أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

استدعاني نبأ رحيل الكاتب التشيكي الموطن الفرنسي الجنسية والهوى ميلان كونديرا (1929 – 2023)، للعودة إلى أيام خلت التقيت خلال أحدها بالكاتب الصديق الراحل سلمان ناطور (1949-2016) ابن دالية الكرمل طابت ذكراه. جرى ذلك اللقاء في أيام سلمان الأخيرة في الحياة، وذلك خلال لقاء عابر لنا في بلدتي الحبيبة الغالية الناصرة. وكان أننا تحدّثنا في أمور حياتنا الثقافية والسياسية، وكالعادة انتقلنا ليتمحور حديثُنا في مسالة القراءة وأهميتها في تطوير الرؤية وبناء المنظور الثاقب للواقع المر. وأذكر أن مُحدّثي توقّف مطولًا عند قراءاته مشيرًا إلى أنه صبّ جُلّ اهتمامه في الفترة الأخيرة- حينها-، في قراءة كلّ ما وقعت يده عليه من الاعمال الأدبية، خاصة الروائية لكونديرا. بل إنني أتذكر أنه يومها كان يبحث عن المزيد من تلك الاعمال.. وأنه كان في طريقه إلى مكتبة كبيرة في بلدتي علّه يجد ما قرأ او سمع عنه من تلك الاعمال ولم تصل إليه يده. لم تطل وقفتنا تلك لهذا لم تُتح لي الفرصة أن أساله عمّا دفعه كلّ ذلك الدفع وأثاره كلّ تلك الاثارة كي يقرأ كونديرا، أو يتفرّغ لقراءته كلّ ذلك التفرغ. وما زلت أذكر أنه لوّح لي بيده خلال توجهه إلى المكتبة قائلًا إنه يبحث عن رواية كوندير حول خفة الكائن التي لا تحتمل، أو عن رواية الهوية.

اليوم وقد رحل كونديرا عن عالمنا بعد عمر مديد ( 94 عامًا)، في معاناة هذه الحياة وآلامها التي لا تطاق، أتذكر ذلك اللقاء الدافئ، وأحاول أن أحفر باحثًا عن السبب الذي جعل سلمان يتعلّق كل ذاك التعلق بكاتب، ثائر ومتمرد، رفض التضييقات السياسية عليه في بلاده، فتركها مغادرًا إياها إلى فرنسا ليقيم فيها وليكتب هناك عمّا شاهده وعاناه من تلك التضييقات الفظيعة في بلاده. فما الذي دفع سلمان إلى تلك القراءة المحمومة لكونديرا؟.. هل هو التشابه بينهما.. هل كان سلمان يشعر بمثل ما شعر به كونديرا؟ بل هل كان هو الكاتب الذي عانى من حكم الآخر على بلاده بالقوة، أم هل كان السبب هو نزعة إنسانية فنية ساخرة قربت بين الاثنين لا سيّما وأن كتابتاهما مع المحافظة على الاختلاف الطبيعي بينهما، قرّبت وجمعت بينهما؟.. سواء كان هذا السبب أو ذاك هو ما جمع بين هذين الكاتبين، كاتبًا وكاتبًا أولًا وكاتبًا وقارئًا ثانيًا، أو العكس، فإنني اعتقد أن الامر يحتاج إلى شيء من التفكير، المعاينة والنظر. بإمكان الناظر المتمعّن في هكذا وضع أن يسجّل العديد مما يجمع بين هذين الكاتبين، خاصة وأنه اطلع على العديد مما انتجاه، وأنه بإمكانه أن يسجّل عددًا من الملاحظات التي تؤكد القرابة الروحية بين كاتبين مختلفي المشرب والموقع وتغلب عليهما الرؤية الذاتية للواقع إضافة الى الرؤية الفنية الواعية. فيما يلي أحاول أن أمركز ما أراه بهذا الخصوص في عدد مُركّز ومكثف من النقاط.

* السياسة: لقد اتفق سلمان في رأيه ورؤيته وربّما في توجهه العام مع كونديرا، وقد اتفق معه على ما يبدو في نقطة أخرى أكثر أهمية واشدّ الحاحًا، هي أن الحرية مطلب انساني قبل ان يكون سياسيا، بهذا المعنى أرى أن الكاتب المثقّف لدى سلمان تغلّب هنا على الشخص الإنساني المفرد تاركا مساحة واسعة لذاته الجمعية.

* الفن والفلسفة: كان سلمان طوال عمر صداقتنا التي تواصلت منذ السبعينيات حتى أواخر أيامه، كاتبًا طامحًا للارتقاء الفني الإبداعي، وأذكر في هذا السياق، أنه كان ميّالًا إلى التفكير الفلسفي العميق، بل انه كتب عددًا من المقالات والخواطر، خاصة في بداياته الاولى، بل أذكر أنه كان اقترح علىّ أن نتبادل الرسائل العلنية- المنشورة-، في ذلك المجال، قائلًا لي إنه يشعر بقرابة روحية عميقة في الميول الفلسفية فيما بيننا. هذا الميل الفني الفلسفي تجلّى على أفضل ما يكون في كتاباته القصصية خاصة، وأشير منها إلى كتابه "وما نسينا"، ففي هذا الكتاب حاول أن يسجّل قصصًا واقعية استمع إليها من أفواه اخوان مهجرين له، غير أنه صاغها بأسلوب فنيّ راق حافظ عبره على ما تتطلّبه الاعمال الابداعية الجادة من براعة في الأداء وبساطة في التوجّه. فيما يتعلّق بكونديرا من هذه الناحية، صحيح ان شهرته قامت كما رأى الكثيرون ممن كتبوا عنه على مواقفه السياسية، غير اننا لا يمكن إلا أن نرى إلى محاولاته الإبداعية الفنية الدائبة لتقديمه ذاته المبدعة عبر رؤى خاصة ذات رائحة نكهة ولون، وهو ما جعله متفرّدًا في كتاباته سواء كانت مباشرة، من مقالات وما إليها من هواجس وخواطر، أو روائية إبداعية حظيت باهتمام القراء عبر أكثر من أربعين لغة ترجمت اليها، في انحاء مختلفة من عالمنا.

* السخرية: جمع بين كاتبينا، كاتبًا وقارئًا أيضًا، سخرية شديدة الوقع، ميّزت كلًا منهما بطريقتها الخاصة، فقد عُرف عن سلمان أنه كاتب ساخر من طراز خاص، وبإمكان مَن يقرأ كتابه "خمّارة البلد"، ان يتأكد من هذه الصفة، بل يمكنني القول إن السخرية كانت واحدة من المميّزات البارزة للكتابة الأدبية والسياسية أيضًا لدى سلمان، أما فيما يتعلّق بكونديرا، صاحب الضحك والنسيان، فإن الامر/ السخرية، يظهر طاغيًا على العمق البعيد في كتاباته المختلفة، وبإمكان مَن يقرأ عمليه اللافتين "الحياة هي في مكان آخر" و "غراميات مرحة"، أن يتأكد من هذه الخلة الجامعة بعرى وثقى بين كاتبينا، زاد في اعجاب سلمان بميلان أن الاثنين كانا يغترفان من سيرتيهما الذاتية في جُلّ ما انتجاه وابدعاه، اذا لم يكن فيه كلّه، وانهما جعلا من السخرية، كلّ بطريقة، أسلوبًا لمواجهة واقع مر قاس لا يترك فضاءً كافيًا لشيء من الامل. أما ما جمع بين هذين الكاتبين وجعل سلمان يُقبل كلّ ذلك الاقبال على قراءة ميلان، فاعتقد أنه يعود إلى ميل سحيق في الرؤية السياسية خاصة للواقع، وإلى فهم عميق للإبداع الادبي في مجتمعات محاصرة.

***

ناجي ظاهر

المخزن: المخزن مفهوم متغير وثابت، وفي البحث عن محدداته نسقط في عدة إشكالات معرفية، وفي سياقات متنافرة. فبنية المخزن التاريخية، قد أحدثت ثنائية الجغرافية (بلاد المخزن) و(بلاد السيبة). وتمثل دولة المخزن البيعة القانونية والدينية على (السمع والطاعة، والقيام بالأمور الدنيوية، والغزوات، وإصدار وتطبيق سائر الأحكام الدينية والدنيوية...).

 قوة المولى إسماعيل كانت في تثبيت ركائز حكم الدولة العلوية باعتباره المؤسس الثاني بعد النشأة. ومن بين الهفوات (بالقلة) التي سقط فيها المولى إسماعيل، حين وزع إمارات الدولة ومسؤولياتها على أولاده على اعتبارهم السلالة (الثابتة)، وأبعد المسؤوليات الكبرى (حكم الولايات) عن نخب المخزن والحاشية باعتبارهم من الفئة (المتحولة). وفي هذا لم يستفد السلطان المولى إسماعيل من نفس الأخطاء ذاتها التي سقط فيها سلفه الأسبق أحمد المنصور حين تمرد عليه الأمراء أبناء جلدته.

نخب المخزن وحاشيته:3519 نصر بن المولى إسماعيل

قد يكون خدام المخزن من فئة (المتحول)، ورغم فقد كانت لنخب المخزن اليد الطُّولى في بسط نفوذ الدولة (التحكمية)، وتسويق فضائل المخزن على الرعية الطيعة، وتدبير شؤون البلاد والعباد. من ذكاء المولى إسماعيل السلطاني، فقد علمته التجارب الاشتغال على المتناقضات المتجانسة. كان (رحمه الله) له الخبرة في سياسة ضمان ولاء أهل الحل والعقد. كان بارعا في ضبط تمفصلات الدولة الكلية، والتحكم في رؤوس فتنة القبائل المناوئة مرات بالكر والغزوات، وأخرى بالمهادنة والمكايسة. الأهم أن السلطان حصن الدولة من الاختراقات (مكامن الهشاشة) والفتنة، ومن الفجوات بتحديث خطط المخزن (الثابت).

المولى إسماعيل:

قد لا نحمل الثقة الكاملة في توافر الحديث عن أعداد أبناء المولى إسماعيل. قد نقول بأن تلك الأرقام المتداولة، هي حكايات غير موثقة بالصدق، وهي من بين المستملحات الآتية من قوة المولى إسماعيل حتى في امتلاك كم هائل من أعداد النسوة، وما ملكت يده من الإماء والسبايا. هو المولى إسماعيل الذي صنع هالة ظليلة للمخزن الحاكم بأمر الله (إمارة المؤمنين) في الأرض والعباد. هو المولى إسماعيل الذي جعل من مكناس (قصر المنصور) مدينة قيادته الحربية والسياسية والدبلوماسية.

الأمير نصر بن المولى إسماعيل:

قضايا عامة وثابتة، فالمخزن غير رحيم مع كل من يحاول سحب البساط الأحمر من تحت قدميه. المخزن، قد يصبح مثل القطة التي تتغذى من رحمها حين يُستهدف بالتمرد الداخلي. هذا ما حدث للأمير نصر بن المولى إسماعيل. يَحْكِي التاريخ بأن الأمير نصر كان من بين المقربين من الأبناء في مجلس السلطان أبيه. كانت بنيته الحربية والجسدية قوية تماثل (جالوت) العملاق، كان متمرسا على القتال والمناورة والتخطيط الحربي، وغير رحيم بالأعداء. تقلد عدة مناصب داخل دار المخزن تحت أعين السلطان ونخب المخزن الأشداء، وفيها برع وسطع اسمه عليا، حينها عينه السلطان المولى إسماعيل واليا على منطقة سوس وأحوازها.

الأمير المتمرد:

حين اشتد عُودُ الأمير نصر شوكة، حمل ظهير تعيينه السلطاني واليا على منطقة سوس وأحوازها. تقول الأخبار (بالتواتر الشفهي)، أن الأمير بعدما مارس الحكم خارج جلباب أبيه، وترجل عن صهوة جواده ملتصقا بهموم الشعب، باتت مظاهر هشاشة الرعية تلوح بأعينه. تغيرت أحواله نحو الزهد عن الجبروت والشدة، وتطويع ولاء الشعب بالقوة. بات الأمير نصر يُفكر في التمرد السلمي على عرش أبيه (بقصر المحنشة) بمكناس، وتأسيس دولة العدل (الصغيرة) التي تماثل الإمارة البورغواطية قديما !!

لم يكتمل تخطيط الأمير نصر الذهني والتنظيمي بناء، حتى كان الخبر الأكيد بأذن السلطان المولى إسماعيل آتيا من عيون المخزن التي لا تنام، (أن الأمير نصر يفكر في التمرد عن السلطان الأب، والاستقلال بمنطقة سوس وأحوازها).

المخزن غير رحيم بالمناوئين:

مسكين الأمير نصر (رحمه الله) فقد داسته أيدي مكائد رجال المخزن ونخبه، نالوا على رقبته المنكسرة عن الرأس، ترقية من السلطان. أُحضر الأمير نصر إلى مكناس ذليلا مُكبلا في قفص من حديد طوافا، ليكون عبرة للجميع. أُحضر إلى قاعة المحكمة (ضريح المولى إسماعيل) العلنية، والتي أشرف عليها السلطان حضوريا، حيث كان صك الاتهام (العصيان/ الخروج عن طاعة ولي الأمر/ التفكير في الثورة/ إيقاظ الفتنة/ التمرد). كانت كل التهم تُفضي بالتمام إلى حكم الإعدام، وفصل الرأس عن الجسد، وتم ذلك بساحة حبس قارا العليا، علانية وأمام أعين السلطان والحاشية، ونخب دار المخزن، وجمهور من الرعية.

إعدام نصر رحمه الله:

لم يبق الحكم على الأمير نصر حبيس الإعدام فقط، بل امتد نحو موضع دفنه، حيث تم تجريده من صفة الأمير، ليدفن جسد نصر خارج أسوار (مدافن الأمراء) وبالمحاذاة من بوابة سيدي عمرو الحصيني. أُعدم نصر نتيجة تفكير التمرد، وحكم سوس وأحوازها. قُتل نصر بالسيف، وبات عبرة عند إخوته بالخوف والامتثال لأوامر السلطان العليا. أُعدم نصر، وبقي قبره حاضرا في مخيلة وذاكرة العاصمة السلطانية بمكناس خارج الأسوار الإسماعيلية. بات قبره يوازي قبر الجندي (نصر) المجهول.

***

محسن الأكرمين

..................

* الصورة مأخوذة من صفحة: (مكناس اليوم   MEKNES AL YAWM).

صدر عن مطبعة جامعة جورج تاون الأمريكية كتاب “أصوات معاصرة” لطلاب المستوى المتقدم ويضم 55 قصة قصيرة باللغة العربية من عشرين دولة من الشرق الأوسط .. تم تنظيم القصص في فصول بناء على بلدهم الأصلي، كما تسبق كل قصة سيرة المؤلف وتليها تمارين لمساعدة الطلاب على استخدام المفردات والفهم واستكشاف التقاليد الأدبية وإتقان التحليل الأدبي. اختار قصص الكتاب جوناس البوستي مدير الدراسات الجامعية بجامعة ييل، نيوهيفين ـ امريكا، وكتب مقدمته روجر ألين وهو أستاذ فخري بجامعة بنسلفانيا .

تم اختيار قصة " دموع على خفقات القلب" للكاتبة الجزائرية صبحة بغورة في قائمة من ثلاث شخصيات أدبية تمثل الجزائر.

ـ كتب البروفيسور الدكتور جوناس البوستي : " تعمل هذه المجموعة الجذابة من القصص القصيرة  المعاصرة من مختلف البلدان العربية على تطوير إتقان الطلاب للتحليل الأدبي والوعى الثقافي حيث تُعرّف «أصوات معاصرة» طلاب المستوى المتقدم بالقصص القصيرة المعاصرة من جميع أنحاء الشرق الأوسط ، خمسة وخمسون قصة باللغة العربية من عشرين دولة تعمل على إشراك الطلاب في الموضوعات الحالية والأساليب الأدبية التي تفتح الباب لاكتشاف كل من المؤلفين الراسخين والناشئين والتقاليد الأدبية. يتضمن الكتاب أصواتا من البلدان والشعوب الناطقة بالعربية التي غالبًا ما يتم تجاهلها مما يمنح القراء الفرصة لتوسيع فهمهم للثقافات العربية."

ـ أكدت جوانا سليمان وهى أستاذ مساعد، قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى، جامعة ولاية أوهايو: " أصوات معاصرة هو مصدر ترحيب للطلاب المتقدمين فى اللغة العربية وآدابها. وقد اختار البستي بعناية القصص القصيرة التي تعرض مجموعة واسعة من الجماليات والموضوعات والحقائق الإقليمية. وتغذى التمارين مهارات القراءة عن قرب والتعلم التفاعلي والتواصلي الضروري للقاء هادف مع الأدب"

ـ وصفت هدى فخر الدين وهى أستاذة مشاركة في الأدب العربي بجامعة بنسلفانيا مجموعة الاختيارات :  بالمجموعة القصصية المنسقة ببراعة حول المواضيع الجذابة وفى تعددية من الأساليب والأصوات لذلك يضع كتاب «أصوات معاصرة» الأدب والكفاءة الثقافية في مركز تعلم اللغة التواصلية وتجهز طالب اللغة العربية للقفز نحو إتقان اللغة.

***

انعام كجه جي أديبة استثنائية، فهي عند مجايليها من الروائيين قامة أدبية باسقة، وروائية فذة من طينة الكُتّاب الكبار، تسير على هدى وبصيرة، ذو انتاج أدبي رصين ومائز، اكتشف في جميع رواياتها اللآلئ، ومن ثم أبحر لأكتشاف كنوز أخرى، نذرت معظم وقتها للكلمة وإعلائها، منها رواية (طشاري، والنبيذة والحفيدة الأمريكية....الخ)، ترسو روايتها (سواقي القلوب) للحرية والحب والجمال والبهاء والصفاء والكمال والسلام، وتوضيح واقع حال النظام السابق ومعارضيه في المنفى (باريس)، تكشف لنا في هذه الرواية على علاقات العشق سواء في العراق أو في المهجر، ومن ثم تكشف لنا حالات المثلية الجنسية من خلال شخصية (ساري) أو (سارة)، تسعى لأفشاء سلوكها والتقارب بينها وبين بطل الرواية وهو عشيق والدتها (نجوى)، وتبين لنا الروائية من خلال روايتها دور السفارة العراقية في باريس كيف يقوم حمايتها من عناصر المخابرات باختطاف المعارضين العراقيين للنظام وارسالهم بصناديق اللحوم الطازجة إلى النظام العراقي.

رواية (سواقي القلوب) تصور لنا اقسى اشكال الضياع في غربة المعارضين للنظام، ممن خرج من وطنه يبحث عن وطن آمن من عسس مخابرات النظام.

وموضوع الحب هو الآخر، لا يغيب عن هذه الرواية. فالهاربان من الوطن، لاجئين إلى باريس، ثمة سوزان فرنسية لكل منهما، مثل الكثير من الهاربين أو القادمين للدراسة. لكن الحب لكل سوزان هو حبٌّ لا ينتهي بزواج، و(زمزم)، حَنقَباز السماوة لا يعنيه شيء مما يحدث، فهو منغمس في الشراب ليل نهار. و(كاشانيّة) توفّر الجو العائلي من طعام ونبيذ، بما تملك من مال، لم يجرؤ أحد على سؤالها من أين لكِ هذا، حتى تبيّن أخيراً أنها كونتيسة، زوجة كونت من تولوز في فرنسا. والعاشق الأول لـ(نجوى) الذي يساعد ابنها ساري إلى المستشفى الذي نجح في زرع الأنوثة في الفتى ساري، الذي انقلب إلى الفتاة سارة، وبدعم مالي من رئيس الجمهورية العراقية صدام حسين. ساري الجندي المكلف بالحرب العراقية الايرانية يتصل بالرئيس لمقابلته ويعرض عليه بأسلوب مدهش في بساطته أن الأطباء أوصوا أن تجرى له جراحة دقيقة، وأين؟ في باريس.

من أي طينة عجيبة خلقنا الله نحن العراقيين؟

كل قصة فينا وحدها وبحد ذاتها هي من عجائب الحياة، من اخبار الحرب العراقية الايرانية التي حرقت نخيل البصرة وشباب العراق وتركت النساء ثكالى، إلى احداث انتفاضة الشباب على رأس النظام وجلاوزته عام 1991م، والتي ذهب الأخضر واليابس باعدام خيرة الشباب، والآخرين هاجروا خارج العراق بسبب قسوة النظام.

انعام كجه جي تقدم لنا المزيد من الحب والفرح والعطاء والجمال الأدبي في رواياتها جميعاً، كأنها شجرة وارفة الظلال، جذورها في مشارق الأرض لتفيء.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الجمالية: هو قط يرحب بي عند قدومي، ثم عند خروجي من المنزل صباحا. هو قط ليس بالمتشرد، بل بالمدلل في باحة زنقة الدرب القصيرة. قط يعيش بيننا على الأنفة والدلال من حسن العناية،  فلا تحسبنه إلا أسدا أصفرا مرابط الحضور والتموقع بمقدمة الدرب.

قط ألف أن يجعل من سطح سيارتي مسكنا آمنا، ومتسعا يستمد منه حرارة المحرك الباقية. رؤيتي في قط الدرب المغنج، كانت لا تتغير عن وصفه الخارجي، وشعره الوفير بتموج الصفرة والبياض. كنت أغبطه في عنايته بنفسه وجماليته، ومدى الحمية التي يلتزم بها في إطعام نهمه الطبيعي.

كنت أبتسم حين أراه يتعفف عن الأكل غير المقدم له بالترحيب و المداعبة، ومعاينته وهو يتلذذ بما طاب وأنعم عليه من عطايا ساكنة الدرب. من عجيب السلوكيات الدالة أنه كان يلقي التحية على جميع القاطنين، يعرف من يعتني به بالوفرة والحنان المفرط. في حين نحن البشر كساكنة الدرب القصير، لا نعير التواصل بيننا اهتماما، حتى تبادل التحية بيننا قد أضحت باهتة أو في خبر كان، وبتنا نعيش (التباعد الإجتماعي) والانكماش النووي.

الرعب.

قط الدرب الوديع مارس ساديته الحيوانية أمام مشهد من عيوني، حين صادف فأرا صغيرا أوحدا، تغيرت ملامح القط المغنج  إلى القط الشرير المدمر، ومارس شدة العنف الجسدي على الفأر الأعزل، مارس عليه القهر و(الحكرة)، مارس عليه القتل المشوه غير الرحيم. هي جوهر مواقف قط الحي الحقيقية غير الملونة بالرياء ومسحة الجمال الظاهري، هي عودته من لحظة التحضر نحو غريزة خطيئة القتل الأولى وغراب قابيل. حينها وقفت عاجز التفكير في تلون المواقف، بين مظاهر الجمال والعنف، وغريزة القتل الأولى و(مَرْمَدَةِ ) الفأر عنوة كأنه لعبة حظ  في موسم (لاَفْوَارْ). إنها حقيقة التحول من الجمال نحو ممارسة الرعب (الشر) الذي أحدثه قط الحي في مذكرة ذاكرتي.

الخوف.

حط قط الحي رحله بجانبي مزهوا بذاته وما أحدثه من تنكيل ووحشية على الفأر اليتيم. هنا بدأ رأيي للجمال يتزحزح موضعه، فحين اعتقدت من مشهد القط الخارجي جمالا، كان عند الفأر قد عاشه رعبا حقيقيا أفضى به إلى تعداد القتلى والموتى في ساحة النزال. من شدة نهاية فيلم رعب القط، تعلمت أن الحياة مواقف، يمكن أن تتغير بالنفعية، ويمكن أن تركب على غرور مفرط بالوصولية وتسجيل ضحايا الهوامش. تفكير جعل من محرك سيارتي يدور للفرار بنفسي آمنا من قط الدرب.

الخوف المزدوج.

 حينها وقفت على مشهد آخر  رعب آت من رأس الدرب. وقفت على تغير المواقف حسب قوة الذات وضعفها أمام الخصم المفترض، وقفت حين وجدت قط الحي المدلل يحتمي بين أرجلي، وقفت على خوفه الواضح والبين وشعره الذي أضحى منفوشا من شدة ضغط  هرمون (الأدرينالين/ Adrenaline) على جسده لأجل البقاء. قلت لعله خبر مسارات  تفكيري وأراد أن يتودد لي بجلسة مصالحة واعتذار عن مشهد القتل غير الرحيم تجاه الفأر الأعزل !!! لكن حين رمقت كلبا آتيا تبدو عليه قسوة زمن الضياع و(البهدلة) يمر متسكعا، وتحرك الكلب بقوة غريزة العداوة الأولى بين فصيلة الكلاب والقطط، علمت حينها لما (تمسكن) القط المغنج من المساءلة والمحاسبة.

كان القط أكثر ذكاء حين قفز إلى سطح السيارة احتماء، كان يحمل رعبا ولم يقدر على مواجهة الكلب المتشرد   في ساحة القتال غير العادلة، كان فطنا لكي لا يصبح وليمة (للحكامة) مثل ما حدث للفأر الضحية.

حكمة حيوانات.

ما تراه حاسة عيونك جمالا، يمكن أن يراه الفأر رعبا، ويمكن أن يراه الكلب وليمة صائغة  من شدة تاريخ الانتقام !!! نعم، هي ذي واقعة الجمال والرعب، والخير والشر التي عايشتها صبحا قبل التوجه إلى موطن عملي.  تساءلت بعد أن نبهت الكلب المتشرد بأن القط  في حمايتي وفي تواجد خريطة  تحالفاتي الجغرافية. حينها أحس القط أن رئيس مجلس أمن الدرب، قد حماه من حرب خاسرة حتما. ولكن لم ينته الأمر بهروب الكلب المتسكع، بل تساءلت هل المظاهر الخادعة  تغنينا عن الحقيقة المفزعة؟ هل يجب أن نقف عند الظواهر دون معرفة مكامن البواطن؟ هنا انطلقت إلى عملي وشياطين الجمال والرعب والخوف والشر والخير في مناوشات حامية الوطيس بين تغليب مظاهر اللب والجوهر كي لا ننخدع بالقشور المتحولة بالتدوير. 

***

محسن الأكرمين

وفنانها التشكيلي المميز محمد الهادي ساسي

الأمكنة ببهائها الدفين حيث كلمات ملونة تصغي للنشيد في تعدد أصواته..ثمة ما يغري بالحلم والذهاب عاليا وبعيدا تقصدا لما به تسعد الذات في حلها وترحالها مثل أطفال ينظرون باتجاه الشمس..أليست الشمس مهد الكلمات..

هكا التقيناه ضمن نخبة نيرة وحالمة من أبناء مدينة جميلة في أناقتها التاريخية الحضارية والثقافية وفي حميمية موقعها حيث البحر يحضن سرها ويكشف عن جمالها الموغل في الجماااال.

هو الطفل الحالم الحامل لمسيرة حياة بين العمل السياسي ضمن اليسار والفعل الفني الجمالي حيث موهبته المفتوحة على الولع باللون والكلمات..كان في كل حديثه مشيرا الى دور الفن في تجميل الذائقة والمحيط والأنفس ..يحدثك عن المدينة الجميلة التي قصدتها هنا وهي لمطة الساحلية فيوغل في السرد منذ التاريخ الى الأن وهنا..هي المدينة التي ترعرع فيها وقضى عقودا ضمنها في نضاله السياسي وهي المدينة التي ألهمته اللعب مع الألوان وبها حيث لحظات البهجة والتركيز والحب العارم تلك التي يعيشها في مواجهة اللوحة..القماشة..

هو الفنان محمد الهادي ساسي ابن لمطة من المنستير الذي التقيت هات مهرجان وجلسنا خلال الأيام بمنتزه المكان ضمن نخبة من المثقفين منهم صاحب المنتزه ومديرة دار الثقافة والمكلف بالمتحف الاركيولوجي بلمطة وغيرهم.. كان الكلام جميا والأفكار كثيرة لاجل استثمار عمق المكان حضاريا في فعالية ثقافية دولية جامعة للفنون على سبيل الابداع ولاجل " أيام لمطة الدولية للفنون والآداب "..

الفنان التشكيلي محمد الهادي ساسي يعد لمرسمه ورواقه بمنزله حيث يرى انه المكان لمزيد الاشتغال على أعماله وتجربته الفنية حيث أنه يبيع عددا منها وفق طلب مسبق من الأصدقاء في تونس وخارجها ..في لوحاته تبرز شخصيته الفنية والتشكيلية لنجد غرامه للمشاهد والوجوه والأمكنة ومنها روعة وجمال لمطة ومعمارها ومشاهدها فضلا عن بورتريهات ومنها بورتريه للوالد رحمه الله ..

محمد الهادي ساسي فنان حالم بمثابة طفل لم يعد يعنيه شبء غير الوطن الجميل وعمله الفني ..تتحدث اليه فتلمس حميمية الأشياء والعناصر وبراءتها ..مثقف ويحب الشعر وكل ما هو رمزي وسبق له وأن كتب مقدمة عن حيز من العمل السياسي بخصوص تجربة رفيق دربه وصديقه عبد الله االشرقي ضمن كتاب عنوانه "اخترت أن أكون ".

