نصوص أدبية

نصوص أدبية

اللعبةُ

لم تنته بعدُ

ينقضُ علينا

ذكرُ النحلْ

الأكثرُ عناداً

وعداءً

لم تنته اللعبةُ بعد

مذ قال هابيلُ

لأخيه قديماً

قِدَمَ أولُ جريمةٍ:

لن ابسط يديَّ اليك

لتبوءَ انت بجريمتِك

أنا هابيلُ القتيلُ

أبرئُ الكرونا*

من دمي

أتهمكم أنتم

كفى مكراً

**

يومي يبدأ..

أبدأُ يومي

باسمِ اللهِ

وبـ حيَّا على الحبِ

والحياةِ

لم انزعجْ كثيراً

إن كنتُ وحيداً

لأني سأطلقُ

جيادَ خيالي حرةً

جامحةً تعدو

او هادئةً تخُّبُ

ستعودُ إلي

سريعاً

أو بطيئاُ

**

رجاءً

لا تفسدوا يومي

فهو يبدأُ

حينَ تنامُ

نصفُ عصافيرُ

شمالَ الكرةِ الأرضيةِ

أما انا

فأفتحُ نافذةً واحدةً

على امتدادِ البصرِ

وعلى ضخامةِ الركامِ

قد ترونه أنتم

لو أمعنتم النظرَ

أغلقها سريعاً

**

أفتحُ نافذة أخرى

بسعةِ أفقِ البحرِ

قد لا ترونه أيضاً

أُسبحُ باسمِ

من أبلجَ ضوءَهُ

ورسمَ بريشتهِ المباركةَ

فراشاتَ نهارهِ

بيضاءَ..   وملونةً

ثملةً ترفُ أو تطيرُ

نشوى برحيقِ الألوانِ

وبأصابعِ شمسِ

تناغيها فتضحك

تنثرُ بذوراَ ذهبيةً

في حدائقِ الحياةِ

**

شراعي

يندفعُ

والبحرُ رهواَ

يعانقني الموجُ

يغشى عينيَّ

وهجٌ أزرقٌ

**

حين يتوارى العالمُ

أطبقتُ جفوني

لوهلةِ جنونٍ

واسلمتُ النفسَ

لخفقةِ نعاسٍ

وللحظةِ أنسٍ

راحَ العالمُ

يتوارى صغيراً

خجلاً من:

خداعهِ وأكاذيبهِ

ورحتُ أنا

أتلوى

من يأسي

**

الحلمُ أنقلبَ كابوسًا

حربٌ.. حربٌ

قصفٌ.. وخسفُ

جثثٌ.. وركامٌ

أضغاثُ الحلمُ ألأمريكيُ

أنقلبَ كابوساً

أجتمعَ شتاتٌ

والحلمُ   تبددْ

***

صالح البياتي

.........................

* الكرونا: فيروس كوفيد 19 الذي حصد أرواح الملايين في ذروة إنتشاره في العالم.

 

قرارُكَ كان صائباً أنْ تقتلَ شاعراً

فدماءُ الشعراء الزرقاءُ خارجَ قوائم التسعير

إنها مبذولة كالماء والهواء

وكمقامر محترف يُحرّك النرد بنظراته

خوّضتَ في البركة الآسنة

وخرجتَ منها مطهّراً

من دنس البلاغة والعروض

**

لستَ القاتلَ الوحيد

كم من ناقدٍ

ألغى باصطكاك سنّين جيلاً من الشعراء

كم من مسيح سُلخَ حياً

وبيعتْ حكمتُهُ لمدابغ الجلود

ثمّ مرّت العاصفةُ تنقر بكعوب أحذيتها

فوق أشلاء القصائد

**

واصل السخرية من الجدران المعصوبة العيون

ودع الغبار الكئيب

يمسحُ عن يديكَ صُراخ نشرات الأخبار

ليس سواك من حلّ شفرة الخلود

لذلك يحسدكَ القتلة الفاشلون

لقد أنهكهم حفر الظلمة بالأسنان

لكنّ الدم الذي أهرقته

سيُحيي أملَهم بجريمة غنيّةً بالبروتين

**

أنتَ أسعدُ قاتلٍ في التاريخ

مُديتُكَ تُباعُ بالمزادات

ونظراتُكَ الصاخبة

تبصمُ بالدم على قِمصان المعجبين

والآلافُ يمشونَ في ظلالك

لعلهم يعثرون على شاعر غافل

يمنحهم الخلود1620 laith

شعر / ليث الصندوق

 

