أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

مايزال النظام الذي أنشأه العرب لإمداد العاصمة الاسبانية مدريد بالمياه معمولا به منذ إنشائه قبل قرون مع الاشارة إلى إنشاء المسلمين في بلاد الاندلس أكثر من نظام لتوصيل المياه إلا أن أشهر نظامين جرت دراستهما هما نظام مدريد ونظام كريفلينت، قيض للأول منهما أن يستمر في العمل إلى عصرنا الحاضر.

وبحسب مؤرخ العلوم العربية الدكتور البريطاني دونالد هيل فإن نظام العاصمة مدريد المائي عبر ما سماها بتقنية القناة التي انشأها المسلمون في اسبانيا لايزال يعمل لإمداد المدينة بالمياه من منطقة تدعى وادي الرمل .

وفي إطار تأريخه الدقيق والعلمي للعلوم والهندسة عند العرب، فإن شق القنوات للري أو للشرب فإنه يتطلب علاقة مباشرة مع السدود من أجل حصر المياه ومنع هدرها الى البحار أو تخريب ماحولها ومافي طريقها في حالة الطوفان فيشير في هذه النقطة الى السدود التي بناها العرب في إسبانيا في ماوصفه ب العصر الذهبي من حكم الامويين لاسبانيا حيث أكد بناء عدد كبير منها.

ويؤكد هيل ان العرب لم يتركوا وحسب آثارهم ببناء السدود بل وتركوا اسمه في اللغة الاسبانية. وتجدر الاشاره إلى أن الكلمة الاسبانية azud المأخوذة عن الكلمة العربية سد هي أحد المصطلحات الاكثر حداثة الصادرة مباشرة عن اللغة العربية وتقدم لنا الدليل على التأثير الاسلامي في التكنولوجيا الاسبانية .

ويوضح أن الجيوش العربية والاسلامية التي دخلت اسبانيا كان في عدادها مهندسون بارعون في الاعمال الهيدروليكية مؤكدا أن هؤلاء هم الذين نقلوا تقنيات الري الى اسبانيا.

أما اقدم سد اسلامي في اسبانيا بوصف هيل فهو في قرطبة مؤكدا أن آثاره لا تزال باقية في المكان وبحسب خبرته في عالم الهندسة وكممارس لها في آن واحد معا، يؤكد أن العرب طوروا من تقنيات بناء السدود في اسبانيا عبر ماسماها صمامات التحكم بجريان مياه السد وقنوات التصريف لتخليص قاع السد من علة خطيرة صامتة تصاب بها السدود وهي الطمي أو الوحل ويقول إن هذا التطوير أفاد اسبانيا لاحقا في بناء سدودها مؤكدا أن اوربا لم تكن تعرف ذلك من قبل.

***

رنا فخري جاسم/ العراق

جامعة بغداد / كلية اللغات

 بيني وبين الموت علاقة معقدة، مركبة، متناقضة، تسكن الوعي، وتقيم في اللاوعي، يغلفها المجهول، ويتلحفها المعلوم، توطدت المشاعر والأحاسيس فيه، حين كنت أحاول النهوض من الحبو وما قبل ذلك، وحتى الوصول إلى نقطة الوعي الأولى، كان يبحث عني، وكنت أبحث عنه، مطاردة حامية، فيها لهاث متبوع بلهاث، وحمحمة تتلقفها حمحمة، وكأني به يعرفني منذ أزمان وحقب ودهور، يترصد اللحظات التي تصلني به.

من عدم في نواة عدم، اختلطت بين صلب وترائب، نطفة عمياء ما زالت في العدم، علقة صماء في الفراغ، مضغة بكماء في اللاوجود، عظام تكتسي باللحم تتعمق فناء، الموت يحيط بها من كل الجهات، حتى تأتي النفخة، فتكون الحياة الناهضة من الموت العدم واللاوجود والفناء والموت.

الحياة ليست البداية كما نتوهم ويتوهم العقل، هي مرحلة ناهضة من الموت لتخوض مرحلة قصيرة ثم تعود لأصلها، الموت، ليكون الابتلاء، فتكون الحياة، حياة لا تتصل بالموت، ولا يتصل الموت بها، ما نبحث عنه منذ الخلق وحتى يومنا هذا، الخلود، خلود الجسد في فتوة فوارة لا تهدأ ولا تنضب، وخلود روح في سكينة لا تعرف الكبد.

يوم ميلادي، ووقوعي على كفي قابلتي أم هاشم، صدمتني رياح آذار، نبهتني صواعق البرق وقصف الرعد، بوجودي خارج الرحم، العالم الفسيح الواسع الممتد المتوسع، المحمل بالخفق والوجيب والحب والحنان، عالم الأم الآمن المحمول على نبضات القلب وشفافية الروح، كانت رجفة، هزت جلدي، وكانت رجة، هزت كياني، وكان قرارا حاسما قاطعا ماضيا، ناديت الموت نداء مستغيث مستجير، أول علاقة بيني وبينه، أول لقاء بينه وبيني، تأملني تأمل مستكشف لعالم جديد هبط قبل دقائق من العدم والموت والفناء، تفرست ملامحه بكل ما في من عالمه الذي دفعني نحو ما أنا عليه، أشفق علي، أشفقت عليه.

كنت في ظلمات ثلاث، يعج بها النور وتعج بالضياء، وجدتني مرة واحدة أسقط في هوة هائلة السواد، قاسية الظلمات، تسمى الحياة، شعرت ببون يفصلني عنها، صراخي، رفضي، عويلي، شهقاتي، دموعي، كلها لم تساندني للإفلات من قبضة الميلاد، التراب الذي تحت قطعة القماش التي تلفني، يسحبني، يسحب عرقي، الجدران المتهالكة المتآكلة في الغرفة بصفارها الكئيب الحزين، تشدني، زخات المطر الغاضبة، تستدعيني، حتى النمل الذي يهاجم المشيمة يكاد يعلن احتفالية بقدومي.

سكنتني الصدمة، كجبل مضغه زلزال، وكمحيط خبطه بركان، ما زلت بكل ما في الموت من روعة فيه، أسكنه ويسكنني، وحين مستني صواعق النسيمات، تنبهت لفقدان طعم الموت ومذاقه، جاء مذاق مالح كالح ناشف، مرارة تجري بكياني، وحموضة حادة تشوي قلبي الصغير، بين الموت والميلاد كان علي الآن، بعد دقائق قليلة، أن أختار قبل فوات الأوان.

الموت لا يزال يتأملني، مددت يدي نحو رباط السرة، بكل عشق للموت، فككته مرة واحدة، سال الدم، بدأ الموت يتقدم، ونحوه كنت أسرع، علي الاندماج بالأصل الذي نهضت منه، تحركت أمي من ألمها لتعلم سر صمتي، هزت غضب آذار وضجيجه بصوتها المستغيث، صمتت الدنيا كلها مرة واحدة، جاءت أم هاشم على صهوات السرعة، بركت فوق الدماء السائلة السائرة نحو الموت، تعوذت، بسملت، قرأ المعوذات، آية الكرسي، صلت وسلمت على سيدنا محمد ﷺ، وبخبرة لا تفوقها خبرة أعادت السرة مكانها وأوقفت النزيف، قمطتني، شدت القماط، تنفست، وتنفست أمي.

حدقت بالمكان من جديد، لم أجد الموت الذي كان يستكشفني، رحل بعيدا عني، تركني مقيدا عاجزا في قماط سيحدد مصيري وعلاقتي مع المرحلة التي خرجت فيها من الموت، حتى اللحظة التي سيأتي الموت دون خيار مني، سيأتي وهو محمل بالكثير مما حملت أثناء الفترة الفاصلة بين الموت والموت، لكنه قبل رحيله، همس شيئا: سنلتقي أنا وأنت، أكثر من مرة، ربما نتحاور، وربما يكون الصمت، صمتي، صمت المقابر، هو الفاصل الأخير والنقطة الأخيرة.

بدأت الدنيا تلمسني، ولا أقول الحياة، وإن قلتها ستكون اصطلاحا للفترة التي خرجت فيها من الموت، حتى اللحظة التي أعود فيها للموت، فأنا عاجز تماما عن إيجاد تسمية تحتويها اللغة للبعد الكامن بأعماق تلك الفترة، فأنا أضحك وأبكي، أعطش وأرتوي، أجوع وآكل، تماما كأي دابة على الأرض، أنامل الدنيا تتحسس أعماقي، عرفت الكراهية، وعرفت المحبة، عرفت الوفاء والغدر، الكذب والصدق، الشر والخير، لكنني ما زلت غضا طريا، كبتلة أو طلع على جناح نحلة، يجرحني الندى، ويفتك بي الطل، وأنا إنسان، مركب عسير عصي تجري به أنهار من التناقض ومحيطات من التضاد، تقدمت الدنيا، بدلت أناملها بسواعدها، بدأت ترجني رجا عنيفا، تنقلني بين زواياها، ثناياها، وجاء إبليس وجنوده، كلهم يحمل أسلحة تكاد تعصف بجبال وجبال، وجاءت الأنفس والذوات، توالجت وتواشجت، وكما سمكة الببغاء تحول قاع البحر لرمال على الشواطئ، تحولت لهباء على بوابات الوجود.

ظل الموت يقيم هناك، في اللاوعي، الذاكرة الخفية، ساقني نحو هاويات كثيرة، حادث سير على طريق الجاروشية، أصاب من في السيارة إصابات أدخلت بعضهم الغيبوبة، أنا لم أخدش حتى على سطح الجلد، حين خرجت من السيارة المقلوبة على سقفها، لمحته من بعيد، يضحك، حاولت الاقتراب منه كي أسأله عن غيابه الطويل، تلاشى، تبخر، لكن همساته ما زالت تدوي بمسمعي: سنلتقي، أنا وأنت، ربما نتحاور، وربما يكون الصمت الثقيل الحاكم بيني وبينك.

النسيان، صفة من صفات النقص في الإنسان، في المخلوقات، قبل الحادث عمل النسيان على خلعي من ذاكرة الموت التي حاقت بزميلي ماجد غانم، كنا في الصف الأول الابتدائي، نراود الحروف والمفردات تحت لسع العصي ومطارق الرمان، نمسك بالدفاتر والأقلام، نفك طلاسم المخفي في كل كلمة، تجتاحنا نشوة المعرفة والتعلم، ونوجه كل أمانينا وتطلعاتنا ليوم عطلة يشل المدرسة، عطلة مفاجئة، مهما كان ثمنها.

قال الأساتذة صباح يوم: اليوم عطلة، سنشارك في جنازة زميلكم ماجد، تحققت الأماني والتطلعات، فرح يتشقق وينبثق، يتفجر من الوجوه، ماجد توحد مع أصله، تمكن بلحظة عابرة من استلال الموت من المياه التي عبأت رئتيه وهو يحاول السباحة في بركة الحاج قاسم، هناك التقى مع الموت وجها لوجه، ربما تحادثا حديثا خاصا مطولا قبل خروج الروح من مسكنها؟ وربما كانت معركة بين الحياة التي يريدها ماجد والموت الذي يمسك به من كل ما فيه؟ برز التناقض والتضاد، هناك دموع كاوية، شهقات تمزق الحلق، وحسرة تصهر الملامح والتقاسيم، وهناك فرح هائل من الأطفال الذين اصطادوا يوما بعيدا عن العصي والمطارق التي تشوي الأقفية والأيدي والوجوه.

جنازة ماجد، لم تكن فيها رهبة، ما زلنا أطفال، نخاف الليل أكثر من خوفنا من الموت، لم يكن للموت رغم ما فيه من مجهول وغامض أي قيمة في نفوسنا أو عقولنا، لكن، يوم جنازة سامي الجرمي، كان الهول وكان الرعب، الممتد من اللحد والكفن، حتى شهور متلاحقة.

كنا كما يوم ماجد، نغزل الفرحة وننضدها، يوم عرفنا بأننا سنشارك في جنازة زميلنا سامي الجرمي، الذي توحد مع الموت واندمج فيه، الجنازة كبيرة بسبب عدد الطلاب، والموت حديث من يحمل النعش الصغير، ومن أدرك معناه وهيبته، كان مرافقا لكل خطوة من خطوات الجنازة، بثقل وخفة، ثقل على الكبار، وخفة علينا، وصلنا المقبرة برفقته، كان ينظر للحد، أنزلوا الجثة، وبدأوا برص القوالب الإسمنية فوق اللحد، ثم بالطين أغلقوا كل شق وفتحة، بدأوا يهيلون التراب، فتعالى صراخ محشو بالرعب والهلع، صراخ من ذرات التراب، من القبر الذي كاد أن يكتمل ليخنق الصوت المنزوع من جسد الموت.

بدأ الحفر بقوة وعزم، نزعت القوالب الإسمنتية، فنهض سامي بكل قوة ممزقا الكفن، وخرج، على ملامحه عالم آخر، أفلتنا سيقاننا للريح، سبقنا الزمن والضوء والصوت، جيش من الخوف يكتسح الشوارع والأزقة والمداخل والمخارج، والموت يطاردنا، يطارد أنفاسنا المكتظة باللهاث، يومها وقفت بعيدا، على رصيف مهجور، بين حشائش ممزقة مفتتة، مكفهرة، رأيته قادما نحوي، بين الحيرة والخوف كنت أحاول ترويض ذاتي التي كانت قد نزعت الحبل السري، ذاتي التي ظلت ترى في الرحم قبل نفخ الروح عوالما وأكوانا، كان علي محادثته، وكان عليه محادثتي، نحن التقينا سابقا، وها نحن نلتقي، هو على الرصيف المهجور قبالة رصيفي، يحدق بي، وأحدق به، عليه وعلي المبادرة، على أحدنا أن يقول شيئا كي نبدأ الحوار، نفتح أبواب الصمت للرياح، شعرت بشيء ناعم فوق قدمي، نظرت، صرخت صرخات سامي وهو في العتمة التي تسيطر على القبر، وانتفضت، كانت أفعى مرقطة تتلوى وهي تضج بسمها، قفزت نحو الرصيف الذي يقف عليه هو، تلاشى، تبخر، لكنه همسه ما زال يرن في أذني: سنلتقي ربما نتحاور؟ وربما يكون صمت الصمت الفاصل بيننا؟

أنا وهو في سباق، لحظة الميلاد لجأت إليه، وقف فوق رأسي مباشرة، كان جميلا، رائقا، صافيا، مثل شهية متفجرة لتوق تتداخل شفافيته مع نور خفي في ضياء يكسوه الخجل، وكنت في أوج التماهي والتلون بكنهه وسره، لكنه غادرني، بلحظة يصطدم فيها مع البقاء على هاوية انتظار قلق يغلي بالتوتر والتداخل والافتراق والالتقاء.

تحدثت معه من قلب المجهول النابض بالغيب، ضجيج الصمت، قصة قصيرة كتبتها وأنا في سن صغير، ضجت بي وضججت بها، رأيت بطلها وهو يقطع أوتار وشرايين وأوردة المعصم، دماء تسيل، وألم يذبحه الألم، وروح تتصعد، ونظرة كأنها كهف في ناصية جبل مهجور في عالم مهجور.

بعدها بأعوام، تمزق معصمي، فارت الدماء في كل مكان، تقطعت الأوردة والشرايين والأوتار، تحققت النبوءة، سقطت في غيبوبة، هناك كان بانتظاري، يبتسم، في تكوينه رغم التصاقه بي، بعيدا بعدا يكاد يكون غير مدرك، نهضت من الغيبوبة، تقاسمني الألم والوجع، وحسرة مزقت قلب أمي، ولوعة فتت روح أبي، ورائحة الموت، التحلل، تنتشر بأنفي وذاتي، لحم يتعفن حول الجرح الغائر، ميت تماما، لا بد من استئصاله، رفضت التخدير الموضعي والكلي، كان المبضع يتحرك مرافقا للمقص وهما يجتثان التعفن مع القليل من اللحم الحي، كنت أنظر لأجزاء مني تموت، تحصل على مبتغاها، وأنا حي، بين دهشة مستلة من ذهول متمكن،  قيح وصديد، يتحرك في الساعد، كمُهل بركان يتمخض ويزفر، وعذاب يعذب القدرة ويلوح الاحتمال، كان قريبا مني، قرب الوريد، يمضغ بعض أجزائي، لكنه تركني بنفس الفجأة وهو يهمس بنفس الهمس: سنلتقي أنا وأنت، ربما نتحاور، وربما يكون للضجيج صمتا أثقل من صمت الصمت ذاته.

هو الموت، الغريب القريب، القصي الدان، اختبرته أكثر من مرة، ربما يعتقد البعض بأن له ذات المذاق، هذا ليس صحيحا، نكهاته مختلفة، متباينة، تتصل بالشخص الذي يتذوقه من بعيد، يحس به، يراه في وجه من دخل في عالمه، بألم محشو بألم، بفزع منقوع بالفزع، وبهدوء مجلل بالهدوء، وبفجأة تنزع الألم والفزع والهدوء من عالمين مختلفين، عالم الميت الذي يرى ما لا نستطيع رؤيته، وعالم الحي الذي يستل الفقد كل ما فيه ليسجنه في متاهة الذهول والشده والدموع والحسرة.

يوم مات والدي، كنت بعيدا، في منفى قسري بين جدران سجن عسكري، جاءني الخبر يقينا بالإحساس، قبل وصوله لمسامعي من الشفاه، أول اختبار، صاعقة خاطفة سريعة، رمتني بين المنفى والمنفى، بين الغربة رغم قصر المسافة، وبين العجز الذي سرى كجيوش نمل ناري في ذاتي، تحت الجلد، في المسام، بين الجفون والمآقي، سقطت السماوات مرة واحدة، تصادمت طبقات الأرض، تفجرت البراكين، شلت المشاعر، صفدت الأحاسيس، تناوشتني ذكريات وتقاسيم وملامح وجهه، بسمته العفوية النقية كحرية تضج بالجمال، جاء الماضي خاليا من الحاضر والمستقبل، كان أبي، غاب أبي، مات أبي، ضحك أبي، تنفس أبي، أمسكت الحاضر، حاولت خضه، كان خاويا من أبي، تشبثت بالمستقبل، رججته، كان خاويا من أبي، نظرت هنا وهناك، بحثت عن الموت في زوايا الغرفة، سقفها، القضبان التي تفصلني عن رؤية السماء، لم يكن الموت هنا كعادته، لم يزرني، فقط كنت أود أن أسأله سؤالا واحدا: هل تعذب أبي؟

لكنه غاب، تركني وحدي أبحث في رؤاي عن ظل خفيف يقودني نحو قطرة من رجاء تخبرني عن اللحظة الأخيرة لوجه والدي وهو يغادر الدنيا بقهر واستسلام، وحين حاولت الجلوس تعثرت بضعف دخل كياني، ذهب الركن الركين الذي كنت أستند عليه لأمحق التعثر والتبعثر، غاب الحائط المتين، قصم ظهري مرة واحدة، كساح في الداخل والخارج، في الأعماق والسطح، عرين بلا أسد هي الحياة، انهيار للموئل الذي كانت تلوذ به ذواتي كلها دفعة واحدة، حين تأتي الحياة لتعضني وتعصرني، نثار ممحاة أمسكته عاصفة قمعية، سحبته نحو فضاءات مفتوحة على التوسع والتمدد.

يوم ماتت أمي، لم أكن بعيدا، كنت بجوارها، تتنفس، تشهق، تزفر، لكنها في عالم غير العالم الذي نحن فيه، لم أعرف إن كانت تسمعني وأختي صبحية وزوجي ونحن فوق رأسها، ندعو الله أن يخفف عنها جبال الألم التي كانت تضغط عليها بكل ما فيها من قوة وثقل، رائحة الموت قريبة، خطواته تكاد تكون مسموعة، حتى همهمته رغم خفوتها كانت تخضنا خضا، هناك الحنان كله، القلب الذي يسير على الشوك والإبر والدبابيس، كي ننعم نحن ببسمة أسرع من صاعقة مصابة بالصعفة، هنا الدنيا بما فيها من شهد مصفى، عسل منقى، هنا يأتي الوطن كله دفعة واحدة متوسلا شيئا من رائحتها، ليكون رائحته، يشد همته بهمة الزمن وهو يقترب ليأخذ قبسا من نورها، كي يستطيع إنارة الطريق للشهداء وهم يدفعون بأرواحهم نحو المرفأ الذي وعدوا به، هنا أمي، وأمي، وأمي.

نحن، والكون، والزمن، والمكان، يصفدنا العجز الذي يجردنا من أنفسنا، صحارى تعذبها رمالها، تشويها حرارتها، تسفعها عواصفها، وهي مكانها، تئن وتئن، تحمل الرياح حشرجتها، تحولها لصفير يقطع الفيافي والبيد، يلتقي مع حشرجات مخزنة منذ دهور ودهور، وفجأة، برمشة عين، بأقل من ذلك بكثير، شهقت، وانزلقت من عالمنا لعالم الغيب المشحون بالغيب، قفزت كطائر صغير من عشه لآماد لا نهاية لها.

تجلدت ذواتي وأنفسي، بحثت عنه في كل جزء وذرة من ذرات الغرفة، كان هنا الآن، لمس أمي، سحب روحها، لم يتمكن بعد من المغادرة، فقط أود أن أسأله: كيف استطعت أن تفجعنا ونحن هنا نحاول كما الوطن أن نشم شهيقها ونستل قبسا من زفيرها؟ همهمته تخفت قليلا، وفي لحظة ذهول رأيته يبتسم، لم يهمس بشيء هذه المرة، كان حادا وواضحا، جليا بكل ما فيه من غامض ومبهم.

نبت السؤال مثل فطر يخترق نملة سيرها نحو الرطوبة لتكون وعاء لتكاثر أبواغه: متى سنلتقي وإياه مرة أخرى؟ أي حسرة قادمة يود زرعها بقلبي وكبدي وروحي؟ وربما سيزرع حسرتي القاسية الحامضة بقلوب تحبني؟

كان اختبارا هائلا، جمع كل الماضي من أبي، من أمي، وفاض من كل الشواطئ، كسيل هائل من جبال متحركة تأكل كل ما في طريقها، وكنيازك سقطت من السماء فرجت الأرض رجا، بستها بسا، صهرتها في حمم تصهر ذاتها، وفرقتها كما تفرق الزلازل الفوالق وتزحزحها، انخسفت عوالم كاملة بأعماقي تحت طبقات من الألم والوجع والتفجع، كان خبرا لا يمكن للكون المرور عنه بغفلة، ولا يمكن للزمن تفادي الوهلة، هناك، في حيفا، كانت الشمس تأتي كل يوم، مع كل غروب وشروق، تنحني، بشيء من الشوق المحمل بكل الشوق، تلمس وجه أختي صبحية، تستأذنها الشروق والغروب، وكان القمر حاضرا بتبتل وهيبة، ليقف أمام سهوم نظراتها العائمة في التوق المتعاظم، يشد على البريق المنبعث من السهوم، من الحيرة، كي يسألها الاكتمال ليكون بدرا، وكانت فلسطين كلها، الوطن كله، يقف أمام بسمتها، برفق ويسر، ينادي ما فيها من أسرار مخبأة في قلبها، لتمنحه الثبات على ما هو عليه، أن يكون ويبقى الوطن، فيحمل روائحها، الياسمين، المريمية، ليلة القدر، الزيتون، البرتقال، شفافية زهر اللوز، خجل الكرز، حياء الجلنار، ويعود لنواته التي تشكلت من نواتها، الوطن.

هكذا بلمحة من برق مخطوف من رؤيا، قيل: صبحية ماتت. تداعت الأكوان، تقوس الزمان، تحدب الوقت، نهضت أمي من قبرها، جاءت محملة بروائح الغياب، نهض أبي من قبره، محملا بروائح الغروب، جلسا بجانبي وهما يمسكان بسويدائي، هناك نقطة متجلدة فيها، بدأت تكبر وتتضخم، وفي الروح جذوات تشع فتكوي، احتضنتهما، وغرقت في فزع يغطس في هلع، أماتت أختي؟ قالا: نعم، كنا هنا ننتظرها، نشد الزمن بحبل من نور، فنحن رغم مكاننا في غيهب الموت، لا نعرف متى ستصلنا؟ وحين وصلتنا، خفنا عليك، جئناك كي تفتح ذاتك على نداء كان يراودها، في المسجد الأقصى، يوم صلت صلاة مرابطة أبية، ودعت لك ولأولادك، بصوتها الناعم كمخمل لم تعرفه الدنا والأكوان، إلا حين كان يخرج من فمها المشقوق من معجزة خاصة بها.

جئنا كي نشد على قلبك، يوم تراها وهي تصنع بيديها أقراص الزعتر البري، وتتألم لأنك ليس هناك لتأكل مما أنتج عطفها ورقتها وصفائها وبراءتها، فتضخ التمني بأن تكون هناك، في السنة التالية، كي تأكل مما تشتهيه لك.

الموت كان يتربص بها، بك، يدور بين الشوارع والأزقة، يراك وأنت ترسم صورتها على رؤاك، على صوتك، على صمتك، على فرحك، على بسمتك، ويراها وهي تحملك في أعماقها، كما حملت أطفالها، قرب القلب وقرب الروح، وهي تشمك في الشومر والعكوب، بين العطرية والجوري، فتأتي للمخيم، لترى الناس هناك، كي تراك فيهم، في وجوه من عرفت، من أصدقاء، وجيران، وأتراب، فيهم، وفي المكان، في الزمان، كثير من رائحتك، من ذكرياتها معك، يوم خرجت من البيت كعروس، فلحقت بها والدموع تتفجر من عينيك، والحجارة تنهال من يديك على السيارة التي تحملها، وأنت تصرخ: أريد أختي صبحية. لم تطق رغم الفرح والناس فراقك، نزلت بفستان فرحها الأبيض، ضمتك لصدرها، وحملتك لتكون بينها وبين عريسها.

