نصوص أدبية

نصوص أدبية

بعد أن ماتت زوجته تنازل الحاج عبد الله لأبنائه عن حقه في الإرث كما سلم لهم البيت الكبير واكتفى بشقة صغيرة اشتراها في عمارة حديثة البناء،لم ينقل لها الا الضروري من الثياب والأثاث ..

اتفق مع راضية الخادمة وهي سيدة مطلقة في عقدها الثالث أن تزوره يوميا، تعد طعامه حسب مايريد ويشتهي وتسهر على تنظيف شقته و ثيابه من آلة الغسيل الى المكوجي ..

قلما كانت راضية تتأخر عن موعدها الصباحي الا اذا منعها وابل من مطر شتاء أو تأخرت حافلة عن وقتها،فهي تدرك أن الحاج لاينام بعد صلاة الصبح ويحب ان يتناول فطورة باكرا والذي لا يتعدى بيضة مسلوقة وشريحة خبز رقيقة مع قهوة يحبها ثخينة، أحيانا كان يطلب منها إنضاج بيضتين في قطرات ماء قليلة قبل ان تضع عليهما ملعقتين كبيرتين من زيت الزيتون ثم تدردر خليطا من كمون وقزبرة ناشفة، وفلفل أحمرحار، وتعويض القهوة ببراد صغير من شاي ثخين بلا نعناع ولا سكر..

ينتقل الحاج عبد الله الى زاوية من شقته تعوَّد أن يتركن فيها، يسند ظهره الى وسادة كبيرة وفوق فخديه يضع أخرى صغيرة عليها يحط حاسوبه المحمول ويشرع في القراءة أو الكتابة ؛ قريبا منه طاولة صغيرة عليها تضع راضية كاس عصير من حامض او برتقال حسب رغبته ..

روتين يومي تعوده وكأنه لا يحقق وجوده الا بتنفيذه، ولا يعانق حريته الا حين تلبي راضية كل ما يريد وحسب عادته اليومية ..

كان لا يشتكي من وحدته ومنها لايطويه سأم ولا قنوط كأنه معها في قران لحظي وسعيد ..

تطل راضية عليه بين حين وآخر لتذكره بما يمكن أن يسهو عنه :

ـ هل تحتاج الى ماء؟

الا أغير لك كأس العصير؟

كان يكتفي بتحريك رأسه سلبا او ايجابا حسب رغبته ..

كانت راضية تتمنى أن تتوقف عيناه عن متابعة ما يكتب أو يقرأ وان ينسل من خلوة عقله وتفكيره بحديث معها او ببسمة نحوها تشجعها على الجلوس معه لحظات يحدثها عن نفسه،عما يخطط، وعن خيالاته التي كثيراما تتناهى اليها الى المطبخ وهو في حديث خاص معها، وكأنها تملي عليه ما يكتب،حتى هاتفه ينسى شحنه اذا فرغ وراضية هي من يقوم بذلك، كان مبدؤه : اخترت وحدتي حتى لا اصطدم بأحد ومن ارادني فعليه أن يطرق بابي ..

كانت راضية تتفانى في خدمته، رجل كم تحمل من صبر وحرمان جراء مرض زوجته الطويل فلم يتأفف ولم يشك أو يتدمر،بل كان لها الشحنة التي ملأت صدرها بصبر ابان زواجها .. كانت تعرف رضاه عنها وسعادته بخدماتها حين يقول لها ضاحكا :

انت مرآة نفسي وكفايتي بعد ان تجاوزت الستين وبقيت وحيدا

تحرك رأسها في اعتراض ولنفسها تردد بعد تنهيدة عميقة:

غيرك وفي عمرك يجدد حياته بابتداء ..ماذا ينقصك ؟

كان يسعدها أن تسمع منه كلمات مدح كهذه والتي أنستها مع الأيام ماعانته مع زوج قبل أن تنال طلاقا كلفها الكثير من التنازلات، ذنبها أنها عاقر لم تلد وحتى يطلقها الزوج دون أن يدفع لها حقا من حقوقها، مارس عليها كل أنواع المكر والخداع من ضرب وتقتير في النفقة،و إصراره على التنازل عن حقها في بيت دفعت اقساطه من عرق جبينها وعملها في إحدى تعاونيات التموين قبل أن تعمل في بيت الحاج أيام زوجته، تنازلت راضية عن كل شيء وخرجت بنفسها تتلهف حريتها وهي من توسمت في من اختارته رغم عمره الذي يكاد يتجاوز سنوات عمرها شريك حياة تعيش بجانبه وتتعلم من خبرته في الحياة ويعوضها يتم الابوين ..

كان الحاج حين تسرقه راضية بحديث طويل عن حياتها الماضية، أمها التي لا تعرفها، أبوها الذي مات ولم يصلها غير خبره، زوجها الذي نكل بها حتى صارت لاترى رجلا الا و أحست بالدوار والغثيان..كانت راضية  تجعل الحاج بحديثها كلاعب ينسى الجمهور من حوله، يصغي اليها بانتباه  فينسى حاسوبه فوق ركبتيه كما ينسى حرقة غياب أبنائه الذين لا يحركون هاتفا بسؤال أو يكلمون جرس الباب برنين ..

 يتعب الحاج من جلسته فيتحرك في شقته غدوا ورواحا أو يقوم بإطلالة على المطبخ ليتنسم ما تعده راضية لغذائه .. تشهد له بالذوق وقدرته على التمييز بين أنواع الطبيخ قد ينصحها بإضافة إحدى التوابل او يضع يده على كتفها مشجعا فترتاح للمسته وفي ذاتها يسري دبيب خاص ..

يعود الحاج الى ركنه المفضل وبين عيونه صورة راضية بقدها الممشوق، وجهها الهادئ، وعينيها اللتين لاتغيب عنهما بسمة، يتساءل عن نوعية الرجل الذي فارق أنثى مثلها في أوج شبابها من أجل طمع فيما تملك ..

تأخرت راضية هذا الصباح عن موعدها فسواق الحافلات في إضراب، فماكان منها الا أن تقطع الطريق راجلة .. استغرب الحاج لتأخرها ..

عاد الى سريره وتمدد فأخذته غفوة .. فتح عينيه مرعوبا على ضربات فاس تحفر خلف الجدار في الشقة التي تحادي شقته .. هب من مكانه متحسسا ألما في رقبته، فتح باب الشقة، من خلال اطلالة على شقة الجيران وجد ان عاملا يهدم أحد جدران الشقة .. عند لقاء بصاحبها أخبره في نوع من الزهو والغرور أنه يريد توسعة صالون بيته ..

عاد الحاج الى شقته وقد انتبه ان راضية لم تحضر بعد :

ما الذي أخرها ؟ ..

شرع يعد فطوره بنفسه حين سمع بكارة الباب تفتح ..

كانت راضيه تلهث والعرق يتصبب من وجهها الذي كسته حمرة إجهاد.

ـ خير !! .. أين بقيت الى هذا الوقت ؟

ـ سواقو الحافلات في إضراب ..

ـ هاتفيني ولا داعي لحضورك، بدل هذا الجهد

ـ لا .. يهم ..رياضة صباحية على حسابك،أعتذر ..

تنتبه الى صوت الهدم بالجوار ..

ماذا يحدث عند الجيران ؟

ـ توسعة الصالون بلا رخصة ..

تضع راضية صينية الفطور امام الحاج ولسانها لا يتوقف عن الاعتذارعلى تاخرها . يمد الحاج يده الى ذراعها يمسح عليه برفق :

ـ فيه خير لا عليك، عوضت الفطور المبكر بغفوة كسرها هدم الجيران..

وهج ضوء وطاقة من حياة تسري في ذاتها كلما لمسها، لو تستطيع تقبيله !! ..

تتراجع وقد تنبهت الى انها لم تخلع جلبابها، وهي تستدير الى غرفة خاصة بها ودفء إحساس مايسري في ذاتها، يتداعى الجدار الفاصل بين المطبخ والصالون،بسرعة ترتمي راضية على الحاج لتقيه الطوب المتداعي عليه، دم نازف من جبهته ومؤخرة راسها، حاولت ان تسنده ليقف لكنه كان غائبا، بجهد تجره الى غرفتها ثم تمسح وجهه بماء .. كانت تصيح وهي باكية خوفا من أن يكون قد فقد الحياة ..

أسرعت الى هاتفها واستدعت سيارة إسعاف ..

يفيق الحاج من غيبوبته بعد يومين، ثقيل اللسان، ذابل النظرات

عند خروجه من العيادة طلب منها أحد أبنائه ان كانت تعرف الرقم السري لخزينته، تملته باحتقار وقالت :

ـ لاعليك سأقوم بالواجب..

حجزت راضية غرفة في فندق الى ان تم اصلاح جدار البيت ..

مذ دخل الحاج الى العيادة والى عودته الى البيت كانت راضية تحس بالم في مؤخرة راسها يبدأ رقيقا ثم لا يلبث ان يسري في جميع أطراف جسدها، تتناول مهدئا فترتاح قليلا، رغم بعض الدوار الذي لا يفارقها ..

كانت أول كلمات الحاج بعد أن استعاد عافيته شكر راضية بعناق وقد لف ذراعيه حولها، مسد شعرها ثم مسك يدها وقبلها، بسرعة سحبتها وطبعت قبلة حارة على خده والدمعات من عينيها فوارة .ثم سألها عن أبنائه.

لم تخبره بأي شيء فهي أكبر من أن تفسد علاقة بين أب وأبنائه لكن من كلام أحدهم معه هاتفيا أدرك أن راضية هي من أدت فاتورة العلاج فاصر على أن تسترد منه ما دفعت،أملى عليها الرقم السري للخزانة،وهي تحاول القيام لجلب ما طلب لفها دوار وغثيان اسقطها على الأرض ..

بعد الفحوص تبين أن نزيفا داخليا قد أصابها في مخها اثر ضربات الطوب من الجدار الذي تهدم أدى بعد عدم انتباه الى سكتة دماغية كانت سبب وفاتها بعد يومين من سقوطها ..

اسى حارق أصاب الحاج وقد قمطه في شعور بالذنب وغضب فقد معهما القدرة على الإحساس، ادلهمت الحياة في وجهه فما كان يحمله لراضية هو حب جاهد كتمانه وهاهو يصير مرارة، فعن فراق راضية لايطيق صبرا، شوق متواصل ولهفة علي أمرأة خدمته بإخلاص ولم تتأخرالا يوم كان القدريترقبها بضربة قاضية..

ذات يوم وجد حارس المقبرة رجلا تعود أن يراه يوميا يتوسد تراب الرمس بعد أن يقرأ صفحات من أوراق يحملها، نثر الريح ورقة منها بعيدا ...

أنثى عوضتني عن صدمة غياب أبنائي بعد أن تنازلت لهم عن كل ما أملك واكتفيت بدخلي الشهري ..

عني أدت ما لها يبقيني بحياة، كانت لي عاشقة وكنت بها المتيم ..

بين الأوراق كانت وثيقة رسمية  هي وقف شقته على أحباس المقبرة، صدقة جارية لروح راضية ..

***

محمد الدرقاوي - المغرب

قـــوةُ الفـِـكــرِ، لا تُــقـاسُ بـزَنْــدٍ

تَـتَـعـالى آفـاقُـهـا فـــــي السِّـِجـالِ

*

والـتّـباهـي  بـلا  رَصيـدٍ  ضَياعٌ

ومَـخـاضٌ،  فـي رائـب الأوْحـالِ

*

كــلُّ فَـخْـرٍ فـيــه الـغـرورُ مِــدادٌ

يَـفـقــدُ الـوصلَ فــي نـقاء الفِعـال

*

عـبَـقُ الفضل فـي المواقفِ يبقى

رمـْزَ خـيـْرٍ علـى مسار اللـيـالي

*

لا تُـجـادلْ ، إنْ لـم تـكـن بجَـدِيـرٍ

رُبَّ أمْـرٍ  يـُـودي  لِـداءٍ  عُـضالِ

*

يا رفـيعَ المَـقام، فـي القلبِ شـوقٌ

تــتـجلى أوصافُـه  فـــي الـمـقـال

*

من سُــروري، أرَتّـلُ الشعرَ فيكم

مُـسْـتـطـيـبـا  أحـاســنَ  الأقــوال

*

كلما  مَـرَّ  ذِكـرُكـم  فـي حديــثٍ

يَــتَـحلّـى  الـتَـبْـجـيـلُ  بـالأمـثـال

*

يا ربــيـبَ البـيان ،  زِدني بـيـانـا

فـالـقـوافي لـبحـرِكـم فـي امْـتِـثـال

*

كـلُّ قـلبٍ يستـوعبُ الحُبَّ طوْعـا

غـيـر خافٍ ، فـي حِـلّـةٍ وارْتِحالِ

*

قـدْوةُ الــقـومِ ، فـي الحياة ربـيـعٌ

دائـمُ  الوصل ،  في رُبى الأجيالِ

*

فـإذا  ســاءَ فــي المسـيـرة  أمـرٌ

حَكَّـمَ العـقـلَ ،لاجـتـنـاب الوَبـالِ

*

حِكمةُ المرْءِ في سجاياه تسْـري

باقـتـدارٍ تـَحـمي خُـطى الأفعالِ

*

فـإذا أينَـعـتْ  ثـمـارُ الـقـوافــي

أبدعَ الوصفُ فـي ثـناء الجَمالِ

***

(من الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

عَيْنَانِ خَضْراونِ كَالْأَلْمَاسِ

ببريقها  تسبي قلوبَ الناسِ

*

كالكوَّتانِ على مشارفِ جَنَّةٍ

حَضَناهُمَا زوجٌ من الأقواسِ

*

وَكَأَنَّهَا فِي الْحُسْنِ توءَمُ فَرْقَدٍ

لَاحَتْ عَلَى الْأَكْوَانِ فِي الأَغْلَاسِ

*

أَو ظَبْيَةٌ عِنْدَ الصَّبَاحِ تَخَبَّأَتْ

مِنْ أَعَيْنِ الْحُسَّادِ تَحْتَ كِنَاسِ

*

أَخْفَى الْحِجَابُ طَلَاَوَةً وَنَضَارَةً

فَبَدَتْ  مُشَعْشِعَةً كزَهرِ الْآسِ

*

كمَليكَةٍ  إِذْمَا تَحَرَّكَ رِمْشُهَا

يَهْتَزُّ  آلآفٌ مِنَ الْحُرَّاسِ

*

لَمَّا  رَنَتْ بِلِحَاظِهَا وَتَبَسَّمَتْ

ماظلَّ عَقْلٌ رَاسِخٌ فِي الرَّاسِ

*

أَصَبَحْتُ كَالْبَهْلُولِ أَمْشِي تَائِهًا

وَنَسِيتُ  بَعْدَ غَرَامِهَا جُلَّاسِي

*

وَكَأَنَّهَا مِنْ حُسْنِهَا فِي لَحْظَةٍ

صَبَّتْ  خُمُورَ الأَنْدَرِينَ بِكَاسِ

*

فَرَضَخْتُ طَوْعَا حَيْثُ ذُبْتُ صَبَابَةً

وَأَنَا الَّذِي قَدْ كُنْتُ كَالْعَبَّاسِ

*

وَرَفَعْتُ رَايَاتي لها مُسْتَسْلِمًا

وَفَقَدْتُ كُلَّ شَجَاعَتِي وَحَمَاسِي

*

كَيْفَ النَّجَاةُ أَأَتَّقِي سِحْرَ اللمَى

أَمْ نَغْمَةَ الْإيقَاعِ فِي الوَسْوَاسِ

*

أَدْمَنْتُ  خَمْرَتَهَا وَدَيْدَنَ دَلَّهَا

وَسَبَقْتُ مَرْجِعَها أبا نَوَّاسِي

*

لم يقتربْ كأسُ المُدامةِ من فمي

دَارَتْ  بِيَ الْأَفْكَارُ كَالْخَنَّاسِ

*

أَهْذِي كَمَا يَهْذِي الْكِلَاَمَ مُهَلْوِسٌ

عَانَى مِنَ الْإِرْهَاقِ وَ الْوَسْوَاسِ

*

وَتَحَشْرَجَتْ رُوحِي ومَابيَ عِلَّةٌ

لَكِنْ  هَوَاهَا بَاتَ فِي أَنْفَاسِي

*

قَالُوا انْسَها واسْمَعْ كلامَ مُجَرِّبٍ

حَتَّامَ تَبْقَى فِي الغَرَامِ تُقَاسِي

*

فَأَجَبْتُهُمْ  إنْي غَدَوتُ مُتَيَّمًا

وَتَكَبَّلَتْ  كَفَّايَ بِالْأَمْرَاسِ

*

هَلّا سَأَلْتُم غَيْرَ هَذَا مَطْلَبًا

لَا أَسْتَطِيعُ وماأظنُّ بِنَاسِي

*

إنْي عَرَفْتُ مِنَ النِّسَاءِ جَلائِلاً

هِي وَحْدُهَا مَنْ أَلْهَبَتْ إِحْسَاسِي

*

إِنَّ الْمَشَاعِرَ لِاِتُبَاعُ وَتُشْتَرَى

هِي لِلْمَحَبَّةِ دَائِمًا كَأَسَاسِ

*

سُفُنِي مُحَطَّمَةٌ بِشَطِّ  جَزِيرَةٍ

قَدْ مَرَّ أَعْوَامٌ وَهُنَّ رواسي

*

وَطُيُورُ أحْلَاَمِي بِلَيْلٍ هَاجَرَتْ

وَالْأُمْنِيَاتُ تَبَدَّدَتْ مِنْ يَاسِ

*

ماضرَّ إِنْ مَرَّتْ بِأَرْضِي نَسْمَةٌ

أَوْ  أَنَّ أَمْطَارًا أَتَتْ بيباسي

*

فاخْضَرَّتِ  الآفَاقُ بَعْدَ تَصَحِّرٍ

وَتَفَتَّحَتْ  بِالحبِّ كُلَّ غِرَاسِي

*

مَرَّتْ  كَمَا مَرَّ الرَّبِيعُ بِقَاحِلٍ

وَغَدَتْ لِبَعْضِ مُواجِعي كَالآسِي

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

كنت في طريقي إلى بيتي في حارة سوق البلدة القديمة، عندما شقّ صوت غريب مألوف نوعًا ما ظلام الشارع متوجّهًا نحوي.

- ألست الناجي؟

مَن تُرى يكون صاحب هذا الصوت. إنني أعرفه ولا أعرفه في الآن، ولماذا هو يعترض طريقي في هذا المساء الكوروني الصعب العصيب؟. لم أردّ عليه، وحاولت أن أواصل طريقي فدنا مني:

- لماذا لا تردّ عليّ.. بماذا أنت مشغول عنّي.. أيها القاصّ المُبدع؟ تمهّل قليلًا أريد أن أتحدّث إليك.

شددت على حقيبتي الجلديّة وأدنيتها من صدري. وخطر لي أن أجاري محدّثي بكلمة أو أكثر ليحلّ عن ظهري وليدعني أمضي في طريقي، أنا ومدّخراتي من القصص الجديدة الهاجعة المسترخية داخل حقيبتي.

- أنا مشغول الآن بقصة جديدة. أجبته وأنا أحاول أن أمضي في طريقي. فاستوقفني:

- عمّاذا تتحدّث قصتك؟ .. سألني في محاولة واضحة لإطالة الحديث. أجبته وأنا اجذب كيس ملابسي إلى كتفي:

- سأنشرها قريبًا. بإمكانك أن تقرأها.. مثلما تقرأ أية قصة أخرى.

بدا أن إجابتي هذه فتحت له منفذًا آخرَ لمواصلة حديثه الثقيل معي، فتابع يقول:

- هل ستكون قصتك الجديدة عن الكورونا.. مثل سابقتها؟

هززت رأسي مرسلًا علامة الموافقة. ومحاولًا المضيّ في طريقي. إلا أنه عاد يستوقفني:

- انتظر قليلًا.. أشعر أن هناك مَن نقل إليّ عدوى الكورونا.. استمع إلىّ ما حدث ربّما يساعدك فيما سأقصه عليك في كتابة قصتك الجديدة.

