكتشفنا ان خالدا في حقيقته لم يكن ذاك الطفل البريء، والمسالم بل كان شخصا انتهازيا ودنيئا وغليظا خاصة وأنه في الاصل لديه استعداد وراثي للشر اذ تتوزع المئات من أتعس الجينات المنحرفة في كروموسوماته والبالغ عددها (40) مما يجعله يتصرف كشيطون صغير، وهو دخل الغابة مبكرا ليكتسب كل الطباع الحيوانية السيئة، فأخذ من الثعالب مكرها وخداعها، وتعلم من الافاعي والحيات الغدر والتلون، ورضع مع السباع والهوام الغرور والجشع والشراهة، ومن الجمل شرب الحقد والبغض، ومن الضباع وبنات آوى تغذى الحقارة والدناءة، ومع كل هذه الطباع صارت نفسه حقيرة، بغيضة، دونية، خبيثة، مفسدة، ليس همها إلا نيل شهوتها، وامسى خالد لا يستحى من قبيح، ينظر نظر الحسود ويعرض اعراض الحقود، حتى ان الشاعر ابن الرومي أفرد له  قصيدة يهجو فيها: 

ما كرَّم اللّه بني آدمٍ

إذ كان أمْسى منهمُ خالدُ

*

واللّه لو أنَّهم خُلِّدوا

حتى يبيد الأبد الآبدُ

*

وسُخِّرَ البرُّ لهمْ مركَباً

والبحرُ أنَّى قصد القاصِدُ

*

ودوَّخُوا الجنَّ فدانتْ لهمْ

وأذعن العِفْريتُ والماردُ

*

وأصبح الدهرُ حفيّاً بهم

كأنه من برِّه والدُ

*

واستوت الأقدار في خُطَّةٍ

فليس محسودٌ ولا حاسدُ

*

ولم يكن داءٌ ولا عاهةٌ

فالعيش صافٍ شرْبُهُ بارِدُ

*

ودامت الدنيا لهم غضّةً

كأنها جارية ناهدُ

*

ما كُلِّفوا الشكر وقد ضمهم

وخالدُ اللْؤمِ أبٌ واحدُ

لقد تم خداعنا بتلك القصة حينما صورت لنا ان العالم وردي بينما نحن نعيش في غابة تعج بالكواسر والوحوش، وبالطبع فان خالدا واحدا من اسوأ تلك الوحوش والعنها !!.

***

د. محمد علي شاحوذ \ بغداد

شكلت شخصية الروائى تيودور دوستويفسكي انعطافًا في تاريخ الرواية العالمية، تلك الشخصية التي مزجت بين عبقرية الأدب والكتابة وتوظيف النفس الإنسانية المركبة فيها، بكل تعقيداتها.

ورواية الليالى البيضاء، إحدى الروايات الأولى للكاتب الروسى الكبير دوستويفسكى التي أصدرها في مطلع شبابه عند القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والصادرة حديثا عن المركز الثقافى العربى، للمترجم القدير سامى الدروبى.

لا شك أن كلاسيكيات الروايات العالمية كانت منطلقا لكثير من المبدعين الذين تتلمذوا عليها. تلك الروايات التي تنوعت بطروحات مزجت الخيال بالواقع، وجدير أن نعيد هذه القراءات برؤى متوازية تارة، وتتقاطع معها تارة أخرى، فإذا كانت الرواية الحديثة قد احتكرتها المدارس الحديثة من السردية إلى غيرها، فإن عالم الرواية الكلاسيكية أو المسرح وكل الفنون الإبداعية، لا يزال ينبض قوة في روح الإبداع، وفى نفوس من يسعى إلى كتابة النص الإبداعى، فيستمد ويغرف من فيض النتاج الأدبى العالمى الإنسانى، والإرث المتوارث من التراث العربى القديم، لاستيعاب مجريات الأحداث داخل النص بفلسفة معاصرة.

إن اسلوبه الذي تميز بالتدفق الساحر في رصد عالم الإنسان، ورصد سلوكه وانفعالاته النفسية، وما يدور في خلجاته التي ينقلها لنا متمثلة في شخوص أبطاله، وكيف تتطور سلسلة الصراع وثيمة النص لديه، بقدرة قلما نجدها إلا لدى القليل من الروائيين، فنجد مستويات متعددة يتناولها، تارة تتوزع بين الدين والوجودية، وتارة قيم الإنسان والأخلاق أو الصراع بين الخير والشر في النفس الإنسانية، فهى متعددة الوجوه والتركيبات والأصوات.

لقد اختلف الكثير من النقاد في تصنيف شخصية البطل بهذه الرواية التي توزعت بين المدرسة الرومانسية، وفانتازيا الأدب الروائى، فضلا إذا ما قورنت بين المدارس النقدية المتعددة وفلسفاتها.

لقد شكلت الرواية بلياليها الأربع، وشخصية البطل المستقاة من شخصية الكاتب نفسه، والذى يعطى للقارئ أنها (الإسقاطية) التي يبطنها ويلقيها الراوى على بطل أحداثه، وهو يعيش في مدينة بطرسبورج، شخصية تعيش وحدها، تحاور ذاتها، لا علاقات ولا صداقات، لا يقاسمه الفرح إلا الحزن الذي يستوطن ذاته المتناثرة بين عالم يحيطه من كل الأركان في داخل المدينة، بطل الرواية الذي تعمد كاتبها بتقنية عالية ألا يمنحه اسماً، بقدر ما أراد أن يشوب القارئ نوعا من السعى والفضول للغور واكتشاف هذه الشخصية التي تعيش بين أروقة النص.

شخصية البطل تلك الشخصية الحالمة المتدفقة، ولكنها صامتة تغلى في داخلها بعواطف جياشة تجاه ناستينكا، تلك الفتاة التي ارتبطت بعلاقة عاطفية مع المستأجر لغرفة استأجرتها له جدتها، ثم غادرها بسفر إلى مدينة أخرى على أمل أن يعود إليها (إلى ناستينكا) التي وعدها باللقاء لاحقا. في الوقت الذي يلتقى بطل الرواية بناستينكا، حيث يبارك للقدر الذي جعله ينقذها صدفة في الطريق العام، من شخص متهور كاد يعتدى عليها.

هنا يقول الكاتب على لسان بطله (أنا خجول) وهو يحدث ناستينكا بعد ما أسعفها من الشخص المتهور في الشارع، وهى تبادر إلى سؤاله (لماذا يدك ترتعش؟) فيجيبها: (أنا خجول مع النساء، أنا مضطرب لا أنكر هذا، لم أتخيل يوماً ان أتكلم مع امرأة، نعم كانت يدى مرتعشة، أنا وحيد ولا أعرف الحديث معهن).

هنا يرى العالم الروسى إيفان بافلوف، صاحب المدرسة الاشتراطية في علم النفس، (أن شخصية كبطل دوستويفسكى في رواية الليالى البيضاء، التي تملى عليه حالة عدم التوازن في الشخصية، والتى تفرضها عليه النوازع الداخلية المتصارعة، تفرض عليه المحاولة للخروج منها، إلا أن الذات القسرية في داخله تقف حائلا بينه وبين الواقع الشرطى المفروض عليه).

فإذا كانت الليلة الأولى من الرواية هي المحطة التي يروح البطل فيها متسائلاً ذاته، وهو يردد بينه وبين نفسه كلاماً غير واضح، يشاطره الطريق وهو يتنقل قافزاً بنظراته بين الشيخ العجوز الذي يحييه كل يوم خلال مروره بالحديقة، وبين شرفات المبانى في الطرقات، لا يدرى أين تقوده خطاه في هذا العالم المضطرب، حتى يلتقى بالصدفة مع ناستينكا، ليدخل النص في الليلة الثانية وجدل الصراع النفسى عندما يتعرف على علاقة ناستينكا والمستأجر غرفة جدتها الذي وعدها يوماً بالعودة إليها، حال الرجوع من سفره الذي طال كثيراً.

وإذا كانت الليلة الثانية من الرواية تغرق في الوصف والاسترسال الذهنى الانفعالى للأحداث، وبصبغة عاطفية تعكس روح بطل الرواية أو شخصية الكاتب، وهو يوحى للمتلقى أن الإبداع المقترن بفترة زمنية تسكن حياة الإنسان في مطلع شبابه، ليس كما هو الحال وهو يكتب في مراحل متأخرة، وهذا ما نلمسه في حالة التطور الانفعالى المعقد والمركب لدى دوستويفسكى عندما كتب فيما بعد روايته (الجريمة والعقاب)، وما حملته تلك الرواية من تصوير لعمق النوازع الإنسانية، وعمق وكبر ونضج التجربة الإبداعية لديه فيما بعد، مقارنة بما كتب في (الليالى البيضاء).