في تربصه حياء، لأول مرة نراه، حتى يوم جاءنا، أنا وأمك، لم يكن هناك شيء نلمسه، غير التسليم لخالقه وخالقنا، ربما هو يعلم مدى هشاشتك وتشظيك أمام أختك، حبيبتك، صفيتك، خليلتك، صديقتك، أمك، والدك، دناك وعوالمك، فهي لا تشبه أحدا ممن تعرف، ولا يشبهها أحد ممن تعرف، هي كل عائلتك، وكل عائلتك هي، الجميلة فيما تركنا وراءنا، الندية بين الجفاف واليبس الذي يحيط بك، أليس هي من مسحت على رأسك يوم رحيل والدتك؟ أليس هي من طبعت على وجنتيك قبلات حياة تفتك بالموت الذي حاق بأمك؟ أليست هي من نفخت بفمك الحياة لتقتلع طعم الموت الساكن مسامك من غبار القبر؟ أليست هنا من ضمتك لصدرها بقوة ثقب أسود كي تمتص العذاب الذي سكنك؟ أليست هي من مسحت الدموع عن خديك ووجنتيك بكفيها وعادت لتمسح بهما وجهها كي تشعر بحرارة الألم وتوقد العذاب الذي يسكنك؟

صبحية هي الأخت والأخ، بعد رحيلها، لن تستطيع الآن امتلاك فمك، أوتارك الصوتية، لتصرخ حين يلم بك وجع "آخ، فالأحياء يعيشون في زوايا النفوس التي يريدون أن تحقق رغباتهم فيها، حتى على حساب الأموات، يبحثون عن ثنايا يخلقها الوهم، فيظنون بل ويعتقدون أنهم ملكوا الحقيقة، ترفق بذكراها، فإن فاتك جبر خاطرها، اقتلاع حزنها، اجتثاث شعورها ببعدكم عنها وهي في الرخاء قبل الشدة، تشدد حتى حد الشدة التي لا تلين في فرض حرمة موتها، حرمة ذكراها، وحرمة من كانوا جزء من تكوينها ونواتها، ترفق بعنان، وحنان، بعبد الرحيم، بهيثم، احملهم في المآقي، في البؤبؤ، حتى لو كانوا يحاولون لومك وعتابك، هم الأثر الوحيد الحي الذي يجول ويتحرك، يحمل صوتها، رائحتها، حبها، تفانيها، ادفعهم في قلبك، واحشرهم في روحك، عندئذ، كن على يقين بأنك تجبر في خاطرها وهي تحت ضغط الموت ووطأة الفقد.

كانا يودان الذهاب، لكنهما من بين شفافية نور على محياهما، تبسما، وأشارا لي نحو ممر طويل، تتناثر حبات الضياء فيه، رأيتها قادمة، بيضاء كما عهدتها، رائقة كما عرفتها، صافية صفاء اللطافة، متوهجة توهج الرحمة، وعلى كل جسدها تتوزع النجوم والبسمات، تقدمت، مدت يديها، حملتني على الضياء، غمرتني بالبياض، جللتني بالصفاء، كللتني بالتوهج المحمل بالرحمة، دفعتني نحو صدرها، قالت: قلبي عليك يا حبيبي، هل قالت لك ابنتي حنان: بأنك تحمل الحنان الذي كنت أحمله لها ولأخوتها؟ نعم قالت لي ذلك. هل قال لك عبد الرحيم: بأنك من ربيتهم يوم كانوا يعشقون البيت الذي تسكنه مع والدي؟ نعم قال لي ذلك. هل قالت لك نيفين: بأني مت وأنا راض عنك وعن حنانك؟ نعم قالت. هل قالت رازان: بأني لم أحمل لوما أو عتابا لك أو عليك؟ نعم قالت. هل قالت لك عدن: بأنك خالها الغالي؟ نعم قالت.

وضمتني من جديد، شعرت بالحياة تتفجر ينابيعا، فراديسا، كالبلدة التي قضت حياتها فيها قبل رحيلها، بلدة الفراديس، كانت تشد على قلبي، قالت: افتح فمك، وفيه نفخت، قالت: جزء من روحي كنت طوال حياتك، وهذه النفخة جزء من روحي التي منً الله علي بها قبل الرحيل وبعده، كي أبقى فيك، وتبقى في، كي تكون أنت أنا، وأنا أنت، كي نكون عنوان ذكرى ووفاء.

والدي ينظران، يبتسمان، يهمسان، فيهما يتجلى الرضا، عانقتهم، عانقوها، قالت: هذا أخي، حبيبي، خلي، صديقي، ابني، قالا: لم يكن بالصوت، بل بالصمت الحنون، صمت الحق، الحق فقط، ستبقين أنت في قلبه وروحه، تاج الحياة، قمة العطاء، لكنه سيبكيك، قبل الميلاد، في الميلاد، وبعد الميلاد، بكاء شوق يحرقه الشوق، وتوق يشويه التوق.

هذه المرة، لم ألتق بالموت، لم ألمحه، حزني عليك ملك كل تكويني ومكنوناتي، سري وجهري، قطعة من عذاب تمشي على الأرض، تلمح الوجود بلمحات عابرة، يردها الموت نحو أجساد غادرت، جسد والدي، والدتي، أختي، فتبقى الرؤى معلقة على ألواح الحنين المشحونة بالذكريات، بالبسمات، ببريق العيون المتراقص شوقا ولهفة، بدعوات مرفوعة بالأيدي والوجوه نحو السماء، نحو الخالق، البارئ، المصور.

ظننت بأن الشقة بعدت بيني وبينه، هو الموت، الحاضر الغائب، لمسني بوضوح أشد نقاء من النور، لمسته بتوق الغريب للإياب من هجرة رحم مخصب بالدفق والتدفق، شددته نحوي بأنامل تكاد لا تملك من سواعدها ومتونها شيئا من قوة، حتى جاءني يوما بجملة صغيرة من طبيب، هناك كائن صغير يسكن دماغك، لكنه فتاك، بينه وبين الفناء علاقة وطيدة، أحد صور الموت، الرحيل، عدت للبيت، ابنائي على الفراش، يغرقون بسبات عميق، وجوههم تقفز كفراشات ملونة، تضح الحياة في الورود والأزهار، في الجمال والحرية، نظرت حولي وأنا بين شتات يطارده تفرق وتطاير، ناداني من بعيد، هذه المرة شعرت بقسوته التي تتواءم مع القهر والمصائب، لم يكن قد تبقى بأعماقي علاقة تدفعني نحوه كما فعلت يوم الخروج من الرحم.

قال: ظننت ببعد الشقة بيني وبينك، وكأنك لم تدرك ماهيتي، أنا الحق، اليقين، هل غابت أسمائي عنك لهذا الحد؟ كل شيء، كل جماد وحي، كل ما يرى وما لا يرى، ما يحس وما لا يحس، له في ثناياي مكان، مكان في النهاية، حتى أنا ذاتي، لي مكان في النهاية، سيبقى فقط من خلقني وخلقك، من صورني وصورك، من بعثني ومن بعثك.

قلت: إنسان أنا، أكثر شيء جدلا، هلوعا وجزوعا، تؤلمني شوكة صبار تتطاير بين نسمات لا ترى، تستقر على الجلد، يتهيج، يحمر، يتجمر، يمد في النفس والروح وديانا وفجاجا من ألم يكاد يطيح بعزمي وحزمي، لسعة نحلة تستطيع أن تغيبني عن الوجود لوهلة، تحتجزني في قاع الألم الذي يذيب الحياة ولو لثانية أو هنيهة.

رأيتك يوم كتبت قصة ورم، ويوم كتبت الجزء الثاني منها، تحدثت معك، تحاورنا حوار المادة مع الروح، الفناء مع البقاء، أنت كنت صاحب الثقة، رغم محاولاتي اقناعك بأني انتصرت عليك، هذا أنا الإنسان، الذي يحاول لملمة الغيب في وعاء من فخار من المعلوم، فتنكسر المحاولة وينكسر الفخار، هذه تذوب في الغيب، وذاك يتلاشى بعمق الغيب، لم أود – تكبرا وتجبرا، جهلا وتمردا – الاعتراف الحقيقي، العملي، بضآلتي كفرد، وضآلة الكون ككل، أمام سطوتك وجبروتك، والأهم أمام حتمية انتصارك علينا جميعا، شئنا أم أبينا، رضينا أم كرهنا، حتى وصلنا إلى كهف يغذينا بقليل من نور كي نظل نحقن ذواتنا بالغباء ونحن نظن بأننا قد حددنا ملامح الحاضر والمستقبل.

الآن، وبعد أن سحبت من روحي شيئا من جوهرها، لففت أختي صبحية بالغيب الذي نحاول الادعاء بأننا نعرفه، علي أن أقدم اعترافا كاملا، واضحا، راضخا، عن علاقتي بك، لماذا أكرهك؟ رغم يقيني المطلق بأنك تقف على بوابة العمر المكتوب لتستل الروح من مكانها، فأصبح كما كل من سبق، غيبا منسيا، وكأنه لم يكن يوما هناك كائنا يكتظ بالأمنيات والأحلام والتفاصيل، لم يكن هناك شوق وتوق ورجاء وطموح وخيال ووهم، ربما بهذا الاعتراف أترك شيئا مني للغيب، الذي يدرك المعلوم، دون أن يدركه المجهول.

هل تصدق إن قلت لك: بأن الدنيا كلها، الأكوان كلها، بما فيها من مسافات وفضاءات، من امتدادات وتوسعات، تأتي محجمة، صغيرة، فقط بحجم ابتسامة ولدي معتصم حين يقفز الفرح من عينيه وصوته وهو يقدم لي كل ثمين ونفيس، من أجل الشعور بأنه حقق لي ما يستطيع تحقيقه حتى لو كان ذلك على حساب مستقبله ومستقبل أولاده؟ أنت لم تكن هناك معنا، يوم كنا في المشفى ننتظر بصبر نافد وصول لين من الرحم لكفي والدها، لصدر والدتها، يوم جاء معتصم من غرفة الولادة، تتقاسمه السعادة وتتملكه الفرحة، وتكتظ بأعماقه النشوة، ليرمي نفسه بحضني، يقبل رأسي، يشمني، ويقول: هذه جزء منك يا أبي، يومها رأيت الدنيا تتكوم بين ريش طاووس وتاج هدهد، ترقص وتغني، كان يتشقق فرحا، كالأرض حين تتنفس حبات الندى.

لم تكن يوم شرقت بلعابي حتى الغصة، وبدأت أخور كثور مذبوح وأنا أتلوى كأفعى غاضبة بحثا قليل من الهواء للتنفس، لم تكن هناك، لترى امتقاع لونه وقمة عجزه وهو يدور حولي كأنه من فقد التنفس، أنت لم تكن هناك يوم أشترى سيارة حديثة كانت نفسه معلقة بها حد الانبهار، فآثرني على نفسه.

لم تر فرحته حين كنت أزوره في بيته، فيهرب أولاده للاحتماء بي منه، كأن يقول: هكذا كنا نختبئ خلف جدتي يوم كنا نهرب منك. لم تسمع جملته يوم سألته الطبيبة النفسية: بمن تثق في حياتك؟ ففاجأها الجواب القاصم الحاسم، بوالدي فقط.

هل كنت موجودا يوم اتصل بي ولدي أحمد من المشفى، ليقول وهو ينخرط ببكاء أفقده اللفظ والمفردات، جاءت ريما يا أبي؟ أنت لم تعرف كيف كانت الدنا تتحدب لتصل حد الظل المشبع بالطل يوم مسكتها وهي تتنفس أنفاسها الأولى بالحياة. لم تكن بكل ما فيك موجودا وهما يدوران حول مائدة الطعام، يبحثان عن أفضل اللحم طراوة ولذة ليقدماه لي، لقمة خلف لقمة، وملامحهما تكاد تتساقط من شدة الفرح وأنا أمد يدي لالتقاط ما يقدمان لي.

أنت لا تعرف اللحظة التي يقتحمني، يستعمرني، يستبد بي، شعور البهجة والتحليق بين النسيم والنجوم والأقمار، لحظة اندفاع أحفادي نحو الباب وهم يصرخون: جدي، جدي، فتنام الحياة بهدوء في قلبي، طلبا لقليل مما أشعر وأحس. وستبقى بعيدا عن اللحظة التي يصحو أحد أحفادي باكرا وأنا على الحاسب أكتب شيئا، فتأتي رافعة يديها نحوي كي تستقر بحضني وهي تثغو بكلمات خفيفة ناعمة، ثم تلصق خدها بخدي، وترمي رأسها على قمة كتفي ليلمس وجهها الطفولي رقبتي، فتنتفض السعادة، وتثور النشوة، وتلتحم الفرحة، حتى تكاد تعصف بالروح وتوردها موارد الألم المندمج باللذة والاستعذاب.

لم تكن يوم جاءني ولدي مصطفى ليسألني: هل ستصبح حجا؟ ويقصد بذلك الرجل الطاعن في السن، قلت: نعم، قال: وهل ستموت؟ قلت: نعم. فقال: لا، لا أريدك أن تصبح حجا، ولا أريدك أن تموت، وحتى لو مت، لن أخرجك من المنزل، ستبقى هنا لأراك كل يوم.

يومها بحثت عنك، خلعت أحذيتي وأقدامي، تهت في التجوال والتنقيب، كنت فقط، فقط أريدك أن تسمع ما قال طفلي الصغير، لكنك كنت كما عادتك في الغيب، حاضرا أمام أب أو أم تستل الروح منها ومنه.

علاقتي بك ليس كعلاقتي بك يوم الميلاد، هذ اعتراف صريح وواضح، فأنا اليوم أقف أمام سرب من الطيور التي خرجت من صلبي، كل واحد منهم فيه شيئا من رائحتي، من رائحة أبي، من رائحة أمي، وفينا الكثير الكثير من روائحهم، من البراءة المستقرة بالصفاء والنقاء التي تجري من فطرتهم، أنا لا أبحث عنك كي ألتصق بك كما فعلت يوم فككت رباط السرة بعد خروجي من الرحم، بل أود فقط محادثتك، حديث النهاية للنهاية، كي تخبرني فقط، كيف سيكون أولادي، أحفادي، يوم تزورني زيارتك الأخيرة.

سأكون منافقا حد الخديعة لو قلت بأني أحبك، لكنني أعلم يقينا مستل من اسمك، اليقين، بأني غير جاحد أو كنود من دخولي عالمك، لأني كما قال لي ولدي معتصم يوم رآني أغوص بكآبة عميقة خوفا من الرحيل وفقد رؤيتهم ولمسهم: لا تحزن يا أبي، أنت ستغادر عند من هو أفضل منا جميعا، سترى بدلا منا وجه الله إن شاء الله.

نعم، هنا سأقف لأقول لك قولتي الأخيرة: لست أخشاك، رغم ما يشدني من انسانيتي للحياة، ورغم تملك الرهبة ذاتي حين تمر من جانبي، فأنا سأمر من غيبك نحو وجه خالقي وخالقك، لأكون هناك بين رحمته ومغفرته، ليس بين عدله وقسطه، لأنني برحمته فقط وحنانه الذي يفوق حنان الأم والأب، أستطيع أن أشعر بالطمأنينة وأنا في الحياة أتقلب مع تقلباتها، وأنا في الغيب الذي لا يغيب عن تلك الرحمة وتلك المغفرة.

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين – مخيم طول كرم

15- 2- 2023

.............................

* مهداة لوالدي وأولادي وأحفادي وأختي صبحية، علها تكون صدقة جارية عني وعنهم يوم يلفنا الغيب لنكون بين القدير العزيز.

 

 

(لا تولد المرأة امرأة، لكنها تسعى لتصير امرأة)... سيمون دي بوفوار (زوجة الفيلسوف سارتر)

بهذا الكلمات التي يلمئها الألم والشجن لتقول بأن الرجل مازال لم يعترف بعد بأحقيتها كونها إنسان مثله، لذلك هي تسعى في الحياة من أجل أن تكون كما خلقها الرب إنسان كامل. لا كما يدعي البعض بأنها ناقصة عقل ودين، فرد عليهم الكاتب الإغريقي صاحب رواية زوربا اليوناني قائلاً، نحمد الرب إذا كانت الأنثى تمتلك جزءاً من العقل والدين، فالرجال لا يملكون العقل ولا الدين!

اليوم يزداد خوفنا من المتعلم المتعصب أكثر من الجاهل! كونه يستطيع التأثير بالآخرين بسبب أفكاره العدائية للحرية، حتى باتت حياتنا الشرقية عجين لا يريد أن يختمر! ولو نظرنا لكثير من الرجال التافهين لرأيناهم يتصورون أنفسهم رغم تفاهتهم أفضل من أي امرأة والعياذ بالله!

لننظر ما حدث للكاتبة التركية نهال بينويله:

صدرت أفضل مؤلفاتها بأسم مستعار (فنسنت يوينغ) خاصة روايتها- صبايا صغيرات - التي ذاع صيتها عالمياً وترجمت إلى لغات عدة وعندما سؤلت عن سبب إستعارتها لإسم رجل مسيحي وأمريكي الجنسية، قالت بالحرف: كنت أنا نفسي صبية صغيرة عندما كتبت هذه الرواية. وضعت فيها قدراً لابأس به من الشهوانية التي تعتبر غير ملائمة للفتيات اليافعات أمثالي. أردت بأفكاري الإستقلالية التحرر من مرساتي كوني امرأة مسلمة لا يسمح لها الكتابة بحرية عن الجنس والأنوثة والجسد! لذلك قررت أن يكون كاتب الرواية رجلاً مسيحياً أمريكيا.

هناك نساء إتخذن الإستعارة الرجولية لكتابتهن للتخلص من الضغوط الذكورية التي تلاحقهن منهن كانت (ماري آن إيفانس) التي كانت تكتب أشعارها بإسم- جورج إليوت – وقد تستغرب عزيزي القارىء من هذا الأمر بعد أن عرفت بأن إليوت امرأة وليس رجل!

أمارتين أورو أيضاً هربت من نفسها لتتخذ إسماً مستعاراً لكتاباتها فقررت أن تكون رجلاً (جورج ساند) هذا الذي نقرأ له عمرنا كله ولم نعرف بأنه سيدة حاولت أن تتحرر لتقول كلمة صادقة وجريمتها كانت فقط ولدت امرأة في مجتمع ذكوري!

تستمر المعاناة الصامتة التي لها طعم الحزن، ومن غير المتوقع نعرف بأن الكاتبة التركية الشهيرة التي ترجمت أعمالها الأدبية إلى لغات عالمية كثيرة غيرت هي الأخرى أسم عائلتها الذكوري لتتخذ من إسم أمها لقبها فعرفت بأليف شفاق والأخير هو أسم أمها وليس أبيها!!

***

بقلم: هيثم نافل والي

تمثال "سركت" إلاهة الترحاب القابع بمطار القاهرة نموذجا.

تعتبر المَعالِم الأثريّةِ إرثاً وطنيّاً هامّاً وحسّاساً يميز بين الأمم، ويكشف الكثير من معالم عيشها وقيمها وطريقة حياتها وحياة الأقوام المُندَثِرَة، ويُعرف العالم على تاريخ حضاراتها، وكيف قامت وكيف ازدهرت، وكيف ولماذا انتهت؟ إلى جانب ما تلعبه كموروث تاريخي وحضاري -خلفه الأجداد للأجيال اللاحقة -من أدوار اجتماعية واقتصادية حيوية ومهمة في تكوين هوية المواطن، وتقريبه من تاريخ وطنه، و تعزيز قيمه الوطنية، وزيادة انتمائه لحضارته، وترسيخ اعتزازه بها، وتحسين ظروفه المعيشية عن طريق الجذب السياحي الذي يشكّل له ولمجتمعه مصدر دخل مهمّ وحيويّ وفعّال في تنشيط الحركة الاقتصاديّة بما يضَخّه بخزائن بلاده من أموال كثيرة وبالعملة الصعبة .

ربما يتساءل متسائل عن مناسبة هذا السرد الممل لكل هذه المسلمات العادية، وتلك المعلومات البسيطة التي يعرفها العادي والبادي، فأجيب بان الدافع لذلك هو اهتمام المسؤولين المصريين بآثار بلادهم وبكل ما يعكس حضارتهم الأصيلة ويوطد ربط ماضيها بحاضرهم والمستقبل، عملا بقاعدة أن :"الإنسان لا يعيش حاضره منفصلاً عن ماضيه" والمتمثل في ما يمكن لكل زائر لمصر ملاحظته من خلال الصور والمجسمات الأثرية الرائعة التي تزين بها ساحات وميادين جل المدن المصرية، خاصة مدينة القاهرة، كما هو حال مطارها الدولي،الذي ازدان بتمثال  لـ"سلكت" إلهة الخصوبة والطبيعة والحيوانات والطب والسحر والشفاء من اللسعات السامة في الديانة المصرية القديمة، الذي نصب بفضاء الباحة الفسيح لاستقبال الزوار ودعوتهم لرُؤية عظمة تراث الأقوام والحضاراتِ المُندَثِرَة، في البناء، والدّقّة في التّصميم، والأفكار الخلّاقَة التي تشخصها المَعالِم الأثريّةِ المهمّةِ والكثيرة والمتنوعة، والتي على رأسها الأهرامات و"أبو الهول"التي قيل فيهما ةعنهما، أن من يزر مصر ولم يعرج على أهراماتها العظيمة، ولم يقف عند قدم "أبو الهول"، فكأنه لم يزر مصر، وهو كمن يسافر إلى باريس ولا يشاهد أشهر معالمها، قوس النصر و"برج إيفل" و"نوتردام دي باري"، أو كذاك الذي يذهب إلى لندن ولا يرى جسرها العتيق London Bridge وساعتها العظيمة "بج بن" Big Ben"، أو كالذي يقصد روما للسياحة ولا يتوقف عند نافورتها الشهيرة "فونتانا دي تريفي"، ولا يأخذ صورا تذكارية ب "بياتزا ذي اسبانيا"، المعروف  بـ Spanish Steps،  ولا يزور كاتدرائيتها "سيستين".

فعلى من يتوق لزيارة القاهرة، والتجوال في ساحاتها، ومشاهدة متاحفها، وقصورها ومقاهيها، بكل أبعادها الثلاثية والرباعية، ويرغب في التعرف على أحيائها العتيقة، كـ"الحسين" و"السيدة زينب" و"العجوز" وخان الخليلي" -الذي لا ينازعه أيُ سوق آخر في شهرته وتاريخه ومعروضاته- و ميدان التحرير ومكتبة الحاج مدبولي الشهيرة ، فما عليه إلا أن يركب سيارة أجرة، تجوب بك شوارع القاهرة، وتغوص في أعماق معالمها التاريخية والحضارية الجميلة التي لا تكتمل زيارة مصر إلا  بزيارتها والوقوف على أعمال مفكريها ومثقفيها ومبدعيها وفنانيها .

التجربة الشيقة التي عشتها،قبل أكثر من عشر سنوات، أثناء زيارتي الأولى لعروس النيل وجوهرة أم الدنيا ومحروستها "القاهرة"، والتي لازلت أكررها عند كل زيارة،  حيث أنه كلما استقلت سيارة أجرة، إلا وجدتني أمام سائق بشخصية كاملة الاستعداد لخدمة زبائنه، والذي ما أن يُفتح بابُ للحديث  حتى ينطلق، في أدب عالم وخفة ظل شاعر، في وصف أدق تفاصيل مصره التي يعشقها حد الجنون، مفتخرا بسر أمومتها للدنيا، وكونها منطلق  رحلة بناء الحضارات البشرية، وبزوغ نور الله الحق على أرضها، وتجلي المولى عز وجل لنبيه وكليمه موسى بن عمران فيها، وأنها كانت بلاد أجمل الخلق يوسف بن يعقوب، وخليل الله إبراهيم، وملك الملوك أخناتون (أمنحوتب الرابع)، وملكة الحب كليوبترا .. وأنها كانت مربع ومنبع رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين، وسعد زغلول، ونجيب محفوظ … ومن ربوعها انطلق الأدب والصحافة والنضال والثورات والحب و الموسيقى والفن والدين.

***

حميد طولست

عندما ذهبت إلى القصر الكبير للمشاركة في تقديم مجموعتي القصصية "فحص مضاد" ضمن أنشطة المعرض الجهوي للكتاب، لم أكن حسمت فيما سأشارك به في الأمسية التي قُدّمت فيها مجموعتي ومجموعة "سليل شجر الصبار" لصديقي الأستاذ غريب الغرباوي.

بعد كلمات تقديمية لمسير الجلسة الأستاذ أنس اليوسفي، تحدث د.محمد نافع العشيري عن مجموعة "سليل شجر الصبار"، ثم تحدث ذ.محمد المؤدن عن مجموعتي "فحص مضاد"، وتحدث ذ. غريب عن مجموعته، وكان صوتان في داخلي يتصارعان.

كان أحد الصوتين يقول: تحدثْ عن بداية علاقتك بالسرد، ومحاولاتك القصصية أيام الدراسة بالثانوي، ومن شجعك على الكتابة، وبدايات النشر، وأهمية القصة القصيرة في حياتك...

وكان الصوت الثاني يردد في حزم: حَسْبُك أن تقرأ قصة من قصص مجموعتك، فخير ما يقدم به المبدع عمله أن يقرأ نموذجا أو مقطعا منه.

وحين قدّمني الصديق أنس إلى الحاضرين حاولت أن أبرم صلحا بين الصوتين في داخلي، فأشرت إشارات قليلة إلى صلتي بالقصة و بالسرد عامة منذ الطفولة. قلت إن هذه الصلة بدأت وأنا أصغي إلى والدي - رحمه الله - يحدثني عن رحلاته وأسفاره وتجاربه في الحياة، وذكرت ما تلا ذلك من قراءات عدَدْتُها ماء عذبا زلالا سقى بذرة القصة التي غرسها والدي في أعماقي، وأشرت إلى بعض من شجعني على المضي في كتابة القصة القصيرة، فذكرت منهم أستاذي عبد السلام الجباري - حفظه الله - وأستاذي محمد العمراني - رحمه الله - وكلاهما من القصر الكبير.

ثم انتقلت سريعا لقراءة نص "كليينطي" من مجموعتي "فحص مضاد"، ممهدا لذلك بالقول: "إن خير ما يقدم به كاتبُ القصة نفسَه أن يقرأ نصا من نصوصه".

لماذا اخترت "كليينطي" دون باقي قصص المجموعة؟

أهو شوق إلى تلك الأكلة الشعبية؟

أهو حنين إلى مرحلة الطفولة التي كنت أقبل فيها على أكل الكليينطي بنهم؟

ألِأنّي رأيت، من قبل، باعةً لها في القصر الكبير، فبحثت عن نص يضم مشتركا بين أصيلا والقصر؟

ربما لذلك كله، وربما وفاءً للراحل محمد البغوري رحمه الله، وقد جرى ذكره على لسان صديقي أنس في حديث قصير بيننا قبل انطلاق الأمسية، وهو الأديب الذي ذكرتُه في قصة "كليينطي"؟

لاحظت وأنا أقرأ القصة تفاعل بعض الحاضرين مع أجوائها، وتلقيت بفرح انطباعات عنها بعد نهاية اللقاء:

- قالت الأستاذة بشرى الأشهب: صدقتَ إذ قلتَ إن خير ما يقدم به القاص نفسه هو قراءة نماذج من أعماله، فقد جعلتنا بقراءتك للنص نفهمه جيدا، ونتمثل مضامينه، وشوقتنا لأكل الكليينطي في أصيلة.

- وقال الدكتور عبد الوهاب إيد لحاج في حديث معه ومع العزيز سيدي الطيب المحمدي: شوقتنا لأكل الكليينطي. وأشار إلى بائع له في أحد أحياء القصر الكبير، وشكل ذلك منطلقا لحديث مطول حول المشترك بين أصيلا والقصر الكبير.