انتابتني حالة من الرعّب. كورونا؟ ويلي إذا ما كان محدّثي قد أصيب بالكورونا ويا مصيبتي إذا ما نقل عدواه تلك إليّ. عندها ستكون النهاية ولن يكون بإمكاني مُعايشة حلم العمر في مواصلة كتابة القصص. ابتعدت عنه وجريت في الشارع الممّتد أمامي. وسط استعطافه إياي بأن أستمع إليه. وكنت أركض في ذلك الشارع أحمل حقيبتي القِصصية وكيس ملابسي، فأبدو مثل شبح يحمل كوخه القِصصي وينطلق في غابة لا نهاية لها. ركضت.. ركضت.. وركض هو ورائي طالبًا منّي الانتظار. إلا أنني أغلقت أذني ومضيت طائرًا في حالة هستيرية. حالة لم تمكّني مِن تبيّن الاتجاه، أهو وسط الشارع أم رصيفه، وبينما أنا أركض وهو يركض ورائي، شعرت بحافلة كبيرة ضخمة تنطلق باتجاهي، وتفصل بيني وبين مُطاردي. تعلّقت بأسفل الحافلة، غير مفكر إلا في أمر واحد ووحيد.. هو التخلّص من ذلك الكوروني المفاجئ. عندما توقّفت الحافلة في مركز البلدة. حرصت على ألا يراني سائقها فأتعرّض إلى سين وجيم. واحتمال عدوى أخرى متوقّعة، تقطع عليّ الطريق إلى بيتي وحلمي في أعماق سوق البلدة القديمة. ابتعدت عن الحافلة، وأنا أغبط نفسي على أنني تخلّصت من حادث كان من المتوقع أن يكون قاتلًا، وقبله عن كوروني موبوء. وجريت متعلّقًا أكثر من أي وقت آخر بحقيبتي القصصية وملابسي في كيسها الكبير. وكنت حريصًا على أن أصل غرفتي الصغيرة لمواصلة العيش على حافة الحلم وكتابة قصتي العتيدة.

انطلقت في شارع الكازنوفا باتجاه السوق. لأقف متأملًا منظرًا طبيعيًا مُبهرًا، هُيء لي أن أصحابه ملّوا مِن قِدَمه فقذفوا به إلى الشارع، لعلّ مفتونًا بالأنتيكات يأخذه ويكتب قصة في أجوائه القديمة. اقتربت من المنظر المجسّم بطريقة قديمة محبّبة. غير عابئ بنظرات فتاة تحاول أن تجمع أغراضها القديمة المعروضة على حاجز حديدي كاد يلتصق بجدار مبنى الكازنوفا. ورحت أتمعّن فيه. وأفكّر بطريقة سهلة تُمكّنني من إضافته إلى حملي الثقيل. بينما أنا أفكر في تلك الطريقة اللعينة، التفتّ إلى ملابسي لأراها مبعثرة هناك دون كيس، ولأرى بالتالي فتاة أخرى ترسل نظرتها باتجاه جدار الكازنوفا موحية إليّ أن تلك البائعة الصغيرة قد أخذت كيس ملابسي بعد أن أفرغته منها. انطلقت باتجاه تلك الفتاة فرأيتها تجمع اغراضها وتضعها واحدًا بعد الآخر في كيس ملابسي، قلت لها إنني بحاجة إلى ذلك الكيس، وإنها أخذته منّي دون أن تسألني كما تقتضي آداب التعامل، فأنكرت أن يكون ذاك كيسي، قائلة الاكياس كلّها تتشابه. وهذا الكيس ليس لك. وأرسلت نظرة حملت معنى غامضًا باتجاه موقع حقيبتي وملابسي ومنظري الانتيكي. لأفجأ باختفاء الملابس والحقيبة العزيزة الغالية. احتبست الكلمات في فمي، تاهت عيناي في عتمة الشارع. ترى مَن أخذ حملي الثمين العزيز؟. وتوجّهت وسط شرودي، رُعبي وذهولي إلى فتاة الكيس قُبالتي:

- مَن أخذ حقيبتي وملابسي؟ سألتها فردّت بنوع من الدلع المقصود:

- لا أعرف. شعرت من إجابتها هذه أنها تعرف، فغرست عينيّ في عينيها:

- قولي لي.. هل أخذت تلك الفتاة أغراضي؟ سألتها وتابعت:

- قولي لي مَن هي تلك الفتاة وأنا سأسامحك بالكيس.

ابتسمت الفتاة قُبالتي، وطلبت منّي ألا أدخلها في مشاكلي. بعد أن أقسمت لها أنني لن أتسبّب لها بأي ازعاج. أخبرتني بأن تلك الفتاة استغلت فرصة توجّهي إليها - حيث وقفنا- ، وحملت ملابسي وحقيبتي وانطلقت بالاتجاه المعاكس. نحو بيتها القائم في آخر الشارع، الدور الثاني. ركضت في الشارع، غير عابئ أنني إنّما أجري في الاتجاه المعاكس ومبتعدًا عن هدفي.. وبيتي، وصلت نهاية الشارع. فتحت بوابة الدور الاول وارتقيت لاهثًا الادراج المُفضية إلى الدور الثاني. فتحت الباب الخارجي للشقة المقصودة. لئلا تغلقه مَن استغلت الموقف وأخذت ملابسي وحقيبتي القصصية، وتحولُ بذلك بيني وبين استعادة ممتلكاتي الدافئة. نظرت في البيت كان يبدو فقيرًا. الخزانة مخلّعة الابواب. بقايا طعام موضوعة على منضدة في وسط المكان. وملابسي المسروقة للتوّ تنتشر على الارض، فاتحة أفواهها كأنما هي تودّ أن تستغيث بي طالبة أن تعود إليّ، غرست عيني في عيني سارقتي ساكنة الشقة:

- أعيدي إلي ملابسي. قلت لها. فردّت ببرود:

- وهل تعتبر هذه الخِرق ملابس؟ لو كنت أعلم أنها قديمة وبالية إلى هذا الحدّ ما كلّفت نفسي أخذها. قالت وتابعت:

- اعتقدت أنك لا تريدها.. لستُ بحاجة إليها.. خذها مباركة عليك.

- والحقيبة؟ أين هي.. سألتها بلهفة طريد مُلاحق. فردّت ببرود:

- يبدو لي أنك رجل مفلس.. لم أجد فيها سوى أوراق.. وتوقّفت ربّما لترى ردّ فعلي.. بعدها تابعت.

- إذا أعدتها إليك.. بماذا ستكافئني؟

- سأترك لك ملابسي كلّها. أجبتها بلهفة وسرعة.

قهقهت:

- ألا تُحلِّ فمي؟

عندها أخرجت كلّ ما في جيبي مِن أوراق نقدية.. وقذفتها تحت قدميها، فانحنت تجمعها، وأشارت نحو زاوية خفيّه هناك. اندفعت باتجاه تلك الزاوية. فأطلّت حقيبتي الغالية نحوي بعينين دامعتين. احتضنت حقيبتي بحنوّ وحنان، وربّتت على كتفها.. عانقتها، ونزلت الدرجات جريًا. ركضت في الشارع مثل حكيم عاقل اكتشف أنه مجنون للتوّ.. وركضت.. لأفاجأ بذلك الكوروني الثقيل يركض ورائي.. ولأزيد بالتالي مِن ركضي.. حاملًا حقيبتي القِصصية.. حلمي وخوفي..

***

قصة: ناجي ظاهر

كان يوما قائظا. انتابه إحساس بضيق صدر وشيء من كدر. لهاثه كان مسموعا. راح يغذ السير نحو أقرب منطقة يستطيع الحصول فيها على واسطة نقل توصله إلى البيت، حين حوصر بمجموعة رجال، عند الطرف الجنوبي لشارع حيفا القريب من الزقاق الذاهب نحو جسر الشهداء وسط بغداد. رفعوا جسده الناحل بخفة وسرعة فائقتين، ودفعوا به نحو حوض سيارة مظللة رباعية الدفع. كانوا غلاظا فجين، تصدر عنهم رائحة غريبة،كأنها خليط من عفن ورائحة مقززة لبخور عتيق رخيص. منذ اللحظة الأولى وجهوا له سيلا هادرا من شتائم. كان قد عرف دوافعها مسبقا، لذا لم ينبس بكلمة للرد.

تخيل ما سوف يحدث قبل قدومهم المباغت هذا. فليس من المناسب أن يستسلم لهم طواعية،لذا وضع في تفكيره سيناريو للمواجهة المحتملة،استحكامات يجب عليه اتخاذها. ممكن أن يكون هناك اشتباك وصراع بالأيدي،ومن الجائز أن يترافق بإشهار أسلحة، عندها سيدافع عن نفسه بأقصى ما يستطيع، ولن ينقاد لهم بسهولة، تلك كانت نواياه وهو يجهز نفسه لمغامرة ترك ساحة الاعتصام في ساحة التحرير.

كان اختطافه متوقعا، لذا كان يتوجس خيفة أن يؤخذ غدرا، دون حدوث مواجهة حقيقية مع الخاطفين. فقد وجهت له العديد من رسائل التهديد التي اتخم بها هاتفه، ولكن دائما ما استخف بمحتواها،واعتقد أنها لا تعدو غير لعبة صبيان ليس إلا. ولذا لم تراوده رغبة مسحها ورميها بعيدا رغم مشاعر الضيق والحنق التي تنتابه في كل مرة تعلن رنة هاتفه ورودها،لحين ساعة اختطاف زميله المعلم محمد خيون خريبط العرادي، والذي وجد بعد يومين مرميا في منطقة مهجورة خارج العاصمة، بجسد مشطب بالسكاكين.عند تلك الحادثة أضطر لمعاودة قراءتها بحثا عما تخفيه وتضمره من تهديد حقيقي لحياته.

قبل خروجه من الخيمة المنصوبة وسط الساحة ،وكان ذلك قراره الذي اتخذه مساء البارحة، في ساعة ضجر وبعجالة ودون تروٍ. فقد أخذت صور زوجته وأبنائه وحفيديه تراوده بإلحاح، وتضعف إرادته على المطاولة. ستة أيام من الابتعاد عن الأهل والأحفاد، بدت جد طويلة ومؤذية، ويحتاج أيضا لحمام دافئ وملابس نظيفة.

نبهه بعض أصدقاء، لضرورة أخذ الحيطة والحذر، إن رغب الابتعاد عن الساحة،فتلك مسألة تحتاج للكثير من الفطنة والحصافة والحذر الشديد، وبالذات هذه الأيام، لمن أتخذ قرار الخروج بمفرده. فحوادث اختطاف المنتفضين باتت شبه يومية وعلنية أيضا،وما عادت بذات أهمية تذكر عند السلطات، وشاطرها هذا التغافل اللئيم الكثير من وسائل الإعلام.  فهناك من يتعقب المنتفضين منذ لحظة مغادرتهم مكان الاعتصام، ويصطادهم مثل طرائد. تكرر ذلك في الأيام الأخيرة بشكل مفزع. فوقائع عمليات القنص ومثلها الاختطاف، شارك فيها العديد من الأطراف ذوي الملامح المجهولة والدوافع الظاهرة أو المخفية، لذا أشار عليه شركاؤه في الخيمة،بضرورة اتخاذ الأزقة المتداخلة والبعيدة ممرات للابتعاد عن الساحة.

توقف وقد اعتراه بعض قلق، سار مسافة ليست بالقصيرة، وكان يتلفت بحذر شديد، ثم هرول. توغل في أزقة ملتوية،أضاع فيها وقتا طويلا،فلم يسبق له أن درج في تلافيفها، وما كان يملك اليقين والدراية بمداخلها و مخارجها. بعدها اجتاز جسرا تمهل وهو يسير فوقه، متأملا ضجة لطيور النورس وهي تقترب من سياجه الحديدي الأخضر، لتلتقط نثار خبز عافه أحدهم. شعر كأن هناك فوهات بنادق موجهة نحو ظهره من نوافذ البنايات المجاورة للجسر،وكانت أكثر الفوهات وأشدها تماسا وبأسا تخرج من فتحات تلك القبة الزرقاء الصامتة والصامدة منذ دهر طويل، مثلما عرف عنها، حيث روى المحدثون، كونها شاهدا دائما على انتفاضات ومسيرات حاشدة، ولازال جوف قبتها يحتفظ بصدى لعلعة رصاص، كان قد وجه لصدور وظهور رجال كانوا يرتشفون دمهم ببسالة، وتتشقق حناجرهم بحرقة هتافاتهم عن الحرية والعدالة التي أضمرت طويلا في الصدور.

هبط من الجسر وأخذ يجاور جدران الدكاكين المرصوفة على طول الشارع،ثم اختار التوغل في الأزقة الضيقة، محاولا الوصول إلى الشارع المفضي لقلب منطقة علاوي الحلة. لم يتبق غير الشيء اليسير ليكون الطريق سالكا بعدها نحو وسط المنطقة حيث المرآب الكبير للسيارات.  فجأة توقفت جواره سيارة رباعية الدفع مظللة، وبسرعة فائقة ترجل منها خمسة رجال بملابس مدنية ولحى مشذبة وابتسامات متشفية. بمرافقة سيل كلمات بذيئة، أحاطوه. تسمر مكانه، فلم تمنحه المباغتة فرصة التفكير بالهروب، واختفى لحظتها عن ذهنه، رهان ذلك السيناريو الذي سهد وهو يجسده في مسرحية ضج بها رأسه في ليال أشتد سوادها وهو يطالع سقف الخيمة الحاجب لضوء القمر.

كان المكان ضيقا لا يسمح بحرية الحركة والإفلات، لذا سهل عليهم مهمة محاصرته واعتقاله. كانوا وكأنهم قد دربوا على إتقان مهامهم، مثلما عليه رجال الصاعقة في الجيوش النظامية.دون عسر ومقاومة،  قيدوا يديه إلى الخلف بإنشوطة بلاستك، كانت تضغط على ساعديه، فشعر وكأنها حد سكين، ثم وضعوا كيس قماش كالح اللون، غطوا به رأسه، كانت رائحته عطنة مثل براز حيوان، أحس بالاختناق ورغبة بالتقيؤ. رفعوه بخفة، وألقوا جسده بقوة وسط الحوض الخلفي لسيارتهم.لم تستغرق عملية اختطافه غير دقائق معدودات، فقد كانوا مهيأين لها بشكل جيد وإتقان احترافي.

حركة السيارة المسرعة تشي باختراقها لشوارع عريضة، وكان سيرها بطيئا بداية الأمر، واهتزازها جعله يشعر بألم عظام شديد. ورغم سيرها الحثيث لوقت ليس بالقصير، فقد عرف بأنها لم تغادر وسط المدينة، وما كان اللف والدوران طيلة الوقت، غير جزء من عملية تمويه. لمرتين توقفت السيارة فسمع فيهما صوت ينادي من الخارج، تفضل سيدي.

شعر وكأن السيارة سارت ببطء شديد ولمسافة ليست بالقصيرة، داخل أزقة ضيقة مكتظة بالسكان. وبوجود بيوت قريبة، كان يصدر عنها صراخ أطفال وأصوات نسوة ، بل كان بالإمكان سماع مقاطع من حوارات قريبة، فعرف أنهم في حي مليء بالبشر.بعد فترة اختفت الأصوات كليا، وبدأت تزداد اهتزازات السيارة، وكأنها تسير عبر شارع ترابي مرصع بالحفر، ثم توقفت السيارة،سمع بعدها صوت صرير ثقيل لباب حديدي يفتح.

كانوا بعجالة من أمرهم،لذا سحبوه من حوض السيارة الخلفي ورموه أرضا فسقط  مثل كيس رمل ثقيل.انكفأ على وجهه فوق أرض ترابية ، ليجلس أحدهم بجسده الثقيل فوق ظهره، ومع رائحة العطن المنبعث من غطاء الرأس شعر بالاختناق وضيق وألم شديد في الصدر.

 لا تتحرك إلا حين تؤمر.

كان الصوت ناعما صافيا قريبا لصوت أنثوي، ولكن نبرته واضحة وحازمة.

 إنهض.

أعانه أحدهم على الوقوف. أصوات تئز في رأسه. وشعر بتشنج ربلة قدمه اليسرى، فأضطر للقفز الخفيف محاولا إرخاء وفك حالة التشنج، فسمع ضحكاتهم. ولكن الصوت الناعم صرخ بشدة مرة أخرى.

 توقف أرعن، معتاد على الرقص ،توقف وإلا..

سمع صوت سحب أقسام سلاح. وفجأة وجهت له ضربة كف قوية ترنح إثرها والتف بجسده دورة كاملة. حاول أن يتماسك كي لا يقع. لم يكن يعرف أي اتجاه يتخذه جسده، ثم سقط على ركبتيه.

 قف

تقدم أحدهم وسحبه من ساعده ليساعده على النهوض. شعر بغثيان ثقيل يداهمه.

 تقدم إلى الأمام ثم أستدر يمينا، خطوتين إلى الأمام، استمر بالتقدم لحين أطلب منك التوقف. اجلس على ركبتيك.

كان سيل الأوامر يتقاطع بحدة مع قهقهات قوية تتردد من المجموعة. شعر بمقدار ما يحمله هذا الصوت الأنثوي البغيض، من خبث وغل، وهو يلهو بتعذيبه. فجأة انتابته قوة وإيحاء روحي للمقاومة والصمود، ورغبة عارمة في إهمال ما يصدر عن هذا الصبي النزق، وقرر تحدي هذا الأرعن الخبيث. لذا توقف وتجاهل الأوامر.فقد راوده شعور بالقدرة على تقبل جميع الاحتمالات، بما فيها الموت، واستعداده لمواجهة هذه الطرق الصبيانية، الساعية لتحطيم معنوياته وإذلاله.

الخبث الداعر يحتسبه هؤلاء الأوباش انتصارا وشجاعة ما بعدها شجاعة،حدث نفسه وانتابته مشاعر ازدراء وكره شديدين. حاول الاسترخاء نفسيا وجسديا، وأحس بعدم المبالاة تجاه ما يجري حوله. تيقن بقدرته على مقارعة هذه اللعبة القذرة التي تمارس معه. ترقب غريب وشعور بلحظة أكثر غرابة، لم تراوده مشاعر خوف ورهبة. كل هذه المخاوف أحس وكأنها غادرت روحه ورميت بعيدا وغُلف جسده بحالة استقرار وطمأنينة ، فلم يعد يخيفه ما يحدث أو ما سوف يفعله هؤلاء للتنفيس عن ساديتهم وجبنهم، فليس هناك في خاطره الآن غير احتمال تهور هؤلاء الجبناء واندفاعهم لقتله.

 من الذي دفعك لمثل هذا الموقف المعارض للحكومة، إلى أي جهة حزبية تنتمي ؟ اخبرنا وإلا سوف يحدث ما لا تتوقعه، ولن يكون في صالحك وصالح عائلتك.

كان صوتا أخر لرجل أقترب منه وضغط بأصابع يابسة كأنها أقلام حديد عند الحفرة الرخوة بين الكتف والرقبة،يبدو بحركته هذه وكأنه يتقن طرق التعذيب. أحس بفحيح يلامس رقبته. شعر وكأن سبق له وسمع هذا الصوت. سمعه يتحدث في أحد أماكن ساحة التحرير، في خيمتهم أو بالقرب منها، كان صوتا خشنا أجشا جافا. جال بتفكيره داخل الخيمة وجوارها، ولكنه لم يستطع بكامل اليقين استحضار وجه صاحب الصوت. فضل الصمت، ووقف دون حراك، وكأن الكلام لم يكن موجها إليه، والأمر برمته لا يعنيه.

عند تكرار حالات الاعتقال، تدور في مخيلة المرء الكثير من الأسئلة،ويستحضر العديد من المواقف، أسباب الاعتقال رغم معرفته المسبقة واليقينية بها، ثم يبدأ التفكير بما سوف يكون عليه القادم، أو كيف تكون المواجهة ،ولكن بعد مضي وقت قصير، تقصي بعيدا جميع الرغبات بالبحث عن أجوبة،وعندها يشعر المرء بأن لا حاجة للحديث وإنما الصمت يحمل الكثير من البلاغة.