إن الإبداع الإنسانى أفق مفتوح بلا نهايات، يستغرق ويستنزف وقتاً وجهداً مضنياً من المبدع، لذا تجد صورة الراوى (على سبيل المثال لا الحصر) في الليلة الثالثة للرواية، حين تبدأ ناستينكا بالحوار عن تجربتها ويبدأ الراوى وهو يغرق بين انفعاله العاطفى المكبوت تارة، وبين ضياعه بين مفردات حديثها وعلاقتها عن الشاب المستأجر الذي انتظرته طويلا.

قد يخفى دوستويفسكى حالة الحبور في ذاته، وقد تجد أن ما يملى عليه من الرقى في كيفية توظيف الشعور في النص الإبداعى، ليتناول حالات الانفعال الإنسانية، وهو يعيش حالة من حالات الجانب العاطفى الذي يختلج في ذاته، كما يسعى تصويره إسقاطياً على بطل الرواية.. إن الارتقاء إلى الغور داخل الوعى والعاطفة وانفعالاتها، ربما نجده يتوزع داخل النص الشعرى، ولكن عندما يسعى الراوى لإسقاط ذاتيته بأسلوب فنى، فلابد أن يكون قد تمكن من أدواته الفنية والتقنية والسردية، وأن توظيف الخيال في ثيمة النص، حالة خاصة ليس يسيراً على المبدع أن يبديها عملا متكاملا تقنع المتلقى، أو تتبوأ بدورها كعمل إنسانى يصارع بين الكاتب مرة وبين مخاطبة الإنسان المتلقى مرة أخرى.

وإذا كانت الليلة الرابعة والأخيرة من الرواية هي التي يسعى فيها دوستويفسكى ليختم عالمه الافتراضى والإسقاطى على لسان بطله (الراوى) فهو يقترب أكثر فأكثر من عالم الإنسان بعاطفته القلقة، وتشتت الحالة الانفعالية لديه تجاه ناستينكا، عندما تقترب لحظة المصارحة بينهما ويدلو بدلوه أخيرا ليعترف بحبه لها، وفجأة أشبه ما تكون بلحظة (ومضة الفلاش) يأتى المستأجر من بعيد لتتقاطع نظرات ناستينكا بين من أحبته بالليلة الأولى وبين من بات ينفجر بحبه لها في الليلة الرابعة.

***

د. عصام البرام

عُرفَ عن ابن آوى بأنه أذكى الحيوانات وأكثرها مكراً واحتيالاً وكان هذا يسبب لبعض الحيوانات الضيق والحسد.

ففي ذات مرة، ولكي يغيظه، أومأ له ضبعٌ بجناح نعامة كان قد بدا يفترسها بهدوء على الجهة المقابلة لبِركة وكان ابن آوى جائعاً كثيراً وخشي أن يلتهم الضبع النعامة بكاملها لهذا ارتبك واضطرب وما من سبيل الا بالخوض في البركة فخاض فيها على عجل وقبل وصوله أحس بالإنهاك فجعل يغوص ثم يطفو فاستنجد بالضبع فتبسم الضبع وقال: اساعدك ولكن لي شروط.

فقال ابن آوى: مقبولة كل شروطك

فقال الضبع: قل انا أحمق وليس كما يشاع بأنك ذكي

فقال ابن آوى: انا أكثر الحيوانات حماقة.

فرد وقال له: قل انا ضئيل الجسم وبائس وبأني انا الضبع سيد الغابة.

فقال ابن آوى: بل أنت سيد الغابات كلها ..  هيا ساعدني.

فقال الضبع : قل انا هزيل وتعس وباني أنا الضبع أجمل وأرشق الحيوانات واسرعها عدواً.

فقال ابن آوى: أين جمال الطواويس من جمالك وأين سرعة الفهود من سرعتك.

فانتشى الضبع وسكرَ دون خمر.

فساعد ابن آوى في الخروج من البِركة وأراحه على جذع شجرة ثم قال له: اكملْ حديثك العذب الشفاف

فراح ابن آوى يمدح وينهش اللحم الطري وكلما أفاق الضبع من سكرة المديح عزَّزه ابن آوى بوصلة مديح جديدة حتى أتى على النعامة كلها !

***

سامي العامري - برلين

15 ـ 11 ـ 2022

تمّ العرض الاول لمسرحية مكسيم غوركي (الحضيض) في مسرح موسكو الفني وباخراج ستانسلافسكي بتاريخ 18 كانون الاول / ديسمبر من عام 1902، وفي الذكرى السنوية (120) على هذا الحدث الثقافي (الروسي اولا، والذي تحوّل بعدئذ الى نقطة انطلاق عالمية)، نشرت صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الاسبوعية مقالة شغلت الصفحة الثالثة باكملها في عددها الصادر بتاريخ 21 - 27   ديسمبر   2022،  وهي مقالة مثيرة حول هذه المسرحية وجاءت بعنوان غريب، وهو – هل الحقيقة ضرورية في القعر ؟، وتعبير (في القعر) هو عنوان هذه المسرحية بالروسية حسب الترجمة الحرفية كما جاءت عند غوركي ( العنوان الذي استقر بالروسية بفضل الكاتب الروسي أندرييف، صديق غوركي، بعد عدة عناوين اقترحها غوركي نفسه)، ولكن المترجم العربي لم يلتزم بالترجمة الحرفية (وحسنا فعل !)، واعطى عنوان (الحضيض) لتلك المسرحية، والتي صدرت بترجمتين عربيتين بمصر في حينها وبنفس العنوان، وتهدف مقالتنا الى تعرّيف القارئ العربي (الذي يعرف منذ فترة طويلة هذا العمل المسرحي الرائد) بالافكار الجديدة التي طرحها كاتب المقال في (ليتيراتورنايا غازيتا) حول مسرحية غوركي الشهيرة بعد مرور 120 عاما على عرضها الاول في مسرح موسكو الفني، وهذا المقال يعدّ بحدّ ذاته ظاهرة طريفة و غير اعتيادية وتستحق التأمّل العميق، اذ نجد هناك عدة آراء متنافرة بعض الشئ (ان صحّ التعبير)، رغم ان الكاتب يحاول ان يجيب عن سؤال مهم، والسؤال تحديدا هو - لماذا يعود النقد الادبي الروسي المعاصر الى مسرحية غوركي هذه من جديد ؟، ولكن المقال هذا في الوقت نفسه يتحدث عن غوركي بشكل غير مباشر، في انه كان (ضد الحقيقة !) في مسرحيته تلك، وانه لم يكن يعتقد بضرورتها  لهؤلاء، الذين (في القعر)، وقد انعكس رأي الكاتب حتى على العنوان الاساسي للمقال، ولهذا السبب، فاننا نعرض هذا المقال للقارئ العربي ونحاول التوقف عند جوانبه المختلفة حول غوركي ومسرحيته (الحضيض) والتعليق حولها في اطار معلوماتنا المتواضعة، اذ ان المقال منشور في صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا)، وهي صحيفة تمتلك اهميتها وقيمتها في عالم الصحافة الروسية المعاصرة، ومن المهم للقارئ العربي متابعتها والاطلاع على آرائها وتوجهاتها .