-  وكتب الشاعر أنس الفيلالي معلقا على صور من الأمسية نشرتها على صفحتي "الفيسبوكية": كانت القصة الرائعة التي قدمتَها صورة عما تحفل به المجموعة القصصية من نصوص في غاية الجودة والمتعة.

- وانتقد صديقي الأستاذ إبراهيم طلحة لغة الحوار في بعض قصصي - ومنها قصة كليينطي - بعد ثناء على المجموعة كلها وتعبير عما راقه فيها قائلا: [تضم] مجموعتك قصصا ماتعة كُتبت بلغة سردية سلسة ذات طلاوة وحلاوة، وتعكس الواقع الاجتماعي، فالأدب الصادق ليس معزولا عن المجتمع، بل هو مرآته [...] ما يؤاخذ على صاحب كتاب "تصويبات لغوية في الفصحى والعامية" هو اعتماد الدارجة في بعض المقاطع الحوارية (اعمل أخاي) في قصة "كلنطي" أو (بالاك) في قصة "تقرير لم يكتمل"، مع أنك تمتلك قدرة لغوية محترمة لا أخال أنك ستجد معها صعوبة تُذكر للتعبير عن المعنى العامي بالفصحى.

بعد عبارات مودة وتقدير لصديقي إبراهيم طلحة كتبت في مناقشة رأيه: أما رأيك في استخدام العامية في لغة الحوار داخل بعض القصص، فإني أحترمه كل الاحترام، ولكني وجدتني مدفوعا لانتهاج ذلك في بعض القصص، خصوصا حينما يجري الكلام على لسان أناس ليسوا من المثقفين أو ليست لهم دراية بالفصحى (كبائع الكليينطي مثلا)، وأرى أن هذا النهج أقرب إلى الواقع، وأكثر انسجاما مع الواقعية، وأوقع في نفس المتلقي، وأدعى إلى تعميق تفاعله مع أجواء النصوص وعوالمها...

هذا، وقد اعتمدت الفصحى لغة للحوار في بعض القصص كما في قصة "بسمة شرطي" التي يجري فيها حوار بين شرطي ومثقف...".

ولعل رأيي هذا نال إعجاب الأستاذ إبراهيم، فلم يعقب بكلمة، واكتفى بإشارة إعجاب.

بعد عودتي وعزيزي الأستاذ محمد المؤدن إلى أصيلا، تجدد لقاؤنا بأحد مقاهي المدينة، بعد أيام، وتجاذبنا أطراف الحديث طويلا، ثم كان اللقاء بصديقنا يوسف بنجيد ونحن في طريق العودة من المقهى بعد منتصف الليل.

وبينما نحن مارون بأحد الأزقة إذا بنا نرى دكانا خاصا ببيع الكليينطي ما زالت أبوابه مفتوحة. دعوت الأصدقاء إلى تناول قليل من هذه الأكلة الشعبية. وقلت ليوسف ونحن ندنو من الدكان:

- "بغيتِ كليينطي في الخبز أو في الكاغيط؟"

أدرك أني أستحضر مقطعا من القصة، فرد ضاحكا:

- في الكاغيط.

وكانت لحظة جددت فيها الوصال بلذة استشعرتها وأنا آكل ما تيسر من هذا الطعام الشعبي بعد منتصف الليل.

ترى أكانت تلك لذة "الكليينطي"؟ أم لذة النص الذي كتبته عنه؟ أم لذة تلقي القصة من إخوان وأصدقاء في القصر الكبير؟...

لست أدري.

***

أبو الخير الناصري

يشير مصطلح (السياحة التطوعية) إلى مساهمة أو انخراط السياح في عمل تطوعي أو خيري معين خارج البلاد أو داخلها، والمساهمة في تقديم خدمة معينة دون مقابل مادي. مثل الاشتراك في أعمال التنظيف في إحدى الجزر الحيوية من الناحية السياحية، وقد شهدت تراجعا في موضوع النظافة لأسباب معينة، أو أعمال التشجير في إحدى المناطق بغية التقليل من الآثار السلبية للانبعاث الكربوني على البيئة، أو أعمال الإنقاذ الرامية إلى حماية أحد الأنواع الحيوانية أو النباتية المهمة في محمية طبيعية معينة، قد تم توظيفها في الأنشطة السياحية، أو الاشتراك في حملة تهدف إلى إيجاد أو إقامة أو دعم أحد أشكال السياحة المستدامة في أحد البلدان السائرة حديثا على طريق الاستدامة. أو التطوع في مؤسسة أو منظمة خيرية أو اجتماعية أو صحية قائمة على تقديم خدمة لفئة معينة من الناس كالأيتام أو كبار السن أو المرضى أو ضحايا كارثة طبيعية مثل الزلزال والفيضان والانهيارات الطينية.. الخ... ووفقا لضوابط وشروط، مع إمكانية دعم هذه المبادرة بتقديم مساعدة مالية أو عينية.

و بإمكاننا أن نسوق هنا بعض الأمثلة الحية على بعض الممارسات في هذا النمط السياحي المهم في عالم السياحة والسفر، ومنها: التطوع في أحد المشاريع البحثية أو النشاطات العلمية المنتشرة في ماليزيا، مثل مشروع (جوالا) للسلاحف ومشروع (دب الشمس (أو دب العسل) في ولاية (صباح)، أو مشروع انسان الغاب في (ماتانغ). والرالي الدولي في (بورنيو)، أو التطوع في أحد مشاريع الحياة البرية في (زولاند)، أو برنامج الاستدامة في (وايلد كوست) في جنوب افريقيا. وتهدف إلى الحفاظ على الموارد الطبيعية واستخدامها على نحو أمثل، بعيدا عن أوجه الاستنزافات والافراطات، مع العمل على توظيفها وتوجيهها نحو المجتمعات المحلية على نحو إيجابي ملموس.

وهناك الكثير من الأمثلة على السياحة التطوعية في النيبال وكمبوديا غانا وجنوب افريقيا والكثير من الدول في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. كما هناك برامج وخطط تروج لها منظمات ومؤسسات معينة تنشط في هذه الدول وغيرها، بالإضافة إلى تلك الخدمات التي تقدمها بعض شركات السياحة والسفر. مع وجوب الإشارة إلى وجود بعض السلبيات والمثالب المرتبطة بهذا النمط السياحي التي ينبغي أن تمارس وفقا لضوابط وشروط ضرورية.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.......................

للمزيد من الاطلاع، ينظر (السياحة التطوعية.. الأطر النظرية والتطبيقات العملية، تحرير أنجيلا م. بنسون 2015). وأيضا (السياحة التطوعية جيم بوتشر، روتليدج 2015). و(السياحة التطوعية: تجارب تحدث فرقا، ستيفن ويرنج، سلسلة كابي 2001). علما تشير الاحصائيات إلى أن هناك أكثر من (1،5) مليون سائح ينفقون نحو (2) مليار دولار سنويا على مثل هذه الأنشطة التي تتوسع يوما بعد يوم.

ولد تشيخوف عام 1860، وولدت أخماتوفا عام 1889، وتوفي تشيخوف عام 1904، عندما كان عمرها 15 سنة ليس الا، ولهذا لا يمكن القول انهما عاصرا بعضهما البعض في مسيرة الابداع الادبي الروسي، ومن المؤكد، ان تشيخوف لم يسمع باسمها بتاتا . ومع ذلك  - وياللغرابة -  يمكن تلخيص موقف الشاعرة الروسية الكبيرة أخماتوفا تجاه تشيخوف بكلمة واحدة فقط، وهي – (اللاحب)، ولكن مما يخفف من وقع تلك الخلاصة، انها تمثّل موقفا عاما من قبل جماعة تيّار (الذروة) الادبي، الذي ظهر في بداية القرن العشرين، وكان على رأسه زوج أخماتوفا الاول، الشاعر والناقد الادبي والمترجم غوميليوف (انظر مقالنا عنه بعنوان غوميليوف الشاعر الروسي المخضرم)، هذه الجماعة التي ظهرت بالذات في فترة التحولات والاحداث المصيرية الكبيرة، التي مرّت بها روسيا (الثورة الروسية الاولى والحرب العالمية الاولى وثورة اكتوبر الاشتراكية وانهيار الامبراطورية الروسية وبدايات بناء دولة الاتحاد السوفيتي ..الخ ..الخ)، ولم يكن تشيخوف في تلك الاحداث الجسام نجما ساطعا طبعا، اذ لا توجد عنده – كما هو معروف – موضوعات تتناغم مع طبيعة تلك الاحداث الساخنة جدا، ولا يمكن لابطاله الذين يتحدثون عن شؤونهم ومعاناتهم الحياتية اليومية ان يثيروا ادباء وقراء ذلك الزمان العاصف، او ينسجموا او يتعاطفوا معهم، حتى تروتسكي نفسه (الرجل الثاني في ثورة اكتوبر عندها) كتب في كتابه المعروف (الادب والثورة) الصادر عام 1923 حول فرقة مسرح موسكو الفني ما يأتي – (... اناس يعيشون لحد الان في اجواء مسرح تشيخوف من الاخوات الثلاث والخال فانيا ونحن في عام 1922 .. وانهم لحد الان يعرضون للاوربيين والامريكان كيف كان رائعا بستان الكرز في روسيا الاقطاعية العتيقة..) . آنا أخماتوفا ايضا كانت ضمن هؤلاء الذين لم يتقبّلوا تشيخوف، ولكن موقفها لم يكن بالطبع منطلقا من موقف تروتسكي تجاه تشيخوف ولا متطابقا معه ولا حتى قريبا منه،  اذ انها لم تعتبر تشيخوف ممثّلا لروسيا العتيقة كما هو حال تروتسكي، وانما انطلقت من مواقف منها مثلا موضوع الفن ودوره الانساني وقيمته الاجتماعية، لانها تعتبر الفن (..ظاهرة سامية ..وان الفنان يتقبّل الفن من قوى روحية عليا ..وانه يميّز النص الشاعري العالمي المطلق ..)، وهذه بالطبع آراء جماعة تيار الذروة، وكانت تؤكد ان تشيخوف لم يكن فقط بعيدا عن تلك الافكار حول الفن، بل انه لم يكن يعترف بها اصلا، وانه بالتالي أساء لدور الفنان وقيمته – حسب رأيها – لانه أخذ يكتب كما اراد القارئ منه ان يكون . لقد كتب الكثيرون ممن كانوا يعرفون أخماتوفا ويختلطون معها أقوالها حول تشيخوف في مذكراتهم، ومنها – (..تشيخوف يتناقض مع الشعر ..) و(..لا اصدّق الذين يقولون انهم يحبون تشيخوف ويحبون الشعر ايضا ..) و(.. ابطاله يثيرون الملل وهم باهتون وقرويون ..) الخ .. وبشكل عام كان من الواضح تماما، ان أخماتوفا لم تكن تحب قصص تشيخوف ومسرحياته، ولكن بعض النقاد والباحثين الذين كتبوا حول موقف اخماتوفا هذا توقفوا عند نقاط كانت – مع ذلك – تجمع بين خصائص ابداع اخماتوفا وتشيخوف حسب رأيهم، ومن بين هذه النقاط مثلا، آراء باسترناك حول تشيخوف، التي تحدّث عنها في اربعينيات القرن العشرين، اذ انه لم يتفق فيها مع أخماتوفا بشأن تشيخوف، معتبرا اياه  الكاتب الروسي الوحيد الذي لم يرشد القراء او ينصحهم او يعظهم، وبالتالي، فانه بقي فنانا (..نقيّا وخالصا..)، بل ان باسترناك اعتبره (..جوابا على فلوبير..)، وربط هؤلاء النقاد ملاحظات باسترناك بموقف غوميليوف وأخماتوفا، اذ انهما كانا يحلمان معا بتطبيق تلك المواقف والمبادئ نفسها لدرجة ان غوميليوف كان يقول لها مازحا (..اسقيني السمّ..) عندما ترين باني بدأت بارشاد الناس او نصحهم ووعظهم . وأشار هؤلاء النقاد ايضا الى مسألة في غاية الاهمية، وهي ان تروتسكي في كتابه الذي أشرنا اليه اعلاه قد ذكر، ان عبقرية أخماتوفا ترتبط بروسيا العتيقة، مثلما يرتبط موقف فرقة مسرح موسكو الفني بأدب تشيخوف المسرحي (..لروسيا الاقطاعية العتيقة ..)، ويستنتج هؤلاء النقاد ان أخماتوفا تناولت واقعيا في شعرها نفس تلك الموضوعات الانسانية والصور الخالدة في الادب، التي تناولها تشيخوف لدرجة  انهم وجدوا في شعرها بعض الاحيان (..تنفّسات بستان الكرز التشيخوفية ..)، كما كتب احدهم، وان تروتسكي كان محقا – من وجهة نظره طبعا – عندما اعتبرها تمثّل روسيا العتيقة مثلما كان تشيخوف يمثلها ايضا . وهذه كلها ملاحظات صحيحة من وجهة نظرنا . ومن الطريف ان ننهي هذه السطور الوجيزة عن هذا الموضوع الجديد تماما للقارئ العربي بالاشارة الى ما كتبته أخماتوفا نفسها مرّة، عندما كانت محاربة من قبل النظام وممنوعة من النشر في حينها، اذ انها لم تجد افضل من تشيخوف للحديث عن اوضاعها آنذاك . وهكذا قالت، انها تعيش وكأنها في (ردهة رقم 6)، وهو عنوان لقصة تشيخوف المعروفة والمشهورة جدا، هذه القصة التي كتب عنها حتى لينين مرّة قائلا، انه ترك الغرفة متضايقا نفسيا عندما انتهى من القراءة، لانه شعر وكأنه كان في تلك الردهة . لينين استخدم القصة في روسيا القيصرية رمزا لها، وأخماتوفا استخدمتها في روسيا السوفيتية رمزا لها ايضا، وما أبعد روسيا تحت حكم القياصرة عن روسيا السوفيتية، ولكن كلاهما (لينين وأخماتوفا) كانا على حق، ولا نظن ان هناك أروع واعظم من هذا المثل للتأكيد على ان تشيخوف قد رسم في ثنايا ابداعه كل معاناة الانسان في مسيرة حياته بغض النظر عن النظام السياسي القائم في بلاده، وهذا ما يفسّر سر استمرار حب القراء له الى الوقت الحاضر، وليس فقط في وطنه، وان أخماتوفا (التي لم تكن تحبه) قد ساهمت ايضا بالاقرار بذلك .

وختاما لهذه الملاحظات، نريد الاشارة الى ان اللاجئين الروس في الغرب قد اسسوا دار نشر كبيرة في نيويورك، والتي قامت بنشر الكثير من الكتب الروسية وتم توزيعها في اوروبا الغربية بالاساس طبعا وعلى نطاق واسع، وكانت تسمى دار تشيخوف للنشر، وقد طبعت دار النشر هذه مجموعة من قصائد أخماتوفا عام 1952، وهكذا صدر كتاب يحمل اسمها واسم تشيخوف معا على غلاف ذلك الكتاب، وقد أشار احد النقاد الروس المعاصرين الى ذلك واعتبره رمزا  للتقارب الروحي بين أخماتوفا وتشيخوف رغم كل مواقفها تجاهه، وهي اشارة جميلة ورشيقة جدا .

***

ا. د. ضياء نافع

....................

* من كتاب (سبعون مقالة عن تشيخوف)، الذي سيصدر عن دار نوّار للنشر قريبا في بغداد وموسكو .

خفايا (لو أنبأني العراف) في مؤشرات سيكولوجية

(مهداة لشعراء اتحاد الأدباء الذين يخشون تحليلنا لهم)

مؤشر (1)

(كل شعري

قبل لقياك سدى

وهباء كل ما كنت كتبت

أطو اشعاري

ودعها جانبا

وأدنو مني

فأنا اليوم بدأت)

بهذا الأهداء اصدرت لميعه مجموعتها (لو انباني العراف) بين 1972 و1978 وفيه اعتراف بخواء ماضيها وبأنه كان بلا معنى،والمعنى هنا (الحب).. لأن جميع من عرفتهم كانوا ذئابا بضمنهم شعراء عرب كبار.. ما يعني ان الرجل يشتهي المرأة جسدا،وان المرأة الشاعرة صعبة في اختيار من تحب،وياويل المرأة الشاعرة من خيبات الحب!.

مؤشر (2)

(قال: سأبقي بابي مفتوحا

قلت: وأبقي..

لكن قدمي لن تجتاز الباب المفتوح

لن يمسخني شوقي.. لن تحملني للصلب جروح

قال: أجن بجسمك.. احتاج اليك، اضمك،افنى فيك،افت الليل بصدرك

قلت: احبك اكثر.. عيناك سماوات وبحور.. صدرك ركن الطير المذعور

قال: اذن تأتين

-  ياحبي المطلق لن آتي.. لن اذبح حبي

في لحظة شوق تغتال سنين.. لن اقتل ذاتي //عانق شبحي

في وحشة ليلك.. واغفر مأساتي).

كبرياء لميعه تجعلها تتعالى عن حاجتها الى الجنس مع رجل يشتهيها جسدا،فيما هي تريده وجودا واشتهاء روح.

مؤشر (3)

(حبيبي انسان كادح

زند اسمر

وجبين مسّده العنبر)

تجسيد لفكرها الشيوعي في حب الكادحين.

مؤشر (4)

(سندريلا

التي تراها

يضوع العطر منها

وتشتهيها العيون

من بلاط الرشييد زهو عليها

وغموض من بابل، وفتون

تتهادى، كأنها للقاء مترف

بانتظار "هارون").

مثلما ساعدت تلك الجنية الطيبة سندريلا لتتزوج الامير، هاهي لميعه تشتهيها كل العيون.. ما يعني ان لدى لميعه يقينا اكيدا بانها فريدة نساء عصرها!فهل كانت كذلك؟ ام

هذا هو حال المرأة حين تكون شاعرة؟

السؤال موجه للشاعرات.

يتبع

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

دأب الأستاذ الدكتور إبراهيم العلاف، منذ فترة ليست بالقصيرة، على التعريف بقرى ديرة ريف جنوب الموصل، والكتابة عنها تباعا.. وكان مشروعه في الكتابة عن قرى ريف ديرتنا موفقا حقا، إذ اكتسب أهمية خاصة، من واقع كون الدكتور إبراهيم العلاف أستاذا متمرسا في مادة التاريخ الحديث إبتداء.. مما يعطي كتاباته صفة المهنية، والرصانة العلمية، كما ان ممارسته التدريس في بعض تلك القرى، في بداية حياته التعليمية، في سبعينات القرن الماضي، منحته الخبرة الكافية، والمعرفة اللازمة، التي اهلته للكتابة عنها بدراية تامة .

وبذلك فإن معايشة الأستاذ الدكتور إبراهيم العلاف الميدانية لمجتمع ريف الديرة، وعلاقته المتميزة مع أهلها ونخبها واعلامها، كانت قد منحه فرصة الإلمام بالكثير من التفاصيل عن ريف الديرة، مما أعطى كتاباته المنشورة عنها في مدونته على الفيسبوك، ومواقع التواصل الإجتماعي، صفة الدقة ميدانيا، زمانا ومكانا، وناسا ومجتمعا.

ولعل التفاتته للكتابة عن أعلام وأدباء ونخب الديرة، زاد كتاباته عنها وهجا، وموضوعية.. إذ كان تواصله مع الطاقات الأدبية، وشعراء ريف الديرة مشهودا، بقصد النهوض بأدبها وموروثها الشعبي الريفي، وتوثيقه، حفاظا لخصوصيته، وترسيخا لأصالة هويته، وحمايته من مخاطر الضياع والاستلاب، بتداعيات العصرنة الصاخبة.

جهد مبارك حقا، يشكر عليه الدكتور ابراهيم العلاف، ويحسب له.. وهو الأستاذ المتمرس، والباحث المختص بالتاريخ، الذي يقدر حقيقة قيمة التوثيق، في الحفاظ على هوية، وتراث الثغور والأمصار .

وكم أتمنى عليه أن يبادر لإستكمال مشروعه، بادامة التواصل مع أدباء وشعراء ريف الديرة، وتوطيد تشابكهم مع أدباء المركز، وتوثيق نتاجاتهم، والشروع بجمع ما كتبه عن ادباء، واعلام، ريف جنوب الموصل من مقالات، واثرائها باللقاء مع أهلها كلما أمكن، ووضعها في كتاب مطبوع، ليكون دليلا ومنارا للأجيال القادمة، ومرجعا للباحثين والمهتمين بالتراث الريفي مستقبلا.

***

نايف عبوش

تريدين أن تشفي من هذا العدو المسمى بالمرض الشرس، كي تنثري المزيد من الورود على وجه هذا العالم. لديك في حدائق قلبك الكثير منها، تودين أن يكون أمامك وقت كافٍ لإخراجها الى قلب العالم، كي تقللي من مساحات تصحره الروحي.

يظن العدو أنك وردة رقيقة في كل المواسم، يسهل قطفها أو تمزيق بتلاتها أو سحقها أو جعلها لقمة سائغة في فم عاصفة هوجاء. ربما يمنعه غروره من رؤية الوجه الآخر لرّقتك ولطفك وعذوبتك، ذلك الوجه الشرس الذي تواجهين به جبروته، حتى تشفي وتشقيه.. فالورود الرقيقة نفسها التي تنثر عطرها في حياتك وحياة الآخرين ستقاتلين العدو بأشواكها.

لا تريدين أن تنهزمي في هذه الحرب الضروس..

كي لا تبقى ورودك، من بعدك، حبيسة صناديق تُدفَن في سراديب اللاغد، فتجف ويتبخر عطرها في صحارى غيابك.

لا تريدين الاستسلام ...

كي لا تخفت أناشيد الورود في حقول الروح..

كي لا تصمت موسيقاها في أعماق الأمل..

كي لا يفقد العالم المزيد من القناديل الوجدانية والقلوب العطرية.

لا تريدين أن تنجي من الحرب فقط، وإنما هدفك الانتصار.. ثمة فرق بين النجاة والنصر لدى المحاربين الأشداء أمثالكِ.. أنتِ الوردة التي نمت بين الصخور.. أنتِ الوحش ذو المخالب الشوكية في حرب البقاء والوجود..

ارمِ سلاحك وارفع رايتك البيضاء أيها العدو اللدود، أمامك صخرة بروح وردة، ووردة بصلابة صخرة.

***

أسماء محمد مصطفى

الفن رحلة القلب حبث الذات في طفولتها المقيمة بين الناس والكائنات والعوالم رصدا للتفاصيل وقولا بالدواخل وما ينطبع فيها من جمال وحنين.. هكذا هي فكرة الكائن وهو يبحث عن عناوين لقول ابداعه حفرا وتأصيلا وانفتاحا وفق رؤية وحلم لتكون الرحلة الفنية اقامة بين الوردة وظلالها.. بين الحلم والخيبات الجميلة المولدة للعبارة تشكيلا ولغة وهواجس هي عين الذهاب الى جواهر الأشياء والعناصر والتفاصيل..

من هنا نمضي مع عوالم التجربة الفنية لفنانة هامت بالرسم منذ طفولتها لتكون فيما بعد أسيرة وبحب لهذا العالم المحفوف بالدأب والمغامرة والاقدام ليصبح الفن عنوانا مهما من عناوين تفاصيلها.. هكذا هو الأمر مع الفنانة في مجالات الحفر الفني ومنه الحفر على الخشب ونعني رجاء زربو التي تعددت مشاركاتها الفنية في عديد المناسبات الفنية الجمالية بين المعارض والندوات والورشات وصولا الى معرضها مؤخرا بفضاء " فن وثقافة الهادي التركي " والذي امتد على كامل شهر أفريل الماضي وضم حوالي 41 عملا فنيا حيث برزت الفنانة رجاء في هذه التجربة بما فيها من تنوع جمالي.

في هذا المعرض ونحن نتجول بين أعماله تأخذنا رجاء الى حيز من حلمها وشغفها الملونين بالفن وتحديدا الحفر وفنياته لتكون الفسحة في ضيافة البحر بشؤونه وشجونه وما يعتمل فيه بين كائناته وفق نظرة جمالية لتبرز على اللوحات قناديل البحر والأخطبوط وسمكات وأحوال بحرية في الأعماق وفق الموجود والأسطوري.. في هذه اللوحات للفنانة التشكيلية رجاء زربوط مجال للقول بهذه العلاقة المتجددة مع البحر الهادئ المزمجر الشاعري بما يوحي به للكتاب والشعراء الذين نذكر منهم خاصة الروائي العربي الكبير الراحل حنامينا الذي طفحت كتاباته بالبحر.. رجاء تذهب بنا الى تلك المناطق تستنطق كائناتها في تلوينات وحركات بها الكثير من الجمال ونستشعر ذلك في تلقينا لأعمال المعرض التي تفتتحها بعرض لأدوات ومراحل العمل الفني في الحفر بالنسبة لعملها المعروض في رسالة جمالية للمتقبل والزائر ليتعرف الى حيز من تقنيات عمل الحفر عند رجاء وهذا مهم للمتلقي.كائنات برموزها وحركاتها وجمال التعاطي الفني تجاهها كانت تجربة الفنانة الحفارة رجاء زربوط التي تخيرت البحر حلما وترميزا وعالما فيه الأسرار لتذهب اليه تحاوره وتحاوله وفق رغبات دفينة هي عين الفن في سؤاله المفتوح على البهجة والدهشة والسحر.. عوالم تجريدية وواقعية حالمة تشبه البحر في هيجانه الرجيم وفي هدأته وفي تخير لوني مميز يتماهى مع الأعمال الفنية في هدوئها وصخبها لتتعدد القراءات والتأويل.. انها لعبة الفن تجاه البحر وتقلبات أمزجته. في لوحات نلمس هذا الصراع الانساني عند كائنات البحر لتبرز الحيتان بعنف انفتاح الافواه في اشارات للعدوان وللغرائز وللبراءة في الدفاع عن الذات.. عناوين شتى للقراءات.. و من عناوين الأعمال نجد "نظرة " و" مائي " و" العمق " والأخطبوط " و" مشهد " و" نبل " و" نظام بحري " وولادة " وحلم 1 " و" حلم 2 ".. معرض وحلم متجدد وفق مسار الفن والحياة المشبعة بالحكايات والمغامرات ومقتضيات الرفقة مع رفيق الفن والدرب الفنان الدكتور عبد العزيز كريد الذي له من المسيرة الفنية مع رجاء أطوار وقصص وعنوان لافت هو الفن والحياة..