- ما الذي جعلك تذهب وأنت في هذا العمر وتحرض الشباب على التظاهر والانتفاض ضد الحكومة، أنتم مجموعة الجوكرية سيكون حسابكم عسيرا.

تلك اللحظة ود أن يرى وجه هذا الرجل الخبيث، ليتيقن جيدا من صورته التي وجدها تنط فجأة أمامه بكامل تجلياتها القبيحة. فكر بضرورة الامتناع عن الإفصاح بمعرفته لهذا الشخص، فذلك سوف يكون دافعا لقتله. طلب منهم رفع الغطاء عن رأسه. فرد أحدهم عليه بضربة كف قوية، ترنح إثرها ووقع على الأرض، فبدأت ركلاتهم تتوالى بقوة وسرعة. أخذ جسده يتلوى ألما.كان يحاول تحاشي الضرب، ولكن مع غطاء الرأس ما كان ليستطيع معرفة من أي مكان تهوي عليه الركلات. استمروا لعدة دقائق ثم أمرهم الصوت الأنثوي بالتوقف.

- تطلب وتريد، لا بل تأمر يا ابن الزنا،هذه المرة الأولى ولتتذكرها جيدا، في المرة القادمة إن كررت وجودك مع المتظاهرين وتحريضك لهم، فسوف يكون عقابك نهاية وجودك في هذه الدنيا.

 وماذا فعلت لتعاملوني هكذا؟ ومن تكونون أنتم؟

بسرعة وقسوة أعيد استخدام الركلات مرة أخرى جوابا على تساؤله. احدهم استخدم حزاما جلديا راح يسوطه به ، أخذ يتلوى وجعا وبذل جهدا فائقا لأجل كتم توجعه. كان أحدهم يوجه ضربات مقدمة حذائه الثقيل نحو وسط جسده وكأنه يريد أن يغرزه عند الخاصرة، ليصل إلى حيث الكلى، ومهما حاول التحرك والتخلص من الضربات، يجده يعاود الركل الشديد بذات المكان. كان وكأنه يعرف الهدف الساعي إليه، وبهذا الشكل الاحترافي، وسبق وأن مارسه مع العديد من الناس سيئي الحظ،من الذين وقعوا بذات الفخ الخبيث. فهذا اللعين يملك اليقين بكون ما يفعله، إذا لم يسبب انفجار الكلية فهو يعطبها، استمر الركل والضرب لما يقارب العشر دقائق.

- دعوه الآن فيكفي مع أبن العاهرة هذا، ما تلقاه هذه المرة من أحذية وضرب.لعله يرعوي.

 فعل جبناء، تنفردون بنا واحد إثر الأخر..

 أخرس وإلا فجرت رأسك.

 وماذا تنتظر.

 أرسلوه إلى مركز الشرطة في منطقته ليقبع هناك، وأخبروا الضابط أبو أنس بأن هذا الملعون يمارس الدعارة والقمار، ويحتاج لعقوبة قاسية بما يستحق.

 أبا رحيم،  هذا عنيد ولسانه سليط، ولم ينل اليوم ما يستحقه من تأديب.

 أعرف هذا، لعله يتأدب بعد هذا الدرس..خذوه.

رفعوه بخفة ورموه ليتكور جسده في حوض السيارة التي انطلقت نحو مركز الشرطة مخترقة الشوارع دون توقف.

*****

فرات المحسن

(قصيدة مستوحاة من بيته الشعري:

يا صاحبيّ اثأرا لي واحرقا كتبي

وحصّلا ديّتي من مهنة الأدبِ)

***

ســأحرقُ كــلَّ أوراقي وأمضــــي

وأطوي صفحــةَ الألــمِ المُمــــضِّ

*

كتبــتُ فلـــــمْ أجدْ إلّا حســـــــوداً

ومجبولاً علـــى لــــؤمٍ وبغــــضِ

*

فذي كُتبـــي معــي تشكو وتبكـــي

وتندبُ عـمـــري الماضي كومضِ

*

وقلبي فــي طــــريقٍ عكْسَ عقلـي

شُطرتُ فصارَ بعضي ضدَّ بعضي

*

غــريباً عشـتُ فــي الدنيـــا كأنّــي

بأرضٍ لـمْ تكُــنْ يـــــوماً بأرضـي

*

تصــدّتْ لـي لتدلغنــي الأفاعــــي

وكُــدّرَ من كــلابٍ ماءُ حوضي

*

فيا كتبي التــي سرقــتْ حيـاتـي

كفـى ما نلْــتُ من لدغٍ وعــضِّ

*

لهيــبٌ فــي انتظاركِ لا رفوفٌ

سيُضرمُ فيكِ في طُولٍ وعرضِ

*

هــوَ الحلُّ الوحيــدُ لما أعانـــي

فمــا حــلٌّ لـديّ ســواهُ يُرضـي

*

دوامُ الحــالِ يا كتبــي مُحـــالٌ*

وكـــلّ حقيقـــةٍ يوماً لنقـــــضِ

*

حــــراكٌ سوفَ يعقبــهُ سكونٌ

ويذبــلُ في النهايةِ كلُّ غــضِّ

***

جميل حسين الساعدي

....................

* اشارة الى القول الشائع: دوام الحال من المحال

في معارضة لقصيد أضحى التّنائي لابن زيدون: بالأمسِ كنَّا

***

بالأمسِ كنَّا وكان الودُّ يجْمعُنا

و اليومَ في اليمِّ قد تاهتْ مراسينا

*

لا الشّوقُ دام كعبْقِ الورْد يغْمرُنا

فيومرق زهرُ اللوْز أحيان  تلاقينا

*

بل اسْتحال فِجاجًا فجّة وجوًى

رياحُ قفْرها طِيعًا في وَجانينا

*

حسدْنَك في بهاءٍ كنتَ تزْهو به

و العهْد صافٍ وخمْرُ الوصْل ساقينا

*

فيسْتبدُّ عنادا صارخا حِممًا

منْ فوق بِيضٍ يواقيتٍ مراجينَا

*

تغارُ منكَ عليْه الشمسُ والشُّهبُ

و تنْحنِي حين تلقانِي تَغازيلا

*

يصُدُّها الشَّوق ذاك ... تغْدو يائسةً

لٍطيفكَ موْتًا ... وأيْكٍ كان يأْوينا

*

و كنتَ تُنشد وجْدا شاكيًا ولَعًا

" شوْقا إليْكمْ ... ولا جفَّتْ مآقيِنا "

*

و كنتَ تُمضي الليالي حائرا أرقاً

تملمِل النَّوم حينًا ... ساهدا حِينا

*

لا الوجْد دام ولا الشَّكوى اغتابتْ زمنًا

بل انْبرتْ هجْرا ... وداعًا باتَ يُدْمينا

*

أتذْكرُ العهْد كمْ كانتْ تُلاطِفنُا

حمائمُ الوادي بالهمْس ... فتدْنينَا

*

و يرْقصُ السّيسبانُ عنْد مطْرحِنا

و التُّربُ ترْطبُ سجّادا ياسَمينا

*

و الْغيدُ ينْعسْن هُدبا فِي نَواظِرها

خجْلى ...فتُذكي المُلتقى فِينا

*

ألستَ تذْكر شجْوا كانَ يطْرحُنا

إذا سرى بيْننا الْواشي وناهِينا

*

و كمْ مَرارًا سقانا البُعد والعَذل

إنْ أنت ناسٍ ...فلا انسابتْ سَواقينا

*

وَ لا طلَعتْ شمْسُ فجْرٍ عنْد مشْرقِها

و لا أمطرتْ مطرٌ فوقَ رَوابينا!

***

زهرة الحوّاشي

(من كتاب حرف ودمعة)

وأنا في أعماقِ شجرة

من ظلال متغيّرة

أتخلى

وأثمل

بسخطي الأخير

هذه الكأس تشربني

والاصطفاف بين نظراء

عقابٌ سقيم

أزدردتُ طعمَه الفاتر

منذ أولِ اللحظات

على الأرض

ضفيرتاي لاهيتان

وقلبي معفّرٌ

الرأسُ كالعادة هناك

في الأعالي

حيث أطلُّ

لأعرف

وكي أتلقى قدري

من اللعنات

أتجلى

خارج الحجرات

في عليتي

بصورٍ وامكان يرتضيني

أو لا يرتضي

كل شيء سواء

هكذا حدقتُ مستوحشة

ولم أنتسب

تحت رياحٍ تتسلّى

بلبّ صمتي

صامتة عن كل شيء

بلا خطوات

ولا هوى

انفضُ يدي من الماضي ومستقبله

وأبتعد..

**

د. سهام جبار

كل حين

تتسلقني أعشاب الخيال ...

فيوضات شغب

تزاحم زُغب أوقاتي ...

بلفحات رفيف ...

هامسة مزامير الحروف ...

هنيهة ..هنيهة

تسري نبضات يقظة

على جبين النعاس تعوم ...

دلائل فكرة زاخرة الانهمار

تستبيح حدقاتُ الدواة

لشغفِ التدوين تتأجج

بأنواءِ لهفتي

*

كل حين

تمخر أشرعة التأمل  ...

رحيق حواس موشمة الرؤيا

شرودا متمردا بأوكار وعيي

يناور ديار الطلل بجداول الذاكرة

وبهمس براءة عاتي التسلق ...

يتنفسه زفير القلم

شهقات بوح تطوف ...

دفقة.. دفقة

من أمس السبات تَتمَهرج ...

مرساة صور وأسراب مجاز ...

فأتوج أُنس اشتياقي أُلفة عنوان

يتسلل بسملة المداد

يعزفه رذاذ الأنامل ...

إيقاعات رموز رائقة المعنى

باوتار فيروزية السطور

تحتضن زرقةَ الأفتراض

على أجنحةِ حلمٍ

مسافرٍ.......

***

نص / إنعام كمونة

عندما لا يعود لك في مكان ما تفعله غير تجنب حروب زوجتك فأهرب إلى طرف ذيل أمريكا اللاتينية. قلت هذا لنفسي وأنا أدقق النظر في خارطة العالم، بحثاً عن أبعد مكان يمكن لزوجتي أن تتوقع هروبي إليه. أي، ووفقاً لمعرفتي بطريقة تفكير زوجتي، لن تفكر بوجودي في ذيل أمريكا اللاتينية، ببساطة لأنها لن تتوقع أن أترك العواصم الأوربية وأذهب إلى جزيرة مجهولة وضائعة في بحر الجانب الثاني من الكرة الأرضية... وهربت. مهلاً، عليّ أن أقول أن بُعد أمريكا الجنوبية لم يكن السبب الوحيد لهروبي إليها، بل إني اخترتها لأني كنت قد درست اللغة الاسبانية في الجامعة وتعلمت ما يساعدني على التفاهم بها مع سكان تلك القارة أيضاً.

وصلت ذيل أمريكا الجنوبية في ظهيرة ساخنة وماطرة. لم يزعجني المطر سوى لأنه لم يدعني أرى ظهر الجزيرة الصغيرة بهدوء في لحظة وصولي. لم يكن في الجزيرة فندق؛ استأجرت أحد أكواخ الصيادين من اجل قضاء ليلة ذلك اليوم، على أمل أن أجد مكاناً أفضل في اليوم التالي.

واصل المطر الغاضب انهماره لساعات ما بعد الظهر بوحشية لا تصدق، ولكني كلما اقتربت من شباك الكوخ المطل على الساحة التي تتوسط الجزيرة، والتي تطل عليها جميع الأكواخ، كنت أرى جميع السكان يدورون، ذهاباً واياباً وفي جميع الاتجاهات، وكأنهم لا يشعرون بهطول المطر ولا يسبب لهم أي ازعاج أو يعيقهم عن قضاء شؤونهم.

هل كنت الحبيس الوحيد في ذلك اليوم؟ هذا ما أخبرني به صبي في نحو الرابعة عشر من عمره، بعد أن طرق باب كوخي ليقدم لي سمكة كبيرة وقال، وهو يضعها على الطاولة الصغيرة التي تتوسط مطبخي الصغير:

-أرسل أبي لك هذه السمكة لعشاء هذه الليلة. وبعد أن مسح الكوخ بنظرة أضاف: أنا رودريغو ابن صاحب الكوخ، ولكن لم لا تخرج إلى البحر؟ لم تهدر يومك في الكوخ؟ حولت نظري إلى السمكة الكبيرة، مدارة لخجلي وقلت:

- بسبب المطر.. سأخرج عندما يتوقف المطر. فتح عينيه السوداوين بتعجب وقال:

- هل تخاف المطر؟ وبحركة آلية، ولكن بود، قبض على معصمي الأيسر وقال وهو يجرني باتجاه باب الكوخ: بربك يا رجل، هل يعقل أن تترك هذا المطر الأبله يمنعك عن متعة مصارعة سمكة وارغامها على الاستسلام لسنارتك؟ حاولت أن أشرح له وأقول أني متعب بسبب سفري الطويل، ولكنه لم يمنحني الوقت، لأنه سرعان ما جرني إلى الباب وهو يقول: العمر قصير يا صديقي وعليك أن تصطاد فيه ما يساوي ضعف أيامه كي تخرج رابحاً من الحياة، كما يقول أبي. وفي الدقائق التالية كنت أجلس إلى جانبه على حافة المحيط، أمسك بعصا طويلة، يتدلى من طرفها البعيد خيط إلى عمق الماء وأنتظر أن تسحب طرفه سمكة ما.

ربما بعد نصف ساعة من جلوسي إلى جانب رودريغو، تقبلت وضع المطر وبدأت بفتح عينيّ لأمسح الشاطئ بنظرة، كنت الوحيد الذي يرتدي قميصاً فوق سرواله، فقد كان جميع من حولي من الرجال والصبية، يكتفون بلبس سروال طويل وصدورهم وأقدامهم عارية... وفجأة شدت سمكة طرف سنارتي بقوة فأفلتت العصا من يدي، ولكن رودريغو، دائب الحركة، كان منتبهاً فرمى بنفسه على طرف العصا ليمسك بها، قبل أن تهرب بها السمكة إلى عمق المحيط وهو يصرخ بي:

-ما بالك يا رجل؟ كدت أن تهدر أحد أيامك بلا صيد. بربك يا رجل، ليس كل يوم ستجدني إلى جوارك لأساعدك. عليك أن تكون أذكى من أن تهدر يوماً من أيام عمرك القصير بلا صيد، لأنه وفي النهاية، لن يعوضك أحد عما هدرت من حياتك دون صيد.

ما هذا بحق السماء؟ هل أنا أمام حكيم في الرابعة عشرة فقط؟ قلت مداعباً لرودريغو وأنا أبتسم:

-بربك يا رجل، وكيف سأعوض السنوات الطويلة التي قضيتها هناك دون صيد؟ كان قد تمكن من سحب السنارة وسمكة كبيرة فعلاً تتدلى من طرفها، فرمقني بطرف عينه وسألني:

- وأين كنت هناك؟ أشرت برأسي ناحية الشرق وقلت:

- في الشرق، ربما في الجانب الثاني من الأرض. رمقني بنظرة شك وسأل وهو يعالج اخراج السنارة من فم السمكة:

- وماذا كنت تفعل هناك؟ ابتسمت ساخراً من بلاهتي:

- كنت متزوجاً. رمقني بنظرة هي مزيج من عدم الفهم وعدم الرضى:

- ماذا تعني أنك كنت متزوجاً؟ جميع الرجال هنا متزوجين ولكن لا يكفون عن الصيد. هل يعني إذا تزوج الرجل أن يكف عن الصيد؟ كيف يملأ حياته إذن وكيف يعوض قصر أيامه في الحياة؟ يا رجل قلنا أن العمر قصير وعلينا أن نصطاد فيه ما يساوي ضعف أيامه. حمل السمكة ووضعها أمامي فقلت، محاولاً الهروب من الرد على كلامه:

- لماذا تضعها أمامي؟ هي سمكتك وأنت من اصطادها. رد وهو يسرع للامساك بعصا سنارته التي شدت طرفها سمكة في عمق الماء وهو يقول:

- ما دمت أنت الذي ألقى بالسنارة وبرغبتك في الصيد فالصيد لك.. يا رجل، على الرجل أن يكون صيده خالصاً لذاته وأن يأتيه بنفاذ وسطوة شخصيته لا أن ينسب صيد غيره لنفسه. وبعد أن سحب صيده، وكانت سمكة تفوقه طولاً وبذل جهداً يفوق عمره معها، أضاف: الصيد كالزوجة، إن لم تأتيك بنفاذ شخصيتك وسطوتها فإنك لن تحس أنها لك وأن لحمها سيمتزج بدمك. نفذت ملاحظته الأخيرة حتى نخاع عظامي فسألته، رغم أني لم أتوقع أنه سيفهم مقصد كلامي:

- هل يعني هذا أن على الرجل أن يعتمد على نفاذ شخصيته وسطوته وأن ينتظر أن تأتيه امرأته؟ رد وهو يرمقني بنظرة شفقة:

- وهل المرأة تعيش في البحر لترمي لها سنارة يا رجل؟ المرأة إن لم تأتيك لأنها تراك جديراً بأن تكون صيادها ووحدك القادر على قتلها فلن تجني منها غير نظرة الاحتقار. قلت بصوت رفعته الدهشة رغماً عني:

- ولكني تزوجتها بموافقتها بربك... شد عصا سنارته واقترب ليجلس إلى جانبي، من دون أن ينزل نظره عن طرف عصا السنارة البعيد وقال بهدوء:

- يا رجل اهدأ، قلت أنك تزوجتها بموافقتها ولم تقل أنها جاءتك مستسلمة لسطوة شخصك. هل سألت نفسك يوماً لم لا يستطيع إلا قلة من الرجال الصيد بالصقور؟ ببساطة لأن هذه القلة لها قوة السطوة التي تخضع الصقور وتجعلها تعود إلى أيديها، بعد أن تطلقها وتصير حرة في الفضاء ويكون بمقدورها الهرب والتمتع بالحرية من جديد.

كنا قد دخلنا المساء وكان المطر قد توقف عندما سحبت سمكة جديدة عصا السنارة من يدي مرة ثانية، فقفز رودريغو خلفها ليمسك بها ويسحبها وهو يقول:

-لا أعرف عم تبحث يا رجل إن لم تبحث عن صيد يسجل مرورك بهذه الأرض؟

كان قد تقدم وخاض في الماء حتى منتصفه، وهو يصارع السمكة، من أجل مراوغتها واجبارها على الاستسلام له، فرفعت صوتي من أجل أن يسمعني:

-ربما لأني لا أتواءم مع فكرتك، أعني فكرتك عن الصيد فقط. ونهضت وسرت في الظلام متوجساً باتجاه الكوخ، ولكن بعد خطوتين أو ثلاث وصلني صوت منه، من دون أن أميز لهجته:

- إذن أنت سمكة، ولذا عليك أن تغوص في البحر لتعرف بأي صيد تعوض الأسماك قصر أيامها في الحياة.

***

د. سامي البدري

في عشق الحياة

أغنية

يغنيها الربيع مرة واحدة

و يتردد صداها

في قلب الشتاء

آلاف المرات

حين تجف أنهري

أملؤها

من عيون

اليتامى و الفقراء

والمساكين

وأبناء السبيل

أملؤها أيضا من عيون الغرباء

والعابرين

تصادفني وجوههم

حيثما يحل بي وجع

الكلام

تتقاطع مساراتي

مع مساراتهم

يأخذني

عبث لاإرادي في

الوجود

طوعا أو قسرا

يأخذني

الى

أسئلة مجهولة

هاربة من سبات

الكتب

وهدوء المكتبات

من أنا لأخلص لغتي

من بؤسهم

ومن كوابيس يقظتهم

من أنا لأقول لهم

ان لا موت يتسع

لأحلامهم

ومن أنا

لأحول  رماد الزمن المتفحم إلى

ذهب وأكتب به

قصيدة عقيمة

لا تدر لبنا

خذوا

أصابعي

وازرعوها في أحواض

أمانيكم القاحلة

أو

أقيموا عليها الحد

إن شئتم

فلا

لون للعدم

هكذا يبدو من بعيد

ومن قريب

لا لون له أيضا

***

بقلم: وفاء كريم

1- عتبة

إنّي أنا المغروس

- رغم ملامح حزني -

في أرض الطيبة ، والمروءة..