هكذا هو فناننا محمد الهادي ساسي ابن لمطة هي بلدة تونسية تقع في ولاية المنستير يبلغ عدد سكانها حوالي 5400 نسمة، وبها بلدية تمسح 193 هكتارا.كانت قديما في العهد الروماني تلقب لبتيس مينور Leptis Minor وهو اسم ذو أصل فينيقي أو لبدة الصغرى لتفريقها عن لبدة الكبرى التي تقع في ليبيا. سكن البلدة اللوبيون ثم الفينيقيون قبل أن تصبح خاضعة لقرطاج. وقعت قرب البلدة سنة 237 ق.م إحدى أبرز معارك حرب المرتزقة التي دارت رحاها بين القرطاجيين والمرتزقة المتمردين. بعد الفتح الإسلامي، بنى الأغالبة بها سنة 859 قصرا أطلقوا عليه اسم قصر الرباط.

ينتظم بلمطة منذ عام 2000 مهرجان سنوي للبسيسة، تشرف عليه جمعية صيانة مدينة لمطة، وتتم فيه مسابقة لأحسن بسيسة. كما ينشط في المدينة ناد رياضي يسمى شبيبة لمطة.و ضمن النشاط الثقافي للمدينة فقد شهدت دار الثقافة بلمطة عددا من الأنشطة والفعاليات الثقافة ومنها وضمن إطار فعاليات شهر التراث في دورته الثانية والثلاثين وتحت شعار: "تراثنا موروث حضاري .. مورد إقتصادي" حبث انتظمت برامج المؤتمر الدولي: " les mots à la bouche " المدام والكلام organisé par le laboratoire de recherches: études Maghrébines), Francophones, Comparées et Médiation culturelle) وذلك "بالتعاون بين جامعة منوبة وكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، والمندوبية الجهوية للثقافة بالمنستير ودار الثقافة بلمطة وجمعية صيانة مدينة لمطة وتعددت فقرات هذا النشاط ومنها مداخلة الأستاذ الجامعي Pierre Garrigues من كلية بتونس بعنوان mâcher. Mandiquer. Manger les mots. Prière du cœur et anocherese وتواصل هذا اللمؤتمر الدولي المدام والكلام لعدة أيام بدار الثقافة..و من بين الفعاليات التي شهدتها الدار وتحت اشراف المندوبية الجهوية للثقافة بالمنستير البرمجة الخاصة بالطفل ضمن فعاليات تظاهرة منها العرض الحكواتي للأطفال مع الفنانة رائدة القرمازي.

ومن ناحية أخرى تابع جمهور الدار عروضا متنوعة منها العرض الفني الصوفي بعنوان الشطحة لحضرة شباب المنستير بقيادة الفنان عبد الودود بوزقرو وانتظم ايضا معرض بعنوان "تجليات" للفنان محمود الخليفي و

عرض لشريط سينمائي للأطفال ضمن فعاليات تظاهرة أنامل مبدعة التى تنظمها دار الثقافة بلمطة تحت إشراف المندوبية الجهوية للثقافة بالمنستير بحضور أطفال محضنة الأمير بيننا رفقة المشرفين والأولياء وعلى رأسهم مديرة المحضنة السيدة اسماء العابد واطفال محضنة لبتيس رفقة المشرفين وعلى رأسهم السيدة المديرة مروى كريفة.هذا وفي سياق متصل تشهد مدينة لمطة وفي اطار الاحتفال بالدورة 31 لشهر التراث تحت شعار " اللباس التقليدي هوية وطنية وخصوصية جهوية " وبتنظيم من قبل الهيئة المديرة لجمعية صيانة مدينة لمطة فعاليات الدورة 22 لمهرجان التراث الغذائي بلمطة " أفضل أكلة بسيسة في الجمهورية " وضم البرنامج عددا من الفقرات الثقافية والفنية والتراثية..

في هذه الأجواء الثقافية كانت لوحات الفنان محمد الهادي ساسي في مرسمه تشدو بالحنين الذي بثه فيها حيث يقول "..لست أدري لماذا ينتابني احساس دفين بالشوق إلى تلك الأيام وانا انظر إلى هذه الصورة القديمة. وهي صورة لابني دريد في الثالثة من عمره.

تلك الأيام التي عشت فيها يا بني سعيدا مطمئنا في أحضان والديك قبل ان يحصل الفراق بسبب الاعتقال والسرية والمحاكمات. لا شك أن ابتعادي عنكم قد ترك في نفسك آثار عميقة على مدى السنين اللاحقة من عمرك ومن تجاربك.. ما كان لطفل مثلك في ذاك الوقت ان يدرك حقيقة الدوافع لذالك الابتعاد. تماما مثلما لم تكن لك القدرة على فهم ذلك الغياب. عذرا ابني إن كنت قد قصرت في شيئ معكم. لتدرك ابني ان الحب الكبير لا يمكن أن يكون خارج دائرة حب الوطن.." وعن لوحة (عازفة الكمان) يقول ".. عزف منفرد. أو عازفة الكمان. زيتي على القماش صغيرة الحجم 30/40. لوحة قيد البحث أو لنقل إعلانا لبداية عمل فني قادم. انها ارهاصات المخاض التي تتعدد فيها التجارب والابحاث الأولية..فالبدايات تنطلق من ملامح الأفكار التي يوحي بها الواقع لتستمر عبر البحث والتجربة الملموسة إلى حدود اكتمال شروط العمل الفني شكلا ومضمونا..".

هكذا هو صاحبنا الفنان الأنيق في فنه وعزلته الجميلة في عالم ضاج بالفراغ والكذب السياسي والنفاق الاجتماعي وانحدار الوعي والثقافة الجادة..ديدنه عمل فني رائق وحلم مفتوح على الدهشة في ارجاء ..لمطة الساحرة.

***

شمس الدين العوني

"هناك من لا يستطيع تخيل العالم بلا طيور، وهناك من لا يتخيل العالم بلا ماء، أما بالنسبة إليّ، فأنا غير قادر على تخيل العالم بلا كتب"... بورخيس

غبت أياما عن الفيسبوك وانهمكت في قراءة مجموعة من الكتب بين فن الرواية والقصة والفكر و من امتع الكتب التي يروي صاحبها رحلته مع عالم الكتب والقراءة وكيف صنعت منه إتسانا عاشقا منذ صغره للكتب و يشعر براحة بمصاحبتها هو كتاب "غوايات القراءة " لعلي حسين ، الذي اشتغل عاملا  في مكتبة  تكتشف في هذا الكتاب مقولات كثيرة عن القراءة والكتب من طرف أشهر الكتاب العالميين و يستحضر الكاتب حياة الكتاب وبداياتهم  وعملية الإبداع وتاريخ الكتابة وذكر مجموعة من الكتب والروايات الملهمة..

وفي هذا الكتاب نجد وصفة سحرية حتى لا تصاب عقولنا بالصدأ وتتكون من أربع نقاط:

أولا:  كتاب واحد جيد أسبوعيا على الأقل .

ثانيا: جريدة أو مجلة بين يوم و آخر.

ثالثا: رواية ممتعة في أوقات الفراغ.

رابعا: كتاب لمراجعة الكتب المهمة..

إذا واظبت صديقي على هذه الوصفة فتأكد أن خلايا مخك لن يعلوها الصدأ كما ينصح عشاق القراءة ولن تصاب بفقدان الذاكرة بل ستظل ذاكرتك متقدة.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

أتيح لي مؤخرًا، بفضل دار المدى العربية العراقية- السورية، أن اقرأ رواية طالما أحببت أن اقرأها، هي رواية "لاعب الشطرنج"، للكاتب النمساوي الجنسية العالمي الهوى استفان تسفايج. هذه الرواية صدرت قبل سنوات بعيدة جدًا بترجمة الكاتب العربي المصري يحيى حقي، صاحب الرواية القصيرة المشهورة "قنديل أم هاشم"، وقد أعادت دار المدى طباعتها عام 2010 وأعادت طباعتها مرة ثانية عام 2017 وهذه هي الطبعة التي قرأتها.3494 لاعب الشطرنج

منذ قراءتي روايتي: "رسالة إلى امرأة مجهولة"، و" 24 ساعة في حياة امرأة"، وبعدهما " فوضى الاحاسيس"، وانا لا أتردّد في قراءة كل ما تقع عليه يدي من كتابات صاحبهما استيفان تسفايج، واذكر مما قرأته له روايته" الحب المجنون". وكتبه الرائعة "كازانوفا". "ماري انطوانيت" و"بُناة العالم". آخر كتاب قرأته له هو كتاب مذكراته الرائع "عالم الامس"، وها انذا اقرأ روايته لاعب الشطرنج. هذه الرواية عبارة عن نوفيلا/ رواية قصيرة، تروى، عبر ضمير المتكلم، ويتمّ افتتاحها بإخبارنا أن هناك رحلة بحرية من نيويورك إلى بوينس ايرس، يشارك فيها البطل العالمي في لعبة الشطرنج، المدعو زينتوفيك. الراوي يحاول أن يفتعل طريقة لاستدراج هذا البطل للعب على متن السفينة، إلا أنه يتردّد تَحسّبًا لرفض مُحتمل، ويحدث أن يتمّ رهانٌ أو تحدٍ بينه وبين أحد المسافرين، يتكلّل بموافقة بطل الشطرنج على اللعب، شريطة أن يتلقّى أجرته. البطل زينتوفيك وهو صاحب شخصية تفضّل الصمت على الكلام، يأخذ في اللعب مع البارعين مِن رُكّاب السفينة مُحقّقًا الانتصار تلو الانتصار، إلى أن يظهر شخص، يدخل اللعبة مُتسلّلًا إليها عبر التفرّج، فينقلب الميزان. هذا الشخص كما نتعرف عليه لاحقًا محام مُعاد للنّازية يُلقى القبض عليه، ويُوضع في غُرفة فارهة في أحد الفنادق للتحقيق معه، ويتمكن خلال انتظاره المُمضّ للتحقيق معه، من سرقة كتاب.. سرعان ما يكتشف أنه يتحدّث عن لعبة الشطرنج. في البداية يجد صعوبةً في التعاطي مع رموز هذه اللعبة كما وردت في ذلك الكتاب، غير أنه سرعان ما يتغلّب على هذه الصعوبة ويُضحى مع مضي الوقت مهووسًا بلعبة الشطرنج، وبما أن هذه اللعبة تقتضي لاعبين.. وبما انه، ويدعى "ب" في الرواية، وحيد في غرفته، فانه يشرع في تمثيل الحالات المحتملة لهذه اللعبة، متقاسمًا مع نفسه اللونين الاسود والابيض، والاربعة والستين خانة، نصفها بالأسود والآخر بالأبيض. البطل زينتوفيك يُهزم أكثر من مرّة أمام غريمه "ب "غير أن الرواية تنتهي بتفوّق بطل العالم زنتوفيك.

يصف تسفايج لعبة الشطرنج في روايته قائلًا.. إنها لعبة لا دخل للحظ فيها. كلّ سحرها كامن في مسألة واحدة، هي النزال بين ذهنين.. كلّ منهما له خطته المُضمرة وأسلوبه. إن هذه المعارك العقلية تنجم من أن صاحب اللون الاسود لا يعرف خطة صاحب اللون الابيض، فيحاول كلّ منهما أن يحرز مرمى غريمه ليفسده عليه.

فيما يتعلّق بالأسلوب الروائي. يتّبع تسفايج كما في كلّ رواياته، الاسلوب التولّيدي المُحكم، فلا حدث زائد وأكاد أقول لا كلمة زائدة، مما يجعل الرواية لديه قصيرةً مكثّفةً تمضي وفق اسلوب تصاعدّي مركّز باتجاه نهايتها المحتّمة.

هذه الراوية كُتبت قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، وما زالت جديرة بالقراءة. فاقرأوها.

***

بقلم: ناجي ظاهر

هناك العديد من الاسئلة التي أقلقت وتُقلق المعنيين بالكتابة الروائية، سابقًا ولاحقًا، وما أكثرهم في هذه الفترة المنفتحة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي المزدهرة باضطراد، والحافلة بالتباهي بسبب وبدون سبب. من هذه الاسئلة المتعلّقة بإغراء الكتابة الروائية.. ماذا أكتب وكيف أكتب.. وربّما لمن أكتب وما إليها من أسئلة مُشابهة.

كتاب "حياة الكتابة- مقالات مُترجمة عن الكتابة"، إعداد وترجمة عبد الله الزماي، الصادر عن " مسليكيان للنشر والتوزيع"، في تونس قبل سنوات، يجتهد في تقديم الاجابات عن الاسئلة المطروحة آنفًا، عبر مجموعة من المقالات التي كتبها روائيون مشهود لهم في العالم أجمع. منهم اليف شافاق، مؤلفة" قواعد العشق الاربعون"، هاروكي موراكامي مؤلف " كافكا على الشاطئ"، وايزابيل اللندي مؤلفة "بيت الارواح". مُعد الكتاب يقول في تقديمه له، إنه قام بترجمة ما ضمه كتابُه خلال فترات متفرقة.3487 حياة الكتابة

ما ضمّه الكتاب من آراء ومعلومات يُقدّم الاجوبة عن الاسئلة المذكورة بطريقة غير مباشرة، تصف ولا تُقدّم الارشادات المباشرة. ما يُجمع عليه أصحاب المقالات المُترجمة في الكتاب بشكل عام، هو أنهم كتبوا ما كتبوه وأنتجوا ما أنتجوه من كتابات روائية شهد لها القراء في مختلف أنحاء العالم، بدافع القلق الوجودي. ولعلّ تجربة يان مارتل صاحب الرواية الفريدة "حياة باي"، تقدّم صورة واضحة لهذا القلق، فقد عانى مارتل حدّ البكاء عندما بلغ الثلاثين من عمره، وغاص في بحور المُعاناة والبحث إلى أن شرع في التخييل.. فترة إثر فترة. إلى أن ابتدأت أطياف روايته بالتجسّد المُضبّب .. وابتدأ الكتابة.

أما ايزابيل اللندي، فقد كتبت تقول إنها بعد أن بلغها عام 1982 أن جدها يحتضر، وأنها لن تتمكّن من توديعه، كتبت الجُملة الاولى في روايتها. الاولى. "اتانا بارباس عبر البحر". تقول اللندي مُعلّقةً على هذه الجُملة: مَن كان بارباس هذا؟ ولماذا أتانا عبر البحر؟ لم أكن مُحيطةً بهذه الفكرة الضبابية، لكنني واصلت وأكملت الكتابة كمجنونة حتى الفجر، وعندما بلغ مني التعب ملغًا، زحفت نحو السرير، تمتم زوجي:" ماذا كنت تفعلين"، أجبته:" السحر "، وقد كان بالفعل، ففي الليلة التالية بعد أن تناولت عشائي، أقفلت على نفسي مرة أخرى في المطبخ كي أكتب. كررت الامر في كلّ ليلة متناسيةً أن جدي قد مات. بعد سنة كنت قد فرغت من كتابة خمسمائة صفحة .. هي صفحات روايتي الاولى "بيت الارواح".

يضم كتاب حياة الكتابة تجربةً اخرى هامة في مجال الكتابة الروائية، يُقدّمها الروائي كازو ايشيغورو، إجابة عن سؤال: كيف كتب روايته الثانية "بقايا اليوم"، في أربعة اسابيع. تتلّخص هذه الاجابة بأنه كتب خلال فترة كتابته روايته، يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا حتى العاشرة والنصف مساء، لا يتوقف عن الكتابة إلا خلال فترات تناول الطعام ليعود إلى الكتابة، منبتًّا عن العالم ومستغرقًا في عالم كتابته وتخيّلاته.

هذا الكتاب، كما أوحيت آنفًا، يقدّم تجارب في الكتابة الروائية، تتيح الامكانية لمن يبحث عن أجوبة لأسئلة تتعلّق بالكتابة الروائية، العثور عليها أو على بعضها .. ولعلّ أهم ما تضمّه هذه الاجابات المتخصّصة، هو أن الكتابة الروائية تحتاج إلى العيش في عُزلة.. والابتعاد عن الواقع اليومي المعيش.. بهدف الالتحام به مجدّدًا.. عبر عوالم مًتخيّلة.. بإمكان كلّ ما فيها أن ينطق ويروي.. بما فيه الاشجار والانهار، كما تقول اليف شافاق في تقديمها تجربتها الروائية المثيرة واللافتة في الان.

***

ناجي ظاهر

في أكثر من لقاء طلاب وأدبي أيضًا طرح عدد من المشاركين السؤال: كيف يضع الكاتب الفنان قصته. من أين يبدأ وكيف يشرع في الكتابة ويواصلها إلى النهاية المُقنعة المنشودة، بحيث تأتي قصته مقبولة من جمهرة القراء وصالحة لاطلاعهم عليها وربّما تأثرهم بها.

سبق وطُرح هذا السؤال وأمثاله على العديد من الُكّتاب العرب والاجانب، وقد تعدّدت الاجوبة عليه، وتنوّعت فمن قائل إن القصة قد تولد من جملة عابرة أو مشهد لافت/ يوسف إدريس وجابرييل ماركيز مثلًا، إلى قائل إن القصة قد تولد دون كبير إعداد وتحضير وإنها قد تبدأ، تنمو وتتطوّر وفق نسقها وسياقها الخاص بها/ نجيب محفوظ، إلى قائل إن القصة تحتاج إلى ترتيب وتنسيق مسبقين، وفق إيحاء من حادثة متخيّلة عابرة قد لا تلفت أحدًا آخر غير كاتب القصة/ حسين القباني، إلى قائل إن القصة ما هي إلا عملية حفر في معنى ما أو احساس ما وتهدف في كلّ ما ترمي إليه إلى تجسيد ما يريد أن يوصله كاتب القصة إلى قرائه/ ادجار الان بو.

على هذا ومن منطلقة اتفق الكتاب وأقرّوا بالمُجمل على أن كاتب القصة المبدع لا ينقل عن الواقع وإنما هو يعيد تشكيله في قصة ذات معنى وتُمثّل وجهة نظر، وقد اتفق الدارسون وكتّاب القصة في هذا السياق على أن القصة يُفترض أن تعتمد المخيال الادبي وتتوسّل به لتوصيل ما تود أن توصله إلى قارئها، كما اتفقوا وهذه نقطة هامة جدًا، على أن هناك فرقًا كبيرًا بين القصة الصحفية التي تعتمد الواقع الصرف عمودًا فقريًا لها وبين القصة الفنّية التي تُبحر في عالم التخييل مقتنصةً من الواقع بعضًا من تفاصيله ومُعيدةً بنائه في الآن ذاته.

القصة بهذا المعنى لا تختلف كثيرًا عن اللوحة الفنّية والقطعة الموسيقية، وإنما هي تتشابه معها وتتقاطع، لا سيّما فيما يتعلّق بأهمية التخييل الابداعي في تكوين صاحبها لها وفي تشكيله لما يراه من وقائع سيقوم بتوظيفها في قصته، هذا التشكيل قد يتمّ مُنطلقًا من واقعة حقيقية إلا أنه لا يعيد سردها بما زخرت به من وقائع، وإنما يسعى لإعادة تشكيل ما ضمّته من وقائع بحيث تتحوّل إلى قصة فنّية .. قصة أخرى تُشبه تلك التي حدثت إلا أنها لا تنسخها، وإلا باتت قصة صحفية لا تحتاج إلا إلى نوع من المهارة ليقوم بكتابتها كاتب صحفي ما ويقدّمها وجبةً مفيدة ومسلية لقرائه. إن عملية التخييل في كتابتنا للقصة تمحنها حياة أخرى وبُعدًا آخر حتى لو قامت هذه القصة على واقعة حقيقية أو أعادت بناء هذه الواقعة. يزيد في هذا أنه يُفترض أن يكون لكلّ قصة راويها، إضافة لكاتبها. لتوضيح هذا أقول إن الكاتب هو مَن يكتُب القصة أما الراوي فهو شخصيّتُها المركزية، الشخصية التي يُقدّمها كاتبها من وجهة نظر راويها وعلى لسانه. إن دور الراوي في القصة يُعتبر دورًا أساسيًا، ذلك أن ما تُقدّمه القصة وتحفل به مِن وجهة نظر، إنما يأتي ضمن عملية تخييل صرفة.. تفترض الرؤية العيانية/ وجهة النظر الخاصة بالراوي وتعبّر بلغته.. وفق الحالة.. حزنًا، سخرية أو فرحًا.

هنا يبرُز السؤال، ما هو دور كاتب القصة في تشكيلها؟ اجتهادًا في الاجابة على هذا السؤال أقول إن دوره كبير فهو مَن يتخيل ومن يخلق شخصية راوي قصته، غير انه يفترض أن يقوم بهذا كلّه بعيدًا عن الظهور وأبعد ما يكون عن المباشرة، إنه يُقدّم راويَه مُعتمدًا على خبراتهِ وتجاربهِ التي اكتسبها طوال سنوات عمره الماضية، لهذا يفترض أن تأتي قصته متضمّنةً تجربةً نمطية شاملة تتجاوز ما هو شخصي في محاولة للوصول إلى ما هو إنساني ويخاطب المشاعر البشرية في عُمقِها الموحِّد لكلّ ابناء البشرية. إن كاتب القصة الفنّية الجديرة بهذه الصفة إنّما يغترف ما يكتبه ويقدّمه للناس من قصص.. مِن خزّان تجاربه وليس بالضرورة من تفاصيل حياته الشخصية أو تفاصيل ما حدث أو قد يحدث لمحيطين به.

هكذا يكتب كاتب القصة الفنية قصّته وهكذا يجعلها قادرة على تجاوز ما هو شخصي، مع أهمية التجربة الشخصية، إلى ما هو عامّ وإنساني.. جدير بالقراءة أولًا وبالبقاء ثانيًا.

***

هواجس: ناجي ظاهر

حدث تغير كبير بين أجيال ما قبل ظهور الهاتف المحمول والزمن الحالي ، كانت الناس يبحثون عن مجالس وأصدقاء كل يوم يجلسون معهم في مواعيد ثابتة، ففي المجتمع الريفي يوجد داخل المنزل حجرة الجلوس، وكانت معظم حجر الجلوس لها باب خارج المنزل حتى لا يجرح حريم البيت من السكان مستقلا، لكل مجلس له هوايته الخاصة من ممارسة وتسلية وقته مع الأصدقاء، ولهم ثقافة متقاربة، وكانت تجمعهم القرابة والنسب والجيرة، فبدأ رويدا رويدا اختفاء جلسات البيوت وأصبحت عبر الهواتف الذكية، من صوت وصورة.

اللقاء في العلاقة اليوم، لا يتم إلا كي ينشغل كل طرف بهاتفه، المسمى ذكيا، عمن يجالسه. ذلك أن الارتباط بالآلة حل محل الارتباط بالإنسان، الذي غدا في هذا النوع من الارتباط مجرد أداة، إنه مكر الآلة، التي عوض أن تبقى مجرد أداة حولت مستعمليها إلى أدوات،

لم يعد اللقاء، في زمن الآلة، سوى تعله لفراق ذهني وروحي. هكذا تم تعويض صمت المحبين في لقاءاتهم التي كانت حميمة دافئة الأنفاس، بصمت بارد مشحون باللامبالاة وبحجاب الآلة \"فالعلاقات بين البشر الآن تحكمها الآلة وتحدد الموعد وتتعامل مع شخوص مختلفين في العقيدة والشكل واللون والجنس في وقت واحد وفي أوقات مختلفه من فروق التوقيت، فأحيانا تتحدث مع شخص يكون فيه فرق التوقيت بينكم 9ساعات، هل اصبحت ثورة الاتصالات\" نعمة ام نقمة \"، في البعد الاجتماعي، وهل سببت أزمة أخلاقية داخل المجتمعات المحافظة...؟!

الاسرة من الواقع الى المواقع ...!

تكاد اليوم العلاقات الاجتماعية تتنمط بصورة جديدة نتيجة التحولات التي طرأت على نسق التفاعلات والعلاقات وفي مقدمتها العلاقات الاسرية. التي انتقلت من الواقع الى مواقع التواصل الاجتماعي وهذا ما عبر عنه\" اوفييل \"بالسعادة المجروحة التي نزعت إليها الاسرة نتيجة الهيمنة والتقييد الإعلامي. الذي فرض عليها نمط اسلوب العيش الواحد، متجاوزا تلك الخصوصيات السوسيوثقافية في المجتمعات وقيمها فادخلت موضة الكلام، وموضة اللباس، وموضة العلاقات التي أصبحت فيه المنازل والعلاقات الأسرية أشبه بالعلاقات الفندقية بين الخادم والزبون،  فمن كانت العلاقات مبنية على التفاهم والحوار اصبحت مبنية على التفاهم حول تقاسم الأعباء والمصارف والتداخل في الادوار بين المهني والاجتماعي لنعطي صورة عن أسرة ما بعد الحداثة، فتطفو الى السطح ظواهر كالخيانة الزوجية الإلكترونية من كلتا الطرفين ، حيث تغيب معها معنى القيمة الاجتماعية والرمزية والدينية لمفهوم الزواج. وتنتقل معنى العاطفة من معناها الحسي نحو المادي اكثر. كندخل في علاقة صراع اسري من نوع آخر هو صراع الاباء مع الأبناء اي جيل التقليد وجيل الحداثة، اضافة الى مفهوم الاغتراب الأسري الذي يتمحور حول عدم فهمنا واحتوائنا لمفهوم العلاقات الاسرية بشكل صحيح.  فشهدنا نوع من العزلة رغم الوجود الشكلي والظاهري التركيبة الأسرية

عندما يغيب الجوهر ويحضر المظهر فكيف تتصور شكل العلاقات بعد استخدام

الذكاء الاصطناعي...؟!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب مصري وباحث في الجغرافيا السياسية

ينقسم الكُتّاب في العادة إلى قسمين، أحدهما ينتهي بانتهاء حياته في عالمنا، كونه ركز على العارض والعابر، والآخر تستمر حياته بعد رحيله من عالمنا، كونه تغلغل إلى أعماق النفس الإنسانية والفها في جوهرها البعيد. الكاتب الروائي القرغيزي جنكيز ايتماتوف (12 كانون الأول 1928 - 10حزيران 2008)، يعتبر من ذلك الصنف الاخر الذي يبقى بعد رحيله، ويستحق أن يقرأه أبناء الأجيال التالية.

علمًا انه واحد من الكتاب البارزين في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهو صاحب المؤلفات الروائية المقروءة في 165 لغة من لغات العالم.

ابتدأ ايتماتوف حياته الأدبية وهو في الثلاثين من عمره، وقد أصدر في هذه الحقبة الخصبة من حياته روايته "جميلة" التي ستتحول فيما بعد لتصبح فيلمًا سينمائيًا إنسانيًا يهزّ مشاعر الناس في معظم أنحاء العالم، ويدفع واحدًا من أهم شعراء القرن العشرين لويس اراغون لأن يقول بملء فمه إن " جميلة" أجمل قصة حب في العالم.

لمزيد من التعريف بايتماتوف والتحفيز على قراءته المتجدّدة، نقول انه أصدر خلال حياته التي قاربت الثمانين حولًا، إضافة إلى روايتيه الآسرتين جميلة وعندما تتداعى الجبال- او العروس الخالدة، عددًا من الروايات الهامة نذكر منها: المعلم الأول، ويطول اليوم أكثر من قرن، طريق الحصاد، النطع، السفينة البيضاء، ووداعا ياغولساري، الغرانيق المبكرة، شجيرتي في منديل أحمر، طفولة في قرغيزيا، نمر الثلج، الكلب الأبلق الراكض عند حافة البحر.

اتصفت روايات ايتماتوف بالعديد من الصفات التي كرّسته كاتبًا يتعدى النطاق المحلي إلى العالمي، اعتقد أن أبرزها تمثل بحسّ إنساني رفيع وفي استلهام للروح الشعبية عميقة الأغوار وتمكنه من التعبير عنها بسحر نادر، إضافة إلى أنه لم يتردّد في نقد الظواهر السلبية في بلاده، وبإمكان مَن يقرأ روايته الفاتنة " وداعًا غولساري"، أن يلمس جرأته في النقد المجتمعي السياسي.. لمس اليد.

طبع من روايات ايتماتوف هذه بلغات مختلفة أكثر من ستين مليون نسخة، قرأها الناس في انحاء مختلفة من عالمنا وبهروا بها، ومما يذكر لهذا الكاتب أنه كان كاتبًا حقيقيًا.. عمل في مراحل حياته الأولى في مهن عديدة منها في تربية الدواجن وقيادة جرار، فقد اضطر بعد إعدام والده في عاما 1937 في موسكو، للعمل باكرًا ابتداء من عمر 14 عامًا ويشار أنه أوصى بأن يدفن بعد رحيله الأبدي إلى جانب والده الذي اعدم ظلمًا.