معرض ومجال من مجالات الفعل الفني وفق فن الحفر الذي هو فن قديم وعريق تنوعت محامله منذ قدم التاريخ حيث كان مجالا للتواصل والخطاب ليصير نهجا لقيم جمالية تشكيلية ابداعية لها الخصائص والضوابط الفنية منها مقتضيات اللعبة الفنية تجاه الخشب واللينو والفلين.. و طرائق الطباعة بالكثير من شغل اليد.. و هنا كانت لعبة الفن عند رجاء زربوط حيث الخشب مساحة وجد وحلم وعمل.

عن تجربتها الفنية وهذا المعرض الشخصي الأول تقول الفنانة رجاء زربوط ".. كان ميلي للفن والرسم منذ صغر سني وتطور هذا الأمر معي لأعيش به الى أن صرت طالبة بالمعهد العالي للفنون الجميلة حيث اخترت فن الحفر وفق عشقي لكل الأعمال المتصلة باليدين ومررت بكل التخصصات في تلك الفترة الى أن تخرجت.. كنت أحب الحفر وخاصة على الخشب لما له من خصوصيات رغم أني عملت على مادة اللينو أيضا والخشب في مجال فن الحفر له متعة خاصة بالنسبة لي حيث كانت تجربة سنوات مع هذا العمل الفني وتنوعت المعارض والمشاركات وكنت في جل أعمالي الفنية مسكونة بالبحر وعوالمه وما به من حياة وأنا أيضا من برج الحوت ولي ميل للبحر وعجائبه الكثيرة.

عند مراحل دراستي كان الأساتذة ومنهم الرائع سي بن مفتاح يشجعون كثيرا على الرسم وفنياته وعملت مع الفنان عبد العزيز كريد في عديد المنجزات والأعمال الفنية منها مايخص مدينة العلوم ودار شريط.. مشاركاتي في المعارض كانت منذ سنة 1979 وكانت مناسبات متعددة بفضاءات وأروقة منها رواق التصوير وفي معارض الاتحاد الى جانب مشاركات أخرى في مصر وصولا الى هذا المعرض الشخصي الأول بالنسبة لي في فضاء الهادي التركي للفن والثقافة.. في الحفر الفني وفي السنوات الأخيرة بدأت التحرك والاعداد خاصة أمام ندرة الاشتغال في مجالات الحفر الفني على الخشب الذي فيه العمل اليدوي ويستوجب الوقت والاعداد.. أنا لا أتقيد بموضوع ولكن سريعا ما تكون عودتي الى البحر وعوالمه وما يهمني بالخصوص هو اتقان العمل والتصوير والحفاظ على ضوابط العمل الفني في الحفر.. هناك من يجهل فن الحفر وقد أقنعت الكثيرين بجمالياته ولذلك أحبوه واقتنعوا به بعد الاعرف غلى خفاياه وأسراره.. فن الحفر مجال جمالي ممتع وأحلم بمزيد حضور هذا الفن وتنميته والتعريف به على نطاق واسع..".

رجاء الفنانة تواصل ومن خلال هذا المعرض تجربة قطعت فيها وبها أشواطا لتقول ان طريق الفن طويلة وتظل مفتوحة على الصبر والاشتغال ومزيد العمل حيث القلب والوجدان والحفر والتلوين وما به يسعد الكائن مثل أطفال في رجلة مفتوحة على الكشف والاكتشاف والتعلم والابداع.

***

شمس الدين العوني

المصدر: هو اسم يدل على حدث مجرد من الزمان والمكان، وذلك مثل. عمل، سلام، حب، إكرام، إحسان، انطلاقة، استخراج. فكل هذه مصادر دلت على حدث، ولم تشر إلى زمان بعينه أو مكان محدد. لذلك قلنا إن المصدر مجرد من الزمان والمكان. والمصدر هو أصل جميع المشتقات مثل اسم الفاعل واسم المفعول وغير ذلك. ونأتى منه بالفعل فى أى زمن، الماضى والمضارع والأمر. فمن انطلاقة مثلا. نقول. مُنطلِق، مُنطلـَق، انطلـَق، ينطلق، انطلِق. لذلك سُمِىَ بالمصدر، لأنه هو الأصل الذى نأتى منه بأى بنية تصريفية.

وقد جاء عن العرب زيادة تاء فى أول مصادر الفعل الثلاثى فقط، وذلك لمعنى بلاغى هو الزيادة والمبالغة. فحين تقول كلمة " بيان " فإن الأمر يختلف عن كلمة " تبيان ". فالبيان هو الإيضاح، أما التبيان فهو زيادة فى الإيضاح. وكذلك " حنان " غير " تحنان "، فالتحنان مبالغة فى الحنان ومزيد فيه. وقد أقر القرآن الكريم هذه الظاهرة اللغوية والصرفية القائمة على معنى بلاغى واستعملها، وذلك كما فى قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِِّ شَيْءٍ }[ النحل / 89 ]. فتبيان هنا أى ليس وضوحا فحسب، بل هو مزيد فى الإيضاح. وكما نعلم القاعدة القائلة بأن زيادة حروف المبنى تؤدى إلى زيادة فى المعنى، وموضوع حديثنا هو من أبرز الشواهد التى تبرهن على هذه القاعدة.

وليس كل مصدر ثلاثى يقبل زيادة التاء على أوله، بل ما كان سهلا وطوعا فى النطق فقط بعد زيادة التاء. لذلك لم نسمع مثلا فى " هُدى " أنها " تِهدى "، أو فى " غفران " أنها " تغفران ". فالعرب لم تعمل تلك اللسانية أو البنية الصرفية إلا فيما قـَبـِلَ دخول التاء عليه صوتيا دون ثقل على السمع أو صعوبة فى النطق.

ومما جاء عن العرب فى هذه المصادر، قولهم.

تبيان          تنضال

تحنان         تبراك

تفراج         تنبال

تطياب         تعساف

تكرار         تجفاف

تذكار          تهواء

تكلام          توفاق

تطلاب       ترحال

تسيار          تلعاب

تهيام          تلقام

تتفاق          تسخان

تقتال          تضراب

تلفاق          ترداد

تعذال         تطعام

تصفاق      تشراب

تطواف        تكبار

ومن الملاحظ أن كل صيغ المصادر المزيدة بتاء على أولها، تأتى على وزن " تفعال " بفتح التاء أو كسرها، وذلك كما جاء على لسان العرب والقبائل المختلفة، ولا تتجاوز هذا الوزن ولم تخرج عليه. ومعنى ذلك أنها قد تضطر إلى إحداث تكسير صرفى فى البنية الأصلية للمصدر الذى تدخل عليه، مثل. سار، فمصدره " سير "، فيغير دخول التاء من البنية فتصبح " تسيار "، فلو نحينا التاء لكانت " سيار ".

وأيضا مثل. تشراب، تعذال وغير ذلك مما نتبينه من النماذج الموروثة عن العرب. فى حين أن بعض البنيات الأخرى تظل على حالها، مثل بيان التى تصبح تبيان، وحنان التى تصبح تحنان. ولابد أن نفطن جيدا لما ذكرناه من حدوث تكسير صرفى لبعض البنيات. فبدون الانتباه لتلك السمة لوقع التوهم فى أن التاء لا تدخل على الثلاثى فقط، بل تدخل على ما دون ذلك، وذلك مثلما جاء فى " تقتال "، فاللفظة توهم بأن التاء زيدت على " قتال " التى هى مصدر الرباعى " قاتل ← قتال " فصارت " تقتال "، وهذا كما ذكرنا وهم خاطىء. فالتاء هنا لا تدخل إلا على الثلاثى فقط، فهنا دخلت على المصدر الثلاثى السماعى " قتـْل " ثم أحدثت فيه تغييرا فى البنية الصرفية بما يجعلها تأتى على وزن " تفعال ".

والعرب قد استعملت المصدر المزيد بتاء فى أوله شعرا ونثرا. فقالوا فى وصف الرجل القصير " رجل تنبال " أى زائد فى قصر القامة. وقالوا فى كثير الكلام " رجل تكلام ". وقالوا فى كثير اللوم " رجل تعذال ". وقالوا فى سريع لقم الطعام إلى فمه وهو يأكل " رجل تلقام ".

وفى الشعر، قول طرفة.

وما زال تشرابى الخمور ولذتى وبيعى وإنفاقى طـَريفى ومُتـْلـَدِى

وقول كثير عزة.

وإنى وتهيامى بعزة بعدما

تخليت مما بيننا وتخلت

وختاما، فإنا نقول إن موضوع المصدر المزيد بتاء فى أوله، هو موضوع يسرى فى دروس ثلاثة، الدرس البلاغى، والدرس الصرفى، والدرس اللسانى. ونرجو أن تكون الدراسة قد حققت قدرا من الإفادة للقارىء.

***

د. أيمن عيسى - مصر

في زمن الكفاح لملء أفواه صغار الأرانب، كان يجمعنا شاي وخبز أسود والكثير الكثير من المحبة المنبعثة من قلوب بيضاء لم تُعَكِّرْها بعدُ ألوان النفاق. رحَلَ الاستعمار، وحلَّ الاستحمار، المقدَّسات الفكرية والاجتماعية التي كبرتْ معنا آلَت إلى الزوال، ولا شيء، لا شيء غير التيه باتت تتخبط فيه أذهان الناس، ليُصَيِّرُوا كل برَكَةٍ عِلَّةً، وكُلَّ أخلاق الأغنياء بسخاء قلوبهم مَذَلَّةً.

ها نحن نَكبر، نَكبر لتَصغر بُطولاتنا الخُلقية، وتتقلَّص أخُوتنا ونخوتنا لتتمدَّدَ أوهام التحضُّر في عيون لم يَعُد يَسعها شيء من الرضى والقناعة، فإذا بازدراء ثوب الفقراء يغدو دين القبيلة وعقيدة الزاحفين نحو بساط الثراء، وإذا بنظرة التكبر في محيا من لم يعد يصون رابطة الإخاء تمضغ قلبا يتلظى فوق مجمر الأيام التي لا تعترف بوجوده رغم وجوده.

أينكِ يا تفاحة المحبة لتعلمينا كيف ننشر الفرح كما كنا نفعل ونحن نلعب يوم كنا صغارا، صحيح أننا كنا صغارا، لكننا كنا كبارا بمشاعرنا الخالصة بما يكفي ليُحِبَّ بعضُنا البعضَ الآخر ونُصارع من أجل السلام بيننا وفي ما (ومَنْ) حولنا أيام السمًوّ الإنساني، والنقاء، لا كما يحدث في أيام التفكك الأسري والاجتماعي والركض بمنطق "الموت للإنسان" و"المجد لغريزة حب البقاء، البقاء للأقوى نفوذا بماله وعلاقاته".

تُخَدِّرُنا الأحلام لنَبيع كل غالٍ بالرخيص، وتُبَنِّجُنا لذةُ الإحساس (الزائل) بالحياة لتُهَيِّجَ فينا مطامع الظلم الجاني على الآخَر رغبة في إنصاف الأنا، ونَمضي، نَمضي أكثر احتقارا لنفوسنا كلما قَتلْنا طِيبةَ قلبٍ ودعسناها بجبروتنا المعاند لأخلاق الفرسان بكَرَمٍ حاتِمِيّ يُجَنِّدُ العيون والقلوب لإعلاء صوت الحق في الحياة التي لا تَسمح بأن تقتل غيرك ولو بنظرةٍ مزدرية له في غياب معطف الحرير الذي يُعفيه من أن تَرشقه أنتَ أنتَ بالطوب، ولا أقسى من طوب الكلمات.

سخاؤنا الروحي يئنّ تحت الثرى، وأمجادنا الأخوية مزَّق الكبْرُ أضلعها الهشة تلك التي تُسَمِّمُها "فضيلةُ" الانتصار للأحقاد في زمن العبيد لا العباد، إنهم عبيد المال الباقون والمتمددون في اللحظات الأخيرة من الوقت الراهن.

هرِمنا، هرِمنا وفق معايير تُقَاطِع التقدم الزمني، وما أحوج بذرةَ الإنسانية فينا إلى شيء من التربة الصحية التي تُعَجِّلُ بنموها وانبثاق أزهارها التي نتوق إلى ولادتها ولادة طبيعية، لكن هيهات لحُلم الولادة أن يتحقق مادامت البذرة فاسدة، ومتى؟ في زمن الكفاح لملء أفواه صغار الثعالب.

أعيدونا، أعيدونا إلى سيرتنا الأولى، لًكُم حربكم ولنا حُبُّنا.

***

د. سعاد درير

اليوم ـ يوم الأربعاء 3 ماي 2023 ـ  وقبل أن أدلف إلى بيتي قابلني كتاب في صندوق البريد فإذا هو آخر ما أصدر صديقي الشاعر الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي كتاب بهي في طبعة جميلة أنيقة بعنوان – من شعراء القيروان على مر الزمان – وعندما فتحت الصفحة الأولى وجدت إهداء باذخا حقا دبجه في الأبيات التالي:

حيثما كنت بخضرائي أطوفُ

طالعتني ذكرياتي مع سُوفُ

فأنا كنت ومازلت وأبقى

بصديق العمر والله شغوفُ

ولهذا كلما أكتب شعرا

نحوه يسعى كلامي والحروفُ

إن مثل هذه المبادرة تؤكد لي وفي هذه الظروف الثقافية الصعبة التي نمرّ بها ـ أن الصداقة والوفاء والمحبة ـ قيم ما تزال موجودة … لذلك لابد أن لا نيأس ولابد أن نواصل رغم كل التحديات.

شكرا جزيلا صديقي الشاعر والأديب الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي:

يَــا صـديقي أنـتَ خِـلٌّ ورَؤُوفُ

وهَــدِيّـاتُــك مِـنهُـنّ الــرُّفـوفُ

فَــدَواويـنُــكَ بَـــاقــــاتُ وُرُود

رُبَّ وَرْدِ مِنهُ كمْ فَاحَتْ حُـرُوفُ

أنـتَ غَـوّاصُ لَآلِيـهَا الـقَوافِــي

يا زَمانًـا مُـلِئتْ زَيْـفًـا كُــفُـوفُ

***

سُوف عبيد

تونس 3 ـ 5 ـ 2023

تعيش في ولاية (ساراواك) الماليزية نحو (26 – 27) مجموعة عرقية وفقا للمصادر المحلية، ومنها السكان الأصليين. مثل (بيساياه، بيراوا، بونان، موروت، بينان، كينياه، كايان). وتعيش في معظمها على الزراعة والصيد، وداخل ما تبقى لها من الغابات والأراضي الغنية بشتى أنواع العناصر والمقومات الطبيعية، بعد عمليات القطع والقلع والتجريف والتغيير الجائرة التي طالت أشجارها ونباتاتها وأنظمتها البيئية الغنية، ولأغراض اقتصادية بحتة، تنصب لصالح مجموعة شركات متنفذة.

وقد ولدت هذه السلوكيات والتصرفات عمليات احتجاج وتظاهرات عارمة عمت المنطقة في عام 1990 وفي عام 2006. وفي سبيل إيجاد وتطوير سياحة مستدامة قائمة على الاستخدام الأمثل للموارد، وتقليل السلبيات والحد من المثالب وتعميم الفوائد، دأبت الحكومة الماليزية على ابتكار السبل والوسائل الكفيلة بحماية الإرث الطبيعي والثقافي السائد في (ساراواك)، وتسخيره في الأنشطة السياحية المختلفة. وخصوصا تلك المرتبطة منها ببعض الاشكال والأنماط السياحية، مثل السياحة الايكولوجية والسياحة الثقافية، ومن أنواعها السياحة العرقية التي تنتشر في الولاية بفعل المجموعات العرقية المتميزة التي تستأثر باهتمام السياح الأجانب الذين يرومون الاطلاع على عاداتها وتقاليدها، وأنماط الحياة التي تعيشها، وما تمارسه من طقوس وشعائر دينية في مناسبات مختلفة. وتقدم على ابتياع بعض المنتجات الحرفية اليدوية البسيطة التي تعكس جوانب مهمة من ثقافاتها ومعتقداتها.

و قد انعكس هذا إيجابا على حياة هذه المجموعات من حيث الحصول على بعض المداخيل المالية التي تعينهم على تحمل أعباء الحياة. وهناك متحف للحياة تحت اسم قرية ساراواك الثقافية المعروفة اختصارا ب (اس سي في)، وتقع في (بانتاي داماي) بالقرب من عاصمة الولاية. وقد انشأت على مساحة (17) فدانا، لتعكس بعض الجوانب المهمة في ثقافات بعض المجموعات العرقية (بانان، اورانج اولو، ميلاناو، ايبان، بيداياه). ويسكنها (150) شخص تقريبا، يمارسون حياتهم اليومية الطبيعية، باستخدام الأدوات والمواد التقليدية. ويمكن زيارة هذه القرية النموذجية لقاء رسوم بقيمة (60 آر ام) للكبار و(30 آر ام) للصغار بعمر (3 – 6) سنوات أي ما يعادل (18 – 9 دولار أمريكي) تقريبا.

***

بنيامين يوخنا دانيال

كوالالمبور – ماليزيا في 28 ك 1 / 2013

قررت كتابة الملاحظات الوجيزة الآتية عن مسرحية تشيخوف هذه بالذات لأني مازلت أرى عنوانها بالعربية في بعض الاحيان – (العم فانيا) لحد الان، وليس (الخال فانيا) كما كتبها مؤلفها تشيخوف عام 1897، وسبب ذلك بالطبع يكمن في ان هؤلاء الذين يحوّلون (الخال) الى (العم) في هذه المسرحية يترجمون عنوانها عن لغات توجد فيها كلمة واحدة فقط تطلق على الخال والعم معا، بما فيها اللغة الروسية – لغة تشيخوف نفسه. عندما ارى، ان عنوان المسرحية قد تحوّل الى (العم فانيا) استنتج رأسا، ان كاتب المقالة او مترجمها لم يطلع على نص المسرحية ولم يشاهدها طبعا على خشبة المسرح، وابتسم، ومن ثمّ اضطر ان اعتذر همسا لروح تشيخوف على هذه الهفوة (كدت استخدم كلمة اخرى!) العربية، التي تؤكّد عدم الاحساس بالمسؤولية عند بعض كتّابنا، عندما يسطرون الكلمات وينشرونها، وقد اعتذرت بهذه الطريقة آخر مرة، عندما قرأت خبرا تفصيليا جدا عن هذا (العم !) في جريدة الشرق الاوسط اللندنية الشهيرة.

ونعود الى المسرحية تلك. مضمونها تشيخوفي بحت، اذ توجد فيها افكار يطرحها الابطال اثناء مسيرة حياتهم الاعتيادية ليس الا. وعن هذه المسرحية بالذات قال تولستوي كلمته الشهيرة عندما شاهدها، وخرج من المسرح غاضبا – (...قولوا لتشيخوف وستنسلافسكي، انه لا يمكن ان تكون هناك مسرحية لمجرد ان يرقد شخص على الاريكة وينظر الى الحديقة  عبر النافذة ويتحدّث...). وقد كتب المسرحي الروسي نيميروفيتش – دانتشينكو بعدئذ لتشيخوف عن زيارة تولستوي للمسرح ومشاهدته لتلك المسرحية قائلا – (.. تولستوي معجب بعبقريتك، لكنه لا يستوعب مسرحياتك. لقد حاولت ان اوضح له ذلك (المركز) الذي كان يبحث عنه ولم يجده...وقال انه توجد في مسرحية الخال فانيا اماكن مدهشة، لكن لا توجد فيها تراجيدية الوضعية...)، ويقصد تولستوي بذلك المصطلح الحدث الاساسي الذي يتمحور حوله البناء المسرحي، اي ما اطلق عليه دانتشينكو (المركز)، ويختتم رسالته تلك الى تشيخوف ويقول – (.. ولكن من الطريف ان نقول، ان تولستوي كتب مسرحيته (الجثة الحيّة) بتأثير من الخال فانيا..). وفي الواقع، فان تولستوي لم يكتب مسرحيته (بتأثير) من مسرحية الخال فانيا، وانما (جوابا) عليها، لأن تولستوي لم يعترف بمسرح تشيخوف الخالي من الاحداث، والذي يعتمد على الافكار والمزاج، او كما قال أحد النقاد الفرنسيين المعاصرين عن هذا المسرح – (..كل دقيقة فيه مليئة، ولكنها ليست مليئة بالحوار، وانما بالصمت وبالاحساس بالحياة..). ولا مجال في اطار هذه المقالة بالطبع الاسترسال في الكتابة عن هذا الصراع بين مفاهيم بنية المسرح عند تولستوي وتشيخوف، وكيف ان الزمن اثبت صمود وازدهار واستمرار الانتشار عالميا للمسرح التشيخوفي (مسرح الافكار والاحاسيس الانسانية الاعتيادية) مقارنة مع المسرح التولستوي (مسرح الاحداث الدراماتيكية)، ان صحّت كل هذه  التعابير والتعريفات والصفات. والاستشهاد بموقف تولستوي هذا يوجب علينا الاستشهاد بموقف مكسيم غوركي المعاكس تماما لرأي تولستوي تجاه هذه المسرحية، والذي كتب الى تشيخوف بعد ان شاهدها على خشبة المسرح قائلا – (.. شاهدتها وبكيت مثل امرأة..). ويطرح السؤال نفسه تلقائيا، وهو – كيف ولماذا استطاعت هذه المسرحية ان تجعل تولستوي يكتب مسرحيته الشهيرة (الجثة الحّية) معارضا لها وحوابا عليها، ولماذا بكى غوركي مثل النساء عندما شاهدها ؟

الفكرة المركزية في مسرحية الخال فانيا تتجسّد في (الخيبة)، التي يحسّها الانسان عند نهاية مسيرة حياته، هذه الخيبة المريرة والخانقة، لأن الانسان لا يستطيع ان يلغيها او يغيّرها، اذ لا يمكن ان يعيد مسيرة حياته من جديد (وما أكثر خيبات الامل التي تعرضّنا لها جميعا !)، وفي هذه الفكرة ذات الابعاد الانسانية الشاملة لكل المجتمعات تكمن عظمة تشيخوف الفنية والابداعية، والتي تجعل من فلسفة مسرحه مفهومة من قبل الانسان، كل انسان، بغض النظر عن مجتمعه وقوميته. وهكذا نرى في هذه المسرحية كيف ان زوج اخت فانيا المتوفية البروفيسور سيريبريكوف – العالم الجليل، الذي كان فانيا ينظر اليه طوال حياته باحترام وتبجيل مع ابنة تلك الاخت واسمها سونيا، وكيف كانا يعملان معا – وبكل اخلاص وتضحية – على خدمته، ولكنه اكتشف اخيرا انانيته، وانه  لا يفقه شيئا، وبالتالي، فان الحياة قد ضاعت هباء. وتحاول سونيا (والتي تناديه طوال وقت بالخال فانيا، ومن هنا جاءت تسمية المسرحية) تحاول ان تدخل الطمأنينة على تلك الاجواء المريرة من خيبة الامل هذه، وتقول لخالها فانيا، ان السماء والملائكة ستمنح الراحة له... وهكذا نرى ان هذه المسرحية تنتهي بعدم انتصار أحد، وان الجميع هنا خاسرون ليس الا، وان تشيخوف يرسم كل هذه الامور ببساطةأ واعتيادية ودون احداث دراماتيكية متشابكة، وهو ما جعل مكسيم غوركي يبكي وهو يشاهدها، وهو ما جعل تولستوي يحتج عليها لانها لا تتضمن احداثا وصراعات بين ابطالها، وهو شئ يتناقض ومفهومه للمسرح، ولهذا قرر ان يكتب مسرحيته الاخيرة – الجثة الحية جوابا عليها، كي يثبت وجهة نظره حول بنية الفن المسرحي.

مسرحية (الخال فانيا) تدور حول فكرة الخيبة في حياة الانسان، وهذه المسرحية ما زالت تعرض على مسارح روسيا والكثير من مسارح العالم منذ ان كتبها تشيخوف عام 1897 ولحد الان، بل انها انتقلت من المسرح الى السينما، حيث تمّ انتاجها (11) مرة في مختلف البلدان، ومن الطريف ان نشير في نهاية مقالتنا حول مسرحية الخال فانيا الى قائمة الافلام السينمائية تلك، وهي كما يأتي – 1 –عام 1957 في امريكا // 2 – عام 1962 في فرنسا // 3 – عام 1963 في بريطانيا // 4 – عام 1967 في السويد // 5 – عام 1970 في يوغسلافيا // 6 – عام 1970 في روسيا // 7 – عام 1986 في روسيا // 8 – عام 1994 في امريكا // 9 – عام 1994 في السويد // 10 – عام 1996 في بريطانيا // 11 – عام 2004 في المانيا.

ختاما اكرر الرجاء الى زملائي الباحثين والمترجمين ان يكتبوا ما يريدون عن (الخال) فانيا، دون ان يحولوه الى (العم) فانيا.

***

أ.د. ضياء نافع

........................

* من كتاب: سبعون مقالة عن تشيخوف، الذي سيصدر قريبا عن دار نوّار في بغداد وموسكو.

أمام الضجيج تفقد الهدوء، كلّ شيء يغادر: الحب، الحلم، السلام، إنّها عناصر الحياة التي ولدت قبل أن يولد الإنسان. مفردات سهلة غير معقّدة، لكنّها ليس من السهولة أن تكون بحوزة أيّ إنسان في جميع مراحل حياته. إنّها معاني السلام الداخلي، سوف تفقدها حتمًا في سلسلة الحياة وأحداثها، بسبب أعذار واهية لا عدّ لها ولا حصر، والعناد الذي يتشبّث به جنس الإنسان. ذلك الإنسان المقدام والجبان، الضعيف والقوي، الذكي والغبي، بعيدًا عن التناغم الجسدي والروحي.

ودوام الحال من المحال، ذلك الاستسلام الذي يطعنك أثناء بحثك عن الأشياء التي تبحث عنها، تفقدك الاحترام، تشعر بالضياع في بعد المسافات وصهوة السراب، إنّها أداة التمويه والخداع الخفي، غرور يتباهى بالكبرياء والعظمة، أوتار بعيدة عن الإيقاع الزمني الذي يتميّز بمقياس التدوين خلال المراحل التي نمرّ بها، اللحن، الانسجام، الرّتم، نفقدها في الأنفاق المتعثرة التي تعصف بالأحداث اليومية على مدى الوقت، هوة طبيعية زمنية وقتية لكنّها مستمرّة بذاتها، التبرير هو الجهل، الغفلة، التغابي، السَّهو.