التي لم تزل تشيّع أيّامي ،

يوماً بعد آخر ..!

أهرب  من دمعة لا تجفّ

ومن قلق يسير في الليل إلى المجهول

أهرب من حلاوة الأملاح في الريح

اهرب من جلال الحزن

فوق  سرير النوم

أستفيق - بنقاء الفجر-

في كتب ترتدي الشعر

تبحث عن نوافذ من عيون

في بسمة الحزن الجميل

يتوهّج قلبي ..

يبحث عن عنوان ضائع

في عاطفة ،سامية ، فذّة

أترك  بعضي

خلف زجاج النافذة

أهرب من بعضي لبعضي

وتدور النفس على نفسها

مرة ..مرتين

أدري:

أنّ الكواكب تسير

تسير

والساعة العجلى

تحاول جاهدة

أنْ تعبر بنا

إلى ضفة عام جديد

أدري..

ولكن.......

**

2- وداع

من فيض القلب

وساحل الروح

من رمز القصائد

والمرافئ الجديدة

من نجمة تشعّ في المدار

قد هيّأت ُ زورقي

ولوّنته بأجمل ألوان

طيبة أبي الخصيب

وجعلته

أحلى من الرطب المعسّل

وله نكهة حلاوة (نهر خوز)

وكدّستُ فيه شرائع محبّتي

وصناديق أشعاري

على الرغم من أنّني

لا أملك إلاّ حفنتين

من تراب الطفولة

وحزمتين

من شعاع قريتي ( الحمزة)

وقطرتين من ماء نهر حمدان

وهو يزهو بالمشاحيف

وشباك الصيادين..

وصدى صوت العصافير ..

وهي تبوح بأسرارها الغالية

على شرفات المساء ..!

ويقظة سيّدتي الجميلة

في  قريتي الحمزة(المحيلة )

وهي خلف مرايا هواي

تضحك من البكاء

ربّما .......!

- ها قد عبرنا الوقت .. وأتمنى ذلك..!

ما دامتْ بقايا الحكمة في صدري

وما دامتْ لوعة الشعر

في أمواج العينين ..!

- أه هل أعبر ...؟

- لم يجفّ نبع الذكرى

والنبع عنوان المحبّة ..

ونشيد الإخلاص

- ما الجدوى ..؟ سأفتح نافذة المعقول ..!

كي تتسع حروف الأبجدية ..

- لم أزل على جدار الوحدة .. آه...آه

حتى ظل الشجرة

قد رحل عنّي ..!

لمّا أزل منكفئا ًفي عام مضى ...!

أتطلّع إلى أيّامه الراحلة .. !

- أعرف أنّ الصبر جميل

- وصبرت على كفّ الريح الشتويّة

وهي تقدّم لي البرد والأحزان

وأقدّم إليها حرارة أشواقي ..

وذاكرتي الممطرة بالوجد ..

والودّ والياسمين ..!

أعذرني أيّها العام

ودّعتك ..أجل ودعتك

بصوتي القرويّ الحقيقي

المتعب بالأمل

والخيبة

بالحيرة

والاطمئنان

بالحركة

وسكون السكون

بالثقة والشكّ

بالترقب والانتظار

أيّها العام

كلّ أيّامك

قد عبرتها

بتراتيلي الخاصة

حتى وإنْ تاهت بي الأقدام ...!

وطارت

بعيداً .. بعيداً

كلّ أوراقي ..!

***

حامد عبدالصمد البصري

 البصرة – العراق

مُتفقان على شغفٍ لا يملؤنا

أنتَ، تُضَيِّعُ قَمَراً يبقينا تحت شتات الشعر

وأنا أتناسى النجمةَ كي تُنكِرَ وجهتنا

انطفأ الليلُ وبانَ الوهم جليّاً

نتخاطرُ عن بُعدٍ، ونُسِرُّ الضحكةَ

نرتكبُ الأخطاءَ مَعاً

نتوازى في صورتنا

ونناقضُ آخَرَنا عن قربٍ

ثُمَّ نُعيدُ خطوطَ تآلفنا في اللوحةِ

ثُمَّ نؤدي صمتاً مُتَقِداً.. نتكسَّرُ.. نشَظَّى، نَدَّاخَلُ، نَضَّادُّ ونسقطُ في التجريد

تُؤججُ نشوتَنا كأسُ التجريد

تُطلقنا لفضاء التأويلِ

رؤانا تتباين..نختلقُ الهوَّةَ كلٌّ يرفضُ آخَرَهُ..

أو لنقل يتماهى في صورةِ آخَرِهِ..

ذاتي فَتَّشَ عن شيء ليصدقهُ

وأنا واصلتُ صلاتي

ذاتي وأنا.. موعودانِ بصحوٍ لا يجمعنا

مُفتَرِقانِ بلا هدفٍ

*

مُلتَقِيانِ على تيهٍ

مُرتبطانِ بشيءٍ لانعرفهُ..

مُقتنعانِ بأَنّا ضدِّانِ بلا جدلٍ

يُدخِلُني في النصِّ فأُخرجهُ

يُخرِجُني من نَصّي كي يَدخلَ في لغتي

مُتهمانِ بمحو كلينا

مَحكومانِ بجسدٍ حارَ بنا

مُبتَلَيانِ بعبءٍ لا يقصمُنا

يتركُنا ننتظرُ القشَّةَ

من بابِ المرحِ الفيزيائي

***

فارس مطر - Berlin

21.7.2023

إذا قدر لي أن أعيش هذا الصيف

سأطلق سراح غيوم كثيرة من حديقة رأسي

أفتح الرصاص الحي باتجاه غراب جورجينيا ميلوني

أنقذ المهاجرين من عواصف عينيها الجاحدتين

أصنع طائرة من خشب القوارب المهشمة

ألاحق المهربين والصيارفة بقنابل آربجي

أملأ دموع الغرقى في قوارير من الذهب

أبكي إخوتي الأفارقة طوال الليل

الذين صنعوا أمجاد الغرب

الذين أطلقوا الضوء والبركات على العالم

سأشتري الكثير من الهمبرقر

لصديقي توت عنخ آمون

بعد ملاحقة اللصوص بطائرات مسيرة

إذا قدر لي أن أعيش هذا الصيف

دون أن تطالني ضربة فأس من أحد البحارة القدامى

سأركب فيلا صغيرا باتجاه حانة

يؤمها المجانين

أحفر بئرا عميقة وأدفن الأسئلة الكبرى

لن أفكر في تأبين العالم بإيقاع دادائي

أضحك ألف مرة في الأسبوع

أمام سور المقبرة

سأرتاد دار المسنين كل يوم

مخاطبا جميع العجائز

الموت ليس فكرة سيئة

بل هجرة غير نظامية إلى الفردوس المفقود.

سأحرض الصيادلة على قتل الفراغ

بسم الشوكران

إذا قدر لي أن أعيش هذا الصيف الملعون

سأقيم دولة صغيرة من الفرح اليومي.

ويكون القلق أحد حراسي الشخصيين.

***

فتحي مهذب

اِسْتَوْطِنِي قَلْبِي الْجَمِيلْ

وَعَانِقِي حُبِّي النَّبِيلْ

*

وَتَرَبَّعِي فِي قِمَّةٍ

مِنْ ذَلِكَ السَّفْحِ الطَّوِيلْ

*

وَتَذَكَّرِي يَا غَادَتِي

عَذْبَ الْمِيَاهِ السَّلْسَبِيلْ

*

وَتَوَقَّفِي فِي قَاعَةٍ

مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ الظَّلِيلْ

*

قُولِي لِشَاعِرِ عَالَمِي

إِنِّي أُحِبُّكِ يَا بَخِيلْ

*

أَضْنَيْتَنِي وَهَجَرْتَنِي

اِرْحَمْ فَتَاةَ الْمُسْتَحِيلْ

*

فَأَنَا بِرَبِّكَ يَا فَتَى

مُنْذُ اللَّقَاءِ لَكُمْ أَمِيلْ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

وهكذا ! في كلِّ يومٍ نُفجَعُ

بصاحبٍ وصادقٍ لا يَرجِعُ

زمانُنا، خسائرٌ، كم تُوجِعُ

***

وداعا!

أيُّها الصديقُ الصادقُ الطائرُ النقيّ، والشاعرُ الرقيقُ العَذْبُ البَهيّ، شاعرُ البجعِ والوجعِ، والقلبِ النديّ.

وداعاً، سامي العامريّ.

أهدي إليكَ ثانيةً قصيدتي التي كتبتُها فيكَ يوماً:

***

وداعاً.. سامي العامري

شُغفْتُ بما تقولُ هوىً مُراقا

صبـابةَ عاشـقٍ، غنّى وتـاقـا

*

شُغِفتُ أنا القتيلَ بكلِّ حرفٍ

بجمرِ الشـعرِ يأتلقُ ائتلاقـا

*

فما مثلُ القـوافي غانياتٌ

نشدُّ بدربـها عيناً وساقا

*

تبـارزُنا التـوهُّـجَ، والمعـاني

تقاسمُنا المواجعَ أنْ تُطاقا

*

تفـكُّ أناملاً، وتسـوقُ ريشـاً

يخطُّ صدى القلوبِ دماً مُراقا

*

تغـازلُنـا، فننظمُهـا حُليّـاً

تُطوِّقُ جيدَ محبوبٍ عِناقا

*

تضمُّ مصارعَ العشاقِ تروي

مَلاعبَهـمْ لهيبـاً مُستذاقـا

*

وهل مثـلُ القوافي أغنياتٌ

عزفْنَ شرائعَ الحبِّ اعتناقا؟

*

تُظللنـا، بظـلٍّ مـِن جناحٍ

رقيقِ الرَفِّ بالأرواحِ حاقا

*

فهـذا عبقـرٌ، لـَمَّ الرفاقـا

بواديـهِ، وأطلقـهم رِقاقـا

*

شياطينٌ تصبُّ لنا كؤوساً

لتروي ظامئاً عشقاً زُهاقا

*

وتمـلأَ سـمعَ نادينـا رَويـّاً

شجيّاً يعلقُ النفسَ اعتلاقا

**

لذيذاً كم نذوقُ لكَ المَذاقا

بنارِ الشعرِ تُشعلُنا احتراقا

*

فكلُّ قصيدة تُشـجيكَ لحناً

وحباً شدَّ في الصدرِ الوثاقا

*

نزيفُكَ نزفُنا وصـداهُ صوتٌ

يدورُ بجَمعِنا كأساً دهاقا

*

هـوانا، واحدٌ، فردٌ، نزيلٌ

بلُبِّ القلبِ يعصرُنا اشتياقا

*

وهلْ بعدَ العراقِ لنا خليلٌ

يضمُّ ضلوعَنا طوقـاً وطاقا؟

*

أبغـدادَ المغانـي، و المراثـي،

لكِ الصَبَواتُ تُمتشَقُ امتشاقا

*

شربْتُ بكفـكِ الماءَ الفراتا

عتقْتُ بروضـكِ الحُلُمَ انعتاقا

*

وإذْ ضاقتْ بـيَ الآفاقُ أهلاً

وشدّوا حـولَ وادينا الخِناقا

*

حملْتُ مواجعي ورميْتُ حُلْمي

فعـاشـرْتُ المهاجـرَ، والفِراقـا

*

ودُرْتُ مشارقاً وحللْتُ غرباً

بحاراً، أمْ سُهولاً، أمْ زُقاقا

*

فلمْ أشـهدْ لحضنكِ منْ مثيـلٍ

يُخفِّـفُ لاعجاً، ويُريـحُ سـاقـا

**

أياخمرَ القوافي أنْ تُسـاقَى،

لذيـذَ الشـدوِ تسكبُها غُداقا

*

طربْتُ، وقد سكرْتُ بفنِ قولٍ

نُعـِدُّ لهُ السَـوابقَ والنياقـا

*

صريعَ النَظْمِ ماجاشَتْ بصدري

أحاسيسي، رياءاً، أو نفـاقـا

*

ولكنْ.. هزَّهـا قـولٌ بليـغٌ

جمالاً واصطياداً واختراقا

***

عبد الستار نورعلي

الخميس 26 آذار/مارس 2009

أغلق باب سيارته، وأدار المحرك وهو يحدّث نفسه عن صراخها المفاجئ وما فعلت به في لحظة. حطّمت كلّ عاطفة كان يملكها مع تلك القذائف المدمرة من لسانها في كلمات عنيفة تزيد الجنون جنونًا، ولولتها الكاذبة بالتقصير دون التوفير.

- "يخرب بيت الحريم وأصلهم،" ماذا أفعل؟ وكيف أراضيها؟

- "تعبتُ.. سئمتُ.. زهقتُ.. عقلي دماره قادم"، هكذا كان يحدّث نفسه، وضربات تضرب عقله بشدة، تُشعره بشللٍ تام وآلام رأسه تنتشر في جميع الأنحاء. يبحث عن النجاةِ ويتمنّى الموتُ في آنٍ واحد!

إنّها الإرادة التي لا مهرب منها، سوى التنازل والخضوع لها، كما كان يفعل منذ سنوات طويلة، يفكر في أبنائه وشتاتهم، كيف يكون خارج المحور، وقلّة الحيلة في اتخاذ القرار المناسب برغم السنوات الطويلة التي عاشها معها.

وصل إلى تلك الدولة العربية، يتمنّى أن يجد امرأة تُشبع عواطفه كي يُبرر تلك الخطايا بخطايا حياته التي لا نهاية لها سوى الموت الذي يتمنّاه دائماً.

وما إن دخل باب الفندق، حتى سمع موسيقى صاخبة لا يعلم مصدرها في ليل ظلامه دامس، لا تراه العيون وإن كان النور يجمع نفسه في كلّ زاوية، سأل حارس الأمن: من أين مصدر تلك الموسيقى؟ حين أشار بيديه وهو يبتسم: فوق!

الصعود إلى الأعلى ليس صعبًا، لكنّ الهبوط أصعب من أن تدخل وترى تلك الغانيات يتمايلن بأردافهنّ في شتات العقل والمنطق، لكنّها الرؤية التي ربما تزيل بعض الآلام.

- أهلاً سيّدي، أهلًا بكَ!

سأله:" كيفك أنتَ؟"، سمعه يقول: "زيّ الزفت؟"

ابتسم قليلًا، حدّثه بالقول إنه يُشبهه وهو يتقدم إلى تلك الطاولة. بدأ ينظر إلى تلك الفتيات اللاتي يرقصن، إحداهنّ طويلة القامة، تتمايل بكلِّ جسدها الملتصق مع ذلك الفستان الأزرق الشّفاف مع تلك الأعين والنظرات الناعسة البائسة، يتخيّل أن يكون في أحضانهن، ربما حين يدفعون تلك ثمن الزهور التي تحملها تلك المرأة الأثيوبية التي تراقب الذين يفقدون عقولهم في إهداء الورود إلى تلك الراقصة التي تحيي العقول كما يعتقدون، وتلك عبارات الترحيب بأسماء بعض الضيوف تصعد من خلال ذلك الميكرفون الذي يحوم حول الزبائن ترحب بالأستاذ صالح الذي دخل فجأة وجلس في الزاوية الخلفية.

نظر إليه قصير القامة بفانيلته وبنطاله وسحنته الخليجية، كأنه زبون دائم، أو كان غائبًا منذ فترة، لا يعرف؟ بدأت عينهُ تراقب حركاته بعد أن قام فجأة وبدأ يرمي الورود من يد تلك النادلة الأثيوبية على صدور الغانيات، حين لم يجد له ذلك الشراب على المنضدة، واستمرّ الآخرون يُلقون تلك الورود مع تلك الموسيقى الصاخبة وهم يتمايلون بشهوة مزيفة لإرضاء شهوات المشاهدين.

لكنّ صالحاً أخذ جزءًا من تلك السهرة، سأله في خياله: هل أنت راضٍ عمّا تفعل؟ ربما شعر بطيبته الزائدة التي ملأت روحه الضائعة (مثله)، بينما هو يراقب تلك الراقصة أرادفها الملتصقة الملتحمة في اهتزازٍ دائمٍ لا تستقرّ مع صخب المكان، بينما صالح كان مراقبًا أيضًا في الخطوة القادمة، حين وجد فتاة أخرى أجنبية جلست بالناحية الأخرى تنظر له بتودّدٍ في فقر جمالها.

نظرْ إلى صالح يذهب المرة بعد الأخرى ومن معه يطرحون تلك الورود على تلك الأجساد والصدور العارية إلّا أنّ دخول الخليجيات بعباءتهنّ المكتنزات بأردافهنَّ. كان المشهد الآخر له وهم يجلسون أمامه   وهو ينظر ردود فعل الآخرين واحداً بعد الآخر، وصالح كان أحدهما حين وجد المشهد عاديًا وأكثر من عادي، ربما فقط هو المتبلّد بينهم، وهم في خمار العقول مع تلك الكؤوس، بدأت إحداهنّ تدخن تلك السيجارة، لكنّ مغادرتهنّ كانت سريعة.

نظر إلى القوارير التي كان يشربها، كانت أربعاً، لكنّ كان ينوي شرب ستٍّ منها، حتى يغادر نهاية السهرة، لكن كان يتساءل بينه وبين نفسه في خياله، هل تلك الغانيات والراقصات سعيدات فيما يفعلن؟ 

الجواب: ربما! وربما قلّة الحيلة أسبابها مدفونة في أنفسهنَّ وليست في كنوز أردافهنّ الجميلة. هي قناعة لم يقتنع بفعلهن مع السبب الذي غادر فيها منزله، لكنّ القارورة السادسة كانت نهاية الحفلة واشتعلت الأنوار المضيئة وهو ينظر إلى صالح، فقال في نفسه: كيف وجدتَ نفسك يا صالح بعد تلك الزهور التي ألقيتها بإرادتك؟

ربما المغادرة كانت حتمية وهو يغادر وسلامه إلى صالح بأحلام سعيدة والجميع يتأهّب للمغادرة وصالح لم يجد تلك الغانيات بينه بعدما فعل؟ لكنّ أحلامه استمرّت بحلمٍ لن يجد طريقه مع تلك السّلالم في بهو الفندق، وهو يجد من ينتظر تلك العاهرة أن تجد لها رفيقاً في مخدع واحد، لكنّ السّلطة العاشرة هو نوم الإبل حتى الصباح.

***

فؤاد الجشي – كاتب وأديب سعودي

ضجيج الشوارع حياةٌ

والناسُ

أجسادٌ وإحساسُ

*

هنا الله يبتسمُ

إذا الأجساد تلتحمُ

ولا يجلس يراقبهم

فإن فرحوا ... ينتقمُ

*

هنا

صخب الحياةِ

صهيل الجسدِ

وحبٌّ لامتناهي

طريق الناس إلى الله

*

هنا

لا أحدَ يخاف على الله

من جسدِ امرأة سوّاها

ولا أحدَ يمتلك اللهَ

*

لا ربَّ هنا يحصي أنفاس الناس

أو يشعل نارا وقودها البشرُ

*

الشعر زينة الحياة الدنيا

وصلاة الناس إذا انكسروا

*

موسيقى, إبداعٌ وإيقاعُ

هو الجسدُ

لا وهمَ يحكمه، لا خوف ينخرهُ ولا عقدُ

*

هنا لا صراع بين الله والبشرِ

بين القُدرةِ والقدرِ

*

لا خصومة بين الروح والجسد

في ميديين

ولا تُهزمُ الدنيا لينتصر الدين

*

أمس

راقبت أثداء عارية تُسبّح للشمس

شربت لذّتها حتى

غرقت في آية نفسي

*

تلك التي

أراقبها من ساعة

جاءت تسألني من آخر القاعة

إن كنت أعجبك قالت

لا تخف

إخلع روحك، ضعها على سطح يدي

تقمّص روحي

واقطف رمّانة جسدي

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

..........................

* Medllin مدينة كولومبية حيث يقام أهم وأكبر مهرجان شعري في العالم

الْكُلُورُوفِيلِ..

البرعم المستكين بنظرة الأم،

فسيلة الموطن المقيم في رحم الانتماء..

كسوتي في الأزمان،

كسماء مسرجة بسقوة الحب..