اهتم ايتماتوف في رواياته بالجانب الروحي والنفسي للإنسان، كما يبرز في مجمل رواياته اهتمامه الشديد بالبيئة والطبيعة، وحظيت رواياته بالكثير من الإطراء والتقدير. وقد ترجمت رواياته هذه إلى اللغة العربية وبإمكان الإخوة القراء العربي ممن لم يحالفهم الحظ لقراءته أن يفعلوا،.. وعلى مستوى شخصي عمل ايتماتوف سفيرًا للجمهورية القيرغيزية في بلجيكا، الإتحاد الأوروبي، حلف الناتو واليونيسكو. وكان ايتماتوف عضوًا في مجلس السوفييت الأعلى ورئيس تحرير مجلة "الآداب الأجنبية" في موسكو وشغل خلال السنوات الأخيرة من حياته منصب سفير قيرغيزيا لدى دول البيلونكس.

لقد لعب ايتماتوف دوراً كبيرا في الثقافة العالمية واعتبر الرئيس القيرغيزي كرمان بك باكييف في كلمة تأبينية له، أن رحيل ايتماتوف خسارة كبيرة لقيرغيزيا والعالم بأسره. وقد بلغ ايتماتوف ذرى المجد الأدبي السامقة، وتمكن من أن يحقق أحلامه الأدبية من طفل يتيم إلى واحد من أهم كتاب القرن العشرين.. لذا استحق القراءة في كل زمان ومكان.

***

بقلم: ناجي ظاهر

(1596-1650). Rene Descartes

اختارها وترجمها عن الانكليزية بتصرف:

مصدق الحبيب

***

* نحن لا نصف العالم الذي نرى، انما نرى العالم الذي نستطيع ان نصف.

* المتفائل هو الذي يلمح بصيصا للنور في العتمة، والمتشائم هو الذي يسرع لاطفائه

* ليس لدينا السيطرة الكاملة على اي شئ في هذا العالم سوى على انفسنا وافكارنا.

* أن نعيش بدون الفلسفة يعني ان نصبح كمن يغمض عينيه ولايريد ان يرى أي شئ.

* اعظم العقول القادرة على تجسيد اعظم الفضائل هي القادرة ايضا على ارتكاب اعظم الخطايا.

* أنا أشك، فأنا أفكر، ولذا فأنا موجود، ذلك ان الشك هو أصل الحكمة. (الشك بمعنى التساؤل عن الاشياء).

* العقل لا يتطور بالتعلم، بقدر ما ينمو ويتطور بالتأمل.

* أن تعرف الانسان جيدا، لا تصغي الى ما يقول، بل تأمل ما يفعل.

* حينما أتلقى أي إساءة، احاول ان ارفع نفسي للحد الذي لا تستطيع الاساءة ان تطالني.

* على الاقل، انا مستعد ان اكرس نفسي، مخلصا ودون تحفظ، لتهديم كل ما تبنيت من آراء.

* أقوى سبب لآثام الانسان هو الاجحاف والتحامل الذي يلتقطه في الطفولة.

* من الحكمة ان لاتمنح الثقة الكاملة لمن خدعك ولو مرة واحدة.

* حين لا نستطيع تقصي الحقيقة، فان اضعف الايمان ان نحسب اقوى احتمالاتها.

* تفكيرنا ينطوي على جزئين: الفهم والادراك أولا، ثم الرغبة والاستعداد.

* كل شئ عندي يتحول الى الرياضيات، ذلك انني اعتبرها اعظم أداة تحليلية ورثناها من افضال العقل الانساني الذي اكتشف ان كل ما في هذا الكون له صيغة رياضية، بالرغم من ان لا وجود للتمام والكمال في الارقام، كما لا وجود لهما في الانسان.

 

بداية لابد من الاعتراف باني لست ممن ينتمي لجماعات الوسط الفني لا من قريب ولا من بعيد، كما وينبغي الإقرار باني لست متخصصا"في مجال النقد الفني وتحليل الأعمال الدرامية المتواترة الظهورعلى الشاشات الكبيرة (السينما) والصغيرة (التلفزيون)، حتى أسمح لنفسي بالتعرض لما أسميه (حيرة) الدراما العراقية و(تخبطها) في اختيار النصوص التمثيلية وتعيين الأشخاص القادرين على تجسيد أدوارها. ولكني كمشاهد ابتلي بأن يعيش ضمن أجواء الخراب والدمار التي استشرت مظاهرها، ليس فقط في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع العلوم فحسب، وإنما في ميادين الفكر والثقافة والفن والتعليم كذلك. وهو الأمر الذي يجيز لي التعبير عن آرائي الخاصة والإفصاح عن انطباعاتي الشخصية حيال ما تقدمه الدراما العراقية حاليا"من أعمال فنية (مسلسلات) على مدار الأسبوع.

ولعل من جملة المآخذ التي يمكننا تسجيلها ضد القائمين على إنتاج وإخراج مثل هذه المسلسلات، هو اعتقادهم المضلل بأن المضامين التي تحملها والقيم التي تشيعها والرسائل التي تبعثها تلك الأعمال، تواكب وتحايث ما طرأ على الواقع العراقي من حراك اجتماعي وانزياح قيمي وتحول حضاري، فضلا"عن تصورهم السطحي أن تلك الأعمال الغثة التي تستهلك كل ما جناه الفن العراقي من رصيد تاريخي، تحاكي في مستواها الفني ومعالجاتها الاجتماعية ما تصدره الدراما العربية والأجنبية من أفلام ومسلسلات، دون أن يصار الى أخذهم بالاعتبار حجم وطبيعة الاختلافات والتباينات الموجودة على صعيد السياقات الاجتماعية والثقافية والنفسية والحضارية. الأمر الذي وسم تلك المسلسلات بطابع الرتابة في الأداء والاصطناع في الحوار والتلفيق في الحبكة.

وهنا لا أتحدث عن فيض المسلسلات العربية والأجنبية – بغثها وسمينها - التي أضحت رفيق دائم للمشاهد العراق رغما"عن أنفه، بقدر ما أتحدث عن المسلسلات العراقية التي تعرض حاليا"على شاشة التلفزيون، وتحديدا"مسلسل (حيرة) الذي حيرنا معه وضيعنا في متاهاته، بعد أن فقد بوصلة الاتجاه الذي يقصده وأضاع مضمون الرسالة التي يحملها. بحيث لم يظهر تميزا"فنيا"يليق بالدراما العراقية أيام مجدها الغابر على مستوى الإخراج والتمثيل فحسب، وإنما فشل فشلا"ذريعا"في ضمان معقولية نسبية لتسلسل أحداثه المفبركة، أو في إيجاد رابطة منطقية لتتابع مواضيعه المفككة. وهو الأمر الذي بدا وكأن المخرج لم يجد أمامه للتخلص من الاحراجات التي أوقع نفسه فيها، سوى الهرب الى الأمام باللجوء الى مطّ الحلقات وزيادة أعدادها من جهة، وافتعال الحوارات العقيمة والمناكفات السمجة بين (ممثلين) بدت على أغلبهم الرتابة في الأداء والاصطناع في التعبير من جهة أخرى. هذا بدلا"من أن يسعى جاهدا"لتلافي الكثير من العيوب الفنية والأخطاء الأدائية، ومن ثم إيجاد نهاية مشرفة لمسلسل وسم بأعراض فقدان اللون والطعم والرائحة !.

ولعل هناك من يحاول إيجاد الأعذار والمبررات لمثل هذا الإخفاق بالإشارة الى كون المسلسل المعني (حيرة) مأخوذ عن مسلسل (تركي) سابق، بحيث ان العيوب والسقطات التي يعانيها المسلسل هي من نتاج (الأصل التركي) وليست وليدة (الانتحال العراقي). وهنا الطامة الكبرى كما يقال : فعلى فرض ان مصادر الأخطاء والهنات المؤشرة في المسلسل المذكور، هي من تبعات الدراما التركية التي نادرا"ما تهتم بالقضايا ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي، بقدر ما تحفل بأمور الرومانسيات والمغامرات والمافيات التي يبدو أنها تتوافق مع تقاليدهم الاجتماعية وعاداتهم الثقافية. إذن فما الداعي لاقتباس مثل تلك الأعمال السطحية في معالجاتها والاختزالية في منظوراتها، ومن ثم محاولة إلباسها لبوس (عراقي) فضفاض لإقحامها قسرا"ضمن أنشطة وفعاليات الدراما العراقية، بغية حملها على طرح مسائل ليست من صميم واقعنا، أو على أقل تقدير لا تحتل الأولويات في سلم اهتماماتنا في الوقت الحاضر. فهل يا ترى جف نسخ الدراما العراقية من الإبداع بحيث أضحى (الاقتباس) و(الاستيراد) من مصادر خارجية (عربية وتركية)، هما السبيل الأنجع لإشاعة الانطباع بأن ينابيع الفن العراقي لا زالت بخير ؟!

وفي المحصلة الأخيرة نتساءل ؛ ما الغاية المتوخاة أو الهدف المنشود الذي دفع بالمسؤولين (منتج ومخرج) لاختيار مثل هذا المسلسل - وغيره من المسلسلات المماثلة – الخالية من المضامين والعديمة المناقبيات، وعرضه على ذائقة الجمهور العراقي الهاضمة لكل منتج بلا تدقيق ولا تمييز، باعتباره عملا"(إبداعيا") من أعمال الدراما العراقية المنوط بها معالجة مشاكلنا السياسية والاجتماعية المستعصية بلا رتوش، وإيجاد الحلول لمكابداتنا الاقتصادية والنفسية المزمنة بلا تزويق !!.

 ***

ثامر عباس

 

يعد الكاتب المصري (انيس منصور 1924ــ 2011) واحدا من أكثر الكتاب الذين استقطبت كتاباتهم جمهورا واسعا من القراء وأثّرت فيهم لما اشتملت عليه من ميزات تتعلق برشاقة اللغة وجمال الصياغة وسعة الخيال وكذلك التنوع في الموضوعات والاجناس الأدبية وبالتالي كان يستحق تصنيفه ضمن مجموعة (أولياء الكتابة الصالحون)، فهو كاتب صحفي وفيلسوف يمثل علامة فارقة في ميدان المقالة الصحفية وأدب الرحلات وارتبط بعلاقات واسعة مع الرعيل الاول من كبار الأدباء والصحفيين امثال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ومصطفى وعلي امين، وكل هذه المؤهلات والفرص باعتقادي سهّلت له طريق الشهرة وكذلك ليكون من المقربين للرؤساء المصريين خصوصا عبد الناصر والسادات، كما انه ملهمٌ لقرّائه، فعلى الصعيد الشخصي ومنذ وقت مبكر من رحلتي مع الأدب استمالني لمتابعة كتاباته فتوجهت لقراءة معظم أعماله الأدبية وتبلور لدي تصورعن طبيعة منجزه الأدبي يتلخص في امتلاك هذا الكاتب خزين من الذكريات والتجارب الشخصية والاسرار التي جمعها ورواها بأسلوب جاذب وممتع ولاذع احيانا ويمتلك ايضا لغة صافية صقلتها تجربته الطويلة في العمل الصحفي وما رافقها من جولات واسعة حول مدن العالم اكسبته خبرة عن طبيعة حياة المجتمعات وابرزها جولته التي دون تفاصيلها في كتابه الشهير (حول العالم في 200 يوم) الذي عرض فيه معلومات مهمة عن دول جنوب شرق اسيا ودول غربية اخرى، كما وجدته كاتبا فيلسوفا ينظر الى الحياة على انها محطة لا مناص يوما من مغادرتها لذا هو يدعو الى السكينة والصدق مع الذات والتواضع في الطموح فيقول (لا ترهق نفسك في هذه الدنيا .. فلن تخرج منها حيا)، وأبرز ما ظهر عليه منصور في منجزه الابداعي هو سرعة البديهة والقدرة الفائقة على تأليف النكتة الساخرة وصياغتها بأسلوب السهل الممتنع الذي لا يتردد فيها حتى عن تجاوز الخطوط الحمر ومنها ما كتبه عن حائط المبكى الذي يحظى بالقدسية عند اليهود اذ اعتادوا زيارة الحائط ولمسه والبكاء عنده يرافق ذلك قيام كل واحد منهم بكتابة شكواه على ورقة ودسها بين احجار الحائط، الكاتب انيس منصور التقط هذا الطقس وكتب ان امريكيا زار القدس ونسى اسم الحائط.. فقال لسائق التاكسي خذني الى المكان الذي يبكي اليهود عنده ليلا ونهارا .. فذهب به الى مصلحة الضرائب .

***

ثامر الحاج امين

ينتج روبوت الدردشة المدعوم بالذكاء الاصطناعي شات جي بي تي  محتوى يبدو كما لو أنه قد تم إنشاؤه بواسطة الإنسان وبالتالي هناك العديد من الاستخدامات التقنية المقترحة التي أصبحت قدراتها الهائلة تثير أسئلة مهمة حول ملكية المحتوى.

من يمكنه المطالبة بحقوق الطبع والنشر للمحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي. في حالة عدم وجود مطالبة من قبل مالك المحتوى الأصلي، فمن الممكن أن تكون حقوق الطبع والنشر لمولدات روبوت الدردشة مع المستخدمين الفرديين أو الشركات التي طورت الذكاء الاصطناعي.

يستند قانون حقوق النشر إلى مبدأ عام مفاده أن المحتوى الذي ينشئه البشر فقط هو الذي يمكن حمايته. لقد تم تطوير الخوارزميات التي تقوم عليها دردشة جي بي تي  في شركة "أوبن إيه آي" لذلك يبدو أن هذه الشركة تتمتع بحماية حقوق التأليف والنشر على تلك الخوارزميات.

هناك خيار آخر يتعلق بملكية المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي: الذكاء الاصطناعي نفسه. في بعض الدول المتقدمة يحظر قانونها الحالي على الذكاء الاصطناعي امتلاك حقوق الطبع والنشر (أو حتى الاعتراف بأن الذكاء الاصطناعي قادر على إنشاء المحتوى)، لأنه ليس بشريًا، وبالتالي لا يمكن معاملته كمؤلف أو مالك بموجب قانون حقوق النشر والتصاميم وبراءات الاختراع. من غير المحتمل أيضًا أن يتغير هذا الموقف في المستقبل.

في الوقت الراهن، يلتزم صانعو سياسات حقوق الإبداع البشري باعتبار منشورا يتم من خلاله منح حق للمؤلف البشري. ومع ذلك، مع تطور الذكاء الاصطناعي وقدرته على خلق المزيد، قد يفكر صانعو السياسات في منح الأهلية القانونية للذكاء الاصطناعي كما قد يمثل هذا تحولًا جوهريًا في كيفية عمل قانون حقوق الطبع والنشر وإعادة تصور من (أو ماذا) يمكن تصنيفه كمؤلف ومالك لحقوق الطبع والنشر.

ومما لاشك فيه سيكون لمثل هذا التغيير آثار على الأعمال التجارية حيث تدمج الشركات الذكاء الاصطناعي في منتجاتها وخدماتها. لقد أعلنت ميكروسوفت مؤخرًا أنها ستدرج منتجها كوبيلوت استنادًا إلى شات جي بي تي في برامج الشركة، مثل وورد و باور بوينت و اكسل.

ومما لاشك فيه أن المزيد من التطورات مثل هذه ستتولى ، ولدى الشركات التي تبنت في وقت مبكر فرصة للاستفادة من الوضع الحالي، باستخدام الذكاء الاصطناعي لزيادة كفاءة عملياتها. غالبًا ما يمكن للشركات أن تكتسب ميزة عندما تكون أول من يقدم منتوجًا أو خدمة إلى السوق - وهو وضع يسمى "ميزة المحرك الأول".

أجرت حكومة المملكة المتحدة مؤخرًا استشارة حول الذكاء الاصطناعي وحقوق النشر، وقد أظهرت أظهرت هذه الاستشارة رأيين متضاربان. يعتقد قطاع التكنولوجيا أن حقوق الطبع والنشر للمحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون ملكًا للمستخدمين، بينما يريد قطاع الإبداع استبعاد هذا المحتوى تمامًا من الملكية. لم تتخذ حكومة المملكة المتحدة أي إجراء بشأن النتائج وبدلاً من ذلك أوصت بإجراء مزيد من المشاورات بين الأطراف المعنية.

إذا تحول قانون حقوق النشر بعيدًا عن تركيزه على الفاعلية البشرية في المستقبل، فيمكن للمرء أن يتخيل سيناريو حيث يتم تصنيف الذكاء الاصطناعي على أن مؤلفي ومطوري ذلك الذكاء الاصطناعي بصفتهم أصحاب المولدات وقد يؤدي هذا إلى خلق حالة تمارس فيها مجموعة من شركات الذكاء الاصطناعي القوية تأثيرًا هائلاً.

قد ينتهي بهم الأمر بامتلاك مئات الآلاف من المواد المحمية بحقوق الطبع والنشر - الأغاني والمواد المنشورة المقروءة والمرئيات والأصول الرقمية الأخرى. يمكن القول إن هذا قد يؤدي إلى وضع بائس حيث يتم إنشاء غالبية الأعمال بواسطة الذكاء الاصطناعي وتملكها الشركات.

يبدو من المنطقي أن تبقى هذه المعرفة في المجال العام. ربما يكون الحل هو أن يعلن كل شخص أو شركة مساهمته عند استخدام الذكاء الاصطناعي - أو أن مساهمته يتم حسابها تلقائيًا بواسطة البرامج. وبناءً على ذلك، يحصلون على ائتمان أو منفعة مالية بناءً على حجم العمل الذي ساهموا به.

لا يزال محتوى الذكاء الاصطناعي المستند إلى مواد محمية بحقوق الطبع والنشر يمثل مشكلة هامة للغاية . قد يؤدي عدم القدرة على الاعتماد على المواد المحمية بحقوق الطبع والنشر إلى تقويض قدرة نظام الذكاء الاصطناعي على الرد على مطالبات المستخدمين النهائيين. ولكن إذا كان المحتوى قائمًا على أعمال محمية، فسنحتاج إلى قبول مرحلة تاريخية جديدة من الابتكار المفتوح حيث لا تهم حقوق الملكية الفكرية.

***

عبده حقي

من المؤكد أن زيت الزيتون يتمتع بقدر كبير من الشهرة اليوم، ولكن حتى قبل أن يشيد به محبو نكهته الرائعة في العصر الحديث من حيث استخداماته في الطهي وخصائصه التي تعيد الصحة، فإن مصدره، شجرة الزيتون، قد كانت بئرا لا ينضب من القصص المختلفة عبر السنين.

الزيتون هدية أثينا:

تدور إحدى القصص الشهيرة من الأساطير اليونانية حول إنشاء شجرة الزيتون. وفقا للحكاية، كانت شجرة الزيتون الأولى نتيجة منافسة بين أثينا، المعروفة أيضا باسم إلهة الحكمة، وبوسيدون، إله البحر. تنافس الاثنان للحصول على الحق في أن يصبحا حاميي أتيكا.

خلق بوسيدون الماء المالح عندما ضرب حجرا برمحه. عندما فعلت أثينا الشيء نفسه، خرجت شجرة زيتون - رمزا للسلام والوفرة، وهذا منح سكان أتيكا ما هو أكثر من ذلك فقد اختاروها فعليا لتكون حامية لهم وأطلقوا اسم المدينة على اسمها. تلك المدينة الآن معروفة باسم أثينا. هكذا بدأت شجرة الزيتون.

الزيتون ونهاية الطوفان العظيم:

من أشهر قصص الكتاب المقدس التي عرفها الإنسان قصة الفيضان العظيم الناجم عن عاصفة هائلة ضربت الأرض. دفع هذا الطوفان نوح وعائلته والحيوانات إلى البحث عن ملجأ في الفلك الشهير لمائة وخمسين يوما (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل).

و بمجرد انتهاء الأمطار والفيضانات، أرسل الله حمامة إلى نوح، حاملة غصن زيتون كعلامة على أن الطوفان قد انتهى وأصبح هذا الإنسان الآن حرا في العيش على الأرض مرة أخرى.

الزيتون عند الملوك المصريين القدماء:

لا تقتصر عجائب شجرة الزيتون على دول منطقة البحر المتوسط. رأى شعب مصر القديمة منتجها الأكثر شهرة، زيت الزيتون، هدية من الإلهة إيزيس. يُنسب الفضل إلى إيزيس على أنها القوة التي أدخلت المصريين الأوائل إلى عجائب شجرة الزيتون وعلمتهم كيفية صنع زيت الزيتون.

كانت هناك أيضا صور لإنتاج زيت الزيتون في الفن المصري القديم. تم العثور على أدوات لضغط الزيت عدة مرات في الطقوس الجنائزية. يقال إن الفرعون توت عنخ آمون كان يرتدي تاجا منسوجا من أوراق الزيتون، وقد ظهر فرعون آخر، رمسيس الثالث، وهو يقدم أغصان الزيتون لإله الشمس رع، كرمز للتنوير.

الزيتون في التوراة:

في الديانة اليهودية، يلعب النفط دورا مهما باعتباره رمز البركة الالهية . في الشمعدان، الشمعدانات السبعة المتفرعة، اليهود يستخدمون زيت الزيتون . استخدم العبرانيون القدماء الزيت في الاحتفالات الدينية والتضحيات و مسح الكهنة.

الزيتون في الكتاب المقدس:

شجرة معروفة من القديم في فلسطين (خر 23: 11؛ تث 6: 11؛ يش 24: 13؛ قض 15: 5؛ 1 صم 8: 14). كما كانت تنبت في أشور 2 (مل 18: 32). ويظهر بهاؤها في أن أوراقها خضراء في الأعالي وسنجابية فضية من أسفل حتى إذا هزها الهواء ظهرت الشجرة من بعيد كأنها مغطاة ببرقع فضي شفاف جميل جدا (هو 14: 6). وزهره أبيض وكثيرا ما ينتثر فتشبه به العاقر حينئذ (اي 15: 33). ويؤكل حب الزيتون إلا أن قيمته العظمى في زيته) أي 24: 11؛ حز 27: 17). ولم يزل الثمر يجمع بخبط الشجرة) تث 24: 20 (أو النفض) اش 17: 6(. وقد أوصى الإسرائيليون بأن يبقوا خصاصة الزيتون للفقراء (تث 24: 20(.

ويعيش الزيتون مئات السنين ويحمل في الشيبة كالأرز وكالنخل)قرن مز 92: 12، 14). أما معاصره فقد كانت منقورة في الصخر (اي 29: 6) كما تشهد بذلك الآثار أيضا في تلك البلاد. مرات كانوا يدوسون حبوبه بالرجل) مي 6: 15(وقد استعمل خشب الزيتون في صنع بعض أجزاء الهيكل ومتعلقاته (1 مل 6: 23، 31، 33). أما تطعيم الزيتونة في البرية في زيتونة جيدة فيشير إليه بولس في) رسالة رومية 11: 17-24 (مصورا دخول الأمم إلى الإيمان، كما وتغيير الطبيعة الشريرة بالتطعيم بطبيعة أخرى يشير إلى عمل النعمة في القلب البشري الشرير.

وأول ما حملته الحمامة إلى نوح بعد الطوفان كان ورقة شجرة الزيتون) تك 8: 11(. لذلك صار غصن الزيتون شعار السلام وعلامته. وكذلك شجرة الزيتون علامة تشير إلى النجاح والبركة الإلهية (مز 52: 8؛ ار 11: 16؛ هو 14: 6). وعندما تتقدم شجرة الزيتون في العمر تكثر من حولها نباتات الزيتون الصغيرة النامية) مز 128: 3(. وقد كانت النساء تتزين في بعض المناسبات بإكليل من زهوره كما كان إكليل الزهر الذي يطوق عنق المنتصر في الألعاب الأولمبية في اليونان مكونا من أوراق الزيتون.

ويتم استخدام زيت الزيتون في زيوت الكنيسة، مثل زيت الميرون وخلافه.

آية الكتاب المقدس عن غصن الزيتون

كان الزيتون من أكثر الأشجار قيمة بالنسبة للعبرانيين القدماء. تم ذكره لأول مرة في الكتاب المقدس عندما عادت الحمامة إلى سفينة نوح تحمل غصن زيتون في منقارها.

يقول سفر التكوين 8:11: عندما عادت إليه الحمامة في المساء، كانت هناك في منقاره ورقة زيتون طازجة، ثم عرف نوح أن الماء قدانحسر عن الأرض.

الزيتون في القرآن الكريم:

لقد ورد ذكر الزيتون في القرآن الكريم كشجرة مقدسة مهمة لحياة البشر. وهناك وصف جميل للزيتون في القرآن الكريم فضلا عن أن الله سبحانه أقسم بالشجرة المباركة. وأشار لنا عليها بالبنان على أنها من الشجر المفيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه. يقول الله في تنزيله العزيز في معرض حديثه عن الزيتون:

- وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴿99 الأنعام﴾

- وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿١٤١ الأنعام﴾

- يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿١١ النحل﴾

- بِّسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿١ التين﴾

- اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٣٥ النور﴾

- وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ﴿٢٩ عبس﴾

الزيتون في العصر الحديث:

قد لا تكون أشجار الزيتون هدية من الآلهة والأغصان قد لا تشير إلى نهاية الفيضانات هذه الأيام، لكن شجرة الزيتون لا تزال تحتل مكانة مهمة في الحياة العصرية، لكن يستخدم زيت الزيتون لعدة أغراض مختلفة.

وعلى غرار الحضارات التي سبقتنا، يُستخدم زيت الزيتون على نطاق واسع في الطهي والشفاء والتجميل اليوم - وهو دليل آخر على قوة شجرة الزيتون الدائمة عندما يتعلق الأمر بالصحة والجمال.

هذا هو السبب في أن الاستثمار في زيت الزيتون ليس فكرة سيئة على الإطلاق.

رمزية شجرة الزيتون:

طول العمر أو الخلود: يمكن أن تعيش شجرة الزيتون أكثر من 2000 عام، فهي قادرة على تحمل الظروف المعاكسة للغاية: البرد، وتساقط الثلوج، والحرارة، والجفاف وما إلى ذلك، ولا تزال تؤتي ثمارها. تتجدد أوراقها باستمرار وتستجيب جيدًا للتطعيم. لكل هذا فهو أيضا رمز للمقاومة والبقاء .

الشفاء: لطالما اعتبرت شجرة الزيتون وثمارها وزيتها ذات خصائص طبية، ومثبت بالأدلة العلمية. في الواقع، في جميع الحضارات، يستخدم الزيت لعلاج أمراض معينة، وكذلك وفي مستحضرات التجميل.

السلام والمصالحة: بقيت الحمامة مع غصن الزيتون رمزا للسلام لا يمكن إنكاره. في الواقع، يمكننا أن نرى غصن زيتون في بعض أعلام الدول أو المنظمات، ولعل أكثر ما يبدو لنا هو علم الأمم المتحدة. ويذكر أيضا في الإنيادة كيف استخدم الشاعر فيرجيل غصن الزيتون كرمز للمصالحة والاتفاق.

الخصوبة: وُلد أحفاد الآلهة في أثينا تحت أشجار الزيتون، لذلك اضطرت النساء اللواتي يرغبن في إنجاب الأطفال إلى النوم تحت ظلالها. في الواقع، يدرس العلم حاليًا ما إذا كان استهلاك زيت الزيتون يفيد، من بين أشياء كثيرة، في زيادة الخصوبة.

الفوز والتكريم: وتقدر أثينا هذا التكريم من خلال الخروج منتصرة من صراعها مع بوسيدون إله البحر والأنواء والزلازل والبراكين، وكما ذكرنا، فإن تاج الزيتون كان يُمنح سابقًا للفائزين في الألعاب الأولمبية في اليونان القديمة واستمر التقليد إلى يومنا هذا. تم الحفاظ على هذه العادة مع مرور الوقت ويمكننا أن نرى كيف أنه ليس فقط في الألعاب يتم منح الفائزين تاج الزيتون، ولكن أيضا في الرياضات الأخرى التي تجري على الكوكب.

وفي الختام، تبقى شجرة الزيتون في غاية العطاء لأنها تعطي أكثر مما تأخذ وفي حال تقديم الخدمة لها تجود في العطاء.

***

محمد عبد الكريم يوسف

أحضرت ورقة عذراء وقلم وحاولت كثيراً أن أتجاوز في رحلة السطور القادمة ما يعتمل في النفس من ألم.. كنت أقصد أن أخط مقالة عن العرض بحكم الواجب.. لكن حزني كان أكثر قهراً وإصراراً ليذرف وينزف في خضم الكلمات والأحبار مستخلصا وملخصاً من خليط وتداعيات المشاعر والأفكار في ذاك النهار.. رغم إيماني بالقدر والمكتوب لكن دمعتي لم تجف بعد أتراه تذرف على ألم الفراق أم من هول عدائية لا مبرر لها سوى الضعف والخوف في الذات المريضة تلك الذات الكاذبة الإنسانية في الجمل المارقة والغارقة بالمجاملات الخادعة   ضمن مجتمعات ونفوس تغلغل في تركيبتها الكذب والرياء والنفاق.. الإصلاح يبدأ من الذات ولازال الحب محراكاً لذاتي لأنفاسي لتخيلاتي...

ولكن.. وعمريَّ بغير إرادة مني ينفجر قهري لتنمو في عروق الورد أشواك ولأخط لكم ولكل من كان هناك لكل غبي سلطوي لكل نقي طاهر بسيط وعفوي لكل متابع لكل آدمي عامل وفلاح

(كرماء الأصل كالغصن المثمر كلما حمل ثمارا تواضع وانحنى.. عرفناكم هكذا.. الخ) وهي رسالة وصلتني من واحد من أصدقاء الفيس الذين لا أعرفهم وبدون مقدمات لتؤكد لنا جميعا.. المحبة غير مشروطة وهي تعكس ثقة أصحابها بأنفسهم وعلى ما ذكرت أضيف ياصديقي.