قسوة الحياة تجبرك أن تتجاهل المعقول واللامعقول، إنّها المرحلة البديهية القائمة على الفهم والاستيعاب المرتبطة بالحالة الوجدانية التي تقودك إلى اليقظة في مراحلك الزمنية برغم واقعيتها، بعيدًا عن التأثير للبعض بسبب مستوى المفاهيم التأسيسية للعقل، الافتراض يتحدّث بأنّ مكابح الأيام القادمة سوف تقول لك: لقد وصلت إلى وجهتك المحددة، يدفعك الوقت أن تقف في هدوء على ذلك الضفاف، تعيد الذكريات، كيف؟ ولماذا؟

بعد أن ترفع راحة يدك تنظر إلى الضوء وتنظر القمر كي يرسل إليك خبايا النجوم والكون الفسيح الذي طالما حلمت أن تكون سيد أحد هذه الكواكب، حياة دائمة لاكتشاف المجهول الذي ينتظره الإنسان، تتخطّى الزمن والنظريات، تموج في خلق الرحمن بين تفاوت ويقين، إنه النُّضج الآخر الذي يعتلي المنصة، بعيدًا عن ذلك سُنة الحياة القدرية أو الجبرية، تدفعك إلى أن تناور إلى المشهد الأخير.

***

فؤاد الجشي

(حِوارٌ مِن أرضِ الواقع في الأسباب)

فوجِئتُ بصَغِيرتي تُسائِلُني بإستِغراب؛

" أبتَاهُ، كيفَ دَخَلتُ أنا بَطنَ أمَيمَتي ثمَّ خَرجتُ بجِلباب!"

فردَدْتُ عَليها بإستِلطافٍ وبإستِحباب؛" أنتِ ما دَخلتِ بلِ اللهُ خَلَقَكِ في بطنِها وهوُ رَبُّنا الخالِقُ الوَهَّاب، ثمَّ هوَ مَن أخرَجَكِ مِن بطنِها فألبَسناكِ نحنُ الحُليَّ والأثياب"

فقالتْ بجُفُونٍ ناعِسةٍ وعُيُونٍ مُتقاعِسةٍ عن مراءٍ بالخِطاب؛

" لمَ الكَذِبُ أَبَه! فكيفَ وأنا في بطنِها صنعنيَ الخالِقُ الوهَّابُ، وانّى تَسَنَّى له الصُّنعَ مِن وراءِ حِجاب!"

فقلتُ بلا إستغرابٍ بل بإستِحبابٍ وإستعجاب؛

" قد تعلمينَ بُنَيَّتي أني لستُ بكَذَّاب، وما كنتُ واللهِ مَعكِ وإخوَتكِ للحظةٍ بكَذَّاب، ذاكَ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب)

فقالتْ بلينِ قولٍ بإنسياب؛" فكيفَ صنعَنيَ الخالِقُ الوَهَّابُ والنّاسَ مِن وراءِ حِجاب! "

فقلتُ مُسترسِلاً للحَرفِ بلا أفَفٍ ولا إضطِراب؛ " هَلّا نَظرتِ يا ريماً في الفلا وبحُسْنِ وجهٍ أضحى للجَمالِ مَثلا بانجذاب

هَلّا بَصُرتِ أَظْفارَكِ المَيتةِ وكيفَ إنفَلَقَتْ من (بطنِ) أنامِلها أخَّاذةً ملساءَ بلا زَغَبٍ ولا أهداب، وكيفَ ستَنمو لكِ أسنانٌ بيضاءَ بدلَاً من هذي السَّوداءَ من (بطنِ) مَبْسَمِكِ بلا عَوَجٍ ولا أنياب"

فغرَّدَتْ وردَّتْ بفُضُولِ طَرْفٍ للدِرَايَةِ ميَّالٌ ولفَهْمِ المَعارِفِ سَيَّالٌ بإنصباب؛

"وكيفَ صنعَ اللهُ كلَّ أولئكَ فينا وفي غابرٍ من أحقاب!"

فرددْتُ بفُصُولِ ذَرْفٍ للحِكايَةِ شَيَّالٌ ولعِلمِ اللطائفِ كيَّالٌ بإطناب؛

"    إنّ أجسادَ الخلائقَ -يا صَغيرتي- لا يُسيِّرُها نُمُوٌّ وفق سُنَّةٍ سيَّارةٍ قد سَنَّها الخالِقُ التَّوَّاب، وذلك هو ظنُّ غَافِلٍ مؤمنٍ بظاهرِ الأسباب، أو رُبَما ظنُّ مُستسلمٍ لفهمِ آيةِ (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) بشطرٍ من صواب، فتراهُ رَسى على الفعلِ (هَدَى) ونسى(الَّذِي قَدَّرَ) الإخصابَ والإكتسابَ سلباً أو بإيجاب، أو ربما ظنُّ جاهلٍ مُرتاب، أو لعلَّهُ مُغرِضٌ كَذَّاب، ذاكَ أنَّ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ بيدِ الحَيِّ القَيُّومِ الوَهَّاب، وتَفَكَّري معيَ في قولِ (كُلِّ شَيْءٍ)، وما (ألكترونُ) الذَّرةِ إلّا شيءٌ ولو إصطفَّ مع آخر مثلِهِ لأصبحا شيئينِ بالحساب. وإذاً فبيدِهِ الخَلْقُ والأمرُ على(كُلِّ شَيْءٍ) مهما صَغرَ ومهما كَبرَ في آفاقِ الرّحاب، و(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) بأمرِ ربِّ الأرباب، وبيدِهِ الخَلْقُ والأمرُ على نواةِ كُلِّ خَليةٍ في أجسادِنا لحظَةَ بدءِ إنشِطارِها أو تحوِّلِها الى خَلْقٍ آخرٍ بإستقطاب، فقد يَشطرُها فتكونَ عَلَقَةً مُعَلَّقَةٍ في حُجرةٍ ظلماءَ بلا أبواب، وقد يُغَيِّرها مُضْغَةً مُخَلَّقَةً مُحَلِّقَةً حمَّالةً للأنساب، وقد يُميتُها فيُصَيِّرُها غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فلا أنسابَ ولا غَمزَةً لفارسِ حُلمٍ ولا إنتظارَ لخُطَّاب، ولا عرسَ ولا تصاهرَ ولا أحساب، وكلُّ ذلكَ مَسطورٌ ومُقَرٌّ فِي الْأَرْحَامِ ويَخلُقُهُ سبحانهُ مِن وراءِ حِجاب، لِّيُبَيِّنَ لَنَا أنَّهُ هوَ وحسب وليسَ سُنَنُهُ الرَّتيبةُ والأسباب، هو وحدُهُ صاحِبُ الشَّأنِ في كلِّ لحظةِ خَلْقٍ جاثمٍ أو حائمٍ أو دَواب، وأنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فيَخلُقُ ويرزقُ من وراءِ حِجاب، وكُلَّ يَوْمٍ نَحنُ فِي حاجةٍ للطيفِ شَأْنٍ مِنهُ بتَعَبُّدٍ وإرتقاب، ثُمَّ قد أخْرَجَكِ إليَّ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغي بينَ يديَّ أَشُدَّكِ نَبيلَةَ الأَصلِ جَميلةَ الآداب، وإذاً بُنَيَّتي فمنازِلُ رِحلةِ خَلْقِنا تترا ما كانَت عَملَاً بأيدٍ لسُنَنٍ رَتيبةٍ تفَلقُنا مِنَ الأصلابِ فنَنْموَ فنَنطَلِقُ لاهِينَ بينَ ذوي رَحِمٍ أحبابٍ ومَعارف أصحاب، بل كانَت منازِلُ رِحلةِ خَلْقِنا فِعلَاً بأيدٍ منَ الخلَّاقِ التَّوَّابِ، وهوُ وحدهُ المهيمنُ بقولِ (كُنْ فَيَكُون)على كلِّ موِضِعٍ وذرةٍ في الوُجودِ وكلِّ خَليةٍ في جَسَدٍ في أصلابٍ وفي أعقاب، أفَلم تَرَي كيفَ خَلَقَ اللَّهُ عِيسَى بأمرِ (كُنْ فَيَكُون) وكيفَ فَرَّتِ الأسباب، ومِنْ قبلُ قد خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وغير بعيدٍ عنّا كيفَ قَلَبَ اللهُ خَلايا خَبيثةً لا دَواءَ لها لخَلايا حَميدةٍ في كَبدِ جارتِنا ذاتِ الحِجاب بنقاب، فإنقَلَبَتِ الخلايا صاغرةً لخلايا كبدٍ حميدةٍ تحتَ قوَّةِ دعاءِ قلبِ مؤمنٍ ولربِّهِ ناسكٌ أوَّاب. وإذاً فأمرُ النُّمُوِ لا ينفَجِرُ من تَدَرُّجٍ لخلايانا بإنسلاخٍ تحتَ وطئَةِ الأسباب، بلِ يَنبَجِسُ في لمحِ بصرٍ وإدنى بأمرِ (كُنْ فَيَكُون) ليَستحيلَ عندَ كلِّ لحظةٍ الى خَلْقٍ آخَر بإنقِلاب، فتباركَ الذي قالَ (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) في معجزٍ من كتاب، وسبحَانَ الذي (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وربُّ الأسباب.

ردَّتْ صغيرتي وثَغرُها باسمٌ وبأقتِضاب؛

" مَا أبهى وأشهى قِيلكَ أبَتَاهُ بلا إرتياب، رُغمَ ما غُمَّ عليَّ منهُ وعلى ما فيهِ تفصيلٍ بإطناب، أو بتعبيرٍ أدقُّ؛ رَغمَ أنّي لم أفهمْ منهُ شيئاً وعلى ما شَدَدْتُ مِن أعصاب، وحَمداً للهِ أنّي مازلتُ مالكةً لبقيةِ أطلالٍ من أعصاب، وألا ليتَني ظَلَلْتُ خَفِيَّةً في بطنِها وما سمعتُ منكَ كثيرَ جواب، ولا ضيرَ حينئذٍ لو إنكَ حاورتَني إذ أنا في بطنِها ومِن وارءِ حجاب،

وكانَ اللهُ بعونِ أمّي على ذا بَعلٍ كأنَّهُ قادمٌ من مضارب الأعراب، وبُعداً لسائلٍ يسأَلُكَ مِن بعد اليومِ عن جواب".

لعلَّ الحقَّ معَ بُنَيَّتي في ذا ردٍّ بسوءِ خِطاب، فقد سَمِعتُ كثيراً بأُذُنيَّ هاتينِ من قبلُ من مِثلِ ذا الخِطاب، وكان قد صَدَرَ عن صَحبٍ احباب وحتّى عَمَّن لا أعرِفُ من أغراب. بيدَ أنّهُ لا حرجَ، فقد أبنتُ فأحسنتُ للبنَيَّة بما لديَّ مِن حُسنِ جواب، ولسوفَ أنَقِّبُ عن سائِلٍ غيرِها في أزقةِ المدائنِ وحتَّى في أعشاب الشِّعاب، فالعِلمُ يُسبِّبُ لي حكَّةً في جلدي إن لم تتلقَّاهُ عنّي أيادي معارفَ وأجناب.

ويْ! أفَمِن ذي حَكَّةٍ جاءَ لقبي فكانَ: علي الجنابي؟

رُبَّما .

***

علي الجنابي

شارع يذكرك بشارع المتنبي في بغداد، يقع ضمن الازقة المؤدية الى المدينة التونسية القديمة يسمى "نهج الدباغين" هو شقيق شارع المتنبي في بغداد يضم عشرات محلات بيع الكتب التي تروي حكايات الأدب والتاريخ والفن والفلسفة، ومثل شارع المتنبي تنتشر الكتب على أرصفة زقاق الدباغين، إذ لا يملك بعض الباعة محلا ليكون الرصيف مكتبة أرضية لعرض آلاف العناوين.3153 نهج الدباغين في تونس

سمي نهج او شارع الدباغين، لانه في الاصل كان شارعا لباعة وصناع الجلود، مثله مثل شارع المتنبي الذي كان في الاصل يسمى " شارع السراجين "، فقد كان مثل شارع الدباغين سوقا لدبغ الجلود وبيعها. في نهج الدباغين عثرت على مكتبة قديمة ذكرتني بدار الكتب القديمة التي كانت تقع في شقة وسط شارع الرشيد يملكها رجلاسمه"يوسف عمانؤيل عبد الاحد"يكنّى بأبي يعقوب، كان هذا الرجل قد ترك الوظيفة العسكرية ورتبها الفخمة ليتفرغ لمعشوقاته الكتب حين قرر ان يفتح مكتبة أشبه ما تكون بملتقى للمثقفين وطالبي المعرفة. مكتبه المعرفة التي تقع وسط نهج الدباغين يملكها شخص اسمه خالد يحيى يبلغ من العمر “72” عاما افتتح المكتبة قبل نصف قرن وتعد اشهر المكتبات القديمة تضم الآف الكتب من كل نوع من انواع المعرفة، حدثني الرجل عن شغفه بالكتب فذكرني بالسنوات التي قضيتها اعمل في مكتبة اهلية يملكها احد اقاربي. كان صاحب المكتبة التونسية القديمة يبدو سعيدا بما صنعت يداه. الكتب في كل مكان، اتصفحها، ادقق في العناوين، هذا نجيب محفوظ وحرافيشه، فيما ديوان الرصافي بطبعته الاولى يستريح الى جانب طبعة قديمة من كتاب نهاية الارب في فنون الادب، كتب الفلسفة اخذت حيزا في طبعاتها القديمة. موسوعة مشكلات زكريا ابراهيم الى جانب نسخة نادرة من تاريخ الفلسفة الانكليزية ترجمة فؤاد زكريا، فيما كتاب الجبر الذاتي لزكي نجيب محمود يبدو متعبا بعد مرور عشرات السنين على طبعه، تصفحت كتاب زكي نجيب محمود فوجدتني اعود الى سنوات الثمانينيات حيث حاولت ان اقرأ الكتاب للمرة الاولى فاستعصى عليّ، تركته لاعود له بعد سنوات. وهو من كتب زكي نجيب محمود النادرة وهو رسالته للدكتوراه التي نشرها بالانكليزية وترجمها تلميذه امام عبد الفتاح امام، وناقش فيه موضوعة " الجبر والاختيار " او حرية الارادة وهي مشكلة شغلت الفلاسفة منذ الاغريق، وهو يكتب في مقدمة كتابه هذا :" ما دامت الكلمة الاخيرة في هذا الموضوع لم يقلها احد بعد، وطالما ان هذه المشكلة ما زالت تلح على العقل البشري، فان فشلنا في الماضي في الوصول الى حل لها يعتبر حافزا للقيام بمحاولة جديدة، اكثر منه مبررا للاقلاع عن دراستها يائسين من حلها ".. ونجده يصل الى نتيجة مفادها ان الانسان حر لا بمعنى حرية انعدام القانون او الخضوع للعشوائية، فالفعل الارادي معلول وهو حر في آن معا وهذا ما يسميه زكي نجيب محمود " الجبر الذاتي ". في المكتبة القديمة كانت كتب العراقي كريم متي تجاور كتب المصري توفيق الطويل.

كتب.. كتب.. كتب في كل زاوية من زوايا المكتبة التي هي عبارة عن شقة كبيرة بخمسة غرف، قال صاحب المكتبه انه يعيش يومه مع اصدقاء خُلص، فذكرني بما كتبه الشاعر الانكليزي اليوت من ان الكتب هم الأصدقاء الأكثـر هدوءاً واستمرارية، هم المستشارون الأكثـر قرباً، والمعلمون الأكثر صبراً.

***

علي حسين

....................

* الصورة بعدسة الصديق القاص والروائي خضير فليح الزيدي الذي كان دليلي لاكتشاف نهج الدباغين .

كم أنت عزيزة، وكم أنت غالية، كم أنت عصية، وكم أنت مستعصية!!

على الشاطئ، حيث يقف الرمل، وينتصب التاريخ، بين عينيك الراقصتين شعاعا من حلم يخترق الليل ويشق الظلمات، ويزهر المجهول رياضا من عشق عوسجي الطلعة، بتناغم مع قرنفل الغيب المحمل بأَنّاتِ المهاجرين الرابضين على أرصفة المدن، وشواطئ الغربة، معبَّئين بالحنان والحنين، للنسيم المرسل من موج الغيب والمغلق، إلى مساماتهم المشرعة للخوض بحتمية الصبر واليقين، بحتمية العودة، للبرتقال والليمون، والتين والزيتون.

ترى، ألا زلتِ تذكُرين وجهي الدامي بالشوق الخافق، بالروح الممتدة من تاريخ الهجرة، حين انكفأتُ على ذاتي مغادرا، من فوق ذَرّاتك، إلى ذَرّاتِ أرض، لا تشبه تفاصيلها، ومروجها، وحدائقها الغناء، وَخْزَ شَوْكِكِ المبارَكِ، وقَيْظَ صيفِكِ النَّدِيّ، وقساوة جبالك الناعمة، يوم حملت جثتي على ظهري وجسدي، مكفنة بالخوف، ومُلَفَّعَةً بالهزيمة، من أجل أن أحيا، بموت يضمن بقاءَكِ في عيوني.

اِغضِبِي عَلَيَّ، كيف شئت، وأنى شئت، لك الحق، كل الحق، باستخراج وجعك المعتق، عبر العصور وعبر الدهور، لتنثريه بوجهي وذاتي، بكياني، غبارا يَسْفَعُ الوجهَ والجسدَ، ويدور كزوابع رملية بصدري الذي اختار ذرّات أرض غير أرضك، وألوان جبال غير ألوان جبالك التي تصنع لون الكون عبيرا مُوَشًّى بوجوه من ذابوا فيك طوعا واختيارا.

غادريني كزنبقة الوادي، من ذاتي إلى ذاتي، كالجذر الممتد من رحم التراب إلى رحم الصخر، ومن عين الماء إلى البئر، ومن رحيق الماضي إلى رحيق القادم، وكسريني كما تُكَسر أشعة الشمس على شاطئ بحرك الحاوي أسرار الكون وغموض القمر، واسحبيني مع موجة قادمة عائدة، إلى أعماقك النقية، واغسليني بمائك وضوئك، غسل النهر للأرض، وغسل العصفور للندى، والبلابل للآفاق، واحمليني رضيعا يرضع صدرك ويسحب من حليب عمرك وعطرك، كجني يعرف مداخل الحب وأبواب العشق في بساتين الجنان والفراديس، أو كدفقة نور تخرج من روح شهيد لا زالت معلقة كقبة الأقصى بين النجوم والشموس والأقمار، تراقب ترابك الممتص لنورها امتصاص الروح للحياة الأزلية.

واحمليني نعشا من العَوْسَجِ، على كاهلك المرهق المتعب، وسيري بجثماني بكل التواءات أوردتك وشرايينك، مسيرة تقطعها أيام الخلود، وتدخلها سنوات البقاء، كَحَسُّونٍ أو كَنَارٍ، يسكب صوته بمسامع الأكوان والسماوات خلودا يمتد من حيفا إلى حيفا.

كم أحبك يا مدينة رحلت من مساحاتها وأرضها لتسكن سويداء الروح والقلب، لتمخر عباب محيطاتي الممتدة وَلَهًا وعشقا لأحرف اسمك المسافر دوما عبر الموانئ إلى المرفأ الأخير في عقلي المتسع لكل تضاريس أرضك وجبالك، يا وطنا تحمله عناقيد العنب وأزهار البرتقال والليمون والدراق، إلى عينيَّ الغارقتين بكل أرصفتك وشوارعك، يا جنة الكون المقذوف في مساحات الموت والفناء، لو تعلمين فقط، كم من الدموع سكبتها في عيون الروح والقلب وأنا أجر أذيال الخيبة لأدخلك وأنت تنتفضين انتفاضة نور من مجهول اقتحم مكونات جسدك وروحك.

لو تعلمين يا حيفا، كيف يبكي الرجال أنفسهم ساعة الانكسار والهزيمة؟

آه وألف آه، يا موطن النجوم والشموس.

الحروف بين أناملي تتراقص كشمس فوق محيط ممتد في خاصرة الأرض، تترجرج، تتفلت، تأبى الانصياع إلى مشاعر تتلظى من حمم شوقي واشتياقي، لتغور بأعماق مجهول يسحبني نحو مجهول، فأحس نفسي تخرج من نفسي، وذاتي تخرج من ذاتي، هو التحول يا حيفا.

يا أمي...

ويا أم الأكوان والناس والأشياء، يا نورا يأتي ليزيد الكون غموضا فوق غموض.

أحبك، كما لم يحبك بشر قبلي على هذه الأرض، وأعشقك بطريقة أخرى، لا تشبه عشق الناس للنساء والأوطان والأشياء، بل بطريقة أخرى، تتفردين بها بجلال هيبتك وشموخك، بجلال خصوصيتك، وخصوصية شاطئ البحر النابع من أعماق مجهولة النبع والتكوين، أحبك حبا لا تستطيع الكلمات أن تحده أو تحيطه، لا تستطيع رسمه أو وصفه، لا تستطيع ضمه أو تركه، لا تستطيع الانبهار به أو الإعجاب بتكوينه.

أنتِ شيء آخر، خاص، لا يخرج من النفس أو الروح، ولا يغادر العقل أو القلب.

أنتِ حيفا...

حيفا التي وقفتْ بكل ما فيها لتحتضن الأبحر والمحيطات برموش يتناثر اللؤلؤ بين وَسَنِها وصَحْوِها الممتد منذ الأزل إلى الأزل.

أنتِ حيفا التي تنسكب الدموع من أجلها دونما خجل أو حياء، دموع السماء والنيران والبراكين والزلازل، دموع الرجال والرياح والزوابع والعواصف، دموع الأمهات والليل والأسرار والنيازك، دموع الأطفال والموت والحياة والبعث القادم.

أنتِ حيفا...

حلم الأرض للأرض، والزيتون للزيتون، واللوز للوز، حلم التاريخ الممتد من عهد الخلق إلى يوم الساعة، وحلم الشموس المسافرة في الآفاق بحثا عن وطن في جسدك النابض تاريخا ملفعا برائحة الزعتر واليانسون والنعنع.

أنت حيفا...

الخارجة من تكوين المعتاد والمعهود، إلى تكوين الجمال المغلف بالأسرار والغموض، المُوَشَّى بهيبة البحر والصحراء، بهيبة الغيب المستتر خلف غِلاَلاتِ الغيب الممعن في استفزاز الأحداث والأشياء والأزمان والأمكنة، أنتِ سِرُّ الأرض المخفي في نواة البراكين المُسْجَرَةِ في قاع المحيطات إلى يوم يعرفه الغيب القادم، ليقذف حممه المباركة على حواجز الموت الذي حط فوق رُبَاِك وتلالك وهضابك، ليفتح صدر الكون لطهارة الأيام التي تلي تفجر تلك الحمم، وليزهر الزعتر واللوز بنوار يفيض بالعذرية التي يصنعها غضب البركان برحمة الحمم المطهرة للأرض.

أنت حيفا...

التي حملت خطوات أجدادي حين بدأوا يكرجون كرج الطفولة، ويضربون ضرب الشباب، ويتوأَّدُون تَوَأُّدَ الشيوخ، وأنت التي احتضنت أجسادهم بأعماق تربتك السمراء الفتية، لترويها بجذور الزرع والورد والياسمين.

وأنت التي بلحظة عين مخطوفة من الزمن، انسحبت خلفي يوم حملت جثماني على كاهلي وغادرتك، هاربا من موت ظل يعيش بأعماقي حتى هذه اللحظة.

لو أني بقيت فوق ترابك، فاتحا صدري للأشباح والغِيلانِ والرصاص والقذائف، لو بقيت وأشْرَعْتُ أشرعتي لدوامات بحرك وهدير موجك، لكنت اليوم حيا، أَنْبُضُ بالروح، وأفيض بالبقاء.

لو

لو

لو!!!

***

مأمون أحمد مصطفى - فلسطين- مخيم طول كرم

النرويج:21-10-2006

يتمتع عميد الادب العربي طه حسين بمكانة خاصة في تونس التي وجدت في كتابات اشعاعا ليبراليا اضاء لها جانبا مهما من جوانب مسيرتها الثقافية.. وانت تتجول في المعرض ستلمح صورة طه حسين على العديد من اغلفة الكتب سواء كانت مؤلفاته او دراسات كتبت عنه او كتب تكريمية تشيددبالدور الكبير الذي لعبه في حياتنا. " 50”عاما مرت على رحيل طه حسين ولا يزال شاخصا في وجداننا. الرجل الذي عانى المحنة الكبرى يوم نشر كتابه " في الشعر الجاهلي " عام 1926 حيث وجد نفسه مدحورا، مقهورا، نلقاه في معرض تونس للكتاب عام 2023، مبتسما وهو يجلس على عرش دولة الثقافة والحداثة، في كتب تمتلئ بالوفاء،والاعتراف بان التجديد الذي دعا اليه لم يكن " بدعة ضلال، وانما " بدعة تطور ". انظر الى صورة طه حسين، فارى صاحب الايام، الرجل الذي عاش على باب الخطر، فكانت حياته رحلة عاصفة، ألم يخبرنا ذات يوم " ان معظم كتبه خرجت من قلب المعركة ". والمعارك كانت خصومات فكرية واحيانا خصومات سياسية وجد نفسه ايامها عرضة للتشهير والسجن لكن النهاية تحولت هذه المعارك كما قال  الفرنسي جاك بيرك "شعاعا" فكانت منجما لفهم طبيعة الفكر العربي المعاصر.

بعد مرور " 50" عاما على رحيل العميد نجد ان الجميع يعترف بمكانته في الفكر العربي الحديث، وان الموقف من المناداة بحرية الرأي وحرية الفكر، والعدل الاجتماعي، والنظام الديمقراطي، كان موقفه،، وفوق كل ذلك بأن بيان الحداثة العربية كان بيانه.

في واحدة من الشهادات التي يضمها كتاب " طه حسين في مرآة العصر  " نقرأ شهادة ابنه مؤنس طه حسين التي يقول فيها: " كان ابي يملي كتبه، وقد كان يرفض دائما أن يعيد قراءتها، اقصد ان تعاد قراءة التجارب المطبعية على مسمعه. وفي اعتقادي انه لم يراجع قط سطرا واحدا بنفسه. فالدفع الاول في كتابه كان الاخير دائما ". ولكن نصوصه تؤكد انه كان قد فكر فيها طويلا ومليا قبل املائها. كان يحمل الكتاب في صدره. إنه المخاض الصادق. وكان كل من في البيت يدرك ذلك، فإذا الرجل مربدّ الوجه، ذاهل عن كل شيء، غائب عمن حوله. وكانت امي تخاطبه قائلة : “ الظاهر من أمرك يا طه انك الآن على أهبة إملاء كتاب جديد".

تعرض طه حسين اثناء حياته للنقد والتجريح، لكنه كان يقول انه لا يريد ان يفرض نفسه على احد " فانا لم ارض عن نفسي في يوم من الايام "، كان يرى في الخصومات الفكرية ثروة ادبية، طالما خاصم طه حسين العقاد وانتقده، لكنه كان يقول عنه كانت كبير ومجيد : " ما دمت والعقاد نكتب فالخصومة بيننا ممكنة. لكننا قوم نعرف كيف تختصم دون ان تفسد الخصومة رأي احد منا في صاحبه " هذه الكلمات درس للذين يعتقدون ان الخصومة الثقافية يجب ان تكون طعنا في وطنية الخصم وفي شرفه.