*

كل الأميرات الأمهات سناء،

وبهاء،

وستر من الدنيا،

سخاء،

ونور مستديم..

كملائكة مقيمات في أفئدة البشرية..

*

أحلى الطفولات،

في أمداء الأمهات الجميلات،

وأحلى الأمهات،

الطفلات النجيبات،

المعتقات بطُيُوب البوح والندى..

منشرحات بلذَاذَة الورد

وأشعار البراءة..

*

عيونهن متوقدات بالفرح..

يشتعلن،

في بسمات مستدركات،

وفي تَخَضُّب أعشابهن، الأخلاق

حِنّاء الصمت وأبهاء الْكُلُورُوفِيلِ المسجى بنبيذ العشق..

يا أم الأرض الرؤوم

وسيدة القصيد..

***

لالة مالكة العلوي

شاعرة وإعلامية من المغرب

جابر، عامل يبيع الخضار في سوق الناصرية الكبير، يجد سلواه في الحلم بفتاة ترد ّعليه الوحشة، والفقد بموت أمّه الضريرة، أقصى أمل يتمناه، أن تكون له زوجة، تخفف عناء يومه، تنتشله من حياته الرتيبة القاسية، تزيّن له مستقبله، كان يبحث عن هذه المرأة بلا طائل، سرعان ما وافق على قبول مقترح زميله في العمل (مانع)، في الزواج من (چكيه)*، ابنة احد أقاربه في عشّار البصرة.

كانت چكيه على قدر من الجمال، متواضعة، قادرة على مبادلة جابر الحب، راضية وقانعة، أنارت حياته، وأعادت ثقته بالحياة، بعد عام من زواجهما، تشعر الزوجة أنها تحمل جنيناً في أحشائها، قبيل موعد الولادة يضطر جابر لقبول فكرة سفرها الى البصرة، هناك في رعاية أمها تضع مولودها.

ودّعها زوجها في محطة قطار أور بعد أن دسّ في جيبها خمسة دراهم، هي كل ما ادّخره من عمل اليوم، صعدت سلّم العربة بتثاقل شديد، متعثرة بأذيالها، كادت أن تهوي على رصيف المحطة الحجري، فأسند جابر ظهرها واندفعت الى أحد المقاعد القريبة وهي تلهث، تتبعثر مشاعرها بين الفرحة والقلق، تشعر بالإحباط تارة، والتعب تارة أخرى، تمسّكها بالجنين يدعوها الى تحمّل المعاناة، كان وجهها شاحباً أصفر الملامح، عيناها ذابلتان، وضعت كفّها الأيمن على بطنها، يبدو كمخلب انغرس في جسد صيد ثمين.

يقول جابر:

ابتسمت لي ووجها فيه الكثير من الايماءات، لقد تغير تماماً، وعلى الرغم من ارتجاف صوتها، عرفتُ انها ما تزال لم تستسلم للخوف:

جابر، أرجوك لا تنساني، اعذرني وأبرأ ذمتي.

كان القطار يصرخ، وهو يتحرك بخطوات ثقيلة، ثم انحدر بطيئاً نحو الجنوب، لم يترك سوى كتل من الدخان الأسود، ظلت متناثرة في السماء.

انتظر جابر، أسبوع، اسبوعان، ثلاثة، شهر ..شهران، كان في أشد حالات القلق، لم يعد الانتظار مجدياً، فاتّجه الى دائرة البريد، الوسيلة الوحيدة التي تسعف أسئلته، وتبدد حيرته، ليست من وسيلة اتصال زهيدة الكلفة سوى (البرقية)، اتجه الى المختص بتحرير البرقيات:

- رجاءً ممكن برقية الى البصرة؟

- ممكن طبعاً، اذكر لي العنوان ونص البرقية، بمعنى ماذا تريد أن تقول للمستلم.

- سجّل لديك:

بصرة.. عشار.. چكيه نصّار

وضع الموظف قلمه جانباً، محدّقاً بوجه جابر بدهشة:

- ما هذا أخي، شعر؟؟

- لا أستاذ، هذا الاسم والعنوان!

- طيب چكيه منو؟ هي ماري انطوانيت؟؟

ارجوك ساعدني بعنوان معرّف، رقم دار، محلة، مقهى، مختار، أو أي دكان لشخص معروف.

- والله لا أعرف أحداً في البصرة!

لا بأس،  ماذا تريد ان ترسل، بكلمات قليلة جدًا، يفهمها المستلم.

- حالاً أستاذ، ارجوك أن تكتب:

چكيّه نصار.. بصرة عشار

جابت، ما جابت، تتوجّه !!

ثم غادر دائرة البريد.

***

جمال العتابي

.................

* چكيّه: تسمية للميزان بكفتين صغيرتين

محطاتٌ واِنتظارْ

هَلْ سَيُجدي الانتظارْ ..؟

بعدَ أنْ مرَّ تْ شهورٌ .. وشهورْ

وأنا بين المحطّاتِ أدورْ

هارباً مِنْ حسرتي

غارقاً في حيْرتي

فالمواعيدُ التي أخْلَفْتُها،

بدّدْتُها

في محطّاتِ قِطارْ

القطاراتُ تمرُّ ..

و تمرُّ ..

و أنا يأكل عينيَّ اِنتظارْ

**

هَلْ ستأتينَ إليّْ ..؟

وتنيرينَ المدى في مُقلَتَيْ ..؟

***

إنتظارٌ  تحتَ المطَر

جاءَ العاشقُ قبلَ الموعدِ،

قالْ

قَدْ تأتي قبلي،

فلأسْبَقْها

إنِّي في كل مواعيدي

لَمْ أتْرُكْها

واقفةً تنتظرُ

الدنيا غائمةٌ،

أخشى أن ينهمرَ المطرُ

فلأسْبَقْها

أزِفَ الموعدُ

مرَّ الوقتُ سريعاً

مرَّ تْ ساعاتٌ، والعاشقُ ينتظرُ

اِنهمَرَ المطرُ

هلْ يذهبُ، أمْ يبقى يرقَبُها..؟

**

عنوانٌ ضائعٌ

الموعدُ حانْ

وهُما ما زالا،

في منتصفِ الدّربِ يَسِيرانْ

كلٌّ تمشي ساعتُهُ

عكسَ الأخرى

كلٌّ بوصلَةٌ تَخْدعُهُ

فيسيرُ  بمسالكَ حيرى

كانتْ قادمةً مِنْ أقصى الشرقِ

وكانْ

مِنْ أقصى الغربِ يجيءْ

لا نور  يضيءْ

بَقِيَا عكسَ الظّلِ يَسِيرانْ

والعنوانْ

ضاعَ معَ البوصلةِ الحيرى

وتكفّنَ بالأحزانْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

كان عليّ أن أعود إلى ربع قرن من الآن.

لا أنكر

أحاول أن أبحث عن عذر ما

أو

أواجه الحقيقة بكلّ شجاعة مادمت منذ البداية مقتنعا أني أعمل غرض أن أحقق الأفضل لغيري أولا ولي ثانيا.ربما لا يثق الكثيرون بعد الأحداث الأخيرة في أني أقدم مصلحة الآخر على مصلحتي الشخصية

الآن في هذه اللحظة ليس قبل ربع قرن يواجهني صخب الشارع.. تظاهرات كثيرة جدا تهاجمني وهناك الكثيرون بقفون في صفّي.

لا أهرب قط

ولا أفكر بمعنى سيئ.

أمارس مهنتي ضمن حدود الإنسانية.

الطب .. النجاح.

اليأس أشبه بالمحال.

مثلما يخلق الشاعر قصيدةـ والكاتب قصة، أو الكيمياوي يكشف عن إبداع جديد، فكرت أن أجد معادلة جديدة في هذا العالم الملئ بالمشاكل الصحية والنفسية، والغارق بالاضطرابات.

نعم ..

 هذا ماحصل تصرف الآنسة (ن)الغريب المفاجئ الذي أربكني قبل الأحداث وربّما سارع في اندلاعها .كانت تعرف الشروط جيدا، وتدرك مثل غيرها من الطاقم الطبي الذي عمل معي أن عليها أن تلغي عواطفها قبل أن تأتي لتعيش في هذا العالم الجديد .عملت في المخبر معنا وهي في السابعة عشرة من عمرها ممرضة متدربة، ولم أتوقع أن تنسى نفسها ولا تتحكم بمشاعرها على الرغم من أنني كنت أراهن على مشروع جديد خال من كثير من نقاط الضعف التي يرثها العالم القديم الذي سبقنا بعدة قرون.

فكرت جيدا..

الدنيا تلفها المشاكل.. الصعوبات ويبدو لي أن السلبيات مهما تعددت وكثرت فإن عقل الإنسان يستطيع حصرها وتدميرها أو على الأقل تشتيتها.

لم أكن أستطيع أن أحقق تجربتي التي استمرت ربع قرن مالم أكن رجعت إلى أصل الحكاية..

وجودنا نحن.. .

إمّا أن يكون حقيقة أو أسطورة..

بهذه العبارة القصيرة حصرت مشاكل العالم الصحية بالدرجة الأولى .

تساءلت: إما أن يكون أصلنا حقيقة أم أسطورة:آدم أم الطبيعة التي أوجدتنا؟

وجدتني مخيرا بين اثنين:إما أن ألتقط الأسطورة المزعومة عندئذ أحولها إلى عالم جديد ، أو التقط الواقع القديم الذي ورثناه نحن البشر فأحيله إلى أسطورة..

في كلتا الحالتين لن أخسر شيئا..

بهذه الصورة بدأت عملي..

فكرت بعالم من أصل واحد في جيله الجديد من حيث الأب وقد أدركته بالسيد المتبرع (ك) الذي يبدو شكله الظاهري أبيض طويلا، ذا وجه حيوي ، وجسد سليم، عينان بلون أزرق ، شعر ناعم، صحة وجينات قوية تكاد تكون هي المثلى في عالم الحيامن.

أمهات مختلفات، من دول محتلفة وأجناس متباينة ، يتحدثن لغات مختلفة ويعرفن جميعهن اللغة الإنكليزية كونها اللغة السائدة المألوفة في العالم القديم وإلا فمن المحال أن أختار لغة قديمة أو اخترع لغة جديدة تكون هي السائدة في العالم الجديد.

قلة أمراض

عمر طويل

تلوث أقل توفره جزيرة متكاملة الظروف.نقية الأجواء.

لقد سألته فهو الأساس في عملي

أتعرف أن ماقدمته كان هو الأنقى

أجاب ببرود:هذا من حسن حظي.

أراك غير مصدق.

بل أصدقك وأسأل في الوقت نفسه:هل كوني الأنقى أعيش حياة أطول من غيري؟

هذا يتوقف على أمور كثيرة منها الحوادث واالعدوى والامراض الجديدة المفاجئة..

أتعرف أني أحب الحياة ولا أتخيّل أني سأموت يومت ما!

صورته عندي أحفظها في وعيناته استقرّت في المخبر.

كنت أراه بعد الفحص والتأمل والتجارب الطويلة المعقّدة أنه الأصلح للبقاء، فقد جاءني قبله متطوعون كثر، رجال سمر وسود وشقر وبيض، يجماون جينات قوية وضعيفة، متعددة الضعف ومتعددة القوة، هؤلاء مثله لم يطلبوا مالا ولم يكونا عابثين، أرادوا فقط أن يمتدوا في المستقبل القريب والبعيد من دون أن يدروا بتفصيلات امتدادهم بعضهم وافق على الشروط وآخرون على بعضها ثمّ هناك من انسحب.

أما السيد (ك) فقد كانت جيناته الأقوى والأقل ضعفا من غيره.

سيكون الرجل الأول في العالم الجديد

بل

هو أساسه من غير أن يدري ولا أظنّ الوقت مناسبا لأخبره بكلّ ما يجول برأسي

هل لديك شئ آخر تسألني.. تلك آخر عبارة قالها ولزم الصمت.. .

مشروعي تطلّب دعما ماديا من جهات عديدة.. كثيرون من أصحاب المليارات.و الأثرياء يعرفون بحوثي ، وجهودي الطبية.بعضهم عالج عندي في مشفاي.. عدة دول دعمتني..

مؤسسات أهلية

متاجر

بنوك

مشروعي الذي أعلنت عنه قبل ربع قرن لايتعلق بالتسليح والتجارب المدمرة ولا يساهم بتلويث البيئة.كان نظيفا وإنسانيا بكل ماتعنيه كلمة الإنسانية.

ماذا لو صنعت عالما آخر؟

هكذا فكرت.

رحت أمارس عملي بدقة متناهية، في مختبر تجميد الحيامن، أختار الأفضل والأصح، وقد أعلنت ذات يوم عن تجربتي الجديدة التي تخص النساء بعد أن ضمنت الحيمن الأصح والأقوى كانت اية راغبة تأتي وتجتاز الفحص تعرف أنها تتلقح ثمّ تعيش في عالم آخر ذي هيكل جديد فلا تسألني عن أبي مولودها. فكرت بألف امرأة، ثمّ زدت العدد حتى وصل عرضي إلى مليون، أستطيع حسب ما لدي من مال وإمكانات وأطباء يساعدونني أن أبدأ عالما جديدا وخلال سنتين لقحت مليون امرأة.

الفرق بين أول امرأة تلقحت والأخيرة سنتان.

هنك جزيرة أو دولة أسستها أنا وكادر طبي الجيل الأول فيه متقارب الأعمار وخلال ربع قرن ستثبت التجربة الجديدة هي المثلى، وستكون النساء الحوامل وحدهن هن اللائي يقمنها .هن كل شئ في البدء.

عاملات مناجم

سائقات حافلات

مزارعات

ممرضات..

هكذا بدأت بكل صراحة ووضوح غير أني احتفظت ببعض الخصوصيات التي لم يخطر ببالي أن الجيل القادم يسألني عنها ويحب أن بلمسها بوضوح.

لا أتحمل الخطأ وحدي

أنا طبيب لا علاقة لي بالقوانين والمثل والعادات وكان على النساء المتطوعات حين قبلن تأسيس يوتوبيا تحتلف عن المألوف أن يساهمن في إلغاء آثار الماضي الذي راح يبحث عنه جيل الابناء.

لوائح القانون الذي التزم به مخبري الواسع الصيت، هو ألا تسألني سيدة عمن لقّحها، وأن تلتزم العيش في عالم جديد لا علاقة له بالعالم القديم.سأكون رابطة الوصل بين الانفجار الكوني القديم، والعالم الجديد.كن يرغبن في التلقيح ولا يعنيهن من يكون هو الرجل ..

كان عليهن منذ البدء أن يحسبن حسابا لفضول الأبناء فيجدن حلا لما يمكن أن يكون منذ أن بدأت التجربة تتضح وينعزل أصحابها عن عالمهم القديم.

لقد عاشت الجزيرة بأمان تتنتج النسوة مانحتاجه، وما ينقصها يصلها عبر البواخر بإشراف الكوادر الطبية التي معي.أنا أريد أن أنشئ عالما جديدا متنوعا أصله واحد

خلق جديد

ربع قرن مضى ولا مشاكل.. هناك حوادث تقع في أفضل الحالات، انقلاب سيارة، عطل في مصعد، موت امرأة من جيل التلقيح بلدغة أفعى، انهيار جسر، هي حالات نادرة، نحن لسنا مجتمعا خاليا من العيوب غير أننا أقرب إلى الكمال، أما المشاكل فظهرت تماما مع النشء الجديد.

الماضي هو السبب

القديم يفرض نفسه حتى لايتلاشى

طالبوني بصفتي الرئيس الدكتور لجزيرة العالم الجديد أن ينفتحوا على المدميا الأخرى المحيطة بهم ، يشاهدون محطات التلفاز، يسافرون، يفكرون بالمجهول..

كيف جاؤوا إلى هذه الدنيا

علمتهم أمهاتهم أن الرئيس الدكتور لقحهن من حيامن لم يكن يعرفن أيّ شئ قبلن بالشروط، الجواب نفسه أثار حفيظة بعض الشباب،

في البدء عترضوا ،

استاؤوا

ولابدّ أن أعود إلى الآنسة (ن) الممرضة التي سبق سلوكها الغريب الهياج الذي انتشر في الجزيرة

في الآونه الأخيرة قبل بضعة أيام ، دخلت علي مكتبي.يمكن أن أسميه مكتب الرئيس، فللمرة الأولى يصبح الأطباء قادة العالم الموازي لعالم موروث يشكو من عقد صحية ونفسية ومشاكل اقتصادية كثيرة.لقد فاجأتني عبارتها الأخيرة.. بسطت يدي نحو الكرسي المحاذي للمنضدة العريضة في مكتبي.

تفضلي..

نظرت إلى الأرض بانكسار وقالت بصدى أقرب للهمس:

في كثير من الأحيان سيدي الدكتور نتخيل أننا استغنينا عن غرائزنا وعواطفنا ثمّ نكتشف في وقت متأخر أنها بدأت تتحرك فينا فلا نستطيع ردعها.

***

رواية جيب

د. قصي الشيخ عسكر

أنهم يقتلون الجياد

لازالوا

بدم دافئ او بارد

لايهم

جلوريا اصابتها رصاصة

بعد ان اتعبها

الرقص

احاول تفادي ذات

نهايتها

بمفردة تحاول التسلّق

لقصيدة

او بغصن تجعّدت

اوراقه

في خريف كان

مغبرّاً

طوّحت بصفائه كثبان

الكراهية

حين حاول المرتزقة شنّ

حروبهم

عبثية كانت تلك المحاورة

بين الاضداد

بين الجمال المتمكّن الذي

يُغضب الكثيرين

ويين القبح الذي اتخذوه

شعاراً

لكن الغيمة قدرها

المطر

ولا أحد يتّقي قطراته

بِشباك

او بعشرات الأرجل المُشعرة

لعنكبوت

نزوتهم قطعة لحم على

سيخ اهوائهم

لكن : هيهات

سيبقى روبرت يلتقم أسئلة

المحققين

برئ مما يصفون

أنهم يقتلون الجياد

أليس كذلك؟

***

عالية محمد علي

................…

* هوراس ماكوي مؤلف القصة الفيلم / أنهم يقتلون الجياد

عاريــةُ الكَتـفينِ

إلا من سِربِ الحمائمِ

بعيداً عن مصائِدِ الشِّرك

ألوِّحُ بيَدِي للمُستحيلِ

أقطفُ ملاكا ًمِنْ خدِّ النَّسيم

*

على شاطئِ الرَوحِ أتجولُ

حوريَّةٌ هُلاميَّةٌ ترافقُ ظِلِّي

هدايا النُّورِ تعانقُ خَصْري

*

أينَ أنــــا...........؟

ليسَ لي مكانٌ

ولا لونَ لزَماني

تذوب الأنـــــــــــــا

*

وَهْجَ الشَّذرات

صَفيرُ شُعاعٍ

يَنثالُ عبرَ كُوةِ الاتِساع

*

رفيفُ عِطرٍ

يحطُ على وَجهي

بنفسجةُ ضوءٍ تَغفو بينَ عيْنَي

نيرفـــانا .. نيرفـــانا

***

سلوى فرح / كندا

كانت الساعة العاشرة بالضبط عندما رنّ تلفونه النقّال إلى جانب على المنضدة في مأواه الصغير. تُرى مَن المتّصل في هذه الساعة المتقدّمة من الليل. الله يستر. تجاهل رنين الهاتف. إلا أن تلفونه واصل الرنين. عندها كان لا مناص أمامه إلا تناول هاتفه. رفعه بيده. إنها ابنته الصغرى راشدة. هي لا تتصل في مثل هكذا لحظة. أو انها لم تعتد على الاتصال به في مثل هكذا وقت.

وجاءه صوت ابنته من بعيد:

- أبي هل سمعت أنباء التفجير في أحد المطاعم التركية.. في إسطنبول؟

تصنّع عدم المعرفة ليستمع إلى ما ستقوله:

- لا لم أستمع.. ثم مالنا وما للتفجيرات واخبارها يا ابنتي.. العالم كلّه يتفجّر؟

ردّت ابنته بصوت أسيف:

- كيف مالنا ومال التفجيرات يا ابي. لقد قُتل في التفجير وأصيب عدد من الاشخاص بينهم أناس من هنا من بلادنا كانوا في زيارة لتركيّا.