مقال الكاتب بلاتون بيسيدين يبدأ بالاشارة الى الشهرة العالمية لمسرحية غوركي (الحضيض)، ويعطي الكاتب نموذجا لهذه العالمية قائلا - (انها المسرحية التي تم عرضها وبنجاح كبير في برلين، مثلا، مئات المرات !)، ويؤكد الكاتب ان هذه المسرحية لازالت ولحد الان واسعة الانتشار عالميا لدرجة (وهنا يصل الكاتب الى استنتاج غريب !) ويقول، ان هذه المسرحية اصبحت (اكثر شهرة من غوركي نفسه !!!)، ويوضّح هذه الفكرة قائلا، ان شهرة غوركي بدأت بالانحسار عالميا مقارنة مع تلك المسرحية، خصوصا في روسيا المعاصرة، بينما هذه المسرحية لازالت تعرض وبنجاح على مسارح اجنبية عديدة، وفي اوروبا بالذات، ولا يأخذ الكاتب بالاعتبار الموقف تجاه غوركي في بقية الدول، ومنها عالمنا العربي . يرى الكاتب، ان السبب الرئيسي لشهرة هذه المسرحية يكمن في انها عمل فكري بحت قبل كل شئ، عمل يعكس صراع الافكار في اعماق غوركي نفسه، و لا تعتمد على احداث معينة، ويؤكد، ان حلاصة هذه المسرحية الفكرية يمكن اختصاره، في ان هؤلاء الناس اما (قتلوا) الرب في اعماقهم، او (اضاعوه)، وهم الان يبحثون عبثا عن البديل، ولهذا، فان الافكار التي يطرحها ابطال المسرحية لازالت تتفاعل مع روح عصرنا الحاضر بشكل مثير، اذ ما أكثر هؤلاء النماذج في كل العصور وفي المجتمعات الانسانية كافة . يتوقف كاتب المقال، مثلا، عند النقاش بين بطلين من ابطال هذه المسرحية هما (لوكا) و(ساتين)، ويرى الكاتب، ان هذا الحوار في الواقع هو نقاش حاد يجري بين الفيلسوف الالماني نيتشه و الفيلسوف الروسي سولوفيوف، او بتعبير أدق، كما يضيف كاتب المقال، بين غوركي نفسه وتولستوي، ويشير الى كلمات تولستوي الشهيرة حول غوركي، والتي قال فيها، ان (...ربّ غوركي مشوّه....)، وهي كلمات تعبّر بشكل دقيق عن الموقف الديني لتولستوي، الذي كان يدعو الى ان العلاقة بين الانسان والرب ّ يجب ان تكون مباشرة ودون اي وسيط بتاتا، وكان يقصد الكنيسة طبعا . الا ان أغرب هذه الآراء التي جاءت في المقال تنعكس في ان الكاتب يرى، ان غوركي كان يعتقد، ان هؤلاء الناس الذين يقفون في الحضيض لا يحتاجون للحقيقة، وان الحقيقة غير ضرورية لهم، وقد انعكست هذه الفكرة في عنوان المقال كما أشرنا في بداية مقالتنا، ويحاول الكاتب تعزيز رأيه هذا بالاستشهاد بجملة قالها غوركي عام 1929، الا اننا نرى، ان المسيرة العامة لغوركي لا تتوافق مع هذا الرأي، وليس عبثا، ان غوركي يشغل مكانته الخاصة به في تاريخ الادب الروسي بشكل خاص، وفي تاريخ الادب العالمي بشكل عام، وان هذه المكانة يعترف بها هؤلاء الذين يقفون ضده، قبل هؤلاء الذين يقفون معه، ويكفي ان نتذكر كلمات الشاعرة تسفيتايفا (وهي كانت في هجرتها هربا من ثورة اكتوبر 1917) معلقة على منح جائزة نوبل لبونين (وهوكان مهاجرا ايضا)، اذ قالت، ان غوركي هو الذي يستحقها. 

***

   أ.د. ضياء نافع 

 

 

لن أسأل عن ماذا تفعل الآن؟ ولكن، قد أحاورك بسؤال عقلاني أكثر دقة: بما تفكر الآن؟ هذا السؤال الأخير يستوطن كل الأبعاد الرمزية للتواصل الفعال الفوري، والتفاعلي الاجتماعي الآلي، ويحدد بنية العقل الرمزية، ونوعية التفكير النظيف أو الرخو. قد تكون جينات تفكيرنا تحمل سمات نمطية آتية من عقلية حركة نحلة تتنقل بين الأزهار، ولم تقدر ولو لمرة امتصاص كل الرحيق المتواجد بكم كبير في زهرة واحدة متفتحة، وهو الطعام الذي كان يكفيها عودة نحو الخلية، وبدون حركة تنقل غير تبريري !!

 نعم سؤال: بما تفكر الآن؟ قد يكون أرضية مشتركة رحبة لإنتاج صيغ بديلة من التضامن والاندماج الآلي لجيل (المابعد) الحداثة، والمتمثل أساسا في مواقع التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات، وقد بات التواصل الفوري عبر الآلة يوازي الخطاب المكتوب والشفهي، وتم استنباته من التربة الاجتماعية الجديدة بمتغيرات الزمن والمكان والتقانة.

 بما تفكر الآن؟ لن يسقطنا هذا السؤال الفطن حتما في أجوبة تُماثل التجريد، وهندسة تسطيح التنظير (المعياري) البعيد عن الواقع الاجتماعي المتحور بالتباعد الجسدي والذي يتجلى بالصورة الواقعية في التباعد الاجتماعي، بل نبحث عن خلق نظام المصالح والانشغالات الرمزية من ذوات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي باعتبارهم المجالات البديلة التي تتكفل برفض سلطة الانغلاق (الفردانية)، وتحذف الاختلاف (الذكاء الاصطناعي)، وتقلل من حجم التناقضات (ما بعد العولمة).

قد يكون الجواب يُجَانب قصد البداية، فيقول المتشائم: قد تحولنا نحو رؤية الظلام الافتراضي بهيمنة التفاهة، والتي تعارض الواقعية التقليدية، فمادامت الحياة اليومية باتت عالما مبتذلا وعاديا، وتحمل مواضيع ذات طابع أقرب إلى العاطفة والانطباعية والسذاجة !! فلن يكون المنتوج الفَضْلُ قَدْرَ مرارة حدة التعبير، بدل إنتاج الرزانة الاجتماعية وتمرير النقد الإيجابي.

بما تفكر الآن؟ سؤال يحمل حتما مُتخيل الاحتفاء بالاختلاف لا بخلافات السجال. سؤال فيه اندحار حتمي لمفهوم الفر دانية، رغم أن صياغة السؤال تحمل إمكانية تحويل المفرد إلى الجمع الجماهيري. فالحقيقة العفوية في الجواب، تنفلت من شكلية اللغة ودلالاتها التركيبية، وتتحرر من الحماس و الاندفاع في صياغة أجوبة ذات سفسطة مريرة وزائدة. ينفلت الجواب حتما من رؤية صدفة الحامل والمحمول في (تعامد التناص) بين تفكير الأجوبة السليمة لا في بناء السؤال الفَطِنِ.

بما تفكر الآن؟ قد يلتزم الجواب المقنع أسلوبا أقل تحصينا في عالم التحولات الاجتماعية المتسرعة والمدن الذكية. قد يقع الجواب ضمن وضعيات السقطة المدوية المتنافرة، وضمن نطاق التواصل الآلي العمودي، وسلطة الذكاء الصناعي للحداثة (البعدية). فهذا الإشكال إن صح يُفْقدنا جميعا الاتفاق عن جواب وجداني ووجودي سليم قابل للتنقيط والتصنيف ولما حتى الترقيم الآلي والتنظيم التقليدي. قد نتسرع بالإقحام ونقول: نفكر في أجوبة تكون أكثر شمولية لأسئلة مستفزة: من نحن في الواقع؟ ومن أنا في الافتراضي؟ ومن أنت في المستقبل؟ ومن هم في جمع تكسير الغائب الآلي؟