تواضعوا لله أيها الملتصقون فوق كراسيي الغطرسة المخادعة.. أماً بعد يوم يجف اللاصق وتلتحم تلك الغطرسة والخديعة في ذاتكم الحقيقية لتستحيل لكم العودة لطبيعتكم النقية.. الحياة غمضة عين تمضي وتمضون معها ملتصقين بغبائكم وغطرستكم وضعفكم محدودبي الظهر لاتبصرون سوى سعير نار أنتم فيها خادمين آبدين.

كثيرون ممن كانوا هناك بادروني بالسلام والتعزية الصادقة بوفاة شقيقتي والأكثر قرباً  من ذوي السلطة والنفوذ صدمهم حضوري  فلم يتجاهلوا وحسب إنما حين اضطروا لملاقاتي وجها لوجه عاتبوني على عدم تقديمي فروض الطاعة ضمن قصرهم وعصرهم.

قصور الآدميين عقولهم.. أتساءل إلى أين يقودنا قراصنة المركب المراكب صدق المثل إذ قال (اللي ما بتزينو عروقو ما بتزينو خروقو).. بسبب انقطاع التيار أكتفي بهذا القدر مفجراً بعض القهر.

علّي أعود ثانية إليكم أكثر صفاءاً ونقاء

***

الفينيق حسين صقور

«أجنحة الذّاكرة» لحظاتٌ من الانكشاف والاكتشاف

«أجنحة الذّاكرة» هو كتابٌ مميّزٌ عن مجالسَ نصراويّةٍ وشخصيّاتٍ مؤثّرةٍ في سماء ذاكرةِ كاتبٍ مميّز، يستعيد فيه ذكرياتٍ شخصيةً حول مجالسَ أدبيّةٍ تنقّل بينها وعاشها بملء جوارحه، ذكرياتٍ كان لها الأثر الأكبرُ في حياة كاتبنا ناجي ظاهر.

بأسلوبه الشفّاف والمميّز يأخذنا ناجي ظاهر في رحلة إلى الماضي، لينبُش في أعماق الذّاكرة، ويخبرنا عن تلك المجالس والشخصيات التي كان لها أثرٌ لا يمّحى في نفسه الأدبيّة والإنسانيّة، شخصياتٍ بعثت في نفسه الفرح، عصفت بذهنه، واستلهم منها الكثير من قصصه وكتاباته، ومجالسَ جمعته بعشّاق الكُتب والأدب والثقافة والفن، أثرَتْ تفكيره، أثارت خياله الخصب، وساهمت في بناء  شخصيته الأدبيّة والإنسانية الفردية.

يحدّثنا ناجي ظاهر عن تلك المجالس التي تبادل فيها الكتب والآراء مع الآخرين، شهد فيها مناقشاتٍ وحوارات عميقةً في القضايا الأدبية والثقافية وكلِّ القضايا الملحّة في المجتمع، تلك المناقشات التي كانت تُحدث عصفًا فكريًّا واحتكاكا لا بدّ منه لإشعال موقد الكتابة والإبداع. 

وهنا، سؤالٌ يراود الذّهن: لماذا نعود إلى الماضي؟

هل من المهمّ أن نعود إلى الماضي؟ هل العودة إلى الماضي آلية يستخدمها عقلنا لتحسين حالتنا النفسية ولتحسين مزاجنا، عندما نواجه صعوبات في التكيّف مع الحاضر وعند الشعور بالوحدة؟

كثيرًا ما نعود بذاكرتنا إلى الماضي، تحضرنا ذكرياتٌ حلوةٌ تثير فينا الشوق والتّوق لمعانقة تلك الأيام التي تغيّرت كثيرا في الحاضر، وذلك الماضي الذي لم يعُد له وجود. نحِنّ إلى الماضي. نبحث عن الأصالة، والبراءة، نتغنّى بالماضي الذي نراه أجمل من الحاضر، فتحضرنا صورٌ كثيرةٌ من الطفولة ببراءتها وسذاجتها، هدوئها وبساطتها.

ويعتقد البعض أن الحنين إلى الماضي مهمٌّ للصّحّة العقليّة والنفسيّة، وأن له فوائدَ جسديةً وعاطفية؛ وأنه أسلوبٌ ناجحٌ في محاربة الاكتئاب وقتيًّا، يعزّز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي. فهل هو ردُ فعلٍ لخللٍ ما في الحاضر، وعدم استقراره؟

الذاكرة المتقلّبة عادةً تغربل الذكرياتِ الأقل حلاوة، وفي ذات الوقت تربِط الذكريات الحلوة بالذاكرة المثالية التي غالبًا تكون مبالغة بها ومليئة برغبات القلب. الماضي الذي نراه رائعًا يحمي الإنسان من صعوبات الحاضر.

أمّا كاتبنا ناجي ظاهر فيقول في كتابه إنه يعود إلى الماضي بهدف فهم الحاضر وتسديد الخطى نحو المستقبل المنشود، ويرى أن التجربة هي ما يبقى بعد مضيّ الأزمان، وأن عمقَها هو ما يشفع لها في الإطلال بقوة على الحاضر من سماء الماضي.

كاتبنا ناجي ظاهر عاش حياةً كانت سلسلة من الصالونات والمجالس المؤثّرة، مثل مجلس المعلم طه الهادئ العميق، ومجلس الفاهوم المتروّي الأنيق، مجلس جمال قعوار ومجلس المطعم الشعبيّ، وغيرها... لكن أولَّها، وربما أكثرها تميّزًا بالنسبة لي، كان مجلس السيّدة قادرية (آدو) التي يعتبرها كاتبنا معلّمتَه ومرشدتَه الأولى أيام كان طفلا صغيرًا يحبو على عتبات الحياة.

وهنا، يعرض الكاتب ملامح سيّدةٍ فريدة من نوعها كان لها دورٌ رئيسيٌّ في ولادة عالمٍ كاملٍ في داخل نفسه، فمنها استمع إلى أجمل الحكايات وإليها يعود الفضلُ في اكتشافه طريقَه إلى الأدب.

وكان ذلك في بيتهم الدافئ في الحيّ الشّرقي في مدينته الناصرة. حين كان في بدايات طفولته الأولى، إذ تعرّف على جارته كفيفة البصر، السيّدة قادريّة، حيث كان من عادة أسرته أن يتبرّع أحد أبنائها، وكثيرا ما كان ذلك كاتبنا ناجي ظاهر، ليكون لها دليلا يقتادها من غرفتها الصّغيرة إلى بيتهم القريب.

وأحبّ كاتبُنا تلك السيّدة، أحبّ حكاياتِها الشّعبيّة وكان أكثر المنبهرين بتلك الحكايات التي كانت تقصّها عليهم في تلك المسامرات من حكايات تُفرح الروح وتُنعش القلب. ما حبّبه إلى ذلك المجلس وجعله ينشدّ إليه أشدّ انشداد يتعلّق بشخصية تلك الجارة التي فتحت له خزّانة الأدب والفن وأرشدته إلى ما في الحياة من ثراءٍ قصصيّ، كما حبّبه في تلك المرأة طريقتُها في سرد الحكايات، فقد كانت بارعة في إثارة التشويق لسماع حكاياتها، وذلك بتغيير نغمات صوتها بما يتناسب مع الأحداث، تسردها بأسلوبٍ يمتاز بتقديم حدث وتأخير آخر للعودة إليه فيما يلي من أحداث القصّة، وذلك ما كان يُشعل الفضول والرّغبة في متابعة أحداث القصّة.

هذه الطريقة في الكتابة التي اتّبعها ناجي ظاهر في كتابه هذا، أجنحة الذاكرة، هي كتابة من إدراك النهاية، أي من إدراك تحوّل ذلك الصبيّ إلى كاتب. هذه كتابة لا تنشغل برصد اهتزازات الواقع نفسِها، انما تلك التي ترصد من الواقع لحظاتِ الاكتشاف والإدراك، التعرّف والاختيار. ومن هنا، هذا النص يبدو لي، إذن، يستحقّ صفة سيرة ذاتية مع عنوان فرعي يمكنه أن يكون: كيف أصبحتُ كاتبًا؟ لكن، من اللحظة التي ندرك فيها أن الأحداثَ الحياتيةَ المنقولةَ هنا هي عالمٌ كاملٌ متكاملٌ من الحنين إلى ماضٍ ما زال مستمرًّا حتى اليوم وإلى ما لا نهاية، تُفتحُ الطريقُ لمتعة القراءة.

أجنحة الذاكرة، كتابٌ جميلٌ وفريدٌ من نوعه، يحلّق فيه القارئ على أجنحة الإبداع مع كاتب كرّس نفسه للأدب والثّقافة، تعمّق بفكره عميقًا وانطلق به بعيدًا، وارتقى بنفسه وبفكره على طول الأيام.

***

بقلم: حوا بطواش

 

- حدّثْني عن البطولة، عن الرجولة، عن الرجال، أخبرْني كيف يخرج الآحاد من بين الملايين، ليكونوا غُرَّةَ الكون وتاجَ التاريخ؟ عن عقولهم، وأفكارهم، عن نفوسهم وتطلعاتهم، عن قسماتهم وملامح الأرض التي تسكن خطوط وجوههم وقلوبهم، عن كل شيء فيهم؟

- وهل تحتاج البطولة إلى حديث؟ هل تحتاج البطولة إلى تعريف؟

- قيل لي إن البطولة أنواع، أشكال، تختلف باختلاف الزمن، وتتغاير بتغاير الحدث.

- هذا صحيح، هل يغير الشكل أو المظهر من حقيقة الجوهر؟ البطولة شيء معنوي، يسكن العقل والقلب، يكتسح المشاعر، يغزوها، ينتشر في خلايا الدم، في ذرات الدماغ ونسيجه، في لولبياته الملتفة على بعضها بطريقة خلابة، تدهش المألوف والمعهود، في نواة التكوين وسويداء الإبداع، ليتلاحم مع الجسد، مع إشارات الوجه وتنبيهات الجلد، البطولة تتسرب في الذات كالماء المتسرب بالتواءات الأرض، ليمنحها الحياة، البهاء، النماء، الروعة.

- وكيف يمكننا اكتساب البطولة؟

- البطولة لا تكتسب، بل تتفجر منابعها حين تستدعيها الحاجة، حاجة الحق لاكتساح الظلم، تتفجر كبركان يخرج من تحت قاع المحيط، أو من قاع الأرض، مذيبا ما في طريقه من صخور وعقبات، ليفتح صدر الأرض للهواء، للنسيم، للحرية، ولكي تعرف البطولة جيدا، تراها رؤية العين، تلمسها بالأصابع، وتحسها كإحساسك بلسعات البرد والحر، ما عليك سوى أن تجمع صور الأبطال، وتحدق في عيونهم، تتفرس في ملامحهم وجبهاتهم، تسبر مساماتهم، تتعلق بأهدابهم ورموشهم، ترفع صورهم عاليا، وتنخفض، لأن هؤلاء الأبطال عاشوا وماتوا، وجباههم مرفوعة، تلامس سقف الزمن، تلامس هامات الشموخ والسمو والإباء، عالية أرواحهم، عالية فوق العلو، سامية فوق السمو، تلك الأرواح، تلك الجباه، تستحق منا -بكل إيمان- التواضع والعرفان، أن نعرف حقا مقام علوها وسموها، وتستحق منا – إن كنا إنسانا، إنسانا حقيقيا- أن ننحني لها، كانحناء التاريخ لها حين كانت تسطر بكل ما تملك حروف الكون والزمن، حروف التاريخ، بماء عزيمتها وحبر بطولتها.

- أنا أشعر بالضَّآلَةِ الآن، أشعر بالتقزُّم، أَصْغُرُ وأصغُرُ، حتى كأني أُلامِسُ الأرضَ، عالَمُ هؤلاء الأبطال يبدو سحريا، إلى حد أنه لا يمكن تفكيك طلاسِمِه ورموزه، تفكيكا يمنحنا فهم حقيقته.

- البطولة ليست طلاسم، ولا رموز، بل حياة، حياة لا تنتهي، يمكنك استشعارها في كل شيء، ملامسة حقيقتها بالفطرة، بالنقاء، بالصفاء، بالشروق المتدفق كمحيط ممتد بلا نهاية، متصلا بالمطلق.

ولكي تفهم الأبطال، عليك أولا أن تكون -كما قلت سابقا- تحمل صفات الإنسان، ملامحه النفسية والشعورية، عليك أن تغوص داخل فطرتك غوصا عميقا، لترى إن كانت مسكونة ببراءة البحر بكل ما فيه من تناقض، أم مسكونة بترهات الذين يتشدقون عن الحياة دون أن يكونوا قد أخذوا من الإنسان اسمه، اسمه فقط. أما ما تراه في هيأتهم، ليس سوى تنكر، تنكر في ملامح الإنسان.

البطولة سهلة الفهم، سهلة الإدراك، سهلة الاستيعاب، لكنها عَصِيَّةٌ، أَعْصَى مِن المستحيل على أولئك الملوَّثين بِسَخام الغرور والضياع بين تيارات الحياة المقززة إلى حد الجنون.

- تحدثني عن البطولة، عن الأبطال، تكافح وتنافح عن معاييرهم، عن بيضتهم، عن حماهم، وكأنك واحد منهم، فهل هذا نوع من البطولة؟

- لا، لست مدعيا إلى هذا الحد، ولكن يحق لي الفخر والانتساب لسيرة هؤلاء الأبطال، لمعانيهم، لمضامينهم، مع علمي الشديد، بأني أشَدُّ جُبْنًا من أن أكون قادرا حتى بالانتساب إليهم، فهل أَقَلَّ من أن أحاول قتل جُبْنِي ووأده حين أتحدث عنهم؟ أرسم ملامحهم بقلم جاف لا حياة فيه، كي يستمد حياته من مفردات خصصتها اللغة لهم، لهم وحدهم، دون غيرهم من البشر؟ قلمي يستمد منهم، من مفرداتهم، حياة قد تغسل عار جبنه وخوفه، فهل هذا كثير؟ هل هذا أكثر مما يمكن أن يطلب؟ أليس حريا بنا كلنا، الذين نتحدث عن البطولة، دون أن نمارسها، دون أن نحولها لنهج حياة، ومسيرة أيام، أليس حريا بنا أن نقف أمام المرايا عراة، عراة كما ولدتنا أمهاتنا، وكما سنبعث يوم القيامة من قبورنا، كي نحدق بتفاصيلنا جيدا، كي نستطيع التأكد والتيقن بأننا ضمن الإنسان؟ ولسنا متنكرين بشكله فقط؟

- أنت تقتلني، أنا لا أشعر بالضآلة فقط، بل أشعر بأن خللا ما طرأ على تكويني، على ماهيتي، أشعر وكأن جلدي يريد التنازل عن حقه في التحاف العظم والقلب والكبد، أشعر وكأنه يريد الخلاص من مأزق خطير، وكذلك أحشائي، قلبي، عقلي، أشعر وكأن كل شيء بداخلي، أو خارجي، في تكويني، يختلف عما كان سابقا.

أحاسيسي، مشاعري، كل شيء أحسه الآن يستعد للهجرة، للتحول، للانقلاب، أصبحت عصيا على ذاتي، وذاتي أصبحت عصية علي، هل هي حالة ولادة؟ أم حالة موت؟ بعث أَمْ فناء؟ تحول من شكل إلى آخر؟ من ذات إلى ذات أخرى؟ لا أعلم. رأسي ثقيل، ثقيل، مضغوط، الضغط في رأسي، في صدري يتعاظم، يتفاقم، يشتد، هو الانفجار، نعم هو الانفجار.

- الفرق بينك وبينهم، أنك تحتاج إلى تعريف، أن تُعَرِّف نفسَك إلى نفسك، وأن تُعَرِّف نفسك للآخرين، أنت تبحث عن شيء يمكن أن تشرحه للناس، تشرحه لذاتك، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل لم يفكروا بذلك، فهم يعرفون أنفسهم، وتعرفهم أنفسهم، هم يعرفون الزمن، ويعرفهم الزمن أيضا، تماما كمعرفة الأرض للمطر، ومعرفة الأرض للبركان والزلزال، ومعرفة البحر للعاصفة، هم نوع من الوجود المنصهر بكُنْهِ الأشياء وأصلها، بمكونات الوجود، وطبائع الكون.

لكنهم لم يشعروا بالتميز، بالخصوصية، بل امتلأوا بالحس الرافض لنهج الطبيعة، المغاير لتفاصيل الفطرة، كانوا يَرَوْنَ الأشياء من خلال دموعهم المسكوبة حسرة على طفل يجوب الطرقات بأسماله من أجل رغيف خبز، وكانت عزتهم تمنعهم من إسداء المعونة للطفل ذاته خوفا من كسر شموخه وأَنَفَتِه، كانت عيونهم تدور داخل الصدور، دورة حياة خضراء تبحث عن بعث للجدب المتكلّب بمساحات النفوس والعقول، دون القدرة على الشعور بالفرح أو الراحة، كان الهَمُّ شُغْلَهم وشاغِلَهم، وكان العدل دِينَهم ودَيْدَنَهُم.

لو نظرت إلى وجوههم، إلى تقاطيع الزمن فيها، لو تأملت بِنْيَتَهم، وتفاصيلَ مِشْيَتَهُم وخطواتهم، لعرفت بأنهم يحملون صفات وملامح تتفق وتختلف مع صفات من سواهم.

تتفق بأنها من لحم ودم، يكسوها الشعر، ويقطر منها العَرَق، تتأثر بالحرارة والبرودة، تماما كباقي الناس.

لكنها تختلف بما يستتر خلف الجلد، وما يجري داخل الأوردة، وما يخفق في القلب، ويعتمل بالروح، ولو دققت أكثر، لأيقنت بأن ما بداخلهم يمنحهم تميزا خاصا حتى في الشكل، شكل الجلد، وشكل العين، ولعرفت، يقينا، بأن وَقْعَ خطواتهم فوق الأرض له خصوصية لا يفهمها إلا التراب المحمل بالشوق المُعَذب لبقاء خطواتهم فوق شكله وسره.

هم الأبطال، الأبطال الذين يصنعون التاريخ المغاير لتاريخ الجبناء، وهم من يكتبون بمداد دمهم المُضَمّخِ بالوفاء للإنسان، حروف الأزمان القادمة، وهم، هم وحدهم من يرى نور الشمس المستتر خلف أزمان لا زالت قابعة في غيبٍ مُدْلَهِمِّ الظُّلْمَة.

- هؤلاء ليسوا بشرا مثلنا، تتحدث عنهم، فأشعر بانبعاث المجهول والغامض، يسري بكياني شيء خفي، تماما كسريان الغابة في العقل والمشاعر حين تراها من بعيد وأنت مقدم على دخولها، تداهمك رهبة، ويداهمك خوف، ولكنك لا تستطيع تحديد الرهبة أو الخوف برهبة أو خوف مماثل.

- أنت مخطئ ومصيب: مخطئ لأنك تبحث عن عذر لا يضطرك للانحناء إليهم، ومصيب لأنني أجهل كيف أشرح لك حقيقتهم العَصِيَّة على اللغة والمفردات، المرتفعة فوق الوصف والتحديد، لا لشيء، سوى أنها أكبر من اللغة وأوسع من المفردات.

لكنها تُحَسُّ، تُلْمَسُ، بِكَمٍّ هائل من المشاعر والأحاسيس، حين تصطدم بسيرتهم، بتضحياتهم، بقدرتهم على تمزيق سُدُفِ الظلام واستلال النور من مُزَقِها، وحين تصطدم فجأة بهم وهم يعبرون زمن الأرض إلى زمن السماء، إلى زمن يرونه بصورة لا تتمكن عيوننا المريضة من رؤيته وهو يتقدم نحوهم بشغف مُعَتَق، ورغبة جامحة ليسحبهم إلى نواة الخلود وبؤرة السرمدية.

- يبدو من حديثك أنك تعرفهم، تفهمهم، وكأنك عشت معهم، أو كأنك واحد منهم، كيف يمكنني الوصول إلى ما وصلت إليه عنهم؟

- عليك أن تعترف، اعترافا واضحا وصريحا، بأنهم ليسوا مثلك أو مثلي، بل هم نوع آخر، نوع يتميز عنا بأنه يملك أسباب البطولة، كما نملك نحن أسباب العجز والتبرير، أنا أعرفهم بقدرتي على التألم القاتل بأني لست واحدا منهم، بل ولست ممن يمكن أن يكون مثل ذرة من ذرات أيامهم وساعاتهم.

أعرفهم من خلال أحلام اليقظة التي أعيشها وأنا أبحث عن طاقِيَّةِ الخفاء من أجل ممارسة البطولة والتضحية، أعرفهم من خلال دموعي على الأطفال الذين يُسْلَخون على الأرض دون رحمة، دموع الألم، المغادرة فور انتقالي للتلذذ بطعم قصيدة كتبها جبان يبارك بطولة الأبطال وهو يشعل الدخائن ويحتسي القهوة، أو التصفيق لرواية تضج بالوصف المكثف لموت يحصد الناس والحيوان والشجر، دون أن يتقدم كاتبها نحو الموت من أجل أن يكتب الرواية الأخيرة بمداد دمه.

أعرفهم حين تَدْلَهِمُّ الخطوبُ وتتأزم اللحظات، وهم يغادرون الأرض بخطوات واثقة هادئة من أجل خوض لُجَجِ المُدْلَهِمِّ ونواةِ التأزّم، في حين ننحشر نحن في زاوية مخضبة باللهو والتسلي، نحمل أقلامنا بين أناملنا، لنبدأ صياغة المفردات الخارجة من مركز العجز والقهر والكبت، لتبدو في نظر القارئ الذي لا يختلف عنا في شيء، ملاحم بطولة، ومعلقات شجاعة.

لكنها في الحقيقة، حقيقة الفطرة، وحقيقة الروح والأشياء والأزمان والأماكن، ليست سوى زفرات تأوّه وحسرة، على ما نحن فيه من انهيار وهبوط إلى درك تأنف صفة الهبوط ذاتها من الانحدار إليه.

حَدِّقْ، أو بتعبير أكثر دقة، تَفَرَّسْ، وتفحّصْ وجوهَ المثقفين ذوي الكروش المنتفخة، حين يتوسطون الطاولات على قناة من القنوات، حاول الدخول بملامحهم، في عيونهم، في نبرات أصواتهم، في بسمتهم وهم يرتبون المفردات والأفكار، ببرجوازية العقل، وثراء المنطق، وحين يتقيأون "الحقائق" من أفواه غارقة بطعم الشهد واللحم والطير، وحاول أن تجمع هذه التفاصيل المكررة، لتضعها بإطار مقابل لإطار مفردات الأبطال، ستجد أن مفردات الأبطال محدودة ومعدودة، لكن أفعالهم، وَقْعَ أصواتهم، له مذاق آخر، ونكهة أخرى، لا تلتقي ولا تتفق مع الكروش المعبأة بمائدة القول وماء القلم، ولا تنتمي إلى ربطات العنق المزركشة والملونة بعرق الناس الذين يتمرغون بالعذاب والألم، حتى طعم دموعهم فيه من حَبَقِ الأرض وشهيق التراب كثير الكثير.

للبرتقال بأيديهم لون آخر، متوهج وبراق، ولليمون المغروس فوق قبورهم رائحة الجنة، وطعم الكوثر، هم يا سيدي، شيء مختلف تماما عنا، وعن عوالمنا الغاصة بالترهات والمماحكات، عالمنا المغرق بالبحث عن سبل مفتوحة معبدة دون أن يراها، بل ويدعي أنها غير موجودة، من أجل التمادي بالرحيل من عالم الحقيقة إلى عالم الوهم، من عالم محدد الأطراف والزوايا، إلى عالم يغرق بالتَّفَلُّت والتملُّص من بين أيدينا الملوثة بالنعومة، وعقولنا الملوثة بالبحث المتواصل عن اللاشيء، تحت شعارات البحث عن نهج الخلاص والتحرر.

- ولماذا -مع فهمك العميق لهم ولسرهم- لستَ واحدا منهم؟

- لأنني بكل بساطة، حمَلتُ القلمَ بين أناملي، وقلت: إن القلم والسيف يتفقان.

- وهل هذا عيب وخطأ؟

- بل عار.

- لكن الأمة تحتاج القلم مثلما تحتاج السيف.

- هذا ما ندّعيه نحن، لكن الحقيقة، حقيقة البطولة تقول غير ذلك.

- ماذا تقول؟

- تقول: إن محمدا عليه الصلاة والسلام، حمل الحق المطلق إلى جانب السيف المسلط، وإن صحابته رضوان الله عليهم، الذين حملوا القرآن في صدورهم، كانوا السباقين نحو دوائر البطولة ومربعات الشهادة.

لذلك دخلوا التاريخ من أعلى قِمَمِه، من أعلى أنواره، ولذلك بَقَوْا -هم ومن اقتدى بهم حتى يومنا هذا- مادة أقلامنا، وشخصيات أفكارنا، نقتات من سيرتهم، ونتغنى بأرواحهم، دون أن نصل إلى موطئ أقدامهم التي كانت تضرب الأرض بقوة البطولة، لتظل العلامة الفارقة بين ما هم، وما نحن؟

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين- مخيم طول كرم

النرويج: 27-09-2006

يصادف اليوم الخميس، الخامس من تمّوز الجاري، الذكرى التاسعة والعشرون لرحيل المناضل السياسي الشاعر توفيق زياد ابن مدينتي الناصرة ورئيس بلديتها ابتداءً من عام 1976 حتى رحيله في حادث طرق مرّوع بتاريخ 5/7/1994. ماذا ترانا نقول في هذه الذكرى؟ نعرّف به وبأعماله الادبية؟ أم نتحدّث عن دوره السياسي النضالي. سواء تحدّثنا عن هذا أو ذاك فإننا لن نضيف شيئًا إلى ما سبق وقيل عن حياته وعنه في شتى مجالات اهتمامه، أضف إلى هذا أن ضغطة بسيطة على مفتاح شبكة البحث الالكتروني "غوغل"، تقدّم للإخوة القراء كلّ ما يريدون معرفته عنه.. وأكثر.

عرفت المرحوم توفيق زيّاد عن قُرب، لهذا سأتحدث في ذكراه هذه، عن ملامح عامة في شخصيته. كان زياد ذا شخصية مميّزة، شهد لها الكثيرون بمن فيهم العديد من أخصامه السياسيين مُثنين ومُطرين. فيما يلي أشير إلى بعض من خصاله الشخصية التي لمستها وعرفتها عن قرب.3441 توفيق زياد

التواضع والعُمق.. منذ تعرّفت إليه في أوائل السبعينيات، لمست فيه هذه الخلة. كان ذلك تحديدًا يوم زرته في مكاتب الحزب الشيوعي في الناصرة، وكانت تقوم حينها في منطقة عين العذراء. دخلت إليه بهدف التحدّث عن تجديده أغنية "عذّب الجمّال قلبي يوم نوى ع الرحيل"، وكنت أشعر بنوع غريب من الخجل. عندما لاحظ ارتباكي هذا. دعاني للجلوس قُبالته، قائلًا إنني أنا نفسي جمّال ابن جمّال.. من بسطاء الناس. أضف إلى هذا أن لهذه الأغنية الشعبية أهمية خاصة في ترثنا الشعبي النصراوي. كنت وأنا أستمع إليه وهو يسترسل في شرح وجهة نظره.. أشعر أن كلّ كلمة تقرّبني منه، ولم أخرج من مكتبه، إلا بعد أن أكد لي أنه بإمكاني أن أزوره في مكتبه في أي وقت ومتى أشاء.. "أنا أحب الشباب الطموح.. أفتخر به"، قال وهو يصافحني مصطحبا إياي حتى باب مكتبه... بعدها التقيت به عددًا من المرّات.. معظمها في دكان التذكاريات السياحية بحضور صاحبها الشاعر الصديق المثقّف طه محمد علي، رحمه الله، وأقلها في هذا المقهى أو ذاك من مقاهي بلدتنا القليلة في حينها.

السخرية.. اتصف توفيق زياد كما عرفته بشخصية مرحة ساخرة. لا يتردّد بإطلاق النكتة. عندما تحبك معه، كما يقول إخواننا المصريون. وأذكر في هذا السياق. أن الشاعرة فدوى طوقان ابنة مدينة نابلس، طابت ذكراها، اقترحت عليّ مرافقتها خلال زيارتها للناصرة.. وله خاصة. اتخذ يومها كلّ منّا مجلسه في بيته القائم، حتى هذه الايام في أحد مداخل الحي الشرقي. وشرع برش السجاير علينا نحن ضيوفه. عندما وصل إليّ مدّ عُلبة السجاير نحوي، فقلت له إنني لا أدخّن، فضحك عاليًا وقال لي. عجيب. كلّ هذه الافكار تطلع بدون دخان..

