أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

القمر هو المنظر الجميل الذي يأخذ الأذهان إلى ما هو يسحر العقول، وما أجمله عندما يكتمل بدراً، في الليل زينة السماء، وفي الليل يزدان القمر بأشكاله المختلفة، يعكس ضوء الشمس بخجل واضح، ويتلاشى تدريجياً تاركاً للنجوم مكانه. الليل يلبس ثوب الظلمة ليبقي الناس يحلمون بأمانيهم وآمالهم، والليل يعرف أن الأحلام تحترق في الشمس وتتلاشي في الضوء، وأكثر ما ترى النور في الظلمة.

القمر الذي يظهر مساءً ويمزّق دياجي الليل ما هو إلّا وجه حبيبة قد أطلّت على عاشقها لترسم على وجهه الابتسامة وتمدّه بألوان الحنين والدفء والراحة. عندما يسدلُ الليلُ ستائرهِ بألوانها السوداءِ المخملية، ويُقبل القمرُ مختالاً مرتدياً عباءتهُ الفضيةَ، والقمر الساكن في أفق الليل هو خير صديقٍ تُوْدِعهُ النفس آلامها وأحزانها.

عندما يظلم الليل، يطلع القمر مع النجوم الساحرة برشاش من النور تتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب الأمواج المستيقظة في بحر النسيان، تحمل إلى الغيب تعبا وترحا، ونحن لا نعرف من كلام النجوم وهي تخلق قوة التصور حتى تستحوذ عليها أحلام اليقظة، يطلع القمر ليملأ الدنيا أحلاما.

 وفي كل قلب إنسان هناك أحلام لم تر النور، ولم يشرق الشمس عليها بالظهور،ولكنه على الرغم من كل شيء، يعيش الإنسان الأحلام ليلا ونهارا، صباحا ومساء، حتى يجن عليه الليل ويصيب بخيبة في الظلمة، ثم يطلع القمر المنير ويتجدد معه الأمل في الحياة والعمل، حينئذ يعرف الإنسان معنى الكون والحياة، يعرف الإنسان أن معنى الحياة هو أن يموت ضاحكا.

 عندما يطلع القمر المنير، ينظر الإنسان إلى الحياة ومعناها، وإلى الموت ومعناه، أما الحلم فهو ابن الحاضر الأبدي، يبحث الإنسان عن حبه في أرض الأحلام الضائعة، والقمر أول من تخلع حجاب الظلمة في مواكب الفجر، فما أنت أيها القمر إلا بيت الأحلام، ولكن هذا البيت لا تقام فيه الحفلات إلا أثناء الليل، هل ترى الرجل الذي يحلم وهو مستيقظ، هل ترى رجل وهو لا يخطو عن الحياة إلا فوق القبر.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا - الهند

لَجَّت مواضِعُ التَّفاصلِ، وثجَّتْ مَواقعُ التَّواصلِ، بتأويلٍ للدّاعيةِ "محمد الغَزالي"، ذَكَرَ فيهِ معاني {عربيٌّ، عُرْبٌ، أعرابٌ)} في الإستعمال، فأوردَ أن لفظةَ {العربيِّ} هي {الخلوُّ من النَّقصِ والعيب بالتَّمامِ والكمالِ}، وليسَ هي العرق والنَّسب بإشتمال، كأعراقٍ من هندٍ وسندٍ وإفرنجةَ وإسبانٍ ومن برتغال، ولذلكَ -والكلامُ للغزالي- فقد وصفَ الحقُّ ذو الكبرياء والجلال قرآنَهُ (قُرْآناً عَرَبِيًّا): أي قُرْآناً بتمامٍ وكمال، مثلما وصفَ الحورَ العين (عُرُبًا أَتۡرَابࣰا) أي حوراً تامَّاتٍ كاملاتٍ غوالي، وهنَّ من العيوبِ خوالي ، فلا فكوكَ في فيهنَّ بارزاتٍ عوالي، ولا فيهنَّ عيونٌ جاحظاتٌ ولا فيهنَّ عرجٌ ولا دوالي.

ولا أرى تفسيراً لهكذا تفسيرٍ مُتعسفٍ من مفكّرِنا الغالي "الغزالي" إلّا أنَّهُ جاءَ ليمدحَ القرآنَ وليبعدَ عنهُ شُبهةَ ذَمِّ الْأَعْرَابِ {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} فقدحَ بإستماتةٍ وبإنفعال، فتراهُ يقولُ :"حاشا لله أن يَذمَّ النَّاسَ مِن مُنطلقٍ عرقيٍّ وبمَنطقٍ عنصريٍّ"، وفاتَهُ أنَّهُ دَرَأَ شُبهةً صُغرى بشُبهةٍ كُبرى وضِيزى بإختلال ورُبَّما عن إستغفال، وأنّ عيونَ {العربيَّةِ) قد عَمِيَتْ بعدَما إرادَت أناملُ الغزاليّ لرموشِها الإكتحال.  وما كان لعَربيٍّ أبداً أن يأتيَنا وَارِداً مشتملاً بسؤال، فيسألَ عن معنى (عَربَ يعربُ) أو (نامَ ينامُ) أو (شَرِبَ يَشْرَبُ) بإنفعالٍ أو بتَعَسّفٍ وإيغالِ؟ لأنَّهُ أبداً لن ينالَ جوابَاً عن ذا سؤالِ. ذاكَ أنَّ لفظةَ (عربَ، نامَ، شَرِبَ) وكذا مَثيلاتِها في سائرِ ألسنةِ الأمَمِ والأَنْجال، هنَّ لبناتٌ وآياتٌ من آياتِ اللهِ في اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِنَا وَأَلْوَانِنا، وعلاماتٌ لقدرةٍ قائمةٍ مدى الدَّهرِ لهدايةِ الأجيالِ، ولقد عَلَّمَ اللهُ آدمَ اللبناتِ كلَّها وقَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ بتبيانٍ وبإجمال.

ولو أنَّ ذا صَنعةٍ بلسانِ الضَّادِ جدَّ السَّيرَ بجوابٍ عن هكذا سؤالِ، فسوف يأتي جوابُهُ كمَن فسَّرَ الماءَ الزّلالَ بعدَ جهْدٍ جهيدٍ بالماءِ الزّلالِ، ولكنَّ لا حرجَ على ذي الصَّنعةِ لو أنَّهُ جالَ وصالَ في مشتقّاتِ (شَرِبَ)، فقالَ: المِشْرَبةُ إناءٌ يُشْرَبُ فيهِ على إستمهالِ، وكذا الشَّوارِبُ شُعيراتٌ (سالَتْ) على الفَمِ بأَسدال، ولكن إياهُ أن يقربَ اللبناتِ فيُحَلِّقَ بنا في عنانِ عجاجةٍ على أجنحَةِ فيلٍ من الأفيالِ، فيَتَقَوَّلَ بمَجاجةِ من أقوال، بإنَّ الشّرْبَةَ: قِرْبَةٌ، والشَواربَ تاتي بمعنى الرجال، وبلا تبصرةٍ منهُ وعلى إستعجال، وكذا يقول بسذاجةِ مَن قال: السّلطانُ تأتي بمعنى الحجَّة والبرهان بأعلال.

كلّا فألفاظُ: السّلطانُ، والحجَّةُ، والبرهانُ، وكلٌّ لفظٍ من ألفاظِ الضَّادِ يتمخترُ في مضارب الضَّادِ عن أخيهِ بأنَفةٍ وبإستقلال، ولا يُجيدُ إستحضارَهُ إلّا أهلُ المعاني والكَلم العَوالي، و(إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَا) أي: من حجّةٍ وبرهانٍ مُتسلّطٍ مُبينٍ ومهيمن على ما أنزلَ الكبيرُ المتعال، أم قلوبُكمُ غُلْفٌ أقفِلَت بأقفال.

وبعيداً عمّا رَوَتْ نواميسُ اللسانِ العربيِّ مِن نَثرٍ وشِعرٍ ومن أمثال، وبعيداً عمّا ما طَوَتْ قراطيسُ مُعْجَمِ بيانهِ من تحصيلٍ لمَعانٍ بتَأصيلٍ وإبدَال، وذلكَ بيانٌ أسرٌ نفيسٌ ساحرٌ ونيسٌ وَحدهُ ذلكَ اللسانُ مَلَكَهُ في حلٍّ وفي تِرحال، وكانَ اللسانُ العربيِّ (كَأَنَّ كَلاَمَ النَّاسِ جُمِّعَ حَوْلَهُ فَأُطْلِقَ فِيْ إِحْسَانِهِ يَتَخَيَّرُ) بإمتثال. أقولُ فيما ههُنا بعيداً عن ناموسٍ وقاموسٍ وبتؤدَةٍ وبلا إستعجال، وبوجيزِ حرفٍ وبلا أزيزٍ في الإسترسال، وبلا تطريزِ مافي المَعاجِمَ من شَرْحٍ لسردٍ نفيسٍ وبسطورٍ طوال، لكيلا أثقِلَ على ضيوفِ ذَرْفيَ بِغَرْفيَ ممَّا حوى نفيسُ التُّراثِ بمِكيالي:

" رغمَ أنَّهُ لا ثّمةَ لشُبهةِ ذمٍّ عرقيٍّ في آيةِ (الْأَعْرَاب) البتّة بل منَ المُحال، فإنَّ محاولةَ الغزاليّ لكنسِ الشُّبهةِ بإستبسال، قد أحالَتهُ لشُّبهةٍ كُبرى إستناداً لفهمِهِ للفظة (العربيِّ) بإفتعال. شُبهةٌ صيَّرَتنا نحنُ العَرَب دونَ سَائرِ الأُممِ الجِنْسَ (التَّمامَ والكمَالَ والخَاليَ مِن النَّقصِ والعَيْبِ) على مدى الأجيال، وعنواناً للخَلْقِ الكامِلِ قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ، ومعصومينَ مِن كلِّ عيبٍ وإختلال، وغيرَ ملزمينَ بآيةِ (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) في سائرِ الأحوالِ، ذاكَ أنَّ التَّمامَ والكمالَ فينا هو جِبِلَّةٌ فلا حاجةً لنا لتَضَرّعٍ وإبتهال، وإذاً فنحنُ العربُ وبفهمِ الغزاليّ (شَعْبُ اللهِ المُختارِ) بلا تعجرفٍ ولا إستفحال، وذلكَ لَعمري فهمٌ سمجٌ ماتَداوَلَتهُ فَصاحَةُ الأعرابِ قطّ في بَدوٍ حذوَ كثبانِ التِّلال، وعِلمٌ مجٌّ ماتَنَاولَتهُ بلاغَةُ العَرَبِ قَطُّ في شَدوٍ بينَ أحضانِ الظِلال، وإنّما أهلونا العَرَبُ والأعرابُ هُمُ أهلُ بيانٍ هوَ أصفَى وأوفَى مِن أن تَتَخَطَّفَهُ طُيورُ التَّكَلّفِ بإغتيال، وأحلى وإعلى مِن أن تَتَقَطَّفَهُ بثورُ التَّعسُّفِ بشَذَرٍ مَذَرٍ في إدبارٍ وإقبال. ذاكَ شَذَرٌ مَذَرٌ ما سَلِمَ منهُ مُفَكِّرٌ من مفكّري أمَّتنا المُعاصرينَ بإخختزالٍ أو إعتزال.

و[إنَّما جُمْعُ الأعراب أعاريب، والنسب إلى الأعراب: أعرابي، وقال سيبويه إنما قيل في النسب إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له على هذا المعنى، وليسَ الأعرابُ جَمعاً لعَرب، وإنَّما العربُ اسم جنس] فتأمَّلْ يا ذا عزٍّ في ذا طويلاً فهيَ المفتاحُ وحسب لإستيضاحِ كبوةِ الغزالي.

فإن قيلَ لكَ إنَّ {العربيَّ} هو لسانٌ وليسَ عرقاً وهكذا قصدَ فقالَ الشيخُ الغزالي، فعلامَ التّجني ودفعُ الكلامِ الى تهي ترهاتٍ بجهالةٍ أو بتَعال، فلهُ قلْ؛

"وهلِ اللسانُ إلّا إنسانٌ محمولٌ على قدمينِ بتجوال، فإن كانَ اللسانُ ذا كمالٍ كانَ الإنسانُ منعوتاً بالكمال، وإن كانَ اللسانُ ذا جهالةِ كانَ الإنسانُ موصوفاً بالجهال". ثمَّ قلْ لهُ إنَ الله جلَّ في علاهُ قال {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}وهل تذكرنيَ الأمم إلّا بنعتِ (العَربِيِّ)على مدى الأجيال والأحوال.

وأمّا قيل الغزالي أنَّ (ألفَ التَّعدي في كلمةِ الأعراب قد نَقلت المَعنى الى النَّقيضِ (ألفَ السَّلب) كما في قَسَطَ: ظَلَمَ وأقسَطَ: عَدَلَ، وعربَ: تمَّ وخَلا مِنَ العَيبِ، وأَعرَبَ: نَقَصَ وشَملهُ العَيبُ، والأعرابُ جماعةٌ تَتَّصِفُ بصفةِ النَّقصِ في الدَّينِ)، فذاك قيلٌ لا يُرَدُّ عليهِ ولا يستحقُ إشتغالي، وأولى تركهُ بإهمال، إذ لن تجدَ صبيّاً عربيّاً ينطقُ مثلما فهمَ الغزالي:" لُعبتيَ كانت {عَربيةً} وأنيقةً، لكنَّها قد {أعربَتْ} وباتَتْ عتيقةً بإبتذال" . ذاكَ هو لدى الصبيانِ خبالٌ وضربٌ منَ ضروبِ المُحال.

ثمَّ مالي من خاتمةٍ بعدما خُضتُ فيما ههُنا في قيلٍ وقال، إلّا أن أستَعيرَ نًصحَ الشَّيخِ (أبن باز) في قضيةٍ ما للداعيةِ الغزالي:

(أنْ هذا لو عدَّلتهُ، وهذا لو قلتَ فيهِ، وهذا لو ما قلتَ، وفي هذا بعض المؤاخذة)، حتى خرجَ الشَّيخُ الغزاليُّ وهو يقولُ: جئتُكم مِن عندِ رجلٍ من بقيةِ علماء السَّلف بأتصالٍ بلا إنفصال.

***

علي الجنابي

يبحث الإنسان منذ القدم عن السعادة وهو مطلب إنسانيّ وضرورة روحيّة، ينتظرها الكبير والصغير، المسلم والكافر، أبوابها كثيرة ولكن أحيانا يقف البشر عند الباب المغلق ولا ينتبهون الى الأبواب الأخرى المفتوحة رغم ان أبواب السعادة عديدة ولا تحصى. ومسالك الحياة تتجدد. ولا يختلف اثنان على ضرورة وجوده السعادة وعن ألوان المتع المادية فيها، وصنوف الشهوات الحسية فما وجدوها وحدها تحقق السعادة أبدًا او مع كل جديد. ويتحرّى طُرقها وكيفيّة تحقيقها، .. لعل في اعطاء البنون حلم جميل وشهوة محببة إلى النفس، لذا نرى جميع الناس يسعون إليها، وتتعلق قلوبهم بها، ويظهر ذلك جليًّا في من حرم من هذه النعمة، وعقم عن الإنجاب، فإنه يدفع أغلى الأثمان والآلاف المؤلفة من الاموال باحث عن تحقيق هذا الهدف، من أجل الحصول على المولود، حتى أن الأنبياء الذين اختبرهم الله بعدم الإنجاب، رفعوا أيديهم بالدعاء لله رب العالمين، قال الله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰرَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ الكهف 80.

في علم النفس تعرف السعادة ' هو الشعور بالغبطة والرضا في الحياة، والشعور بالمشاعر الممتعة والامتنان والعرفان بالجميل والرضا والعواطف التي يتم إنتاجها بشكل متكرر ' . عن الامام علي عليه السلام يقول عن السعادة لها سبعة ابواب: 1- لا تكره أحد مهما أخطا في حقك. 2- لا تقلق مهما بلغت الهموم. 3- عش في بساطة مهما علا شأنك. 4- توقع خيرا مهما بلغ البلاء. 5- أعط كثيرا ولو حرمت. 6-ابتسم، ولو القلب يقطر دما، 7- لا تقطع الدعاء لأخيك المسلم بظهر الغيب؟ ويبذُل الانسان ساعياً من اجل ذلك كلّ ما في وسعه اذا كان مخلصاً لتحقيق هذه الامنية، بكلّ ما لديه من عقلٍ وفكرٍ ومادّة لإيجادها، لكنّها تَبقى سرّاً لم يدرك ماهيّتها إلّا القليل؛ فهي شُعورٌ داخليّ يَشعرُ به الإنسان ليمنحه راحة النفس، والضمير، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب.

تكمُنُ مشكلة الإنسانُ الأساسيّة مع السعادة التي يُعانيها منذ الأزل بكونه لا يعلمُ أدوات تحقيقها، فيُحاول أن يُجرّب الماديات والأمور الملموسة ليَصل للسعادة فتجده لا يصل اليها في كثير من الأحيان .

لقد عرفُ أرسطوالسّعادة بأنها (اللذة، -أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللذة-واللذة بدورها يتمّ تفسيرها باعتبارها غياباً واعياً للألم والإزعاج)، والله المتعالي يجمع السياق القرآني في أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان، والتي يعتقد أنها سر سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ؛لأنها خلاصة الرغائب الأرضية، يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم – أنّ الإنسان السعيد الذي بعد عن الفتن ووفّق لزوم بيته، وكرّر الجملة ثلاثًا للمبالغة والتأكيد، ويمكن أن يكون التكرار باعتبار أوّل الفتن وآخرها، ومن ابتلي وامتحن بالفتن فصبر على ظلم الناس له، وتحمّل أذاهم ولم يدفع عن نفسه ولم يحاربهم، فهو السعيد الذي حاز السعادة الحقة.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)ال عمران 14 وتعرف السعادة على أنها هي الشعور بالاستمتاع العميق بلذات الحياة والرضا عن التصالح مع الذات وراحة الضمير الناتجة من حسن السلوك الظاهر والباطن الذي ينبع من استقراره، نظراً لوجود أسباب وعوامل تقف وراء شعوره بذلك الإحساس،  وذلك من منطلق أنّ السعادة تنتقل بالعدوى حسب علم النفس، وإن وجود الشخص في محيط مستقرنفسيّاً يساعده على الاستقرار ويزيد من راحته النفسية، ويجعل انفعالاته منطقية ومناسبة للمواقف والظروف التي يمرّ فيها، فقد قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، وقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).

السعادة الحقيقية للإنسان هي التسامح مع الاخرين، والدليل قول الحكيم الهندي أوشو 'أن السعادة الحقيقية هي تلك التي يعيشها ويستمتع بها الأطفال الصغار قبل أن تتلوث عقولهم بأفكار الكبار'.

من عوامل السعادة ينبع عن استقرار داخلي وخارجي لدى الشخص السعيد، نظراً لوجود أسباب وعوامل تقف وراء شعوره بذلك الإحساس،، قال تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّامَتَاعُ الْغُرُورِ﴾20 الحديد .

السعادة لها ابواب، ولذلك عليك العمل لكي تكون سعيدا لأن أبواب السعادة شتى، ومنافذ الحظ لا تحصى، ومسالك الحياة تتجدد مع الدقائق، كن سعيدا دوما واستبشر على كل حال ولكن رغم ذلك فالسعادة بيد الله، فهو جلّ وعلا ميسر الأمور وشارح الصدور والمعين والهادي والموفق، بيده ـ جلّ وعلا ـ كلّ الأمور يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعزّويذلّ، ويقبض ويبسط، ويهدي ويضل ويغني ويفقر، ويضحك ويبكي سبحانه وتعالى

***

عبد الخالق الفلاح- باحث واعلامي

(لا تتكلم لمجرد الكلام وكن مسؤولاً عن كل كلمة وعن كل حرف يطلقه لسانك وتتفوه به.. لاشيء يأتي من عدم ولاشيء يذهب إلى عدم).

قلما تبدأ المقالات والكتابات سواء كانت الأدبية أو النقدية بحرف جر لكني مضطر للبدء هنا بحرف جر لأثير فضول المهتمين ولأزيل الغمام عن بعض القضايا العالقة تاركا التخمينات للقارىء الجميل والمتلقي.

في مكان ما وفي زمان ما قيل لا يجوز للفنان أن يتخذ دور ناقد معللين السبب بعدم قدرة الفنان على اتخاذ موقف حيادي من التجارب وذلك لتأثره بتجربته الشخصية.. في مكان ما وفي زمان ما كررت تلك العبارة مرارا الفنان أهم من الناقد و الإبداع أهم من النقد وأنا هنا أقول بعيداً عن خلفيات ما قيل الإنسان سواء كان عتال أو عامل بسيط أو فلاح هو أهم من كليهما وأقصد الناقد والفنان أهمية أي كائن معقودة على ما يتسم به من صفات إنسانية أما الإبداع فهو كالجواهر النفيسة التي لا حصر لأنواعها ياقوت زمرد الدر واللؤلؤ وغيرها مما أدركناه ولم ندركه وهي موزعة ضمن محطات واستراحات على قارعة الطرق الكثيرة المؤدية إلى قمة الهرم

(النقد.. الفن.. الأدب.. الشعر.. الموسيقا.. الرقص.. التمثيل الإخراج وكافة المهن الحياتية) وطالما الحياة مستمرة وفضولنا لكشف ماهيتها وسر وجودنا مستمر سنظل نمضي في طريقنا الذي اخترناه بأنفسنا وستبقى تلك القمة على بعد أميال منا تبتعد كلما اقتربناز

وأجيب هنا عما قيل من أحدهم (لا يجوز للفنان أن يتخذ دور ناقد) ودون النبش في أسباب ومسببات ادعاءاته مستدعيا كل حروف الجر في مكان ما وزمان ما علها تستطيع أن توسع دائرة المهتمين داعيا للقراءة وللإنصات بقلوبكم النقية وأرواحكم الطاهرة الذكية  أنصتوا لكل ما كتبته وأكتبه ثم احكموا كونوا حذرين من إعمال العقل لأن العقل المخرب أناني يقودنا لأطماع دنيوية لا يمكن للعقل أن يبدع هو فقط قادر على الحفظ وعلى استدعاء ما قدمه المبدعون عبر التاريخ لتسخيره وفق أهواءه انصتوا ثم احكموا.. أولا ماهي مهمة الناقد... الناقد هو صلة وصل بين الفنان ولوحته من جهة وبين الفنان والمتلقي من جهة أخرى

الفنان أمام عمله هو الناقد الأول ولا يمكن له أن يتطور بغير ذاك النقد الذاتي وأمام أعمال الآخرين يستطيع أن يقدم بعض الملاحظات الشفوية غير المسؤولة لأنه قد يطرحها من وجهة نظر ذاتية متأثرا بتجربته الشخصية

فقط حين يمتلك الفنان القدرة على تقمص تجارب الفنانين الآخرين ومشاعرهم اللحظية حين العمل حين يستطيع سبر أغوارهم وأغوار العمل حين يستشف من خلال أعمالهم وتكنيكهم الخاص وأدواتهم المستخدم حين يستشف من خلال ما ذكرته الطريقة التي يفكرون بها وحين يكون له أسلوبيته الخاصة والمميزة ويمتلك  ناصية اللغة والكلمات ثم يستدعي المناسب من المفردات  حينها وحينها فقط يمكنه أن يكون الوسيط بين الفنان والمتلقي ويسهم بدور أساسي وجوهري في الارتقاء بالذائقة التشكيلية للمتلقي لتستطيع مواكبة الحداثة ومواكبة كل جديد هنا تكمن أهمية دور الناقد القادر على تقديم الفنان للمتلقي وتبرير عمله له كما أنه يستطيع من جهة أخرى أن يسبق الفنان بخطوة ويقوم عمل الفنان استنادا لرؤيته الشمولية وقدرته على المرور على كافة التجارب والأساليب

وتبقى نصائحه مجرد اقتراحات قد تخطيء إن لم يأخذ بها الفنان أو تصيب حين يأخذ بها وهي بكافة الأحوال وجهات نظر صحيحة

رغم أهمية دور الناقد الحضاري ورغم ما يبذله من جهد ووقت في ذاك الزمن الصعب فهو لايأخذ حقه كما يجب ولايوجد عندنا تلك المؤسسات التي تنظم عمله وتدعمه تحميه وكنت قد دعوت سابقا ً لاجتماع لجمعية النقاد السوريين لأطرح معهم خطة عمل تعود بمردود للناقد والفنان ولكن مع الأسف ذهب صوتي أدراج الرياح.

مما تقدم أقول إن لم يمتلك الناقد تلك الشخصية الجامعة بين فنان مبدع ومتمكن يمتلك عين حساسة وسعة اطلاع على التجارب الفنية ويتحلى بموهبة التحليل وسبر أغوار الذات من خلال اللوحات إن لم يكن كذلك.

ستبقى كتاباته سطحية ومجرد استعراض للسير الذاتية وتفخيم أو تضخيم لا يستند لمبررات ولا أساس له سوى وقوع من يدعي النقد في شبكة المصالح والعلاقات لذلك سيبدو نتاجه هزلي بلا معنى

وبالمقابل أيضاً أقول الغيرة على الفن في عالمنا تفرض علينا الاهتمام بالناقد الحقيقي وتقديم العون له ومساعدته لأهمية دوره الحضاري في الارتقاء بالفن والذائقة الفنية وخصوصا كوني أرى معظم إدارات الصحف الورقية العربية القادرة على إنصاف الناقد وإعطاءه حقه لا يبذلون جهداً في استقطاب الكلمات الجادة بقدر ما تسيطر عليهم في خضم عملهم المصالح والعلاقات ليصير المكثرون المقلون هم الأقرب إليهم بحكم ركيزتهم المادية التي تمكنهم من طباعة الكتب على نفقتهم الشخصية وبحكهم قدرتهم على التحرك والسفر وبناء العلاقات.