***

علي حسين

يفتح الفنان الهولندي الشهير رامبرانت، في كتاب يومياته. ترجمه إلى العربية ياسين طه حافظ، وصدر عن دار المدى السورية عام 2016، يفتح نافذة واسعة على حياته الصاخبة وابداعاته اللافتة. كتب رامبرانت يومياته هذه عام 1661. عندما كان في الخامسة والخمسين من عمره، ويقول في تلخيصه لهذه السنة: انتهت السنة. كم استمتع الآن بالاستقلال. استقلالي أنا، لأنتج العمل الذي اريده لا الذي تمليه علي نزوات الآخرين وغوغائية غُلاتهم، لكنّي لا أريد أن أتكئ على أمجادي. هذه السنة. سأعمل بجدٍّ أكبر.

يُعتبر رامبرانت من أهم الفنانين الأوروبيين. وبإمكان مَن يُريد، التوجّه إلى شبكة البحث الالكترونية العالمية، ليطلعوا على فيض من المعلومات عنه وعن حياته الصاخبة.. بالعديد من اللغات.

من اللافت في هذا الكتاب، هو تلك القُدرة الهائلة على التعبير عن المشاعر والاحاسيس المرهفة الدقيقة التي تذكّر بقدرة العديد من الفنانين الاجانب والعرب أيضًا، على التعبير بطرائق خاصة، تختلف بنوعيتها عن تلك التي يتميّز بها الكُتاب المبدعون عامة، وأذكر في هذا السياق أنه صدر مؤخرًا كتاب ضمّ عددًا من المواد الادبية الهامة التي أنتجها الفنان الاسباني ذائع الصيت بابلو بيكاسو، كما أذكر كتاب مذكرات.. الغني عن التعريف.. الفنان سلفادور دالي، وهناك كتابات رائعة خلّفها الفنان العربي المصري المعروف عالميًا حسن سليمان، منها كتاب عن "حرية الفنان".

يُمكنني تقسيم الابداع الادبي لرامبرانت، في يومياته هذه، إلى عدد من الابعاد أعتقد أن التعبير ذاته هو ما يميّزها. مثال قوله: الايام مثل بيضة صغيرة من ضوء متجمّد في منقار نسر هائل. ومثال آخر.. قوله: بعد طول انتظار ظهر الربيع وتفتّحت أزهاره وأفطرت عيناي هذا الصباح بورُوده.

يسلّط رامبرانت في يومياته هذه الضوء على حياته الخاصة فيطلعُنا على أبسط تفاصيلها لنكتشف بالتالي أنه، رغم عظمته التاريخية، كان إنسانًا عاديًا وبسيطًا أيضًا... تموت زوجته المحبوبة ساسكيا. ليتزوّج مِن مربية ابنه تيتوس المدعوة هندريشكة، ويحفل الكتاب بمشاعر الخوف على زوجته المُحبة المتفانية هذه. خاصة في فترة مرضها.

فيما يتعلّق بحياة رامبرانت الخاصة هناك صفحات عن تمرد أحد طُلّابه عليه ومحاولته إقناعه بالعودة للتعلّم لديه.. لكن عبثًا ودون جدوى. كما يتحدّث رامبرانت عن طالب إخر قذفه بالزيت، غير أن الله ستر فلم تتلف لوحاته القريبة.

يتحدّث رامبرانت أيضًا عمّا تعرّض له مِن مُضايقات، عندما أعلن إفلاسه، ويذكُر كيف دافع عنه أبناء أسرته خاصة زوجته هندريشكة.

أقترح على الاخوة الفنانين في بلادنا قراءة هذه اليوميات للاطلاع على تجربة عميقة لفنان مبدع اعترف العالم بإنتاجه الفنّي، وأشاد بعبقريته العشرات مِن فناني العالم ودارسي الفن. فهو كتاب ممتع بما حَفل به من عُمق وطرافة، بتنا نشتاق إليهما في زمن كثرة المدّعين وقلة المبدعين في مجال الابداعي الفني التشكيلي خاصة. اقرؤوا هذا الكتاب.

من أجواء الكتاب:

15 ايلول: نمتُ هذه الليلة مع هندريشكة. هي المرّة الاولى مذ مرضت.

حُبّها ليس خطيئة.

مُشاركتي لها حياتها ليست خطيئة.

وليست خطيئة بشرة جلدها الناعمة كالزبدة. شعرُها الذي قبّلته ومشّطته. خذاها. ثدياها. يداها المُحبّتان اللتان تحتضناني. عيناها اللتان تستوعبان عُريي وشفتاها حين تتلفظان اسمي.

أول مرّة ضاجعتها حين كانت خادمتي ثم صارت خليلتي. الآن نحن متساويان.

من 27 ايلول:

أثّر فيّ هذا كثيرًا وأرّقني هذه الليلة. بقيت تُعذّبني فكرة أنني. وأنا أهب نفسي للفن، أضحّي بأطفالي. شركاء حياتي، على مذبح الفن الجيّد. هي لعنة أن ابدأ الآن تساؤلي فلا نُكران اني وضعت ما أحب، وتألمت مِن أجله، في دَرجة أعلى مِن أولئك الذين أحبّهم.

من 15تموز:

رسمي صُراخ وهدير. هي رسومي. الضحك والنحيب، والابتسام في النحيب. كلّ هذه في الرسوم. الرسوم التي هي رسومي. أنا الرجل الذي وراءها.

3تشرين الاول:

حين نظرت إلى نفسي لم أرّ غيري. رامبرانت الفريد الوحيد، ولكن، وأنا أرسم صورتي، تملّكني شعور بأني أرسم جميعَ الرجال..

ولجميع الرجال.

***

بقلم: ناجي ظاهر

هل فعلاً متعة الحياة هي ما يستمتع به الجسد وما يُشبع شهوات النفس؟ أم أن هناك متعة أخرى يختص بها العقل فقط ولا يتذوقها إلا فئة قليلة من الناس؟

فئة أدركت أن هناك حديقة خلفية وسرية تختبئ في زوايا العقل ولكنها تُشرق على الروح وعلى الجسد، ومن هذه الفئة الصغيرة فئة من كتبوا ويكتبون في السجون، لقد اكتشفوا طريق هذه الحديقة السرية وتمتعوا بظلالها وثمارها غير المرئية، وامتلكوا الحرية الكاملة في التجوال بها لأنها بلا حدود ولا مساحات ولا يزاحمهم بها أحد، لا يعرفون بها الضجر ولا الملل ولا يخشون العيون الفضولية ولا نفوذ السلطة، الحديقة تصبح دولة خاصة بهم لهم بها كل الامتيازات والحقوق وقبل كل شيء حرية القرار.

من هؤلاء الكتاب:

(رسائل من سجن باكنغهام) مارتن لوثر كينغ جونيور

(دون كيشوت) ميغيل دي سير فانتس

(محادثات مع نفسي) نيلسون مانديلا

(رحلات ماركو بولو) روسيتشيلو دابيزا

(تاريخ العالم) المجلد 1 للسير والتر رالي

(لا أستطيع الإحتفاظ به لنفسي) والي لامب

(مقدمة في الفلسفة الرياضية) تراند راسل

(المبسوط) الإمام شمس الأئمة محمد السرخسي

(أسرار الحروف) ثمانين مجلد أحمد بن علي هبة الله الزوال

وغيرهم من الكتاب والروائيين الغربيين أو العرب.

يقول تراند راسل عن الكتابة في السجن:

" لقد وجدت السجن من نواحٍ كثيرة مقبولاً تماماً، لم يكن لدي ارتباطات ولا قرارات صعبة أتخذها ولا خوف من المتصلين ولا مقاطعات لعملي"

الكتابة في السجن تثبت أن إبداع الإنسان لا يتعلق بالمؤثرات الخارجية وأنه هناك عالم داخلي خلقه الله تعالى في عقل الإنسان وروحه تجعله ينطلق بحرية غير محدودة إلى عوالم داخلية قد تكون أكثر اتساعا من العالم الحقيقي المحدود في المكان وفي الفكر. الكتابة في السجن تُثبت بأن أثمن ما يملك الإنسان ليس ما يمتلك بين يديه بل ما يمتلك في عقله من إرادة وفكر لذلك لا يمكن لشعوب لا تمتلك هذا الفكر أن تنهض، لا يمكن للسلاح أن يحرر الأرض كما لا يمكن أن تنهض الشعوب الفقيرة بمجرد امتلاك الأجهزة الحديثة، ولهذا تفشل نهضة الأمم حين لا تدرك هذه الحقيقة وأن الحرية والتطور لا يمكن امتلاكهما دون عقول تسير في طريق الإرادة ومعرفة الهدف وبهزيمة لا تُقهر. ولهذا أيضاً لا يمكن تحرير الأرض المسلوبة بعقول شحيحة وفقيرة حتى لو أمتلكت أحدث الأسلحة.

حين يدرك الإنسان مدى القوة التي أودعها الله تعالى في عقله وروحه سوف يتغير قدره، وحين يحترم هذا العقل ولا يبذله لأجل المتع الرخيصة والشهوات العابرة سوف يمتلك السلطة العليا للدفاع عن نفسه وعن الآخرين. لا يوجد من يستطيع استعباد الآخرين أو الشعوب إلا بموافقة هذا الآخر وهذه الشعوب، كل استعباد له طرفان كي يتحقق: المُستعبد والقابل لذلك.

إن لم تستطيع أن تكتشف تلك الحديقة السرية في عقلك فأنت لن تعيش سوى في هذا العالم المادي المجرد والذي يُلقنك كل يوم كيف تعيش وماذا تفعل، فقط حين تكتشف عالم عقلك السري الثري يمكنك أن تقول للعالم من حولك كيف يجب أن تكون الأشياء ولمن القرار.

***

د.سناء أبو شرار

يكتبونْ عن العصر العباسي بصورة مغايرة، فيقولون أنه عصر مليء بالدسائس والصراعات السياسية بين الأبناء والأولاد حول الحكم، فكان فرصة لتدخل الفرس والأتراك، بعدهم في شؤون الحكم، بعد أن كانوا عبيدا وموالي، فانتشرت الفوضى وعمت الاضطرابات، فيصورون العصر عصر فتن وحروب، ولا يذكرون ازدهار الحضارة، فكان عصر علماء كبار، ومفكرين عظام، وأدباء نابهين، ومخترعين في جميع الميادين العلمية والتقنية ...

وأي عالم أو أديب مهما كانت عبقريته وشهرته لا يعتد به إذ هو لم يزّر بغداد، أو لم تُقرأ كتبه وتناقش فيها ....

المذاهب الفقهية الكبرى تأسست في العصر العباسي الأول،وكُتب الحديث ألفت وجمعت فيه، وكذلك تم التأسيس لعلوم اللغة والأدب في هذا العصر، وأيضا الفلسفة والطب والجغرافية والتاريخ والآثار وعلم السلوك والرياضيات والهندسة ..

والحضارة والتمدن لم تزدهرا في بغداد وحدها،، وإنما في أكثر من مدينة أو إقليم ؛ بخارى، مرو، تيهرت، قرطبة، اشبيلية، دمشق،القاهرة، حلب وغيرها لكنها جميعا كانت تنهل من بغداد وتستمد منها الوهج ...

لذلك كان سقوط بغداد على يد المغول الهمج في القرن الثالث عشر الميلادي مدمرا ومدويا ومؤثرا على تراجع التمدن العربي الإسلامي، وانتقلت الريادة العلمية والحضارية الى القاهرة، أو الأندلس وتلمسان أو اسطنبول ودلهي لكن ما استطاعت هذه المدن العامرة أن تعوض بغداد، وسحر بغداد وعبقرية بغداد ..

رغم القلاقل السياسية والصراعات كان الخلفاء العباسيين يهتمون بالعلوم والآداب، بل كانت الثقافة الدينية والأدبية معيارا ومطلباً أساسياً في تكوين الخليفة نقسه، أو غيره من الوزراء والحجاب، فلا عجب أن كان رجال السياسة من خلفاء أو وزراءهم يتسابقون على تقريب العلماء والمبدعين، والتاريخ يذّكر أن أكثر من عالم كان يتحاشى التقرب من الخلفاء أو تكريمهم ...

وبسبب أن بغداد كانت حاضرة الثقافة والحضارة لم يفكر العلماء أبدا في الهجرة الى بلد أخر لطلب العلم كبيزنطة أو أوروبا أو الصين والهند، وإنما كانوا يفضلون البقاء في بغداد، وإن كان ولا بد من الانتقال فإنهم يكتفون بالترحال بين حواضر العالم الإسلامي ...

***

بقلم: عبد القادر رالة

ترجمت الاعمال الادبية الروائية للكاتبة الهنغارية اغوتا كريستوف، إلى أكثر من أربعين لغة. فيما يتعلق بترجمتها إلى اللغة العربية يقول مترجم كتابها "الامية- سيرة الكاتبة"، محمد ايت حنا في تقديمه له، إن اغوتا كريستوف لم تحظ بالاهتمام المستحق عند القراء العرب، رغم أن بسّام الحجار كان قد ترجم لها روايتين هما "أمس" و " الكذبة الثالثة"، ويرى حنا أن الترجمة كانت جزءًا من المشكلة، فالترجمتان رُغم روعتهما، لم تكونا اختيارًا جيدًا كمدخل لأدب الكاتبة المجرية، ويوضح قائلًا: لعلّ اللغة العربية كانت هي الاستثناء في علاقتها بترجمة أعمالها، فجميع اللغات بدأت بترجمة روايتها "الدفتر الكبير"، وهو في اعتقادي الكتاب المناسب لتعريف القارئ بالكاتبة، ليس قطعًا لأنه أفضل كتبها، وإنما لأنه الاكثر قابلية لأن يتفاعل معه القارئ.

من هذا المنطلق يتابع حنّا قائلًا إنه اتفق قبل سنتين مع صاحب" دار الجمل"، خالد المعالي، على ترجمة أعمال اغوتا تباعا، فأصدر ترجمته لرواية "الدفتر الكبير"، وأتبعه عام 2015 بكتابها "الأمية"، على أن يقوم بترجمة بقية مؤلفاتها ويصدرها تباعًا.

اغوتا كريستوف من مواليد احدى القرى الهنغارية عام 1935. والدها المدرس الوحيد في القرية وله محاولات لا بأس بها في مجال الكتابة الادبية. أخوها كاتب معروف في بلاده. أتقنت القراءة وهي لمّا تزل في الرابعة من عمرها. تقول إنها كانت تقرأ كلّ ما يقع تحت يدها. عانت جراء الحرب كثيرًا واضطر اهلها لإدخالها في طفولتها إلى مدرسة داخلية مغلقة تفتقر إلى الكثير من وسائل الراحة، ولعلّ هذا ما دفعها فيما بعد للانشغال بموضوع الحرب وما تخلّفه من آثار قاسية على من يكتوي بنارها. هاجرت عام 1956 إلى سويسرا برفقة زوجها، وكان في السابق معلّمها، وابنتها. عملت في بداياتها في مصنع للساعات السويسرية.

عن قصتها مع الكتابة تقول في فصل عنوانه "من الكلام إلى الكتابة"، إنها كانت في طفولتها تحب رواية القصص وإنها كانت تقول لجدتها إنها هي مَن سيروي الحكاية. وليس أنت. تقصد جدتها. وتروي طرفة لطيفة مفادُها انها روت أيام كانت طفلة صغيرة لأخيها قصة اقنعته فيها أنه ليس شقيقها وإنما هو طفل متبنّى، فبكى أخوها ما دفع أمها لمعاقبتها. وفي هذا المجال تقول إنها كانت عندما كبرت قليلًا تكتب المسرحيات وتمّثلها أمام الطلاب مقابل مبالغ زهيدة.

بعد هجرتها إلى سويسرا واجهتها مشكلة اللغة الفرنسية، ما أشعرها أنها أمية لا تتقن القراءة والكتابة في هذه اللغة، وما دفعها بالتالي للانكباب المُضني على دراستها حتى أتقنتها وأبدعت أعمالًا أدبية فيها.

تقول إجابة عن سؤال تطرحه في كتابها "الامية"، هو "كيف يصير المرء كاتبًا"، ينبغي في البداية أن نكتب، بالطبع، ثم ينبغي بعد ذلك الاستمرار في الكتابة، حتى حين لا يثير الامر اهتمام أحد، حتى حينما بتملّكنا الاحساس بأن كتابتنا لن تثير اهتمام أحد أبدًا. حتى حين تتراكم المسودات في الدرج وننساها، بينما نكتب أخرى.

عن نشرها كتابها الاول. تقول إنها أرسلته إلى كبريات دور النشر في فرنسا. وان رفض "دار غاليمار" المشهورة نشره لم يفتّ في عضدها، لأنها كانت مؤمنة أنها كتبت ما يستحق القراءة.. وكما توقعت فقد قامت "دار سوي"، المشهورة أيضًا بنشره، بعد أن تلقت رسالة من صاحبها يقول لها فيها إنه لم يقرأ أدبًا رفيعًا بهذا الزخم منذ سنوات. وهو ما شجعها أكثر على مواصلة الكتابة ليتحوّل كتابها الاول "الدفتر الكبير" إلى ثلاثية جُزؤها الثاني "البرهان" والثالث "الكذبة الكبيرة". يذكر أن اغوتا كريستوف تزوجت مرتين، الاولى من معلّمها كما سلف، وقالت في مقابلة ضمها كتابها "الامية"، إن حياتها لم تكن تعيسة، وإنها كانت مرحة رغم الحرب، وبعد ذلك أطفالها هم من جعلوها سعيدة. وتؤكد أن زوجيها كانا أسوأ ما في حياتها. توفيت اغوتا كريستوف عام 2011.

***

بقلم: ناجي ظاهر

رغم ما يتسم به العمل الإبداعي من فردانية و فرادة لا يمكنه أن يحيا بغير وعي جمعي وجماعي لقيمته التصاعدية.. وعي نابع من إحساسنا بالمسؤولية اتجاهه واتجاه موروثنا الثقافي واتجاه وطن كان مهدا للحضارات يوما ما وصدرها لتعبر عباب البحر نحو بلدان كانت مجهولة وصارت اليوم هي الإولى.. نعم.. لقد قطعنا عباب البحر وحين العودة غرقنا.. نعم قطعنا..على متن سفينة فينيقية ومركب.

ذات حلم أمطرت السماء وغمرت النفوس بالمحبة والتعاون والعطاء

ذات حلم مسحت الأمطار الحدود لتزهر الأرض مع فجر يوم آخر موعود مزركشة فوق الأخضر ب الفراشات والورود والعنبر..

ذات حلم تعطرت أنفاسي بحب الحياة وصرت أصلي لرب الأرض والسموات أن يوفقني لأكمل رسالتي فيما عقدت العزم عليه..

إذ كانت الدروب واضحة إليه..

ذات حلم أردت أن أجعل منه حقيقة.. ورسمت الأفكار الموصلة إليه ثم الحلول لمعظم الإشكالات المتوقعة في دقيقة..

ثم.. ثم.. ثم ماذا..

أيقظتني تلال الأشواك على واقع مر كالحنظل.. وسألت نفسي ذاك السؤال العالق جوابه في ذاته وعلى ألسنة العامة من المحبطين

(ضمن ذاك الكم الهائل من الفساد المترابط والمرتبط بالمصالح والعلاقات وما تفرضه من تحديات وإقصاءات.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ من السائل ومن المسؤول؟!

لم تكن تصوراتي مغايرة..

ولكن كنت أعتقد أني قادر على التأثير والتغيير.. كنت كلما فتحت نافذة يبنى مقابلها جدار..

من المسؤول عن إيقاف عجلة الحياة؟..

من المسؤول عن إشعال الأحقاد و الضغائن ونشر الظلمة والظلام من المسؤول عن قتل الحمائم في مدن الشمس وفي أم المدائن؟

من المسؤول عن تعكير صفو الحياة والرواق؟

من المسؤول عن ضخ كل هذا السم والوباء؟.. من؟

ما أصعب أن تحيا غريبا في وطن لا مكان لك فيه

تنزوي في ركن منسي تحت ظل القمر تسكب دموعك فوق ركام أحلامك وتمضي مستسلما للقدر

بلا أمل بلا عمل بلا هدف يشعل جمرة الحراك في ذاتك في أنفاسك في تخيلاتك..

كما جسد بلاروح.. تنتظر الموت و مابعد الموت..

تعد الثواني والدقائق تعد الساعات والأيام.. تحلم بالعودة لغفوة.. طويلة مديدة.. مديدة طويلة.. تبدأ من الأرض وتنتهي إلى السماء.. مديدة طويلة.. طويلة مديدة.. لا يتخللها حلم أو مطر أو داء

***

الفينيق حسين صقور

تعد مدينة بومبي الرومانية الاثرية أهم معلم سياحي مرتبط بالسياحة المظلمة في إيطاليا على الاطلاق، وأحد أكثر الكنوز الاثرية أهمية على النطاق العالمي وفقا لعلماء الآثار. وتحتل مكانة هامة على خارطة هذا النمط السياحي على النطاق الوطني والعالم أجمع، إلى جانب كهوف (ارديتين) ومقبرة (كابوتشيني) و(سان بيترو انفاين) وجزيرة (سترومبولي) وموقع كارثة (سيفيزو الصناعية) وغيرها. إذ يتراوح عدد الزوار والسياح الذين يؤمونها سنويا بين (2) و(2،5) مليون شخص (2،571،725 مليون شخص في عام 2007). يشكل الأجانب (50) في المائة منهم تقريبا وفقا للأحصائيات المحلية.

ويحكي واقع المدينة الحالي قصة مأساة حقيقية وكارثة طبيعية حلت ب (بومبي) وبأهلها البالغ عددهم (200000) نسمة تقريبا، جراء الطفوح البركانية (الخفاف) الناجمة عن ثورات جبل (فيزوف البركاني) الشهير في الرابع والعشرين من آب عام (79 م). فغمرتها عن العالم حتى القرن الثامن عشر (عام 1748 على وجه التحديد)، عندما بدأت بعض معالمها بالظهور من جديد نتيجة لأعمال البحث والتنقيب المضنية التي طالت المنطقة، واستمرت بعد ذلك وخلال فترات زمنية مختلفة وحتى يومنا هذا، وتحت مظلة منظمات محلية ودولية مختلفة. وذلك لأهمية المدينة التي تجذب أفواج السياح من الداخل والخارج رغم المخاطر والتهديدات المحدقة بها جراء العوامل الطبيعية والجيولوجية (عدم الاستقرار الهيدروجيولوجي). الامر الذي يتطلب معها المزيد والمزيد من العناية والرعاية والاهتمام من قبل هذه المنظمات بعد صمود المدينة الاثرية لأكثر من 2000 عام.

وكان آخرها شمول المدينة بخطة مراقبة ومتابعة دقيقة ومحكمة عبر أجهزة الاستشعار عن بعد والأقمار الصناعية، تقوم بها مجموعة الدفاع والتكنولوجيا الإيطالية المعروفة اختصارا بـ(فينميكانيكا) المعروفة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، والمدرجة عالميا ضمن أكثر من (10) جهات نشطة وفعالة في حقول الفضاء والدفاع والامن، وذلك للحد من التداعيات والتراجعات الحاصلة في ابنية وموجودات المدينة لأكثر من سبب، ومنها الأنشطة والفعاليات السياحية نفسها. وقد صارت تهدد هذا الموقع الاثري الهش والحساس، وبأكثر من اتجاه، بسبب الوجود المكثف للزوار، للرغبة الشديدة في زيارته ولأكثر من مرة في كثير من الأحيان، مع تعاظم عدد وحجم البرامج السياحية المنظمة والموجهة اليه من قبل الشركات السياحية الإيطالية، وطيلة أيام السنة والمرتبطة بعدة أشكال وأنماط سياحية، مثل: السياحة الثقافية والسياحة التاريخية وغيرهما.

***

بنيامين يوخنا دانيال

في منتصف ستينات القرن الماضي، و أنا كنت في آخر مراحل دراسة البكالوريوس بكلية الفنون في برلين، ذهبت الى مديرية الإقامة العامة لتمديد اقامتي التي  يجب أن تتجد سنوياً.. تفاجأت بأن صلاحية جواز سفري العراقي كانت منتهية، فتعذر علي تجديد الإقامة، مما حدا بي للذهاب في اليوم التالي الى السفارة العراقية من أجل تجديده.. تفاجأت بأن القنصلية تطلب مني أن أدفع البدل النقدي عن الخدمة العسكرية والبالغ مقداره 1250 ماركاً ألمانيا.. ولم يكن لي علماً مسبقاً بذلك وقد حدد الموظف المختص بأن ليس لدي سوى يوماً واحداً ولم يكن قد وصلني خبر هذا التعميم بتاتاً.. فوقعت في حيرة كبيرة، لا سيما و أني كنت أتقاضى مساعدة مالية شهرية من الجامعة مقدارها 280 ماركاً ألمانياً.. وكان الشهر قد أوشك على الإنتهاء.. فما هو الحل، ومن يعين على مثل هذا المأزق.. وعندما لا تتجدد اقامتي لا يحق لي الدوام في الجامعات الألمانية، وأخسر دراستي و كل آمالي التي وضعتها عليها.. أتصل بي صدفة  بعد الظهر "ماتياس" أحد زملائي  في الدراسة، وسمع مني مخاوفي بأني سوف لا أستطيع البقاء معهم.. أحسست من صوته بأنه حَزِنَ لهذا الخبر.. ما هي الا ساعتين و إذا بماتياس يتصل بي و يفاجئني، بأنه هو و أصدقاءه قد جمعوا لي المبلغ  وسيأتي الي فورا ليسلمني إياه، لأكون جاهزاً في اليوم التالي للذهاب الى السفارة ودفعه.. كنت أسمع منه هذه الكلمات  و الدموع تتساقط من عيناي.. وفي نهاية الشهر وددت أن أقسط ما علي من دين الى اصدقائي و زملائي الالمان.. لكنهم رفضوا ذلك وقالوا هذه هدية متواضعة منا اليك..

فهل يمكن لي ما زلت حياً أن أنسى هذا الموقف الانساني الراسخ في الذاكرة ؟!

***

د.هاشم عبود الموسوي

كانت ختيارات أيام زمان كحيلات، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد كن يحلبن الغنم، ويخضن اللبن بالشجوة، ويكنسن المرابض (الدوار)، ويقمن بفصل الحملان، والصخال، ويقمرن شملات القمح خلف الحواصيد، ويصنعن البرغل بسلق قمح الكبارية في قدرهن النحاسي الكبير على النار، ويصنعن الجشج مؤونة للشتاء، ويعملن الرشدة بايديهن من عجين القمح، بعد تقطيعه بالسكين .