الانفعالية.. غلبت صفة الانفعالية على شخصية توفيق زياد، وكان بإمكان مَن يستمع إليه وهو يخطب أمام جماهيرنا التي أحبته بصدق، ملاحظة أنه لا يخطب في الناس وحسب، وإنما هو يعيش خطبته.. تأثرًا وانفعالًا. ومما أذكره في هذا السياق أن الاديب طه محمد على كان يردّد انك إذا ما دخلت دار السينما واستمعت إلى مَن يصرخ انفعالًا وتماهيًا مع ما يشاهده.. فقل هذا هو توفيق زياد.

طيّب الله ذكرى القائد الشاعر توفيق زيّاد. فقد كان شُعلةً من نور أضاءت في سماء مدينتي الناصرة.. وسوف تواصل إضاءتها.. إلى ما لا نهاية.

*** 

بقلم: ناجي ظاهر

عندما كنّا تدريسيّين في قسم اللغات الاوربية بكليّة الاداب في جامعة بغداد في سبعينيات القرن العشرين، كنّا نحلم (نعم نحلم!) ان ننفصل عن الكلية المذكورة، ونرجع الى كليّة اللغات السابقة، التي ألغوها ودمجوها مع كليّة الاداب حينئذ بقرار ارتجالي بعيد عن الموضوعية العلمية، أقول (كنّا نحلم)، لاننا كنّا نشعر، ان قسم اللغات الاوربية لا يمنحنا حريّة الانطلاق والتطور اللاحق لفروعنا، اذ كان فرع اللغة الانكليزية هو المسيطر، ونحن، فروع اللغات الفرنسية والالمانية والروسية والاسبانية (تابعين!) له ليس الا، او كما علّق أحد الزملاء مرة – نحن (ملحق مجاني !) لقسم اللغة الانكليزية، ولهذا كنّا (نحلم) بالخروج من تبعيّة (لغة الجنرال مود) كما قلت لهم ضاحكا مرة في احدى اجتماعات القسم (بالشقه وغلّ ايدك) حسب مثلنا العراقي العتيد، اذ عبثا كنّا نحاول ان نقنع التدريسيين في فرع اللغة الانكليزية، ان اللغات كافة وتدريّسها ودراستها مهمّة لمسيرة تطور بلدنا وثقافتنا الوطنية، وانه لا توجد لغة أعلى او أدنى في تسلسل تلك اللغات، ولكن بلا جدوى، بل ان فروعنا اقترحت مرّة (من اجل توسيع مدارك الطلبة وتعريفهم باسس الاداب الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية ونحن في قسم واحد اسمه قسم اللغات الاوربية وفي كليّة واحدة اسمها كليّة الاداب !)، اقترحنا تدريس مادة (الادب العالمي) في قسم اللغات الاوربية لفصل دراسي واحد في الصف الثالث والرابع باللغة العربية وبمعدل ساعتين بالاسبوع ليس الا في كل فروع تلك اللغات، مادة تتناول بايجاز المعالم الاساسية لتلك الآداب واهم اعلامها، فاقترحوا في فرع اللغة الانكليزية عندئذ ان نقدم لهم المادة كاملة وجاهزة، وكانت متبلورة بالنسبة لفروعنا الفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية وباللغة العربية، وبعد تقديمنا للمواد، فانهم سيقومون بترجمتها وتدريسها باللغة الانكليزية في فرعهم، وقد قلت لأحد التدريسسن آنذاك، انه يلفظ حتى اسم دستويفسكي بشكل غير صحيح، فكيف يمكن له ان يقوم بتدريس أدبه وفلسفته ويشرح مكانته في الادب الروسي والعالمي، علما انه كان مختصا بقواعد الجملة الانكليزية، ولا علاقة له بتاتا بآداب فرنسا والمانيا واسبانيا وروسيا، ولم يسمع حتى ببعض أعلام تلك الآداب، وكاد هذا المقترح العلمي المهم ان يتلاشى نتيجة لموقف فرع اللغة الانجليزية، وقد (أنقذ!) هذه الخطوة العلمية آنذاك عميد كليّة الاداب، واقترح – كحل وسط - ادخال مادة (الادب العالمي) ضمن مناهج قسم اللغة العربية في كليّة الآداب، باعتبار ان لغة التدريس في ذلك القسم هي العربية، وهذا ما حدث فعلا ...

استمر الوضع بهذا الشكل غير الطبيعي الى عام 1987، حيث صدر ألامر الوزاري باعادة كليّة اللغات (بعد التي واللتيا طبعا، ولا مجال هنا للكلام عن ذلك !)، وهكذا انتقلنا الى كليّة اللغات، بيتنا الطبيعي كما أسمينا تلك الكليّة عندئذ، واصبح لكل لغة من اللغات قسم مستقل خاص بتلك اللغة، وهو الشئ الاكاديمي والموضوعي والصحيح، وكانت هناك في بداية مسيرة تلك الكليّة اقسام للغّات الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية والتركية والعبرية والفارسية، واضيفت اليها بالتدريج أقسام اللغات الايطالية والكردية والسريانية، وهكذا اصبحت كلية اللغات تضمّ (11) قسما علميا متكاملا باساتذته ومكتبته وخططه العلمية من دراسات اولية وعليا...الخ .

الان، وقد مضى على عودة كليّة اللغات (36) سنة بالتمام والكمال، وبعد ان اثبتت اهميتها وجدارتها في الحياة العلمية والثقافية بالعراق، بدأ بعض الزملاء بالكلام عن الانتقال الى مرحلة لاحقة أعلى، وهي ان تتحول كليّة اللغات هذه الى جامعة اللغات، جامعة يمكن ان تضمّ (11) كليّة باكملها، وهكذا يكون فيها كليّة اللغة الانكليزية وآدابها، وكلية اللغة الفرنسية وآدابها، وكلية اللغة الالمانية وآدابها، وكلية اللغة الروسية وآدابها، وكلية اللغة الاسبانية وآدابها، وكلية اللغة الايطالية وآدابها، وكلية اللغة التركية وآدابها، وكلية اللغة العبرية وآدابها، وكلية اللغة الفارسية وآدابها، وكلية اللغة الكردية وآدابها، وكلية اللغة السريانية وآدابها، وسيكون في كل كلية من تلك الكليات اقسام علمية خاصة بتلك اللغة وتاريخها، وآدابها، وحضارتها، والترجمة منها الى العربية، ومن العربية اليها، واقسام علمية اخرى مساعدة لتعميق الدراسات اللغوية، وستكون هذه الجامعة مركزا حيويا ضروريا للحوار بين مجتمعنا والحضارات الاخرى وبلغات تلك الحضارات، اذ ان العلوم كافة تستخدم اللغات للتعبير عن نفسها، اي ان اللغات ضرورية لحياة العلوم وازدهارها، ولهذا يجب رعاية اللغات من اجل رعاية كل العلوم الاخرى .

قال صاحبي المتحمّس لتحويل كلية اللغات في جامعة بغداد الى جامعة اللغات في بغداد، ان الافكار مثل البذور، نزرعها في التربة الصالحة ونسقيها ونرعاها، فتبدأ بالنمو،ثم تقف بشموخ على الارض وتمنحنا الثمار بعدئذ، فقلنا له - ولكن التربة الان غير صالحة اصلا لزراعة هذه الفكرة، اضافة الى أزمة (الجفاف !!!)، التي تخنق الزرع والضرع في بلاد (الرافدين !!!)، فقال – مع ذلك زرعوا فأكلنا، ويجب ان نزرع ليأكلون، فقلنا له – هذه فكرة كبيرة وتحتاج الى ارض فسيحة وجهود هائلة، فقال - طريق بالف ميل يبدأ بخطوة واحدة ... 

***

أ.د. ضياء نافع

مدخل:

الهايكو نوع شعري ونمط وجنس وفضاء ابداعي ياباني الأصل، وقد كانت بداياته قبل أكثر من 700 سنة، وهو يعتمد الطبيعة بكل موجوداتها وكائناتها لكتابتها تصويرياً ومشهدياً وحسّياً وجمالياً في بنيته النصّية.

* ويمكنني القول:

لقد اصبح لنا هايكو عراقي منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث انا كنتُ قد بدأت بكتابة الهايكو في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وكذلك أصبح هناك هايكو عربي في معظم البلدان العربية على أيدي اديبات مبدعات وأدباء شباب مبدعين ورائعين بأفكارهم ورؤاهم ونصوصهم الهايكوية المهمة .

* كما ان الذي اراه مهماً، وهو اننا نحن الهايكويين العراقيين والعرب، كنّا قد سعينا واجتهدنا ومازلنا نسعى ونجتهد من اجل ان يكون لنا الهايكو الخاص بنا، حيث اننا معنيون بتصوير وتدوين تفاصيل طبيعاتنا وبيئاتنا ومشاهدنا الحياتية والواقعية، وذلك من خلال عيوننا/ كاميراتنا البصرية والحسية ورؤانا نحنُ بعيداً عن عالم الآخرين، طبعاً نحن لاننكر مدى استفادتنا الاولى من بعض أفكار ورؤى وتقنيات الآخرين.

 وأعتقد ان هذا امر طبيعي في التأثير والتأثر والاستفادة والإفادة، شأنه في ذلك شأن كل الاداب والفنون والعلوم حتى. أتمنى ان اكون قد قدّمتُ لكُنَّ ولكم: اخواتي وصديقاتي العزيزات، واخوتي واصدقائي الاحبة، وجهة نظر وتعريفاً مجدياً ومُكثّفاً ومُفيداً عن ادب وفن الهايكو الجميل والصعب والعريق . كما ان الذي أراه مهماً، هو اننا نحن الهايكويين العراقيين والعرب، كنّا قد سعينا واجتهدنا ومازلنا نسعى ونجتهد من اجل ان يكون لنا الهايكو الخاص بنا، حيث اننا معنيون بتصوير وتدوين تفاصيل طبيعاتنا وبيئاتنا ومشاهدنا الحياتية والواقعية، وذلك من خلال عيوننا/ كاميراتنا البصرية والحسية ورؤانا نحنُ بعيداً عن عالم الآخرين، طبعاً نحن لاننكر مدى استفادتنا الاولى  من بعض أفكار ورؤى وتقنيات الآخرين، وأعتقد ان هذا امر طبيعي في التأثير والتأثر والاستفادة والإفادة، شأنه في ذلك شأن كل الاداب والفنون والعلوم أَيضاً .

 أتمنى أنْ اكون قد قدّمتُ وجهة نظر وتعريفاً مجدياً ومُكثّفاً ومُفيداً عن ادب وفن الهايكو الجميل والصعب والعريق .

***

سعد جاسم

 

لا يمكن لك أن تمضي خارج أسوار هذا العالم، وأنت مسكون بالخوف، والقلق، فالمسافة الحاضرة بينك، وبين ما لم يتحقق وصولك اليه، تدعوك لأن تواصل الطريق زحفا صوب النقطة القلقة، أن تستأنف المسير دون تردد، انطلاقًا من المنحدر، بحثا عن أعلى درجات التسامي.

هنالك فقط يمكن لك أن تتطهر؛ ترتقي بروحك، وحسك، وقلبك، يصبح لك عقلا، به تشعر أنك تتحرر من القشرة تلك التي تحول بينك، وبين الضجيج.

وبذلك يتاح لك أن تنجو، تتزين بالكبرياء، تشعر أنك قد أصبت الهدف الذي به يتسنى لك أن تحقق صفات وجودك الإنساني- تشعر بالامتنان لنفسك بعد أن تمتلئ بهذا المدى من التوهج، تستعر في أوصالك طاقة غريبة، تزجك نحو المكان، تحلق بك بعيدا، نحو أقصى نقطة من الضوء، لتصبح مثل طائر متألق. هنا تلازما، المواظبة تكرار دائم في مواصلة البحث، إجلالا لسماء كبريائك الأصم.

***

عقيل العبود

محمود درويش، من خلال لوحة من الفسيفساء تكسو جدران إحدى منازل منطقة الرياض بجزيرة جربة , تحدّى الموتَ وحاورَهُ وانتصرَ عليه حينما اعتبرَ أنَّ الفنَ بمضامينهِ الراقيةَ من شعرٍ وأدبٍ وفنونٍ يُمْكنُ له أنْ يُهزِمَ الموتَ بجدارةٍ ، وبلغ به هذا التحدّي حدَ المواجهةِ:

هَزَمَتك يا موتُ الفنونُ جميعُها

هَزَمَتك يا موتُ الأغاني في بلادِ الرافدينِ

مسلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةَ

النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتك

وانتصَرتْ وأفـْلتَ من كمائِنِكَ الخلودُ

فاصنعْ بنا، واصنع بنفسِك ما تُريدُ، هزَمَتكَ يا موتُ،3436 محمود درويش

هذا العمل الفني "جدارية فسيفساء".. ليس بالامر الهين ان يقوم به فنان تشكيلي وموضوع الجدارية الشاعر الفلسطيني العربي الكبير محمود درويش الذي يعد أحد ايقونات الشعر العربي الحديث والذي حلق في سماء العالمية بكل إقتدار ونبوغ لافت.. شاعر فلسطين الأول في كل الأزمنة - إنتاجا غزيرا ونوعيا - جعل من القدس الشريف ورام الله والجليل وطول كرم وغزة وكل مدن وقرى وارياف فلسطين التاريخية الأبية العصية على كل محاولات الإستيطان والتهويد والتشريد....رمزا راسخا في  ذاكرة كل الشعوب الطامحة للتحرر الوطني والإنعتاق الإجتماعي ونبراسا تستلهم منه هذه الشعوب المقهورة الدروب المضاءة بروح المقاومة والممانعة بكل تعبيراتها الفكرية والمدنية والسياسية.. في هذا السياق بادر الفنان التشكيلي التونسي القدير أستاذ الطيب زيود بانجاز جدارية فسيفساء ضخمة في قلب مدينة الرياض التابعة لجزيرة جربة التونسية الفاتنة.3437 محمود درويش

اللافت في هذا الإنجاز التشكيلي النوعي عربيا ان الطيب زيود إبن جزيرة جربة  تحدى إكراهات المرحلة وتجاوز الصعاب بعزيمة المكافحين الأشاوس وقرر إنجاز جدارية فسيفساء عن فقيد الشعر والأدب الفلسطيني والعربي الحديث المرتبط بقضية اهلنا في فلسطين التاريخية الأبية الحالمة في كل لحظة بالحرية والعدالة وتأسيس الدولة الديمقراطية المدنية.. الجدير بالذكر ان مبادرة الفنان التشكيلي التونسي المميز الطيب زيود إنطلقت من حادثة  تمثلت في فسخ  لوحة مجسمة لصورة محمود درويش في قلب مدينة الرياض من طرف بعض الموطنين الذين يرفضون تسمية الرياض مفضلين تسمية " حارة اليهود ".. لا يسعنا في ختام هذه المقالة إلا ان نثمن هذا العمل الفني التشكيلي المميز تونسيا وعربيا ونقول لصاحبه أستاذ الطيب زيود.. شكرا جزيلا على هذه المبادرة الشجاعة ومزيدا من النجاح والتألق والإشعاع العربي والكوني لمسيرته الفنية النيرة.

الفرسان لا يعرفون الهزيمة.. بل يتجهون إلى لهيب المعارك.. كأنهم يعانقون بهاء الحلم.

***

تونس/ كتب البشير عبيد

سأستمرّ بقول: صباح الخير أيها النور

حينها سيبدو الطرف الآخر من العالم بخير

ستشرق الشمس بقلبي

وإن توارت خلف الغياب

سأودعك ليلًا بـ: تصبح على وجودي

واغلق الحياة بعدك

وهي معبأة بوجودك

وانتظر الحلم يأتي بك إليّ

هل هذا حُبّ؟

سألني سَنَام الليل

أنهُ أكثر...

هل هذا حُبّ؟

أسألك؟

***

من وحي رسالة " كافكا " الأخيرة*

* كافكا رائد الكتابة الغرائبية والكابوسية، والذي كان يفضّل حياة العزلة التي تمكنه من عيش معاناته وحيداً، وجد في مراسلاته مع "ميلينا" مخرجاً من تعاسته ووحدته، وقد جمعت هذه الرسائل في كتاب بعنوان (رسائل إلى ميلينا) وهي كاتبة وصحافية ومترجمة تشيكية الجنسية، من النساء المقاومات لإحتلال النازي لبلادها.

عملت ميلينا مترجمة لكتابات كافكا إلى اللغة التشيكية، ومن هنا بدأت رحلة تبادل الرسائل بينهما.

جاء لقاء كافكا بميلينا للمرة الأول في بداية الخريف في شهر أيلول من عام 1919 في أحد مقاهي براغ، حيث اقترحت ميلينا على كافكا أن تترجم أعماله من الألمانية إلى التشيكية .

كانت قصة حبهما غريبة وغير متوقعة، بدأت عن بعد، التقى خلالها العاشقان مرتين، اللقاء الأول مقتضب وشبه صامت، واللقاء الآخر بعد أن ترجمت ميلينا إحدى رواياته.

في رسائله إليها كان يبوح بمكنونات قلبه ويشعر بالسلام الداخلي الذي نادرًا ما نجده عند أي شخص، وكانت تلك الرسائل تختلف تمامًا عما يكتبه في أدبه المشحون بالأجواء التشاؤمية.

وهناك من يعتقد أن مرضهما ساهم في تعميق جذور علاقتهما، فهو كان مصابًا بـ " السل" وهي أصيبت بـ " ذات الرئة" ولم تجد من يقف إلى جانبها غير كافكا ورسائله؛

وقد كتبتُ ذات يوم مقولة عن هذا الأمر:

ويحدث أن يكون الوجع على هيئة حب!

لم تقتصر رسائله على الحب والعاطفة والهيام فقط، بل كان يذّكرها بأهمية وجودها في حياته وقوّة تأثيرها وطاقتها الإيجابية على روحه، وكان يكتب لها عن خوفه من الصراعات بين اليهود والمسيحيين آنذاك- وربما مازالت هذي الصراعات لكن بشكل خفي- كذلك كان يكتب لها عن أحلامه وسعيه لتجاوز إحباطاته المتكررة وقلقه المميت بسبب علاقتهما، حيث كان يعرف أنها علاقة لا تنجب اللقاء الدائم كونه كان مريضًا جدًا وهي كانت سيدة متزوجة.

استمرت هذه المراسلات بينهما ما يقارب ثلاثة أعوام،

رحل في الثالث من يونيو 1924 في براغ عن عمر ناهز 41 عامًا.

- الرسالة الأخيرة من كافكا إلى ميلينا:

كانت الرسالة الأخيرة التي كتبها كافكا إلى ميلينا رسالة وداعية قال فيها:

" كان بإمكاننا إصلاح الأمور، أن تكوني أنت الطرف الأفضل وتتنازلي قليلاً، كما كنت أفعل أنا، كان من الممكن أن تستمري بقول صباح الخير، وأنا بدوري أنتظر الصباح إلّا أن تقوليها، وتودعينني ليلاً، وأغلق الكون بعدك.

ما أشعر به ليس حباً يا ميلينا، أو قد يكون حباً، ولكن ليس كما تتخيلينه، إنه أكبر من ذلك، أنا الآن من دون روح من دون إحساس ومن دون أي شيء، لم أشعر يوماً أنني بحاجة أحد كما أشعر الآن.

صدقيني يا ميلينا أنت روعة الأشياء البائسة، وأنت الحياة لكل جذوري اليابسة، أفتقدك كثيراً، أكثر مما تخيلت أن الفقد مؤلم، ما الفائدة من إغلاقك للأبواب إن كانت روحي عالقة على جدران بيتك؟!

أنت الآن تزيدين البعد شوقاً، أفتقدك

وعد، سيكون هذا آخر ما أكتبه إليك

وداعاً يا عظيمتي.”

صديقاتي..أصدقائي؛ الحب الصادق نعمة عظيمة، الحب البعيد عن "الدغش" و"المُخاتلات"، لأنه يترك قلوبنا ومشاعرنا مشرعة للنور.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

هناك بعض المشاهد الدرامية والمأساوية تتعلق في سقوط غرناطة التي لفتت انتباه الكثير من الكتّاب، وأصبحت مصدر إلهام أدبي.

بحسب الأسطورة والرواية الشعبية فالمكان الذي ألقى منه أبو عبديل اخر ملوك غرناطة نظرته الأخيرة على قصر الحمراء ما زال معروفاً باسم (زفرة العربي الأخيرة) بالإسبانية (el último suspiro del Moro) المشهد الأكثر دراماتيكية ومأساوية في تاريخ الأندلس، حسرة مسلم الاخيرة أو (الزفرة العربي الاخيرة) التي أعطت اسمها لمكان يشمل الضواحي الواقعة حول غرناطة المشهد العاطفي، الذي خلد عبر القرون في الإنتاجات الأدبية والتصويرية و في الأساطير الشعبية.

ما أصل هذه الأسطورة؟ وكيف تم تناقلها عبر القرون؟

يروي الأب إشيفاريا، في القرن الثامن عشر، أنه عندما كان ابو عبديل في طريقه إلى ألبوخاراس وكان يعبر آخر تل يمكن من خلاله رؤية قصر الحمراء، على بعد حوالي 12 كيلومترًا في الجنوب، توقف ونظر الى إرث أجداده للمرة الأخيرة تنهد وقال:

الى الابد يا وطن روحي. أعمل بمشيئة الله.

وايضل تقول الأسطورة انه عندما سلم ابوعبديل مفاتيح مدينة غرناطة إلى القائد دون غتيرث ده كاردنالس  Don Gutiérrez de Cárdenas نيابة عن الملوك الكاثوليك في عام 1492، بدأ أبو عبديل في البكاء فقالت له والدته عائشة الحرة:

ابكِ مثل النسا مُلكا مضاعا

 لم تحافظ عليه مثل الرجال

هذا القول يظهر ضعف أبو عبديل وافتقاره إلى العزيمة.حسنًا، لا شيء من ذلك: لقد كان شجاعًا ومقاتلاً، وقد تجلى ذلك في معركة Loja لوخا،أذا جاء للمشاركة في القتال جنبًا إلى جنب ضد القوات القشتالية. كما اشتهر بأنه "مخادع" ماكر بعد أن تمكن من الاستيلاء على عرش غرناطة من والده، والدفاع عن منصبه ضد عمه المعروف باسم "الزغل".

تدور الأساطير الأخرى التي وجدناها حول لقبه.أصبح Boabdil معروفًا بلقب البائس. قلة من الناس يعرفون ذلك، لكن الملوك الكاثوليك قبضوا على أبو عبديل في اثناء معركة مارتين غونزاليس Martín González. استغل ملك غرناطة الموقف بالتفاوض مع القشتاليين للتنازل عن أراضي المملكة وهكذا ضمن Boabdil إطلاق سراحه، وقمع منافسه في حيازة العرش لكنه لم يّعول على استفادة الملوك الكاثوليك أيضًا من هذه المناورة لتجاوز ما تم الاتفاق عليه، السيطرة على غرناطة بأكملها.

هناك أسطورة أخرى وهي: نفيه بعد الاستيلاء على غرناطة في عام 1492، لم يطرد الملوك الكاثوليك أبو عبديل من إسبانيا، ولكن بدلاً من ذلك عرضوا عليه سيادة ألبوخاراس (الأراضي الواقعة بين غرناطة وألميريا). لكن يُقال أنه كان هناك وجهة نظر ربما من الملك فرديناند الكاثوليكي، الذي اعتقد دائمًا أن وجود أبو عبديل في شبه الجزيرة سيشجع الثورات الإسلامية. وهكذا تقرر إرساله إلى فاس ليقضي فيها بقية أيامه.وفي الوقت نفسه، سيستفيد الملك المخلوع من الموقف عن طريق بيع امتيازاته وأراضيه إلى الملوك الكاثوليك

كانت هذه النسخة الأولى معروفة بالفعل من حياة Boabdil، لذلك لا يمكن استبعاد كونها صحيحة جزئيًا. يروي لنا المؤرخ هيرناندو ديل بولجار Hernando del Pulgar، الذي يروي القصة بهذه الطريقة:

أسطورة كاذبة أو نصف صحيحة، لا تزال أسطورة حسرة مسلم تأسرنا على الرغم من مرور القرون لأنها واحدة من أكثر الأساطير العاطفية التي قدمّها التاريخ والأدب معًا.

حتى اليوم، يتردد صدى عبارة عائشة كمثال في تلك المواقف التي نأسف عليها والتي تصبح مستحيلة في الحياة اليومية.

سنعرض في هذا القسم بعض المقتطفات الشعرية للشعراء الإسبان الذين كتبوا عن المشهد الدرامي الى أبو عبديل:

1. خوسيه زوريلا(José Zorrilla) قصيدة إلى آخر ملوك غرناطة الصغير أبو عبديل.

سرقها بعض الرجال من الشرق

ليجعلوا فيها منزله؛

الرجال الذين جردوا منها،

سبعة قرون بكوا على مدينهم غرناطة.

*

أي، أبو عبديل! انهض واستيقظ،

جهز لجامك وسكينك،

لأن غدا سوف يطرق بابك

صوت جيش قشتالة.

*

أبكي يا ايه الملك بدون قتال

وامل، أبو عبديل،

وتعال في حزنك

لتموت تحت هذه السماء

التي تطفو على ‎نهر شِنِيل

2. قصيدة حسرة مسلم لشاعر بيدرو دي ألاركو (Pedro de Alarcón)

أبو عبديل: كان رجلاً حزينًا ومتشائمًا، لقد وصفه الشاعر ألاركون موكبه عند الخروج من غرناطة على النحو الاتي:

"ذلك الموكب، حزين وغامض

في الليل كان قد غادر سانتافه،

عابر ضفاف النهر بصمت "

لقد كان الرجل الأكثر نبلاً وتكبرًا ومن ناحية أخرى وصفه الشاعر بأنه فخور لأنه حبس الدموع في عينيه أيضًا في لحظة مرور الذكريات.

*

من هو الحزين الذي كان بمفرده؟

أي لعنة وقعت على ذلك الرجل؟

ما هو سوء حظه؟ ما اسمه؟

كان ابو عبديل، ثمرة غضب

من المولى الخداع ومن عائشة الشرسة

ابن الام المدرسة

*

ضد الاب سارق العرش

كان ابوعبديل، نجمه المشؤوم

والديه الذي كلفاه البكاء الابدي

كسر سحر قصر الحمراء الجميل

وأتت النهاية بالإمبراطورية المسلمة ...ا

الملك البائس الذي أثره المؤسف

!كان ابوعبديل,، بيده غير المستحقة

كان قد اعطى مفاتيح قصر الحمراء

كان ابو عبديل في آخر نظرة!

تتجه الابد نحو غرناطة

أبو عبديل حزين! نجمك البائس

لماذا رفض الموت في لوسينا؟ ‎

لم أكن لأرى بعد ذلك بصمته عار

***

أ. م. د. انتظار علي جبر

كلية اللغات، قسم اللغة الاسبانية - جامعة بغداد

وأنت تمرّ من أحد أنهج مدينة تونس العتيقة أو أنت عابر من بطحائها ورأيتَ رجلا يمشي على مَهل كأنه في فُسحة أو نزهة ثم يقف حينا يتأمّل زاوية من الزوايا أو بابا من الأبواب أو تراه وقد أحاط به جَمع من الأطفال أو الشباب أو قافلة من السائحين الأجانب يشرح لهم تاريخ المكان وخصائصه فاعلمْ أنه عاشقُ مدينة تونس المُتيّمُ بحبّها.

ـ2 ـ

هو الدكتور الطبيب وصِفتُه المناسبة والصّحيحة ـ الحكيم ـ إنّه محمد رضا الماجري الذي عرفته عن قرب في السنوات الأخيرة أو بالأحرى بعد ثورة 2011 وقد رأيته وسمعته من قبلُ في بعض المناسبات الثقافية بنادي الطاهر الحداد فشدّ اِنتباهي من وقتذاك سِعةُ اِطلاعه في المواضيع المطروحة بين الحاضرين ولست أدري كيف توطّدت العلاقة بيننا بمناسبة أنشطة جمعية اِبن عرفة في السليمانية قرب جامع الزيتونة فكان حريصا على الحضور والمساهمة في توضيح عديد المسائل الاجتماعية والحضارية والتاريخية والطبية ناهيك أنه يحدّثك حتى عن الفطائر وصنعها وعن إعداد الكسكسي بتفاصيل اِستخراجه بأنواع الغرابيل ويُفصّل لك الوصف في الكسكسي تفصيلا دقيقا حول كيفية إحضاره حسب مختلف الأصناف حسب المدن التونسية وجِهاتها ومقارنة الكسكسي التونسي ببقية الأنواع في البلدان المغاربية وحتى ببعض البلدان الأوروبية ليؤكّد بكلّ هذا الإلمام والتدقيق عبقرية المراة التونسية عبر التاريخ.