وتابعت:

- كيف تقول هذا يا أبي.. أنت تعرف أن أختي رشيدة ستسافر غدًا هي وابنتها إلى اسطنبول.. وأن هناك خطرًا حقيقيًا قد ينتظر الاثنتين هناك. لقد تحدّثت إلى رشيدة.. قلت لها إنها ينبغي أن تؤجّل سفرتها إلى تركيا.. إلا أنها رفضت الاصغاء لما اقوله.. وردّت علي قائلة: المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.. ثم إنه لا مهروب من المقدّر لنا والمكتوب.

تابعت صغيرته تخوفاتها.. وتوقّف الوالد عن الاصغاء.. سرح في حياته وفي دنيا ابنته. رشيدة ابنته تعتقد أنها شبّت عن الطوق، ورأسها أقسى من أن يتمكّن من التأثير عليها. بل إنها وضعت رأسها برأسه ذات يوم وفاجأته بالعمل مذيعة في إحدى الراديوهات المحلّية. وعندما كان جالسًا مع عدد من اصدقائه ذات مساء. اتصلت به وقالت له إنها في طريقها إلى بحيرة طبرية. فسألها عمّا إذا كانت تطلب الاذن منه أم تُخبره فقط. فردّت بعجرفة بنت متمرّدة. أيوه.. أنا أنما اتصل بك لأخبرك. وأقفلت الخط قبل أن يردّ عليها. أقفل لحظتها تلفونه وأيقن أن ابنته كبُرت. وعليه أن يعرف كيف يتعامل معها وإلا أضرها بخوفه عليها. قسوة راس رشيدة هذه وهي كبرى أبنائه. ثلاث إناث وذكر واحد. وتمريره لها بتلك السهولة دفع بقية أبنائه لأن يحذوا حذوها. ولم تمض إلا حوادث قليلة قد تكون في عددها أقل من أصابع اليد. حتى سلّم بالأمر الواقع. وقال لنفسه إنه عليه أن يذهب مع الانزلاق.. وإلا أوقع اصطدامًا قاتلّا سيندم عليه طوال حياته.

عندما وصل إلى هذا الحدّ من التفكير. كان يتساءل عمّا يمكنه أن يفعل. وأكد لنفسه أنه يُطلب منه هو الكاتب المعروف. أن يبذل جهدًا لإقناع ابنته الكبرى بالعدول عن تلك السفرة التي قد تخلّف له مصيبة سيندم عليها للابد. ومثلما يفعل الغريق.. وهو يصارع أمواج الخطر.. أكدّ لنفسه أنه يُطلب منه أن يفعل شيئًا.. على الاقل من باب الاحتياط واجب.. ليقل لابنته إنه خائف عليها وليحاول ثنيها عمّا قررته من سفر.

أبناؤه كلّهم يقيمون في "نتسيرت عيليت". رفضوا كلّهم الإقامة في أي مكان آخر. واستمع أكثر من مرة إلى أحدهم يقول.. إننا لا نستطيع العيش في أي مكان آخر.. هُنا تربّينا وترعرعنا ومن حقّنا أن نبقى هنا. تقبّل رشيد، وهذا هو اسمه، ما فرضه عليه أبناؤه من أمر. رغم رغبته في أن يعيشوا في الناصرة. بين أقاربهم وأبناء جلدتهم. ولم يكن أمامه من مفرّ سوى الخضوع والقبول.. في الطريق إلى بيت ابنته رشيدة كان رشيد يفكّر فيما يمكنه أن يفعل لإقناع ابنته بعدم السفر. وتصوّر ابنته وقد قضت في حادث مماثل لذاك الذي تحدّثت عنه صغيرته راشدة. فجنّ جنونه ورفع صوته دون أن يفكّر مُطالبًا سائق الباص أن يسرع قليلًا. فما كان من السائق إلا أن هتف به قائلًا.. هل تريد أن أركّب جناحًا وأطير..؟ أدرك رشيد أنه ارتكب إحدى حماقاته التاريخية وابتسم للسّائق راجيا إياه أن يمرّر تلك الغلطة.. ابتسم السائق وتابع انطلاقه.. وهو يردّد.. أما طلب غريب.. أما طلب غريب.

ما إن توقّف الباص في حارة ابنته، حتى هرول يركض باتجاه الباب الامامي.. ونزل بسرعة.. وسط ذهول السائق.

في العاشرة والنصف إلا دقيقة كان رشيد يقرع باب بيت ابنته رشيدة. دخل منفوش الشعر مشوّشًا. واتخذ مجلسه على إحدى الكنبات هناك في غرفة الاستقبال. خلال لحظات كان جميع مَن في البيت.. ابنته .. زوجها وابنتهما عاشقة تركيّا ومسلسلاتها والمُسبّب رقم واحد في هذه السفرة التي قد تكون أكبر كارثة في حياة رشيد وحياة عائلته. التفتت ابنته رشيدة إلى صمت والدها. فطلبت من زوجها وابنتها أن تدخلا إلى إحدى الغرف الجانبية، لتتمكّن من التحدث مع والدها، فمن يعلم قد يجد والدها حرجًا ما في التحدّث فيما أتى به إليها في تلك الساعة غير المعهودة لزيارتها. بعد أن بقي جالسًا قُبالة رشيدته وجهًا لوجه، كان لا بُدّ مِن أن يُفصح عن سبب مجيئه ذاك. سأل ابنته:

-هل تحدّثت راشدتنا إليك اليوم؟

ردّت رشيدة:

- تحدّثت أكثر من مرّة.. قال ايش يا سيدي.. تريد أن اؤجّل سفري بسبب حادث التفجير وما أسفر عنه مِن قتل وإصابات.. بعضها من هنا من الناصرة.

اشرأب الوالد برأسه ناظرًا لابنته:

- أختك محقّة يا ابنتي.. لماذا لا تؤجّلين هذه السفرة حتى تهدأ الامور وتعود إلى استقرارها السابق؟

انفرجت أسارير وجه رشيدة قليلًا.. الآن أدركت سبب زيارة والدها غير المعهودة لها. أخرجت سيجارة من علبتها المارلبورو.. ومدّت العُلبة إلى والدها عارضةً عليه أن يسحب سيجارة من عُلبتها. فذكّرها والدها أنه لم يدخن السجائر ولا مرّة في حياته. فقالت له وهي تكاد تنفجر بضحكة هستيرية.. نسيت.. يقطعني.

قالت رشيدة:

- انت تضم رأيك إلى رأي صغيرتك إذن.

ردّ الاب بتخاذل مَن علم مُسبقًا أن كلامه سيكون مثل دخان يتبدّد في الفضاء:

- أنا خائف عليك يا ابنتى.

سحبت رشيدة نفسًا طويلًا ِمن السيجارة بين شفتيها وقالت وعيناها تتحرّكان في كلّ الاتجاهات.

- لا تخف يا والدي.. لا تخف.. أنت تعرف أنني أعرف كيف أتصرف في ساعة النحس. ثم إنني لا أستطيع أن أؤجّل السفر في اللحظة الاخيرة.. أضف إلى هذا أن صغيرتي عاشقة تركيا ومسلسلاتها قد تجن إذا ما ارتكبت حماقة تأجيل سفرنا.

- ابنتك يا ابنتي ما زالت صبّية غضة الاهاب.. وصغيرة على مثل هذه القرارات.

وحاول أن يعزف على الوتر الحسّاس:

- تصوّري يا ابنتي.. أقول تصوّري أن مكروهًا حصل لابنتك هناك في بلاد الاتراك. أو أنك..

وصمت الأب فسألته ابنته:

- لماذا لا تكمل يا والدي.. أكمل قل أو أنني قُتلت.. في حادث لا يرحم.

هنا وضع الأب يده على فم ابنته في محاولة منه لإسكاتها.. وتمتم معاذ الله.. معاذ الله.. سلامة عُمرك يا ابنتي.. لكنني أريد أن أسألك ألا تخشين الموت الى هذا الحد؟

انتصبت الابنة قُبالة والدها:

- لا يا أبي لا.. لا أخاف الموت.. فهو قد يأتيني هنا وأنا في بيتي..

كان الأب يعلم أن ابنته عنيدة.. عنيدة جدًا.. رأسها أقسى من راس أمها التي طردته من بيته ليقيم وحيدًا في ذلك البيت الصغير. وعاد إلى نقاشات سبق وخاضها معها. قال لها .. صحيح أن الموت قد يأتينا ولو كنّا في بروج مشيّدة.. إلا اننا ينبغي ألا نذهب إليه بأقدامنا. وعبثًا حاول أن يُقنع ابنته أن معظم ما يلحق بنا من ظُلم ومعاناة إنما هو في أغلبه من صُنع أيدينا. فقد كانت الابنة ما إن يفتح بابًا للنقاش لإقناعها بما أرد إقناعها به. حتى تغلق أبوابًا.. وقال الأب من أعماق يأسه:

- أنت مُصرّة إذًا على السفر.. حتى لو كلّفك حياتك.. وحياة ابنتك.

فهزّت الابنة رأسها علامة الإصرار، فما كان من الوالد إلا أن تحوّل إلى كُتلة من العجز وحمل نفسه منسلًّا باتجاه باب البيت. خرج ِمن البيت وهو لا يلوى على شيء. لقد أخفق مسعاه. فليعدّ نفسه لخبر قد يكون له ما بعده في حياته وحياة أسرته. ليعدّ نفسه كما يفعل اليائسون. ومضى في الشارع المُحاذي لبيت ابنته. توقّف تحت شجرة وارفة. وهمت من عينه دمعة. ما لبث أن أخفاها وهو يرى ابنته الصغرى راشدة تقترب منه. اقتربت صغيرته وطلبت منه أن يُرسل نظره إلى شُرفة بيت ابنته رشيدة. أرسل الأب المكلوم نظره إلى هناك ليرى جميع أفراد أسرة ابنته وهم يهتفون باسمه طالبين منه أن يعود.. عندها أيقن أن رشيدته إنما كانت تُمازحه.. وأنها لن تعصى له طلبًا.. وسرت في قسماته ابتسامة غامضة.. وهو يتوجّه إلى عائلة ابنته.. عائلته.

***

قصة: ناجي ظاهر

الى كل هارب من وطنه قسرا تائه في غابة الأوهام،

تنتشل أشلاء الأحلام الساقطة في أحضان الزمن.

تقطف أزهار الصمت المنثورة على ساحة الوجود.

ترقص بها في أروقة الصمت العتيقة...

تنثر خطواتك العابرة على دروب الوجود المتعرجة.

***

أنا المُتيّم بالأحلام المتلاشية، العابر البائس في شوارع العاصمة الشقراء المكتظة، أرتمي خلف خطواتي القلقة، تتبعثر خطاي القلقة، وسط عتمة الفراغ وضجيج الهموم المستعصية. أبحث عن شمعة تُضئ لي مسار الحياة، تسلبني من قبضة اليأس وتنساب كفرحة الأمل في شراييني. أمضي دون انقطاع في شارع طويل ومتعرج، يبعث فيّ شعوراً بالغربة والإرتباك. أين سأصل وأين يقودني هذا الطريق أسئلة تلتف حولي وتعصف بمزاجي الهائج، كالأعاصير التي تُدمّر كل ما يقف في طريقها. أحتاج لوميض النور، لمسةٍ من الأمل، تداعب روحي الحزينة وتنشرج حواسي المرتعشة. أنا المغرم بأحلام باهتة متلاشية، المُسافر الحزين في أزقة العاصمة الشقراء المليئة بالناس، أترنح خلف خطواتي المترددة، تتشابك خيوط خوفي المتلتفة، وسط غياهب الفراغ المظلم وضجيج الأحزان العنيدة. أبحث عن قنديل يضيء درب حياتي، يستعيدني من قبضة اليأس وينساب مثل نسيم الأمل في عروقي. أسير بلا توقف في شارع طويل متعرج، يثير في نفسي شعورًا بالغربة والارتباك. إلى أين سأصل وأين سيقودني هذا الطريق؟ أسئلة تلتف حولي مثل ثياب ملتوية وتعصف بروحي العاصفة، كالأعاصير التي تهدم كل ما يقف في طريقها. أحتاج إلى بريق النور، لمسة من الأمل العميق، تتلاعب بروحي الحزينة وتنشرج حواسي المرتعشة. فأنا هاجس الألفاف المتناثرة في ضباب الشكوك، الروح الشاردة في غابة الأوهام، أنتشل قوافي الحياة المضطربة من بركة النسيان، وأصطاد أشلاء الأحلام الساقطة في أحضان الزمن. أقطف أزهار الصمت المنثورة على ساحة الوجود، وأرقص بها في أروقة الصمت العتيقة، فتتفتح ألحان الوجود وتنشرج أنغام الروح. أنا المسافر بين طرقات الشك والأمل، أتسلل كظل يعبث بالضوء، أنثر خطواتي العابرة على دروب الوجود المتعرجة، أمضي بثقة تعلوني موجات الشوق والحيرة. أهيم في عالم من المشاعر المتجددة، يجتاحني الجمال المنتشر في كل زاوية، ويصافحني الوهم في أعماق البوح. أنا المُحَرِّك لعربات الأحلام، الشاهد على رقصات العواطف المتأججة، أغرق في بحر الألوان وأسبح في فضاء الكلمات، أبحث عن وطن يحتضن أشواقي ويحمل أحلامي على أجنحة الإبداع. فأكتب بمداد الروح على أرصفة الوجود، وأنثر حروف الوجع والأمل على صفحات الزمن، لتنشرج بين سطوري عالمًا يتراقص بحنين الحروف وصدى الأفكار. أنا التائه بين طرقات الوجود، المبتدئ في رحلة البحث عن الجمال والحقيقة، أرتشف نسمات الشوق وأرقص على أنغام الوقت، أتمايل كالعاشق الذي تنشرج قلبه بأشواق اللقاء وانتظار الفراق. أنا الروح الشغوفة بالحياة، المستعدة للغوص في أعماق الوجود واستكشاف أسرار الكون. أتراقص بين أبجدية الأحاسيس وألوان الكلمات، أنثر أفكاري المتلألئة كنجوم السماء، وأعزف سيمفونية الحياة بأوتار الروح. أنا الشاعر الذي يرقص في رقصة البوح، وينسج في خيوط الكلمات لحنًا مترنمًا .ينير دروب الوجود.

أصرخ بصوتٍ مكتوم، أحتضن حزن العالم وأهيم بعيداً في غياهب الخيبة واليأس. أُعيد رسم النجوم الساطعة والمنطفئة، أفتح قلبي لأجري على أطراف أحلامي المرتجفة، تطير بي المسافات الضوئية لحظات إلى وطني الذي تركته قسراً فأشعر بغضب يتلألأ في عينيّ، ودموع متحجرة تنساب على خديّ. كوابيس في النهار تتراءى في ذاكرتي المسلوبة، تذكّرني بالقتل الوحشي وذبح الأبرياء، وتشردني في اغترابٍ موحش، أشعر بحسرةٍ على وطن لم يبق منه إلا نتاج مصائبنا المفتعلة. أنا المُتيّم بالأحلام المتلاشية، أحتاج لأنغام تردّد في روحي وتُنسيني هذا الحزن الذي يسكنني. فأسمع صوت المطر يتساقط علي... مشيت لأميال بعيدة في هذه المدينة الشقراء الغريبة، أتخبط وأتراقص في زحمة الأسئلة المجنونة تضربني كالأمواج الجارفة. أتساءل، أين ذهب الأمل؟ أين هو النور الذي كنت أرجوه يوماً؟ أين هو الوطن الذي تركته خلفي؟ أصرخ بصمت مكتوم، أحتضن حزن الكون وأتيهم بعيدًا في غياهب اليأس والأسى. أنسجم مع رقصة النجوم الساطعة والمنطفئة، أفتح قلبي لأسبح على أنغام أحلامي المتلألئة، تحلّق بي المشاعر السرمدية لحظاتٍ إلى وطني الذي فُقد بالقوة، أشعر بغضبٍ يتلألأ في عيني، ودموعٍ متحجرة تنهمر على خدي. كوابيس في النهار ترسم أشباحها في ذاكرتي المسلوبة، تذكّرني بالقتل الهمجي وانتهاك البراءة، تجوبني في اغترابٍ موحش، أشعر بحسرةٍ على وطنٍ تلاشى تحت أعباء مصائبنا المفتعلة. أنا المُغرم بأحلام الزمن المتلاشية، أحتاج لأنغامٍ ترتل في روحي وتحررني من هذا الحزن الساكن. فأستمع إلى صوت المطر وهو يترنح على أسقف الذكريات المتهاوية . إنها قصة رحلتي.

***

زكية خيرهم

أتيت من نهايات الطريق

أنا إبنة النهايات

ربما تبحث عني البدايات

و لكنني

صرت..

أقطن بعيدا في

عزلتي

و حنجرتي مسكونة

بوجع النايات

أنا إبنة الغابات..

و بذرتي في باطن الأرض

تنتظر

أن ترى وجهها

على مرايا

حبات المطر

انا إبنة المطر..

لي في البحر مراكب

محملة بالجنون

لا تحمل ضغينة للرياح

حين تجري بما

لا يشتهي النسيان

و تعود الى الحياة

انا أبنة الحياة

لم أسلم بعد

للموت بطاقة هويتي

و رغم ذلك تمر كل يوم

جنازتي في

قصيدة

أنا إبنة القصيدة

ولم أبع صمتي

مقابل الضجيج

أنا إبنة الضجيج

مات السكون على يدي وأنا

أبحث عن لغة

لا تلم أطرافها كل مساء

لتدخل دهاليز الأسئلة المظلمة..

أنا إبنة العتمة

و قد يبحث عني الفجر

و لا يجدني..

مازلت عالقة هناك

في ليل طويل

لأعيد تفسير

ذات الحلم القديم

لعلي

أعود الى وجهي الضائع

و أخرج من مرايا تلعنني..

و أمسك بظلي

الهارب

من العدم

أنا إبنة العدم

و لا شيئ يشبهني

لست في قائمة الآتين

و لا في قائمة الراحلين

و لا أثر لإسمي

على شجرة الأنبياء

المباركة..

ولا في أساطير الأولين..

تأخذني عيون المغادرين

و لا

تعود بي عيون العائدين

وتضيع دمائي

بين الآلهة

انا إبنة الالهة

أورثتني

ذات الغرور

و ذات الكبرياء ولم

أبتعد خطوة

عن الموت ..

و لم أقترب خطوة من الخلود

معلقة من أساطيري

على

سراط مستقيم

و أسئلتي ثقوب رصاص

طائش على جسد

الحقيقة

أنا إبنة الحقيقة..

***

بقلم: وفاء كريم

تمسك حسناء بالشعرة جيدا بين سبابتها والإبهام. تنزعها بسرعة وخفّة، تتخلّص منها، بكل بساطة.

أيتها اللعنة البيضاء!

لصة تسلّلتْ دون سابق إنذار. ظهرت لها فجأة وهي أمام المرآة تسرّح شعرها الأشقر الناعم.

ندّت عن شفتها آهٌ مكتومة، وأطلّت من عينيها نظرة فزعة. ثم هدأت وهزّت كتفيها " ليست سوى شعرة واحدة ".

 ابتسمت بثقة ثم حملت حقيبة يدها وخرجت للعمل.

غير أن الشعرة بعد وقت، أصبحت شعرات.

لقد بدأ الزمن عزف سيمفونية الخراب. إنّه النزول الإجباري نحو النهاية..تدريجيا وببطء ودون أن تنتبه في كثير من الأحيان.

هو الزمن..رسامٌ حاذق.. فنان وعبقري وحنون. من قال أنه خال من المشاعر؟ هو لا يفسد الواجهة بخربشته مرّة واحدة بل يفعل ذلك بالتدريج.. يضيف في كل مرة لونا جديدا، خطا متعرّجا، لطخة عشوائية إلى أن تكتمل اللوحة غير الفنّية ولا يبق سوى أن تعلّق على جدار الفناء. يتزحلق الزمن والشعرة الواحدة تصبح شعرات. يذوي جسد حسناء، يفقد مرونته وجماله، يوما بعد يوم. يهرب من عينيها سحر البريق، وتستقر في البؤبؤين نظرة فارغة. يذوي النهدان الشامخان ويتنازلا عن عرشهما لعجوز شمطاء تدعى الشيخوخة.