وكن عندما يفاجأن بأن المؤونة مع بداية موسم الحصاد الجديد من العام، قد أوشكت على النفاد، وأن الكوارة (مخزن الطحين) قد بدت لهن فارغة، وأن الكولكة (حجرة خزن القمح) لم يتبق فيها شيء من قمح، فإنهن يسارعن، وقد شددن أطراف جلبابهن في احزمتهن (الشويحي) الذي نسجنه بيدهن من غزلهن من صوف غنمهن ، لتقوم واحدتهن بقطف سنابل القمح، من زرعهم المحيط ببيادرهم بالمنجل، ثم تقوم بنقل السنابل إلى البيت على كتفها، بعباءة الصوف (البشت)، التي كانت قد غزلتها بيدها من صوف الغنم، وحاكتها بيدها، لتشرع بدق السنابل بعصاها الغليظة، في فضاء البيت. وما أن تنتهي من سحقها، تقوم بتذريها على الهواء (بالسرادي)، وهو غربال اوسع فتحات من منخل الدقيق، لفصل حب القمح عن التبن العالق به، ثم تقوم بعد ذلك بطحن القمح على الرحى بيدها، حيث تقوم بعجن الدقيق الذي صنعته توا، بالمخمر الخشبي، إذ تنهض لسجر تنور الطين ببعر الأغنام، وقليل من الشوك والعاكول، حيث تقوم  بتقطيع العجين الطازج بيدها إلى كتل بحجم كفها، وتمطه بين كفيها ليترقق،ثم تخبزه على التنور، لتخرجه بعد أن يجف وينضج، رغيف خبز حار، يفوح رائعة زكية، حيث تقوم بتقديمه لعيالها وجبة طعام شهية، مع زبدة ولبن الغنم (خاثر) سائغا للشاربين، وأحياناً مع السمن الحر المدبس من الظرف. ولك أن تتخيل الطعم اللذيذ، والنكهة الرائعة، لهذه الوجبة الطازجة بكل مكوناتها.

هكذا كانت ختيارات أيام زمان، كحيلات حقاً، يواجهن صعوبات الحياة، بروح إيجابية، ومن دون تذمر، ولذلك لا يزال ذلك الجيل الذي عاصرهن، وعاش مفردات ذلك الموروث الريفي الجميلة بتفاصيلها، أيام زمان، يحن،ويستذكر حلاوة تلك الأيام،  بعد أن سئم ضجيج العصرنة الصاخب، وبعد أن أفسد الغذاء المعلب ذائقته ،بما يحويه من مواد مضافة، وكيماويات حافظة ، أضرت كثيراً بالصحة العامة للناس.

صفحات ماضي مكتضة بمعاناة قاسية، لكنها كانت مفعمة بالسعادة، مع كل تلك الصعوبات . مفردات تراث جميل، انطوت مع صفحة أيام ولت، ولن تعود .

***

نايف عبوش

حياتنا رحلة، فقد مضينا ومضى فينا العمر تغير كل شيء بنا إلا القلب ما زال يبحث عن ماضٍ لا سبيل في عودته، يأخذننا الحنين إلى أيام مضت حيث الأمان وراحة البال وضحكة من القلب.

أصبحت اليوم مثقلة بالهموم ويعلو جبيني اليأس والانكسار جسد مرهق، مشاعري مبعثرة، مستقبلي مجهول، وأمنيات مشتةعلى قيد الإنتظار أعلم إنه قيل لي لا يظل من يسير على طريق مستقيم، فإستقمت ولكني شعرت بالضلالة حاولت جاهدة أن أقاوم تلك المشاعر أن ازرع في قلبي أمل كي لا أنطفئ ويبدو أني زرعت نفسي في أرض غير أرضي فذبلت، فسقاها الزمان مر الحياة، إن أسوء ما يحدث أن نبدأ حياتنا في ضياع المشاعر محاولين تدارك الخسائر المعنوية في شتات أنفسنا فنعجز هاربين

هكذا أنا كنت في فترة ما غارقة في ظلمات حزني كمن تلاطم في البحر بلا مجداف، أمضي متأرجحة من موجة تعلو بي إلى أخرى باحثة عن قشة أتعلق بها لعلي أنجو أظن إني امتلكت طوق النجات فإذا بي أغرق لا قاع في الأسفل ولا هذا ينتهي، لا يد تنقذني ياالله ابحث عن نجمة لأهتدي فيتشتت يقيني وتزداد العتمة، حينها

توقفت عن التأمل وعن التمنى والمحاولة، أصبح قلبي كالمحيط يحمل ثقل الآمال المحطمة الضائعه وبينما أنا غارقة في يأسي في تلك اللحظة التي ظننت فيها أن كل شئ كاد أن ينتهي، تراءى لي تسبيح ذا النون في بطن الحوت حين اشتدت به الظلمات بعضها فوق بعض وتذكرت يقين موسى حين حاصره البحر وجنود فرعون فقال (كلا إن معي ربي سيهدين) فأخذت ارددها بإصرار موسى على نفسه بالهداية واسبح تسبيح يونس وأنا على يقين ان الله سيهديني سينقذني وما خيب الله ظن الموقنين به، شعرت بأن ثمة نافذة صغيرة فتحت في قلبي تسلل النور من جديد فيها من السماء ليشع بداخلي ويقتل ذلك الظلام المهلك كان هناك للأمل نافذة مفتوحة دائماً برحمة ربي فمضيت أجدف بصبر وعزم وأنا مثقلة بالهموم نحو ما تشتهيه روحي، كان لابد ان أستمر في التجديف فالوقوف يعني الغرق، الطريقة الوحيد للنجاة هي أن أقاوم قد كنت على وشك الغرق لكني نجوت، قد نغرق أحيانا لعدم يقيننا بالنجاة قد نغرق ونحن على اليابسة فهذا الغرق يجعلنا أقوى من قبل وتجعلنا

فاذا غرقتم في ظلامات أحزانكم سبحو كما سبح يونس عليه السلام سبحي يانفسي بإقرارك بذنبك، بحبك لربك قولي (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين). ينقذك الله منها كما انقذه من الغرق، ينقذك من حيث لا تعلمين مهما بلغ منك يانفسي التيه والضياع مبلغه أمضي

بيقين موسى يقينه الذي فلق له البحر سيهدي الله خطواتي وساصل للمكان الصحيح، نعم إنتهت المعجزات لكن لم تنتهي قدرة الله يانفسي صدقيني لا يقشع سواد اليأس عن قلبك إلا نور الدعاء فهل أيقنتم معي النجاة بالدعاء...

***

ذكرى البياتي

سيخفق قلبك.. وتتعالى سريرتك.. وتنطلق نسمات الربيع من أدغـال أعماقك كتنهيدة خلاصٍ أبدية تسامر قلوب المعذبين.. وترمي لحظتها جانبا" قساوة الزمن ودبابيس الأيام والخريف والحزن وأنت تجلس في ركنٍ من أركان المسجد كما أجلس أنا الآن داخل حرمـه متضرعا.. أنها الطمأنينة التي تشرح القلوب، أنها بهجة الروح وصفاء سريرتها، أنها الرحمة التي تلامس الأفئدة ومشاعر المؤمنين..

رحت أتأمل ثلّة من التلاميذ التفوا حول معلمهم الشاب وهو يرتل آياتٌ من الذكر الحكيم، يرددون ما يتلو بسعادة غامرة فتعلوا صيحاتهم بألحان رائعة تحاكي نغماتها الآفاق وتنطلق مبشرة إلى ما وراء الطبيعة والصدى وغيبيات الوجود الأزلي، كانت مشاعري أسيرة تلك الأهزوجة المقدسة وأرتقي شوقا" بين الفينة والأخرى لسماع جديدها.. جديد الترتيل المشوق لمعلمهم المثابر من صعود وانحدار في نغمات نبرتـه العذبة تارة، وترديد التلاميذ بصوتهم الناعم الرقيق تارة" أخرى، أحسست لحظتها براحة الجسد وسكينة النفس وكأني قد قطعت على قدم وساق دروب الأجيال الطويلة وسط الأعاصير والمطر، وتمنيت أن أتغلغل بين صفوفهم وأعود طفلا" أمضي وراء سذاجتي وأمتطي صهوة الأمنيات وأنتزع من على سحنتي آثار سنيني العجاف التي هجرها الربيع ورافقتها زوبعة الشتاء ووحل الضياع المهلك.. لامحض سُنّة مذهبية ولا فروض عقائدية قذفتني في قوقعة الخشوع تلك بل هي فطرة الهداية الإلهية التي أقنعت الروح على هجر طريق التمرد وتخليص النفس من وساوس الشيطان والكف عن ذنوبها والعصيان، فرحمة الهداية أسعفتني بزورق النجاة وأنا أتقاذف في بحر الظلمات وسط أمواج الخطيئة والطغيان، وها هي دموعي تسبق بصيرتي تعانق الندم وتتوسل الصفح حتى أمتزجت معها شهقات وغصة خرجت منتفضة من أروقة الأعماق أجهشت خلالها بالبكاء العميق مثل أولئك المحرومين الضعفاء، ذلك البكاء الحنون الذي يطفئ لهيب الحزن ويرّقع ثقوب الضمير ويقزم قامة الكبرياء..

وجدت أن غمامة النحس تتساقط من عليائها عند خشوعي والدعاء، ورأيت في برهة فقدٍ وإغماء أن ملائكة" شُدادا" تُحلّق فوق حطام النفس تهاجم الشيطان وتجرف أوكاره السوداء، وراحت عيناي نافذة الروح تسرح في سرابٍ ينقشع عنه الغبار وتنجلي عني سحابة الغموض وتنفتح أمامي جنائن مدهشة الغمار.. تبهر الأبصار.. ثمارها شيء عجيب وبلا رقيب.. قصورها رحاب، تعلوها بروجٌ وقباب، تقيم فيها كائنات رقيقة اللمسات.. جذاّبة الهمسات.. كلآلئ نثرت في عتمة الطرقات.. يتوارى عشاّقها خلف خمارٍ من ضباب.

أنه ربيع جديد يعدو فوق أنفاسي، وها هي خيوط الشمس تداعب إحساسي بوداعة وانشراح وأنا أحلّق مستأنسا" مع الطيور والنسمات، أطارد الرياح وأعبث كالشقي في أروقة السحاب وأهوي خافظا" نحو الحقول أقبّل الزهور وأغني مع حفيف الشجر.. ورحت أطوف مبتهجا" فوق روابٍ ساحرة بقوة خارقة تقمصت أحشائي أخذتني صوب سهول الحواري والقلاع.. نغماتها تطرب الأسماع.. فيها خمر ولهوٍ ومتاع.. تضطجع هناك على أرائك مذهبة، حواري شقر ناعسة، ساحرات الكمال.. مبهرات الجمال.. تناديني إحداهن بهمسٍ ودلال..

وفجأة.. استيقظت بوخزه دبوس من غفوة أحلامي وصوت المؤذن يصيح (حي على الصلاة.. حي على الصلاة) لأجد نفسي محاطا" بثلّة التلاميذ وهم ينظرون نحوي ويضحكون، فقد حسبوني متشردا".. بلا عقل.. مجنون.

***

ماهر نصرت – بغداد

صار يبحث عن موضوعات بها يستأنف معنى وجوده، ألفى نفسه أمام مهارات، بها يبلغ  مبتغاه، تمت مكافأته.. توصل إلى ابتكارات أذهلت من حوله، مسائل كان يتطلب الخوض فيها وقتا طويلًا، ودراسة متأنية، اكتشف مسميات بات فهمها أسهل من قبل.

أضحى الزمن بالنسبة اليه مثل دالة رياضية، تتحرك وفقا لمنظومة هذه العقارب التي تتلى أجزاؤها على شاكلة عناصر ذرية، تمت صياغتها بشكل دقيق، خاصة بعد أن تم تثبيت تجارب أبحاثه الطبية المتعلقة بموضوع الخلية الحيوانية، ليتم تداولها، وتدريسها لطلبة المراحل العليا من الكلية الطبية.

أمست الأفكار بالنسبة إليه مثل أشكال هندسية، تتغير بين الفينة والفينة، تكبر، تنشطر، ثم تلد، لتحط بأوزار أثقالها عند نقطة المنتصف،  ذلك بعد أن تخضع تماما لدائرة العقل.

ترتب عليه أن يواصل  مشوار شقائه الأزلي ، لعله يغترف من آباره كنوز ثروته التي بها يقدر أن يتجاوز حدود هذا القيد الذي يفرض معادلتي الفناء والبقاء.

قرر أن يستعيد صبره، راح يفكر على طريقة فاوست، أخضع نفسه لوثيقة التحدي، افترش جبروت شقائه المعرفي، ومضى لكي ينحت من الوجع أسطورة جديدة.

***

عقيل العبود

.................

* راجع اسطور فاوست، الميثولوجيا الاغريقية.

عائشة الكونتيسة او عيشة القنديشة ، مقاومة مغربية من أصول أندلسية قتل المستعمرون الاسبان زوجها ونكلوا بعائلتها فأبت الا أن تنتقم لهم.

ظلت الروايات المختلفة ترسم صور خاصة عن (عيشة قنديشة) فهي لا تخرج إلا بالليل ولا تنام إلا في الغابات أو بجوار المجاري المتهرئة ويمكن أن تأكل الثمار والاعشاب والحيوانات وحتى البشر، ولذلك أصبحت (عيشة قنديشة) رمزا حقيقيا لكل أنواع الرعب. متوحشة وشعرها المنفوش وقدماها اللتان تشبهان حوافر البغال أو الحمير وعنقها المزين بمنقار الفيل وبذيل أقرب إلى ذيل الكلاب.. هكذا هي قنديشة في العرف وفي الثقافة ،فما رأيكم أن في هذه الصورة الكثير من التجني والمغالاة واللاحقيقية .

التاريخ الحقيقي إما أن تكتب كل حقائقه أو يترك جانبا،أما عدا ذلك فإنه معرضا للاخطاء والاكاذيب والتضليل أحيانا، وهو ماحدث في قصة عيشة قنديشة.

قنديشة بتلك الصورة التي رسمت في تمثلات الثقافة الشعبية خاطئة تماما، إنها السيدة الحرة التي حكمت شفشاون بشمال المغرب، إبنة امير شفشاون علي بن موسى بن راشد ،وشقيقة وزير، وزوجة حاكم تطوان محمد المنظري ثم زوجة السلطان أحمد الوطاسي فيما بعد. كانت تعمل في الصباح في الخياطة والحياكة وتعليم الفتيات القرآن في منزلها وفي الليل تتحول عائشة إلى وحش كاسر تصطاد جنود الاستعمار الاسباني وتنكل بهم أشد تنكيل وكانت ترتدي رداء ابيض وتغطي وجهها برداء أسود حتى ظن الاسبان انها جنية وليست من البشر ن وكانت تتصيد الجنود الاسبان على جوانب الطرقات وفي ظلام الليل الدامس ويقال انها تستعمل كلاب مدربة للفتك بالجنود الاسبان وسحبهم الى الوديان ثم تقوم بتقطيع اوصالهم ليكونوا طعاما لكلابها.

وتضاربت الانباء حول وفاتها ولكن اغلب الاقوال تقول أنها توفيت بمنزلها في تطوان، لكن المؤكد انها تحولت من اسطورة للمقاومة والحهاد الى عيشة القنديشة (الجنية) اسطورة الرعب التي تقتل الرجال ولها سيقان ماعز. وهي قصة ألفها الجنود الاسبان ظنا منهم أنها ليست من البشر وتنقالها المغاربة منهم لتصبح مجرد أسطورة من أساطير قصص الرعب التي تروى في مجالس الكهول .

***

رنا فخري جاسم/ العراق

جامعة بغداد / كلية اللغات

استقيت عنوان المقال هنا من رواية "حمار الحكيم" من تأليف "توفيق الحكيم " عام 1940م.. وهي رواية تمتاز ببساطة أسلوبها وتصويرها لأحداث واقعية بطريقة لا تخلو من الطرافة والمتعة وذلك من خلال ذكره كيف اشترى حماراً صغيراً من أحد الفلاحين لمجرد أنه أعجب بشكله.. مع ذكره المواقف الطريفة التي حدثت معه عندما اشترى هذا الحمار الصغير وإقامته في الفندق وكيف قام بإدخال الحمار إلى غرفته من دون أن يشعر أحد بذلك.. وركز توفيق الحكيم في روايته على ذكر أحوال الريف المصري وما فيه من الفقر وقلة الاهتمام بأمور الصحة والنظافة عند أهل الريف في ذلك الزمان.

وقد بات الحمار في رواية "توفيق الحكيم" مجرد رمزاً للحوار والسرد الروائي لأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، كما هو حال الكثيرين ممن استخدموا الحيوانات في كتاباتهم للولوج في الأحداث الدائرة في مجتمعاتهم بشيء من السخرية الأدبية، كما يفعل ممن يكتبون في أدب الأطفال والمسرحيات مثلاً، حيث يجعلون الحيوانات مادة مرنة يتلاعبون بها كيفما يشاؤون ووقتما يشاؤون لأسباب كثيرة وأهداف متعددة.. فتكون الشخوص من الحيوانات كالأسد والقط والديك والثعلب والأرنب وغيرها.

أما مقالي هنا فيدور حول الحمار المسكين.. وتساؤلاتي عن حال الحمير بين البشر.. فلماذا خلق الله هذا الحيوان بلا حول ولا قوة، بل ونعت صوته بأنكر الأصوات؟  ما ذنب هذا الحيوان المغلوب على أمره حتى يشقى أغلب عمره في خدمة البشر، وتحمّل شقاء حمل الأثقال وجر العربات والدوران في السواقي وتلقي الضرب بالعصي والمهانة؟ لماذا يختلف هذا الحيوان من حيث المكانة عند البشر عن حال الحصان مثلاً، حيث للحصان عند الناس له مكانة عالية ويرمز للفخر والعزة والدلال؟

قد يجادلني البعض، ولن أختلف معهم البتة، بأن الخيول والحمير والبغال والجمال والأبقار كلها مطايا للبشر وتتعرض لمشقة ركوب البشر على ظهورها وتجر العربات المحملة بالأثقال وتفتقر للحرية في العيش كما تعيش باقي الحيوانات في البراري والسهول وتمارس حياتها الطبيعية في أرجاء الطبيعة.. تقتات وتتزاوج وتتصارع فيما بينها حسب قوانين الطبيعة الحيوانية، بل وقد تتعرض بعضها لهجمات الحيوانات الكاسرة كالأسود والذئاب والضباع وغيرها من الحيوانات الآكلة للحوم.

لقد لخص الأستاذ "أحمد شمس الدين" (القبس) قضية حمار فقد صبره ولجأ للانتقام من مالكه العنيف معه بقوله "لقد قتلوك يا حمار واحرقوك وتخلصوا منك".. فقد خرج حمار "موجوع" عن صمته وصبره وجلده وقوة تحمله، ليوجه لصاحبه "عضات" حاول من خلالها استرداد كرامته المسلوبة، وهو يتلقى الاهانات، إما ضرباً مبرحاً وإما دفعاً أو حتى رفساً، وهي صفة "حمورية" بحتة!  ويشرح من وجهة نظره ما يتعلق بالحالة النفسية الصعبة والوضع المهين الذي اوصله اليه صاحبه، حتى أفقده صوابه، وأخذ ثأره بنفسه عندما قام بعضه في وجهه، ربما انتقاماً من "البوكسات" التي تلقاها على وجهه الحموري ورأسه الصلب، وقام بعد ذلك بقطع جزء من لحم فخذ صاحبه واستمر في رفسه بهدف قتله، لولا تدخل العناية الإلهية التي انقذته على يد أهله وأصحابه الذين هبوا لنجدته!

ويضيف "شمس الدين" بأن الحمار الصبور حسبما أفادت الصحف تحول فجأة الى "مسعور" وحتما لهذا السعار "الكلبوي" اسباب يمكن تلخيصها في تلقيه الاهانة العميقة، والاسلوب اللاإنساني أو "اللاحموري" الذي كان يتعرض له يومياً، على يد صاحبه الغليظ القلب، ولو كان الحمار على قيد الحياة حتى لحظة كتابة هذه الأسطر لربما سرد لنا ما مر به طوال فترة خدمته لبني البشر!  ولأن الحمار معروف بالصبر والجَلّد وقوة التحمل، فإنه بات من الاهمية بمكان ان نضيف لصفاته صفة الكرامة، وعدم قبوله بأي نوع من انواع الضرب والمهانة، لا سيما إذا كان الضرب من نوع "الطراقات والبوكسات"!

في حالة حمارنا هذا، يجب ان نقف جميعاً وقفة تأمل انسانية، والنظر بعين العطف لعموم حمير العالم، وأخذ الحيطة والحذر والتفكير العميق مليون مرة قبل الاقدام على اهانتها، لان العابثين بمصائر الحمير ونفسياتها أيا كانت جنسياتهم، سيكون مصيرهم وجزاؤهم العض العميق والرفس والدوس والنهيق، احتجاجاً صارخاً على المعاملة الدونية لأكثر حيوانات العالم ذكاءً واقواها تحملاً، وصبراً وجَلَداً، وخدمةً لبني البشر، منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة.  للصبر حدود يا بني البشر، رسالة قوية يرسلها كل حمار "مظلوم" في أصقاع المعمورة، ولنا في ذلك "الحمار الدرعوي" خير مثال، على نفاد الصبر.. فهل يا ترى نتعظ؟!  أو هل نجتمع كلنا لمناصرة الحمير كما فعلت ممثلة الإغراء الفرنسية "بريجيت باردو" قبل عقود من تبنيها ومناصرتها لحمير العالم؟

ويقول في شأن الحمير الأستاذ "خالد القشطيني" (الشرق الأوسط) بأن الحمار "مركوبٌ ومضروبٌ"، أي "مطلوبٌ ومذمومٌ".  نركبه بسبب كسلنا ونضربه ليسرع بنا.  ولكنه أيضاً "مركوبٌ ومشتومٌ"..  فنحن نصف أي امرئ غبي بأنه حمار.. فالحمير عندنا مذمومة بشكل عام. يصفون أي موظف أو طالب أو حتى طبيب فاشل بأنه حمار..  وهي مسبة لكل عشيرة الحمير.. ننسى فضله علينا.. ولكن للحمير عند الغربيين مكانة خاصة.. فهناك في بريطانيا مثلاً جمعية كبيرة باسم جمعية الرفق بالحمير.. بل وحتى عندنا فقد تم اقامة عدة مستشفيات وملاجئ وجمعيات للحمير في الشرق الأوسط، في مصر والأردن والسودان ولبنان.

الحمار في الحقيقة حيوان ديمقراطي لأنه "مَركَبٌ" للبسطاء والفقراء - في حين أن الحصان حيوان أرستقراطي.. والحمار أيضا حيوان مسالم يؤمن باللاعنف.. فلم نسمع عن فارس يخوض الحرب على ظهر حمار.. وهذا من أسرار حب الأوروبيين له.. فهم يتذكرون بأن "السيد المسيح" عليه السلام عندما ذهب إلى القدس كان راكباً حماراً.. وفي ذلك رمزية عن التواضع والفقر والسلام.. وكثيرا ًما نلاحظ الأجانب يهرعون إلى أي حمار يصادفونه فيمسحون على رقبته ويغازلونه ويشاركونه بما بأيديهم من طعام، آيس كريم أو حلويات أو كعك ونحو ذلك.

أما الحصان مثلاً، رغم علو شأنه بيننا، فهو الآخر في أحيان كثيرة يتعرض للصعاب.. ندخل به الحروب ونمارس على ظهره بعض الرياضات والسباقات.. ويتعرض للجلد والتعنيف.. وكذلك الحال مع البغال والجمال أيضاً، حيث نمارس ضدها الكثير من الممارسات الشاقة ونحرمها من حريتها وممارسة حياتها الطبيعية.. لذا أتجرأ هنا وأتسائل عن عدالة السماء في خلق هذه الحيوانات وتسخيرها لخدمة البشر وعيشها في شقاء وبلاء ومهانة؟

ويمكن بشكل عام القول بأن القرآن الكريم قد بين أن الحيوانات سُخرت لخدمة الإنسان، ولكن في نفس الوقت يفرض على الإنسان المسلم معاملة الحيوانات بلطف ويمنع أي إساءة لها.. الحيوانات، مع سائر المخلوقات، يُعتقد أنها تعبدُ الله بالرغم من أنها لا تعبّر عن ذلك بلغة البشر.. وقضية الرفق بالحيوان هي الأخرى مثار للجدل والنقاش بين الكثيرين، وتتفق معظم الآراء على مبدأ إنساني أخلاقي إسلامي، يقوم على العطف على الحيوانات وتقديم الرعاية لها، وقد حثت التشريعات الإسلامية على الأمور التي تتحقق بها رحمة الحيوان، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) خير أسوة في ذلك، فلخص لنا منهجاً كاملاً في كيفية العناية بهذه الحيوانات بشكل عام.. ربما من أهم الأمور المرتبطة بالرفق بالحيوانات هي كلمة "الرفق"، أي مراعاة مشاعرها كونها كائنات حية لها حقوقها وعلينا واجبات تجاهها.. فيتوجب علينا إطعامها وتقديم النفع لها واستخدامها بالمعروف.. وقد توعد سبحانه وتعالى أشد الوعيد كل من ملك حيواناً وفرط فيه دون إطعام أو شراب.. وقد تم تحريم اتخاذها هدفا لأي شكل من المبالغة في تحمليها فوق طاقتها لما لذلك من آثار سلبية على نفسية الحيوان، ولان هذا يدخل ضمن ممارسة العنف ضدها وذلك حرام شرعاً.

بل ويتوجب علينا الإحسان إلى كل الحيوانات حتى عند الذبح من أجل الطعام، وذلك بذكر اسم الله عند ذبحها واحترام حقها في موت رحيم دون ألم أو تعذيب.. ويتوجب علينا من الناحية الأخلاقية والدينية إنقاذها إن كانت في محنة أو مأزق، كمن سقط من الحيوانات في بئر أو حفرة أو غرق أو تعرضها للإصابة البدنية.. بهذه التعليمات السامية، التي تدعو إلى احترام حقوق الحيوانات في الحياة باطمئنان، يقدم ديننا الحنيف أروع مثال في الرفق بالحيوان والحرص على حقوقه، فحث الإنسان على أن يكون رفيقاً به، لما يترتب على ذلك من أجر وثواب.. وربما نتذكر قصة تلك المرأة مع الهرة كمثال على حث المسلم على عدم التسبب في أذية الحيوانات.