***

حسين صقور

بهدوء ودفق وحرارة يتساقط رذاذ أنطوان القزي الصيفي، فيزهر ويثمر قلمه قصائد تتنفس بين ثنايات جديده الذي أعطاه أسم "رذاذ صيفي"، فنراه أحياناً شاكرا،ً قانعاً، مفتخراً،آسفاً وغاضباً أحيانأً أخرى لمَ آلت أليه حال ألأمة، والتي تنعكس على أبنائِها رحيلاً وهروبًا لا مستقر له، لأن الخروج والسفر لا يبعد ألم الحنين والمعاناة النفسية التي تنعكس في حياتنا رمهما كانت الازمنة متباعدة ورغم ما توفره المغتربات من الآمان أقتصادياً ومادياً.

الكتاب الصادر عن مؤسسة الجذور الثقافية يقع  في 106 صفحات من القطع الصغير، تصميم الغلاف والأخراج الفني الدكتور علي أبو سالم.

الإهداء يختصر رحلة العذاب والمعاناة التي لم تفقد الشاعر الأمل والحلم والتصميم فكانت أكسير الحياة للشاعر.

 يزرع أنطوان قبلاته قبل الرحيل، ودمعته الحمراء ترصد العيد، وترسم الحلم رغم جفاف الصيف وحره اللاهب، لكن الغيمة البيضاء جسدت الحلم قطرات ثلاث أنعشت جفافَ أيامه برذاذٍ عبأ منها الشاعر خوابي القلب على مسافات الهروب والرحيل وأطفأ ضمأ البعاد والغياب.

رغم أستقراره في أستراليا لأكثر من ثلاثة عقود لا يزال أنطوان القزي هارباً ومرتحلاً فهذه الشامة على خده ما زالت تذكره بما لا يذكر يقول: وعلى خدي شامةٌ لا تُنسى/ ذكرتني بما لا يذكر(ص45).

 الرحيل والهروب هاجس يرافق الكاتب فعلى صفحات الكتاب يردد تعبير الرحيل والهروب بشكل مباشر وصريح أكثر من عشرين مرة رغم أنه حاول أن يروض هذا الهروب الذي يصفه بالبركان حيث يقول: من يُمسكُ هذا البركان/ يروّضُ الهروبَ…(ص74)

يقول: تزرع قبلتين وترحل (ص7) قبل أن يأتي القطارُ… ويرحل (ص13) ترسم الرحيل وتندم. كم يسرقُ الجفن دموعاً هاربة (ص30) ترصد غلائلَ الضباب الهارب… تعصر ألآس دمعاً للغيوم/ وأغصاناً للرحيل/ وتولم للمرايا التائهة…(ص 35) أطوي المساءَ شراعاً وأرحل (ص39) أن روحي هاربة/ فوق أرضٍ سائبة (ص41) ما للأرغنِ الموجوع يرصدُ غمام الرحيل (ص61) تعانق أحلامي الهاربة (ص73).

لكن رغم هذا الرحيل والهروب فإن الشاعر لم ييأس ونراها يتصدى لمشاكل الأمة ولا يتوارى خلف التعتيم والتورية ويوجز المأساة التي نعيشها في بحثنا عن مكان بين الأمم فيقول:ليس في تاريخ العَرَبِ/ سوى "نحنُ كنّا" وليس في حاضرهم / سوى خيولٍ أصيلة (ص34).

وفي ص 72 يقول: ليس للسماءِ أن تقول/ والناس في "داحس والغبراء"…وليس لها ان تلهبَ الشموس/ فالجهالة شمسُ الحاقدين/ وليس لها ان تنثرَ الحروف/ فلغة الموت سلطانةُ القواميس.

لحواضر الشرق حضورها فيخصص قصيدة لكل من بغداد (ص53) الشام (ص76) وبيروت (ص81).

الحب له حضوره ففي قصيدة للصمتِ كل القصور، ينذر قصائده لاجلِ عينيها وينثر أبياته ويقول: لأجل عينيكِ/ نثرت أبياتي/ شقائق سفوح/ وشققتُ صدري/ عروقً الغدائر/ وبنيتُ للكلامِ كوخاً وللصمت كلُّ القصور( ص48).

وفي قصيدة الى أمّي يصارح أمه بأنه لم يبلغ سن الفطام مقدراً دور سلطانة الحنان في حياته  ويقول: لن يكبر الطفل يا أمي ويرسم لها الشروق قبلتين ويسألها ان تدعه العودة والركوع والصلاة في هيكل أسرارها ويختم القصيدة بالطلب منها: دعيني أغمرك..كي أعيش‼(ص52).

يحتفي أنطوان القزي بنصر تموز عام2006  بقصيدة بعنوان" شموس تموز" (ص97) ويقول: رصدوا ظلالهم مواقيتّ الصلاة/ دروب عاملية تغربلُ الأبطال/ ترفل رذاذّ الأحداق/ تلملمُ متون الليل/ على سطوح عيترون… وردي المناديل/ عن وجوه تهزم الشموس/ وعيون تؤرق الأقباس/ قومي ننازل الذئاب/ نربك الأزمنة السوداء/ نسطر الامجادَ… وينشرُ تموزُ شموس الجنوب/ فوق سطوحٍ سافرة/ ليذوب.. صقيعُ هذا العالم.

أخيراً، نترك للقارئ أن يسبر صفحات الكتاب حتى يلمس بنفسه كم هو غني بما قد يتشارك كل منا مع الكاتب بأحداثه والمحطات التي توقف فيها لانه من الصعب تلخيص الديوان "رذاذ صيفي" ولا يمكن أن يأخذ حقه الا بالقراءة.

***

عباس علي مراد - أستراليا

لقد سارت حركة الأدب في العراق ببطئ قبل الحرب الأخيرة فقد كانت الناس مشغولة بهموم المأكل والملبس أيام الحصار، ولم يمنع ذلك من وجود نتاجات ادبية في تلك الحقبة وأن كانت قليلة، وتركز الأدب في الوقت الماضي على الشعر ولعل السبب في ذلك هو السيطرة السياسية في ذلك الحين و تقييد حركة الرواية واختيار موضوعاتها فقد تركزت موضوعاتها على الحروب ونقل ما يجري في المعارك هو محور موضوعات الروايات آنذاك وبالتأكيد لم تخلو من روايات اجتماعية ورومنسية لكن بشكل أقل من تلك التي لا تخلو من الحروب. ومن ابرز الكُتاب في تلك الفترة هم فؤاد التكرلي وعبد الخالق الركابي وعالية ممدوح و بختيار علي وميسلون هادي وغيرهم، وبعد عام 2003 ظهرت الرواية بشكل آخر مختلف بعض الاختلاف لكن فيه تحيز للحروب والثورات أيضاً وهذا امر لابد منه بسبب الوضع الراهن في تلك الفترة وبعد الاستقرار النسبي الذي شهده العراق بدأت الرواية تنفتح على العالم أكثر وبرزت اسماء كثيرة في كتابة الرواية وبمواضيع مختلفة منها الاجتماعي والرومنسي والرعب والفنتازيا ... الخ، واصبحت الساحة تزخر بالأعمال الادبية وهناك مساحات كثيرة لاختيار موضوعاتها وكذلك ظهر ما يعرف بأدب المغترب فقد نزح الكثير من المثقفين والكُتاب والادباء إلى خارج البلاد في فترة حرب 2003 وظهور الطائفية والحروب الاهلية في تلك الفترة، وسمحت هذه الفترة بظهور اقلام تكتب بجرأة وبدون خوف للوقوف على المشاكل وحلها فكانت الرواية العراقية تتصدر المشهد العربي والعالمي حيث بدأ الكثير من الروائيين بترجمة اعمالهم إلى لغات مختلفة، اما ما احدثه التطور التكنولوجي على الرواية فقد كان كبيرا جداً من خلال نشر النتاجات الادبية بطريقة أكثر سهولة وفي أي بلد من بقاع العالم، فوجود المواقع الالكترونية ساهم في النشر والاعلان عن وجود ادباء بمختلف المجالات وليس فقط الرواية للتعرف على اعمالهم وتذوق كلماتهم وتعابيرهم الشيقة، الرواية هي مرآة المجتمع في كل عصر فهي تنقل التراث والفكر وتسجل تاريخ الاحداث وتستقرأ المستقبل من خلال سطر الكاتب لأفكاره على ورق أبيض ناصع فيقرأها المتشوق للفن العريق..

***

سراب سعدي

البعض من "كتبة" هذا الزمن يمعن في تحبير بعض الصفحات اليتيمة الفاقدة للشروط الضرورية تقنيا وجماليا لتصير هذه "النصوص" قريبة من بهاء الكيان الأدبي -شعرا وسردا- هؤلاء يتملكهم عشق أسطوري للهذيان وتبعاً لهذا المسار تصير عملية مسك القلم وتحبير بعض الكلمات في غياب تام لخلفية فكرية وجمالية للكتابة كالذي يزرع الورد في المياه الآسنة.... الكاتبة بهذا المعنى، ليست في متناول الجميع، ونقصد هنا العقول التي تنتج افكارا ومقاربات لافته نتيجة الجدل مع الواقع وإرهاصات المرحلة وما تتطلبه من تفكير عقلاني عميق ومنهج جدلي يدور رحاه في لفت الإنتباه للقضايا المصيرية والدالة للمواجع والإنكسارات والخيبات وما ينتظره المرء هنا وهناك، للخروج  من النفق المسدود وصولا إلى بر الأمان. في هذا السباق، لا ولن تستطيع أي انامل تتدعي انها تكتب " نصوصا إبداعية" التحليق في سماء الخلق الفني،طالما انها لم تستوعب الشروط الموضوعية لبناء الكيان اللغوي والأبعاد الجمالية والآفلق المعرفية لنص ادبي ،شعري أو سردي، لافت ومبهر ومتجاوز للمالوف....

ما لم تفهمه العقول البسيطة الغير المكتوية بجمرات الواقع ولم تدخل إلى حد اللحظة المناطق الموجعة في مسارات الفكر والمعرفة والفلسفة والإجتماع الإنساني، انها خارج  السيرورة التاريخية وما تتطلبه حركتها الدؤوبة من سفر وترحال بين ضفاف الوعي والجدل الخلاق بين الواقع المادي بكل تخومه وتعبيراته وعقلانية التفكير المناهض للوثوقية واليقينية والباحث من الجهة الأخرى عن بوصلة لعشاق التنوير وإعطاء الفكر العاشق للمعنى وبهاء الأقاليم الحالمة بالتحرر والإنعتاق والوقوف على أرض صلبة بعيدا عن اوهام اصنام الفكر الوثوقي  الشمولي الرافض للحوار والجدل مع مخالفيه ومعارضيه على مستويات العقيدة والايديولوجيا وعلاقة النقل بالعقل والتراث بالحداثة والأصالة بالمعاصرة وتكسبر الأنساق من أجل الوصول إلى خطاب فكري عقلاني لا يتصادم تماما مع الهوية في ابعادها المفصلية ويتماهى في الصفة الأخرى مع التنوير  والحداثة في سياقاتها الفكرية والمعرفية المتصلة بالقيم الكونية الكبرى..الحرية والعدالة والمواطنة. كل هذه الأبعاد والمرتكزات التي الأسس الطبيعية لعملية الخلق والإبداع الأدبي، هل تستوعبها العقول التي تتدعي ان لها دورا محوريا في الكتابة وإنتاج نصوص  لافتة، والحال ان انساق التفكير لدى هؤلاء لم تخرج من دائرة تفكير القطيع.

إن الكتابة الإبداعية على مدار عصور التاريخ، لم تصل الى هذه المرتبة المبهرة بالادعاء والتطاوس والغرق في مياه الأوهام، بل كانت نتيجة طبيعية لعمل دؤوب قامت به عقول مستنيرة مناهضة للظلام بكل تعبيراته وتجلياته المتصلة بالفكر الوثوقي واليقيني الرافض للحوار والجدل.

ما ينتظره الآن، المشهد الثقافي العربي في علاقة بثقافات امم أخرى من العالم الفسبح، هو العمل بشكل جدي ونوعي لانتاج إبداع ادبي يوازي ما انتجته العقول المبدعة لهذه الأمم،شرقا وغربا،جنوبا وشمالا... إن الأفكار المتسمة بالعمق المعرفي والفلسفي "ليست في متناول انصاف المواهب ومثقفي العشق الخرافي للمال وللغنيمة والجنس، بل هي نتاج طبيعي لعقول مؤمنة بقضايا الإنسان في كل مكان على إختلاف الأديان والحضارات والأعراق.

***

البشير عبيد / تونس

كاتب مهتم بقضايا التنمية والمواطنة والفكر التنويري وإشكاليات النزاعات والصراعات الإقليمية والدولية...

من البديهي ان دور المنتديات الثقافية لايتوقف على الجانب الثقافي فقط انما  تمثل حاجة اجتماعية مهمة وليست ثقافية فقط، بمعنى اخر أن المجتمع حينما تتبدل أحواله حتى إلى الأحسن لا يعني انتهاء مشاكله وقضاياه التي تحتاج إلى معالجة ثقافية وحوارات محدد، بل إن مع أي تغيرات اجتماعية تنشأ هناك مستجدات تتطلب الحوار والنقاش والنقد والتصحيح والتي تساعد على  توفير التعارف المباشر بين المتحاورين، فى المنتديات الحوارية المباشرة يمكن أن تشكل نقطة التقاء بين التوجهات المختلفة فكرياً أو مدرسياً يتعارفون أين يلتقون وأين يختلفون، وهذا ما نراه على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والعلمية إذا أريد للحوار أن يخرج بنتائج يبنى عليها فلابد من تلاقي الأطراف والحوار المباشر بينها.

تعدُّ المنتديات الأدبية والثقافية والاجتماعية مادّة مشخصة ومجالًا خصبًا لدراسة قضايا المجتمع جماليًا وإبراز تناقضاته وصراعاته التي تضطرم داخله، كما أنها تستجلي بواطن الأفراد، وتكشف عن البواعث الدفينة للسلوك الإنساني؛ وصارت الفنون الأدبية لها  قدرة على التقاط الأنغام المتباعدة، المتنافرة، المركبة، المتغايرة الخواص لإيقاع عصرنا،  ويمكن رسم الدور المستقبلي للمنتديات  بنقطتين هما:

اولا :الوقوف على التحديات الحقيقية التي يمكن أن تسحب من المنتديات دورها وتفقدها استمراريتها.

ثانياً: معرفة العوامل التي تجعل من المنتديات الثقافية حاجة مستقبلية.

 يمكن رصد كلَّ المتغيرات والأحداث المتسارعة في واقع الحياة الإنّسانية العامة والخاصة من خلال المنتديات لتعبرُ عن قيمٍ اجتماعية معينة سواءٌ أكانَ هذا التعبير إيجابيًا أم سلبيًا، ويمكن ان تكون خاضعة لها اومتمردة عليها.

لاشك ان هناك تحديات تواجه المنتديات من أهمها، 1- هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مسمياتها، والانجذاب المتزايد نحو التلاقي الافتراضي، على اعتبارها انها تتيح المشاركة بشكل أوسع وبحرية أكثر لأي شخص وهو في مكانه خلف لوحة المفاتيح، إلا ان المنتديات الحوارية المباشرة تشكل نقطة التقاء بين التوجهات المختلفة فكرياً أو مدرسياً يتعارفون في نقطة ويختلفون في جهة اخرى على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والعلمية إذا أريد لحوار أن يخرج بنتائج يبنى عليها الأطراف في الحوار المباشر .

2-هو تغير نمط الاهتمامات الثقافية التي تتجه أكثر نحو الترفيه والفن والرياضة، يضاف إلى ذلك الانشغال الأكبر بهموم الحياة المعيشية الخاصة.

 يمكن القول عن  المنتديات الثقافية أنها تعد ضرورة في غاية الأهمية من حيث مجموعة القيم الثقافية التي تسعى من أجل تعزيز الثقافة العامة، من خلال معرفة قيم الحوار، واحترام الرأي الآخر، و التفاعل مع هموم الواقع الاجتماعي، وقيمة التواصل مع الاتجاهات الفكرية المختلفة بغية تجلي الأفكار والفهم المشترك لتوفير بيئة اجتماعية مناسبة  حفظاً من التآكل الداخلي المتمثل في ضعف التخطيط، ومعالجة العقبات المادية والمعنوية و باتت الأندية الثقافية والاجتماعية اليوم من أبرز الوسائل التي تساهم في تنمية المجتمع وتعريف أطيافه بما يدور حوله ولعل أبرز ما تقوم به هذه الأندية من دور فعال في تنمية المجتمع وكذلك توعية المواطن بمسؤولياته الاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية داخل المجتمع،بالإضافة إلى دعم الوحدة الوطنية وتحقيق الترابط الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، لقد بتنا نلمس تغيير ملحوظ في العراق بعد عام 2003 في الأنشطة الثقافية والاجتماعية، والانفتاح الذي صار نحو الاتساع والوعي أكثر، فيما يتعلق بنشر الثقافة، وتقويم المجتمعات، ومشاركة الأفكار وتنوعها، ومخاطبة المجتمع بأطروحات تواكب النهضة الفكرية والثقافية الحالية رغم وجود الضغوط الطائفية والمذهبية عليها. وكذلك فيما يختص بتولية المراكز والمختصين والاستشاريين في المنتديات الثقافية، والدورات التدريبية، وما يتخللها من طرح مواد مغذية للعقل تُساهم في بناء الفكر المجتمعي المتقدّم لتواصل المجموع وتطوير الافكار، هذا الاتحاد التنموي هو ما تُقام له الجهود، وتُذلل له الصِعاب.

الحاجة دائمة ومستمرة للنهضة الفكرية ومواكبة التطور الفكري والانساني، الذي لابد آتٍ، والتماشي معه هو السبيل إلى الابتكار والتجديد والاتساع، وأخيرًا إلى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أكثر تطورًا ونضجًا ومعرفة ووجود المنتديات تعطي حيوية وقوة، لأنها تبث الطاقة والاستمرارية نحو التقدّم والدافعية للبذل والتجدد والمقدرة على حل المشكلات وتوسيع الآفاق ومد جسور التواصل المعرفي والثقافي.

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

كلّما صادفته في الطريق، يمشي الهوينى، وقد أثقل الدهر خطواته، مستعينا بعكازه، الذي نسمّيه في بلدتي (خيزرانة)، هرعت نحوه كي أسلّم عليه وأقبّل ناصيته، لحظتها يخرج من جيبه حبّة حلوى ويسلّمها لي كأنّني مازلت – في نظره - ذلك التلميذ الصغير في صفّه الابتدائي.

هو ذاك معلّمي وشيخي وسيّدي في سنوات المرحلة الابتدائيّة في سنوات الستينات. كان حظّي أن أدخلني والدي المدرسة، بعد أربع سنوات من نيل بلدي، الجزائر، استقلالها وحريّتها. وخروج الاحتلال الفرنسي الغاشم مهزوما، مدحورا، يجرّ وراءه الخيبة والذل والمهانة.

منذ عرفته لم يتغيّر معلّمي. مازالت صورة حركاته وسكناته ونظراته داخل الصفّ ماثلة أمام عينيْ، بلغ سنّ التقاعد فتقاعد، وكانت منحة نهاية الخدمة لا تتعدّى مصاريف شهر واحد أو ملاليم كما يقول إخواننا في أم الذنيا. كانت أجرته فيما أعلم زهيدة، لا تكاد تسدّ مصاريف الشهر، لم تسعفه تلك الآلاف من الدينارات في شراء سيارة أو منزل أو في قضاء عطلة صيفيّة أو ربيعيّة في مركّب سياحيّ في بلده، أو القيام برحلة سياحيّة في بلد مجاور أو غير مجاور، عربيّ أو أعجميّ. وفي حفل تكريمه بمناسبة تقاعده أهدوه منبّها صينيّا ولوحة كُتبت عليها سورة الناس. ووعدته الخدمات الاجتماعيّة بدفع نصف مبلغ العمرة، إن حالفه الحظ في القرعة، لكنّ الحظ خانه وأدار له ظهره ولم يعتمر.

و من مكارم معلّمي – التي مازالت عالقة بالذاكرة – أنّه كان رجلا قنوعا بأجرته الزهيدة، ولم يفكّر يوما في استغلال ما يسمّيه معلّمو اليوم (الدروس الخصوصيّة) التي أرهقت مصاريفها جيوب الأولياء في مراحل التعليم كلّها. بل كان يخصص حصص دعم مجانيّة لتحسين مستوى بعض تلاميذه المتأخرين عن زملائهم. كان معلّمي – حفظه الله وجزاه عن كلّ حرف علّمه لمئات التلاميذ عبر مسيرته التعليميّة – حريصا على نجاحنا، يعاملنا كما يعامل الحكيم الحاذق الجسد الواحد، يحنو علينا حنان الأب الرؤوف بأبنائه، ويشجعنا بجوائزه البسيطة في نظره، القيّمة في نظرنا، كأنّ يمنحنا قلما أو بطاقة بريديّة جميلة أو كتيبا لقصة مصوّرة، أو قطعة شيكولاطة. وكان إذا وعد أنجز، ولا أتذكّر أنّه اخلف أو سوّف وعده، كما فعل عرقوب، الذي صارت قصته مثلا يُضرب في خلف الوعد (أخلف من عرقوب).

في إحدى الصباحات الخريفيّة أبت ابنتي الصغيرة المتمدرسة في مدرسة ابتدائيّة محاورة للحي الذي أقطنه، أبت وهي تبكي بحرقة الذهاب إلى المدرسة. فسألتها عن السبب. فقالت لي: إنّ معلّمتنا تحضر معها شوكة (محقنة) طبيّة، وتهدّد تلاميذها وتتوعدهم بوخزهم بها إن هم أخطأوا الجواب في مسألة حسابيّة أو تمرين لغويّ، وهي خائفة بل مرعوبة من ذلك. أخذت ابنتي الصغيرة، بعدما هدّأت من روعها وأمنتها وطمأنتها. وطلبت لقاء معلّمتها، فلقيتها، واستفسرت منها الأمر، أهو صحيح ما قالته لي ابنتي عن قصة الوخز بالشوكة (المحقنة). فقال لي: إي، نعم. ذلك أسلوب أتّبعه لتشجيع تلاميذي على الجدّ والاجتهاد. قلت: إنّ العمل البيداغوجي، التربوي يقوم على الترغيب لا الترهيب، وعلى الوعد لا الوعيد، وعلى الجائزة لا العقوبة. المعلّم، يا سيّدتي، رسول العلم والرحمة ونبع الحبّ والإنسانيّة. وذكّرتها بما قاله أمي الشعراء أحمد شوقي:

قم للمعلّم وفّـــــــــه التبجيــــــلا

كاد المعلّم أن يكون رسولا

*

وإذا المعلّم ساء لحظ بصيرة

جاءت على يده البصائر حولا

كم كان معلّمي رجلا حكيما، طيّبا، كريما، ومازال كلّما التقيته، أعطاني قطعة حلوى، وقد غزا رأسي الشيبُ، فأستلمه منه، وكلّي خجل وتواضع وفرح وسرور، وكأنّه أعطاني كنزا من كنوز الدنيا. ومازلت في نظره تلميذه الصغير على مقعد القسم، ومازال في نظري معلّمي وسيّدي، كلّما التقيته ازداد حبّي وتعلّقي به. وصدق من قال: من علّمك حرفا صرت عبدا له. هل مازال معلّم اليوم كمعلّمي ؟ وهل مازال تلميذ اليوم يمجّد معلّمه ويبجّله وإذا لقيّه بادره بالتحيّة وقبّل يده أو رأسه ؟ يستحي أن يدخّن أمامه – مثلا – أو يبدر منه سلوك مشين كالتجاهل أو التكبّر.

المعلّم – يا سادتي - هو أبو الجميع ؛ الرئيس والوزير واللواء والعالم ورائد الفضاء والحكيم والصيدلي والمهندس والمدير والقاضي والمحامي والأستاذ والعبقري والفيلسوف والصحفي والملك والأمير والخليفة والسلطان والصانع والمخترع والطيّار ورباّن السفينة. وباختصار هو قلب المجتمع وعقله ولبيبه.

المعلّم في أوروبا الليبيراليّة واليابان وأمريكا الشماليّة – يا سادتي - هو حجر الزاويّة في حركيّة المجتمع وتطوّره العلمي والتكنولوجي والاقتصادي. ولمّا سئل أحد الفاعلين السياسيين في اليابان عن سرّ النهضة العلميّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة التي شهدها اليابان بعد خروجه من الحرب العالميّة الثانيّة منهكا ومحطّما، أجاب قائلا: لأنّنا وضعنا المعلّم قبل الوزير. أما المستشارة الألمانيّة الحكيمة أنجيلا ميركل - التي قادت ألمانيا الموحّدة بعقل أرجح من عقول حكام العالم الثالث كلّهم - فقد ردّت على مطلب المضربين، الذين طالبوا برفع أجورهم لتتساوى وأجور المعلّمين قائلة: أتريدون أن أسوّكم بمن علّموكم.

لو كان معلّمي المنهك والمتعب من وطأة واقعه المعيش، معلّمي وسيّدي، الذي تقوّس ظهره كالمنجل في منتميا للمنظومة اليابانيّة أو الألمانيّة، ما رأيته يمشي الهوينى ويتهادى على عكّازه، وقد بدت على محيّاه آيات الخصاصة في مجتمع طفت على سطحه الجيّف والمتردّية.

فتحيّة إلى معلّمي وسيّدي، وإلى كلّ من علّمني حرفا وأنار لي دروب الحياة الكريمة، وأنقذني من الجهل والجهالة وله أهدي هذه الأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي:

قم للمعلّم وفـّـــــــــــــه التبجيلا

كاد المعلّم أن يكون رسولا

*

أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي

يبني وينشىء أنفسا وعقولا

*

سبحانك اللهمّ خير معلّم

علّمت بالقلم القرون الأولى

*

أخرجت هذا العقل من ظلماته

وهديته النور المبين سبيلا

*

و طبعته بيـــد المعلّم تارة

 صَــــدِىءَ الحــديدُ وتارة مصقــولا

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

وأنا أستمع دون إرادة إلى هذا النوع من النكبات، تنتصف أمام بصيرتي مشاهد السرقات، وسيناريوهاتها المتعاقبة، وآخرها مصفى بيجي.