***

محسن الأكرمين

سؤالٌ أصبحَ يطرحُ علي من الكثيرَ تكتبُ لمنْ ومنْ يقرأُ؟! هلْ تكتبُ للنخبةِ أمٍ للشعبويةِ؟ نكتبُ منْ قاعِ مجتمعٍ ريفيٍ يمثلُ الغالبيةَ العظمى للشعبِ المصريِ، نكتبُ لعالمٍ جديدٍ يولدُ منْ رحمِ أوجاعِ وضرباتِ وباءِ كورونا وحروبٌ خفيةٌ وعلنيةٌ، نكتبُ منْ صراعاتٍ جيوسياسيةٍ، لنظامٍ عالميٍ متعددٍ الأقطابِ " نكتب ضدُ الانحرافِ منْ الشرِ الأخلاقيِ لصالحِ الحشمةِ ضدَ الوقاحةِ، لصالحَ الحريةِ ضدَ الاستبدادِ، والسلطةُ ضدَ الفجورِ، والعدالةُ والمساواةُ " ضدَ التمييزِ، والديمقراطيةُ ضدَ اليمينِ المتطرفِ كذلكَ دكتاتوريةَ اليمينِ أوْ اليسارِ . بكلِ ألوانها، أنا قلمٌ؛ - مؤيد للنضالِ المستمرِ ضدَ أيِ شكلِ منْ أشكالِ التمييزِ، وضدَ الهيمنةِ الاقتصاديةِ والاحتكارِ وزواجِ السلطةِ بالمالِ للأفرادِ أوْ الطبقاتِ الاجتماعيةِ . ضدَ التهميشِ لطبقةٍ أوْ مذهبٍ أوْ عقيدةٍ، ضدَ البعدِ عنْ الهويةِ والثوابتِ القوميةِ ضدَ أيِ شكلِ منْ التطبيعِ؟! أنا قلمٌ؛ - ضدَ النظامِ الرأسماليِ المتوحشِ السائدِ الذي اخترعَ هذا الانحرافِ: البؤسُ والفقرُ والجوعُ في الوفرةِ . والعجزُ وخلقُ التسولِ وهمشَ الطبقة المتوسطةِ فاختفتْ في عصورِ النهبِ والفسادِ عصورَ " القططِ السمانْ " أنا قلمٌ؛ - لصالحَ الأملِ الذي ينعشني على الرغمِ منْ كلِ شيءٍ . أنا؛ - كاتبٌ ضدَ خيبةِ الأملِ منْ الأحداثِ الجاريةِ دوليةً ومحليةً " التي تلتهمني وتشلّ حركتي صباحا ومساءً؟! أنا مجردُ قلمٍ؛ - لصالحَ جمالِ ممارستي كباحثٍ عنْ الحقيقةِ وسطَ ركامِ معاركَ ابحثْ عنْ دفاترَ وقلمٍ وخريطةِ وبوصلةِ أينَ تقعُ ديارْ العربِ؟! أعتقدُ أنَ جمالَ قلمي، يختفي إذا لمْ أهتمْ بالمعرفةِ والبحثِ التي يجبُ أنْ أكتبها وأدرسها، إذا لمْ أقاتلْ منْ أجلِ هذهِ المعرفةِ، إذا لمْ أفعلْ النضالُ منْ أجلِ الظروفِ الماديةِ الضروريةِ التي بدونها يتعرضُ جسدي لخطرِ الانزعاجِ ولمْ يعدْ شاهدٌ على،؟ أنَ قلمَ الكاتبِ المقاتلِ العنيدِ يجبُ أنْ يكونَ متعبا ولكنهُ لا يستسلمُ؟! إنَ قلمي الذي يتلاشى منْ ممارستي يوميا، إذا كنتُ مؤمنا وواثقا بالرسالةِ والكلمةِ " اقرأْ " نزلها اللهَ أمر على أمةِ رسولنا " محمدْ " فنحنُ أمةُ العلمِ فالإسلامُ " علمُ وإيمانُ " فالقلمِ مهما وصلَ منْ معرفةٍ فهيَ قشورُ منْ العلمِ؛ - فرسالةُ الكاتبِ والمثقفِ تصبح خيانةٌ إذا ابتعدَ عنْ المشهدِ والمحيطِ الجغرافيِ للبيئةِ التي يعيشُ داخلها، كما كتبها الفلاسفةُ " خيانةً المثقفينَ " للكاتبِ الفرنسيِ (جوليانْ بندا) في عمومِ المثقفينَ الذينَ رأى أنهمْ جميعا خانوا الفكرُ النقيُ الخالصُ، هائمينَ وراءَ الأهواءِ " السياسيةِ والأيديولوجيةِ"، متخلينَ عنْ المثلِ العليا التجاوزيةِ، التي يعودُ بها الكاتبُ إلى عصرِ أفلاطونْ، معتبرا أنَ كلَ المثقفينَ قدْ غدروا بهِ، همْ الذينَ كانتْ مهمتهمْ تقضي في الأساسِ محاربةَ كلِ ضروبِ ما يسمونهُ بالواقعيةِ السياسيةِ والنزعاتِ القوميةِ، باسمِ تلكَ القيمِ العليا، قيمُ العدالةِ والحقيقةِ والجمالِ التي " منْ الواضحِ أنهُ لمْ يعدْ لها مكانا في " عالمنا اليومَ " فالكاتبُ رسالةٌ يحملها أمانةً فالقلمُ إذا كانَ متعجرفا ومحتقرا للمعرفةِ؛ - ينطبقَ عليهِ " بخيلُ علمِ " فالقسمُ الإلهيُ يجبُ أنْ يكونَ دستورٌ لكلِ قلمٍ؟ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)،،،،،!!!

***

محمدْ سعدْ عبدِ اللطيفْ

كاتبٌ مصريٌ وباحثٌ في الجيوسياسيةِ

 

 

حينما يتعلق الأمر بالحديث عن اختراعات علمية (طبية أو تكنولوجية إلخ..)، تصبح بعد تسجيل البراءات وإنهاء الإجراءات القانونية، في متناول الجميع ولا تراعي الخصائص "العلمية" لكل بلد.

هل يمكن التعامل بنفس الطريقة حينما يتعلق الأمر بالثقافة أو الأدب؟ هل سمعنا مثلا أن المدرسة الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية أو السريالية، سجلوا براءاتهم؟ وهل يمكن أن تصبح هذه المدارس في "متناول" الجميع؟ وكيف يمكن التعامل معها؟ أي كيف يمكن اعتبار كتابات مثلا، أنجزت بالبلدان العربية على أنها كتابات كلاسيكية أو رومنسية أو واقعية أو سريالية؟ هل نختلق معايير خاصة بالثقافة العربية أم نتكئ على معايير الثقافة الغربية في اضفاء هذه المفاهيم على ما يكتب في البلدان العربية؟

هذه الأسئلة، وربما أخرى لم استحضرها الآن، هي التي وجب على كتابنا ونقادنا التعامل معها حينما نتحدث عن المثاقفة. لأن الثقافات الأدبية تتأثر فيما بينها لكنها لا تأخذ منحى الثقافة العلمية. بالنسبة للثقافات الأدبية، فإننا نتحدث عن الخصوصية خلافا للثقافة العلمية. وحينما نستحضر عامل الخصوصية فإننا نكون أمام نوعين من المثاقفة. فهناك المثاقفة الإيجابية، وهي التي تغني الثقافات التي تتفاعل فيما بينها من غير أن ترضخ إحداهن للطمس أو للاستلاب، خلافا للمثاقفة السلبية. وأين تتجلى هذه الخصائص؟ أركز على الخصوصية الاجتماعية، لأن الثقافة وليدة المجتمع، وهي بمثابة الرمز لكل مجتمع، بل هي البراءة التي تحفظ خصوصية كل ثقافة.

على ضوء هذه الفكرة نتساءل مثلا: هل اختيار كتابنا ونقادنا العرب مصطلحات الكلاسيكية أو الرومانسية الخ... وإلصاقها بإبداعات شعرائنا أو روائيينا، اختيار سديد؟ هل هذه المصطلحات التي هي في حقيقة الأمر مفاهيم لأنها محملة بالفكر والفلسفة والموسيقى والهندسة المعمارية الخ... وظهرت نتيجة لحراك اجتماعي وسياسي وثقافي غربي لم تعشه بلداننا العربية، هل تعبر فعلا عن سياقنا الاجتماعي والسياسي؟

بطبيعة الحال، هذه التساؤلات ما هي إلا صيغة لوضع الإصبع على الإشكالية ونفكر بجدية على أن كتابنا ونقادنا لم يستوعبوا "المفاهيم"، بل انبهروا فقط بالمصطلحات، أي بالقشور فقط. وهكذا تحدثوا عن الشاعر الفلاني رومنسي والآخر كلاسيكي (والطامة الكبرى حينما ينزلقون ويلبسون معنى القديم لمفهوم الكلاسيكية)، والآخر سريالي، وهنا العبث واللخبطة فنفرغ السريالية من منظورها الفلسفي الذي تأسس على الصدمة القوية بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثر بالتحليل النفسي وتفسيرات فرويد حسب نظريته المبنية على الهو والأنا والأنا الأعلى، الخ...

خلاصة القول، إن هذا "النقل" من قبل كتابنا ونقادنا، أفرغ المصطلحات من مفاهيمها وألصق "رمز" سلعة لم نساهم فيها، بسلعتنا، وأصبحنا كمن يصنع مثلا لباسا محليا فيلصق عليه "رمز" شركة غربية مشهورة عساه ينافس السوق العالمية.

وما يقال عن هذه المدارس، يقال عن موضة "الهايكو".

***

محمد العرجوني

 

إذا كان أي نص تشعبي يعكس إنجاز الكتابة الأدبية والفكر الإنساني، وإذا كان أيضا يمثل صورة إيجابية عن أي مجتمع، ألا يمكننا أن نبني على هذه الاستعارة رؤية جديدة للعالم وللفلسفة ؟ هكذا طرح ليفي وبولتر سؤاله في هذا المجال المتشعب:

يمكن اعتبار مجموعة الرسائل والتمثيلات المتداولة في مجتمع ما، كنص تشعبي كبير ومتحرك، ومتاهة بمئات التنسيقات، وبألف طرق وقنوات حيث يشترك سكان نفس المدينة في العديد من العناصر والوصلات المتشابكة الضخمة والمشتركة. كل شخص يمتلك رؤية شخصية، وجزئية بشكل رهيب، مشوهة بواسطة عدد لا يحصى من الترجمات والتفسيرات. هذه الروابط التي لا داعي لها، وهذه التحولات التي تديرها الآلات المحلية، مفردة وذاتية، المرتبطة بالخارج، هي التي تعيد إدراج الحركة، والحياة، في النص التشعبي المجتمعي الكبير وبالتالي إلى "الثقافة" بشكل عام .

يمكننا أن نتوقع من العلماء المعاصرين أن يتوصلوا إلى استنتاج مفاده أن كتاب الطبيعة هو نص تشعبي بامتياز، ولغته هي الرياضيات الحسابية للرسوم البيانية الموجهة. إنه احتمال مثير للاهتمام. لأنه إذا كان العلماء يدرسون ترابطية الطبيعة، بينما يقرأ آخرون النصوص التشعبية، فيمكن عندئذٍ توحيد رؤيتنا للطبيعة مع تقنيتنا في الكتابة بطريقة لم نشهدها منذ العصور الوسطى.