و دون أن تنتبه حسناء، راحت أشياء صغيرة، أشياء لا علاقة لها بعضها ببعض، تأخذ مكانها فوق طاولة صغيرة بقرب السرير.

أشياء تتوالى كفصول رواية، وكل فصل يطرد الآخر ويحتلّ حيّزه:

في الفصل الأول: نظارات شمسية، أحمر شفاه بلون صارخ، حبوب منع الحمل ولوح شوكولاطة..

في الفصل الثاني: نظارات للرؤية عن بعد، مضاد تجاعيد ليلي وقارورة عطر.

في الفصل الثالث: مرهم آلام المفاصل، آلة قياس الضغط، رواية، نظارات للرؤية من قرب، نظارات للرؤية من بعد، قارورة عطر، مصحف صغير، مفكرة وقلم.

في الفصل الرابع لم يكن على الطاولة الصغيرة التي بقرب السرير سوى مصحف صغير، زجاجة ماء ومفكّرة وقلم.

و في ليلة الفصل ما قبل الأخير,اختفت جميع الأشياء من فوق الطاولة الصغيرة التي بقرب السرير.

 ثم كان صباح يوم ربيعيّ، وفوق الطاولة الصغيرة كانت هناك صورة، في إطار جميل زيّن بشريط حريري أسود ولمعت، تحت أشعة الشمس المنبعثة من النافذة، حوافه الذهبية المزخرفة.

كانت صورة الجدة حسناء والحفيدة أمل.

***

آسيا رحاحلية

يوما …

والندا ناعس الهمس على خد الصباح

اهتزت ألوان ضباب بعيون ذهولي

أفترشتنا جهات الفجأة.. أشلاء نحيب....

و.....

غفلة … غفلة

صفقتني يد النوى على خد أحلامي

وأنا أعد كواعب ترفك على مهل الترجي..

داهم مخملُ وجهكِ فحيح ثار

آآآه....آآآآه.........

ياااا صغيرتي الغافية بلمسات الخمائل....

تعااالي... أضمك فجر أفول

لتغسلي دموع أضلعي الواهية

تعااالي ….

ياااا طفلتي المبعثرة بياسمين التناغي....

المغدورة بتصدع صمت الرضا...

لا تفزعي من خضاب الذبول

فها أنا جهينة قطاف لنسغ دمك

غيمة تمطر بيلسان لمسح الألم

لأحتضن غيابك نبضات وداع

وأُقبل كركرة أحلامك في صراخ جوارحي

وأن اصطبغت حناجر الهلع

بغصة الموت...

وأن فاض دمع الفراق

بقلب المحبين...

ها أنا بجفن الغيب أستريح

بقربك اللامتناهي

وأنت ترفلين في مهاد الغياب..!!

قد سلكت روحي دروب أجنحتك البيض...

جمانة وجد بأقاليم الضياء

تهدهدك أحضان نوحي... مناجاة حنين....

لو تعرفين كم قرأتكِ عيوني....

زُغب أماني بالوان الفراشات..!!

خضبتُ أنفاسكِ بأعشاب أحشائي

وَشَمتُ روحكِ بنبض شراييني

وصطفيتك همسا....!!

سالتقطك بأنين عمرٍ يافع الدفء

أحتضنك بسمة كناري من زمن صهيل الجلنار...

وأمضي بك معطرة بأريج اللقاء

لترضعي حليب البقاء

سنطيــــــــــــر…

ونطيرررررر…

في رحم الكون يمامة ثكلى.. وسنبلة ندية

ترسمنا عيون السماء

مدى حريــــــة …

مكلومة الهوية.

***

إنعام كمونة

مِـن أيـنَ أبـدأُ والحروفُ تعطّلتْ

لـمَّا رَمَـتْ سـهمَ الهوى عيناكِ

*

وغـدا لـساني كـالعييّ متمتمًا

مُـتلفـظًا بالضـاد كـالأتــراكِ

*

أصبحتُ كالمشلولِ ماليَ حيلةٌ

و وقـفـتُ كـالـتمثالِ دونَ حـراكِ

*

والـروحُ مـابينِ الضلوعِ تلجْلَجتْ

فــي حـيرةٍ وقـعتْ وفـي إربـاكِ

*

فـقـدتْ مـن الـتدبيرِ كـلّ تـصورٍ

كـحـمامةٍ عـلقتْ بـبحرِ شـراكِ

*

مــاذا سـتـفعل والـجناحُ مـقيّدُ

والـجسم قد عانى من الإنهاكِ

*

حـاولتُ أنْ أقوى وأفهمُ ماجرى

والأمـرُ يسْتَعْصي على الإدراكِ

*

مُـذْ قد رأيتكِ باتَ ليلي سرمدًا

وأنــامُ فــوقَ مـنـابتِ الاشـواكِ

*

مـاكان ضـعفًا قـد أطـاحَ بقوتي

لـكـن ذُهـلـتُ بـحُسنها الـفتاكِ

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

(إذا ذهبتِ معي يا باميلا سوف تتعلمين معنى المعاناة من أجل الآخرين، كما ستتعلمين بأنك تعالجين نفسك عندما تعالجينهم)... ايتالو كالفينو

أكثر من نص لها قد قرأ، كل نص يغريه بغيره لمزيد من قراءة، مشدودا الى اسلوبها وطريقة بناء ما تكتب ..

منطقية في التدرج والترابط، دقة إشارات قد يغفل عنها الغير و لها كانت إثارة بانتباه، مفردات دقيقة المعنى تعكس بها ما تريد أن تبلغه لقارئها، دون أن تتجاوز حججا لمحاولة الإقناع..

على عقلها قد لوح وهم بغيمة، فتفتت اللسان باتهام :

ـ" أنت قد اثارتك صوري قبل أن تقرأ لي"

" تحسيس بجمال.." ولجمالها لم يكن أعمى لكن...

ربما عنها قد غاب أن جمال الصور في عهد الفوتوشوب نوع من خداع البصر، لا يكشف غير حقيقة أنثى بجمالها لماعة !!..

فالصورة قطعة من صاحبتها قد تعكس بعضا منها

قوة نظر وعزيمة ذهن وان في تجريدية بيانية كما قد تعكس نظرة عيون

بخنوع وومضات من ألم دفين..

ورغم ذلك ففي أحلك لحظات التقاط الصورة قد يصير المشهد تحفة فنية لقيمة جمالية من مأساة لامرئية..

حين يندمج العقل بصورة ما، يصعب إخراج الصورة منه أو انتزاعها من تصوراته، ابتلاع رمزي في ذهنها قد تبوأ ايمانا قلب كيانها..

كما لا جذوة نار حامية قد أكلته من جسدها أوبه قد أنبهر وهام، فالصورة التي أغرتها باتهام، سوء ظن بزيغ عيونه لم تظهر فيها الا وهي مبطنة في عبايتها الشرقية..

ولاشده اليها إعجاب، فالإعجاب كثيرا ما ينسرب انسراب الماء في باطن الأرض..في حين أنها لديه حضور من تاريخ عريق تشربه ولازال يستعيده كلما تحرك اسم وطنها على اللسان ..

هي أكبر من صورة قد تشد بإثارة لانها ليست شيئا بل كيانا إنسانيا يتعدى بفكر واعتقاد هوية أو مكان وجود..إن الصورة مهما عكست من فتنة وجمال لن تزيد عن كونها ذكرى مغتربة..

بها قد ضاق تفكير فلم تدر أن ما استثاره فيها براءة أعماق من عيون لم تغره بكحلها، فحولها قد غمر عقله رداد ضوء كان له سكينة نفس، نصوعا وراحة قصد أرسلت إشعاعاتها مما تكتب، وما تكتبه وفي نفس قرائها يخلف أثرا لن يكون صدفة، وانما هو أثر دراسة ومتابعات أدبية، إضافة الى صور تداعت بذكريات من ماضيه عن وطنها..

هو صراع جوارح، مثل كاميرا التقطت من زمن الصبا ما قد حلا لها في لحظات تحصيل معرفة من صور تنمو بإحياء ومواقف..

ما حركه فيها مشروع في رأسه نقر قشرة البيضة، يستعجل الحياة، بعقله يتحرش ليل نهار فيدقق في المسارات، في انعراجات المسعى ما رحب وما ضاق، وفي دروبه ما حفر له عن مخرج وما انسد ببناء، وفي زنقاته ما صار ممرا وما خلا.

بعد تدقيق واسترجاع يتلوه استرداد جلس الى أحد أساتذته من لهم باع طويل في السرد الروائي، وعرض عليه العمل بكل تصميماته مدخلات ومخرجات رؤى وفلسفات، تصور وقصديات لتوجهات مؤثرة وعابرة، الفاعلين فيه وتخطيط دقيق لنفسية كل منهم ومدى قدرته على التحرك والتنقل من توجه الى آخر لتحريك خيوط حدث من مدينة وليلي الرومانية بالمغرب الى مدينة أور العراقية.. تاريخ يتململ من رقاد، يفرك عينيه باشارات قد تغير عقليات..

كان الراي الأخير لكل من درس التصميم وكون فكرة عن مضمونه :

ـ عمل سيحدث ضجة اذا اكتملت كل عناصره بالدقة المرسومة..

كان السؤال الذي يتكرر بعد كل نقاش : هل انت ملم ببيئة بطلة النص،

أنثى كدليلة سياحية دارسة متمكنة، ثقافة عريقة وحضارة عاشت انقلابات وتبدلات مذهبية وتحكمات مجتمعية وظهور تابوهات تواجهها اليوم تقاليد وعادات...

" معناه كاتب ماهر، ثقافة متمكنة، وخبرة لغوية يطوعها بمرونة ودقة بيانية "

راودته زميلته الأديبة بتذكار، وطفرت عيونا تتفجر في مخيلته كأنثى من بيئة بطلته.. خطوط مرسومة وعناصر دقيقة، مع فرضيات متنوعة تستطيع ان تزهق منها واليها حسب عمق خبرتها وانتمائها السوسيو ثقافي..

لماذا لا تشاركه المسعى وتصير الرواية بعقلين ومجهودين؟

قد يضطر للسفر اليها، نقاش وحوار، وصلة رحم بمنطقة غاب عنها أكثر من ثلاثين عاما ..وقد تسمح لها ظروفها بزيارته، إحاطة بالمكان ومواقع الأحداث..

وشرع يقرأ لها ويعيد، يبحث عن كل ما كتبت و ما مقدار انفلاتاتها بعيدا عن الرقابة الذاتية، مخفيات قد توضح خبرة واغتناء فكر أوقد تفجر سلوكات لم تكن في كتاباتها واضحة، حقا أن كل ما يقوم به انسان لن يتعدى حدود تجربته الإنسانية.. وتحت هيمنة ما يمور في نفسه لكن عند الكتابة فالكثير مما ينفلت يكون بعيدا عن رقابة عقله، قد يعكس حقيقته..

وضعها تحت مجهر خبرته، لم يباشرها بخطاب وانما حام حولها كأنثى يثير ويترقب ردة الأفعال، ففي ردة الأفعال تتبدى زوايا من الشخصية وماهية الوجود عند صاحبها..

لم يجدها غير شرقية مأخوذة بمبدأ الخوف ورعشة الشك، تشتغل بظاهرها عن عمقها وبجمالها عن سلوكها، الشك فيها ساكن من تربية الحصار وتنشئة التحكمات، وشحذ سكاكين الأوامر والنواهي، ثم سقطات الثرثرة والتأويل وسوء الظن..

تلين لكلمات العسل من افواه الأفاعي وتنجر لبسمات التغرير من أنياب الذئاب، والا ما غاية صورها في تركيبات طفولية ومدح من نفثات الكذب؟.. لا أظنها غرة يغويها حب الظهور بإشهار فقد جرب حين قدم لها نصا كهدية قالت:

ـ لن اكتب نصا باسمي وهو ليس لي ولو توقفت عن الكتابة..

عفة وعلو نفس ..

فهل يستطيع أن يرقى بها الى بلوغ غايات أكبر والتجاوز عما ترسخ؟

يعرف قيودها وما يكبل حريتها، كونه عنها غريب والغريب في عرف شرقية شيطان..

ـ بعد تفكير اسقطها من عرش اهتمامه وان ظل اثرها يسري في ملمحات العيون وتموجات الذكريات، فكيفما كانت ردة فعلها فهي لا تعدو ان تكون انثى شرقية تنهار للعيون اذا نومها شاب متحذلق متملق وترتاح للغرور يتفجر من ضابط عقلي كم عانى من سوط الضغط والتبخيس، أما أن يكون معها رجل غريب واضحا صريحا فهذه حرية، والحرية لديها ايقاظ للفزع والدوار..

وغابت..غابت بعد أن حظرته عن صفحتها بضربة سوء الظن فصلت حياتها أمامه، صورتها الخاصة، رسخت بها وجودها الشرقي الأصيل الذي قد غاب عن اهتمامها أنه يحترمه بتقديس حتى وان اختلفا في المبادئ والتوجهات، فالهروب والسخرية والخوف من السقوط في مشاريع الأخرين وأفكارهم هي سمة من حرية يحترمها فلا إنسان يريد أن يبتلعه غيره.. لكن أن تسمح لغيرها بصور طفولية وكلمات بالواضحات ولا تأخذ مسؤولية وجودها كما تحبها ويلزم أن تدافع عنها، فهذا انهزام ونقص في الوجود...

***

محمد الدرقاوي

سيدي ما كان؛ خزي لن يزول

كيف اظموك أيا سبط الرسول!؟

*

كيف أردوك قتيلاً في الفلاة

ورموك السهم في وقت الصلاة!؟

*

كيف شبوا النار في كل الخيام

وصغار الآل في الليل نيام!؟

*

كيف ساقوكم إلى أقصى بلاد

سادةً انتم على كل العباد!؟

*

يا (حسين) القلب يبكيه العزاء

ليت لا يبقى على الدنيا عداء

*

ليت من عاثوا فساداً يرعوون

ويعودون لرشد يصلحون

*

كي يعيش الناس طرا آمنين

و بظل الله يحيوا مسلمين

*

لكن الشيطان أغواهم فكان

يوم عاشوراء لم يهدأ بآن

*

تغلي في الأرواح نيران الخنوع

بعدما بالخيل قد هدوا الضلوع

*

فالحسين السبط مسلوب الرداء

دامي الجسم وحيداً في العراء

*

كيف ذا يلحو لأهلينا (الفرات)

و(الحسين) الأمس لم يروَ ومات!؟

*

وعلى (ستوكهولم) قرآنٌ يضام

وكأنَّ الناسَ أمواتٌ نيام !!!

*

فابكوا لليوم ولا تبكوا لأمس

(كربلا) تزهو .. لتبكوا حالَ (قدس)!

***

رعد الدخيلي

جَاءَ الرَّبِـيعُ بِمَوْكِــبٍ فَتَّانِ

تَشْدُو فَرَاشَـتُهُ عَلَى الْأَفْنَانِ

*

وَتَقُولُ: مَرْحَى يَا رَبِيعُ فَإِنَّنِي

مُشْتَاقَةٌ لِلْوَرْدِ وَالرَّيْحَانِ

*

اَلْفُلُّ غَنَّى وَابْتِسَامَةُ ثَغْرِهِ

تُنْبِيكَ عَنْ حُبٍّ مَدَى الْأَزْمَانِ

*

يُحْيِي النُّفُوسَ يَشُدُّهَا لِرَبِيعِهَا

فَتَعِـيشُ فِي فَرَحٍ مَعَ الْإِيمَانِ

***

رَيْحَانَةٌ نَاجَـتْ بِحُبٍّ وَرْدَةً

قَامَتْ تُرَتِّلُ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ

*

وَتَقُولُ: يَا أُخْتِي الْقُرَانُ حَيَاتُنَا

مُتَنَزَّلٌ مِنْ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ

*

يَا وَرْدَةَ الْعُمْرِ الْجَمِيلِ خُذِي يَدِي

لِأَعِيشَ عُمْرِي فِي ظِلاَلِ جِنَانِ

***

جـَاء الرَّبِيعُ وَمَدَّ كَفًّــا حَانِياً

يَرْعَى بِبَهْجَتِهِ الْوَلِيدَ الْبَاكِيَا

*

وَيَقُولُ: عِــشْ مَا شِئْتَ إِنَّكَ رَاحِلٌ

فَاقْضِ الْحَيَاةَ وَكُـنْ لِرَبِّك َرَاعِيَا

*

وَاحْفَظْهُ يَحْفَظْكَ الْإِلَهُ وَإِنَّمَـا

نُــــورُ الْإِلَهِ هَـدَى فُؤَادَكَ هَانِيَا

*

لاَ تَبْتَئِسْ هَذِي السَّعَادَةُ قَدْ أَتَتْ

وَالطَّيْرُ فِي الْأَفْنَانِ غَرَّدَ شَادِيَا

***

فَبِحَقِّ رَبِّكَ يَا بُنَيَّ تَكَشَّفَتْ

كُلَّ الْأُمُورِ وَسَوْفَ تَسْعَدُ رَاضَيَا

*

عِشْ بِالْأَمَانِي وَادْعُهُ يُجِـبِ الدُّعَا

طِفْلِي الْحَبِيبَ عَهِدْتُ قَلْبِكَ سَامِيَا

*

نُورُ الرَّبِيعِ وَحِكْمَةٌ أَزَلِيَّةٌ

كَانَتْ طبِيباً بِالْمَحَبَّةِ شَافِيَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

الحُـبُّ إنْ عَـفَّ يـبْـني الصرْحَ في ثِـقَةٍ

والـنـفــسُ للصِـدق ، إيـنـاسٌ وتـســليـمُ

*

مَـراتِــبُ الـعِـــزِّ ، بـالأفـعـالِ خــالِــدَةٌ

والــفخــرُ فـي زائــفِ الأقوالِ، تَعـتـيمُ

*

شــمـــسُ الكفاءةِ، تـزهـو فـــي تألقِـها

ولِـلطـُمُـوح، مَـراســــيـمٌ وتَــرسِــــيـمُ

*

حُـبُ الـعُـلا، طـبْــعُ مَنْ تَعلو نفوسُهُـمُ

وهـالــةُ المَـجـدِ ، إشـــراقٌ وتــقـويــمُ

*

إنّ الأصالــةَ مِـعـــوانٌ، لِــذي هَــدَفٍ

يـسعى الـيـه بـخَـيْـرٍ، فــيـه تـعـمــيــمُ

*

مَـن يـبـتـغي مَسْـلكا ، يزهـو به كَـذِباً

سَــدّا لِـنَـقـصٍ ، فلا يُــجْـدِيـه تـرمـيـمُ

*

مَـلامِـحُ العـيــنِ تـحكي سِــرَّ باطِنـِهـا

وفـــي الـلسـان تَــرانِـيـمٌ  وتَــوْهِــيــمُ

*

إنّ الـوِســـامَ عــلى صَـدْرٍ يـلـيـقُ بــه

قــولاً وفِـعـلا، لــه فـي الأفـقِ تـرنـيـمُ

*

ومـَن نَــوَى فِـعْـلَ خيرٍ، لا يجودُ  بـه

كَـمَن يُـهَــدِّئُ حـالاً، فــيـه تَــعـــويــمُ

*

إنّ الأكـاذيــبَ ،  إيـهـامٌ ومَـنْــقــصَةٌ

فــيـهـا الحـقـيـقـة، تَـغـلـيـفٌ وتـكمـيـمُ

*

في مِحنَةِ الضيقِ ،حُسْنُ الصبرمَحمَدَةٌ

والـصّـبرُ لـلعُـسْـرِ، إذلالٌ  وتَــهْـزِيــمُ

*

(شــاوِرْ سِــواك إذا نـابَـتْـكَ نـائِــَبـةٌ)

إنّ التـعـالِـيَ دومــا ، فــيــه تَــذمِـيــمُ

*

(مـا كلُّ مـا يـتـمنى الـمَـرْءُ يُــدْرِكهُ)

والعزمُ فــي رِفْــقَـةِ الإيمانِ ،تصمـيـمُ

*

إنّ المــهاراتِ في تَــنوِيـعها ، نِــعَــمٌ

مِـثـلُ  الفـصاحَـة للـفُـرسـان تــتمـيـمُ

*

ومَـن تـمنّى العُلا  مِـن دون تَـهْـيـئـةٍ

يـبـقـى الـتَـمَـنّي حَـبـيـسَا ، فيه تـنويمُ

*

(لا تيأسَـنَّ إذا مــا كـنـتَ مُـقــتـدِرا )

فالـيأسُ وسـْـوَسَــةٌ، والـوَهْـمُ تحطـيمُ

*

حُسْـنُ النوايا، لحسْم المُعضِلاتِ ، له

دوْرٌ، بــه لـم يَــعُــدْ للـشّــر ، تـأزيـمُ

*

لـكـلّ ذي فِـطـنَـةٍ ، عَــيـنٌ مـُـوافـِـيـةٌ

ونظـرةُ الحـقِّ للإنصافِ ، تجْـسِــيــمُ

*

لا تطلب العَوْنَ مِــمن فـــي سَـريـرَتِـه

داءُ التـشـفّـي، وفـــي كـفّـيــهِ تَسْـمــيمُ

*

(صَلاحُ أمْرِكَ ، للأخلاقِ مَــرجِـعُـه)

والعِـلمُ إنْ ســايــرَ الأخلاقَ، تـفـخـيـمُ

*

ومَــن نَـوَى الزيـْفَ فـي قـوْلٍ يُـزوِّقـُه

لِـغـايــةٍ، فـمَصـيرُ الــزَيـْـفِ تَـهـْـديــمُ

*

إنّ القِـلادَةَ ، مـهـما الـِتّــبْــرُ زَيَّـنَـهـا

فَـعِـفّـةُ الجِـيـدِ،  مِــعْـيـارٌ و تَــقـيـيـمُ

(من البسيط)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

صباح كلّ يوم ومنذ عشر سنوات تقريباً، وبعد أن تقاعد عن العمل، كان يبدأ يومه بقرقعة الصحون وهو يدندن ما علق في ذاكرته من أغانٍ قديمة مع صوت دوران ملعقة الشاي وهي تحرّك بلورات السكر الهاربة من ضرباتها.  كلّ يوم يشبه اليوم الذي مضى واليوم الذي سيليه بالنسبة إليه. كان يبدو كحصان عجوز سُرّح من الخدمة، يعيش على ذكرياته وبطولاته التي يتفاخر بها كثيراً، حتى فقدت قيمتها بعد أن استهلكها التكرار اليومي، ونكاته هي الأخرى أصبحت تثير الملل بدلاً من الضحك. ربما هكذا هم كبار السنّ، يجعلهم الفراغ يستحضرون ذكريات الماضي، وحين يبادرهم أحد بالحديث يودّون أن يستمرّوا في الكلام لوقت طويل وألا يصمتوا.