تتزاحم الصور ببنودها المتوجعة، ترتسم الموضوعات بشكل مضطرب، حيث لكل حكاية خبر، ولكل خبر حديث، ولكل حديث علاقة بجملة حاضرة، وأخرى غائبة.

وبهذا الشكل وذاك، تأخذ القضايا دورها في التأثير، تلتقط خطها البياني، تتفاعل في النفس- تهبط تارة، ثم تعلو.

وعلى أساسه تتغير المعادلات، تتحول الأشياء إلى كوابيس، يُسرَق الزمن والحياة، يتوقف معنى الإنسان، يساق إلى المحرقة، يصبح حطاما أمام دوامة هذا الكم من الفوضى.

وبعدها يتظاهر الأبرياء، يتساقطون تباعا بأسلحة الحكام على المقصلة، يصرخ الفقر، تتحول مقاعد السياسة إلى لهب من النيران تلتهم كل ما يتاح لها من ثروات، تُستهلَك القوانين، تكتظ الأحكام، تجتمع، ثم تنفر بعيدا، تبحث عن ملجأ يقيها بعد أن تصبح عاجزة أمام دوامة هذا النوع من الخراب.

ينتابنا البكاء، نصرخ، نبحث عن حكيم يرشدنا.

لقد وقعنا جميعا في دائرة الخسران، وها هو عصر الخديعة والخذلان يطل علينا، يكشر أنيابه، يفرض نفسه، يطوقنا بمخالبه بعد أن فقدنا كل شئ؛

قتلنا إرث سومر، وبابل وعشتار، صرنا ننظر إلى دم الوركاء وأطلال أور وهي تعلن ثورتها، قتلنا الضمير، والحس والمشاعر، أجهضنا حقيقة الدين، بعد أن سادت لغة العنف، والجهل والتجهيل.

تحولت أرض الخصب والعطاء إلى محرقة تسوقها آليات العسكر، وثكناتها، هجر أهل العلم، والعلماء، والمخلصون، ولم يبق لهم من هذا الوطن إلا بقايا ذكريات مات بعض أشلائها، بعد أن مزقتها الحراب.

***

عقيل العبود

كثيرة هي المصطلحات التي تظهر هنا وهناك وأحياناً تكون غريبة نوعا ما، فقد تظهر بعض المصطلحات بشكل ملفت في مدة زمنية معينة وتبدو للوهلة الاولى طبيعية ولكن بمرور الزمن وظهور اجيال جديدة قد تبدو هذه المصطلحات غريبة أو غير مفهومة ويُجهل معناها تماماً!، ومن الأمثلة على ذلك (كوفيد) فلعل الاجيال القادم لن تعرف انه فايروس اكتسح العالم وجعله بلا حراك!.. وغيرها من المصطلحات، الأنثروبولوجيا الثقافية تعني علم الانسان فهو يدرس الانسان وعلاقته بالمجتمع الذي ينمو ويعيش فيه وخاصة ثقافته مع هذا المجتمع المنتمي إليه، إذن فهذا المفهوم يخص الإنسان وثقافته في العلوم التي تحيط به. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم يحتوي على فروع، ولكونه مفهوم شامل فإن فروعه تمثلت في الأنثروبولوجيا والتي تتحدث عن المجتمعات الموجودة في وقتنا أو المجتمعات التي انقرضت لكن لابد من وجود أدلة على وجودها، وكذلك يخوض هذا الفرع في السياسة والاقتصاد وكذلك يهتم بالأديان والاعراف والتقاليد... الخ. ومن فروعه أيضا علم الآثار الذي يتناول كل أثر باقي لشعوب ماضية عاشت في مدة زمنية معينة، واخر فروعه هو علم اللغويات وكل ما يخص اصول اللغة وحسب الحقبة التاريخية .. وهنا يتبادر السؤال الأكثر أهمية لنا وهو ما الفائدة من التعرف على هذا المفهوم او المصطلح ؟، لكل علم أهمية في حياتنا وتكمن أهمية هذا العلم في فهم الخبرات والمميزات وممارسات التي تخص المجتمع وله أهمية في التواصل مع كل المجتمعات التي نتعامل معها والاستفادة من خبراتها وتطلعاتها من خلال الاختلاط الثقافي مع ثقافات أخرى فيمكن الاندماج بسهولة بعد دراسة الطبيعة الأنثروبولوجية لتلك المجتمعات.. ويبقى أن اذكر الفرق بين الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية فالأولى كما عرفناها سابقا بانها تختص بدراسة المجتمعات والثقافات الانسانية واصولها وتاريخها في حين الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي التي تختص بالبناء الاجتماعي للمجتمعات ويمكن القول أن الثقافة والاجتماع هما جزء لا يتجزأ من حياة الانسان بصورة عامة.

***

سراب سعدي

رواية صخور الشاطئ (سأقتطف منها بضعة أزهار)

* قبل القراءة، أود أن أشير الى عبارة أثيرة جاءت في رواية الثورات لكاتبها الفرنسي، الحائز على جائزة نوبل للآداب، جان ماري كوستاف لوكليزيو، يقول فيها: ما يقتلني في الكتابة أنها قصيرة جدا، تنتهي الجملة ولكن كم من الأشياء تبقى خارجها. (إنتهى الإقتباس).

أمّا أنت عزيزي القارئ فلك كل الحق في تفسير ما كان يقصده الكاتب.

* سلوى جراح: روائية وإعلامية فلسطينية، وُلِدَت في حيفا. ستحدثنا في سرديتها التي بين يدينا عن مدينة عكا، كمن تكون مدينتها إن لم تكن كذلك، فهي سليلتها من جهة الأم وربما من جهة الأب أيضا. وسنمضي معها كما اختارت ولعلها حسنا فعلت، إذ هي أرادت أن تقول أنا إبنة فلسطين، إبنة كل مدنها وكل شبر فيها.

***

من هناك من عكا ستبدأ الحكاية، حيث ساحلها الذهبي ومساءاتها الناعسة. ومن ملاعب الصغار، وهم يعبثون بطينه وغرينه، وكيف يتبارون على تطويعه حتى يمسي رهن براءة أيديهم، ليرسموا من بعد ما يشاؤون من حلم ومن حياة هانئة وديعة، آملين أن تكون بإنتظارهم ذات يوم حين يكبرون. من عكا المدينة المنيعة والعصية على أعداءها، يوم أراد نابليون أن يجعل منها ركيزة ومنطلقا لإحتلال سوريا، وإذا بالخبر اليقين ينبأه بهزيمة جيشه وليجر ذيوله ذليلا. ومن هناك أيضا، سنكون برفقة الروائية لتفتح لنا قلبها وتحدثنا عن رحلة عشقها للبئر الأولى، حيث النبع والأصل، وليعود بها الرجع بعيدا الى ذاك الشاطئ الصخري، لِمَ لا ومخيلتها لا زالت تحن الى وقت أصيله وغروبه و ساعة سحره، ولا زالت أيضا تطرب لسماع تغريدة الطيور الأليفة، حين تحطٌ رحالها بغنج على سدرة، كان الله قد حباها برحمته، بعد جولة، ربما إستغرقت من الوقت طويلا.

فالكاتبة رغم إغترابها المبكر الا أن ذاكرتها لا زالت تحتفظ بما فاتها من سنين بعيدة، فأيام طفولتها ها هي شاخصة أمامها، فهنا يقع بيتهم العتيق ومنه تشم طيبة الأهل وتسمع صدى أصواتهم. وبعد أن تستريح قليلا ستقص علينا وكما أوعدتنا أجمل القصص، مبتدأة بما كان قد إستقر في ذاكرتها من قصة حب عنيفة، طرفاها عاشقان هائمان، لم تنتهِ وللأسف الى ما يشفي غليلهما ويُسعدا. وحكايا أخرى كثيرة عن بيت فلان وبيت فلانة. ومن ثم ستتوقف على نحو مفاجئ لتسائل نفسها: هل لا زالوا هناك أم إغتربوا كما إغتربنا من قبلهم في بلاد التيه، وهزهم الشوق والحنين الى حيّهم ورائحة الزعتر البري!!.

ومن هناك أيضا ستطوف بنا أرضها، من أقصى شمالها حتى صحراء النقب، حيث مضارب الخلان والصداقات ودلال القهوة الأربعة وما يصاحبها من طقوس لا زالت الكاتبة تحن اليها وتشم نكهتها. فهذه حيفا وتلك يافا وهذا الطريق المؤدي الى مدينة خليل الرحمن التي باركها الرب. وفي القلب من أرضها تقع القدس الشريف، مدينة المدائن، ففي هذا الحي وُلِدَ الكاتب أدوارد سعيد، ومن هذا الشارع مرَّ عبدالقادرالحسيني بشموخه وكبرياءه وبرفقته كوكبة لامعة من قادة الثورة. وهذه مدينة صفد وشقيقتها جنين وعن أي جنين أحدثكم، إذ هي لا زالت على عهدها وعلى بسالتها وثباتها، فرغم كل سنين الإحتلال بعقوده السبعة وما ينيف، فها هي أخبارها تترى لتتصدر وكالات الأنباء العالمية، مرغمة حتى أعداءها على سماع صوتها وهي تشدو للرصاص المقاوم وتغني بمواويلها للثورة ولأبطالها ولتخلد شهداءها.

ــ 2 ــ

يونس، هو الشخصية الرئيسية والمحورية الذي ستدور من حوله أحداث الرواية. كذلك سيكون صلة الوصل بين أجيال ثلاثة، مشاركا في تحريكها وتثويرها فيما بعد وعلى حثها لإستعادة الأرض المغتصبة، دون هوادة أو تخاذل. ويونس هذا، كان صغير أخوته من البنين، وبين شقيقاته كان مدللهم، حاملا العهد محافظا عليه حتى الرمق الأخير، وهو الوفي الثابت على مبادئه. وما من طارئ يحصل أو يستجد أمراً، الاّ ويكون يونس حاضرا بل ومشاركا على قدر ما يستطيع بل وأكثر. وأيضا هو نقطة الجذب والإستقطاب وستتجه الأنظار اليه. لذا شَغْلهِ لموقع الحضوة والإهتمام من قبل أهل بيته، لم يأتِ بعفو خاطر أو محض صدفة، فقد مُنِحَ الصبي عدا عن نباهته ثوريته ووطنيته التي لم تعرف الحدود ولا المهادنة، مواهب عديدة ومتنوعة، من بينها إجادته للخط العربي والعزف والغناء رغم براءة صوته ويفاعة عمره. وإذا ما ضاقت نفوس أصحابه، فسيدعونه الى فاصل من الغناء وبما يجيد به وَيطرب سامعيه.

وعن هذا الموضوع، فهناك واقعة سلكت طريقها بسهولة وعفوية، وظل أبناء البيت الواحد يتداولونها ويعيدون إستذكارها بإستمرار. ففي إحدى ليالي الشتاء الطويلة، وبينما كان الأهل مجتمعين، حثَّه أخاه الأكبر على أن يتحفهم بما يجود به صوته ويديه، بعد أن تسَرَّب الى مسامعه بأنه على تمكنٍ عالٍ من الغناء والعزف وبشهادة أصدقائه. تردد الصبي في بادئ الأمر، فمهمة العزف والغناء في مثل هكذا ظرف ليست بالأمر السهل، فهو في حاضرة أخوته وسَيدَي البيت. إذن الصبي لا زال متردداً، وفي وضع لا يُحْسَدُ عليه، وواقع تحت تأثير ضغطين، لا يقل أحدهما عن الآخر حرجا، فهو أسير خجله أولا، وثانيا وبسبب صغر بنيته، فسيصعب عليه مسك العود وعل النحو الذي سيمكنه من أجادة العزف، خاصة وإن عيون آذان الأقربين متجهة اليه.

وبعد تشجيع الأهل وتحفيزهم له ومنحه جرعة عالية من الثقة بالنفس، وبعد تهيئة مناخ مريح ومعزز بالدعابات وشيء من المغريات المحببة، وجد نفسه يونس وهو مقدم على بعض الحركات الضرورية التي ستساعده على إسماع جلاّسه أعذب الألحان والمقامات، عاقدا العزم على أن يخرج من هذا الإختبار والتحدي بنجاح، وعلى إبهار الحضور وشدهم اليه.

ولتحقيق ذلك تجده مثلاً وبلغة الواثق وقد (إقترب أكثر ورفع العود من مكانه. نظر الى أوتاره، جلس على الأريكة ووضعه في حجره. إحتضنه بصعوبة.....) ثم راح يدندن بينه وبين نفسه في بادئ الأمر وبنغمة صوت أقرب للهمس أو الهسيس. تبعها بعد ذلك بخطوة أكثر تقدما وجرأة. وبعد أن شعر بحالة من الإستقرار والسيطرة، لحظتذاك سيبلغ من العطاء أجمله، ليتحفهم بأحلى وأرقى ما غنّاه طيب الثرى، صناجة الغناء العربي سيد درويش، برائعته (البحر بيضحك ليه، وأنا نازله أتدلع أملا القلل). ص25. تفاجأ الجميع بقدراته. وما كاد ينتهي من أدائه، راحت الأسئلة تنهال عليه من أفراد أسرته وأولهم والده الذي إندهش لكفاءته وَوُسع ذائقته الفنية رغم صغر سنّه، ليثني عليه بحرارة، وليخرج من تلك الأمسية مزهوا منبهرا بولده الصغير، وسيفخر ويباهي به بكل تأكيد أمام معارفه وأقربائه.

عندما أطلقت الروائية، سلوى جراح، على الشخصية الرئيسية لعملها السردي وأعطته إسم يونس، لم تكن بغافلة على ما أعتقد عما يحمله من دلالة ورمز ومن إرث وبعد تأريخي كذلك. إذ هو يُعد بين أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق إسما شائعا ومنتشرا بكثرة. وربما يقف خلف ذلك العديد من الأسباب، لذا بات علينا أن لا نمر عليها سريعا. فالإسم يُذكِّر مثلا بخان يونس، التي تُعد واحدة من كبريات مدن فلسطين وهي الأقرب الى قطاع غزة، وقد تأتي التسمية تيمنا بها وتخليدا لها. والأهم من ذلك فالأسم يُذكٌرُ أيضا بنبي الله يونس وتلك السردية الدينية التي تتحدث عن مكوثه في بطن الحوت لأربعين يوما. وإذا أردنا أن نستخلص منها دروسا وعِبَرْ، فهي تشير الى مدى صبر النبي يونس وتحمّله. وتوظيفا لهذه الواقعة، فيمكن القول بأن الشعب الفلسطيني كما سائر شعوب الأرض المناضلة الأخرى ، هو الآخر صبورأ على بلواه وسيبقى كذلك حتى تحقيق ما يصبو اليه من أهداف مشروعة والمتمثلة بإقامة دولته الوطنية المستقلة، وإن طال الزمن.

ــ 3 ــ

تأريخ أحداث الرواية وما احتوته من تفاصيل، تعود الى عقود خلت، يوم كانت هناك دولة كاملة المعالم، بمؤسساتها وعلمها وعُملتها الوطنية ومدارسها ومستوى تعليمها، بل حتى كانت أكثر تطورا من بعض شقيقاتها العربيات. وفي لفتتة ذكية من الكاتبة وبهدف الإشارة الى تأريخ سرديتها، فها هي تنقل لنا ما دار من حوار بين أبناء البيت الواحد، والذي كان مداره يتمثل بتلك التجاذبات التي حصلت إثر قرار إبنتهم (رقية)، في رغبتها بتكملة دراستها في مدينة القدس وما سيرافق ذلك من لغطٍ وإعتراضات، حتى جائهم الرد وعلى لسان والدتها (فروغ)، لتوجه كلامها الى زوجها أبو خالد وبلهجتها الفلسطينية المحببة: إنت ناسي إنه إحنا صرنه سنة السته وعشرين وإنه البنات صارت عم تتعلم في كل فلسطين. في العبارة الآنفة، ضربت الكاتبة عصفورين بحجر واحد. أولا عكست مستوى الإنفتاح الإجتماعي الذي كان متحققا آنذاك ومن بينها ما يتعلق بأوضاع المرأة وما حصلت عليه من حقوق، وأيضا مستوى التعليم الذي بلغته الدولة الفلسطينية. فضلا عن التذكير بالفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية.

ــ 4 ــ

أثناء سرديتها ستتوقف الكاتبة عند واحدة من أخطر المؤشرات التي أنبأت بما يحاك للشعب الفلسطيني وأرضه ، وما كان يضمر له. ففي حوار داخلي بين أهل البيت الواحد سنستمع الى هذا الصوت والذي يستنتج من خلاله أن الصهاينة قد أخذوا من الإنتهازية ومنذ بدايات تأسيس حركتهم، أسلوب عمل لهم، لضمان الحصول ما يسعون من أجله: لمّا بديت الحرب كان بن غوريون يلبس الطربوش والملابس التركية الرسمية لأنه كان مفتكر أن الأتراك رح يكسبوا الحرب. مش بس هيك إقترح إنه يعملوا فرقة يهودية تابعة للجيش التركي عشان يضمن لليهود  الجكم الذاتي. ص33.

وفي صفحة لا حقة من الكتاب وتعزيزا لما ذُكر وفي ذات السياق، فقد أقدم القائد العسكري العثماني جمال باشا والملقب بالسفاح حسب كتب التأريخ، وبعد تهيأة الأجواء والظروف المناسبة، عدا عن تظافر فتنهتها وإغواءها وهشاشة شخصيته وضعفه أمام جمالها، وبنوايا لا تخلو من أهداف بعيدة ودنيئة، على الزواج من إحدى اليهوديات وليست أي واحدة، إنها سارة آرونسون، الجاسوسة التي شاع صيتها آنذاك، والتي كانت تعمل لصالح الحركة الصهيونية. وعن هذا الموضوع فقد أعتبرت هذه الزيجة بأنها تمثل أكبر إختراق للمؤسسة العسكرية التركية، بل راح البعض أبعد من ذلك حين عدّو زوجة المستقبل، بأنها مسؤولة وبشكل مباشر بل ولعبت دورا كبيرا في سقوط الدولة العثمانية، فضلا عن عوامل أخرى ربما كانت أكثر خطورة وقذارة، فلمسات وخطط الإنكليز كانت جلية واضحة ولا يختلف عليها إثنان.

اللافت في الأمر أن أكثر الشعوب  التي تنتمي بديانتها الى اليهودية ومن مواطني دول أوربا الشرقية، هي مَنْ شكلت النسبة الأكبر في نسبة المهاجرين الأجانب الذين إتجهوا نحو فلسطين المحتلة، ليشغلوها ويتخذوا منها وطنا جديدا لهم، خاصة بعد أن بدأ عود الحركة الصهيونية وعصاباتها يقوى بفعل أساليبها، كذلك بسبب السياسات الخبيثة التي إنتهجتها بعض الدول والمسماة بالعظمى، الداعمة لها. على الرغم من أن كتب التأريخ كلها أشارت الى أن فلسطين لم تكن (أرض الميعاد) حسب ما كان يروج له وما يزعمون. ففي البدأ وهذا ليس بخاف على أحد، راحوا يروجون لفكرة أن أوغندا هي أرضهم المنتظرة، عدا عن دول أخرى كانت مرشحة هي الأخرى لتكون موطنا جديدا لهم.

وبعد أن إستشعر الفلسطينيون حجم الكارثة والمؤامرات التي تحاك ضدهم، فقد إلتفتوا أخيرا الى ما ينبغي القيام به، خاصة وأن أعداد اليهود المهاجرين بدأت بالتزايد وبشكل ملحوظ، وإن ما يتوفر لهم من مساعدات ودعم وعلى كل المستويات، لهو يفوق الخيال والتصور. وعن هذا فستتوقف الكاتبة عند هذا الرأي الذي جاء على لسان رقية في سياق الكلام مع خالتها ولتصدق القول: بدهم فلسطين يا خالتي لأنهم بيقولوا إنها إرثهم التأريخي...... عشان هيك لازم نتعلم ونتطور ونصير أقوى منهم. إحنا أكثر من نصف شعبنا أمي لا يقرأ ولا يكتب. ص70. وفي تعليقها هذا وعلى ما أجزم فقد أصابت كبد الحقيقة.

ــ 5 ــ

نَمَت أظافر يونس ونَمَت معه مَوهِبَتي الغناء والعزف على العود. فبعد تلك الأمسية التي قضاها مع الأهل وأبدع فيها والتي زادته ألقاً وثقة، عاهد نفسه على اثرها أن يوسع من حافظته ومن مسعاه للحاق بآخر ما بلغه الغناء العربي من تطور وتجديد. وكلما خرج الى البرية حيث شجرة الجوز المباركة، سيطيب له الخطو وستتفتح قريحته لممارسة أجمل ما عنده من طقوس، بلهفة وشوق ودون حدود. وبعد أن قطع مسافة لا بأس بها، وجد نفسه وقد إستقر به المقام على مُرجٍ شديد الخضرة، سخي كريم في عطاءه وفي منحه فسحة من الخيال والإسترخاء، حتى راح مغلقا عينيه، في مؤشر يدل على وجهته في خلق جو من الإنسجام والتناغم مع الطبيعة، ليردد من بعدها آخر ما غناه المطرب الشاب آنذاك محمد عبدالوهاب: اللي إنكتب عا الجبين، لازم تشوفو العين. وعدك ومكتوبك يا قلبي كان مخبى فين. إن كان كده قسمتك، بختك أجيبو منين. ص .72.

سَعدهُ سوف لن يكتمل، قال في سرّه إن لم يسعفه بعشيقة أو حبيبة، تشاركه نشوته في الغناء وترقص على نغمات صوته. لم يَخب ظنه، فقد شعر أن هناك أمرا ما قد حصل دون أن يدرك ماهيته، وأن فسحة من الضوء بدأت تتسلل لتجد لها مكانا قريبا منه إن لم يكن قد إستظلَّ بها دون دراية منه. فإستمرأ يونس الأمر وراح يستشعر أكثر ما يمكن حصوله، حتى وجد نفسه مضطرا على التوقف عن إستكمال موّاله الذي كان غارقا فيه، وليجول (ببصره في المكان، رآها تجلس القرفصاء، تفصلها عنه ساقية الماء وقد أسندت وجهها الى كفيها، إبتسم. ظلت على جلستها) تشجَّع، تذكَّر ما قال له أخاه الأكبر خالد بأن أولى الخطوات نحو مَنْ تُحب، ينبغي أن تحمل بين ثناياها شيئا من الجرأة ومن بعدها الطوفان. لذا ووفقا تلك الوصية وذلك الدرس أقدم عليها مسلما. إسمها ريا (نهضت من جلستها وهمست: ما أحلى صوتك يا أفندي. شو كنت تغني؟ همهم بإستحياء: موال مصري). ص73.

ربما نجح في أول إختبار له فيما سمّاه بلعبة الحب، ولكن هل سَيَسرٌ لأخيه ما مرَّ به وما صادفه من هبة لم يكن يتوقعها!!! لا أحد يعرف وقد يرى أن لا ضرورة لذلك، فها هو يمتلك من الإحساس والقدرة على التصرف وعند المنعطفات الصعبة، ما يجعله أهلا لتحمل المسؤولية وبكل ما يترتب عليها من نتائج. ومما زاده ثقة وأن يندفع بإتجاه قطعه أكثر من خطوة نحو ما أسميناها بلعبة الحب، أن راح الطرف الثاني يتناغم معه ويستجيب له، حتى بديا كإنهما يعزفان على آلة واحدة وعلى إيقاع واحد.

إقتربا من بعضهما ثم راحا يستذكران سوية أجمل الأغاني الفلسطينية وأطوارها كالميجانا والعتابا. فَتَحَ لها باب الراحة أكثر حين دعاها لتغني بصوتها ما يروق لها. إعتذرت (ريا) إذ هي في حضرة مَنْ تُحب، دون أن تُفصحَ عن ذلك، مُتذرعة بعدم قدرتها على مجاراة صوته العذب. وجد يونس نفسه وقد إنغمس أكثر فيما أسميناها بلعبة الحب حتى لم يعد حذرا كما كان عليه في اللحظات الأولى حين إلتقيا. فبعد أن غرس كعب حبيبته غصنا يابسا يشبه المسمار في هيئته، شرع بمداراة الجرح كما الطبيب المداويا، مستلا من جيبه منديلاً (وجعله على شكل مثلث ثم طواه وبدأ يلف به قدم ريا)ص77، في تصرف بدت عليه الطفولة والعفوية واضحتان. بعد عودته الى البيت وحين وقت الغروب، وبينما كان جالس في شرفته وحيدا، راح مستعيدا تلك اللحظات السعيدة التي قضاها مع (ريا)، فما ألطفها وما أعذبها ويا ليتها معه لـ (يريها البحر كي تعرف الفرق بين هذا الجمال الممتد أمامه وذاك السحر. إتسعت إبتسامته. هذه هي فلسطين). ص79.

العلاقة بينهما لم تنقطع بل زادت وهجا وإندفاعا ولتأخذ شكلا أكثر تطورا. فبعد فترة من الوقت ليست بالطويلة إلتقيا مرة أخرى، ومن شدة إشتياقهما لبعضهما البعض وبعد تبادل التحايا وكلمات ليست كالكلمات، والتي كان أثرها بينا على وجنتي (ريا) حيث زادا إحمرارا،  خجلا أو فرحا أو كلاهما، لِمَ لا فهذه هي ضريبة الحب. أما يونس فهو الآخر لا زال عوده طريا وردة فعله لم تكن على درجة أقل منها. وفي لحظة ما، لا يدري كيف حانت وكيف تجرأ وكيف (إقترب بوجهه منها حتى كادت شفتاه تلامسان وجهه.... هبط بقبلته الى ذقنها ثم خدها الثاني). بعد أن شعرت أن هناك جوا من التمادي والإسترخاء من قبلهما، وأنها بدت تستجيب لرغبتها، حتى بلغت مرحلة لم تكن بالقادرة على التحكم بمشاعرها، غير انها وعلى نحو مفاجئ، راحت هامسة(لا، يا أفندي لا الله يخليك).ص87.