إن استفزاز النص التشعبي هذا، كما رأينا أعلاه قد سخر منه البعض الذين يتساءلون فيما إذا كان النص التشعبي يخفض مستويات الكوليسترول - وبالتالي يصبح سلطان الاستعارات، والاستعارات الفائقة.

لطالما كان اللجوء إلى الاستعارة الحسابية يبدو لنا غريبًا إلى حد ما : فنحن نصنع آلات هي الأنسب للإنسان من خلال وضع أنفسنا في فرضيات تقوم على عمل العقل ونصرخ من أجل تحقيق المعجزة لأن الآلات المذكورة ستؤكد هذه الفرضيات . لكن هذه بلا شك نظرة كاريكاتورية إلى حد ما للأشياء. إن المحاكاة والافتراضية تعبر عن الطريقة التي يستخدم بها تطوير التقنيات الجديدة المعرفة المتواضعة جدًا عن الجنس البشري .

***

مترجم بتصرف

إبراهيم ناجي بن أحمد ناجي بن إبراهيم القصبجي، شاعر مصري تأريخ ميلاده (31\12\1898)، وتأريخ وفاته (24\3\1953)،  من المنصورة، وقد أصيب بمرض السكر في بداية حياته، وتوفي في العقد السادس من عمره.

ومن ألقابه (طبيب الشعراء)، (شاعر الأطباء)، (رئيس الرومانسية الشعرية العربية).

تخرج من كلية الطب سنة (1923)، وإنطلق بشعره العاطفي الرهيف، وهو صاحب قصيدة الأطلال التي تغنت بها (أم كلثوم).

بدأ حياته الشعرية بترجمات لشعراء فرنسيين (دي موسية، توماس مور، بودلير)، وإنضم لجماعة أبولو سنة (1932)، وتعرض لنقد شديد من العقاد وطه حسين.

وكان ناثرا قديرا وكاتبا موسوعيا، ويُقال أن كتاباته النثرية أكثر من الشعرية، لكنها لم تلق الإهتمام الكافي.

ترجماته: الجريمة والعقاب لديستوفسكي، وعن الإيطالية (الموت في إجازة)، ولديه دراسة عن شكسبير.

ومن دواوينه: وراء الغمام (1934)، ليالي القاهرة (1944)، في معبد الليل (1948)، الطائر الجريح (1953).

وكانت هذه الدواوين ترافقني في مرحلة الإعدادية، وأترنم بها ماشيا على سدة سامراء، عندما كانت زاهية وتسر النظر، بترقرق المياه، وهفو الأطيار، وتقافز الأسماك، والأفق الساحر، والموج الهادر،  فكان لها وقع ممتع في النفس والأعماق الطافحة بعشق الجمال.

وكم رددنا كلمات أغنية الأطلال في المساءات العذبة:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

كان صرحا من خيالٍ فهوى

إسقني واشرب على أطلاله

واروي عني طالما الدمع روى

....

يا حبيبي كل شيئ بقضاء

ما بأيدينا خلقنا تعساء

ربما تجمعنا أقدارنا

ذات يوم بعد أن عز اللقاء

فإذا أنكر خل خله

وتلاقينا لقاء الغرباء

ومضى كل إلى غايته

لا تقل شئنا فإن الحظ شاء

**

وهي من ألحان رياض السنباطي وغنتها (أم كلثوم) عام (1965)، ولا زلت أستمع إليها لعذوبة كلماتها وروعة لحنها ومعانيها.

ولقصيدة الأطلال قصة معروفة.

تحية للشاعر الطبيب الأديب الدكتور إبراهيم ناجي في ذكرى وفاته، وبأمثاله تفخر لغة الضاد الأبية!!

و"هل رأى الحب سكارى مثلنا"؟!!

***

د. صادق السامرائي 

كان عائداً من وحدته العسكرية بإجازة دورية، ولم يكن يكترث لحالة الذعر التي ارتبطت بمصير وطن، افترست روحه أجنحة الموت، بعد أن تساقطت جسور العابرين، وعُطلت حركة السير بين المدن، لتطفو الأرض وسط خلاء يقطنه برد الخوف، والجوع، والألم، وينسف احشاءه ليل الروع.

**

نُسِفَت محطات الكهرباء، والوقود، ومخازن الغذاء؛ السايلو، وتحطمت معالم البنى التحتية، بما في ذلك مركز الطاقة الكهربائية، والمستشفيات، والمدارس، ومراكز الخدمات المدنية، والمؤسسات الحكومية.

**

باتت حركة السير أشبه بشريان جسد ينخر روحه الهلع؛ جنود يرتدون بزاتهم العسكرية بطريقة مبعثرة، سيطرات الانضباط العسكري اختفت تماماً، انقطعت الاتصالات الخاصة بخدمات شبكات الهاتف ، سيارات النقل القلاب حلت محل الباصات، أوالحافلات، لنقل مَن يريد الوصول إلى بيته، أو وحدته العسكرية.

**

ابتدأت المنشورات التي كانت تقذف بها طائرات قوات التحالف إلى ضباط الجيش، والمعسكرات، تدعوهم فيها إلى ترك معسكراتهم، تؤثر في نفوس الناس؛ ذلك تزامناً مع دعوتهم إلى استلام المؤن، والمساعدات الغذائية، والماء تحت ظل حصار شامل.

**

افترش نهر الفرات ذراعيه بعد انقطاع مياه الشرب، بينما حل خشب الأشجار محل الوقود، وعلى غرار ذلك تحولت قناني الزجاج إلى مصابيح، على نمط الفوانيس حيث تمرر قطعة قماش منقوعة بالنفط عند حافة تمر، أو عجينة خبز تمسك نهايتها البائسة، لتطلق الضوء باهتاً.

**

أصبحت العبارات، والزوارق النهرية وسائل نقل معتمدة للمسافرين، والقادمين من ثكناتهم العسكرية.

**

غدا الانتقال من مدينة إلى أخرى يحتاج إلى يومين وثلاثة، هذا لمن يمتلك القدرة على التزاحم مع المسافرين، أو لمن يحالفه الحظ؛ ذلك بعد أن أضحت معالم الحياة أشبه بمقابر تتوسطها أطلال كيانات هشة.

**

الناصرية في ذلك اليوم اختفت معالم ملامحها، وتغيرت صور شوارعها، ومحلاتها وسط عتمة من السواد لا نظير لها حتى في عالم الأشباح، أو في المنام حين يجد الإنسان نفسه قد ضل الطريق وهو يمشي في غياهب ليل بلا عيون، لولا وميض طائرة حلقت، لتعقبها صفارات إنذار، ثم انفجار بناية مجاورة ، لما يسمى بدائرة الدفاع المدني.

**

واصل السير باتجاه الشوارع المتاخمة لمكان سكناه، مع شتاء يوم ممطر، مثل معوق حرب يتكئ على صولجان جراحه في شوارع مقفرة، يستل بقايا أنفاسه وقد أجهده التعب، والجوع والعطش، أملًا بلقاء محبيه، وزوجته التي تركها حاملاً تحت رعاية أهلها قبل أن يغيب.

***

عقيل العبود

.....................

* يوم فرضت قوات التحالف سيطرتها على المدن، وما سبق "انتفاضة شعبان".

* أضطر الناس إلى تسخين الماء، وتنقيته بقطع قماش بعد انقطاع مياه الشرب، واستعمال القناني الزجاجية للإضاءة.

* التكملة ستأتي إن شاءالله. 

في الواحد والعشرين من آذار الجاري صادف يوم الشعر العالمي، وهو مناسبة يحتفل فيها العالم بفن الشعر، الذي يعد أحد أشكال التعبير وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، فضلًا عن الاحتفاء بالشعراء المبدعين الذي تحظى اسهاماتهم بتقدير عميق وكبير.

إنه يوم مكرس للإلهام والإبداع والتثقيف وتقدير المشاعر الإنسانية التي يمكن أن يخلقها الشعر، وتكوين علاقات ذات مغزى، وتوسيع مدارك الفرد حول التاريخ والثقافات، ومنح الشعراء التكريم لتألقهم الإبداعي، وإعطاء زخم للحركات الشعرية الوطنية والإقليمية والدولية.

والاحتفال بالشعر هو إنصات للصوت الرقيق الهادئ الهامس للإنسان، لصوت دواخله، الصوت الروحي الوجداني الذي كلما علا وصدح إلا وصدحت مع مشاعر المحبة والسلام والتسامح. فهو الصوت الداعي باستمرار إلى إنسانية الإنسان، والانتصار لقضاياه، في معارك الحرية والحضارة والخلاص من القهر والظلم والاستغلال.

إن الحاجة للشعر تتعاظم من أجل ان يعيش الإنسان بسلام على هذه الأرض، فهو الصوت الخفي الوامض داخل الإنسان، وطوق النجاة من الظلاميين وزارعي الأحقاد والكراهية ومشعلي الحروب، وهو قناعتنا وإيماننا بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة – كما قال درويشنا.