حِينَ يَتَهَجَّى الجَسَدُ مَجَازَهُ

وَيَغْدُو الصَّمْتُ مِرْآةً لِلاِحْتِرَاقِ

**

أُلامِسُ ما لا يُرى

نُقْطَةَ الضَّوْءِ الَّتي تَخْتَبِئُ

تَحْتَ سَطْرِ الغَوايَةِ

تَنْبِضُ بي كَأَنِّي أَتَهَجَّى

أَلْفَ أُنْثى تَنْبَثِقُ مِن ظِلِّي

أَتَحَسَّسُنِي

نَبْضاً يَنْسَلُّ مِن مَسَامِّ الرَّعْشَةِ

كَأَنَّ الجِلْدَ يُزْهِرُ بِالشَّهْقَةِ

حينَ تَهْبِطُ الحَوَاسُّ بِلا إِذْنٍ

عَلى فُسَيْفِسَاءِ الغِيابِ

يا جُوعَ المَدَى

يا عُرْيَ المَجازِ

يا رَغْبَةً تَتَقَمَّصُ نُبُوءَةَ السُّكُوتِ

أُطِلُّ مِنِّي عَلَيَّ

فَأَصِيرُ مِرْآةً

لِجُرْحِي المُتَوَرِّدِ في نَدَى الذِّكْرَى

عَرَّيْتُ صَبْرِي مِن كِبْرِياءِ الحَذَرِ

أَزَحْتُ سَتَائِرَ الخَفَرِ عَنْ نَفْسِي

وَارْتَجَفْتُ

لا خَوْفاً

بَلْ لِأَنَّنِي أَصْغَيْتُ أَخِيراً

لِجُنُونِي المُبَجَّلِ

تَفُورُ بي نِيرَانٌ لَمْ أُسَمِّهَا

تَضِيقُ اللُّغَةُ

تَتَّسِعُ النُّقْطَةُ

أَسْتَحِيلُ ضَوْءاً يَغْرَقُ في ضَوْءٍ

كَأَنِّي وُلِدْتُ مِنِ احْتِرَاقِ الرَّغْبَةِ

بِوَجْهِهَا الغَامِضِ

هاتِي الغِيَابَ

لِأَكْتُبَهُ عَلى جِلْدِي

هاتِي التَّنْهِيدَةَ

أُعَلِّقُهَا قُرْبَ نُقْطَةِ انْفِجَارِي

سَأَجْمَعُنِي مِنِّي

كَأَنِّي أَخْلُقُنِي مِن جُمْرِ ما لَمْ أُقَلْ

***

مرشدة جاويش

 

بلادي قطار راحل

نحو المجهول

على ظهر نهارات مفلسة

من الاحلام

كل الأغاني فيها مباحة

زغاريد افواه

تشهق بالعذابات

كعروس بدوية

لم تفرح بحليها

تلك اغاني احجار ساقطة

من عيون الجسور الحزينة

ماتم رجل يقطن

بلاد مابين النهرين

شاردا بين المحطات الغريبة

سلام الى امي بغداد الحبيبة

وحبيبتي التي تغازلني بغنج

تلك دجلة حشد من النوارس

على جسورها تتراقص

حبات المطر

سلاما على صعاليك القداسة

من خمرة ابو نؤاس المعتقة

سلاما على النسوة

في ساحة ام البروم الجميلات

مثل نخيل ابي الخصيب

ونهر العشار

والخشابة لاساطير ضاربة

في قصب الهور

في بلادنا

لا زال نزيف الحرب

يلوح بأحزانه

من انياب الضباع

سلاما على رؤوس

المناضلين الاحرار

فالعشق

نجمة فوق عرش السماء

نبصره من بعد الذكريات

***

باقر طه الموسوي

 

كانت الشمس تموت ببطء، متكئة على اطراف البلدة كشيخ أنهكه اليقين. وفي الساحة التي خلف المدرسة المهدمة، كانت بقايا الحرب تنتظر من يوقظها، مدافع صدئة، عجلات مدرعات نصف مدفونة، وخوذات بلا وجوه.

هنا، اجتمع الأطفال كعادتهم، ليؤدوا لعبتهم، لعبة الحرب. قال مالك، الأكبر بينهم، واضعاَ خوذة فيها شق عميق فوق رأسه: " اليوم نعيد معركة التحرير وو وزَع الأطوار كما يفعل الضباط:

 سليم انت القناص، اتخذ السطح العالي فوق العجلة.

خالد، انت الشهيد، تتظاهر بالموت، وتصرخ الأرض لنا.

فراس، انت المسعف، ليكن بيدك شيء بدل النقالة.

رشيد، انت تراقب من بعيد، وتتخذ الأوامر بالهجوم.

أنتم البقية جنود، كل واحد منكم يحمل خشبة بيده، في وضع الأستعداد، اختبأوا خلف المدرعات والدبابات.

بدأ الصراخ، الركض، أطلاق النار بالعصي، وانفجارات من أفواههم.