عندما دار الحديث بيننا مرّة عن رغبته في أن يكون له مجلس مُخَصّص للقراءات الحرّة من مختلف الكتب والنصوص وبجميع اللغات بلا رقيب أو حسيب سُرعان ما لبّيتُ رغبته بكل سرور فكان ذلك كذلك صباح كل يوم جمعة بجمعية اِبن عرفة الكائنة في فضاء ـ السليمانية ـ ومن يومها والدكتور مُرابط بناديه هذا في موعده ما عدا أيّام العطل الرّسمية أو إذا دُعي لحضور مناسبة طبيّة أكيدة لا يُثنيه عن القدوم إلى ناديه في الموعد بالضبط ـ بل قبل خمس دقائق ـ لا الحرُّ ولا القَرّ ولا الأمطار ولا الرّياح.

ـ3 ـ

درس الدكتور الطب بفرنسا وعاش هناك أحداث ماي 1968 بإرهاصاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية وخالط الكثيرين من مثقّفيها وفلاسفتها وأدبائها من المستشرقين أيضا فيحدثك عن بعض تفاصيل مسيرتهم وخصائص أفكارهم وحتّى عن كتبهم حديث يَقين العارف فهو ليس من أولئك الذين يزعمون القول على عواهنه مَثَلُهم مَثَلُ – طُز ْ حِكمة – ويتذكّر الدكتور سفره إلى فرنسا بعد نجاحه في الباكالوريا إذ جاء رجل من الوزارة يسعى بهندام محترم ودقّ باب منزله وقدّم له ما يفيد أنه تحصّل على منحة لمواصلة تعليمه العالي والدكتور يستحضر ذلك اِعتزازًا منه بدولة الاِستقلال التي كانت تشجّع على طلب العلم وتجتهد في فتح الأبواب أمام أصحاب الكفاءات والمواهب في جميع المجالات ومن جميع جهات البلاد وهو لا ينسى أبدا فضل معلّميه وأساتذته وكم هو فخور بأنه درس اللغة والأدب العربي على أيدي الأساتذة الشاذلي القليبي ومصطفى الفيلالي ومحجوب بن ميلاد الذي تتلمذتُ إليه أنا أيضا في كلية الآداب بتونس فاِبتهج الدكتور لذلك ـ والحقَّ أقول ـ إنّ اِبتهاحي كان أكثر لأني صرت إليه زميلا أو كزميل دراسة بطريقة من الطرق والدكتور عندما يذكرهم فإنه يؤكد بإعجاب أنه تعلّم عنهم دقة اللغة العربية واِكتشف معهم جماليتها وأنه اِستفاد منهم أيضا عندما كان ضمن اللجنة العربية المختصة في تعريب المصطلحات الطبيية.

ـ4 ـ

الدكتور يذكر دائما بكثير من المودّة صديقه ـ حمادي الصّيد ـ وكيف كان يعاقبه الأستاذ الشاذلي القليبي وذلك بأن يقف على رجل واحدة في إحدى زوايا قاعة الدّرس وهو الذي كان قد دعاه بعد ذلك ليكون من مساعديه في الإذاعة الوطنية عندما تولّى إدارتها وفي هذا السياق يتحدث الدكتور عن ذكرياته مع الشاعر مصطفى خريف ذاكرا بعض طرائفه ليصل الحديث معه إلى جماعة أدباء تحت السّور الذين أدرك البعض منهم فيذكر مثلا قصة أغنية ـ حبّي يتبدل يتجدد ـ للفنان الهادي الجويني وكيف اِلتقط قِطع أوراقها الممزّقة من صاحبها الأديب علي الدوعاجي على إثر خلاف أو شجار بين الحاضرين في مقهى ـ تحت السّور ـ بباب سويقة.

والآن وهنا…. يصل بنا الحديث إلى باب سويقة مع الدكتور فهذا الحيّ الشعبيّ العتيق بتونس العاصمة هو ملخّص حياة الدكتور وكُنهُها ومدارُ ذكرياته في مختلف أرجائه ونواحيه اِنطلاقا من ساحته الفيحاء إلى بطحاء الحلفاوين ومن مقام سيدي محرز وسُوقه إلى بطحاء ـ رحيبة سيدي الجبالي ـ حيث نشأ الدكتور وترعرع ففي هذا الفضاء العمراني من تونس العاصمة يَكمُن مَخزن عارم لأرشيف هائل يحفظ ذكريات الدكتو رالزاخرة بالأحداث البسيطة والجليلة من ذكرى السّهرات العائلية إلى ذكرى عودة الزّعيم بورقيبة في غرة جوان 1955 وهو أرشيف يحفظ سيرة شخصيات مازالت ذكراها طافحة في خيال الدكتور الذي يصرّح أنه تأثّر بها بل وتعلّم منها ما لم يتعلمه في المدرسة والمعهد أو الكليّة فتسمعه يذكر بمتعة أخبار الشيخ ـ سيدي على بلخوجة ـ الذي رغم منزلته الدينية والاِجتماعية الجليلة فإنه كان قريبا من النّاس بفضل الأريحية وروح المرح والشخصية الاجتماعية التي يتميّز بها ويحدّثك الدكتور بإعجاب عن مغامرات ـ عليّ شورّب ـ المعروف ببلطجيته وصعلكته لكنه عند حلول شهر رمضان يمكنك أن تجده في المسجد يصلّي التراويح وتراه مارّا بين الدكاكين يأخذ من الباعة ـ رضي منهم من رضي وكره من كره ـ ما يحتاجه المُعوِزُون في الحيّ لإعداد عَشائهم فكأنه ـ عُروة الصعاليك ـ في العصر الجاهلي ويذكر الدكتور أنّ ـ علي شورّب ـ جاء إلى العائلة مسرورا مهنّئا حاملا المشروبات بمناسبة حصوله على الباكالوريا.

ـ5 ـ

هذا التنوّع والاِحتلاف والتعدّد في الشخصيات التي عرفها الدكتور هو الذي طبع شخصيته المنفتحة فهو كثيرا ما يقول إنه قد عاش التنوّع الحضاري منذ تشكّل وعيُه حيث ينطلق من حيّ باب سويقة ذي الطابع التونسي ثم يمرّ في طريقه ـ إلى ـ معهد كارنو ـ على الحيّ اليهودي بحيّ الحفصية وباب قرطاجنّة كي يصل إلى الحيّ الأوروبي حيث المعهد فالدكتور عارف بأحياء العاصمة تونس حيّا حيّا وبطحاءَ بطحاءَ وساحة ساخةً وشارعًا شارعًا ونهجًا نهجًا وزُقاقًا زقاقًا وأقول سُوقًا سُوقًا وبنايةً بنايةً وبابًا بابًا وأحسبني على يقين لأنه يُبيّن لك معنى اِسم كلّ منها وسبب تسميته وطرائف نقل الاِسم إلى اللغة الفرنسية بما يأتي بالغريب والعجيب فحدّثنا مرّة أنه كان في لجنة من اللّجان المكلّفة بأسماء الشوارع والأنهج الجديدة في أحد الأحياء الجديدة ورأت اللجنة أن تسمّيَ البعض منها بأسماء الشهداء والمناضلين القدامى فأسندت اللجنة اِسم الشهيد البطل ـ مصباح الجربوع ـ لأحد الأنهج غير أنّ هذا الاِسم لم يرُق لبعض الوجهاء الساكنين في الحيّ فطالب بما له من نفوذ أن يغيّروا الاِسم باِسم آخر حَسَنِ المعنى ونزولا عند رغبة ذلك السيّد تغيّر الاسم وأصبح ـ نوّار عشيّة ـ أو ـ مِسك الليل ـ فتمّت ترجمة الاسم المقترح: belle de nuit فتراجع ذلك السيّد غاضبا معبّرا عن رفضه للاِسم الجديد لأنه سيّء الإيحاء في اللغة الفرنسية.

ـ6 ـ

وللدكتور وَلعٌ كبير باللّغة عامّة وباللغة التونسية خاصة فتراه يسعى إلى التذكير باللغة اليومية الجميلة التي كان يستعملها التونسيون بما فيها من دقّة وظُرف ويُبدي اِزدراءه من أحاديث القوم الهجينة في خطاباتهم اليومية إذ يراها خليطا متنافرًا من الفصحى والفرنسية حتّى في وسائل الإعلام من إذاعات وتلفزيونات وفي نصوص الإعلانات والرسائل القصيرة عبر وسائل الاِتصال وكم من مرّة يحدّثنا عن أصول بعض الكلمات وقد رجع إلى لسان العرب وإلى اللغات الأخرى مثل الأمازيغية واللاتينية والإسبانية والتركية والفارسية وغيرها فكثير من الكلمات التي نتكلم بها يوميًّا تعود في أصولها إلى هذه اللغات كالعلّوش والبرشني والسّردوك والكوجينا والفكرون والدّورُو وغيرها فالدكتور تونسيّ اللّسان والوجدان والهندام أيضا فتراه ـ يحطّ الحطّة ـ أي في ـ أحسن هندام ـ باللباس التونسي الأصيل من الجبّة ذات الصدريّة والبدعيّة والمنتان والشّملة على الكتف والشاشية مع البرنس إذا فرض الطقس ذلك وكلها تبدو في تناسق سنفونيّ بديع وترى كذلك صديقي الدكتور أيضا في المناسبات الرّسمية أيضا: tiré à quatre épingles

أي في أناقة كاملة باللّباس الإفرنجي في اِنسجام وتمام بين الألوان من الحذاء إلى رباط العنق ومنديل الجيب فتبارك الله أحسنُ الخالقين لطلعته البهيّة يزيدُه الوقارَ عكّازهُ المنسجمُ وقعُهُ مع إيقاع خُطاه في ثبات واِتّزان متّعه اللّه بالصحّة والعافية وطول العمر فالحديث معه فائدة ومعرفة والجلوس إليه متعة وأنس.

ـ 7 ـ

ويحدّثك الدكتور في سياق ما يحدّثك عن لقبه العائلي ونِسبته إلى قبيلة ماجر التي يفخَر بالانتساب إليها فقد جاء والده من مضارب ربوع القصرين إلى العاصمة في مُقتبل العمر فنشأ فيها وترعرع وتوظّف ومنها تزوّج لكنه كان يُنسَب دائما إلى كونه من ـ ماجر ـ فهو الماجري دائما كي لا يلتبس اِسمه مع العائلات التونسية القديمة في العاصمة بل في المدينة العتيقة أساسا وللدكتور تفاصيل في هذه المسألة التي كانت في العهود السابقة تعبّر عن تفرقة بين سكان العاصمة الأصيلين وبين القادمين عليها من مختلف الجهات التي ينسبونهم إليها بل إن الدكتور يرى أن التفرقة لم يسلم منها حتى سكان العاصمة أنفسهم فالفرق لديهم واضح بين من كانت عائلته داخل السّور الأصلي وبين الذي كانت عائلته من سكان خارج السّور الأصلي أي من حيّ باب سويقة والحلفاوين وباب الجديد وباب الجزيرة وغيرها ويؤكّد الدكتور دائما على النواحي السلبية لهذه العقلية المحافظة والتي نجدها أيضا مبثوثة في بقية المدن مع الأسف وإنّ تمسّك الدكتور بمحبّة حَيّه الأصليّ ـ باب سويقة ـ هو الذي جعله يفتح عيادته الطبية الخاصّة في تلك الناحية ويبني منزله قريبا منه أيضا على عكس الكثيرين من أصيلي تلك المنطقة التي رحلوا عنها وهجروها لكن الدكتور ظل وفيّا للنّاس الذين اِحتضنوه يتيمًا وأحاطوا به صغيرا وشجّعوه على الترقّي في مدارج العلم والمعرفة فاِحترموه طبيبا بينهم وبَوّؤُوه مراتب التبجيل والإجلال.

ـ8 ـ

ما يشغل الدكتور وما يجعله على ما لا يُرام هو أسفُه الشديد على ظروف تونس السيئة فتونس يرى أنّها ثريّة بعديد المواهب والطاقات في جميع المجالات وأنها زاخرة بالكفاءات العالية التي لو يتمّ توظيفها على قاعدة الرّجل المناسب في المكان المناسب لرأينا البلاد أحسن بكثير ممّا تعيش فيه الآن من بؤس وتدهورعلى جميع المستويات.

وكم الدكتور يحاول في كل يوم وفي كل مناسبة أن ينشر حُبّ المطالعة والكتاب بين الأطفال والشباب وحتى بين الكهول والشيوخ وهو الحريص على إبلاغ الناس جميعا والأجيال الجديدة خاصة ما لتونس وشعبها من عبقرية وإنجازات في شتّى الميادين ساهمت بها عبر التاريخ في الحضارة الإنسانية.

ـ9 ـ

الدكتور مثال لقول الجاحظ ـ الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف ـ فهو إذا حدّثك عن الطبّ أفاد وإذا تكلّم في الحضارة والتاريخ تبحّر وإذا تطارحتم في كلمة من الكلمات فصّل وشرح وإذا ذُكر عنوان كتاب ذكر لك ما فيه وبسط القول حول صاحبه وإذا دار الحديث عن أيّ مكان من العاصمة تونس فإنه يرجع بك إلى أصله وأطواره ووقائعه في إمتاع فلا تملّ من حديثه أبدا ,

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

الكتابة مرتبطة في أذهان كثير من الكتاب المبدعين باقتناص لحظات الألم والوجع والفقد والبحث عن مخرج في متاهة الحياة، بل هناك من يتخذ من الكتاب العالميين الغارقين في السوداوية والحزن قدوة له، مثل:

الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه  (1844-1900) منظّر فلسفة «إرادة القوة» الذي عاش  طفولة قاسية  جدا حيث فقد  أباه وأخاه  وهو في الرابعة من عمره، واتصفت والدته بضعف الشخصية فهذه البيئة الأسرية الصعبة دفعته إلى الجنون "جنون العظمة"

وكان كثير ما يردد ألفاظ الجنون في كتاباته.

والشاعر الألماني فريدرش  هولدرلين الذي يعتبر من أهم الشعراء في العالم، أصيب بمرض عصبي فقد أمضى نصف عمره تقريبا في بحر الجنون وسار في طريق هؤلاء المبدعين الذين نظروا للحياة بمنظار أسود.

ولكن الوجه الآخر من الكتابة المنسي في كثير من الأحيان هو أن الكتابة هي مصدر للفرح والسرور والسعادة فالكاتب كما يعيش لحظات الألم والوجع يعيش أيضا لحظات الفرح فيقتنص الفرص والمناسبات مثل الأعياد ليعبر عن مباهج النفس وفرحة القلب وانفتاحه على عوالم السعادة المشرقة فلا يوجد أعظم من نشر الفرح إبداعيا فيجسد القاص والروائي في أعماله السردية هذا الفرح حتى يشعر القارئ  أن هناك املا في الحياة مهما ادلهمت الليالي واسودت ايامها..

فيا معشر الكتاب اكتبوا عن الفرح وانشروا ثقافة الفرح وانخذوا العقلاء والحكماء المتبصرين من الكتاب والمفكرين قدوة وليس المجانين والبويهميبن والمشردين والمعقدين نفسيا والملحدين فهؤلاء يحتاجون إلى الشفقة والعلاج.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

(1905-1980)

اختارها وترجمها عن الانگليزية بتصرف:

مصدق الحبيب

***

- في الحب 1 + 1 = 1

- الافضل ان نموت ونحن واقفون على ان نحيى راكعون.

- الكلمة سلاح معبأ بالرصاص وجاهز للاطلاق!

- كل ما موجود من احياء في هذا الكون، ولد دون سبب، لكن عليه ان يحيى ويقاوم كل الصعاب لكي يموت بعدئذ دون موعد!

- سيأتي الموت عاجلا ام آجلا، وسيكون ذلك بمثابة الوصول الى نهاية خط السباق، وستزول كينونتنا لاننا لاشئ سوى حياة محكومة بالفناء.

- الحياة تبدأ عند الجانب الآخر من اليأس.

- حياتنا تبدأ كصفحة فارغة، ونحن الذين نكتب فيها معناها، ونصنع لها قيمتها.

- مثل كل الحالمين، فقد تصورت الاوهام وكأنها حقائق.

- لم أعد اعرف ما اريد!  فإن سعيت لاشباع رغباتي سأرتكب الخطايا، وان عزفت عن ذلك فسأكون قد سممت وجداني.

- ليس المرء كما هو كائن، بل كما يمكن له ان يكون.

- ليس الله سوى عزلة الانسان

- ان كنت تشعر بالوحشة والتوحد عندما تكون لوحدك، فانك في حال يرثى لها.

- الشخص الوحيد الذي لايجدّف، هو القادر على ان يهز القارب

- أنا موجود لانني افكر، لكنني افكر بـ "لماذا افكر"، ذلك انني لا اريد ان افكر.

***

تأتي التغيرات المناخية في مقدمة التحديات التي تواجهها صناعة السياحة والسفر في السنوات الأخيرة، ويعزى ذلك إلى طبيعة هذه الصناعة وحساسيتها الشديدة تجاه التغيرات عموما، طبيعية كانت أو اقتصادية أو سياسية وغيرها. وللدور المهم للعامل المناخي في تكوين وتشكيل النشاطات السياحية نفسها، وفي تحديد اتجاهات السياح نحو المناطق والوجهات السياحية، واختيارهم لوسائل النقل من أجل الوصول اليها، ولأماكن الايواء والطعام والشراب، ولنوعية المستلزمات المستخدمة في رحلاتهم، وفي مقدمتها الملابس التي سيرتدونها خلالها.

أما ظاهرة التغيرات المناخية (الزلازل، البراكين، الجفاف والتصحر والقحط، الاحتباس الحراري، تملح التربة الساحلية والمياه الجوفية، الفيضانات والأعاصير وموجات المد العاتية – التسونامي نتيجة حدوث البراكين والزلازل في قاع البحار والمحيطات، تراجع نسب المتساقطات – الثلوج والامطار والندى، ارتفاع مستوى مياه البحار، انتشار الأوبئة والامراض، فقدان التنوع الحيوي، تراجع الصحة البشرية، تراجع الإنتاج الزراعي، انتشار الحشرات المضرة بالمزروعات... الخ) والناجمة عن عوامل بشرية (احراق المخلفات الصناعية، عوادم السيارات، حروب وصراعات، تشغيل محطات الطاقة، تجارب على الأسلحة، احراق الوقود الاحفوري – الغاز والنفط -، احراق مخلفات المحاصيل الزراعية والفحم... الخ) وطبيعية (النشاط الشمسي، فلكية - الانفجارات البركانية... الخ)، فتمثل هي الأخرى تحديا قويا ومشكلة بيئية شاملة وواسعة التأثير جغرافيا ونوعيا من حيث شمولها لكافة بقاع واصقاع كرتنا الأرضية، وانعكاسها على جميع مناحي الحياة البشرية على نحو بين. ومن ضمنها أنشطة السياحة والسفر.

وقد انعكست التغيرات المناخية على صناعة السياحة والسفر سلبا بعدة وجوه، ومنها: أولا: تراجع بعض أنواع واشكال السياحات البحرية والنهرية، مثل الغطس والسباحة وركوب الزوارق والكاياك والصيد وركوب الأمواج (الركمجة). كما حصل في المنطقة الساحلية في دلتا مصر في السنوات الأخيرة. وايضا في تشيلي اثر الزلزال الذي ضرب سواحلها عام 2010. ثانيا: تأجيل والغاء الرحلات الجوية واغلاق المجال الجوي بوجه الطائرات بسبب سحب الدخان البركانية وغيرها من التأثيرات الطبيعية. كما حصل في أوروبا وأجزاء أخرى من العالم عام 2010 عندما ثار احد البراكين تحت كتلة (يوجافجالاجوكول) الجليدية في ايسلاندا. وأفضى إلى تعثر حركة الأشخاص والبضائع في الدول الأوروبية وغيرها، وتسبب في هبوط اسهم شركة الطيران في تداولات البورصات الأوروبية، وتضررت شركات التأمين. ثالثا: تراجع الرياضات والأنشطة السياحية التي تزاول في الجبال والمرتفعات نتيجة النقص الحاصل في كميات الثلوج المتساقطة عليها، مثل التزلج وركوب العربات التي تجرها الحيوانات. كما حصل في بعض البلدان الأوروبية المعروفة بمنتجعاتها الجبلية التي تمارس فيها في الشتاء هذه الرياضات والألعاب. رابعا: تأثر عناصر جذب طبيعية مثل الشعاب المرجانية وتراجع أنماط وأشكال سياحية مختلفة مرتبطة بها مثل الغوص ومراقبة الشعاب المرجانية والاحياء البحرية. كما حصل في ماليزيا حيث انحسرت مساحات من هذه الشعاب بسبب التغير المناخي والتلوث، واصيبت بالابيضاض. أو كما حصل لطيور (الاكينا) الجميلة الجذابة في جزيرة (ماوي) في هاواي، اذ أصيبت اعداد كبيرة منها بالملاريا عندما هوجمت من قبل جيوش البعوض الهارب من المناطق الغربية التي ارتفعت فيها درجة الحرارة، الامر الذي أثر سلبا على سياحة مراقبة وتصوير الطيور في الجزيرة. أو الفراشات الزرقاء القزمة التي تعيش في أعالي جبل (سانت كاترين) (1800 متر فوق سطح البحر) في سيناء بجمهورية مصر العربية، الامر الذي أثر سلبا على سياحة مراقبة الفراشات الملونة في المنطقة. أو حيتان (الاوركا) التي تراجعت أعدادها بين السواحل الكندية والارخبيل من (400) إلى (200) نتيجة الانخفاض الحراري وتداعياته على مصادر الغذاء لهذه الحيوانات (سمك السلمون)، الامر الذي يتطلب عدة مئات من السنوات من أجل التعويض الطبيعي في أعداد هذه الحيتان التي تتكاثر ببطء. وهذا ما أثر على أعداد وأحجام المجاميع السياحية المتوجهة على هذه المنطقة من أجل مشاهدة ومراقبة وتصوير الحيتان. خامسا: تكبد المرافق والمنشآت السياحية والفندقية وغيرها من مكونات البنية الفوقية للسياحة لخسائر كبيرة جراء هذه التغيرات، خصوصا تلك الواقعة في الجزر وعلى السواحل والغابات. كما حدث لمنتجع (بنانغ) ومنتجع (لانغاوي) في ماليزيا ومنشآت (بوكيت) في تايلاند ومنتجعات جزيرة (ملكة البحر) السريلانكية اثر موجات المد الزلزالية التي ضربت سواحل تايلاند وسريلانكا والهند واندونيسيا وغيرها في كانون الثاني 2004، نتيجة لهزة أرضية عنيفة (9،3 درجات على مقياس ريختر). وأيضا باكستان اثر تعرضها لموجة سيول وأمطار عارمة تسببت بها الامطار الموسمية عام 2010. سادسا: تضرر البنية التحتية للسياحة المتمثلة في المطارات والموانىء البحرية وسكك الحديد وشبكات الطرق والجسور وغيرها، كما حصل في اليابان عام 2011 اثر سلسلة هزات أرضية وموجات مد عارمة (تسونامي) ضربت أراضيها وامتدت بعيدا لتصل شواطئ استراليا وأمريكا ونيوزيلندا. سابعا: حصول تحول في اتجاهات واختيارات السياح من المناطق والمقاصد السياحية المنكوبة والمتضررة جراء التغيرات المناخية

الى المناطق والمقاصد الامنة. الامر الذي أفضى على نمو السياحة الداخلية في الكثير من البلدان وعلى حساب السياحة الدولية. كما حصل بالنسبة لأستراليا اثر تعرض ولاية (كوينزلاند) في الوسط ومناطق متعددة في الجنوب والشرق على اعصار استوائي شديد.

***

بنيامين يوخنا دانيال

ربطتني بالدكتور البروفيسور الراحل جورج جرجورة قنازع (1941/ 14-5-2021)، علاقة مودة واحترام خلال العشرات من السنين، وقد التقيت به عبر مستويين أحدهما الادبي الثقافي والآخر الشخصي اليومي. هذه الرابطة توطّدت يومًا بعد يوم، شهرًا إثر شهر وعامًا عقب عام، وكنت أشعر كلّما التقينا بأنني إنما أقف أمام رجل علم وثقافة من بلدي تخرّجت على يديه أجيالٌ وأجيال من طالبي العلوم العالية وشُداتها لا سيما في الفترة التي شغل فيها منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة حيفا. ويهمني أن أشير هنا إلى أن المرحوم وضع ونشر العديد من الاعمال الادبية الثقافية باللغتين، العربية والانجليزية من مؤلفاته نشير إلى: ديوان العسكري (تحقيق) دمشق، مجمع اللغة العربية 1980 .*إصلاح ما غلط به أبو عبد الله النمري مما فسّره من أبيات الحماسة أولًا وثانيًا للأعرابي الأسود (تحقيق ودراسة) * فصول التماثيل في تباشير السرور للشاعر عبد الله بن المعتز (تحقيق ودراسة)، بالاشتراك مع الدكتور فهد أبو خضرة .

كما يحدث عادة بين أبناء البلدة الواحدة الصغيرة، تعرّفت على فقيدنا الغالي في طفولتي، وذلك عبر استماعي لاسمه يتردّد في الحارة التي أقمنا فيها، نحن ابناء العائلة المهجرة من قريتها سيرين، حي الصفافرة، وكثيرًا ما كنتُ استمع إلى اسمه يتردّد بنوع من التبجيل والاحترام له كإنسان وطالب علم مجتهد، عرفته المحافل العلمية العليا في الخارج والداخل، بمثابرته وإصراره على تحصل العلم. ويمضي الزمن لألتقي به برفقة رهط من الاصدقاء ليخبرني أن هناك قصصًا قصيرة من إنتاجي يتمُّ تدريسُها في جامعة حيفا وأنه دائم التفكير في تسليط الضوء على كتابنا وكتاباتنا الادبية المحلية، موضّحًا أن هذا واحد من المهمات التي شرع بتشجيعها خدمة لأدبنا وتعزيزًا للعلاقة المفترض تنميتُها وتقويتُها بين مبدعينا وبين اخوانهم من جمهور الطلاب الجامعيين.

سرّني موقفه هذا في حينها، فأنا أرى، إضافة إلى ما قاله وتفضّل به أمامي، أن العلاقة بين المبدع العربي والجمهور المتلقي في كل بلاد الدنيا وفي بلادنا خاصةً، يجب أن تُنمّى لتطرح ثمرها ويؤتى أكلها، وكثيرًا ما كنتُ أتساءل، وأنا أرى إلى الاهتمام المتزايد من جمهورنا، قراءً عاديين وطلابَ دراسات عليا، بما ينتجه المبدعون في شتى بقاع العالم متناسين أن لدينا مبدعين وإبداعات لا تقلُّ أهميةً، فأتساءل: أليس الاجدر أن يعرف أحدُنا الآخر قبل أن يعرف آخرين وثقافات أخرى، وكثيرًا ما كنتُ أردّد المثلَ السائرَ: "اللي بشلح اثوابه بعرى". فلماذا يعيش الكثيرون بين ظهرانينا مثل هكذا عُري، بل لماذا يقبلون به، وقد قادني هكذا وضع إلى التعمّق في دراسة المحلية والعالمية/ مع أنني أفضل كلمة الاجنبية بدل العالمية هذه، فرأيت في أكثر من مقالةٍ وكتابةٍ نشرتُها خلالَ السنوات المديدة الماضية، واطّلع عليها قراءٌ في بلادنا والخارج، أن المحلية هي رسولُنا إلى الشعوب الاخرى في شتى أصقاع العالم، وكنت أخلُص إلى أن انتشار الانتاج الادبي و عالميته تكمن في محليته، وأن الابداع بشتى أنواعهِ خاصةً الادبي، كلّما أوغل في محليته وصلَ إلى عالميته أو العالم. كان هذا بالطبع في تلك الفترة البعيدة، وقد التفت الكثيرون بعدها إلى أهمية دراسة أدبنا المحلي.. فكان لهم ما أرادوه إلى حدّ بعيد.

ما حدث بعد ذلك اللقاء أن احترامي للجار العالِم الجليل جورج قنازع نما وازداد واتسعت دائرتُه، فقد التقينا، هو وأنا، في نقطةٍ مركّزة، محددةٍ وذات حساسية بالنسبة لي .. لها موقعُها المحوري والخاص في تفكيري وحياتي، لهذا ما إن كان يزورنا في مجلة "المواكب"، التي كانت تصدر في حينها، وأذكر بكثير من الحنين إلى أيامها الطيبة العذبة أنني عملت حينها محررًا فيها.. أقول ما كان يزورنا حتى أجلس إليه برفقة الاخوة محرري المجلة، أذكر منهم الشعراء والكتاب: فوزي جريس عبد الله، جمال قعوار، ادمون شحادة، طابت ذكراهم، إضافة إلى الصديق المثقف والباحث الادبي الاستاذ عطاالله جبر أطال الله في عمره، لنتبادل الآراء والافكار في الادب والحياة، وكان جورج معجبًا بـ "المواكب"، كونها كرّست نفسها لنشر الابداعات الادبية المحلية ووضعت نشرها هذه الابداعات في أعلى سُلم أولياتِها.