والاحتفال بالشعر هو دعوة للإنسان كي يرى صوته في مرآة وجوده، فجذوة الشعر وناره لا ولن تنطفئ، وإن خبت بين حين وآخر، إذ أن الشعر هو الوجه الأكثر صفاءً ونقاءً للإنسان في مسالك ودروب الحياة الوعرة، وفي عالم مليء بالألغام.

والشعر هو الأقرب إلى مشاعر الأفراد ومطالبهم وآمالهم، والمجسد لطموحاتهم، والمعبر عن أحلام الشعوب المقهورة ويمدها بالنفس والشجاعة والمقاومة من أجل تغيير العالم والمناداة بالمساواة، واحترام الهويات الثقافية والمعرفية.

والشعر هو صوت الحب الذي تريد قوى وأصوات الظلام والإرهاب أن تخنقه وتكتمه داخليًا في نفوسنا. فلنواصل كتابة الشعر ولنحتفل به إعلاءً لصوت الحب، الذي لا صوت يعلو عليه، ونشر ثقافة التسامح والمحبة والامن والسلام في شتى أصقاع الدنيا وأنحاء المعمورة، وكل يوم عالمي للشعر والبشرية والشعراء بألف خير.

***

بقلم: شاكر فريد حسن  

الحسين بوخرطةبشرى ترجمة روايته "مرافئ الحب السبعة" بالحروف اللاتينية

تحية للعلامة الدكتور علي القاسمي، الروائي والقاص والفاعل اللغوي الفذ في صناعة المعجم العربي التاريخي والأديب والمفكر المتألق.

تحية للأخ العزيز الأستاذ مصطفى شقيب، الذي متعني بتواصل زاخر بالحب والمعزة.

هنيئا للعالمين العربي والمغاربي بترجمة هذه الرواية القضية إلى الفرنسية. إنه فعلا ولوج إلى الفضاء الأدبي الفرنكوفوني الرحب بأدواره الريادية غربا. إنها خطوة في العالمية، ستليها بلا شك خطوات أخرى، بلغات حية كونية، ستزكي لا محالة الهاجس المشترك والدائم الذي يخالج النفوس باستمرار، إنه هاجس تثبيت مسار جديد في مجال التلاقح الأدبي والفكري والعلمي والإنساني ما بين الشمال والجنوب.

فالحديث عن علي القاسمي في هذا الشأن، كإنسان عربي، ليس بالأمر العادي، بل هو حديث عن قداسة قضية المواطن العربي المكافح المبدئي والمتعلم والمناضل، الذي الصق القلم بأصابعه وسخر عقله ووجدانه طوال حياته للعلم والمعرفة وخدمة الأجيال العربية من الخليج إلى المحيط. ذكره في تعليق أو مقال جعلني أحس أن الأمر يتطلب الحكمة والتبصر واستحضار حق أمة حضارية عريقة تاريخية في فرض الذات كونيا. القاسمي نموذج رجل أمة ارتقى وجدانا وعقلا ووجودا ذاتيا متوغلا في التراكمات الفكرية والعلمية المتفوقة في العالم المعاصر منذ صباه. هو كذلك نموذج رجل قدوة، قدم للعرب والمغاربيين تجربة لا تتيح خيار الحياد. تفاعلاته القوية عبر الترجمة مع المنتوجات الفكرية الكونية قدمت خدمات ثمينة للأجيال منذ عقود، ويستمر بنفس الإصرار بالرغم من تقدمه في السن.3138 النسخة الفرنسية

وهنا لا يمكن أن أتردد في اعتبار ترجمة روايته: "مرافئ الحب السبعة" للغة الفرنسية، كونها اعتراف واضح بقامة فكرية عربية لم تستوعبها الأنظمة العربية العسكرية داخل فضاء ترابي فسيح ومقدس، ارتقت حضارته تاريخيا بأمجاد معارفه ومروءة ناسه. رتب حاجياته الخاصة في حقيبته، وغادر شابا موطنه باحثا بعزم الكبار عن العلم والمعرفة ومقومات التأثير القوي على الوعي الجماعي العربي. لقد غادر بلا شك ليس بدافع الخوف على نفسه، بل هلعا من وأد إرادة وعزيمة شاب متشبث بصعود الجبال وجلب المنفعة لأمته. لقد خطا خطوات ثرية عبر سنوات عمره في العالمية، ليتوج مساره بخطوة رسمية إضافية، بقيمة مستحقة، على طريق العالمية وتصالح الحضارات وخدمة المصير المشترك.

وفي الأخير، أرفع قبعتي عاليا تمجيدا واحتراما لجهود أخي وعزيزي المترجم الأستاذ مصطفى شقيب، الرجل الذي تذوق بلاغة وجاذبية الكلمة والعبارة العربية في هذه الرواية، مشددا على تقديمها برقي للعالم بلغة بلد موليير (جُون بَابتِيسْت بُوكْلَان).

الشكر والامتنان موصول كذلك لأستاذة الأدب المقارن بجامعة غرناطة الدكتورة ماري ايفلين لوبودير في تقويم ومراجعة النسخة المترجمة.

فهنيئا للإنسانية بهذا المولود الأدبي العالمي، مولود بعبارات تقشعر لها الأبدان، وتنتعش بها الأماني والأحلام بغد أفضل.

وتعميما للفائدة بمناسبة هذا الحدث التاريخي الرائع، أقدم في هذا الموضوع، فيما يلي مقال الأخ العزيز المترجم الأستاذ مصطفى شقيب.

 

الحسين بوخرطة

......................

* يمكنكم قراءة المقال على الرابط ادناه

https://www.almothaqaf.com/d/e2/960259

 

 

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: ما الذي يجعلنا نحب الأم أكثر أو الأب اكثر؟ .. تارة نميل لها وتارة نميل له ! .

شهريار: مخزونات العقل الباطن لا تتغير إلا اذا سعى أحدنا لذلك جاهدا، ومن غير تدبير منّا فإننا نمر بمواقف تعيدنا الى مشهد في الذاكرة يزيد من تعلّقنا بالأب او الأم، في تلك اللحظات حينما نوقن أن تصرفا ما لأحد الطرفين – كنّا نحسبه فيما مضى خطأً جسيما – كان في غاية الصواب، وبحكم خزنه في العقل الباطن نحسن التصرف ونتجنب موقفا مهلكا، هنالك نُقّر لأحد الوالدين بالحكمة وبالمسامحة عن ذنب لم يرتكبه أبدا، ومن غير أن نشعر أو نفكر يرى أحدنا نفسه وهو يميل الى الطرف الآخر بخلاف الأيام او الاعوام السابقة، وهكذا نحب الأب أكثر او الأم أكثر، فكما إن الحياة مراحل والإدراك مراحل فالمحبة لكليهما مراحل.

قمة المسامحة والعفو يا شهرزاد لأبٍ أو أمٍ فارق أحدهما أولاده في ليالٍ حالكات، أو أيام مهلكات، ثم عاد بعد سنين طوال عانت خلالها العائلة أعظم معاناة ليطلب الصفح من أبنائه وبناته، إنها أقسى لحظات تمر على الطرفين، فالأول تتجلى أمامه كل ذنوبه، ويقر بتقصيره وعظيم عيوبه، والطرف الثاني (الأبناء والبنات) تتكالب أمام عينيه ذكريات لا طائل له بها، تجعل قلبه كالصخر نحو أبيه العائد او أمه العائدة بعد طول غياب، هنا تكون الكلمة الفصل لعقل راجح، أو قلب مجروح وهيهات أن يجتمعا على رأي واحد في مثل هذا الموقف، فأمّا العقل الراجح فهو يعاني من تربية أولاده، ويدرك قيمة رسالته، وعظيم منزلته عند ربه، فيصفح ويسامح، وفي اللحظة التي ينطق بها: (أسامحك أمي، أغفر لك أبي) يعود صغيرا ليرتمي في أحضانٍ افتقدها لأعوام وأعوام، ويشعر أن الدنيا باسرها قد أصبحت ملك يديه بعد طول انتظار . 

وأمّا القلب المجروح فيجد الفرصة المؤاتية للإنتقام ممن (ظلمه) وحرمه من أبسط حقوقه في الحياة، إنه كيتيم قضى عقدا من الزمن وهو يتلظى بين نيران الحرمان وآلآلم الفراق، وهاقد جاءته الفرصة ليداوي جراحه، فيشتاط صاحبه غيظا وينسى أن من يقف أمامه كان سببا لوجوده في هذه الدنيا، وأنكل مايقال في مثل هذه الأحوال: (لماذا عدت؟..لا حاجة لنا بك الآن) .

والغالبية العظمى ممن يعانون صدمة اللقاء مع الأب أو الأم المُفَارِقَين لايمكنهم المسامحة من غير تفريغ (شحنات سلبية) عاشت معهم سنين طوال، إن أحدهم كبركان هائج ينتظر هذه اللحظة (منذ قرن) ليرمي بحممه، ويحرق ماحوله قبل أن يعود الى حالة السكون .