ــ 6 ــ

بعد عودته من ترشيحا الى مدينته عكا برفقة شقيقتيه، دخل في مماحكة مع أحد الركاب، كادت أن تتحول الى مشكلة لو لم يتم تداركها بسرعة، فالرجل الختيار أراد أن يحتكر المقعد المجاور ليضع عليه سلة التين التي بحوزته، والذي من المفترض أن يشغله يونس. أخيرا حُلَّ الإشكال وإستقر الأمر. ولأنه على ما يبدو كان متعبا فقد دخل في غفوة عميقة، تذكَّرَ خلالها ما دار بينه وبين أخته صفية. كان مصغيا اليها بإهتمام كبير، فطبيعة الكلام وموضوعه، على درجة كبيرة من الأهمية. في البدأ إعتقد انها ستاخذه الى موضوع حبيبته (ريا)، وكم تمنى ذلك، إذ هي لحظة طال إنتظارها، لكنه لم يصب التقدير، فقد أرادته أن يكون في مستوى الأحداث التي يمر بها البلد وما يُحاك له.

ولكي تُقرِّب الصورة أكثر وتشجعه على التفاعل وإدراك ما تريد إيصاله، رأت أن لا مناص من أن تكون أكثر وضوحا وصراحة في قولها: أنت متابع كل اللي بتسمعه وفاهم الوضع الخطير اللي بنعيشه. حاول يونس أن يرتقي الى مستوى ما تقوله شقيقته، إذ ردَّ عليها وبحماس: طبعاً وأقرأ مجلة (الزمر) اللي بتصدر في عكا ومجلة منيف الحسيني كلما جبتيها أنتِ من القدس، وما يفوتني شي من اللي بيقوله الأستاذ عاطف في المدرسة. ص93.

حديث رقية ومخاوفها مما يجري على الأرض لم يأتِ من الفراغ، فكل المؤشرات تدلل على أن دولة الإنتداب البريطانية وبإشرافها وموافقتها وبتشجيع منها، قد فتحت باب فلسطين مشرعا لمن هبَّ ودب، ففي (الأربع سنين الماضية دخل ستة وسبعين ألف مهاجر يهودي، نصفهم من بولنده).ص98. وعن نفس الموضوع الذي بات يُشغلُ الفلسطينيين ويقلقهم، فسيدور حوار آخر بين خالد شقيق يونس، وبين أحد أصدقائه والذي يوصف بصاحب الصوت الجهوري كما أطلقت عليه الكاتبة وإسمه صادق، ليبدي هو الآخر رأيه وفيما يجب القيام به، مُركزا على ضرورة التصدي ومواجهة التغيير الديمغرافي الذي تقوم به دولة الإنتداب، ولكي ننجح (لازم يكون تحركنا منظم عشان يجيب نتيجه، وبعدين ما تنساش إنه مات أكثر من مائة فلسطيني).ص99. وللتذكير فقط فاننا نتحدث هنا عن سنة 1930، فإستشهاد هكذا عدد لهو مهول جدا في مقاييس تلك الفترة.

صحيح أن يونس باتت تشغله قضية شعبه ووطنه، غير انه في ذات الوقت وبحكم سنه لم يدرك بعد وعلى نحو كافٍ حجم المؤمرات التي تحاك خلف الأبواب الموصدة. ولأن خفقات قلبه أخذت بالتصاعد ومنسوب الهيام والشوق باتا يقلقانه، فلابد وما دام الحال كذلك من ملاذ يلجأ اليه، ليُفرغ ما في جعبته من لوعة، آملا التوصل الى أقصر الطرق التي تقربه من حبيبته. لِمَ أنت ذاهب بعيدا، قالها في سرّه، فهذا أخاك أقربهم وأكثرهم خبرة، وفعلا هذا ما جرى. ففي أحد الأيام إصطحبَه أخاه خالد معه الى أحد الملاهي ولتتوسطهما قارورة من الكونياك التي جاء بها النادل بناءا على طلبه، فصاح يونس: شو هذا؟ مشروب؟ ردَّ عليه خالد: لا مهلبية. طبعا مشروب. وفي ليلتها فتح يونس قلبه لأخيه وليدور بينهما الكلام المباح، وكان لحديث الخمر والعشق القدح المعلى، وليخترقها أحيانا ما يحلو من المزاح وتبادل النكات، تلطيفا للجو، وما أحلاها من ليلة.

في قادم الأيام، سيقع ما لم يكن يتوقعه يونس، فقد مرضت والدته على نحو مفاجئ، ولتظهر عليه علامات القلق والخوف جلية، لذا ستجده مرابطا لها، لصيقا بحبل وريدها. (جلس على الفراش. وضع ذراعه تحت رأس أمه ورفعه برفق. قرَّب قدح الماء من شفتيها. رشفت منه رشفة ثم أغلقت عينيها. أعاد رأسها الى الوسادة. همست: لا شُلَّت يداك ولا شمتت فيك عداك)ص114. إنه الدعاء واللقاء الأخير بوالدته، لتغادر أم يونس (فروغ) عالمنا، حيث مثواها، وحيث السكينة الأبدية.

بعيد رحيل والدته، سيجد الصبي نفسه أمام خيارين، أمّا أن يسلّم أمره للقضاء والقدر ويستكين ويبكي على مَنْ فقده، وأمّا التحدي والمواصلة. لم يطل كثيرا في تفكيره، إذ إستجاب سريعا لنداء قلبه وعقله ووطنه، متذكرا وصايا من فارقته وما كانت تتأمله منه وبماذا نصحته: إنها المعرفة، عليك بها ومنها إنطلق نحو العوالم الأخرى، وإستعن بها أينما ولَّيتَ وجهك أو سار بك المسار. فإستمع الصبي لها، وليمضي بأولى خطواته. صحيح أن المهمة لم تكن بالسهلة لكنها ليست بالمستحيلة. في ذات الوقت فالصبي من لحم ودم وصورة أمه وخبزها والحنين اليها لم تفارقه، بل حتى تجده أحيانا وهو في قاعة الدرس ودون إرادة منه وإذا بدموعه تُذرف بحرقة ومرارة .

ونداء آخر لم يغب عما يدور في خُلد يونس، فالمؤامرة بدأت تكبر، وشهداء فلسطين أخذت أعدادهم بالتزايد. فكما طاف على مدن فلسطين فها هو يطوف على شهدائها وعلى ثلاثة من أقمارها، كان قد تمَّ إعدامهم في سجن عكا، فما كان على الصبي الاّ أن يخط أسمائهم بحروف من ذهب ونور، متصدرة شواهد قبورهم. هنا رقدوا ثلاتهم، رافضين الإفتراق عن بعضهم بعضا حتى بعد رحيلهم. هنا وتحت هذه الأرض المباركة، رحلوا حيث الصديقين، عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وليغني لهم أهل عكا:

من سجن عكا طلعت جنازي

محمد وعطا وفؤاد حجازي

*

المندوب السامي ربك بجازي

تصبح حريمو عليه ينعونــا

لم تُمهل المصائب والنوائب يونس كي يستريح قليلا، فها هو والده هو الآخر يلتحق بالسماء العليا. وإذا كان له من صداقات تقف الى جانبه في محنته، فلم يكن هناك مَن هو الأقرب اليه من نيقولا، المسيحيي الفلسطيني وإبن مدينة الناصرة. وهنا ستورد الكاتبة نصا ملفتاً وذكيا، في إشارة منها الى وحدة الشعب الفلسطيني وبكل أطيافه، إذ لا فرق بين هذا وذاك، ولا من أفضلية هذا على ذاك الاّ بوطنيته. فقد حضر نيقولا مجلس العزاء  لأداء الواجب في وفاة والد صديقه. إنتبه اليه يونس ليسأله هامسا: هل تعرف قراءة الفاتحة؟ إبتسم نيقولا: ليس تماما ولكني كنت أقرأ شيئا من الإنجيل. ص136.

بعد تفاقم الأزمة وتصاعد حجم المؤامرات على الشعب الفلسطيني، فلم يعد أمامهم من خيار سوى التصدى. لذا شرع أهل الأرض وبكل مكوناتهم بتشكيل منظماتهم السياسية، وكان خيارهم في البدأ تأسيس ما أسموه بحزب الإستقلال العربي، ردا على ما تقوم به الحركة الصهيونية من أنشطة خبيثة. وبحسب ما جاء في رواية الكاتبة والتي أرادت من خلالها إيصال رسالة لمن يهمه الأمر وأظنها وصلت وعلى جناح السرعة، فإن من بين مَنْ نادى بتشكيل هذا الحزب هي شقيقة نيقولا، لتؤكد مرة أخرى على وحدة نضال الشعب الفلسطيني.

وإستجابة لهذا النداء فقد بدأ الشعب بالإنخراط في صفوف المنظمات الفلسطينية، وكان من بينهم خالد، متوجها الى أخيه يونس وبما يشبه الوصية (خيا أنا حطيت دمي على كفي. خلص. نويت. أنت إهتم بإخواتك وأنا رايح (حيث أرست) مش قادر أتحمل أكثر من هيك). ص219. ستأتي الأخبار فيما بعد لتؤكد إستشهاد البطل نيقولا صديق يونس، نتيجة إنفجار لغم أرضي زرعته عصابات الهاجانا الصهيونية. وليُصنع له (صليبا من من خشب الزيتون وغرزه على القبر بعد أن حفر عليه اسمه وتأريخ ميلاده ووفاته (نيقولا فريد بركه 26/10/1913 ــ 17/2/1938).ص259.

لم ينسَ يونس صديقه نيقولا. ففي بغداد حيث تَغَرَّبَ وإستقر به المقام ووسط مجموعة من الأصدقاء، راح ليستذكره بإحدى الأغاني المحببة والأقرب الى قلبه والتي كان يطلبها منه بإستمرار: أراك عصي الدمع. وعن هذه اللحظة، سيقول يونس، لقد إختنق صوتي بالعبرة عدة مرات، لكني تجلدت وتمالكت نفسي وأكملت الأغنية. أحسست أن لها طعما مختلفا. صفق الحضور وهللوا وصاح الزميل الذي أحضر لي الأوتار (عشت الله يحفظ هذا الصوت. لازم تتعلم المقام البغدادي). ص267. بهذه العبارة، أكملت الكاتبة سرديتها، لتوصل رسالة أخرى وعلى درجة شديدة الأهمية، مفادها: ان مصيرنا سيبقى واحدا، وأوتار قلوبنا ينبغي أن تعزف على نغمة واحدة، فلنكن أهلا لذلك.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

أحلامي:

أنا بحق، وبكامل قدراتي العقلية، أبيع أحلامي بمغرب ما بعد (56). أبيع أحلامي ليس بالثمن البخس، ولا بسوق (الدلالة) المتواجد بسوق جوطية باب الجديد مكناس، ولكن أبيعها بالمزاد العلني الفكري. فمن يحفل منكم بشراء أحلامي؟ لن أبيعكم بيع السَّلَم، ولكن أحلامي تزن الجبال رزانة، وتخالها الجن إذا ما أفرجت عنها طليقة من قمقم مصباح علي بابا السحري. أحلامي بسيطة من أحلام الشعب، وليست مُشَكَّلة من خطوط الفن التجريدي. أحلامي آتية من فكر ابن الفلاح وابن الشعب، ومن ذاكرة أوسط جوهرة عقد عدد إخوة يوسف (عليه السلام).

أحلامي الواهنة:

أبيع أحلامي، بالترتيب العمري والزمني والمكاني. أبيع أحلامي بمغرب المستقبليات وتحقيق الرفاه للجميع. أبيع أحلام الطاقات الشبابية الكبيسة، أبيع أحلام قتل الثقة في الإصلاح المستديم، والمراهنة على السلم الاجتماعي (التفاعلي). أبيع أحلام مدينة الأساطير والسلاطين والخرافة والأضرحة النائمة. أحلامي بسيطة يا سادة، لا توازي أفكار (غارسيا ماركيز) في جوهرة (بائعة الأحلام)، بل أحلامي هي من نسج الواقع المُرقع والمُرقط، ولا هي من خيال الكاتب الروائي الإبداعي.

أبيع أحلامي جملة وتفضيلا، فمَّا على الدولة إلا أن تشتريها جملة وتفصيلا، وتُشفرها بالترميز والتنقيط ضمن السجل الاجتماعي (الجديد)، أو تُخزن معطياتها داخل محتويات ملف (سري جدا) !! سأبيع كل أحلام ستة عشرة (16) من الحقوق الذي نص عليه  دستور2011. قد أبيعها شياعا وفي أغلى متاحف الدولة، وبالمزاد العلني الذي لا يحضره الانتهازيون والوصوليون.

أحلام (باور بوينت  Power point):

أبيع أحلامي، لمن يُقَدرها في النوعية التفردية، ولا يزنها عدا كميا. أبيع أحلامي، والتي هي ملكي حصري، ومن جيل أفكار (المحرر) و(أوطيم). أبيع أحلام جيل ما بعد الاستقلال ( من 56 ما شفنا والوا !!)، أبيع كل الأمل في الكرامة، والتغيير السلمي وذاك الرفاه للجميع بتوزيع الثروة!! أبيع كل أحلام الثقة في المستقبل مع تنامي الفوارق الاجتماعية، وأرباح التضخم.

أحلامي يا سادتي الكرام،  بسيطة حد التهجئة للأطفال الصغار. بسيطة مثل مطالب ساكنة مدينة مكناس الطيبين الطيعين. أحلامي لم أعمل يوما على تصنيفها وترتيبها بالأولويات، بل تركتها مهملة، وهي تصنع الفوضى الخلاقة بالكتابة. أحلامي اليوم يا سادتي الكرام، تفوق حلم تنزيل النموذج التنموي. تفوق كل تلك المصطلحات الكبرى والتي لم أع يوما دلالتها الكمية ولا النوعية، غير أنهم يلتهون بعقولنا وبذكائنا الفطري الاجتماعي بالتشتيت مثل ما يفعل (باور بوينت  Power point). أحلامي آتية من جيل (أحمد والعفريت) و(الرمح المسحور) و(الله يرانا) و(الغني والاسكافي). أحلامي من قصص الخرافة والأساطير و(لالة عيشة) التي سكنت المدينة بالإهمال و(التَّحَمْدِيشْ) و(لهبالْ).

أحلام العدل والإنصاف:

أبيع أحلامي، مرة واحدة ورزمة مكتملة. وهي تحمل بعضا من توابل (الكرامة / العدالة الاجتماعية/ العدل/ الإنصاف والمناصفة...) والكَلمَةُ للشعب. تحمل ما سد الخبر من البياضات والفراغات القانونية الموجودة في الدستور (في غياب النصوص المتممة). قد تقولون كل هذا وذاك هو من أحلامنا في مملكة الفوارق الاجتماعية، لكني أقول: أحلامي تحمل هندسة عجيبة من متتالية (ادفع) بالإصلاح والأمن السلمي الاجتماعي الوطني، وقد سبق لي أن قلت أنا ابن فلاح من أبناء الشعب و(المطرقة والمنزل)... أبيع اليوم أحلامي، وقد أقف غدا أمامكم مثل المصاب بمرض (الزهايمر) وبلا ذاكرة، لا أعرف موضع وطني في الخريطة العالمية، ولا مدينتي مكة وناس، ولا عترتي القوية، ولا عشيرتي القبلية الممتدة من الهوية المنفردة إلى الهوية المشتركة. 

إعلان بيع أحلامي سيصلكم سادتي الكرام تباعا، لكن لن أبيع ذاكرتي ومُخزناتها العمرية الذاتية. لن أبيعكم ذكرياتي في الملهاة الكوميدية، ولا في المأساة التراجيدية، فأنا أعرض أحلامي المشتركة بيننا، وأتخلص منها طوعا في المزاد العلني وبحضور موثق (شهادة اللَّفيف). أبيعها طوعا بعقد الحبس للوطن ولكل الأجيال القادمة، ففي فركها وتفككيها نربح فرصا جديدة من مشاكل عالقة، ونتجنب تهديدات (منْ (56) ما شَفْنَا وَالُو...) .

***

محسن الأكرمين

روي عن ماجد بن وسام أنّه قال:

عدت وأنا حانقٌ ومجبور، إلى أرض قاع الهامور. فقد أعادني صاحب هذه المقامات، لأخفّف عنه الملمّات. وقد اهتدى مع هيئة الحكّام، أن يعيدوني إلى واجهة الكلام. وها أنا أروي ما جرى من أتراح، عندما قابلت خولة بنت وشاح. فالأخبار في قصّتي متكاثرة، والأقاويل التي رَصَفتها متناثرة، والأذهان في وصفها حائرة. فقد أُترحت بالبعد والهجران، وانتشرت سيرتي مصحوبة بالأكاذيب والبطلان.

وإنّما أروي حديثي بداعي التخفيف، لأنقّيه من كلّ حَيف. قابلتها في وادٍ ملعون، فيه تتبرقل العيون، ولا تغمض الجفون، الأشباح في سماواته عائمة، ووجوه الخلائق فيه غائمة، لا فرح فيه ولا سرور، وتحسب فيه أنّك في طقوس البعث والنشور، يتبرّأ فيه المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وعشيرته التي تؤويه، وجوهٌ عليها غبرة، تزهقها قترة، تنظر فيها فتحسب أنّك نكرة. لا فنّ يعصمك من قباحته ولا مواهب، ولا عملًا تؤديه ولا واجب. فواجبك فيه مضغ السِيَر، ونهش البشر، والوقوف على العِبر، وفيه خولة صورة الصور، وعبرة العبر، وناقوس الخطر، وأدهى من نكّى وأڤوَر، وابلى من تنَعوصَ وتبختر، لها وجهٌ من تشابكات ألوانه تغلي الأبدان، ويصحو السكران، ويعتزل الغزل عند رؤيته كل شاعر ولهان. وأنا رعاكم الله قد بليت بهذه السحنة، وأُحييت بهذه المحنة . وإلّا فما حاجة أمين بي بعد كلّ هذه السنوات بالتفريغ والكلام؟ وما غايته في إحياء سيرتي أنا ماجد بن وسام. فقد خصّص عافاه الله اسمه للوعظ والغزل، وخصّصني للهجاء والجدل. وقد قُفلت حكايتي بالضبّة والمفتاح، حتّى قرّر أن يكتب عن خولة بنت وشاح. وهذا والله حديثٌ طويل لا يرى النقّاد والقرّاء ولا حتّى كاتبه فائدة منه. أذكرها وقد صالت وجالت، ومالت وجادت، ليتكم رأيتموها عندما لوثّت الآذان بمخارج حروفها، صوتها كصافرات الإنذار، ولا تكفي وصف بشاعته المقامات والأخبار. قالت ماجد أبلى من التفّ واختلف، قد قصف الوجوه وألوانها، والأنوف وأحجامها، لا يفقه بالعمل وغاية وجوده إثارة الجدل. فقلت خولة صوت الوتر إذا نعّر، وشكل القوس إذا انكسر هي صورة من صور، وهي المصائب والتباريح. هي لوحة بلا تفاصيل، وقصّة ليس لها تأويل، شكل الجرح إذا تقرّح، وريح الإبط لمن لم يسبح، في مناقبها يتلعثم اللسان، وفي سيرتها تحتار الأذهان. قالوا يا ماجد ما الذي أنطقك، وعلى الخلائق سلّطك، فسيرتك وإن جادلوا فيها مغمورة، وأحاديثك وإن انكشفت مستورة، فقلت يا أهل هذا القاع، ويا سكّان البقاع، بليت بألوانٍ عمتني وبأصواتٍ لوثّتني وبآفاتٍ عدتني. وقد تعدّت سيرتي التاروت والخيرة، وأصبح الناس عن أمري في حيرة، فقد تعديت شيخي ورفيقي علي بن أبي ناصر الرسّام أطال الله عمره، وصرت أعبث بمصائر الخلائق وأحرّكها يمنة ويسرة، وأمّا عن وصفها بالبطّة فقد حار القرّاء فيه واختلفوا وأطالوا والذي أذهب إليه أنّه يشير إلى سماتها المميزّة، وسلوكيّاتها المقزّزة، ومرونتها الزائدة، وسيرتها البائدة، وإلى مساحيقها المبتذلة، وإلى من شوهّت سيرتهم بالتفريق والتذريع، وإلى من عابتهم بقولها الشنيع. وما من عادتي الروي بهذا السياق رغم أن سيرتي مصحوبة بالرياء والنفاق. فلا عيب أخشى من ذكره، ولا حبيب أخشى من هجره . وقد دوّنته في منتصف آب اللهاب عسى أن يدلّني الله على الصواب.

٢

روي أنّ شيخنا علي بن أبي ناصر الرسّام قد عقّب على هذا الحديث فقد اهتزّ عند ذكره بدنه ، وتغيّرت عندما سمعه لكنته فكتب لرفيقه وهو يقول:

غفر الله ذنبك يا ماجد، وبرّد قلبك المهموم الفاقد. أمّا بعد فما عهدتك تتنابز بالألقاب، ولا سمعت منك يومًا رغم حيلك سوء الخطاب، وإنّما أنت من الناس من ساعدهم وجاد لهم، حتّى وإن آذوه وجادلهم. وانت الذي تحثنا على أن نداري أوصابهنّ، وتذكّرنا أنّ الرسول صلوات الله عليه قد أوصى بهنّ. وأعرفُ أنّ مصاحبة الحمقى والأغبياء حملٌ ثقيل، لا تقوى على حمله، وأعلم أنّ الوحدة قاسية وإذا أجتمعت مع الهزيمة على قلب رجلٍ حطّمته. وهذه محنتك يا أخي فاتعظ منها وتوكّل على الله إنّه بعباده رؤوفٌ رحيم.

خاتمة

قال ماجد بن وسام :لمّا قرأت كلام رفيقي وشيخي هممت بالبكاء، وحمدت ربي على هذا البلاء. واعتزلت الهجاء. ورحت أسير مبتسمًا في الممرّات، متناسيًا هموم ما فات . فإذا بي ألمح خولة تدخل غرفته على عجل ثم التفّت مع صويحباتها حوله وطافوا، وارتجف الأنام عند رؤيتهم وخافوا. قالت: يبلغك الشيخ السلام، ويقول كفّ عن الجدل، وارجع إلى الغزل. فإنّك وإن غفلت صاحب مقامات. ولك إن كتبت وطبّلت مكافئات وإجازات. فشتمتهم جميعًا وخرجت.

***

أمين صباح كُبّة

الأدباء بصورة عامة هم أساس الثقافة وعمود النهضة في كل عصر وعلى مدار الازمان لدورهم الفاعل في تناول قضايا المجتمع وتحليل الواقع بشكلٍ مختلف، فتقع على عاتقهم مسؤولية التنبيه والارشاد حول كل ما يحصل على الساحة الوطنية والاجتماعية وحتى العلمية، فمن خلال الشعر تشحذ الطاقات وتحشد وتعلو الهمم عن طريق المدح أو الذم لواقع معاش، ومن خلال القصص والروايات ممكن معالجة قضايا مهمة بطريقة قصصية أو سردية تجعل من يقرأها يغير رؤاه نحو الافضل لتتسع الآفاق وتتطور البلدان، فقد نستطيع من خلال الأدب تناول مواضيع شتى كتغيير عادات وسلوكيات منها (قضايا اخلاقية،الثورة ضد الظلم، الاضطهاد، الكذب، النصب والاحتيال، الانتحار.. وغيرها)، لكن تتعرض هذه النخبة إلى بعض المشاكل في هذا الوسط الأدبي الكبير ولعل أهمها هو تعرض الاديبات والكاتبات للتهميش والاضطهاد وأحيانا تجد صعوبة في سطر افكارها على ورقة بحرية تامة خاصة أن المرأة بصورة عامة معرضة للظلم والاقصاء فكيف الحال بالأديبات اللواتي ينقلن لنا واقع اجتماعي قد لا يعرفه غيرهن، فالمرأة والادبية على وجه الخصوص تكتب بإحساس صادق وتنقل قضايا المرأة بشكل افضل من غيرها لأنها هي صاحبة القضية فما بالك أن تكون حريتها وفكرها محكوم ببيئة عنصرية لا تعترف بإبداعها وتعتبره أمر مخجل أو معاب !. لهذا نحن النساء والاديبات والكاتبات بصورة خاصة نتمنى بأن تكون كلمتنا مسموعة وغير مهمشة ومتساوية في ذلك مع زملائها من الأدباء والكتاب. ولعل أهم ما يمكن تقديمه هو تقبل عملها من قبل المجتمع وعدم التقليل من شأنها وقدرتها وكذلك توفير مساحات أدبية مهمة لتكتُب فيها المرأة عن كل ما يجول في خاطرها وفي كل القضايا التي تحدث في المجتمع..

***

سراب سعدي

شاعرة نصراوية عاشت غريبة ورحلت غريبة، لم يسمع بها الكثيرون، كتبت خلال سنوات مديدة ونشرت في صحف ومجلّات كانت تصدر إبان حياتها. ابتدأت النشر في فترة مبكّرة من عمرها القصير، في الثمانينيات، ورحلت عام 2013، صدرت لها مجموعة شعرية نثرية واحدة فقط حملت عنوان " لن اقول وداعا".

رحلت الشاعرة سناء السعيد عن عالمنا قبل عشرة اعوام، عن عمر قارب الخمسين عامًا. رحلت بصمت بعد سنوات من معاناتها المرض العضال مدّة نافت على العقد من الزمان، تاركة وراءها مجموعتها الشعرية الوحيدة وحفنة من الذكريات في اماكن كانت فيها، ولدى قلة من ابناء بلدتها.

عرفت سناء في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، خلال فترة عملي محررًا أدبيًا في هذه الصحيفة أو تلك، وكنت أفاجأ بها تأتي بين الحين والآخر لتقترح عليّ قراءة واحدة مما كتبته من قصائد واشعار، تقترح للقراءة لا أقول للنشر، فما كان مني إلا أن ابادر لنشر ما تتقدّم به إلي، على اعتبار أنه وليد موهبة واضحة وتستحق أن يقرأها الناس.