فما بال من تعارفوا على رياضات كمصارعة الثيران والديوك والكلاب والجِمال، وتؤدي بعضها للموت أو الإصابات والتعذيب والمهانة؟   وكذلك الأمر مع سباقات الخيل والجمال وغيرها.. وماذا نقول في شأن من يقتلون الحيوانات والطيور باسم رياضة الصيد؟   وكيف نتقبل تحميل بعض الحيوانات مثل الحمير والبغال والجِمال أحمالاً فوق طاقتها الطبيعية؟   وأميل هنا أيضاً لمساءلة من يقتنون الطيور في أقفاص، أو يربون (أو يحكِرون) الحيوانات "الأليفة" في المنازل، حيث تعيش تلك في بيئات غير طبيعية، بالرغم من تلقيها المأكل والمشرب والرعاية.. لكنها في نهاية المطاف تكون محرومة من ممارسة الحق في حريتها بغير حق!!   بل والأقسى يكون عندما تتخذ بعض العائلات من عملية اقتناء القطط والكلاب الصغيرة من أجل أهواء وقتية قصيرة المدى ثم يتخلصون منها برميها في الطرقات والبراري وهي لم تتعود قط على تلك الحياة فتكون ضحية للحيوانات الأخرى والجوع والعطش وتقع فريسة للأمراض، بل وبعبث بعض الأطفال الجهلاء ممن يجدون متعة "سادية" منحرفة في سوء معاملتها وتعذيبها، بل وقتلها بلا رحمة!!

***

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني 

مُلا عثمان الموصلي: لماذا يبقى مجهولاً صاحب لحن "زوروني بالسنة مرة"؟

ملا عثمان الموصلي: لماذا يبقى مجهولاً صاحب لحن "زوروني بالسنة مرة"، و"فوق النخل" و"طلعت يا محلى نورها" و"يا أم العيون السود" وكاتب كلمات "قدك المياس يا عمري"؟! مزعج هذا القفز والتعتيم على العراق اسماً وحضارة ومبدعين الذي يمارسه أغلب الإعلاميين والمثقفين العرب في الإعلام المعاصر؛ فقبل أيام كنت أشاهد برنامجاً وثائقيا لطيفا على إحدى القنوات الفضائية العربية حول نجوم الغناء والتمثيل القدماء والأماكن والأغاني التي ترتبط بحكايات وذكريات جديرة بأن تروى. وكانت الحلقة التي شاهدتها حول المطرب المصري القديم والشهير الشيخ سيد درويش. ومن ضمن الأسماء التي ارتبطت بعلاقة قصيرة بالشيخ درويش ورد ذكر الشيخ مُلا عثمان الموصلي. الغريب أن المتحدث فعل المستحيل، ولف ودار، ودار ولفَّ حتى لا يذكر جنسية الموصلي العراقية وجلَّ ما قاله إنه قدم من حلب إلى مصر والتقى بالسيد درويش، ولم يذكر أين ولد ومن أين سافر. والصحيح، أن الشيخ سيد هو الذي سافر الى حلب والتقى فيها بالملا العراقي كما سيأتي بيانه بعد قليل.

* هنا تعريف سريع بالمُلا عثمان الموصلي استقيت أغلب معلوماته من مقالة للسيدة الباحثة الموسيقية فاطمة الظاهر حول سيرة المُلا عثمان: هو عثمان بن الحاج عبد الله بن عمر الموصلي ولد عام 1854م في محلة باب العراق في مدينة الموصل وقيل في غيرها في عائلة فقيرة يعيلها والده السقاء والذي ورث المهنة عن أجداده.

توفي والده وهو في السابعة من عمره، وما لبث أن فقد عثمان بصره متأثراً بمرض الجدري، وضمه جاره محمود العمري إلى أولاده لرعايته وعين لهُ معلماً حفّظه القرآن، وقد أعجب العمري بصوت عثمان فخصص لهُ معلماً يعلمه الموسيقى والألحان فنبغ فيها وحفظ الأشعار والقصائد، وشرع عثمان في تعلم علوم اللغة العربية. وكان صوفيا على الطريقة القادرية.

سافر الملا إلى إسطنبول حيث تلقاه أحمد عزة باشا العمري، وعّرفه على مشاهير الناس وعلمائهم، ولكي يوسع معارفه سافر الملا الضرير إلى مصر. وأصدر وهو في مصر مجلة سماها "المعارف" ولكنها لم تستمر طويلا. عاد من مصر إلى الموصل، وكان قد درس في بغداد على يد الشيخ محمود شكري الآلوسي. سافر الملا عثمان إلى اسطنبول أكثر من مرة، أقام في إسطنبول في زيارته الأولى بين عامي 1887 و1895، نال بسبب فخامة صوته وحسن تلاوته حظوة السلطان عبد الحميد، الذي عيّنه شيخ قراء جامع آيا صوفيا.

وفي مقهى (قراءة خانة) بإسطنبول أحيا الملّا عثمان الأماسي الرمضانيّة مع نخبة موسيقيّي المدينة مثل عازف الكمان ممدوح، وعازف القانون شمسي باي، والمغني قراقاش أفندي، وظلّ المقهى العثمانيّ الشهير حتى الحرب العالميّة الأولى، مساحة ثقافيّةً تردّد عليها شعراء ومسرحيون وموسيقيون من وزن الطنبوري جميل باي، والعوّاد نورس، ورؤوف يقطا، وعازف الكمان الأرمنيّ تاتيوسس أفندي إسكرجيان واليوناني فاسيلاكي، وغيرهم من موسيقيي الأقليّات التي كانت تمسك بمقاليد صناعة الترفيه الموسيقيّ في إسطنبول.

أستمع إليه الناس في جامع آيا صوفيا وأعجبوا به وأصبح مقصداً للمجتمع الأدبي والفني. وأهم الشخصيات التي تعرف بها في إسطنبول محمد أبو الهدى الصيادي وأخذ عنه الطريقة الصوفية الرفاعية.

ذاع صيته خارج العراق وخصوصا في تركيا ومصر وبلاد الشام. زار الشام ونال اعجاب المغنين والفنانين، ثم زار بيروت وسافر منها الى مصر فألتف حوله مشاهير الطرب والغناء أمثال عبدة الحمولي ومحمد عثمان، وقد استمع منهم الى الأدوار ثم أسمعهم غناء الادوار المصري، فأعجبوا بأدائه، كان عثمان الموصلي موضع حفاوةٍ وإجلال وإكرام في كل بلد يحل بها. التقى عند ذهابه إلى مصر عام 1895 بالموسيقار عبده الحمولي وغيره من رجال الموسيقى والفن ودرسوا عليه فنون الموشحات. والتقى عام 1909 بسيد درويش في الشام، حيث تعلم سيد درويش منه الموشحات وفنون الموسيقى، وقام بتخميس لامية البوصيري (التخميس هو أن يأخذ الشاعر بيتاً لسواه، فيجعل صدره بعد ثلاثة أشطر ملائمة له في الوزن والقافية، أي يجعله عجز بيت ثانٍ، ثُمَّ يأتي بعجز ذلك البيت بعد البيتين فيحصل على خمسة أشطر).

كان الموصلي شاعراً باللغة العربية والفارسية والتركية، وكانت أكثر أشعار المواليد النبوية وتلحينها في العراق من نظمه وتلحينه. وكان يجيد الضرب على الدف عالِماً بالإيقاع والأوزان، ملحناً من أحسن الملحنين، وقد ألف كتباً عديدة. لديه عدد كبير من الموشحات والأغاني والتي معظمها موشحات وابتهالات دينية، حولت فيما بعد الى موشحات وأغنيات عاطفية يتغنى بها مشاهير الغناء العربي وأهمل صاحبها جهلاً أو عمدا، وأشهرها:

* "زوروني كل سنة مرة"، انتشرت هذه الأغنية بسرعة. وأصل هذه الأغنية موشح "زر قبر الحبيب مرة". والتي اقتبس لحنها سيد درويش هي وأغنية "طلعت يا محلى نورها" التي كانت موشحًا للموصلي بعنوان "بهوى المختار المهدي".

* «أسمر أبو شامة» وأصلها «أحمد أتانا بحسنٍ وسبانا».

* «فوق النخل فوق» التي هي بالأصل ابتهال "فوق العرش فوق".

* "ربيتك زغيرون حسن" التي كانت في الأصل «يا صفوة الرحمن سكن».

* أما أغنية «يا أم العيون السود» فقد اشتهرت بصوت ناظم الغزالي وانتشرت في معظم أنحاء العالم العربي، فهي من ألحان الموصلي أيضا.

ومن الأشعار المغناة التي أبدعها الملا عثمان الموصلي نذكر:

قدُكَ المياس يا عمري

يا غصين البان كاليسرِ

أنت أحلى الناس في نظري

جلَّ من سواك يا قمري

قدك المياس مُذ مالَ

لحظُكَ الفتان قتالا

أنا وحبيبي في جنينة

والورد مخيم علينا

عيونك سود يا محلاهم

قلبي تلوع بهواهم

صار لي سنتين بستناهم

حيرت العالم في أمري.

***

علاء اللامي

...................

* هذه كلمات أغاني أيام زمان قبل أن ننتقل إلى أغاني الردح والرثاثة من نوع "تعال أشبعك حب أشبعك دلال.. أريد اگلك آني قافل عليك"!

* الصورة لتمثال الملا عثمان الموصلي في الموصل وقد دمرته عصابات داعش الإجرامية حين سيطرت على المدينة سنة 2014.

تجاورت مثل نجوم في السماء أفراح رمضان وعيد القيامة المجيد وشم النسيم وعيد الفطر توحد المصريين في تحالف وجداني وقومي تزينه خمسة أيام إجازة، يمكنكم أن تسترخوا فيها وتكسلوا قدر ما تريدون، فليس كل الكسل عيبا،  بل إن بعضا من عظماء الأدباء امتدحوا الجوانب الممتعة والمفيدة من هذه الحال. وقد اعتبر الكاتب المصري الفرنسي ألبير قصير أن الإنسان الكسول وحده يملك الوقت للتأمل والتفكير! وعندما سألوه:" لماذا تكتب؟"، أجابهم:" حتى لا يستطيع أن يعمل في الغد من يقرأ لي اليوم"! أي أنه يكتب تشجيعا للكسل! ولكى نرفع عن الكسالى أي حرج أقول إن كولومبيا شرعت في الاحتفال بيوم الكسل منذ عام 1985، وتعود فكرة الاحتفال إلى " كارلوس مونتويا" أحد سكان مدينة " ايتاجوى" الذي بدأ موضحا: " علينا أن نحتفل بالاستمتاع بالحياة وليس فقط بضجيح الأعمال التجارية والصناعية". وفي ذلك اليوم يخترق الآف الكولمبيون الشوارع رافعين المراتب والأسرة والأغطية رمزا للكسل الجميل، ويقيمون المسابقات لأفضل بيجاما، وأجمل غطاء نوم! أما أمريكا فقد بدأت الاحتفال بيوم الكسل العالمي منذ عشر سنوات. استرخوا وإكسلوا إذن. وقد امتدح الاستمتاع بالحياة أدباء عظام منهم الكاتب الألماني هيرمان هيسة في كتابه " فن الكسل" مشيرا إلى أن الكسل: " فن قديم دمرته مكنة التفكير الحديثة الخالية من الروح علاوة على النظام التعليمي الذي سلب الفرد حريته الفكرية وشخصيته المستقلة"، ثم يوضح فكرته قائلا: " لطالما كان الفنانون بحاجة إلى شيء من الكسل، ويرجع ذلك إلى حاجتهم لفهم وهضم التجارب التي تمر بهم، ومنح الفرصة للأفكار التي تخرج من اللاوعي حتى تنضج". هناك أيضا فيلسوف عالمي معروف هو برتراند راسل الذي كتب كتابا بعنوان " في مديح الكسل"، صدر عام 1935، ذهب فيه إلى أن الحضارة الانسانية انتعشت في ما مضى بفضل الكسل الذي وفره كدح العبيد للسادة والنبلاء بحيث تفرغ السادة للفنون والعلوم، ويستشهد راسل بقصة مسافر في إيطاليا وقع بصره على اثني عشر شحاذا استلقوا في الشارع، فعرض عليهم أن يقدم ليرة لأكثرهم كسلا، فهب الجميع وقوفا فقام المسافر بمنح الليرة للرجل الثاني عشر الذي بقى مستلقيا وتكاسل عن النهوض! وعن الكسل تقول أجاثا كريستي الكاتبة الأكثر رواجا في العالم: "الاختراع ينبع في تقديري من الفراغ، وربما من الكسل أيضا، بهدف أن يوفر المرء على نفسه الجهد الشاق". ويقول الكاتب الانجليزي جيروم. ك. جيروم صاحب رواية " ثلاثة في قارب": " إنني أحب الكسل فقط عندما لا يصح أن أكون كسولا.. حينذاك أحبه" ! وسنجد في تراث معظم الشعوب المثل القائل: " الكسل أحلى مذاقا من العسل"، ومع ذلك كله فلا ينبغي أن يفهم من الحديث أنه دعوة للتكاسل، لكنه دعوة للاستمتاع بالحياة، فكما يتعين علينا أن نستمتع بالعمل حتى الشاق منه، فإن علينا أن نتقن فن الراحة، والاسترخاء، لكي نواصل العمل، سواء أكان عملا أدبيا، أو اعتياديا، أو متعبا، لأن العمل يظل أساس التقدم الانساني كله، وبفضله تقدمت البشرية وسيطرت على الطبيعة وغارت في النفس الانسانية، ووصلت إلى القمر. استرخوا إذن وإكسلوا أيام أعيادنا الجميلة، لكي تتأهبوا لمزيد من الإبداع، والانتاج، والثمار، والتقدم.   

***

د. أحمد الخميسي

قاص وكاتب صحفي مصري

انقسمت الصين في العهود الغابرة، قبل الميلاد الى ثلاث دويلات شو، وُي و وُو عُرفت في التاريخ باسم فترة الممالك الثلاث، إذ تحولت الصين الى ساحة حرب ودم ونيران وفوضى،وتقاسم جبالها الوعرة وسهولها الواسعة أمراء تلك الدويلات..

استثمرت تلك الأحداث المأساوية والحروب الدامية فنياً وأدبياً من طَرف أديب اسمه لو غوانغ تشونغ، عاش في القرن الخامس عشر ميلادي، فأبدع رواية الممالك الثلاث، الرائعة والمليئة بالعديد من الشخصيات العسكرية والسياسية والأنثوية، ومن بينها كانت شخصية كونغ مينغ الذّي يعتبرُ في الصين نموذّجاً للذكاء وعبقرية التخطيط..

و كونغ مينغ كان شخصية تاريخية حقيقية عاشت في تلك الحقبة، اسمه الحقيقي تشو قه ليانغ، أصله من مقاطعة شاندونغ بشمال الصين..

كان يعيش في الريف يَقضي مُعظم وقته في القراءة، إذ كان مُطلعاً على معارف العصر من تاريخ وجغرافية وفن الحرب والقتال. وكان يُؤلمه كثيراً الثمن الباهظ الذّي يدفعهُ الناس بسبب الحروب والصراعات الدموية في البلاط بين الوزراء والمستشارين أو في ساحات القتال بين الجنود والقادة العسكريين ذوي الميول الاستقلالية..

اختار الوُقوف بجانب ليو بيه أمير دولة شو ووضع جميع قدراته الفكرية وكفاءته التخطيطية في خدمته فاستطاع أن يُحقق انتصارات باهرة على قوات جرارة يقودها عدوه اللدود تساو تساو، مؤسس اسرة وُي...

كما اقترح عليه التحالف مع دولة وُو في الجنوب التي يحكمها سون تشوان، وتم ذلك التحالف الذّي حقق بفضله انتصارا مدوياً في معركة الجرف الأحمر على ضفاف نهر اليانغتسي..

وخطته الذكية في تصنيع مئات الأسهم في ثلاث أيام أبهرت ولا تزال تُبهر من يقرأها وتُؤكد عبقريته إذ استفاد من الضباب الكثيف فأمر السفن من مملكة وُو أن تقترب أكثر من معسكر العدو تساو تساو، وكانت سفنه الحربية صغيرة تحمل جنوداً من القش فاعتقد جنود وُي أن العدو يهاجمهم بسبب عدم وُضوح الرؤية فبدأ يمطرهم بالنبال التي كانت تصيب الرجال المصنوعين من القش..

ورجل عبقري ومُخطط عسكري بارع مثل هذا الأكيد أن الأمراء والقادة لا يُفرطون فيه لذلك أوصى له ليو بيه بالعرش وهو يحتضر لكنه رفض بشدّة وفضل أن يستمر في خدمة ابنه الأمير ليو تشان، واستمر في تهدئة الأوضاع في البلاد ، وقام بتسوية النزاعات الداخلية في مملكة شو مرات بالحسم العسكري ومرات أخرى بالتكتيك السياسي الماهر كما قام بإصلاحات اقتصادية وتنظيم الجيش، بل إنه قاد الحملات العسكرية بنفسه مرات عديدة للقضاء على وُي وتوحيد البلاد لكنه فشل.

وقد مات في معسكرات الجنود وهو يحاول توحيد البلاد تحت راية أسرة واحدة قوّية.

***

بقلم: عبد القادر رالة 

تعتبر السياحة العرقية واحدة من أهم وأبرز أشكال السياحة الثقافية المستدامة في الفلبين والكثير من الدول في جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وكمبوديا واندونيسيا وفيتنام ولاوس وتايلند وبروناي وميانمار، إلى جانب أشكال وأنواع كثيرة، مرتبطة بالمواقع الاثرية والمنتجات الحرفية اليدوية (الحرف الخشبية في باجيو، القيثارات المصنوعة يدويا في سيبو) والأسواق العتيقة والمعارض والمتاحف والقرى العرقية (قرية باتايو العرقية، قرية بانايو العرقية وغابة الصنوبر) والدروب الاثرية المحلية وغيرها.

وقد وجدت وتطورت هذه السياحة في الفلبين (أي السياحة العرقية) في ظل الاهتمامات الواضحة للسلطات السياحية والثقافية والبيئية بهذا الشكل السياحي الحيوي من خلال الاستثمار الأمثل للموارد الثقافية المرتبطة بالأقليات العرقية في البلاد، وخصوصا المتميزة منها. وهي كثيرة ومتنوعة، باعتبارها مغريات سياحية عالية التأثير وجاذبة للسياح والزوار من مختلف بلدان العالم، ومحققة للتدفقات السياحية إلى مناطق استيطانهم، وإلى أماكن إقامة المهرجانات والفعاليات الثقافية – العرقية، مثل مهرجان (كامولان) في (مالاي بالاي)، ومهرجان (كاليمودان) في (ايسولان)، ومهرجان (كاليلانكان) في (سانتوس)، وغيرها (موريونيس، أنيبينا بولاوان، الفوانيس العملاقة). ووفقا لأسس الاستدامة المعروفة، الداعية إلى تنمية وتطوير تلك الموارد، واستخدامها بعقلانية، والحيلولة دون استنزافها، والاشتراك الواسع والحقيقي والدائم للأسر والأشخاص الذين ينتمون إلى تلك المجموعات العرقية في النشاطات السياحية المختلفة، على نحو دائمي أو مؤقت، وبما يرفع من مستواهم الاقتصادي والمعيشي، ودون المساس بمنظومة القيم والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية الخاصة بها على قدر الإمكان. وهذا جانب مهم جدا، ويتم التركيز عليه دائما باعتباره أحد أهم أركان السياحة الثقافية المستدامة التي باتت تظهر وتنتشر في كثير من الدول في العالم في ظل تنامي الوعي لدى العموم ولدى السياح على وجه الخصوص.

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

للمزيد من الاطلاع، ينظر (ببليوغرافيا السياحة العرقية) للباحث. مطبعة بيشوا. أربيل – العراق 2014.

لا يمكن الحكم على مصير الإنسانية بصورة قاطعة، فالتطور التكنولوجي والسوسيوثقافي قد يؤدي إلى تجويد حياة الإنسان وتقدمه في العديد من المجالات، ولكنه في المقابل يمكن أن يتسبب في تحديات وتهديدات جديدة.

على سبيل المثال، يمكن أن يتسبب التطور التكنولوجي في زيادة العزلة والانفصال والتباعد بين الناس، مما قد يؤدي إلى انخفاض مستويات التفاعل الاجتماعي والعاطفي. كما يمكن أن يؤدي التطور التكنولوجي إلى تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.

من جهة أخرى، يمكن أن يتسبب التقدم التكنولوجي في ابتعاد الإنسان عن طبيعته، وتعزيز الهيمنة الإلكترونية والتحكم الآلي على سلوكاته ، وهذا يعني أن البشر يمكن أن يفقدوا القدرة على السيطرة على التكنولوجيا التي اخترعوها.

فضلا عن ذلك، يمكن أن يتسبب التقدم التكنولوجي في تفاقم التهديدات الأمنية والصحية، مثل الهجمات السيبرانية، مما يزيد من حدة التوتر والانقسامات العالمية.

ومن أجل الحفاظ على إنسانية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي يجب اتخاذ التدابير الاستعجالية حيث يجب أن تكون الأخلاق والقيم الإنسانية في مقدمة التفكير عند تصميم وتطوير التقنيات الذكية، وضمان أن تكون تلك التقنيات تدعم الإنسانية وتحميها. كما يجب تشجيع التفاعل الاجتماعي بين الناس والتنوع الثقافي ، والحفاظ على التواصل الإنساني، وتجنب الاعتماد الكلي والأعمى على التكنولوجيا وأن تكون هناك شفافية في استخدام التقنيات الذكية وتقديم المعلومات المتعلقة بها، وضمان المساءلة للأطراف المعنية عند وقوع أي أخطاء وحماية خصوصية البيانات الشخصية للأفراد وضمان عدم استخدامها بطريقة غير مشروعة أو غير أخلاقية.

إن التعاون والشراكة يشكلان جزء مهما من الجهود المطلوبة للحفاظ على إنسانية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي. ويمكن أن يتم التعاون والشراكة على المستويات العديدة حيث يجب أن يكون هناك تعاون وشراكة بين الحكومات والشركات التقنية لتحديد الأهداف الإنسانية المشتركة وضمان استخدام التكنولوجيا بطريقة تحمي حقوق الإنسان. أيضا يمكن للمؤسسات التعليمية والصناعية التعاون لتوجيه المهارات والتدريب اللازمين لتطوير وتحسين تقنيات الذكاء الاصطناعي وضمان استخدامها بشكل صحيح.

على المستوى الدولي يجب أن يتم التعاون لتحديد الأهداف الإنسانية وتطوير السياسات والتشريعات التي تحمي الإنسانية وتضمن استخدام التكنولوجيا بطريقة أخلاقية ومسؤولة.

أما على مستوى جمعيات ومنظمات المجتمع المدني يمكن التعاون معها لرصد استخدام التكنولوجيا والمساءلة عند وقوع أي انتهاكات.

بشكل عام، يجب أن يكون التعاون والشراكة حاضرين في كل مجال يتعلق بالذكاء الاصطناعي، لضمان استخدام التكنولوجيا بطريقة أخلاقية ومسؤولة، وحماية حقوق الإنسان، والحد من الانحرافات الناتجة عن استخدام التكنولوجيا بشكل خاطئ. كما يمكن للتعاون والشراكة أن يساعد في تحقيق الفوائد الاجتماعية والاقتصادية للتكنولوجيا، مثل تحسين الخدمات الصحية والتعليمية وتعزيز الاستدامة البيئية. لذلك، يجب أن يعتمد الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للذكاء الاصطناعي على التعاون والشراكة بين جميع الأطراف المعنية.

***

عبده حقي 

وهو في عقده التاسع رأيناه في أوج عنفوانه وبهاء ألقه يُلقي بيننا درسا بمناسبة تكريمه في كلية الآداب بتونس سنة 2014

هو أستاذنا توفيق بكار أحد مؤسسي الجامعة التونسية وأحد أعمدتها الراسخة والشامخة بفضل سعة علمه وعمق اِطلاعه وطرافة اِستنباطاته وتواصل عطائه تدريسا وتأطيرا وتأليفا ومساهمة متميزة في الأنشطة الثقافية على مدى نصف قرن بل يزيد بسنين عددا

ذلك هو توفيق بكار كما عرفتُه منذ أربعين سنة في وقار وهدوء ولطف أستمع إليه بشغف فإذا صوته ينساب بالعربية اِنسيابا والحروف تنثال في نبراته اِنثيالا وهو يشرح في إمتاع وإبداع باب الحمامة المطوقة من كليلة ودمنة هذا التأليف العابر للحدود وللعصور وقد توقّف ـ سي توفيق ـ عند بعض العبارات الواردة في النص مثل عبارة ـ إخوان الصفاء ـ فرأى أن الإخوان غير الإخوة لأن الإخوة تربط بينهم القربى التي على أساسها النّسب بينما الإخوان تربط بينهم القرابة التي أساسها الانسجام والتعاون والتضامن أمّا كلمة الصفاء فقد رجع أستاذنا بمعانيها إلى الاِشتقاق اليوناني فاِنتقل بنا من لغة إلى إلى لغة ومن الجغرافيا إلى التاريخ ومن خصائص الحيوان إلى طبائع الإنسان فراح يُفضي بنا من فن إلى فن ومن علم إلى علم حتّى وصل بنا إلى الاستنتاج المتمثل في أنّ الحيوانات المتنوعة التي تعاونت وتضامنت وتصافت من أجل خلاصها في نص الحمامة المطوقة يمكن أن تكون عبرة للناس أجمعين كي يتجاوزوا خلافاتهم واِختلافاتهم ليعيشوا في أمن ووئام وينتصروا على العدوّ المتربص بهم

ذلك هو الدّرس الذي اِستنبطه أستاذنا توفيق بكار من شرحه الموجز لنص اِبن المقفع ـ الحمامة المطوَّقة ـ

هو درس بليغ وثمين كأني بأستاذ الأجيال أراده بهذه المناسبة ,وفي هذا الظرف بالذات, أن يكون وصية للتونسيين لعلهم يتجاوزون خلافاتهم مهما تعدّدت وتنوّعت من أجل تحقيق التضامن والتعاون والأمن بل إنه رأي واضح وبليغ للأستاذ توفيق بكار في خضم الوضع العالمي الراهن القائم على الصراعات الدامية بحيث يرى أنه لا خلاص للإنسانية إلا في البحث عن المنافع المشتركة لدفع خطر الدمار الشامل الذي يهدد الكون فما على الإنسانية جمعاء أفرادا وجماعات وشعوبا وقبائل وأمما إلا أن تسلك سبُل الإخاء والتعاون للعيش في سلام وصفاء مَثَلُها مَثَل الحمامة وغيرها من الحيوانات في هذا الباب من الكتاب

فتحية تقدير وإكبار ووفاء لأستاذنا الكبير توفيق بكار

ـ أوصيكم خيرا باللغة العربية ـ هي آخر ما سمعنا من أستاذنا

***

سُوف عبيد

في المثقف اليوم