وهنا أنصح كل أب فارق أبناءه وبناته ليعيش في كنف آخر، او أمٍ رَمت بأولادها في أحضان جدتهم وجدهم لتعيش عالما آخر، أن يستعدا لاستقبال تلك الحمم البركانية، وأن يصبرا على ماكانا سببا في تخزينه وإطلاقه من قساوة وغلظة وجفاء، وأن يعاودا الكَرةَ مرات ومرات حتى تسكن تلك العاصفة، وحينها سيتفقُ القلب مع العقل على أعظم صَفْحٍ عرفه التاريخ، إنها مغفرة ومسامحة على عذاب طويل لم يتوقف في أي لحظة أو ساعة أو يوم أو عام كان فيها الأب او الأم متنصلين عن أسمى رسالة في الحياة .. رسالة الوالدين .

ولي صديق من أهل البصرة .. رحل أبوه هربا من الخدمة العسكرية إبان حرب الثمانينيات من القرن الماضي، كان لصاحبي (ذو القلب الكبير ) أخَوَان أصغر منه وأختان تكبرانه بعامين وثلاثة، وكانت أمه بسيطة التعليم، وأكبر أختيه في الخامسة عشرة، لم يترك الأب حتى رسالة وداع، وأبلغ الأم بأنه سيعود ما أن تتوقف الحرب .

علمت الأسرة بعد غيابه عاما أنه في ألمانيا، ومرت ثلاثة أعوام من غير أن تصل منه رسالة واحدة، الأم طورت من مهاراتها في الخياطة لتقوم بدور الأب.

مرت 17 عاما وهي تواصل الليل بالنهار مجتهدة صابرة على الفاقة، وترفض أن يترك أي من أولادها الخمسة الدراسة، كانت تأتيهم إعانات من جدهم، وكل ذلك لم يكن كافيا لتوفير عيش كريم.

بعد تغيّر الحال، وفي نهاية عام 2004 ظهر الأب فجأة ليجد ابنتيه متزوجتين ولكل واحدة منهما 3 أولاد، أمّا الأخَوَان الأصغران فقد قتل أحدهما إبان غزو العراق، والثاني يدرس في المرحلة الاخيرة من كلية الهندسة، أمّا صاحب القلب الطيب فلم يكمل ألا الدراسة الإعدادية، وهو في ذلك اليوم من أشهر طباخي البصرة، متزوج ولديه ولد وبنت، ومازال يعيل الأسرة الكبيرة، وقد رحلت أمه منذ أشهر حسرة على ولدها الشاب وسنين طوال قضتها في الكد على أبنائها وبناتها .

يقول ذو القلب الكبير إنه تفاجأ برجلٍ وقور بهندام مترف يطرق باب الدار الداخلية .

- عفوا من أنت؟ ولماذا دخلت الى الدار من غير استئذان؟ !.

- ألم تعرفني .. أنا أبوك .

في تلك اللحظات .. مرت الذكريات الأليمة في رأسه كفيلم روائي يوثق مايزد عن عقد ونص من الحسرات والآلام والخوف والفاقة والحرمان .. إعتلته رعشة غير مسبوقة وأصابه صداع شديد، ومن غير أن يدري تساقطت دمعاته على شفتيه لتلامس إبتسامة حائرة، طال سكوته وهو ينظر الى (الأب الضال) الذي عاد للتو يطلب الصَفْحَ الجميل، كان يتقلب بين عبارات تطرق مسامعه، وأخرى تدور في رأسه .

- ولدي سامحني أعرف أنني مقصر في حقكم، لم يكن ذلك بإرادتي، كنت مجبرا على الهروب، كان الموت قريبا مني في تلك المعارك الطاحنة.

نظر الى أبيه وقد علَتْ الدهشة محياه وأجابه من غير أن ينطق بكلمة واحدة:-

- نحن خضنا معارك من نوع آخر، كادت الفاقة تقتلنا، وغيابك طالما أشعرنا باليتم الدائم .

- انا لم أكن قادرا على الإتصال بكم، وعشت لأعوام طويلة في فقر شديد .

- لم يكن فقرك كفقرنا وها أنت ترتدي بدلة أنيقة تدل على غناك .

- ولدي .. أرجوك سامحني، سأعوضكم عما فاتكم .

- هل ستعوضنا عن الحرمان منك؟ أم عن سنوات القحط؟.. عن مستقبلي الدراسي الضائع؟ .. عن أمي التي ماتت من حسرتها .. عن أخي؟.

- ولدي ..هل تسمعني؟ .. لماذا لا ترد عليّ؟ .

رفع ذو القلب الكبير يده اليسرى طالبا من أبيه أن يسكت، تأمل إبنه وإبنته اللذين يقفان عند قدميه ويرفعان رأسيهما إليه، كانهما يسألانه عن دمعاته، وعن هذا الرجل الغريب الذي يقف أمامه؟، مسح بيده اليمنى على رأسيهما، وهو يقول مع نفسه: هل سأقف كموقفه المخزي هذا؟ .. هل سأتنصل عن مسؤولتي تجاه أسرتي في يوم ما؟.. هل ستسامحني زوجتي وأولادي انْ انا فعلتُ ذلك؟.

قرر في لحظتها أن يسامح أباه .. مد ذراعيه لمعانقته حيث بكيّا طويلا وبحرقة، ومن يومها صار مدافعا عن أبيه أمام امتناع أحدى أختيه وأخيه، ومازال متكاتفا معه حتى إلتأم شمل الأسرة .

لقد تجلت يا شهرزاد في تلك الدقائق العصيبة أرفع مشاهد العفو،  وأرق معاني المحبة، أنْ يصفح أحدنا عن أكثر من عقد ونصف من القهر والضياع وإنتظارٍ للمجهول بسبب قرار طائش فذلك عفو ما بعده عفو أرقى ولا أسمى منه، إلا محبة متعاظمة تزيد من تلاحم الأسرة، وتعوضها بشكل ما عن سنين الحرمان والفقر والقهر .

 

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

......................

* من وحي شهريار وشهرزاد (41)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

 

 

ايناس نازلي نعيش ونحن على بعد أيام قليلة لتوديع سنة منتهية بحلوها ومرها، واستقبال عاما جديدا ندعوا أن يحمل بدايات أفضل ووعودا جديدة بهجة الاحتفالات برأس السنة الجديدة كعادة متوارثة منذ القدم يقال أنها تعود إلى أكثر من 500 سنة بعد ميلاد المسيح بن مريم عليه السلام، حيث تكون قد عرفت في حوالي عام 1500 في ألمانيا أولا لتمتد إلى كامل دول القارة الأوروبية بعد مرور قرن من الزمان وتنتشر لاحقا إلى القارتين الأمريكيتين ثم إلى دول العالم، ويقال أن أول احتفال بمولد المسيح أقامه القديس يوسف في العام الأول من ولادة المسيح بمدينة الناصرة مسقط رأس السيدة مريم العذراء وبها بشرت بمولد السيد المسيح حيث ولد بها وقضى فيها معظم سنين حياته حتى نسب إليه إذ كان يدعى بالناصري، ومنها اشتق أسم النصارى، وهناك وثائق تذكر أن أول من احتج على إقامة هذه الاحتفالات في دول العالم هو المصلح الديني" فون كايزر" وأعلن احتجاجه في خطبة ألقاها من أعلى برج أحدى الكنائس في ألمانيا عام 1508هاجم فيها بشدة ما اعتبرها بدعة جديدة تتمثل في تزيين صالة الجلوس بالبيوت في يوم ميلاد المسيح من كل عام بأغصان الصنوبر، إلا أن احتجاجاته لم تلق آذانا صاغية بل بالعكس واصلت الكثير من العائلات الألمانية إقامة الاحتفالات بصخب أكبر حتى كان الكثيرون من الفتيان والفتيات يقتطعون المال من مصروفهم اليومي طوال السنة لشراء ما أصبحت تسمى صراحة وجهرا " شجرة الميلاد " وشراء كعكة العيد وملحقاتها من أشرطة الزينة الملونة التي يقال أن أول من وضعها هو أحد الرهبان البروتستانتيين خلال احتفاله البهيج الذي أقامه مع أفراد أسرته بالمنزل الذي يملكه بمدينة ستراسبورغ عام 1605 حيث وصف حينها الاحتفال بأنه " رمز للتواصل من عام إلى آخر يتجدد فيها الزمن "

عيد الميلاد المجيد في التاريخ هو يوم 25 ديسمبر، ويذكر علماء الفلك أن يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل فيه الأرض إلى آخر مدى لها عن الشمس ويكون النهار في أقصره، وفي اليوم الموالي تصعد الشمس، لذلك كان يعتبر هذا اليوم، يوم ميلاد الشمس، وقد احتفل به الوثنيين كعيد آلهة الشمس، واستمر ذلك إلى أن ظهرت المسيحية .