علاقتي بالشاعرة سناء السعيد تواصلت إلى أوائل الثمانينيات، وتواصل النشر لها في العديد من الصحف التي عملت فيها، وأذكر أنني نشرت لها في صحيفتي" الراية" و" الميدان"، اللتين أصدرتهما حركة أبناء البلد، إبان تلك الفترة وعملت فيهما محررًا أدبيًا، بعدها نشرت لها في صحيفة "الجماهير" ومجلة "الآداب" اللتين أصدرهما الصديق الكاتب الصحفي عفيف سالم، رحمه الله، وأشير هنا بالمزيد من المحبّة إلى ماض ما زال ساريًا أمام ناظري ويشدّني خيط دقيق إليه من الذكريات، أن عفيفًا آمن منذ قراءته الأولى لبعض مما نشرناه لسناء بموهبتها اللافتة فبادر إلى تشجيعها، وقام في تلك الفترة بنشر عدد وفير مما كتبته، بل تجاوز هذا للمبادرة إلى اصدار ديوانها الشعري الأول والوحيد " لن أقول وداعا"، وقد كان لي شرف المساهمة في اختيار هذا العنوان، أما سبب اقتراح عنوان مثل هذا، فقد قام على رؤية متعمّقة لما كتبته سناء، فقد كان بإمكان من تتاح له قراءة ما كتبته شاعرتنا، لمس ذاك الاسى الشفاف الكامن وراء كلّ كلمة كتبتها، وكان الوداع أحد مركّبات كتابتها الشعرية الملموسة، الجلية والواضحة.

بعد إغلاق الصديق المرحوم عفيف سالم لمكتبه الصحفي، وتوقّفه عن الإصدار لأسباب لا مجال لعرضها الآن، انتقلت للعمل محررًا أدبيًا في صحيفة "الصنارة"، وقد كنت افاجأ بالصديقة سناء تطرق باب مكتبي لتدخل بخفر ميّزها، وأذكر أنني نشرت لها في تلك الفترة بعضًا من كتاباتها. بعدها اختفت سناء لتظهر في هذا الشارع أو ذاك من شوارع مدينتي، فتحيي وتمضي، إلى أن انقطعت أخبارها في العقدين الأخيرين، وقد عرفت مما توفّر لديّ من معلومات قمت بجمعها لغرض كتابة هذه المادة، خاصة من شقيقتها الشاعرة إيمان مصاروة، أنها عملت في عدد من المؤسسات، أما المرض العُضال فقد علمت أنه داهمها قبل حوالي العقد من الزمان، واستوطن في دمها، إلى أن قضى عليها في يوم صيفي حارّ من عام 2013.

لا أخفي أن نبأ الرحيل المبكّر لهذه الشاعرة الإنسانة هزّ كياني وأدخلني في حالة حزن وأسى غامرة، فقد كانت سناء كما عرفتها، إنسانة خفرة حيية، بعيدة كلّ البُعد عن الادعاء والاستعراض وما شابه من صفات باتت اليوم في عصر الانفجار المعلوماتي والامكانيات غير المحدودة للنشر، لا سيما في الفيس بوك، واحدة من الملامح التعيسة التي تميّز الكثيرين، وكنت وما زلت أرى فيها مثالًا لتواضع المبدع الخلاق البعيد عن التنفّج والادعاء .

لقد عاشت هذه الشاعرة المولودة لعائلة محافظة صفورية الأصل، بصمت، ورحلت بصمت، وأعرف عن قرب أنه كان بإمكانها لو أرادت أن تملأ الدنيا شعرًا وضجيجًا.. لكن ماذا بإمكان شاعرة حيية خجولة أن تفعل سوى كتابة ما يمور بوجدانها ويدور في خلدها؟

أنني الآن وأنا اكتبُ هذه الكلمات التذكارية عن شاعرة كانت بيننا ورحلت عنّا بكلّ ذلك الصمت المهيب، أشعر بنسمة شجيّة تهب من الماضي لتغرقه أسى وتوجعًا، وتساؤلًا.. فلماذا يرحل المبدعون بصمت؟ ولماذا تُغيّبهم يدُ المنون فيغيب معهم ماكتبوه وانتجوه خلال سنوات وسنوات من أعمارهم؟ رحم الله سناء السعيد فقد كانت صوتًا شجيًا هامسًا في حياتنا.. وشعلة شعرية متوهّجة انطفأت ومضت بصمت.

***

ناجي ظاهر

أبو أماني أحمد الباقري إنموذجا*

كانت تجمعنا حروف الكلمات المكتوبة على صفحات الورق الأسمر، والدفاتر المدرسية، نستمع إلى قراءاتهم، أما الترجمات، فهي أشبه بإيقاعات يضاف إليها نكهة الالقاء الخاصة بالمجتمعين مغموسة بمزاح لا يمل.

لم يكن صاحب الحقيبة، تلك الملامح المعفرة بخصوبة الأرض، ومرارة التجربة مجرد مثقف وأديب، بل هو معلم كبير ينتظره التلاميذ لتقييم جهودهم المتعلقة بواجباتهم المدرسية.

يجلس زيدان حمود، ومسلم عباس على الجهة اليمين من الطاولة، يسبقهم محسن الخفاجي، وغسان، وآخرون أحرزوا شهرة وتقدما كبيرا في كتابة القصة والرواية، بعد أن غابوا، بما فيهم القاص الأستاذ نعيم عبد مهلهل، حيث أبعدتنا واستنزفتنا جميعا محطات الغربة والوجع.

كانت جلساتنا تتغنى برائحة الهيل المخلوط مع بخار الشاي الساخن، حيث تزاول المقهى نكهة محبتها، وكأنها تعبر عن فرحتها بتلك اللقاءات.

يتلو مسلم على مسامعنا آخر ما كتب، ثم يقرأ زيدان نصا مسرحيا، يلقي الباقري نظراته بعد أن يلف سيجارته التي اعتاد أن يبالغ في ابتلاع دخانها بأصابعه المرتجفة لنطلق ضحكاتنا المعهوده إثر ذلك هو (صدر لو صفارة حارس)

يقرأ معلمنا نصا مترجما له من الأدب الأوربي، ثم تتلى إبداعات الأصدقاء، وتعليقاتهم تباعا.

كان يوم الجمعة يوما مقدسا للجميع حيث يجتمع فيه من لم يتسن رؤيته باقي الأيام.

تبتدئ المناقشات بخصوص ما كتبه محسن ،وترجمه أبو اماني، أما عقيل فكان ينتظر عموده الأسبوعي على صفحة الملتقى في اليوم المذكور في صحيفة القادسية بعد وصولها إلى مكتبة جبر غفوري، حيث تصل أكياس الصحف التي تحمل معها حرارة المطبعة، وهي تشبه أطباق الصفيح الساخن.

كان للصحف المقروءة معان كثيرة، وكبيرة، فهي ليست فقط للقراءة، وإنما يحتفى بجهود كاتبها الذي يتقاضى ثمن ما يكتب.

أعتاد محسن صاحب مجموعة ثياب حداد بلون الورد السفر إلى بغداد للقاءات أدبية مهمة، حيث يتاح له استلام أجور النصوص المنشورة في بعض الأحيان نيابة عن الأصدقاء الذين يكلفونه بذلك، حيث مقر جريدة القادسية والتي يعمل فيها ابن المدينة المرحوم الشاعر كمال سبتي مع عمود ثابت يصدر له تحت عنوان حروف المصحح.

ذات يوم استحسن الجميع ما يكتبه صاحبهم في ملتقى القادسية، ولذلك قال محسن له وبدعابة مشاكسة لقد أصبحت كاتبا معروفا يا (…)، كانت الأعمدة الاسبوعية التي يكتبها الشاب خاصة بأدب أمريكا اللاتينية، أو الأدب الأوربي المعاصر. وكان العمود يعد ثمرة جهد اسبوعي خاصة وهو يتضمن قراءات شاملة لروايات مهمة مثل الصخب والعنف -فوكنر، وحديث في الكاتدرائية ماريا فارغاس يوسا، مع كل ما تتاح قراءته عن الأدب العالمي.

ولذلك وبغية الابتعاد عن أبواق الضجيج الإعلامي لسلطة الحرب، والاعلام الماكر آنذاك، كان الشاب أسوة بمن يقلد، حريصا على أداء ما تقتضيه شروط الكتابة الخاصة بالنخبة، وهو التركيز على ذلك النمط من الموضوعات.

***

عقيل العبود

........................

* لمناسبة سنوية المرحوم الأديب والمترجم والكاتب أبو أماني أحمد الباقري- رحم الله زيدان، ومحسن، والباقري، وجميع من فارقنا من الغائبين والحاضرين، حيث لا يتسع النص لذكر باقي الأسماء.

ما لي أجدك في حسرة يا أمي الغيرة؟ ماذا يقطن في جنونك بداخل الآهات؟ كيف نسيتي وجودك الحر الذي لا يهدئه إقليم واحد بل يتنفس بين كل الأجناس؟ أنا لم أعرف ملامحك اليوم، كينونتك اعتادت على توارث انزيمها لأجيال لم تصل سوى حابسة الأنفاس بين رجل وامرأة.. أو.. امرأة وامرأة.. أو أصوات عابرة بين هؤلاء الذي يدعون الانتماء الى أرض سيعودون لها يوما ما لتبتلع أوجاعهم وشقاءهم.. لحظتها انخفض شموخ الغيرة وأومأت بنظراتها المترددة مرددة على ابنتها: هل حالتي تفضح أحوالها الصامتة يا قطعة الروح؟؟ هل تلمحين ذلك لأنك مني وفي وأنتي وريثتي اللاشرعية؟ أمك الغيرة مصابة بثمن الوهم الذي زارها قبل أن تزوره.. ويراودها طيلة خمس سنوات، واليوم أتت اللحظة التي لم تخلق ولم تتحرر الا باصطدامها بإبنة مثلكي، لا تسع الا لتضيق ليس مقاسا بل سهاما بأقواس اللاثبات.. آه يا أمي الغيرة متى انتصرت سهام مقوسة في اللاثبات الذي هبت خاتمته بغصة النظرات التي صارت تحاكم العبور والقدر، لماذا أنا مصابة بغيرة يا أماه؟ لماذا لم تشاورني اللاحدود حينما تكومت أنها لن تمنحني وسم الإبنة الأولى بل حفرت لي عتوه الغيرة؟ وأي غيرة تتسرب في عيد اللاتزامن وتتفق مع أغسطس على مقاضاة أوهامي؟ يا أماه لماذا لم تخبريني أن ارثك ووصاياك ستنهمر بداخل سماء لا قبلها ولا بعدها بالنسبة لوريثة تعقدت بفعل البصر؟ ولكن سمائي تمزق لونها الأوحد الى قبلة اللأبدية؟ لماذا جعلتني وريثة الجرائد والأحرف وجنون الصور التي تتألق لتكشف أوهامي كلما أخاطبها أن تكف عن تعذيبي أجدها تخفي لي أكثر مما تظهره لإبنة اللاتزامن؟؟ تعتلي حضارة اشبيليا لتتمرد على رقصة غجرية، يظنها الجمهور رقصة السنونو الأبدية ولكنها تصادف أصابع قدر ابنة وهمية.. استسلم غرورها الى حوريات الجنة ولكنها أثبتت باستحقاق الأعين السوداء أنها جنية اللاوجود في قضايا ابنة الغيرة العربية؟ أماه هناك صوت يسمعني ولكني خائفة ان يكشف أني ابنتك الوحيدة ووريثة المتوحدة في قصة الغيرة فيه.. آه يا وريثتي لا تخشي جنون الصوت فهو لن يؤذي غرورك الذي صدق نفسه يوما.. لماذا يا أماه تزيدين عتوهي انسكابا؟ أجابت دامعة لا مصدقة: أنتي غير موجودة في مرئيته بل بعنفوانه الشرقي.. هو لا يراود غيرة ابنة مثلك.. لا تهجوا الا غروره الدامي.. جعلك تنتحرين بثبات القبلة الجبينية وتسألينها كيف تحررتي في جبين طفلة غيري؟ وتمكن تاريخك القريب نحوه ان يكتب إيمان البراءة التي أجرمت بي ولي؟ ما لي أسائل مدني على ماذا تكومتي لتحرري مدن الوهم الذي امتلكني بآهاته اللايقينية؟؟؟ ونسيتي أن تمتلكي طفلة الوعد بالقبلة الأولى؟ لماذا جرمك يشتد بأوهامي الإبنة اللامرئية؟ متى تكفين عن جعل إصداراتي العربية متورطة في غيرتي كإبنة اللابراءة؟ نعم اللابراءة أنت من منحتي مدني شكوك بلا غفران اليقين؟ وأسميتيها في جريدة قومية بتاريخ: 14/08/2023 الإعلان عن انتحار طفلة الغيرة العربية.. بتحرير قبلة الخلد الصورية..

هنيئا لنا يا أماه.. لم تعد بطولات الوهم تغزوا جنون ابنة الغيرة.. أوهامي بالأبوة انتحرت بغرور التوق الاشبيلي..

قبلات الغيرة الساخرة..

***

سعاد أدري

عندما زرت معهد بوشكين للغة الروسية بموسكو قبل عدة سنوات، فوجئت بمقطع من كتابات غوغول حول بوشكين منقوشة بحروف بارزة على الجدار اليمين في مدخل المعهد، وقد وقفت طبعا وقرأت ذلك النص الغوغولي المتميّز والعميق عن بوشكين، ثم استفسرت عن تلك الظاهرة الجديدة بالنسبة لي (اذ اني من روّاد هذا المعهد منذ تأسيسه !)، فقال لي رئيس المعهد مبتسما، انه لم يجد أفضل من تلك الكلمات لغوغول عن بوشكين واهميته للغة الروسية وآدابها، وقد اتفقت معه في الرأي، واليوم، ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لازال غوغول فارس الساحة الثقافية الروسية بلا منازع، فهو (الاوكراني!) العتيد والكاتب (الروسي!) الكبير في آن واحد، ومن يمكن له في اجواء الحرب الروسية – الاوكرانية (التي بدأت في شباط (فبراير) عام 2022، ولازالت مستعرة لحد الان، ونحن في آب (اغسطس) من عام 2023)،من يمكن ان ينافس غوغول في موقعه المتميّز والخاص جدا بالساحة الثقافية الروسية المعاصرة ؟ اذ ان غوغول يجسّد اوكرانيا وروسيا معا وسويّة، ويرمز الى وحدتهما الطبيعية جغرافيا وتاريخيا وثقافيا و انسانيا ايضا  منذ انطلاق بداياتهما في القرن العاشر عند تأسيس دولتهما المشتركة - (كيفسكايا رووس! والتي يمكن ترجمتها بلغة عصرية – روسيا الاوكرانية)، ودون امكانية الانفصام بينهما لاحقا و ابدا، فلا يمكن (تقسيم!) غوغول الواحد (الكاتب والمفكّر والفيلسوف) على كاتبين ومفكرين وفيلسوفين، واحد روسي والثاني اوكراني !!! .

مؤلفات غوغول المختارة والكاملة طبعوها عشرات المرات في الامبراطورية الروسية (منذ ان كان غوغول على قيد الحياة) والاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية (طبعت مؤلفاته الكاملة ب 23 مجلدا، وانجزت عام 2013)، اضافة الى طبع نتاجاته الادبية من قصص ومسرحيات وروايات بكتب منفصلة بحد ذاتها كانت تلاقي الرواج آنذاك دائما، ولازالت كل هذه الكتب والمؤلفات مطلوبة من القراء لحد الان . غوغول كاتب قصص قصيرة وطويلة وكاتب مسرحي وروائي، ولكنه ابتدأ بالنشر شاعرا، واصدر كتابه الاول عام 1829 (وكان عمره 20 سنة)، والكتاب هو مجموعة شعرية باسم مستعار، ولكن غوغول شعر رأسا بالفشل الذريع لذلك الكتاب، فقرر رأسا شراء كل النسخ التي جرى طبعها وتوزيعها آنذاك من هذا الديوان، وحرقها باجمعها، وهذا يعني، ان عملية (حرق!) مؤلفاته ليست ظاهرة جديدة في مسيرته الادبية ابدا، اذ انه كررها مرّة اخرى في نهاية حياته – كما هو معروف -  وأحرق كليّا الجزء الثاني من روايته (الارواح الميتة)، والتي كتبها لفترة طويلة جدا، ولكن، والتزاما بعنوان مقالتنا هذه، لنبتدأ بالحديث عن  الكتاب الاول الذي أصدره غوغول، وهو الكتاب الذي يرتبط لحد الان بظهور نجم ساطع في دنيا الادب الروسي، والادب العالمي ايضا .

الكتاب الحقيقي الاول لغوغول صدر في بطرسبورغ، وعنوانه حسب الترجمة الحرفية هو – (امسيات في بيت ريفي منعزل قرب ديكانكا) . اصدر غوغول الجزء الاول من كتابه هذا عام 1831، وكان عمره آنذاك (22) سنة فقط، وصدر الجزء الثاني عام 1832 . نجح الكتاب بشكل ساطع و باهر جدا، اذ انه عكس خصائص غوغول الادبية التي سيتميّز بها لاحقا – العنوان الطريف (والذي خلّد به قرية ديكانكا المجهولة، وهكذا اصبحت هذه القرية معروفة وليس فقط في اطار روسيا، وانما عالميا ايضا بفضل كتاب غوغول هذا، وقد تذكّرت رأسا قصيدة عبود الكرخي – قيّم الركاع من ديرة عفج، التي خلّد فيها الشاعر (ديرة عفج) بالنسبة لنا، نحن العراقيين !) وانعكست في الكتاب ايضا الروح الشعبية الاوكرانية والواقعية الممزوجة بالخيال الغرائبي والمرح والضحك و السخرية، وكل ذلك باسلوب جميل أخّآذ و بلغة روسية ذات مستوى رفيع جدا، وتكاد ان تكون لغته الخاصة به، فهي لغة روسية شاعرية مطعّمة بالاسماء والاماكن الاوكرانية،  وقبل كل شئ بالفلكلور الاوكراني  طبعا بخرافاته واساطيره وحكاياته المثيرة . لايزال كتاب غوغول هذا مطروحا وبشكل واسع بين القراء الروس صغارا وكبارا، لدرجة، ذكر فيها رئيس اتحاد الادباء الروس في مدينة بطرسبورغ (ما معناه) انه عاد لقراءة ذلك الكتاب في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية، لأنه لم يجد افضل من غوغول رمزا لانهاء هذه الحرب . ومن الطريف ان نشير هنا، الى ان ناشر الكتاب في بطرسبورغ آنذاك (اشتكى !!!) قائلا، ان عمّال المطبعة كانوا يقرأون كتاب غوغول هذا ويقهقهون، وان تلك القهقة قد عرقلت عملهم اثناء طبع الكتاب، ويا لها من شهادة رائعة وحقيقية وعفوية عن عبقرية الكاتب غوغول، شهادة أعمق كثيرا من (مقالات !!!) يكتبها بعض نقّاد الادب .

تم ترجمة هذا الكتاب الى الكثير من لغات العالم، ومن بينها طبعا لغتنا العربية،  وبعناوين متعددة، منها – امسيات قرب قرية ديكانكا، الامسيات في قرية قرب ديكانكا، امسيات في قرية قرب ديكانكا ....

مؤلفات غوغول العديدة والواسعة المعالم تنتظر الباحثين العرب، فما اكثر العناصر الانسانية  المشتركة بيننا.  

***

أ. د. ضياء نافع

كل النفوس تنتهي إلى نفس واحدة، هي المرجع والأصل تحمل ذات الفطرة السليمة المدفونة في أعماقها الإيمان بالله عزوجل ووجوه الخير.

وبشكل تلقائي فإن النفوس الوافدة على الحياة في أعماقها السحيقة هذه الأصالة الإيمانية، ثم يترك لها حرية الاختيار والسعي، وسعي البعض يكون لأجل المطالبة بأشياء عدة منها الأمن والأمان الروحي الذي يتحقق بالوصول للإيمان بالله بعد عمليه تفتيش وبحث.

كما أن شطر من النفوس البشرية تترعرع في بيئات تمتلك معتقدات مغايرة للحقيقة الإيمانية وتتلوث عبر السنين بأفكار شديدة البعد عن معرفة الخالق وتنغمس في أوحال الحياة لتصبح بعيدة عن الأصل الذي خُلقت من أجله.

أما النفوس التي وصلت إليها الحقيقة الإيمانية سهلة لكنها لم تتشرب أسس الإيمان ولم تتدرب عليه ولم تمارسه يومياً من قبل مربين ومرشدين حتى يكون عميقا تظهر آثاره في السلوك العملي، فهي بذلك تغدو بأشرعة ضعيفة ومن ثم تعيش مخاض عسير عبر مسار طويل يقع بين ابتلاءات وشهوات ونزعات ورغبات.

عندئذا يُطلب منها الاجتهاد والمجاهدة حتى يتحقق الوصول للنبع الصافي وفوق ذلك كله فإن أمر الله عزوجل غالب وتوفيقه يمنحه لمن اصطفى.

وفي نهاية هذا الجزء البسيط فإن الأدلة الربانية تؤكد على القدر العظيم للنفس وترابطها مع بقية النفوس حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم عن حرمة النفوس: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. سورة المائدة آية 32.

***

كتبها: هيثم البوسعيدي

نشرت بتاريخ الاثنين 14 أغسطس 2023

الشعر ربما ما عاد إبداعا متميزا ولا مؤثرا، ومهما توهم أصحابه وأدعياؤه وغيرهم، لأن ما يمكن كتابته بالعربية على أنه شعر لا يصل إلى مقام ما كتبه شعراء الأمة عبر العصور، فمهما توهمنا بأننا نكتب شعرا، فلن نجيد ما أجادوه، والسبب أن الأغراض بقيت على حالها، وواقعنا لا يتفاعل مع العصر الذي نحن فيه.

وفي المسيرة العربية هناك تجديد، وتحديث لأساليب وتقنيات الكتابة الشعرية، وما جاء به الحداثيون ربما دون ما قدمه السابقون من روائع نصية باذخة الجمال والأشكال، وغنية بمفرداتها وبلاغتها وقيمتها الفكرية والتعبيرية.

في الأزمان السابقات كانت المعارف محدودة، والقدرة على البروز والتألق متاحة، وعندهم الوقت وأغراض الكتابة معروفة، والشعر معظمه للتكسب، فساد المديح والرثاء، وما كانت عندهم ثورات صناعية وتقنية، والإهتمام باللغة في ذروته، وبمحاسنها اللفظية، والمصادر نادرة.

ولكل زمان مبدعوه، فلو كان المتنبي بزماننا لما كان مثلما نعرفه، فنحن نعيش زمن التسطح واللا أنا.

ترى ما قيمة الشعر ومجتمعاتنا خاوية من قدرات التعبير عن المعاصرة التقنية والمواكبة العلمية؟

علينا أن نواجه أنفسنا، فالموضوع ليس ضد الشعر، بل يخص الجميع بلا إستثناء، ومَن لا يرى مأزقنا الحضاري، ليبتعد عن سكة التفاعل التبريري،  فوعاء إبداعنا العلمي فارغ، وأوعية الآخرين طافحة وتفيض، ولهذا يكتبون شعرا، ويأتون إبداعا، ونحن نتوهم الإبداع، كالذي بطنه خاوية، ويدّعي الشبع والتخمة.

تلك حقيقة مريرة، لن نتشافى منها، إن لم ينطلق المجتمع في مسيرة تفعيل العقول، لا تعطيلها بخطابات ألف مجنون ومجننون، متمحن بالضلال والبهتان الأسود!!

فالتجديد والحداثة تحتاج بيئة معاصرة متواكبة مع زمانها، وملهمة للطاقات الإبداعية القادرة على تمثلها بنصوص متوافقة معها، فشعراء الأمة الذين نعرفهم من نتاج بيئة ذات طاقات متفوقة على زمانها وسبّاقة لعصرها.

فالحداثة والتجديد حركة تشمل المجتمع بأسره، ولا تقتصر على شعر أو كتابة وغيرها، إنها تتحقق في كافة الميادين المتصلة بالحياة، وتترجم بأنواع الإبداع.

فأين العلم يا أمة يعلمون؟!!

ولماذا الجهل يا أمة إقرأ؟!!

***

د. صادق السامرائي

الشعر فن جميل، وتعبير رائع عن المشاعر والأحاسيس، ويتحول إلى أفيون عندما يعيش وحيداً في بيداءٍ بلا إبداع بميادين الحياة المتنوعة.

وحالما يكون هو الإبداع المنفرد في أي مجتمع، فسيخدّره ويصيبه بالنوام والسبات المبيد.

الشعر بحاجة لرفقة إبداعية، ومواكبة علمية تقنية، وقدرات إختراعية وإبتكارية، لكي يتألق ويستشعر قيمته ودوره في صناعة الحياة الحرة الكريمة.

الشعر المجرد من الواقع الإبداعي المادي يفقد قيمته، ويتحول إلى مجرد كلام، مهما تميز صاحبه بسبك الكلمات والأفكار في عبارات شعرية تامة متفوقة الجمال.

فهل نصنع؟

وهل نزرع؟

وهل نرفع شأن العلم والتعليم؟

الشعر الصيني أو الياباني ربما أكثر قيمة ودورا من الشعر العربي، لأنه ينطلق من بيئة معاصرة قادرة على تصنيع الأفكار وبناء الحياة المتصورة.

أما الشعر عندنا فرثائيات وغزليات وتفاخر بالماضيات، وأكاذيب وتهويلات، ومتاجرة بالكلمات، ولا يساهم في التنوير وشحذ الهمم وإطلاق الطاقات، لأنه يرتكز على رمضاء، ولا يستطيع إستحضار الماء، فيتعلق بالسراب.

الشعر العربي لا يستطيع التعبير عن حاضر سعيد ومستقبل زاهر رغيد، ويغطس في مستنقعات الدموع والدماء، ويمعن بجلد الذات والتقليل من قيمة الإنسان، وإستلطاف الهوان، فتسويغ الملمات من الأغراض المتوارثة فيه، وكذلك تنزيه الكراسي من الآثام.