اللقاءاتُ بجورج تتالت بصورة متقطعة جدًا لكن ثرية، وأذكر منها لقاءين لا يمكن أن أنساهما، كان الأول عندما توفّى الله والدته، فقمنا في هيئة تحرير المواكب بزيارته في بيته القائم، حينها في حي الروم.. في ناصرتنا المشتركة، لتقديم واجب العزاء، وأذكر أننا واصلنا في ذلك اللقاء أحاديثَنا عن الادب والادباء المحليين، وتوجّناه، بصورة عامة، بالتعريج على أهمية الأم في حياة الابناء، مشيرين أن رحيلها يُعتبر الخسارة الصعبة بل الاصعب في الحياة. اللقاء الثاني تمّ قبل سنوات، عندما أرادت مدرسةُ ابن عامر الابتدائية، القائمة بالقرب من بيته الخاص، في حي الفاخورة النصراوي، أن تقيم احتفالًا بهيجًا في نهاية احدى السنوات، وتم الاتفاق بين إدارة المدرسة ممثلةً بمديرتها الفاضلة السيدة سلوى زعبي وبيني، أنا مُعلّم الكتابة الابداعية في المدرسة، على أن ندعو جارَ المدرسة البروفيسور جورج قنازع لحضور ذلك الاحتفال والقاء كلمة، وما زلت أذكر ردّ فعله الطيب عندما قُلت له إن المدرسة تتشرف بمشاركته في احتفال التخرج ذاك. في يوم الاحتفال حضر المرحوم مبكرًا وقبل موعد الاحتفال بحوالي نصف الساعة، وقد كان يشعُّ محبةً ومودةً وألقى في الاحتفال كلمة مقتضبة حيا فيها الهيئة التدريسية وطلابَ المدرسة، وحثّهم على طلب العلم فنحن العرب لن نتقدم ونلحق بركب الشعوب السباقة المتطورة إلا بالعلم، وقد لاقت كلمته هذه صدىً طيبًا لدى إدارة المدرسة فكرّمته بمنحه شهادة تقديرية رسمت الابتسامةَ الواسعة على وجهه الوديع وتغره البسّام.

رحم الله فقيدنا الطيب، فقد كان رجلَ علم واسعَ الاطلاع، عُرف بتواضعه ودماثة أخلاقه، وقد درس الحضارة العربية إلى جانب اللغة الانجليزية، مشبّكًا بين الثقافات والحضارات، ورائيًا أن من لا ماضي له لا مستقبل له، وأننا إذا ما اردنا أن نفهمَ الحاضرَ علينا أن ندرس الماضي، كما ردد أكثر من مرة.. وفي أكثر من لقاء.

***

ناجي ظاهر

تاريخُ ميلاده غيرُ ذلك الذي في دفاتره المدرسية والجامعيّة ولا حتّى في أوراقه العسكرية والإدارية وليس ذاك المُسَجّل في البطاقة الشخصيّة وفي جواز سَفره

تقول أمُّه إنها وضعته عند الحصاد ولم يكن والدُه حاضرًا وقتَها فقد كان يعمل في تونس العاصمة... ذلك عهدٌ لم تكن الإدارة موجودةً ولا قريبة من – بئر الكرمة – القريبِ من بلد ـ غُمْراسِنْ ـ حيث رُبوعُ أهله الممتدّةُ على مدى البصر في الجنوب التونسي .

كان الثّالث في المواليد

أختُه ـ آسيا ـ هي الأولى وقد تُوفّيت بعد شُهور

أخوه ـ الحبيب ـ مات وقد قارب عامه الأوّل

وشاء اللّهُ للمولود الثّالث أن يعيش مِنْ بعدهما شهورًا حتى بلغ عامه الثّاني وبعد أن تأكّدت العائلةُ أن الموت لن يخطفه ـ مثل أخته وأخيه ـ قرّرتْ بالإجماع تسميته باِسم جدّه فقصد أبوه يومَ السّوق الأسبوعية شيخَ البلد وسجّله في دفتره بتاريخ ذلك اليومِ ـ وهو اليومُ السّابع من الشّهر الثامن من سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وألف ـ لذلك يرى لزوم ما لا يلزم أن يحتفل بعيد ميلاده الذي لم ينتبه له أحدٌ قبل بلوغه العشرين وشكرا على كل حال لمن يُهنئنه ويذكّره بالمناسبة .

أمّا اِقتراحُ اِسمِه فقد اِتّخذه مجلسُ العائلة برئاسة الجدّات اللّواتي اِتّفقن بالإجماع أن يكون اِسمُ الحفيد الأوّل على اِسم جدّه وذلك على سُنّة قومه وتقاليدهم منذ سابق الدّهور جيلا بعد جيل.

وحكاية اِسمه…ما حكاية اِسمه؟

تَسَمّى على اِسم جدّه الذي تَسمّى على الفارس والشّاعر اللّيبي ـ سُوف المحمودي ـ الذي ذاع صيته وقتذاك أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكلمة ـ سُوف ـ في اللغة العربية تعني الرّمل الرقيق الليّن أما في اللغة الأمازيغية فهي تعني ـ الوادي ـ والكلمة هي اِسم مدينة – وادي سُوف – في الجزائر وتعني كذلك اسم مدينة ـ سُوف الجين ـ أي الوادي الكبير وهي تقع في جنوب ليبيا وثمّة مدينة في بلاد الأردن قرب عَمّان تُسمّى أيضا ـ سُوف ـ وهي قائمة على وادٍ كذلك وقد زرتُها برفقة الصّديق الشّاعر يوسف رزوقة سنة 1992 بمناسبة مهرجان ـ  جرش ـ فظهر من غدٍ في إحدى الصّحف  خبرٌ عن هذه الزيارة بعنوان – سُوف في سُوف –

ومن طرائف المواقف التي وجدتُني فيها بسبب نُدرة اِسمي أنه بينما كنت ضمن مجموعة من الشّعراء والشاعرات العرب في أمسية شعرية أقامها أحد الأندية الثقافية على هامش مهرجان المربد بالعراق سنة 1986 إذ بمديرة الأمسية تقف على المنبر وترحّب بنا ثم تَفتتِح القراءات الشعرية داعية في البداية - شاعرة تونسية - تكريمًا للمغرب العربي ولتونس الخضراء قائلةً مرحبًا بالشاعرة التونسية الجميلة والأنيقة القادمة من بلاد الياسمين والزيتون بلاد أبي القاسم الشّابي فتعجّبتُ واِستغربتُ حينها لأن المجموعة التي جئت معها إلى الأمسية لا شاعر ولا شاعرة فيها من تونس إلا أنا ثمّ أردفتْ قائلةً لتتفضّل ـ الشّاعرة سَوْفَ عُبيد ـ فاِنطلقتِ الأكُفّ بالتّصفيق الحارّ خاصةً من اِلشباب فتسمّرتُ في مكاني لحظةً ثمّ عزمت ووقفتُ وقصدتُ خطوةً خطوةً المنبر ووقفتُ وقد ظنّ الحاضرون أنّني الشّخصُ المكلّفُ بتثبيت المِصدح والعناية به وعندما مكثتُ بُرهةً واقفا اِستثقلني الجمهور وأشار لي البعضُ بيده أن أنصرف بينما اِشرأبّتِ الأعناق باحثةً عن الشاعرة التونسية ـ الجميلة والأنيقة ـ فما كان منّي إلا أن اِقتربتُ أكثرَ من المصدح وقلتُ أهلا بكم أنا هو ـ الشّاعرُ التونسيُّ سُوف عبيد ـ  فاِهتزّتِ القاعة الكبيرة والمكتظّة بالضّحك والتّصفيق غير أنّ تصفيق الفتيات كان أقوى وأحرّ وأظهرن الشّماتة بالفتيان…وكانت أمسية

***

سُوف عبيد ـ تونس

إلى روح أختي الطاهرة أميرة الشمس عفاف صقور تخط دموعي بعضاً من ذكريات. بعد صراع مع المرض امتد لأعوام مديدة كان يتآكل فيه الجسد مابين مد وجذر إلى أن استسلم وسلم لتتحرر تلك الروح الطاهرة من رحلة المعاناة و الحلم الذي عاشته وعايشته في ثنايا قفص كان ينبض من خلالها ليحملها رسائله ولتكون الشاهدة أمام باريها على كم العفة والعفاف على كم الطهارة والطيبة والنقاء في ذات وجسد وروح جبلت على الخير وعلى المحبة والعطاء

رحلت أميرة الشمس لتتوهج في مكان آخر وفي زمان آخر رحلت ممتطية صهوة المجهول وفوق صهوة المجهول يتسارع الزمن لتستعيد الروح ذكريات رحلتها مع الجسد بكامل تفاصيلها في بعض دقائق وبضع ثوان ثم يسقط الإحساس بكذبة الوقت

أدرت وجهي نحو النافذة ومسحت دمعة كانت قد فرت حين قبلت رأسك وأنت تحتضرين كنت أود أن أفجر حرقتي وأبكي أملا بأن توقظك دموعي فتمدي يديك وتمسحين فوق رأسي سامحيني يا أميرة الشمس فأنا لا أحسن البكاء بين الجموع لا أحسن التعبير وتفجير حرقتي وفيض المحبة المخنوقة في قفص الضلوع

رحلت أميرة الشمس تاركة في أعماقي حرقة غصة وعلى أطراف مقلتيّ دمعة حبيسة خبأتها وأدرت وجهي عنك عن جسدك الهامد للتو عن عويل تعالى للمتحلقين حول أنفاسك الأخيرة..

..اليوم وفي خلوتي أطلق العنان لدمعتي لتنهمر شلالا مع صور الذكريات التي تمر في خاطري سريعا كمن فارقته روحه فمات إحساسه بكل ما حوله من كائنات وغاب في شريط الذكريات ..3397 لبنى بوقلة

من أعمال الفنانة لبنى بوقلة

أتساءل أيمكن لأحباري وثمان وعشرين حرفا أن تلخص زبد أحاسيسي ومشاعري وأفكاري آاااااااااااه يا أختي قلبي يحترق فأنا لم أعتد البوح سوى فوق صفحات غربتي فوقها فقط أستطيع أن أذرف فوقها فقط تضيء صور الذكريات أعيشها حقيقة أعود طفلاُ وتعودين أماً تكبرني ببضع سنوات أتراك اليوم تستعيدين معي تلك اللحظات حين كان بهو الدار ملعبنا ومسرحنا ومسبحنا كنت أختاً تشاركنا الملعب

ثم تصيرين أماً بعد انقضاء النهار و بعد أن نتلطخ بالأوساخ ونتعب تفركين بالليف الخشن الأوساخ العالقة فوق غطاء الجسد وتحت أسفل الأقدام وتسكبين الماء البارد لننتعش قبل أنا ننام.. كان الليف الخشن يصير ناعما فوق جلدتنا وبين يديك وكان حنانك ينسكب مع الماء البارد ليصير دافئا من تحت راحتيك كنت أماً وأختاً

تقطعين رغيف الخبز وفق حاجتنا وتوزعيه بيننا حول طبق الطعام حرصا كي لا يبيت فتات من نعم الله وكي لا تبقى منه فضلات فلنعمة الرغيف قدسيتها إيماناً وحرصاً وليس بخلا هذا ما تعلمناه منك أنت بالذات

أتذكرين يا أختي.. وقد بحت بذاك السر مراراً لزوجتي.. أتذكرين عروسة الخبز المدهونة باللبن مع قرن الفليفلة والماء حين لففتي وقطفتي وعبرتي وملأت لأجلي (إلى الآن أتشوق لأستعيد تلك الأيام و تلك الزوادة التي لم أتذوق بطيب طعمها في حياتي).. أنا المنتظر فوق خيمة جدي المنصوبة بين أغصان شجرتين في كفرية ضمن الوادي (الفوقاني) الذي كنا نقطع لنصل إليه عبارة طويلة ومظلمة لانسمع عبرها سوى وقع أقدامنا فوق الماء الجاري وصدى تنهيداتنا نمشي ونمشي يسوقنا الحدس إلى أن نبصر بقعة نور عند الطرف الآخر من العبارة نسارع نحوها يستقبلنا ماء رقراق وينهض في الجانب الآخر بستان جدي والتفاح

آااااه يا حبيبة الروح قلبي وقلوب كل من عرفوك يا أميرة الشمس اليوم مكسور ومجروح

كنت تسرحين لي شعري تارة لليمين تارة لليسار تارة فرق نصفي وأنت تغنين لي معززة ثقتي بذاتي وكأني أجمل طفل في العالم وحين كبرت وتعرفت لنفسي من خلال المرآة اكتشفت أني بعكس أخوتي ورثت جسدا هزيلا ضعيفاً.. لا كما كنت أتصوره وتصوريه لي.. ولكني عقدت العزم على إرث آخر نما عبر محبتك وطيبتك وعطاءك المستمر

علمتينا كيف نوفر للمناسبات العظيمة وكان عيد الأم مناسبة مقدسة لم تفوتيها يوما وحتى آخر يوم في حياتك..

أتذكرين يوم طلبتي مني أن أخط رسالة لمناسبة عيد الأم وأقدمها أمام الضيوف مع الخاتم الذي وفرنا ثمنه من مصروفنا.. كان هذا فقط لتفخري بي أمام الضيوف.. كنت هكذا دوما وثيقة الارتباط بالعائلة

ويوم زفافك كان شرطك أن تبقي قريبة منا ومن عشرة عشرين عام سكنت خلالهما وبعدهما قلوب أخوتك وأحبتك كما كانوا يسكنون مهجتك دائما وابدا

كنت أما لنا قبل أن تكوني أما لأولادك وصرت أما محبة لأولادنا أيضا

كيف لنا أن ننسى أفضالك وأنت السباقة على الدوام تدقين أبواب الصباح لتعطري بأنفاسك بيوت الأحبة كنت مع الغائب قبل الحاضر تسعين دوما لحل خلافاتنا وتبسيط مشاكلنا وإشكالاتنا تسعين دوما لألفة القلوب والوفاق

اليوم افتقدت أمّنا رفيقة دربها الوحيدة فحقّ لها حرقة البكاء وحقّ لها أن تزغرد أيضا كما تزغرد اليوم لك جنان الخلد والسماء فأنت كنت السباقة دوما لتقديم العون والمساعدة للجميع وحقًّ الطيبن في السماء لن يضيع

اليوم حقّ البكاء..ابكي حبيبتك يا أرض وزغردي فرحا بنور العفاف القادم إليك ياسماء

اليوم تحتض الأرض بقايا ذكرى جسد تبكية وتسقيه بدموعها ودموع محبيه لينمو ويكبر فوقها رياحين محبة تمتد على طول الأرض وعرضها وتمتطي الروح صهوة المجهول ناشرة عبق عطرها في الأثير ثم تفتح جنان الخلد أبوابها وعلى جانبيها تنحني ملائكة الجنة وترفرف طيورها فرحا بأميرة الشمس أم العصافير والطيور عفاف صقور.

***

الفينيق حسين صقور

(قد لا أكون شاعرة كبيرة ولكني لم أكن يوماً إنسانةً صغيرة).. لميعة

صادفت هذه الأيام الذكرى الثانية لرحيل الشاعرة لميعة عباس عمارة (1929- 18 حزيران 2021)، وقد اعادتني هذه الذكرى إلى أيام عذبة ما زالت حلاوتها على طرف اللسان وفي أعماق القلب، كانت تلك الايام في الثمانينيات الاولى، عندما وقعت عيني خلال تصفحي لاحد أعداد مجلة "العربي" الكويتية العريقة، على قصيدة حملت، على اتذكر عنوان " لو انبأني العرّاف"، كانت تلك القصيدة موقّعة باسمها، ولفت اهتمامي فيها تلك النبرة النسوية الفريدة التي أعتقد أنها ميّزت المرأة العراقية في أعماق وجودها وكينونتها، ومَن يعلم ربما كانت تلك النبرة أو شبيهتها هي ما جذب الشاعر المعلّم نزار قباني إلى زوجته ورفيقة دربه بلقيس الراوي، فعاش معها وإلى جانبها ملكًا الى جانب ملكة، وخلّدها بعد قضائها في عملية إجرامية تفجيرية في بيروت، بواحدة من أجمل ما قيل في شعرنا الحديث. كانت تلك القصيدة باختصار نابضة بحس انثوي فريد، ذكّرني بما قالته شاعراتٌ عربيات مجلّيات في شعرنا العربي القديم أمثال رابعة العدوية وولادة بنت المستكفي.. وشاعرات أخريات برزن في شعرنا الحديث أذكر منهن مثالًا وليس حصرًا كلًا من المصريات: وفاء وجدي، ملك عبد العزيز- زوجة الناقد المشهور محمد مندور-، وجليلة رضا.

أقول أعادتني ذكرى هذه الشاعرة الهامة جدًا، إلى تلك الايام العذبة، وانا اقصد ما أقوله، فلست واحدًا ممن عايشوا شاعرتنا الراحلة، ولست ممن عرفوها شخصيًا، وإن كنت أدّعي أنني عرفت أعماقها وتغلغلت بعد قراءتي تلك القصيدة إلى أبعاد روحها القصيّة السحيقة، مستنيرًا بكلمات ما زالت تتردّد في ذاكرتي رغم مضي العشرات من السنين، وهنا أشير إلى نقطتين هامتين جدًا في رأيي، قد يكون في إيرادي لهما دلالة وعمق نحن أحوج ما نكون إليه في فترتنا الفظة الراهنة، إحدى هاتين النقطتين، اننا لسنا بحاجة إلى قراءة أطنان مطنّنة من الشعر حتى نقتنع بأن صاحبها شاعر مبدع ومُجلٍّ، واننا عادة ما نحتاج إلى قصيدة واحدة لنكتشف عالمًا كاملًا متكاملًا من العمق القولي الابداعي، النقطة الاخرى هي أن المكتوب يُقرأ من عنوانه، كما ردّدنا عندما اردنا الاختصار وعدم الاكثار من الكلام واكاد أقول الثرثرة، فاذا ما توفّرت الموهبةُ وجمالية القول، وصلت إلينا بسرعة البرق، وفي لحظة واحدة، وهي بأية حال لا تحتاج للاطلاع على كلّ ما قاله الشاعر.

اطّلاعي على ما كتبته وابدعته الشاعرة لميعة عباس عمارة في قصيدتها تلك" لو انبأني العرّاف"، دفعني للاهتمام بمتابعة كلّ ما تمكّنت من التوصل إليه من إنتاجها الشعري، وبما أننا كنا منقطعين إلى حدٍّ بعيد عن عالمنا العربي وعمقنا الثقافي، إبان تلك الفترة التي تعود إلى الثمانينيات والتسعينيات، علمًا أن وسائل الاتصال الاجتماعي .. بما فيها النت وابنه المخلص غوغل.. لم تكن قد ظهرت، فقد كنت ما إن تقع عيني على قصيدة لشاعرتنا الفقيدة في هذه المجلة أو تلك الصحيفة حتى أسارع لقراءتها، ولفت انظار المحيطين بي إليها وكثيرًا ما كنا نقرأها ونترنّم بها لما حفلت به من حسٍّ انثوي اصيل يضرب في أعماق ثقافتنا العربية، ذلك الحس الذي دفع المستشرق الفرنسي البارز جاك بيرك إلى وصف لميعتنا إنها "شاعرة الرقة والجمال والأنوثة". وأذكر هنا بكثير من المحبة أنني كثيرًا ما اشركت القراء في بلادنا في قراءة ما تمكنت من الاطلاع عليه من قصائدها، فقمت بنشره في صفحة أدبية كنت أحررها آنذاك، في صحيفة الصنارة النصراوية، وقد تعدّى نشري ما وصل إلى يدي ووقع تحت عيني من قولها الشعري المعبّر والمؤثر في العديد من المجلات التي حررتها أو عملت محررًا فيها، مثل "الشرق" الشفاعمرية و"الشعاع" اليافاوية.

اهتمامي بما كتبته وانتجته شاعرتُنا الفقيدة لم يتوقّف إلا ليتواصل، وكان آخر عهدي بها، يوم شرعت بنشر مقالات نثرية جميلة في صحيفة "القدس العربي" التي تصدر في العاصمة البريطانية لندن. لقد كانت مقالاتها هذه مفاجأةً سارةً لي ولسواي من القراء أمثالي على ما اعتقد، ذلك أنها اكّدت أمرين أحدهما أن الطاقة الشعرية الخلّاقة إنما تتأكد في نثر صاحبها الشاعر، أي شاعر، كما ألف القارئ العربي وعرف في نثر كلٍّ من الشعراء المبدعين امثال: نزار قباني، محمود درويش وعبد الوهاب البياتي، طابت ذكراهم. النقطة الاخرى أن ما يتركه الشاعر من قول نثري عادة ما لا يكون مُعادًا، مكرّرًا ومألوفًا، إنما يحفل بطريف القول وعمق التجربة والاطلاع الواسع. تلك المقالات، توقفت بعد نشر "القدس العربي"، عددًا لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، غير انه كان بمثابة اكتمال القمر والايذان بغيابه، بعد دخوله في حالة المحاق، وهو ما قالته الفترات التالية بلسان من حزن واسىً.

رحم الله شاعرتنا فقد رحلت.. في ولاية كاليفورنيا الامريكية.. بعيدةً عن عراقها السعيد وذكرياتها الدافئة فيه، مع الشاعر بدر شاكر السياب زميلها في دار المعلمين البغدادية، وسواه من رجالات العلم والثقافة والابداع الشعري خاصة. السياب الذي ربطته بها علاقة ودّية طالما حدت بها الركبان ورددتها قوافل القول، أشير فيما يلي إلى ما قالته عن علاقتها به في قصيدة عنوانها " شهرزاد" اهدته اياها أيام كانا معًا في الدراسة، ورد فيها:

"ستبقى شفاهي ظِماءْ

ويبقى بعينيَّ هذا النداء

ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين

ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء".

لقد رحلت لميعة في مُغتربها الامريكي، وهي تعيش حيرة شاعرة أشبه ما تكون بسمكة أخرجت من بحرها عنوةً، فامتلكتها الحيرة، وقد انعكست حيرتها هذه في واحدة من أخريات ما ابدعته من قصائد، عندما قالت، في قصيدة كتبها اثناء شهر أيار 2019، جاء فيها:

"لماذا يحطُّ المساء

‏حزينًا على نظرتي الحائرة

‏وفي القرب أكثر من معجب

‏واني لأكثر من قادرة؟

‏أنا طائر الحب

‏كيف اختصرت سمائي

‏بنظرتك الآسرة؟".

***

ناجي ظاهر

........................

* زيادة في الفائدة: عاشت لميعة 92 عاما وصدر لها خلال عمرها المديد ست مجموعات شعرية هي: "الزاوية الخالية" عام 1960، "عودة الربيع" عام 1963، "أغاني عشتار" عام 1969، "يسمونه الحب" عام 1972، و" لو أنبأني العراف" عام 1980، وأخيرًا "البُعد الأخير" عام 1988، وقد كُتبت عنها العشرات من المقالات والقصائد المنشورة والكتب النقدية التي تناولت تجربتها.

حلت أمس السبت، الرابع والعشرين من حزيران الجاري، الذكرى السنوية العاشرة لرحيل الشاعر الصديق جمال قعوار، ابن بلدتي الناصرة.

ربطتني بهذا الشاعر الهام، أواصر صداقة ومودة منذ بداية طريقي الادبي حتى أيامه الاخيرة في عالمنا، ولي معه ذكريات غزيرة سجّلت بعضها في كتابات متفرّقة كتبتها ونشرتها إبان حياته وبعد رحيله، ويكفي أن أقول تجسيدًا لهذه العلاقة الصادقة الصدوقة ، أنه اختارني عندما كرّمته مؤسسة الاسوار بإدارة الصديق يعقوب حجازي، في عكا، لأكون المتحدّث عنه وعن مسيرته الادبية.. التي آثر ان يطلق عليها عنوان مسيرة العشق والصمود.

كُتب عن جمال قعوار (1930- 2013)، وقيل الكثير.. وبإمكان مَن يود الاطلاع على حياته ونتاجه الادبي الشعري بالطبع، أن يطلع على ما يريد منها وربّما أكثر، بنقرة أو عدد من النقرات على شبكة البحث العنكبوتية الالكترونية العالمية "غوغل"، لذا لن أسترجع هنا حياته ونتاجه، وسوف أكتفي بالتوقف عند عدد من النقاط غير المعروفة عنه للكثيرين.

النقطة الاولى: قد يعرف البعض خاصة من أبناء الاجيال الجديدة أن جمال قعوار.. كتب في بدايات حياته الادبية. العديد من القصص والاناشيد الموجهة للأطفال، وقد تعاون في كتابة بعضها مع آخرين أبرزهم الكاتب الصديق محمود عباسي أطال الله في عمره، والشاعر الصديق جورج نجيب خليل رحمه الله وطيب ذكراه، وبإمكان مَن يقوم بمراجعة جادة لما كتبه وأنتجه جمال للأطفال، قصة وانشودة، أن يرى إلى ذلك الغنى والعمق في إنتاجه هذا، وقد سبق وكتبت عن كتاباته الرائدة لأدب الاطفال في بلادنا ودعوت لإعادة نشر ما كتبه.. لاطلاع ابناء الاجيال الجديدة عليه والنهل من منابعه الثرّة الغنية، ولعلّ هذه فرصة مناسبة للعودة إلى هذه الدعوة والالحاح عليها، لعلّها تجد الصدى المنشود.

النقطة الثانية: ان جمال قعوار كان شاعرًا مطبوعًا حاضرَ البديهة وسريعها، وانه كان يُدهش المحيطين به في قدرته على ارتجال القول الشعري. ومما أذكره عنه، كما عرفت خلال عملي متطوّعًا معه في تحرير مجلة المواكب الادبية، أن العشرات من أهالي بلدتنا المشتركة الناصرة، كانوا يتوجّهون إليه لكتابة بيت أو بيتين من الشعر لينقشوها على شواهد وأنصاب أعزائهم الراحلين، فكان يستجيب لهم وينظم ما يطلبونه منه على الفور، وقد أخبرني، ذات جلسة، أن أشعاره هذه كتبت ونقشت على المئات من الاضرحة.

النقطة الثالثة: ان جمال أتقن اللغة العربية نحوًا وصرفًا، بلاغة ومعرفة، إتقانا قلّ نظيرُه، ومع هذا، وهو ما أود قوله في هذه النقطة، كان انسانًا متواضعًا لا يدّعي معرفة ما لا يعرفه، وكان يضع القاموس المنجد على الطاولة قبالته.. لفحص ومعرفة معاني ما يستمع إليه، ولا يعرفه من كلمات.

رحم الله جمال قعوار، فقد كان واحدًا من أعلام الادب والثقافة في بلدتنا المشتركة الناصرة.. فحق له أن يحظى في حياته وبعد رحيله. بلقب شاعر الناصرة.

***

بقلم: ناجي ظاهر

في الآونة الأخيرة وجدنا مجموعة من الأعمال الأدبية تتناول مشاكل المرأة، خاصة في اعمال الرواية، وهذا يعكس حقيقة الواقع الذي تعيشه المرأة في المجتمع الذكوري، فرغم الإرث الديني والاجتماعي الذي يمتلكه المجتمع، إلا أن ذلك لم ينجح في الحد من الظلم الواقع على النساء، فبدا وكأن هناك جدارا/ سدا يحول دون التعامل بسوية معهن.

في رواية "رادا" والتي تعني رامية الحجر، تتناول الساردة واقع النساء في فلسطين تحديدا، من خلال مجموعة نساء "سارة، رادا، عروبة، حنين، آية، شادن" وإلى حدا ما "مهما" وكيف أنهن تعرضن لقسوة الأهل والمجتمع الذي ينظر إلهن بفوقية وسادية، وهذا ما جعلهن يشاركن في مسابقة للإبداع الأدبي حتى يحققن ذاتهن، وينتصرن في إثبات تفوقهن وتألقهن كنساء بعيدا عن الذكورية المهيمنة، من هنا نجد لكل مشاركة في المسابقة هدفها وتطلعها إلى ما يعنيه فوزها، فبمجملهن أردن تأكيد حضورهن وأنهن صاحبات مشاريع اجتماعية/ أدبية يستطعن أن يتفوقن فيها.

هذا هو العمود الفقري للرواية، لكن هنا تفاصيل متعلقة بالظلم والقهر الذي تتعرض له النساء، فمن مظاهر القمع الذي تتعرض له الأنثى وما تعانيه "رادا" نفسيا بسبب كونها أنثى: "إحساس يعكر صفو أوردتها، التي تنصهر شوقا لأمل ينجيها من عقدة الأنوثة، أصبحت تمقت أنوثتها، وتعتبرها سبب شقائها... الصراع داخلها شتتها، كون منها شخصية مقيدة مهزوزة" ص5، هذا الوصف يكفي لتبيان حجم الظلم الذي تعانيه "رادا" فالساردة استطاعت أن توصل للقارئ ما هو داخلها، وإذا علمنا أن الخطأ الذي اقترفته "رادا" هو كونها أنثى فقط، وليس أي شيء آخر، نصل إلى طبيعة المجتمع الذكوري وكيف أنه يمارس سطوة (استعمارية/ عنصرية) بحق النساء.