تمثل شجرة الميلاد في نظر الملايين من البشر في العالم رمزا مقدسا عرفته وتعاملت معه شعوب الحضارات القديمة، فزين سكان روما منازلهم وشرفات بالأشجار في احتفالات بهيجة تقام في الأسبوع الأخير من كل عام، وفي أثينا كانت تقام الاحتفالات حول شجرة عظيمة يتم تثبيتها في منتصف المدينة وتسمى " شجرة العالم "، وفي وقتنا الحاضر يحتفل الملايين من الناس في بقاع الأرض بالمناسبة  بتزيين الشجرة والتفنن في تجميلها بالكرات الزجاجية الملونة والأجراس والزهور لما تمثله من قدسية محببه إلى النفس إلى جانب اعتبارها رمزا لطقوس الاحتفالية المميزة بأعياد رأس السنة ، وللشجرة مكانة عالية وقدر كبير في نفوس الناس حتى أصبحت عادة شائعة عند الكثيرين يبدعون في تزيينها  وتنصيبها في مكان بارز بالمنزل قبل موعد العيد بعدة أيام وتبقى في موضعها حتى عيد الغطاس"

بالعودة إلى قصة ميلاد السيد المسيح عليه السلام في المراجع الدينية لا نجد أي رابط بين حدث الميلاد وشجرة الميلاد، فنتساءل من أين جاءت هذه الفكرة؟ ومتى بدأت؟ وكيف استقرت هذه العادة ؟ أشارت احدى الموسوعات العلمية إلى أن الفكرة ربما تكون جاءت من ألمانيا الغنية بغابات الصنوبر وذات الاخضرار الدائم، وذلك خلال القرون الوسطى، وكانت العادة لدى بعض القبائل الوثنية التي تعبد الإله " ثور" إله الغابات والرعد أن يقوموا بتزيين الأشجار، ويتم تقديم ضحية بشرية من أبناء احدى القبائل يتم الاتفاق عليه مسبقا، وفي عام 727 ميلادي أوفد إليهم البابا بونيفاسيوس مبشرا وشاهدهم وهم يقيمون احتفالا تحت احدى الشجرات وقد ربطوا ابن أحد الأمراء وقد هموا بذبحه كضحية فهاجمهم وأنقذ ابن الأمير من بين أيديهم ووقف فيهم مخاطبا أن الإله الحق هو إله السلام والرفق والمحبة الذي جاء ليخلص لا ليهلك، ثم قام بقطع تلك الشجرة ونقلها إلى أحدى المنازل، ومن ثمة قام بتزيينها حتى تصبح من ديكور المنزل فلا يطمع في استعادتها أحد، ثم أصبحت من حينها رمزا لاحتفالهم بعيد المسيح، وانتقلت هذه العادة بعد ذلك من ألمانيا إلى فرنسا وانجلترا ثم إلى أمريكا .

يتساءل العديد من الناس مع قدوم مناسبة الاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة عن العجوز البشوش صاحب الذقن الطويلة البيضاء والرداء الأحمر والعصا الطويلة الذي يحمل الهدايا في كيسه القطني الأحمر ويطوف ليلا فوق طوافة يجرها ثمانية من الغزلان متنقلا من دار لأخرى يضع الهدايا أمام أبوابها، لقد أصبح هذا الشيخ " بابا نويل" عرف منذ القرن التاسع عشر لا تأتي الهدايا إلا معه ولا تتحقق الأحلام إلا بقدومه على عربته الشهيرة مع بداية كل عام ميلادي جديد التي تجرها الغزلان على الثلج في جيرولاند أو حتى على ظهر قارب أو جمل في البلاد التي لا تقل درجة الحرارة فيها عن 30درجة مئوية، لقد غمس فنان الكاريكاتور توماس نيست ريشته في الألوان ورسم على الورق سانتا كلوز سمينا ذا خد متورد ولحية طويلة بيضاء احتفالا بأعياد الميلاد ونشرتها إحدى المجلات في وقتها فأصبحت هذه الصورة هي المعتمدة لشخصية بابا نويل أي أب الميلاد بالفرنسية، أما الانجليز والأمريكيين فيطلقون علي  موزع الفرح في قلوب الأطفال سانتا كلوز الذي يعني بالإيطالية القديسة . هناك قصص وأساطير عديدة حول هذه الشخصية التي أحبها جميع الأطفال في العالم،  وتروي الأساطير أن بابا نويل يسكن القطب الشمالي في مكان بارد جدا من جرينلاند الجزيرة الأكبر في العالم، حيث يقف بابا نويل بكل هيبته أمام كوينجز جاردن، مزرعة الملك ومسكنه الذي يعيش فيه ويتدلى من عنقه المفتاح الذهبي لمصنع الألعاب الذي يعمل فيه على إعداد الهدايا ليؤكد بإصرار على أنه الوحيد الذي يصنع البهجة في النفوس، وتروي قصة شهيرة أنه منح ثلاث عذارى فقيرات في ليلة عيد الميلاد أموالا مكنتهن من الزواج، وقد جعلته هذه القصص منبع الكرم ومصدر العطف والحنان على الأطفال لأنه ارتبط بعيد مولد السيد المسيح القائل " دعوا الأطفال يأتون إلي " في لفتة إنسانية .

تختلف احتفالات رأس السنة الميلادية من بلد لآخر، التقويم " الجريجوري" هو تقويم مقتبس عن التقويم الذي ابتدأ به العمل في عهد الامبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي يبدأ من أول فبراير وهو تاريخ بداية العمل بالقانون المدني الذي ينص على أن يتولى الشعب حكم نفسه عن طريق نوابه لمدة سنة، ومنذ آلف السنين كانت البشرية تعتبر فصل الربيع هو بداية عودة الحياة إلى الأرض بعد انقضاء فصل الشتاء، ولذلك يعتبر بداية السنة الجديدة، وكانت تستمر الاحتفالات سبعة أيام .

أما الاحتفالات البابلية برأس السنة فكانت أكبر وأضخم من احتفالات الروم، ومن العادات التي استوحيت من الحضارات القديمة اعتماد بطاقات تصور أطفالا في اليونان واعتبار الطفل رمزا للعام الجديد، حيث تضع الأمهات أطفالهن الرضع في سلال من القش ويتجولن بهم في أنحاء المدينة، أما التقليد الروماني الذي شاع في الكثير من مناطق العالم فهو توزيع القطع النقدية المعدنية على الأطفال، وبدأ من حينها الإمبراطور في زيادة صك العملات المعدنية تحمل اسمه يوزعها في بداية السنة ويبدأ التعامل بالقطع الجديدة على أمل أن تكون السنة خيرا ويمنح الأطفال بعض القطع القديمة .

ويعود إطفاء النور ثم إعادة إنارته إلى اعتقادات الديانات القديمة التي كانت تعتبر أن ضوء الشمس أمر إلهي  يحمل دفء الحياة، واما الظلام فهو يعني الموت لذلك يضيء الناس الشموع أو أي إنارة أخرى كتقليد لإبعاد شبح الموت في العام الجديد.

أما عند الأمازيغ شعوب شمال إفريقيا فتنتهي عندهم السنة الأمازيغية مع غروب شمس يوم12 يناير لتبدأ السنة الأمازيغية الجديدة يوم 13 يناير ويطلق عليه الأمازيغيون "أسوكاس أمكاز" وبدأ الحساب الأمازيغي منذ عهد الملك " شيشنق الثاني " وهي حسابات تعتمد على السنة الفلاحية، وتفيد المعلومات المتوفرة أن الأمازيغ لا يأكلون اللحم في هذه المناسبة ولا يشعلون النار وأكثر من ذلك لا يغسلون أغراضهم التي تخص الطبخ والاعتقاد السائد هو أن البركة ستحط عليهم إن تركوا أغراض الطبخ دون غسيل .

إذا كان للجانب الروحي أثره على النفس تسمو به وتتألق فيتعزز معها تقدير الفرد لذاته، فإن الجانب الاجتماعي هو التوازن الحقيقي للإنسان في حياته فيها تزهو حياة الفرد ويوفق في تلمس بدايته الفعلية نحو جعل أحلامه حقيقية، وأعياد الميلاد مصدر لشحن نفس الأطفال بالطاقة الإيجابية ولتطوير الذات وتعزيز الإيجابية لدى الطفل التي تدفعه للانطلاق إلى أفق أوسع دون أن يلجأ إلى فكرة الاصطدام الشديد بالمجتمعات وثوابتها بشكل عام سواء على مستوى العقيدة أو الحقوق والأفكار، ومن هنا تكون البداية لتقارب الحضارات والثقافات والأديان لخير البشرية .

 

إيناس نازلي الجباخنجي

 

 

في المثقف اليوم