الرئيس ماو أيقظ الصينيين بأشعاره، وأعاد ترتيب آليات تفكيرهم، وبأشعارنا نحطم الأشياء وننوح عليها، فقصائدنا لطميات في مسارح الويلات والتداعيات!!

فهل غاب الشعر وانتحرت الكلمات؟!!

***

د. صادق السامرائي

.....................

*هذه واحدة من سلسلة مقالات نشرتُ بعضها وسأتواصل باللاحقات، وهي ليست ضد الشعر وإنما عنه وفيه من وجهة نظر قارئ!!

ضمن الأنشطة الدورية لبيت الشعر القيرواني وفي سياق الفعاليات الصيفية حيث الأدب يذهي شيئا من حر الأحوال التونسية ووفق التمشي الثقافي والشعري والاشتغال على الشعر وأسئلته المتصلة بحثا وحوارا ونقاشا نظم بيت الشعر بالقيروان مساء اليوم السبت  5أوت 2023 أمسية أدبية تضمنت  مداخلة أدبية للدكتور محسن التميمي بعنوان " الشعر التعليمي عند العرب" وبتقديم من قبل الأستاذ السيد العلاني ليتخللها حيز من القراءات الشعرية للشاعر مصطفى ضية وذلك بحضور جمهور الشعر ورواد البيت وعدد من النقاد والشعراء والاعلاميين وغطت الفعالية قناة الشارقة التي تنقل كل الأنشطة الشعرية والثقافية والأدبية للبيت .

الشاعرة ديرة البية جميلة الماجري افتتحت اللقتء بالترحيب بالحضور وبرواد البيت مبرزة أهمية الشعر التعليمي كحيز ونوع من الشعر المخصوص ومن الأهمية التطرق اليه من خلال التعرض الى أعلامه وخصائصه وحضوره في الشعر وذكرت بجملة الأنشطة للبيت التي تتصل بالشعر وفنونه والحصص الموجهة لأحباء تعلم الشعر والعروض فضلا عن التذكير بدور جائزة الشارقة لنقد الشعر كرافد مضاف لدعم والنهوض بمسارات الشعر العربي وحضوره.و قدم الفقرات لهده الأمسية الأستاذ والكاتب عبد المجيد فرحات مبرزا قيمة الندوة ومشيرا الى تجارب الضيوف ومسيراتهم الابداعية والثقافية .

 وفي مداخلته تحدث الدكتور محسن التميمي عن الشعر التعليمي من خلال خصائصه وشعرائه وعهوده وأبرز تجلياته باعتباره شعر يشير بنصوصه الى أحداث وأمكنة وقواعد ونظم  ويشرح الأحكام  وييسر الوقائع والأحداث التاريخية والقصد من كل هذا هو التعليم والحفظ مشيرا الى كونها متون ومنها كتاب 'مجموع المتون الكبرى ' وهي تجري على بحر الرجز مشيرا الى الشاطبي والفقيه ابن بكر العاصمي والفاسي وموسوعة ' تحفة الجكام ' وعلم القراءات وشاعر القيروان الحصري وقصيدته في علم التجويد التي سماها ' المنح الفريدة ' حيث اهتم العلماء قديما بهذه القصيدة ومنها تثمين مقدرة الشاعر في علم القراءات وذكر أن أبرز من نظم في علم القراءات أبو محمد خلف المتوفي بمصر مشيرا الى أبيات تشرح الأحكام  وتذكر الوقائع والأحداث التاريخية بيسر

مبرزا الخيارات الجمالية الشعرية لهذا النوع من الشعر التي تجنح الى الشعر والأنساق التي تخدم العلمي والجمالي وخلص المحاضر التميمي الى القول "..يبقى الشعر العربي مستودع آمال العرب وحين سئل ابن خلدون عن هذه المسائل في الشعر كان جوابه بأنها

تخدش وجه القريحة وتعطل الابداع  الشعري  فقيل له لله درك لا يقول الكلام هذا الا أنت...".

الأستاذ الصحبي العلاني تحدث في اشارات مترابطة وعميقة الدلالة عن الخصائص لهذا النوع من الشعر التعليمي ذاكرا أن هذا النوع من النظم يخلو من الخيال والعاطفة ويقتصر على الأفكار العلمية المجردة وقال "...حين نتعامل مع هذا الشعر لا بد من كثير من المعرفة ...قصيدة سعيد عقل "مرخى على الشعر شال " هي ضمن الغزل الحديث لخصوصيتها فالشعر الحديث صعب الكتابة والفهم والقراءة والأمثلة عديدة ...".

اثر ذلك كان هناك نقاش وفق ما طرح في اللقاء عن هذا الشعر التعليمي وفسح المجال للشعر حيث قرأ الشاعر  مصطفى ضية عددا من القصائد التي تفاعل معها الحضور لما بدا في مضامينها من وجع وشجن وحياة ومنها قصيدته " عليك بشيء يدل عليك " .

أمسية رائقة حملت الحضور الى أزمنة شعرية حيث الشعر مجال تعليمي كان فيها النقاش ثريا وتنوعت الأراء وكذلك النظر والتقييم وهذا من عناوين فن الشعر الشاسع بتلويناته وضروبه .

***

شمس الدين العوني

تصنف الرواية بكونها سلسلة سردية طويلة تحتوي على أحداث كثيرة قد تكون واقعية أو من وحي الخيال وفيها شخوص كُثر يبرز فيها الابطال الذين ينقلون قضايا معينة من خلال تسليط الضوء على مشكلة ما وايجاد الحلول لها بشكل اكثر اسهابا من القصة، كما وقد تحتوي على شخصيات تظهر مرة واحدة في الرواية للتنبيه على أمر ما!، ظهرت الرواية في القرن الثامن عشر في أوروبا وكانت لها تأثير كبير في تغيير الأحداث على الواقع  ومعالجة المشاكل والازمات، وتعتبر الرواية أطول الأجناس الادبية.. تحتوي الرواية على مقدمة وفصول متسلسلة في الأحداث الى أن تصل الى ايجاد حلول أو التنويه لحلها أو حتى ترك حلها للقارئ.

تتعرض الرواية في الآونة الأخيرة إلى هجمات عديدة تمثلت في أن لا أهمية لوجودها! أو أنها روتينية وأحداثها مملة وماهي إلا تقليد لروايات عالمية والافكار فيها مستهلكة!. لعل هذه الآراء تصدر من اشخاص غير مطلعين على الادب العربي بصورة عامة وليس الرواية على وجه التحديد، ليس كل رواية مشهورة جيدة وليست الرواية المغمورة والتي لم يسلط الضوء عليها هي رواية سيئة. ان سبب ظهور فن الرواية هو حل قضايا معينة أو انتقاد واقع سيء أو لمتعة القارئ، وكما نعلم هناك انواع من القراء منهم القارئ الشغوف المتفائل والقارئ الذي يقرأ لينتقد فقط وليس ليستمتع ويستفاد وانما هو حاقد على الكتابة بصورة عامة لا يعجبه اي شيء ولا يستسيغ ما يقرأ، وهنا يجب أن لا نلق بالاً لمثل هذا النوع من القراء ونهتم بالإيجابية. النقد يختلف عن الانتقاد، النقد مفيد للكاتب فهو يُقوم النصوص ويشذبها ويبرز معالم القوة فيها ويبين رؤى مختلفة في قرأته للرواية فيتعلم الكاتب الكثير من الناقد ويحسن اسلوبه في الكتابة، واما الانتقاد فهو مجرد إظهار العيوب أو حتى اختلاقها دون الرجوع الى أسس النقد الصحيحة ويأثر سلبا على الكُتاب ويحبط مسيرتهم الادبية، لهذا يحب الانتباه لهذا الامر واخذه بنظر الاعتبار من قبل الكُتاب والادباء والقراء بصورة عامة.

***

سراب سعدي

يقولون أن الشعر من المشاعر، ولابد أن يكون كذلك ليسمى شعرا، فما كل موزون ومقفى بشعر، ولا المنثور بشعر.

وإن إمتطت الفكرة ظهر الشعر إنكسر، وإنفرط عقد الكلمات الجمالي والنغمي، فالشعر إيقاع ولحن روحي أخاذ بأوتار النفس البوّاحة.

الشعر كل شيئ ولا يتحول إلى شيئ، أو أداة للتعبير عن فكرة أو رؤية أو تصور، وما كل مَن كتب الشعر بشاعر.

دواوين كبار الشعراء، يكثر فيها النظم ويقل الشعر، ونسميهم شعراء كبار لأنهم عاشوا قريبين من الكراسي المتسلطة على البشر.

ما عدا شعراء المعلقات، والذين كتبوا قبل الإسلام، والبعض الآخر، فأن معظم الذين صاروا شعراء كبار في ثقافتنا الجمعية، هم من أولياء نعمة الكراسي، ويطغى على شعرهم المديح كوسيلة للتكسب وجمع المال، فالشعر تجارة مربحة عندما تكون على مقربة من مركز القوة.

والبعض يرى أن في الكثير من الأقوال المتداولة كأبيات شعر، لا يوجد فيها شعر، بل أفكار منظومة.

إذن أين الشعر، وهل يوجد شاعر حقيقي أصيل يضع إنعكاساته الذاتية والموضوعية في كلمات ذات تأثير؟

يبدو أن الإنسان الشاعر يمتلك مهارة التكثيف والإقتصاد، أي يعبر عن جبل عظيم بذرة متناهية في الصغر، فكلماته يجب أن تختصر كتبا وموسوعات، وهذه القدرة نادرة بندرة الشعراء الأصلاء، فالذي يكبس رؤيته في بضعة أحرف، يمتلك وعيا كونيا وتماهيا مطلقا مع مفردات الوجود الأكبر المتوثب الإتساع.

فالشاعر مَن إستوعب الكينونة الوجودية بإدراكية عالية ومديات لا تعرف الحدود.

وعندما يصل إلى هذه المرتبة الإشراقية يمكنه أن يقطر شعرا، ويعصر خمر الكلمات ليبث سلاف جمال وروعة وبهاء، وحينها نكتشف أننا نقرأ شعرا، ونغوص في عباب قصيد.

فهل إن الشعر روح؟!!

وقل تسطحت القمم وانقطع رأس الهرم!!

***

د. صادق السامرائي

7\4\2023

اقامة تماثيل لابطال النتاجات الادبية - ظاهرة طريفة في تاريخ الادب العالمي بشكل عام، وهي ترتبط – مثلا – في ادبنا العربي بنتاجات شعبية واسعة الانتشار، مثل الف ليلة وليلة، وليس بادباء محددين، ومن لا يعرف – بين العراقيين - كهرمانة والاربعين حرامي في قلب بغداد، او شهرزاد وهي تروي حكاياتها المثيرة لشهريار، ولكن هذه الظاهرة (اي المرتبطة بنتاجات ادباء محددين بالذات) لا توجد – حسب علمنا المتواضع - في ادبنا العربي، وهي نادرة جدا في تاريخ الادب العالمي بشكل عام، وتاريخ الادب الروسي خصوصا، اذ اننا نجدها هنا وهناك بعض الاحيان ليس الا، فيوجد مثلا تمثال شهير لبوشكين في روسيا وهو يجلس على مصطبة وينظر بتأمّل وهدوء واعجاب الى بطل روايته الشعرية المعروفة يفغيني اونيغين، الذي يقف – وبغرور - ليس بعيدا عنه، وهناك ايضا تمثالان (وليس تمثالا واحدا !) في مدينة بطرسبورغ لقصة غوغول الطويلة - (الانف)، وتوجد كذلك تماثيل مصغّرة (وفي غاية الجمال والاتقان) لابطال النتاجات الادبية على قواعد تماثيل بعض الادباء الروس الكبار، مثل تمثال غريبويديف الضخم في موسكو(لابطال مسرحيته الشعرية المعروفة – ذو العقل يشقى، او المصيبة من العقل حسب الترجمة الحرفية)، او تمثال غوغول (تم افتتاحه عام 1909 في الامبراطورية الروسية بمناسبة مرور قرن على ميلاد الكاتب)، والذي نقلوه من مكانه الاصلي،وهو يقف الان امام متحفه بموسكو (لابطال مسرحيته الشهيرة – المفتش) ...الخ..الخ، ولكن تماثيل ابطال قصص تشيخوف في روسيا اصبحت عديدة ومستقلة بحد ذاتها ولا ترتبط بتماثيل تشيخوف الشخصية بتاتا، وهي منتشرة في عدة مدن روسية، وتعني هذه الظاهرة - بلا شك - شعبية هذه القصص الواسعة، وتقبّل القراء الروس لابطال تلك القصص لدرجة، ان هذه التماثيل اصبحت تجسّد ظاهرة واضحة ومتكاملة وملموسة ومقبولة جدا في الحياة الثقافية الروسية المعاصرة، ويتعاطف معها جمهور كبير من المشاهدين والمعجبين، بل واصبحت تمتلك حتى بعض (التقاليد!) المحددة والطريفة، مثلا، ان لمسها باليد يعني ان ذلك اللمس يمنح للشخص التفاؤل بالنجاح والتوفيق في اداء مهمته، التي يتوّجه لتنفيذها (وخصوصا يقومون بلمس تلك التماثيل الطلبة الروس قبل اداء الامتحانات بالاساس !!!) ....الخ...الخ .

نحاول في مقالتنا هذه التحدّث للقارئ العربي عن هذه الظاهرة الغريبة، والفريدة فعلا، ونحاول ان نتوقف قليلا عند تلك التماثيل الجميلة، التي ترتبط بابطال قصص تشيخوف، اذ ان تلك التماثيل تعدّ حقا علامة حقيقية مادية محددة لشهرة تشيخوف وابداعه بين الاوساط الشعبية الروسية، والتي تؤكّد الحقيقة الكبيرة عن تشيخوف، وكيف انه اصبح يقف الان - وبكل جدارة - جنبا لجنب مع تولستوي ودستويفسكي، اذ ان هؤلاء الثلاثة يجسّدون الادب الروسي بكل عظمته محليّا (اي في روسيا نفسها)، ويعتبرون رمزا رائعا لهذا الادب العملاق في كل بلدان العالم ايضا .

  توجد لقصة تشيخوف الشهيرة (السيدة ذات الكلب الصغير)، مثلا، عدة تماثيل في مدن روسيّة مختلفة، واول هذه التماثيل - النصب الطريف والفريد من نوعه في مدينة يالطا، والذي اصبح الان (مرادفا!) لبطلي تلك القصة وهما يقفان (دون منصّة) على ارض شارع في مركز تلك المدينة، حيث يتكأ البطل على حافة سياج، وتقف السيدة مع كلبها الصغير غير بعيدة عنه، ومن الواضح تماما، ان النحّات درس نص القصة بعمق، وحاول التعبير عن جوهرها بعمله النحتي هذا، اذ انه جسّد بطل القصة (وهو محاكاة لتشيخوف نفسه) ويقف حائرا ومتأمّلا، ولكن قريب من البطلة، أما هي، فقد جسّدها واقفة مع كل ماضيها (ملابسها الجميلة وتسريحتها وكلبها الصغير)، ولكنها لا تستطيع ان تنطلق مع حبها الحقيقي، اذ انها لا تستطيع الانفصال عن ماضيها، ويقف هذا النصب غير الاعتيادي في شارع عام وبين الناس الذين يعبرونه (كل حسب جهته)، وحتى مكان النصب تم اختياره بدقة ورمزية واضحة، اذ انه يذكّر الناس كافة، ان الحب الحقيقي والمتأخر يقف في طريق عبورهم الابدي بين جوانب الحياة، وهم لايستطيعون (التوقف عنده !) ولايستطيعون – في نفس الوقت - عدم رؤيته والاحساس به . وقد اقيم هذا التمثال الجميل في المدينة، التي جرت فيها بداية احداث تلك القصة، وهي القصة التي اعتبرها نابوكوف (وهو على حق من وجهة نظرنا) واحدة من أهم القصص في الادب العالمي عموما، وليس في الادب الروسي وحسب . التماثيل الاخرى، المرتبطة بهذه القصة تقع في مدن روسية اخرى، وتجسّد بطلة تلك القصة وحدها مع كلبها الصغير، فهي تقف مثلا في الشارع المحاذي للبحر في مدينة غيلينجيك على البحر الاسود في ساحة صغيرة قائمة بين الاشجار والزهور، وهو تمثال في غاية الرشاقة والجمال، وفي مدينة ليبتسك تقف تلك السيدة وكلبها الصغير في مدخل مسرح الدراما، وهناك تمثال جميل آخر لهذه القصة في مدينة آستراخان، حيث تقف السيدة حزينة وجنبها كلبها الصغير . القصة الاخرى لتشيخوف، والتي اقيم لها تمثالين، هي قصة (البدين والنحيف، والتي كتبها تشيخوف عندما كان طالبا يدرس الطب !)، اذ يوجد تمثال في مدينة تاغنروك (المدينة التي ولد فيها تشيخوف) يجسّد النحيف منحنيا وزوجته وطفله خلفه من جهة ويقف امامهم صديق طفولته البدين، اما التمثال الثاني لهذه القصة، ففي مدينة يوجنوسخالينسك، حيث يقف البدين وامامه النحيف مرتعدا، ويمكن القول ايضا عن هذين التمثاليين، ان النحّاتين حاولا – وبعمق – التعبير عن الجوهر الحياتي العميق في تلك القصة القصيرة، اذ رسم فيها تشيخوف رعب الانسان البائس من الوقوف امام انسان آخر يعلوه في المناصب، بغض النظر عن علاقاتهما القديمة عندما كانا يدرسان في المدرسة معا، وصداقتهما الحقيقية آنذاك، وكم قابلنا في مسيرة حياتنا مثل تلك النماذج الجبانة، التي كانت ترتعد خوفا وهلعا امام هؤلاء الذين يشغلون مناصب عليا !

هناك تماثيل اخرى لقصص تشيخوف لا يسمح المجال للتوقف عندها، مثل قصته الشهيرة بعنوان (كاشتانكا)، وهي القصة التي لازال القراء الصغار والكبار ايضا (يلتهمونها !) لحد الان، القصة التي كتب ايرنبورغ عنها مرة، انه لا ينسى، ان والدته قالت له في طفولته بجزع وحزن حول وفاة تشيخوف – لقد مات مؤلف قصة كاشتانكا، وهناك تمثال لقصة (انسان في علبة)، و..و..و...

تماثيل ابطال قصص تشيخوف تشغل الان المكان الاول بين الادباء الروس، وهي ظاهرة فريدة تؤكّد ان تشيخوف لازال يتعايش – وبشكل حيويّ - مع الحياة الروسية لحد الآن، رغم انه رحل عام 1904 في الامبراطورية الروسية، ورغم التغيّرات الاجتماعية والسياسية الجذرية الهائلة، التي مرّت بها روسيا بعد رحيله ...

***

أ.د. ضياء نافع

تطرق المفكر الاستراتيجي والطبيب الكويتي المعروف جاسم سلطان صاحب مشروع النهضة في إحدى مقالاته إلى التصورات الخاطئة لمفهوم العبادة وذكر قصة صديق له مقبل على التقاعد فسأله عن خطته ما بعد التقاعد ؟ فقال له: سأتفرغ للعبادة فقال له جاسم سلطان ولكنك حججت واعتمرت مرات وأنت على التزام فقال له صديقه: مزيدا من العبادات..

وهنا أشار  لهذه التصورات الخاطئة لدى كثير من المسلمين فيما يخص هذه الثلاثية: الجانب الإيماني والجانب العبادي والجانب العمراني..

وقد عشت نفس قصة صديق جاسم سلطان عندما نشرت على صفحتي في الفيسبوك منشورا يتحدث عن الاهتمامات المستقبلية لحظتئذ رد علي شخص متقاعد وقال لي: تفرغ للعبادة واتركك من هذه الانشغالات الكتابية فكان هذا التصور الخاطئ للعبادة هو من الأسباب الكبرى في التخلف الحضاري وعدم انطلاق أمتنا نحو التقدم والرقي والريادة فالمسلم الحق الواعي لدينه وقيمه يعرف بأن هذه الثلاثية متكاملة لا يمكن أن نفصل جانبا منها فالتسلح بالإيمان وعبادة الله بمفهومها الشامل وعمارة الأرض ونفع الخلق من تمام الفهم الصحيح للدين  وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله العبادة تعريفا شاملا واعيا حيث قال:" العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضاء بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادات لله"

لهذا أخي المسلم لتضع نصب عينيك أن ثمار الإيمان ونتائج قيامك بالشعائر التعبدية هو أن تعمر الأرض وتترك أثرا طيبا يفيدك ويفيد اسرتك وأمتك بل الإنسانية جمعاء ولا نهوض لنا من تخلفنا إلا بالفهم الصحيح الواعي المتبصر بتكامل الجوانب الثلاثة من إيمان وعبادة وعمران وإلا سنبقى نعيش هذه الانفصامية والسلبية والخروج من دائرة التأثير ومنافسة الكبار  سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

مثل أيّ طفل لحوح.. كثير الأسئلة.. كنت أسأل جدتي على مائدة الإفطار: لماذا لا نأكل الطعام البائت؟!..

تقول: لأن جدّك كان أسداً ضرغاماً وهزبراً ضيغماً وقسوراً لا يأكل غير ما يصطاده من البرّ ..

قلت: وأين تودون بطعام البارحة؟!..

تقول: نرمي به إلى الماشية والقطط والكلاب..

- لماذا لم تعطوه إلى الفقراء؟!..

- كان جدك لا يلبس خادماً سملاً، ولا يكسي فقيرا بالي الثياب.. كان يشتري لهم الجديد في كل عيد..

- وأين يودي جدي بثيابه العتيقة المتهالكة الغسيل؟!..

- كان جدك يعتز بثيابه العتيقة ؛ لأن فيها رائحة أبيه وأجداده.. كانت ملابسه لا يتغيّر لونها.. كان يرتدي الثياب البيضاء، والثياب البيضاء لن يتبدل لونها ؛ لا كحال الثياب الملونة التي يستهلك ألوانها تكرار الغسيل..

- عندما مات جدي أين اوديتم بثيابه تلك؟..

- مازالت في خزانته القديمة تلك التي في غرفة أشيائنا القديمة..

- لماذا في الخزانة ولم يستعملها والدي؟..

- لقد ذاب أبوك مع الشباب الأربعيني من القرن الماضي في مشروع (مصطفى كمال أتترك) ولم ترق له تلك الثياب .. فقد استبدلها بالسدارة التركية والبدلة الغربية وربطة العنق، ولم يفتح خزانة ثياب جدك..

- لماذا لا تهدون خزانة ثياب جدي إلى متحف الفلكلور الشعبي في مدينتنا؟..

- لم نستطع أن نفعل هذا .. رغم حسن مقترحك هذا..

لأن جدك ترك لنا وصيّةً جاء فيها:

احفظوا ثيابي لحفيدي ..

***

رعد الدخيلي

قراءة في أحمديات الشاعر فواز مصطفى الحمفيش

يبدو أنني لم التقيه بشكل مباشر، حتى الآن، رغم قربي من شعراء وأدباء الديرة. ولكنني مع ذلك، اعرف عن تجربته الشعرية الشيء الكثير، من خلال متابعتي لما ينشره من قصائد، ومن خلال ما يتداوله عنه شعراء وأدباء الديرة من حكايات ..وها هو قد بادر مشكورا، بإهدائي نسخة من مجموعته الشعرية (الاحمديات)، بطبعتها الأولى للعام ٢٠٢٣، الصادرة عن مطبعة نركال بالموصل، والتي تتكون من (١٣٤) صفحة،  وتضم (إحدى وخمسين) قصيدة.. جاءت بتصدير رائع، من قبل الكاتب القدير، الأستاذ علي البوزدون .

وما أن تصفحتها بلهف، حتى وقع نظري على هذا البيت الجميل، الذي يقول فيه:

شعري جراحي وسكين بخاصرتي

وحشرجات تبارت كيف تحتضر

حتى كتبت له عبارة امتنان قصيرة بهذا المضمون، (موجع نظمك شاعر الوجع فواز الحمفيش ..فانثيالتك الشعرية الشجية، ماهي إلا خلاصة معاناة مأساوية مع الذات، ومع الموضوع، استولدت تلك الاحمديات الإبداعية المتوهجة..شكرا بحجم الكون لهذه الهدية الكريمة..ودام حسك مرهفا نابضا بالابداع والتوهج)..

وما أن أبحرت في قراءة قصائده العصماء، حتى وجدتني منشدا لها بحماس، وإعجاب لا يوصف، لبلاغة مضامينها، وشاعرية نظمها الجياشة الحس الصادق للشاعر في نظمها، حيث يلاحظ ميل الشاعر الى التركيز على استخدام المفردة التوجدية في نظمه، بكل تجلياتها المفعمة بكل معاني الحب، والشوق، التي يكنها الشاعر للذات النبوية للرسول الكريم، في ثنايا القصيدة بشكل بائن، فتراه يفيض شوقا خالصا في جوانحه، مما يجعل سمة المجموعة منصبة على مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فتجده على سبيل المثال، يقول في قصيدته العصماء (وبدت بغيرك ضمرا وعواقرا):

ما ضل من يرجوك ياخير الورى

لظلام هذا الدرب نورا نيرا

اشكو إليك وانت أهل نجية

يا سيدي المختار أدرك حائرا

ولعل من نافلة القول الاشارة الى ان حب النبي محمدا صلى الله عليه وسلم قد تأصل في قلوب المؤمنين من أمته، وترسخ في ذواتهم، حتى تجلى بوضوح في نظمهم مدحا، وتغنيا بمناقبه الجليلة، التي خصه الله تعالى بها بقوله(وانك لعلى خلق عظيم) في سياق وجدهم اليه، وبما يشبه المعجزة المستمرة لهذا النبي الكريم الى ان يرث الله الأرض ومن عليها.