جميع من في المنزل مشغول بعمله، والزوجة المسنّة تغطّ في نوم عميق، تستفيق عادة بين الحين والآخر، أمّا هو فكان حريصاً على نظافة ياقة قميصه البيضاء، ثم يمسك مشطه الصغير يسرّح به ستّ أو سبع شعرات مازالت صامدة في رأسه لم تنّسب من بين أسنان المشط. يسأل قبل أن يغادر البيت "شنو غدانا اليوم"؟، ثم يتوجه إلى أحد المقاهي الشعبية التي اعتاد أن يلتقي فيها مع أصدقائه القدامى لكي يتباروا في لعبة (الطاولة)، وهي أكثر الألعاب التي يرغب كبار السنّ من الرجال في لعبها، ويرتفع خلال اللعب صوت تقلّب النرد، وصدى كلمة "دوشيش" حين يستقرّ النرد على الستّ نقاط، يعقبها صوت مرتعش لأحدهم وهو يغني المقام العراقي حين يتغلب على خصمه الآخر، والابتسامة تعلو وجهه. وقد يتبادلون أطراف الحديث في موضوعات عدة، يكون أهمها الحديث عن الأوضاع السياسية والهجمات الإرهابية التي تحدث في أيّ لحظة، وتقتل الناس، وتحصد أرواح العشرات من الأبرياء ممن يرومون الذهاب إلى دوائرهم، وكذلك طلبة المدارس والجامعات الذين لا ذنب لهم.

ثم ينهض مغادراً بخطى ثقيلة إلى آخر محطاته اليومية، وهي الجلوس على حافة رصيف إحدى النافورات التي تتجمّع تحتها العصافير والطيور الهاربة من حرّ الصيف اللاهب، يجلس ويتطلع إلى المارّة من الناس والباعة المتجولين وهم يتقاطعون في سيرهم وحركة السيارات المارّة من أمامه، أغلبية المارّة من هناك كانوا يعرفونه ويلقون التحية عليه، لقد أصبح جزءاً من هذا المكان وكأنه نصب تذكاري من البرونز. ثم يعود بعد أن يغلبه النعاس إلى المنزل.

 لم يفقده روتينه اليومي ابتسامته المعتادة ولا ثرثرته، كان يحاول أن يلمّ شتات نفسه ويعيد ذاته الأولى وهو يتابع مباريات كرة القدم مع أولاده كأيّ شاب يعلو صوته ويفقد أعصابه حين يخسر الفريق المفضّل لديه أمام خصمه، يتحدّث وكأنه حكم ومدرب دولي يقتنص الأخطاء.

ذات صباح طالع وجه زوجته التي كانت تغطّ في نومها العميق وفمها مفتوح كفم سمكة، وبالقرب منها طقم أسنانها المتيبس. كان يشتاق أن يراها في ذلك اليوم مستيقظة، لسبب لا يعلمه، ويطبع على خدها الذابل قبلة قبل أن يخرج. لكنه هذا الصباح بدا هادئاً وخالياً من الضوضاء التي كان يفتعلها متعمداً أن يوقظ الجميع. قبض بكفه حفنة من حبوب الحنطة واضعاً إياها في كيس، حيث اعتاد أن يطعمها للطيور والعصافير. خرج قبل أن يفكّر في الذهاب إلى المقهى، فقد ذهب هذه المرة إلى الساحة، متأبطاً تحت ذراعه إحدى الصحف التي لفها كورقة تبغ، وعندما وصل إلى الساحة فرش ورق الصحيفة -التي تتصدر التفجيرات والأوضاع السياسية عناوينها -على الدكة، ككلّ يوم تقريباً، جال بين سطورها بنظرة سريعة قبل أن يجلس محدّثاً نفسه قائلاً: ما علاقتي أنا بالسياسة، أنا رجل مسنّ، الأجدر بي أن أهتمّ بصحتي قبل كل شيء.

فتح الكيس وأخذ ينثر حبّات الحنطة في الهواء، فتجمّعت أسراب الحمَام والعصافير من حوله، وراحت تحطّ وترتفع مرفرفة بأجنحتها وهي تلتقط الحبّات بمناقيرها الحمراء الصغيرة، منظر جميل جعله يبتسم ويشعر بسعادة أنسته أوجاع الشيخوخة وأوجاع الوطن. تسارعت ساعات الصباح حتى وصلت ذروتها، فازدحم الشارع بالمارّة والسيارات، واكتسحت أشعة الشمس المكان، وقبل أن يغادر بقليل، فجأة عصف صوت انفجار رهيب طغى على صوت المكان وضوضائه وزحمته، تبعته عاصفة رمادية اجتاحت المكان برمته، محّولة  إيّاه إلى ركام وأكوام من الحديد، وقطع من الزجاج المحطّم المتناثر في كل مكان، وبرك من الدم التي نزفت من أجساد المارة، جعلت منها  بقعة حمراء. بعدها عمّ السكون المكان وكأن الحياة قد توقفت، هرعت سيارات الإسعاف والإطفاء لتسعف المصابين وتخمد ألسنة اللهب في المكان الذي صار مليئاً بالدخان والسخام الذي خلّفه الانفجار. تسارع الجميع للبحث عن ذويهم بين المصابين والقتلى، إلا هو، فلم يعثر أحد على جثته بالرغم من البحث الطويل، بدا مكانه عبارة عن بقعة بيضاء نظيفة جداً! كأنه غادر المكان قبل الانفجار بلحظات، بينما المساحة المتبقية من الرصيف كان يكسوها السخام الأسود الذي غطى المكان، لم يجدوا أيّ أثر له في المستشفى، أو ثلاجات الموتى، كما لم يجدوا أيّ أثر لأشلاء جسده، أو أيّ شيء يدلّ على أنه قضى نحبه في الانفجار. بعد عدّة أيام شاع حديث بين الناس وتناقلته الألسن بأنهم شاهدوا سرباً من الحمَام حمله وطار به بعيداً.

***

نضال البدري

عضو اتحاد الأدباء في العراق

الدليل ..

في يوم قائظ شديد الحرارة، ثقيل الوطأة، كانت الشمس ترسل سعيراً يلفع الأجساد، في السماء تتصاعد أعمدة دخان (التنانير) المسجورة ظهراً بلا حراك، كأنها تخترق السماء، كان طعمة من دكانه الصغير، النازل عن  رصيف الشارع بنصف متر، هو الوحيد الذي يراقب الزقاق الخالي من المارّة.

يتصبب العرق من صلعته الصغيرة،ينساب بغزارة على لحية كثيفة الشعر، غطّت ملامح وجهه، يرفع أذيال ثوبه لمنتصف فخذيه، حتى بانت عروق ساقيه ناتئة متخشبة، بين الحين والآخر يضطر الى ازاحة العرق المتساقط في محجر عينيه بخرقة اتسعت بقعها الرمادية بعرق  ممزوج بذرات الغبار، فيبست أطرافها.

يتدفق عليه الهواء الساخن من مروحة يدوية مصنوعة من سعف النخيل، ينقلها من كفه اليمين تارة، الى كفه اليسار تارة أخرى، وبالعكس، بحركات سريعة متتالية.

فجأة يردّ  طعمة السلام بتثاقل، لرجل وقف أمامه بدأ يتأمله بعد أن هزم النعاس الذي كاد أن يطيح به، وهو يتمايل على كرسي خشب قلق، وبلا مسند، كانت قسمات وجه طعمة تدلّ على انه لم ينم منذ يومين أو ثلاثة بلياليها، يفتح عيناً ويغلق اخرى، حين كان يتأمل وجه الرجل المتلهف بالسؤال عن أحد أقاربه، ليس ببعيد عن داره، طفر من فمه هذا السؤال:

- عمي…ولا بيت عبيد؟

- نعم عمي، وصلت!

- رحمة لوالديك!

بدأ  طعمة يؤشر بيديه نحو هذا الاتجاه وذاك، كانت حركة يديه توحي بحالة جزع مرير تنتابه تلك اللحظة:

- عمي .. تأخذ هذا الشارع، عدل، لا يمنه ولا يسره، ثم تنعطف نحو اليسار، بعد ان تحسب ثلاثة شوارع، في الرابع تدخل الثاني على اليمين، حالما تدخل الثاني سيواجهك في النهاية بستان نخيل، إذا وصلت البستان أعرف نفسك (تيّهت)!!

***

جمال العتابي

غروب ..وتنتهي الخاتمة

عند قبلة ذات مقطعين =

واحدة معبأة في عيون لهفة

وأخرى مضغة رماد

في جوف المسافات الآيلة للانهيار

على الرصيف.. يقف الغضب

هيكلا منطفئا

يتلمس عناوين الجرائد الفاسدة

يسأل التواريخ عن مثوى

من عربدوا دون فهم في السياق

والشارع ضالع بالسياط

على جبهته مطرقة ...

وألف علامة...؟

كل الأسئلة مباحة

الأجوبة وحوش تستأنس العاصفة

كل الشعارات فضفاضة

فمن يمنح الحلم

خبزا ...وماء؟

من يلبسنا حضرة مطلقة

لنغتسل من غربة الوطن؟

*

العنف حكم غيابي.....

يجتاح الأجساد من حيث لا تدري

ولا تدري الاسرة المثقلة بالهذيان

والشارع المارق في تثمينه

علب السجائر

سراويل جيل مثخن بالخسران

أحمر شفاه لا يفقد اللمعان

والخلاخيل إيقاع نشاز

تشنج في أحشاء الظهيرة

*

الشعراء طوابير على حدود الفراغ

لا يعلمون أن اللعنات.. لا يشفي علتها

غير بوصلة انعتاق

من يوم ميلاد يأسرك في صفحة باردة

انتهت صلاحيتها حين عجز الواقع

عن استضافتهم في عالم قصير القامة

فاحش الإعاقة ...غني بالقهر

موغل في مجاملات قاتلة

لا تفقد مفعولها مهما ضخها الهراء

*

الجدران تصرخ فيك =لا تبك

افتح صدرك للريح

شرقية كانت أم غربية

وامنح ثقتك للسراب

هو أمين ...مخلص.. لا يخون

على امتداده

ارسم وجع الغصن المنحني

لعاب طفل ينظر إلى الرغيف باستجداء

مواء قطة فاجأها المخاض

عند عنق كوكب ضرير

فصوله عاجزة عن الدوران

أوقفتها الكآبة مذ شحت السماء

هجرتها الخصوبة إلى وجهة

غير معلومة

*

بين تجاعيد بحر عجوز

تختبيء رائحة الحلم العتيق

تستصرخ الجهات الست:

أين أنتم يا أحباب الله

والجوع يتمدد أفقيا ...عموديا

ليصير مأوى المشردين الذين

أرعبهم النشيد الوطني

حين اهتز في جنبات السكون

تحية لأكوان تجيد تراتيل التبجيل

مهما حفرنا عميقا تحت جلودنا

يظل القهر طافحا على المحيا

*

قال بودلير- سابقا عصره -

عليكم بالثمالة إلى الأبد

لم ندرك وقتها ان نصيحته جاءت

حفاظا على آخر غرغرة في الرمق

كيما نشعر بأوزار الزمن الفجيعة

نحن الفجيعة المبتغاة

قصيدة الموت المشتهاة

وقنينة النبيذ المعتق

في شرايين الأجساد المنهكة

*

بأبجدية عشق...كنا نكتب الشعر

اليوم نكتبه بياضات تروي

انتظاراتنا العالقة في جوف الريح

ارتجافاتنا الأخيرة ..المتشبثة بالفواصل

خيباتنا المتناسلة في الحبر المراوغ

الخداع محارة تجمعنا ...

والوعي باكتيريا

تتمرغ في وحل المسافة

كيما يتورط في نكز أدمغة

تجتر خيبتها إلى حيث

كان ...يكون ....الخبز ترياقا

ضد العراة الماضين في توبيخ المعنى

مطاردة الراقصات حين يهزن خصورهن

نكاية في قوانين لا مأوى لها

غير دواة منزوعة المضمون

وأقلام تبصم للظلم

بلاغة إخماده الحرف فوق الغلاف...

بعيدا عن أي معنى !!

***

مالكة حبرشيد - المغرب

نمر على الأرض

نترك عطرا

ونمضي

*

2

في رؤيا الغيب أو الحسِّ

أدركُ حين نعانق حُبّا

أنّ الظلَّ

يحفظ أسرار الشمسِ

*

3

هي لا تحب الكلام سوى

مع نفسها

أو

في ازدحام الخيالِ بوجه حبيبٍ ليس له إن أفاقت مكانُ

تخاف من الحبّ أن يكشف الزيف فيها

ولا زيف فيها سوى

ما يرسم الأخرون على وجهها من بعيد

وهي التي تؤلّف للقلب في كلِّ يومٍ رواية حبٍّ جديد

وإن قيل أنت الجمالُ تخافُ

وتشتهي ألّا تخاف

وترسم للحب نهرا بدون ضفاف

وتحلمُ أن ترتوي بالحياة

لكنها

تعود من الحلم

في كفّها النهرُ ... نهر الجفاف.

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

أيام صعبة اتوسل فيها

الامان

قلب خائف يعادل حقلاً

ميتاً

يذوي الورد

تموت المواسم

فتقفل العصافير عائدة

الى جوع الأعشاش دون

حبة قمح

وتسوّد أرغفة الخبز المنسيّة

في التنور

فالخباز مشغول الفكر

بولده الذي خرج صباحاً

ولم يعد

وتلك النحلة تطنّ وجعاً

أذ هاجمها دبور

أحمر

ومزّق جناحيها

والبستانيّ يبكي أزرار شجرة

الورد

التي هاجمها بذنبٍ أو دونه

الصقيع

والصبح ليس على مايرام

والغيم منذ سنين ممهور برعد

متأخر

والسوق بلا ألوان والطرق

مغلقة

والميزان يبكي كفتيه

الفارغتين

والنهر تعافه الرعاة

ففي السقيّ الأخير كان ذرا

امرأة

ينتهي كفها بالحناء

منحشراً بين تروس الألة

التي ترعف

الماء

حين يكون الموت مجاناً

وللجميع

يبكي العشب خوفاً من

الليل

والدروب بلا نهايات

ولا عتبة يستريح عندها

الطريق

موبوء ذلك الدرب بالعشب

الضار وأوجاع

العابرين

وتحتمي الأجفان بالنعاس

هرباً

حين يذوي الورد وتذوي معه

أحلامنا

وتبتهج القيود وهي تأكل

معاصمنا

وجبتها المفضلة

في ظل أحتراق المزارع الموجوعة

البذور

كي يحيا المتخمون ويتبادلوا

القُبل

تحت مظلات

عذابنا .

حين يذوي الورد تركع

الأشجار

فتنحني معها أعشاش

البلابل

فتفقس الأعشاش

عن أفراخ جبانة

خرساء

تألف ذلّ الأقفاص ولا تفهم معنى

الحرية

ويغيب الغناء عن

السماء

وما أقسى وجع سماء أنهكها

الصمت

حين يأتي الحزن كتلة من صخر

تنقض دون رحمة

وباب مغلق ينادي

الغائبين كي

يطرقوه

ولا مزلاج يفتح

في ظل وجع يبث

رسائله

فتصل بآنٍ

واحد ..

وكلٌ يأخذ نصيبه المفروض

قسراً من

العذاب

حين يذوي الورد

لا يعود بأمكان السنونوات

العودة

فقد ألفت أعشاشها

المؤقتة

على امتداد طريق الهجرة

الأخر

المموّه بالأسلاك

الشائكة

وما عادت تستدل على أعشاشها

الأولى

والقش منثور على أرضٍ

يباب

والثمر مرٌّ كحنظلة سوداء

القلب

والنهايات المعقدة

لاتنتهي

مفتوحة على نوافذ

الصمت

والستائر الزرقاء

مغلقة

حين يذوي الورد

***

شعر: عالية محمد علي - العراق

عشقتك والجنون لظى الحريق

يبلل ما تيبس في العروق

*

تمادى العشق في قلبي جحيمًا

وسال الخَبل زيتًا من عذوقي

*

يغطّيني العراءُ بكلّ خطوٍ

ويفضحني التخبط كالغريق

*

يثرثرني انفراطي فيك شوقا

فيجمعني دنوّك بالوثوق

*

أما والله لا أشكوكِ مني

فحبك مرجعي وصدود ضيقي

*

نزلتُ إليكِ من لججِ الظلام

فأرشدني ضياءُك للطريق

*

وقشرتُ الندى بصيامِ صبرٍ

تبسَّمَ عاريًا عند الشروق

*

يزيّنني مقامي منك فخرًا

كترصيع الخواتم بالعقيق

*

اتيه بغبطة صافي النوايا

واحلم بالجلال كما البروق

*

تجلى في وفيك لهيب افق

اخضله بغصن من رحيقي

*

تدلى صدرك الملكي جمرا

فاشعل ما تبقى من حروقي

*

صهيلك جلجل الآفاق رعدا

وضمخني بخورك بالشهيق

*

صحارى فتنتي اخضرت رضابا

فبادلها سعيرك بالخفوق

*

ترابي يمم الطوفان طهرا

فرممت الخلود بماء ريقي

*

وأبلج رائق الشفتين زهوا

واهرقني فضاءك بالرحيق

*

كنجمين اجتمعنا وافترقنا

وأسرينا الى الأبد السحيق

***

طارق الحلفي

في نصوص اليوم