من هنا نجد "سارة" شقيقة "رادا" تموت بمرض السرطان دون أن تجرؤ على البوح بمرضها لأسرتها: "إن فات الأوان مع سارة فرادا ما زالت هنا، تلك الفجوة بينكم وبين البنات جعلت سارة تكتم مرضها عنكم، إلى أن رحلت ـ رحمها الله ـ كان الأجدر أن تفتحي حضنك لبناتك، وتقتربي منهن" ص8، وجود عبد الرحمن" خال "رادا" أعطى أحداث الرواية شيئا من التوازن في نظرته وتعامله مع النساء، فهو طبيب ويعامل بناته بحرية مطلقة بعيدا عن عقلية المجتمع الذكوري، من هنا كان له الفضل في مشاركة "رادا" في المسابقة، وأيضا في إخراج "شادن" من حالتها النفسية ومعالجة جسدها الذي تعرض لمادة حارقة بعد أن سكبها زوجها عليها بدعوى أنها تخونه وتريد الطلاق منه.

ونجد في هذا الحوار بين "عبد الرحمن" ووالدة "رادا" الطريقة المتخلفة التي ينظر بها المجتمع الذكوري للمرأة:

"ـ والدها يا أخي لا يعير اهتماما لأوجاعنا نحن الإناث.

ـ لهذا الحد يا أختي، ليس له قيمة! أنت أضعف من أن تكوني أما ترعى بناتها، تحافظ على كيانهن ومشاعرهن التي خلقن عليها.

ـ النظرة تختلف، ما تراه خصائص، هي بنظرهاهن عيوب.

ـ جهلكم يراها عيوبا.

ـ لن تكون الأنثى كالذكر يوما، وحرصنا عليها ليس ذنبا." ص10، دائما الحوار يكون له أثرا خاصا على المتلقي، فهو يقدم وجهات النظر بحيادية، وعلى المتلقي أن يفكر ويختار الجهة التي يريد أن يكون معها وتتوافق والمنطق الذي يفكر به، وبما أن الساردة تحدثت عما تعانيه "رادا" نفسيا، وعن وفاة "سارة" بسبب عدم فتح المجال أمامها لتتحدث عن مرضها، لكونها أنثى، فهذا جعل القارئ ينحاز لموقف "عبد الرحمن" المدافع عن النساء وحقوقهن.

أما "شادن" فتتعرض لجريمة تشويه جسدها حتى (لا ينعم به أحدا بعد تطليقها): "لم يكن يقبل خسارتي في أي حال من الأحوال، وحين فرضت عليه خسارتي ظن أنه سيمتلكني للأبد فقام بتشويهي" ص39، وهنا تكون الساردة قد تناولت العقلية الذكورية التي تنظر إلى المرأة على كونها من (أملاك) الزوج وله حق التصرف بها كيفما شاء، وليس لها الحق في الانفصال عنه، كونها (امرأة) فهو السيد وهي العبدة، وعليها أن تطيعه في كل ما يريد ويرغب، لهذا كان تشويه جسدها عقابا لها وقصاصا لأنها تجاوزت قوانين المجتمع الذكوري، وكما يعامل المستعمر/ الاحتلال المحتلين بقسوة وشدة مفرطة يعامل الذكور الإناث، فكلاهما استعمر ويفكران ويسلكان عين السلوك.

مشكلة عدم الإنجاب دائما تكون ضحيتها المرأة، أما الرجل حتى لو كان هو السبب فلا يقع عليه ذنب، وعلى المرأة أن تتحمل وتتعايش مع هذا الواقع حتى الممات، تحدثنا "شادن" عن عدم قدرتها على الإنجاب، وعندما تفاتح أهلها بحقها بأن تنفصل عن زوجها بعد أن قرر الزواج من أخرى، نجد موقفهم بهذا الشكل: "ـ قدر الله يؤمنون به حين ينصب على الذكر لا على الأنثى، للذكر دائما خيارات، وللأنثى الاستسلام للأقدار." ص40، بهذه العقلية يتم التعامل مع النساء في المجتمع الذكوري، أليست هذه عقلية الصهاينة الذين يرفضون أن يعتقوا رقبانا من سطوتهم وعنجهتهم؟

أما "عروبة" فتتعرض لقسوة زوج الأم وسطوة زوجة الأب، فهي ينطبق عليها المثل: "لا أنا مع أمي بخير، ولا مع مرة أبوي بخير" لهذا كانت ضحية سهلة لأبن الجيران الذين صورها واستغل الصور لتكون تحت امره فيما يريد.

كان من المفترض أن تقترن "عروبة" ب"ساري" لكن زوجة أبيها التي تخطئ أبنتها مع خطيبها قبل الزواج، فتقرر إخفاء فضيحتها من خلال إجبار "ساري" على الزواج بها، بعد أن هددته بالصورة التي أخذتها "لعروبة" من تلفون ابن الجيران: "ـ زوجة والدك كانت تريد أن تحمي ابنتها من الفضيحة، فقد أخطأت مع خطيبها الذي تخلى عنها بعد أن سلمته نفسها، قبل عقد قرانهم رسميا، فكادت لك وأخذت صورك من هاتف جاركم الذي كان يهددك، كان يحتفظ بنسخ أخرى للصور" ص95، هذا الطرح يأخذنا إلى نظرة المجتمع للمرأة وعلى أن شرفها يكمن بين فخذيها، أما الرجل فلا شرف له، لأنه ليس له ما للمرأة بين فخذيه، فهو من حقه ومن الطبيعي أن تقبل به أي أثنى أخرى رغم أنه فاقد للشرف، بينما الأنثى التي أخطأت عليها أن تدفع ثمن خطئها إلى نهاية عمرها، أو أن تجد من (يخضع) لهذا الواقع ويقبل به مجبرا ومكرها، من هنا "كان "ساري وعروبة" هما الضحية لهذا الخطأ، وعليهما أن يضحيان بسبب نظرة المجتمع الخاطئة للشرف وللوفاء.

***

بقلم الكاتب والناقد: رائد محمد الحواري

......................

ملاحظة: الرواية الفائزة بجائزة الاستحقاق لجوائز ناجي نعمان الأدبية الدولية لعام 2021، وقد تم نشرها عام 2023.

قصة فتاة من عين تمر

هاجس الخوف والرعب لا يفارقها، وتحس احياناً ان أهلها على مقربة منها، وانهم على وشك العثور عليها، فيختض جسدها ويتصبب العرق من جبينها وترتجف اوصالها، لأنها تتذكر وهي طفلة كيف ان اخاً في حارتهم نحر اخته من الوريد، وغطاها بعباءتها السوداء، وتركها ممددة لساعات، وكيف ان دمائها نفذت من تحت عباءتها لتشكل بُركة صغيرة من دماء ضحية الأعراف والتقاليد والجهل المدقع. لم تستطع "هدية" ان تبعد شبح الخوف والرعب من المصير المحتمل، وتُذكرها هذه الهواجس بقصتها التي مضى عليها أعوام إلا انها مازالت مُعشعشةٌ في مخيلتها في منامها وفي صحوها.

فقبل ان يكون هناك اضطهاد سياسي او استغلال اقتصادي، كان هناك تعسف وعنف وظلم اجتماعي. ولعل التاريخ يُخبرنا من ان المضطهِدون هم رجال العائلة، والمضطهَدين هم عادةً اطفالها ونسائها. وهكذا بدأت قصة فتاة من مدينة نائية في صحراء محافظة كربلاء. مدينة يُضرب بها المثل: "يريد شفية من شفاثة". وشفاثة هو الاسم الشائع لمدينة بُنيت حول واحة من نخيل التمور وعيون كبريتية، ذات الرائحة الكريهة، توصف للاستحمام بها لمن يشكو من امراض جلدية.

شفاثة هو الاسم الدارج للمدينة، اما اسمها الرسمي فهو "عين تمر" التي أصبحت ناحية من نواحي محافظة كربلاء بعد ان كانت واحة نخيل ومياه معدنية في الصحراء الغربية. كانت هذه المدينة تعيش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وربما لا زالت على قيم بدوية وريفية، وضمن البعد الرجعي لهذه القيم.

علمت "هدية"، وهي فتاة قصتنا، من ان عائلتها تُسهل امر زواجها لرجل من عُمر والدها، لتكون الزوجة الثانية، الصبية القوية التي ستخدم الزوج والزوجة وابنائهم. هدية أُجبرت على ترك الدراسة بعد المتوسطة، لتكون المساعدة واليد اليمنى لوالدتها في شؤون البيت وفي الخياطة والتطريز وتصليح الملابس، حيث كانت أمها خياطة المحلة التي تسكن فيها، حينما كانت العادة في ذلك الزمان، شراء اقمشة من التجار ثم الذهاب للخياط او الخياطة لتفصيلها على المقاس.

وعلى الرغم من ان هدية لم تكن مثقفة، وليست ناشطة سياسية للدفاع عن حقوق المرأة، إلا انها احست بالغبن وعدم التكافؤ، ومن ان زواج كهذا سيكون مجحفاً بحقها وسوف لن يكون مناسباً لها. تحدثت الى أمها عدة مرات، إلا انها كانت تسمع نفس الجواب كل مرة: يا بنتي الشور شور الحجي، وهو أدرى بمصلحتكِ مني ومنكِ. فقدت هدية الأمل بعد ان سمعت إجابة والدتها مراراً وتكرارا.  بدأت التفكير في حلً ينقذها من هذا الزواج، تذكرت صديقة طفولتها "غنية" التي رحلت الى بغداد للعمل في شارع النهر، وهو الشارع الذي تتسوق منه نساء بغداد أجمل الملابس والإكسسوارات.

استجمعت هدية قواها مع قليل من النقود، وهربت في صباح مبكر الى كراج بغداد الذي اوصلها الى كراج علاوي الحلة في بغداد، ومن هناك ذهبت الى شارع النهر للبحث عن بنت مدينتها التي ربما مرت بظروف مماثلة لها. أرهقها البحث عن غنية، إلا ان الحظ حالفها وعثرت عليها بعد ان امتلكها الذعر، لأنها لا تملك أي بديل سوى العثور عليها. تعمل غنية في محل لبيع بدلات العرائس للعوائل الراقية، محلاً واسعاً يُعرض فيه آخر التصاميم الفرنسية والإيطالية ومُجهز بورشة خياطة وتصليح متكاملة. زبائنهم نخبة العوائل الأرستقراطية والغنية من سكنة المنصور والأعظمية والكرادة الشرقية.

اصطحبت غنية هدية الى مسكنها الذي هو غرفة مؤجرة في بيت شرقي في حي "عكد النصارى" من الجهة الثانية لشارع الرشيد. حديث طويل بين الصديقتين لم يسع الليل كله، لسماع الحكايات وتقاسم الهموم والتأفف والاحساس بالضعف والهوان لما قام به أهاليهم من ظلم وجور عليهن.

استطاعت غنية ان تقنع "طارق" ابن صاحب المتجر، ان يوظف هدية في نفس محل بدلات العرائس، كمساعدة لها في خياطة بدلات العرائس لجميلات بغداد. طارق الأبن الأكبر لصاحب المتجر، يساعد والده في مسك الحسابات، كان طالباً في كلية الإدارة والاقتصاد، ولديه مزاج في العمل التجاري الذي يرى فيه مستقبلاً له.

لفتت عاملة الخياطة الجديدة انتباه طارق، التي كانت تحاول إخفاء وجهها ووجودها في الورشة، متذكرة دائماً ان أهلها يبحثون عنها ولن يرتاحوا حتى يجدوها لتلقى المصير المحتوم. أخذ الفضول مجراه عند طارق مما اضطره لسؤال غنية عنها، واستمر في طرح الأسئلة محاولاً معرفة تفاصيل تحاول غنية عدم البوح بها. انزعجت غنية من اهتمام طارق بصديقتها هدية، ربما لأنها كانت مولعة به او كانت تتأمل ان يهتم بها بدل انشغاله بصديقتها.

لمحت هدية محادثة غنية مع طارق، وساورتها الشكوك من خلال النظرات والإشارات من ان الحديث كان حولها، صاحب ذلك شعور متناقض بالخوف والقلق من جهة والتطلع بطموح لمستقبلٍ أفضل من جهة أخرى. مستقبل زاهر في بغداد الجميلة التي انبهرت بمحلاتها وحدائقها وشوارعها العريضة.

لم تكن هدية فتاة جميلة وفق المعيار البغدادي، لم تكن نحيفة ولا طويلة، ليست بيضاء وشعرها لم يكن ذهبياً وعيونها لا زرقاء ولا خضراء، إلا ان دمها كان خفيفاً وجمالها فطريٌ، سمراء ذات عيون بدوية سوداء وواسعة وحواجب عريضة وصدر شامخ وجسم ممتلئ بأنوثة صارخة. وجهها دائريٌ قمري، خدودها تفاحية الشكل، يمنحان ابتسامتها رصعةٌ توحي ببراءة طفولية.

بحكم موقعه وطبيعة حياته الاجتماعية يتعايش طارق مع الكثير من الفتيات الجامعيات الجميلات، الأنيقات في الملبس والخبيرات في فن المكياج المُجسم الذي يبرز الأنوثة من بين ثنايا رتابة الزي الجامعي الموحد. إلا انه وجد في هذه الفتاة القادمة من اقاصي العالم، من مدينة لم يسمع بها من قبل، نكهة حُسنٍ مفتقدة في الأكاديمية وفي احياء ونوادي بغداد الأرستقراطية، طبيعية غير متصنعة دون مكياج او تجميل مبالغ به، بسيطة في الكلام، عفيفة النفس رغم صعوبة الحياة التي تمر بها. تلك هي عاملة الخياطة الجديدة التي بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من تفكير طارق.

حاول طارق ان يلفت انتباه هدية عدة مرات، يزور ورشة الخياطة لسبب او بلا سبب، علماً ان طبيعة عمله لا علاقة لها بورشة الخياطة. إلا ان هدية كانت تتصنع عدم الانتباه لذلك، لأنها تعلم بالفوارق الطبقية والاجتماعية والثقافية بينهما، كما انها لم تلق تشجيعاً من صديقتها غنية التي كانت تنصحها على تجنب ذلك والتركيز على مستقبلها.

استطاعت هدية من إثبات مهارتها وجدارتها في الخياطة كي تحافظ على مصدر رزقها ومعيلها الوحيد. ومع مضي الأيام، بدأت بالتعرف على مدينة بغداد أكثر، والاعتماد على نفسها في الأمور الحياتية، وتدريجياً بدى عليها الاعتناء بنفسها من حيث الشكل والمضمون. تخلصت من ملابس عين تمر وابدلتها بملابس جديدة اشترتها من شارع النهر الذي تعمل فيه. لمّعت من مظهرها كثيراً دون ان تتجاوز الحدود المعقولة لما تربت عليه واعتادت على تقبله.

التغير الرئيس الذي تسعى هدية لبلوغه هو حصولها على التعليم الذي حُرمت منه، او بمعنى اصح حرموها منه. لذا قررت التسجيل في ثانوية مسائية للبنات، وركزت على ذلك واخذت تشعر ان حياتها بدأت تأخذ المجرى الذي كانت تصبو اليه. إلا انها لا يمر يوم لا تتذكر فيه والدتها وابيها واخوتها والجيران وصديقات الطفولة، وتحن الى شفاثة، رغم انها تعلم علم اليقين انها أصبحت مُحرمة عليها مدى العمر.

فاجئها طارق نهاية دوام أحد الأيام ليتحدث معها عن مشاغل حياتها وما إذا كانت بحاجة لدعم او مساعدة معينة. شكرته واظهرت امتناناً صادقاً لمنحها فرصة العمل بورشة والده، ومن انها سعيدة على هذه الحال. لمّح لها طارق انه معجب بها دون ان يضغط عليها او يطلب منها شيئاً. لم تستغرب كثيراً رغم انها تظاهرت بالاستغراب، مع ذلك انحرجت فعلاً وتلعثمت في الحديث لعدم وجود سابقة لها في امر كهذا.

تركت الورشة ذاهبة الى المدرسة وهي تسير كفراشة تسبح في ربيع منتزه مليء بأنواع الزهور. راودتها رغبة مُلحة في الانغماس في تجربة العشق والحب والغرام، بدأت تفكر ان طارق مفتاحها لحياة أفضل، إلا ان وعيها الفطري كان دائماً يوقظها من أحلامٍ تعلم هي قبل غيرها انها صعبة المنال.

أدرك طارق الوعي السياسي ابان ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، وتأثر الى حد كبير بالروح الوطنية للزعيم عبد الكريم قاسم، وللفكر اليساري الذي يدعو الى إزالة الفوارق الطبقية والاجتماعية ويدعو الى تحسين حياة الفقراء. إلا انه رغم ذلك ابن عائلة برجوازية متمكنة ويتمتع بمزايا مادية واجتماعية، لا يمكن ان يتنازل عنها، وان حبه للفقراء مجرد مشاعر وامنيات مثالية لا تعني ان يمزج حياته بحياتهم او حياتهم بحياته.

إلا ان الشرارة التي نتجت عن احتكاك حجرين، أصبح من الصعب اطفائها دون منحها الفرصة للاحتراق والتحول الى رماد لا حرارة فيه ولا دفئ يحتويه. طلب طارق من هدية ان يُريها بغداد في الليل من خلال جولة في سيارته. اعتذرت منه عدة مرات بحجج واهية في معظمها، إلا انها رضخت في النهاية لأنه كان في طلبه لحوحاً بأدب، ولأن مشاعر الهوى بدأت تأخذ منحاها اليها.

تكررت رحلات السيارة لتشمل كورنيش أبا نوأس ومنتزه الزوراء وسينما النصر، وووو. وفي جلسة شاعرية في مطعم فوانيس في السعدون، صارح طارق هدية من انه معجب بها ويريد ان تتطور العلاقة بينهما نحو اشباع أكثر. في مفهوم هدية لا يعني ذلك إلا الزواج، بينما أراد طارق ان يطور العلاقة عاطفياً دون ربطها بالتزامات رسمية. وفي كل مرة كانا يتقاربان جسدياً أكثر من سابقه، مسكةٌ يد من هنا ولمست شعر من هناك ودغدغتٌ من هنا وهناك. كان الإثنين يتحسسان هياجاً في المشاعر تتوج كل مرة بقبل حارة وعناق طويل.

وعد طارق ان يأخذ هدية معه في سفرة الى بحيرة الحبانية. فرحت بذلك كثيراً، لأنها سمعت الكثيرين يتحدثون عنها. كعادتها خلعت هدية عباءتها قبل الصعود الى سيارة طارق، وزهت مفاتن جسدها رغم مقاومة ملابسها الجديدة لحجبه. توقف طارق امام مكتب إدارة المنتجع السياحي ليستلم مفتاح الكابينة المحجوزة له. استغربت هدية بعض الشيء لذلك. كان في تصورها انهم ذاهبون للحبانية كي يجلسوا على رمال شاطئها ويلعبوا في مياه جرفها. دخلا الكابينة، وقبل ان يمضي وقتاً طويلاً تقدم طارق وحضنها، ارتجفت وشعرت بجمال العاطفة التي اهتز لها بدنها بجميع اركانه. استمرت القبلات الحارة بينهما حتى مسك بيديه وسطها ليمددها على السرير، رفع رأسه كي يقبلها لتصدمه رؤية دموعها، أهي دموع فرح! أو دموع خوف! ام دموع رجاء! وكأنها تقول له انني في حالة خضوع وضعف شديد يا طارق، فلا تستغل ذلك وتغدر بيّ.

انتبه طارق الى طبيعة دموعها وعرف معناها دون ان يستجوبها. زرع قبلة حنان على جبينها وساعدها للجلوس على السرير بدل الاستلقاء عليه. أحس طارق بذنب كبير، خجل فيه من نفسه وحاول ان لا تتصادم نظرات عيونهما. ظل يفكر ماذا لو استمر الحال وحصل ما حصل! ما سيكون مصيرها وما سيكون مصيري! واخيراً استجمع قواه وقال لها ما رأيك ان نأكل شيئاً في الكازينو ثم نذهب كي "نُطبش" في الماء. لمعت عيون هدية وبكت بحرارة هذه المرة من الفرح، ومن ان طارق الشهم لم يغدر بها، لا بل حتى حماها من رغبة مُلحة في نفسها.

استفاق الأثنان بعد ذلك اليوم من الحلم الجميل. ليسأل طارق نفسه عدة مرات، هل ان هدية ممكن ان تكون الزوجة المستقبلية له! هل يحبها لدرجة مستعد بها ان يخالف عائلته! ما هو مستقبل العلاقة بينهما، هل ممكن ان تتقبله بعد ذلك، هل انه مستعد ان يقطع علاقته بها، أسئلة وتساؤلات كثيرة ومتعبة لا أجوبة محددة لها، ومرت الأيام ولم يستطع ان يحزم امره.

وسألت هدية نفسها هل انها مُستعدة ان تقيم علاقة لا تؤدي الى الزواج، وهل ممكن ان يتزوجها طارق في يوم ما! وحتى لو أراد ان يتزوجها، هل هو الشخص المناسب لها، هل ان عائلته ستتقبلها كزوجة بالتمام والكمال، ام انها ستكون الزوجة الفقيرة التي يعتمد عليها في الشؤون المنزلية!

ربطت هدية هذه العلاقة مع طارق بما حدثت لها في عين تمر، ووجدت ان الحالتين متشابهتين، ستكون الطرف الضعيف والمُضطهد في العلاقة. لذا قررت هدية ان تبني مستقبلها بعيداً عن شارع النهر الذي تحول الى شارع للحب الممنوع، واتخذت قرارات شجاعة تنم عن فطرة صلبة، فبحثت عن، ووجدت عمل في معمل للخياطة في مدينة الكاظمية، بعيداً عن صديقتها غنية، وبعيداً عن حب قاصر، لا تستطيع مقاومته إلا بالابتعاد عنه، ولتبقى ذكرى طارق في القلب خالدة كتجربة حب ومشاعر جميلة، لا عائقاً او معوقاً لمسيرة حياتها، ولتكون قصة مضافة لكتاب كان يا ما كان.

***

محمد حسين النجفي

تطالعنا في مجموعة نصوص أنين الرمل للكاتبة هند خضر أطواق ياسمين من خلجات للنفس والروح ووجدانيات مختلطة في ثنائيات لا تهدأ سكبتها هند بكل عفوية وصدق في ثورة التفس التواقة للحب والحنين ،التفاؤل والأمل، الأحلام والتطلعات في أيقونة عشق خاصة بها. فنجدها تناجي الحبيب وترسل إليه تراتيل كلماتها العذبة المخضبة بكل ألوان الحب فتلتحم مرة وتتشظى مرات تحت عذابات الفراق والحنين. عشقها مختلط ما بين هذا الحبيب والوطن والحياة.

نجد في نصوص "أنين الرمل" نوعا من الإبداع والابتكار والتجديد في الصور الشعرية المميزة والخلابة والتعابير البلاغية،فحتى المكرر منها كان بأسلوب وشكل ولون وطابع جديد.

كما نستطيع التقاط ما استخدمته هند من خيال واسع وأسلوب جميل وسريع معبر ومباشر أحيانا.

ولأننا لسنا في صدد دراسة نقدية فهذه مقدمة لذلك سنختار بعض النصوص كعينات ونماذج تطبيقية.

فمثلا نجد في النص الموسوم ب "ضباب " صورة شعرية ملفتة حين تقول

"لملم الضباب أشرعته للرحيل".

كما نجدها تتحدث عن الوطن ومدى تعلقها بها في نصها الموسوم ب "عبور" فتقول:

"الوطن الذي احتوى اغترابي جعلني أدرك أنني الأنثى..الوحيدة التي عبرت بلهاثها حدود الأمكنة".

ونجدها في نصها الموسوم ب "نداء" تناجي الحبيب وتعبر بعاطفة جياشة صادقة حيث أن أهم عناصر الإبداع الصدق في الأحاسيس والمشاعر والتعبير. فتقول فيه "

"صوتك أنغام أغنيتي المذبوحة على مشانق الزمن..عد لي لنفتح حريقا..في صدر الحقول.."

وتزدحم نصوص هند بتلك التعابير والكلمات العذبة التي ثؤثر في نفس القارئ أيما تأثير لصدقها وعدم تكلفها وتصنعها فنجدها تترك وقعا جميلا ومتعة حسية فنية.

وقد طغى الجانب الوجداني والرومانسي والغزلي على نصوص "أنين الرمل" فنجدها مشعة وواضحة كالشمس. إلى جانب ذلك نستطيع القول بأنها عالجت قضايا إنسانية.

كما أن هند استعملت الرموز المستحدثة بغرض التوظيف الدلالي للمعاني والأهداف التي أرادت إيصالها للقارئ.

يغلو سعر الزهرة كلما زاد عطرها وسعر الكلمات كلما زاد صدقها ونحن أمام نصوص سكبت من محبرة صادقة لأننا امام كاتبة تربطها مع الكلمة علاقة عشق عاصفة.

وأخيرا أتمنى للكاتبة المزيد من الأعمال الأدبية والإبداعية في القادم القريب من الأيام.

***

بديعة النعيمي/ كاتبة وناقدة

الأردن

من حسنات وفضائل هذا الفضاء الافتراضي أنه يعرفك بقمم أدبية وثقافية مسكونة بهموم الإبداع والكتابة سيدة المقام ومن هؤلاء الفاعلين ثقافيا الذين تعرفت عليهم من خلال الفيسبوك الأخ الفاضل الأسناذ والشاعر القدير عمر بلاجي الذي يعتبر من صناع المشهد الثقافي في أم البواقي بتنظيمه وإشرافه على ملتقيات وطنية وعربية ناجحة بشهادة الكتاب الحاضرين وتتبعت مسار هذا المبدع الذي أحببته لطيبته وكرم تواصله .

والشاعر عمر بلاجي يرأس أيضا ”جمعية الرواسي للثقافة والفنون“، و”جمعية الملتقى للفنون والإبداع“

أصدر ديواناً شعرياً بعنوان ”لمن يهمس الغروب“ عام 2016 عن دار الأوطان يحمل عدة قصائد (واحد وعشرون قصيدة )منها: غربة اللسان، ضيفي الملثم، من سيرة آدم، ابن التبانة، على لسان القدر، توأم الروح، نداء العفة وغيرها من القصائد وقد أشاد النقاد بتجربة هذا الشاعر الذي يكتب القصيدة العمودية باقتدار وسلاسة تنم عن موهبة اصيلة..

قال فيه الناقد والشاعر والأكاديمي عبد القادر رابحي :" لمن يهمس الغروب؟ هو جزء من ذات الشاعر عمر بلاجي المسكونة بوجع الحروف وبمساحة مما تريد أن تخبئه للقارئ من طموح جارف يستمد صدقه ومعاناته من شعلة الكلمات المتوقدة بصدق الذات ومعاناتها والمطلع على هذه القصائد لا يسعه إلا أن يشارك الشاعر في سؤاله الحميمي الذي أودع فيه مشروع رؤيته للكتابة الشعرية وتباشير نظرته لما يعتورها من مكابادات حياتية وفنية ويكفي شاعرنا أن ما يؤرقه من قصائده هذه هو المثل التي يرى أنها بدات تختفي من واقع مسكون بمسافات عميقة من المرارات التي تعبر عنها لغة الديوان وصوره بكثير من الصدق ومن الجاذبية "..

وإن كان هذا الديوان "لمن يهمس الغروب " هو باكورة أعمال الشاعر القدير عمر بلاجي إلا أن في جعبته دواوين أخرى مخطوطة ينتظر الفرصة السانحة لطبعها وانا أقرأ له بعض قصائده المنشورة لفت انتباهي كقارئ للشعر ومتذوق له تلك الصور الشعرية الجميلة واللغة الأنيقة ذات الدلالات العميقة التي تدل على شاعر يمتطي صهوة القصيدة ويعرف اسرار اللغة العربية أليس هو أستاذ لها صاحب خبرة تربوية طويلة ؟، وفي قصيدة " إلى حواء البدء والمال " تتجلى هذه اللغة الرومانسية الجميلة حيث الرباط المقدس بين الشاعر والمراة حيث يجد عالمه الجميل يسافر إليها ليس وحده بل ترافقه الحمائم والرباب، فقليل من الحب تحلو الحياة ويعيش الشاعر في سمو روحي فما أجمل هذا الوله والتعلق ففي هذه القصيدة يتجلى ذوق الشاعر في انتقاء قاموسه اللغوي المشع بالدلالات فالمجاز واللحن والعود والنشيد والحمائم والرباب والسفر والشهاب كلها منفتحة على موسيقى الحياة والتحليق بعيدا وكأن المراة هي نشيد الوجود وحمامة السلام وموسيقى الكون... وأترككم مع هذه القصيدة لتتذوقوا عذوبة الشعر.

إلى حــوّاء البدء والمآل

أيا امرأةً تَجُرّ رداء قلبي

تُعانقها القصائدُ والرّحابُ

ويطربها المجازُ بلحن عودي

بها يحلو النشيدُ ويُستطابُ

أيا امرأة أسافر في هواها

ترافقني الحمائمُ والرّبابُ

تُعاتبني الكواكبُ إن غفوتُ

ويعزفُ عن مُكاشفتي الشّهابُ

فميلي بالهوى قدرًا يسيرا

فما قَتَل الهوى قومًا أنابوا

يروم القلبُ قلبا دون إذن

وتسمو الروح يَبْلُغها الجوابُ

***

بقلم: الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

في المثقف اليوم