 وبهذا الأسلوبية الرصينة من النظم، والبلاغة المقتدرة في توظيف مفردات المدح، وصياغة ألفاظ الاطراء ابداعيا في قصيده، قد نجح في محاكاة مدّاحي الرسول الكريم، اصحاب قصيدة البردة ونهجها من الرعيل الأول، ومن تلاهم بجدارة، واقتفى اثرهم، ليصطف بجوارهم لجدارة، في واحة الإبداع، وليوظب نظمه لقصائده بجنب برداتهم في ذات الخانة، رغم صعوبة محاكاة نتاجاتهم الإبداعية في مدح الرسول ببرداتهم، حيث كانت يعيشون وهج إشعاع النبوة، وحقبة بلاغة العربية الفصحى، يوم ذاك .

كما يلاحظ أن سمة الوجع تطغى على قصائده، باعتبارها انعكاسا صادقا لمعاناته الذاتية، ولتجليات ظروف النشأة، والحنان إلى الديار والأهل، وألربع، طيلة المدة التي قضاها في الأسر، حيث يقول في قصيدته (هذا نصيبك):

هي النوازل ما شاءت وما رغبت

نحن الضحايا وكف الدهر جزار

تغفو الجراح على صدري فيوقظها

جرح جديد إلى الآلام عبار

 لتعكس عمق جذورها الضاربة عنده، في الأصالة وعمق الإنتماء، لتظل هاجس وجد جياش، في مخيال الشاعر المبدع، وسيد الحرف الرشيق، الأديب الاريب، والشاعر الكبير فواز مصطفى الحمفيش، الذي طالما ألفناه يترنم دوماً، بأصالة الذات، أهلاً، وربعا، وديرة، ومكانا، وانتماء..

وختاما اقول، يظل لشعر فواز، نكهة خاصة، بما يحمله في روحه، من نقاء أهل الريف، وصدق طويتهم، وبساطتهم، وفطنتهم، ورقة مشاعرهم.

***

نايف عبوش

رغم التباين بين الشخصيتين فكل واحد منهما أخذ مساره الفكري والإيديولوجي ألا أن ثمة احترام وتقدير بينهما فكان نجيب محفوظ وفيا لسيد قطب فكان يتذكر أنه أهم من كتب عنه ولفت النظر إليه وتحمس لكتابته عندما كتب سيد أول مقال نقدي عن رواية " كفاح طيبة " الصادرة سنة 1944 فلم ينس نحيب محفوظ هذه الالتفاتة رحمهما الله و غفر لهما ...

ويوضح لنا الكاتب " محمد سيد بركة" هذه العلاقة التي جمعتهما فيقول: "كما كان سيد قطب من أوائل الذين قدموا نجيب محفوظ للقراء منذ أكثر من ستين سنة، فسيد قطب هو الذى أعطى نجيب محفوظ شهادة ميلاده كروائى، وروائى عالمى، وهذا ما كان يتذكره نجيب محفوظ دائما بوفاء وامتنان حيث قال ذات مرة : لم يكن أحد يعبرنا، وكان أول من كتب عني سيّد قطب، وبعد ذلك أنور المعدّاوي .. لأنهما أدباء شبان لديهم شيء جديد، وأنا أيضا كنت شابا ولدي الجديد .

ويقول محفوظ في مذكراته الصادرة عن دار الشروق: سيد قطب هو أول ناقد أدبي التفت إلي أعمالي وكتب عنها، وكان ذلك في الأربعينيات، وتعرفت عليه في ذلك الوقت حيث كان يجيء بانتظام للجلوس معنا في كازينو أوبرا.. كانت العلاقة التي تربطنا أدبية أكثر منها إنسانية."

لكن رحلة سيد قطب رحمه الله إلى أمريكا عام 1948في بعثة من وزارة المعارف للتخصص في التربية و أصول المناهج  فتحت عينيه على حقائق جديدة غيرت بوصلة اهتماماته من الكتابة النقدية والأدبية إلى الاهتمام بقضايا الفكر والتغيير الاجتماعي لم يكمل الدراسة في أمريكا  وبعد التحاقه بالإخوان المسلمين دخل في صراع مع السلطة فعرف السجون و المعتقلات وانتهت حياته بالإعدام ...

بينما نجيب محفوظ تفرغ للادب والرواية خاصة و أعطاهما جل وقته واهتماماته ولم ينشغل بالسياسة والانضمام للأحزاب حتى لا تشغله عما يستطيع أن يترك فيه بصمته فالاشتغال بالسياسة والانخراط في الأحزاب مضرة للمبدعين فما أحلى و اجمل أن يغرد الكاتب خارج سرب الإيدبولوجيا و الحزبية حتى يترك للإنسانية ما ينفع ويفيد !..

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي 

......................

المرجع:

1- محمد سيد بركة، نجيب محفوظ عندما رد تحية سيد قطب بالتي هي أسوا، رابطة أدباء الشام.

الغوغولي – نسبة الى اسم الكاتب الروسي نيقولاي غوغول، و نعني به في مقالتنا هذه الشخص الذي ساهم باي شكل من الاشكال بنشر مؤلفات غوغول بالعربية او الكتابة عنه، وواقعيا، فان كل المتخصصين العرب في الادب الروسي هم كذلك تقريبا، ولكننا نود ان نتوقف في مقالتنا هذه عند بعض الاسماء، التي تميّزت في هذا المجال، وأصدرت (تأليفا او ترجمة) كتبا لغوغول او حوله بالعربية، ونؤكد، ان اختيار الاسماء هنا هو اجتهاد شخصي بحت من قبلنا، وكأي اجتهاد شخصي، يمكن ان يكون صائبا او غير صائب جزئيا او حتى كليّا، والامر متروك للقراء وآرائهم واجتهاداتهم ايضا، اذ لا يمكن لاي اجتهاد ذاتي ان يكون متكاملا، ومن المؤكد ان هناك اسماء اخرى في هذا المجال لا نعرفها او لم نتذكرها، وسنكون ممتنين لهؤلاء الذين سيذكّروننا بتلك الاسماء. هذا و قد تم ترتيب الاسماء طبعا حسب الحروف الابجدية، والاسماء هي كما يأتي، وسنتوقف عند كل اسم من تلك الاسماء بشكل وجيز، ونتحدّث عن العمل الذي انجزه حول غوغول بالعربية، تأليفا او ترجمة.

الاسماء

- د. تحسين رزاق عزيز – مترجم عراقي قدير عن اللغة الروسية، وقد قدّم للمكتبة العربية أكثر من اربعين كتابا مترجما، ويمكن القول، انه الان واحد من أبرز المترجمين العراقيين عن الروسية. يرتبط د. تحسين رزاق عزيز بغوغول بترجمته لكتاب غوغول – مختارات من مراسلات مع الاصدقاء، الذي أصدرته دار المدى في بغداد هذا العام (2023)، وقد وضع هذا الكتاب النقاط على الحروف (كما يشير التعبير العربي العتيد) بشأن غوغول ومواقفه الفكرية الكبرى حول تقدميته او رجعيته، والتي (تراكمت !!!) في الذهن العربي (وليس فقط العربي) بعد الانتقاد الحاد والمتطرّف ضد الكتاب المذكور، دون الاطلاع عليه ودراسته.

- أ.د. جليل كمال الدين (1930 - 2014) - اسم معروف في مسيرة الثقافة العراقية منذ اواسط القرن العشرين، وقد كتبت عنه عند رحيله مقالة بعنوان – وداعا ايها العبقري الذي لم يعرف قدر نفسه، وذكرت في تلك المقالة مجموعة من المواضيع، التي يقتضي الكتابة عنها، ومنها موضوع بعنوان – جليل كمال الدين وغوغول، اذ نشرت له دور النشر السوفيتية عندما كان طالب دراسات عليا في جامعة موسكو عدة كتب مترجمة عن الروسية، ومن ضمنها كتاب يتضمن قصصا طويلة لغوغول، وهي قصص مشهورة له، ومن بينها قصة (المعطف)، التي كانت ولازالت لحد الان مادة يتناولها النقد الادبي الروسي والعالمي، وتعدّ هذه الترجمة واحدة من أفضل الترجمات العربية العديدة جدا لتلك القصة الشهيرة. هذا، وقد أعاد د.جليل كمال الدين نشر الكتاب المذكور في بغداد بعد أكثر من عشر سنوات على اصداره في موسكو.

- غائب طعمه فرمان (1927 – 1990) – شيخ المترجمين العراقيين للادب الروسي في القرن العشرين بلا منازع، ويرتبط اسمه طبعا بغوغول، اذ انه ترجم او راجع ترجمة مؤلفات غوغول الرئيسية من قصص ومسرحيات وروايته الكبيرة (الارواح الميتة) والتي جاءت عند غائب بعنوانها الذي استقر اخيرا باللغة العربية، وهو (الانفس الميتة)، وقد صدرت كل تلك الكتب بموسكو من قبل دور النشر السوفيتية آنذاك، ولا زالت تصدر بطبعات جديدة في بغداد. غوغول بترجمة غائب طعمه فرمان – موضوع واضح المعالم لاطاريح الماجستير والدكتوراه في اقسام اللغة الروسية وآدابها في الجامعات العربية كافة، وهو ما سيحدث في المستقبل حسب وجهة نظرنا، فغائب طعمه فرمان شخصية ثقافية مهمة في مسيرة الثقافة العربية، وفي تاريخ الترجمة الادبية بالذات.

- أ.د. محمد يونس (1937 - 2009) – اسم كبير في تاريخ قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، وساهم بنشاط ملحوظ في حركة الترجمة والتاليف من موقعه الاكاديمي، وهو يعدّ الان واحدا من الاسماء البارزة في مجال العلاقات الثقافية العربية – الروسية. يرتبط اسم د. محمد يونس بغوغول ارتباطا وثيقا، اذ انه العراقي المتخصص الوحيد بيننا، الذي اصدر كتابا كاملا عن حياة غوغول وابداعه ضمن سلسلة (اعلام الفكر العالمي) في بيروت، واعيد طبع هذا الكتاب لاحقا. يتميّز كتاب د.محمد يونس في كونه يعرض وجهة النظر السوفيتية حول غوغول، والتي كان مقتنعا بها قناعة تامة، وفي هذا الجانب بالذات تكمن الاهمية التاريخية لهذا الكتاب.

- د. منذر ملا كاظم - أحد التدريسيين النشطين حاليا في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد، والذي اسميناه في احدى مقالاتنا – مؤرشف الادب الروسي في العراق، وهو يستحقها فعلا. يرتبط اسم د. منذر بغوغول في كونه المتخصص العراقي الوحيد، الذي أصدر بالروسية كتابا عن غوغول، وقد صدر هذا الكتاب ضمن منشورات جامعة فارونش الحكومية الروسية، وهي الجامعة التي حصل فيها د. منذر على درجة الدكتوراه في الادب الروسي حول غوغول، علما انه كان (غوغوليا !) ايضا عندما حصل على درجة الماجستير في جامعة بغداد. مساهمات د. منذر ملا كاظم الواسعة في مجال نشر الادب الروسي عموما تستحق التقدير والاشادة والثناء .....

***

أ.د. ضياء نافع

عودنا الروائي القدير الأستاذ صادق الجمل على رواياته العميقة بالفكر والمعنى والتي تأخذنا إلى استذكار الواقع في مجموعة مشاهد واقعية مُزجت ببعض الخيال من عالمنا الكبير.

 وانا اقرأ روايته (الدفتر الأصفر) ذكرتني إحداثها بالصحافة الصفراء التي انتشرت سنة (1896) حيث كانت لا تقدم أخبارها بمهنية وشفافية وتداهن الحقائق وتعطيها طابع التشويه والبعثرة، وهي تعمل على استفزاز المشاهير وغيرهم من ذوي المال، وتلك الأساليب التي استخدمت وقتها في منافسة كبيرة بين صحيفتين من الصحف الأمريكية في نيويورك، وهما نيويورك وورلد و جورنال.

والدفتر الأصفر اليوم يعود لبطل الرواية (صكبان) شخص لا يقرا ولا يكتب لكن بالدهاء والمكر والحيلة امتلك ثروة لا تعد ولا تحصى، وانه ليس من الصعب أو الخطأ ان يمتلك الأنسان المال لا يمتلك شهادة، وإنما الخطأ يكمن في الطريقة التي يدمر بها الأنسان نفسه ومجتمعه حتى يحصل على المال وبعدها تكون زمام الأمور بيده.

لقد استطاع (صكبان) ان يكون مجموعة من أصحاب المصلحة الذين لا يهتمون سوى بالتمرد على المجتمع وبمساعدة صديقة (الأعور) الذي كان يحدثه عن تجارب الزعماء.. وامه التي تساعده على ذلك، دون في دفتره كل شيء وكان يضع الخطوط العريضة لمن يريد التخلص منهم أو السيطرة عليهم، وازدادت ثقته بنفسه يوما بعد يوم كما ذكر في (الدفتر الأصفر) حتى تمكن من الحصول على ثقة رئيس الشركة الكبيرة وزوجته (نجلاء) وحل محلهما.

فالرواية اعزائي القراء لا تكون عظيمة حقا إلا حين تضرب بدورها إلى مدى واسع عميق في الأشياء التي تتعلق بنا كالصراعات الإنسانية. وهذا مع سعى إليه الكاتب الجمل في صفحات روايته. حيث اتصف عمله الأخير هذا (الدفتر الأصفر) كما اتصفت أعماله السابقة كرواية( الآنسة, وسفينة نوح الفضائية) بالجدية والعمق وبالطرافة والجمال باستخدامه الملكة الكتابية المتقنة والإبحار في خبايا النفس البشرية؛ لمعرفة تفاصيلها ودوافعها وكشف الخبايا التي لا ترى، وبعض التناقضات التي لا تحس بشكل مباشر،  وتمر الأحداث في الرواية كأنها خيال ثم تجدها واقع مرير يصف به حال البعض.

ان (الدفتر الأصفر) من الروايات التي تعتمد على الحديث الداخلي والنقاشات الفكرية الطويلة، ويمكن ان تكون عمل درامي يغطي جزء كبير من الواقع الحالي، لما فيها من تفسير لما يحدث داخل النفوس البشرية من مشاعر وهواجس وما يترتب عليها من أفعال.

في الخاتمة كان هناك فسحة من الأمل حين قال" اجتاحت جوانحهم سكينة عجيبة وسعادة غامرة، رغم النيران والدخان والخراب، خطب بهم الفتى: اطفوا النار بالتراب فمنه البدء واليه المآب، هذه شركتنا أنها ملك الجميع هيا هبوا نرمم ما افسده الطغاة.

***

كتبت: رنا خالد

الاشتغال بالكتابة ليس أمرا هينا بل هو مسؤولية كبرى ملقاة على عاتق الكاتب الذي يفقه كنه رسالته الوجودية فالكلمة التي يكتبها سلاح ذو حدين إما ينفع وإما يضر ويقتل لهذا الكتاب العظماء عبر التاريخ الذين خلدتهم الإنسانية ونقشت أسماءهم في سجل الخالدين هم الذين تجاوزوا فكرة القبيلة والإيديولوجية وعانقوا أشواق الإنسان وتوقه إلى التحرر من العبودية فعبروا عن معاناته وسجلوا عذاباته وانكساراته وخيباته فكانت كتابتهم كونية عالمية وحتى وإن انبثقت من بيئة خاصة محلية والأعمال الأدبية العظيمة الدالة على ذلك كثيرة منها رواية  كوخ العم توم أو حياة التواضع (بالإنجليزية: Uncle Tom's Cabin; or, Life Among the Lowly) روايةٌ للكاتبة الأمريكية هيريت بيتشر ستو، تدور حول مكافحة العبودية، وطرح معاناة الأمريكيين الأفارقة. نُشرت الرواية في عام 1852ويُقال إنها ساعدت في وضع الأساس لـ«‌الحرب الأهليّة الأمريكيّة» ورواية الحرب والسلام – ليو تولستوي 1867 وهي رواية ضخمة

" تدور أحداث الرواية التي دمج تولستوي فيها شخصيات عديدة، رئيسية وثانوية، تاريخية وأخرى خيالية، ابتدعها تولستوي نفسه. وتعطي صورة واسعة وموضحة لحياة الترف التي عاشتها طبقة النبلاء في روسيا في عهد الحكم القيصري. هناك من يعتقد بان الشخصيات الرئيسية كبيير بزوكوب والأمير أندري تمثل أوجه مختلفة في شخصية تولستوي نفسه" (1) ولا نسنطع أن نسرد كل الأعمال الأدبية الخالدة التي مازالت تحقق أرقاما قياسية في الإقبال عليها ..

بينما اصحاب الأدب الدوني والكتابة الدونية صناع التفاهة محاربو القيم والأخلاق المعقدون نفسيا المنغلقون على أنفسهم يدعون بأن الكتابة الحقة هي الكتابة التي تتناول مسائل الجنس والإباحية والتحرر  فالفن غايته الفن والجمال بعيدا عن هداية الدين والأعراف والمبادئ السامية هؤلاء اصحاب الكتابة الدونية لن تجد لهم قراء يحتضنون كتاباتهم ولن ينالوا جوائز عالمية فمن يقرأهم من الغرب وهم يصدرون الأشياء  التي غرق فيها الغرب وسئم منها؟..

كان بإمكان هؤلاء الكتاب الذين ضلوا وأضلوا أن يتخذوا من عادات وتقاليد وطنهم من تويزة وأعمال اجتماعية متنوعة تصور الوجه المشرق للإنسانية المتضامنة المتسامحة المتلاحمة فالكونية والعالمية تنطلق من البيئة المحلية وهكذا نستطيع أن نعرف الآخر بما عندنا من موروث حضاري عظيم ...

وانا على يقين أن الذي ينفع ويخلده التاريخ هو كتابة القيم والمبادئ الإنسانية التي تتجاوز الإيديولوجيات أي الكتابة الكونية  بينما كتابة الجنس ومحاربة قيم الأمة هي كتابة دونية مصيرها النسيان واصحابها يلعقون الصبر (بكسر الباء (2) ويذوقون مرارة الخيبة والفشل والتجاهل.

***

الكاتب الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

.......................

المرجع:

1- وكيبيديا.

2- التي تعني عصارة شجر مرٍّ .

مايا هنود امريكا الوسطى  سكنو ا ارضا في جنوب المكسيك وغواتيمالا وشمال بيليز في اوائل القرن الحادي والعشرين الميلادي كان يتحدث حوالي خمسة ملايين شخص ثلاثين لغة من لغات المايا. امتلك المايا واحدة من ا عظم الحضارات في نصف الكرة الغربي:

فلقد مارسوا الزراعة وقاموا ببناء المباني الحجرية العظيمة والمعابد الهرمية وعملوا في الذهب والنحاس واستخدموا نوعا من انواع الكتابة الهيروغليقبة والتي فكت رموزها الى حد كبير وعلى عكس السكان الاصليين المتناثرين في امريكا الوسطى تمركز المايا في كتلة جغرافية واحدة تغطي كل شبه جزيرة يوكاتان وغواتيمالا والجزء الغربي من هندوراس والسلفادور واظهرت هذه الجغرافية ان شعوب المايا ظلت امة امنة نسبيا من غزو شعوب امريكا الوسطى. وصلت حضارة المايا الى ذروتها خلال الالفية الاولى قبل الميلاد ولازال من الممكن رؤية اطلال مايا عبر امريكا الوسطى فلم تكن حضارة المايا موحدة بدلا من ذلك كانت  تتالف من من العديد من الولاايات الصغيرة كل منها تتمحور حول مدينة يحمها ملك وكانت شعوب المايا تعيش على الصيد وجمع الثمار وبدات حياة القرية الدائمة عندما بداؤا بزراعة الذرة وما يسميه غلماء الاثار فترة ما قبل العصر الكلاسيكي 1800 - 2500 -قبل الميلاد.

2- ديانة المايا وطقوسها:

منذ ان عبد المايا الكثير من الالهة كانت طقوسهم وتقاليدهم الدينية متكررة غالبا ما كان الدم جزءا من طقوس المايا هذه واحينا يتم ممارستها عن طريق اراقة الدماء والتضحية بالحيوان او الانسان وجنازات المايا كانت تتضمن حرق الجثث ودفنها وتتضمن ايضا الرقص والازياء الجميلة والمتقنة على امل جذب انتباه اله معين وهذه ثلاثة طقوس والتي كانت شعوب المايا تمارسها:

1- التضحية البشرية لم تكن  التضحية البشرية من الطقوس الشائعة لشعوب المايا ولكن كان يتم ممارستها في اوقات الحرب او في ذكرى  حدث يغير في حياتهم وكثير من الاحيان كان يستخدم اسرى الحرب كذبيحة ويقتلون الضحية بثلاثة طرق اما  بازالة قلب الاسير او رميه في البئر او بقطع راسه اعتقادا منهم ان هذه الضحية سترضي اله الحرب ويضمنون انتصارهم العسكري.

3 - اهرامات المايا:

تشكل اهرامات امريكا الوسطى جزءا بارزا من العمارة القديمة لامريكا الوسط على الرغم من تشابهها في بعض النواحي مع الاهرامات المصرية الاانها كان لها قمما مسطحة للعديد من المعابد واكبرهم في العالم هو هرم - شولولا - في ولاية بوربيلا  في  شرق  وسط المكسيك وقام بناة بعض اهرامات امريكا الوسطى الكلاسيكية بتزينها بقصص عن التواتم والثعبان المصنوع من الريش وايضا كانو يزينونها ببعض نصوص اساطير الخلق في امريكا الوسطى والتضحية الطقسية والى ما ذلك من طقوس مايا الاخرى.

***

سالم الياس مدالو

من الظواهر المميزة للغة العربية، أنك تجد فيها كلمات تذكر وتؤنث فى آن واحد، وكلاهما فصيح وصائب، لأن كلتا الحالتين موروث عن العرب. والسبب فى ذلك هو اختلاف اللهجات فى التعامل مع الكلمة، فترى لهجة قبيلة تذكر كلمة، بينما نفس الكلمة فى لهجة قبيلة أخرى تعاملها من منظورها اللغوى وما اتفقت عليه الجماعة اللغوية، معاملة المؤنث.

من هنا فإننا نجد بعض الكلمات تذكر وتؤنث فى آن واحد. وأبعد ما يكون فى سبب تلك الظاهرة أن نخطىء ونذهب إلى أن من أسبابها وقوع اللحن اللسانى، خاصة ممن دخلوا الإسلام وهم ليسوا من العرب. لأن العربية لا تقر لحنا ولا تعتمد انحرافا، كما أن هذه الظاهرة هى ناشئة فى العربية قبل الإسلام.

ومن هذه الكلمات التى تعامل معاملة المذكر والمؤنث فى آن واحد، نجد:

طريق: فنقول هذا الطريق، وهذه الطريق

الحال: فنقول هذا الحال، وهذه الحال

إصبع: فتقول هذا الإصبع، وهذه الإصبع

العنق: فنقول هذا العنق، وهذه العنق

الضرس: فنقول هذا الضرس، وهذه الضرس

السن: فنقول هذا السن، وهذه السن

حانوت: فنقول هذا الحانوت، وهذه الحانوت

العضد: فنقول هذا العضد، وهذه العضد

الفأس: فنقول هذا الفأس، وهذه الفأس

دُكـَّان: فنقول هذا الدكان، وهذه الدكان

ومن الكلمات السابقة، نلاحظ:

1 – الكلمات التى تقبل التذكير والتأنيث، تخلو تماما من التاء المعقودة التى تدل على تأنيث الشىء، فلو أن بها تاء معقودة تدل على التأنيث، لانقطع القول بجريان التذكير عليها واقتصرت على التأنيث فقط.

2 – العرب أجرت هذه الظاهرة ليس على الكلمات عربية الأصل فقط، بل أجرت هذه الظاهرة على الكلمات المستعربة أيضا، بعد أن أخضعتها لقواعد التصريف وقواعد اللسان العربى.

3 – كل الكلمات التى تقبل هذه الظاهرة، لا يوجد فيها مؤنث حقيقى يلد أو يبيض، ولا يوجد بها مذكر حقيقى أيضا يكون سببا فى إنجاب أو نسل. ذلك لأن المؤنث الحقيقى لا يقبل إلا التأنيث، وكذلك المذكر الحقيقى لا يقبل إلا التذكير. لذلك فإن كل الكلمات حملت فى داخلها معنى التذكير أو التأنيث على المعنى المعنوى.

4 – الكلمات التى تذكر وتؤنث فى العربية، ممكنة الحصر لقلتها، فهى كلمات قليلة.

5 – لا يجوز التوسع اللسانى فى هذه الظاهرة عما جاءنا عن السابقين، إلا بمسوغ معجمى أو قرار مجمعى. وذلك لعدم الانزلاق فى مغبة الخطأ أو الخلط، المسألة ليست عشوائية أو اعتباطية.

6 – هذه الظاهرة أخذت اهتمام العلماء واللغويين، وأول من انتبه إليها بطبيعة الحال، هم القدماء. لكن من الواضح أن اهتمام المعجميين كان الأبرز، ومنهم الفيروز آبادى والجوهرى.

7 – هذه الظاهرة جرت فى الكلمات الجامدة مثل " فأس ". وجرت فى الكلمات القابلة لتصريف البنية والاشتقاق. إلا أن جريانها فى الكلمات الجامدة أقل بكثير من جريانها فى النوع الآخر.

8 – هذه الظاهرة جرت فى الكلمات ذات الأصول الثلاثية، ولم نجد فيها كلمة ذات أصل رباعى.

***

د. أيمن عيسى - مصر

من فكرة التلوين المفعمة بالأعماق وما دل اليها وعليها تكمن الرغبة في الذهاب عميقا حيث الرسم مجال قول بالشواسع وما يعتمل بها من أحاسيس دالة منها تنشأ العملية الجمالية حيث القماشة وهنا مساحة مفعمة بما تشير اليه الكينونة من خيال وحلم وهواجس هي عين السؤال المقلق والمولد قبالة القماشة وما تقترحه من تفاعل بين الذات والأثر..بين الرسام والمنجز..و هكذا...

من هنا نمضي الى تجربة عملت صاحبتها على المواءمة بين هو فضاء محلوم به للرسم وذات تبدي حيزا من حميميتها في حالة ضاجة بالاحساس وفق شغف تشكيلي يعي العلاقة الوظيفية ضمن فضاء القماشة بين الخطوط والألوان والأشكال من جهة وبين العواطف والمشاعر والأحاسيس كفعل مضاف من ناحية أخرى وصولا الى العمل الفني في نسق به الكثير من التدفق والعمق والصدق..انها لعبة التمازج بين عناصر شتى للمحصلة التي هي العمل الفني بروح من جمالية التعاطي...و التناول.3538 الفنانة سنية

انه الفن في جانب من صلته بالوعي ضمن تجربة جمعت بين الموهبة وما هو علمي أكاديمي ونعني تجربة الفنانة التشكيلية الدكتورة سنية خليفة بن الحاج مبارك التي تنوعت مشاركاتها الثقافية والعلمية فضلا عن التشكيلية من معارض متعددة آخرها المعرض الثنائي " لقاء " برباط سوسة الأثري بولاية سوسة صحبة الفنانة التشكيلية والدكتورة أسيا الكعلي والذي لقي حضورا ومتابعة مميزة من قبل الفنانين وطلبة الفنون الجميلة بسوسة ومن أحباء الفنون التشكيلية بصفة عامة.

و سنية خليفة بن الحاج مبارك، أستاذة مساعدة للتعليم العالي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة، وفنانة تشكيلية محترفة متحصّلة على شهادة الأستاذية في الفنون التشكيلية اختصاص رسم وشهادة الماجستير في جماليات وممارسات الفنون المرئية " من المعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة، وشهادة الدكتوراه في العلوم الثقافية اختصاص " مسرح وفنون العرض" من المعهد العالي للفن المسرحي بتونس.و تتراوح مسيرتها العلمية والفنية بين البحث الأكاديمي حيث أنّ لها عدة مشاركات في ندوات علمية وطنية ودولية، وبين ممارسة فن الرسم حيث أنها عضوة في اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وعرضت مع نقابة الفنون التشكيلية والرابطة التونسية للفنون التشكيلية، كما كانت لها جملة من المعارض الشخصيّة ومشاركات في عدة معارض جماعية وثنائية منذ سنة 2004.

تعتمد في جلّ رسوماتها تقنية الرسم الزيتي ولها عدّة أعمال تستعمل فيها التقنيات المجمّعة لدمجها وتحقيق ملامس مختلفة في محاولة للذهاب بعيدا باللون والمادة والولوج إلى دواخلهما...و عن مجال اشتغالها الجمالي تقول "...عمليّة الرسم هي خاضعة بالضرورة لجدليّة التداخل والتخارج، تجربة الرّسم هي المرآة العاكســة والمجمّعة لجملة من الانفعالات، والأحاسيس يضاف إليها جدوى اختيار التقنية المستعملة،فتعاملي مع المادة اللونية والملمسيّة يكــون باعتماد التقنيات الأكثر مواءمة لبث الهـــمّ التشكيلـــي وتوصيل جلّ الهواجس والأفكار، هي عمليّة تخريج لما يسكنني ويرجّني.مغامرة الرّسم هي دائما ما تكون رحلة مضنية في البحث والنبش في الداخل، فاللوحة التشكيليّة أو عالم اللوحة التشكيليّة، هو مزيج بين عالم الفنـــان وعالم القماشـــة المرسومة، ويعني هذا أنّ تعاملي مع فضاء اللوحة هو تعامل لا يخلو من حميميّة وحدسيّة، إنّه المكان الحاضن والمازج بين الخطوط والألوان والأشكال وأيضا بين المشاعر والأحاسيس الأكثر تدفقا وعمقا...".

هكذا هي في رؤيتها الفنية التي تواصل القول بشانها "...إنّ المحمول الجمالي هو بالضرورة ذاتيّ، فهو نابع من عمق أعماق الروح.إنّ رسوماتي ما هي إلا مراحل ومسافات أقطعها في مراوحة بين الذاتي والموضوعي، فبالإضافة إلى الهواجس الذاتية، يستفزني واقع الأشياء، إذ يمثل بالنسبة لي حقلا خصيبا أستقي منه موضوعاتي وتيماتي، ولكن بمنظور يستجيب للواقع الجمالي والدّلالي الذي أرنو إليه.التجربة التشكيليّة الذاتيّة هي جدليّة تخضع بالضرورة للقيود الموضوعيّة، فتجسيم لون أو شكل أو خط، أو إحداث كتلة، هو يعود لعوامل ذاتيّة وأخرى موضوعيّة.إنّي أميل في اختيار الألوان الأكثر شفافيّة والخطوط الأكثر مرونة وحركيّة وانسيابيّة، بحثا عن الحرية والإطلاقيّة، وقد يلعب عامل الصدفة في تجربتي دورا هامّا، فقد يحصل في عمليّة سكب الألوان وما يرافقها من عنف وحركيّة الحصول على مؤثرات لونيّة وملمسيّة ما كنت أقصد تجسيمها منذ البدء، فتحصل هنا عملية المزج بين القصديّة والعفويّة،حيث أنّ تحصّلي على مؤثر لوني أو كتلة ملمسيّة معيّنة يجعلني أبني عليه رؤية ما ويكون قادحا لتجسيد أشكال أخــرى تحفزني وتجعل أعمالي أكثر تطوّرا وأكثر ثراء وعمقا.فالعمليّة البحثية والمسار الإنشائي الذي تسير فيه رسوماتي، ليست في قطيعة مع ما يدور في عجلة الفنّ.فهي مواكبة ومتأثرة بالضرورة بالبيئة المعاصرة، فأعمالي ترتبط بالفنّ الآنـــي Art Actuel لكنها فـــــي ارتباط وانسجام مـــع ذاتيتــــي وكينونتي. مساري الإنشائي هو إذن مسار تجريب وبحث متواصل على مستــــوى اللون والشكل وكذا التكوينة. هو طريق أشقه وهو واقع أوجده بالعجينة اللونيّة وجلّ التقنيات التي تمكنني من الحصول على ملامس معيّنة.في عمليّة التجسيم أستحضر تيمة ما، لكن المؤثرات اللونيّة والملمسيّة المتحققة بالصدفة أو بعامل الآنيّة، تجعل أعمالي تتخذ منعرجات أخرى ما كنت فكرت فيها مسبقا، فجلّ لوحاتي تخضع لعامل الانفتاح والتجديد وتنحو نحو التجريد، إذ برغم العناصر التشخيصيّة التي تؤثث فضاء القماشة، فكلّ لوحة من لوحاتي هي في الحقيقة تجلية للغائر في ذاتي، وهي عرض جماليّ وإجماليّ لمقتطعات من الواقع المعيش.السّطح المدهون هو ذاك المزج المذهل بين العميق والمظلم والمشرق الناصع.أعمالي إذن، هي مساحات قاتمة وهي بقع لونيّة مشبعة بالضوء. الخطوط المجسّمة هي آثار دالة على عمليّة الحفر والتنقيب في الذات العميقة وتلمّس الباطن ومظهرته.فعمليّة تنضيد الألوان ما هي إلا محاولة لترجمة الأفكار المتراكمة وبث الشحنة الانفعالية والحسّ الفنّي.مساحة القماشة تجعل كل ذلك يتمرأى في سياق بصريّ جمالي، قابل للقراءة والتأويل إنه التجلي المذهل للمــــرئي واللامرئي...".

تجربة الفنانة التشكيلية الدكتورة سنية خليفة بن الحاج مبارك من الثراء بحيث على المتأمل في اللوحات أن يتقرى باطنها وحركة أحوالها في الشكل والتلوين والتخييل وهكذا فان العملية الفنية لديها تختزن كل هذا الثراء المعرفي والذاتي من حيث الرغبة والحلم والوعي خاصة بالفعل الفني في صلته بأعماق النفس البشرية وهي ترنو الى ما به تسعد الذات وهي ترى العالم علبة تلوين.

***

شمس الدين العوني

تذكرة عودة: في الماضي حتى القريب منه، كان يعيش سكان حي الزيتون بمكناس على تكتلات ذات أبعاد عصبية وإثنية، وذات نزغ عائلي ممتد، والقليل منها ذات بُعد قبلي. تلك العصبية (الخلدونية) انعكست تجلياتها في إنشاء نماذج من حروب صغرى بين مجموعات من الأطفال، وبتنوع الأحياء والدروب، والأزقة. وكانت تُدار بأسلحة جد (بدائية) وميثاق أخلاق حروب الأطفال.

كان جل الأطفال تحتضنهم مدرسة (الجبابرة) الكبرى سابقا، والتي أصبحت بِقُدْرة السميع العليم (الثانوية التأهيلية ابن الرومي) !!! مدرسة ضمت التنوع المتجانس، والاختلاف المتناقض، وخطتْ منذ البداية خطوات كبيرة في تحقيق مقاربة الإنصاف والمدرسة للجميع.

 كان أكثر من (54) تلميذ وتلميذة  في الفصل الدراسي. مدرسة القبيلة أينعتْ حتى الخلافات العائلية المجانبة والبعيدة عن ساحتها الداخلية. كما كانت تضم كل المناوءات الاحتكاكية، ويتم تصريفها في خارج ساحتها عبر حروب تنشب بالكثرة خاصة عند توزيع نتائج نهاية السنة الدراسية. حروب يمكن أن نقول عنها: دائرية وبحدود تماس  الأحياء، ولا تتوقف عند تغيير الأحلاف والغزوات، ويكون فيها الفوز عند من يلحقون الأذى الجسماني بالحي الآخر في عمق ديارهم. ورغم، فقد كانت بحق الجبابرة مدرسة الفخر والتنافس في نيل مراتب الشرف، ومنها تخرجت كفاءات متنوعة.

الشغب:

كان حي الزيتون يتألف عموما من ساكنة تتوزع بين باب كبيش، ثم ازعير، ثم الشاوية و(النَّقْبة/ اقْبِيبَتْ السروج)، ثم كراوة وما زاورها من تجزئة بادو(المحدثة)، ثم الروى وما جاورها من حي تواركة، ثم الشراشر وما زاورها من (السويقة) قديما، ثم درب بوقطيب (ومجموعة سكنى القبري). ثم حي الجبابرة وما أدراك ما (المعاركة)، ومن خلال هذا التناسق المتباعد، يتضح التلاؤم بين اسم (المعاركة/ الجبابرة) كحامل، وذاك المحمول المتمثل في الشغب الطفولي الزائد.

كان صهريج الشراشر يقع وسطا بين الجبابرة (الكبرى)؛ وحي ازعير و ووصيفه باب كبيش، كان هذا الصهريج المائي منبع الخلافات الدائم في فصل الصيف، ومن يستفدْ من السباحة به بالسبق وطيلة اليوم. كان أطفال حي الجبارة يستحوذون بوضع اليد والحجارة، ويستغلونه عنوة ما بعد فترة الزوال. هنا تشتعل الحرب باتحاد (قومية) حي ازعير وباب كبيش ضد عدو مشترك (المعاركة). تشتعل حرب الحجارة حتى يتم تحرير مسقط الماء العلوي، وينسحب حي جنود المعاركة تراجعا. وكانت الحرب بين الأحياء كرّ وفرّ، فحين تصطف صفوف حي الجبابرة بالدعم يعود الكرّ؛ وينسحب الفريق الذي استفاد من لحظات غطس في فيض ماء بوفكران النقي آنذاك.

الشراشر:

أسماء متعدد من أبناء الأحياء بقي التاريخ يحكي من خلال رؤوسها التي انشقت بحجارة من المنافس المناوئ. كان القصب يستعمل في النزاعات، كان القصب الأخضر الصغير (يصطلح عليه باسم العدة) في الحرب الباردة التي لا تريد إحداث الضرر. كان الماء بحق رمز نزاعات متتالية من بداية توزيعه داخل السلوقية ونهاية الاستفادة منه (بباب البطيوي)، حيث كان (المرحوم ) أبا محمد (مول الماء) و(بوشلاغم) (رحمهما الله) حين لا يقدرون على دخول منطقة (الشراشر) و(باب اكبيش) يقومون بإنزال بشري من حي كبارأعيان حي الروى؛ لأجل تحرير سواقي الماء من الحواجز والسدود الاستغلالية اللاقانونية.

ومِمَّا يذكر الخبر الشفهي، حين استفحل النزاع عن مرجعية توزيع الماء بالقسط، وعن مناطق الحدود بين الأحياء. قرر شيوخ الزيتون والجوار عقد لقاء للمهادنة والصلح الكبير. لكن لا أحد منهم أراد أن تكون منطقة حيه منطقة إنزال. فاجتمع الرأي على العرف (الامتدادي) ضريح مقبرة سيدي عياد. حيث كان اللقاء في وسطها بعد عصر يوم كان جمعة.

 كانت كل فئة تأتي من بوابة ومنطقة الدفن الرسمية بذاك الحي، حيث دخل ممثلو ساكنة الجبابرة وباب كبيش وازعير... من الباب الشرقي القريب من متجر (الفاسي حاليا)، فيما الروى والشاوية من الباب الغربي في المقبرة قرب (ضريج سيدي عياد)، فيما الباب العلوي فدخل منه ممثلو باب البطيوي وحي تواركة. أما الباب الذي قبالة (زليج مكناس) فكان لمن سكن بالقرب من حي ابني امحمد، ومن جاور عارصة المرانيين (قرب قنطرة الفرسان).

معاهدة الصلح:

لقاء توج بمعاهدة صلح دفنت حتى هي بعد توقيعها بجدار الضريح تكريما لسيدي عياد السوسي (ما ورد من أخبار شفهية). نص الصلح على تخفيض التوتر بين الآباء و زرعه في جيل الأطفال. بتحريم المناوشات في شهر الصيام والأشهر الحرم. فبات التحرك ليل شهر الصيام حرا وبدون خوف من الآخر المتربص. صلح انتهى بتقسيم الماء عبر الأيام وتجديد الثقة في أبا محمد (العساس). انتهى الصلح باستغلال شلال الشراشر سواسية وبدون مناوشات، ولكل فريق يوم العَوْمِ.

حين وصلت إلى هذا الصلح العرفي من حكي التواتر ابتسمت من صلاح قبيلة ناس الزيتون. حقيقة كانت القلوب سمحة وبقيت كذلك تلازمنا باحترام مع من سكن الحي قديما، ومع من قدم إليه عبر لحظات التوسع العمراني. لحظة، تجهمت حين بتنا نَلتقِي غالبا في الجنازات  فقط ويتم العناق بيننا في عودة تذكرة من الماضي.

***

محسن الأكرمين

لا أدري بالضبط- مئة بالمئة، ما الذي يدفعني بقوة منذ أيام، للكتابة عن الكاتب المفكر الانجليزي ذائع الصيت برناد شو، أهو الاوضاع المتوتّرة التي عاشتها وتعيشها حياتنا العربية عامة والمحلية خاصة، أم هي رغبتي الكامنة في ظهور صوت جهوري، جرئ، شجاع وساخر.. صوت يُمكنه أن يؤثّر على آخرين بثقابة عقله، شجاعته في المواجهة وجرأته في قول كلمة الحق.. ربّما كمن الدافع في هذا السبب أو ذاك.. وربّما احتاج للإجابة عليه أو على غيره من الاسئلة الدائرة في فلكه، لتقليب صفحاتِ بعضٍ من أفكار، آراء وتوجّهات هذا الكاتب المتميّز.. في كلّ ما كتبه تقريبًا، من مقالات، مسرحيات وآثار أدبية حظيت باهتمام الدارسين والباحثين في معظم لغات العالم وأصقاعه المختلفة. من أجل الاجابة. سأتوقف فيما يلي عند ثلاث محطّات ميّزت برنارد شو كاتبًا جريئًا ومفكرًا شجاعًا وساخرًا حدّ العبث.

المحطة الاولى، الشجاعة: لم يتردّد برناد شو كما يظهر من كتاباته و"قفشاته"، التي يعرفها أو يعرف بعضها العالم أجمع تقريبًا، في توجيه النقد إلى ما رآه خاطئًا وفي غير مصلحة مجتمعه وأبناء جلدته، وهو ما يُذكّر بنقد شاعر العربية أبي الطيب المتنبي عندما انتقد أهله وأبناء جلدته في شطره الشعري المشهور " يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم". فقد وجّه نقده اللاذع إلى كلّ ما رآه غير مقبول، غير محبّذ وغير مناسب. ومما أُحب أن أذكره في هذا السياق توجيهه/ شو، النقد إلى حكومة بلاده عندما أعلنت أنها ستشدّد القبضة على الخارجين عن القانون، وسوف تخفّف اليد على حبل المشنقة ليضيق على أعناقهم. فيقول إنكم إذا ما اتخذتم هذه الخطوة، أو الاجراء، سيكون من الصعب عليكم القاء القبض على الكثيرين من المقصودين وسوف يصيبكم ما أصاب ذلك الذي تحفّز أكثر من المطلوب وقفز.. فوجد نفسه في الناحية المقابلة.

المحطة الثانية، الجرأة: تطلعنا كتابات برناد شو وآراؤه التي تضمّنتها كتاباتُه ومؤلفاته الغزيرة، إضافة إلى كتابي المفكرين العربيين المصريين عنه سلامة موسى وعلي الراعي، تطلعنا على جرأة نادرة في القول والفعل، فها هو يقول إن الشعب الانجليزي- شعبه- شعب جاهل، لا يفهمك إلا عندما تجعل منه طالبًا كسولًا يضع معلّمه الآراء والافكار في فمه، بل ها هو يجيب سائلًا عابرًا عن الفرق بين الشيوعية، علمًا أنه كان من الشيوعيين الفابيين في بلاده، والرأسمالية التي كان دائم النقد لها، يجيب مشيرًا إلى لحيته وصلعته الكثيفة قائلًا:" غزارة في الانتاج وسوء في التوزيع". هل يذكّرنا هذا بأدباء عرب قدماء أمثال الجاحظ والحطيئة.. عندما سخروا من أنفسهم؟ ربّما. أما ذروة جرأته العملية فقد تمثّلت في رفضه جائزة نوبل الادبية التي يتمنّاها جلّ مبدعي العالم.. عندما منحت له عام 1925 فرفضها، مرفقًا رفضَه لها بقوله: "إنها اشبه ما تكون بطوق نجاة يُلقى بها إلى رجلٍ وصلَ فعلًا إلى برّ الأمان، ولم يعد عليه هناك من خطر، إنني أكتب لمن يقرأ لا لأنال جائزة". صحيح أنه رجع وقبل الجائزة، غير انه وزّع مقابلها المالي على أصحاب النصيب.

المحطة الثالثة، السخرية: عرف عن برنارد شو أنه كان ساخرًا لوذعيًا، وهناك العشرات من الاقوال التي يردّدها الناس في مختلف انحاء العالم وفي شتى أصقاعه، بما فيها بلادنا، مثل قوله عن الزواج:" إنه قفص مَن يقف خارجه يتمنّى أن يدخل إليه ومَن يسترخي داخله يودّ لو يخرج منه و.. يغادره إلى لا رجعة". وممّا يصوّر سخريته وعمق رأيه ورؤيته أنه قال عن الشعب الامريكي، إنه شعب سطحيّ يشاهد مسرحياتي ويقلب على ظهره من الضحك ويخرج من قاعة العرض وهو يتساءل هل هذه مسرحية؟

نحن لا نريد أن تنوجد بين ظهرانينا نسخة اخرى من برنارد شو، بقدر ما نريد كاتبًا مفكرًا، شجاعًا وجريئًا يرفع لواء الحق ويقول كلمته دون تردّد.. فهل سيكون لنا ما أردنا، لنكتب عنه بمناسبة وبدون مناسبة.. مثلما نفعل الآن بكتابتِنا هذه.

***

ناجي ظاهر

فاز بجائزة نوبل للأداب كاتب عربي واحد، نجيب محفوظ من مصر،منذ أن بدأ منحها لأول مرة سنة 1901، وقد تحصل عليها محفوظ سنة 1988، أي بعد أكثر من ثمانين سنة من تأسيسها، ومن المعتقد لدي قطاع واسع من الناس بل ومن بعض المثقفين والنقاد أنه نالها بسبب مواقفه السياسية من قضايا الشرق الأوسط، وهذا حكم فيه ظلم كبير لإبداع محفوظ القصصي والروائي!

وبقي محفوظ الكاتب الوحيد الذي حاز على الجائزة حتى يومنا هذا؛ أي بعد أكثر من مائة سنة من تأسيسها، وهذا فيه ظلم كبير في حق الأدب العربي المعاصر، وخصوصا أن إبداع الكثير من المتوجين بها أقل جودّة وإبداعا وانتشارا من إبداع كتابنا الكبار!

وقد رُشح الكثيرون قبل محفوظ ، وأيضا بعده، وكلهم كتاب كبار ذو إبداع روائي أو شعري مميز، وبعضهم كانت أسماؤهم تتداول وتتكرر أكثر من مرّة في فترة تداول الأسماء الأدبية العالمية المرشحة من الشرق والغرب ..

ومنهم من كان يُطرح اسمه بانتظام باعتباره مرشحاً قوياً للفوز بالجائزة مثل أدونيس أو أسيا جبار ...

قبل محفوظ؛ رُشح الأديب العبقري المثير للجدل طه حسين، الشاعر الكبير أحمد شوقي الملقب بأمير الشعراء، توفيق الحكيم أكبر كاتب مسرحي في الشرق ومن أهم كتاب المسرح العالميين و القاص والروائي يوسف إدريس صاحب الروايات والدواوين القصصية العديدة وأشهرها " الحرام "، " أرخص الليالي "، " لغة الأي الأي "...

وبعده؛ رُشح حنا مينة صاحب " المصابيح الزرق "، " بقايا صور " وغيرها من الأعمال الرائعة، محمد ديب، أشهر أعماله الثلاثية؛ الحريق، الدار الكبيرة والنول، الكاتبة المتألقة أسيا جبار مؤلفة " الجزائر البيضاء " و"نساء الجزائر "، الشاعر الكبير أدونيس أحد أكبر رواد الشعر الحر، وكذلك الشاعر سعدي يوسف و الكاتبة المثيرة للجدل نوال السعدواي صاحبة الكتب الممتعة والآراء الصادمة!

***

بقلم عبد القادر رالة

من العادات الدخيلة منذ الزمن القديم بمملكة الأرض السفلية، أن يشتغل الجن بمعية شياطين الإنس (أخوية الشر) الأوفياء ليلة عاشوراء عبر صيغة المداومة غير المنقطعة. حيث، تشتعل نار الأبخرة، وتُوحد رؤى الخرافة عليا بالطلب والعرض، ويبيت الجن والجنيات في تلقي المعلومات عبر شبكة (الويفي) الخفية، ومكالمات (الوات ساب) لفقهاء السحر الأسود، ومن شوافات المزارات وحفر حكم الجنيات (لالة عيشة).

وحتى أساليب الاشتغال اليوم، قد تغيرت عموديا، والعمل بات يماثل التطور الاستدراكي في التواصل التفاعلي/ الحضاري، فلم تعد لازمة (هَا قَلبِي ها تَخْمَامِي بِمَا يأتيني الله) ضرورية كما كانت في تصفيف تراتبية (الكارطة) بين (الصوطا) و(الكبال) و(الري)، بل باتت مصطلحات بجديتها تدخل عالم الشعوذة والسحر الأسود، وعلم تنجيم الشوافات الجدد.

 اليوم قد تسألك (الشوافة) الحديثة الممتلكة لكفايات علم (الكوتشينغ)، عن أوجه وسبل المعاملات والأداءات، وبفرص الاختيارات التنويعية، والكل بثمن محدد بالسبق ، مع إعلان الأثمنة (خوفا من لجان مراقبة الأسعار من قبل شمهروش السلطة الإدارية بالأرض السفلية) !!

 ليلة عاشوراء، لن تحصل على أية تخفيض مهما كان، بل الكلفة تزيد بالتضاعف، والليلة تكون فيها خدمات التوصيل سريعة ومتوفرة. قد يسألكِ الفقيه بعلم السحر الأسود و صناعة (التناوي) ولعب السماوي (بَرقْ ما تَقْشَعْ)،هل تريدين أن (اتْفُورْمَاتِيهْ (ا)) الرجل/ المرأة  أو الحبيب (ة)، وتحتفظ (بالفِيشْيِي) القديم أم لا؟  ولا باغية ديري ليه (ا) (روديماري/ إعادة التشغيل) من جديد (وتَطفيه (ا) في ماء الحداد) !!

من المضحكات المبكيات، حين توصي المرأة الشوافة أو فقيه السحر الأسود (يَحَيَدْ/ يزيل (للمرأة) أو (الحبيب (ة)) (الكارت مِيرْ/ La Carte Mère) !! و(يَوَلِيوْ) يخدموا  فقط مع (ِويفِي/ WIFI) الدار (مهما كانت سرعة الصبيب وووو...) !! ويبقى دائما خارج التغطية خارج البيت والفراش !!

الشعوذة شر كبير، وسوق سلعتها نافدة في مغرب (الخرافة والخزعبلات)، وحتى الشوافات وفقهاء السوء زادوا في كلفة الأتعاب و المصاريف نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أثرت على استيراد المواد الأولية!!

شعب ينجح بالجودة والجدوى في تطوير آليات التحكم في (ويفي) الجن والجنيات، والأرض السفلية ويحقق بها الرفاه في شعب (شمهروش). شعب يتحكم في الغيبيات والكليات والجزئيات ويطور سحر (لَبْلُوتُوتْ). طينة من شعب تعيش في غياهب الجهل والفقر والهشاشة، و تحيي الليالي الملاح بالذبائح التي تقام للجن والجنيات... شعب يبحث عن الجن الشرير وإلحاق الأذى بالغير بالتضبيع والتهييج عند الإنس الطيع... شعب يحتوي الجن والجنيات في الأسر والتملك والتحكم (فانوس علي بابا)، و قد لا يثق في الإنس الذي يشاركه الهواء والتراب والنار والقيم... نقول جميعا: (باركا) يكفي المغاربة من هذا الانغماس في الخرافة والشعوذة !!

***

محسن الأكرمين

في المثقف اليوم