أحد يزحف فوق التراب يلوح بمنشفة كالراية، أحد يقفز من فوق ساتر ترابي، والقناص سليم يضع منظاراَ من قطعة بلاستيكية على عينيه، ويقول: استهداف العدو، ثلاث، اثنين، واحد... ضحك، ركض، صراخ، والتظاهر بالسقوط.

في لحظة، تسلقَ أربعة منهم الساتر، وركض أحدهم فوق لوح معدني صديء، نصفه مدفون في الأرض، حدث فجأة انفجار، ليس كوميض القنابل، بل كصرخة من جرح قديم لم يغلق. تطاير الغبار، الحديد، والاجساد الصغيرة. سقط فراس، وذراعه تنزف. هرب الأطفال مرعوبين، بعضهم يبكي، وبعضهم يصمت ووجوههم مصفرة . لكن سليم، لم يعد معهم، بحثوا عنه بين الحجارة، ووجدوه ميتاَ، وجهه ملطخ بالدم.

عاد الأطفال الى بيوتهم، خلعوا أحذيتهم بصمت، وتسللوا الى الداخل كأنهم لم يكونوا هناك أصلاَ.

قال الكبار لاحقاَ انَ لوح الحديد أخفى تحته عبوة قديمة.

و منذ ذلك اليوم، ظل بعض الناس يقولون انهم حين يمرون من هناك ليلاَ، يسمعون صوتاَ خافتاَ يخرج من بين الأنقاض، دون أن يعرفوا، أ هو صوت الجنود أم الأطفال ؟: هل يمكن أن نموت... ونحن نعتقد اننا نلعب؟

 ***

د. مامند محمد قادر -  شاعر وقاص عراقي كوردي

 

كان صوته يسبق خطواته، يشق جدار الصمت داخل البيت، يلوث الهواء، كما لو انه إعلان حرب.

(أنتن حطب جهنم، وصوتكن عورة)!! قالها كثيرا حتى صارت جزءا من حديث اليوم، جزءا من خشب الباب، وارتعاشه الملاعق.

هي لم ترد يوما، ولم تتكلم، كانت تصمت، لكنه لم يكن صمت من الخوف، بل صمت يربي أنيابه في الظل، كانت تزداد قوة، في كل ليلة حين تنطفئ الانوار، تغمض عينيها وتستدعيه، هناك في أرض الأحلام، كانت الأدوار تتغير، تراه أمامها واقفا مزهوا بنفسه، بجبروته ، تمتد أذرع الصمت من حوله تحاصره، تسحبه من حنجرته التي طالما مزقت سكونها، تخنق الزئير، تخمد الغضب، وتخرسه، تستفيق في الصباح تتثاءب، تتلوى بغنج، تتأمل أصابعها تقبلها بصمت واحد تلو الآخر ، تلك الانامل التي خنقت الصوت لاتزال تختفظ بدفئها، في اليوم التالي يعاود صوت الزئير.. لكن شيئا ما قد تغير، لم يعد الصوت كما كان، ولم تعد هي كما كانت، الصمت الذي لطالما ظنه ضعفا، صار هو سلاحها، وفي داخلها، كانت الثورة قد بدأت..

***

نضال البدري

 

كانت خطواته ثقيلة، تنطق بالتعب الذي يختبئ في عظامه، وجهه محاط بظلال السهر، وعيناه تعكس حكايات الليل الطويل الذي قضاه يقاتل ضجيج الأفكار، وكل نفس يلتقطه كان كأنه يحمل عبء العالم، لكنه استمر، يمضي بخطى بطيئة، كأنما يحمل ثقلاً لا يُرى، فكل شيء في هذه المدينة يشبهه، الأرصفة المتعبة، أعمدة الكهرباء العرجاء، والحر الذي يُلهب الخيال أكثر من الجسد، يحمل على كتفيه نهاراتٍ من الانتظار، وليالٍ تقضمها المولدات وتخنقها المراوح التي لا تهبّ إلا بالأمل، إنها بغداد التي كانت في يوم ما بلد السلام.. فكان كل شيء من حوله يهمس بما تبقّى من المدن حين تنهكها الذاكرة، المقاهي بنادلين ذاب صوتهم في ضجيج المراوح، الأسواق التي تشبه بيوتا بلا جدران، والنساء اللواتي يحملن الخبز وأوجاع الأمهات في أكياس النايلون، يمشي وهو يعرف أن المدن لا تموت دفعة واحدة، بل تفقد ملامحها شيئا فشيئا، كصورة تُترَك تحت الشمس طويلاً، أطفال يركضون بين الحفر وكأن الألم مجرد لعبة لا نهاية لها، وشباب يجلسون على الأرصفة، ينظرون إلى العابرين كأنهم ينتظرون شيئا لن يأتي..

أصبحت بغداد تنبض في صدره كوجعٍ عتيق لا يبرأ، فكلما اقترب من شارعٍ يعرفه، تاه أكثر داخل أعماقه، بعيدا عن ذاته، فهو من أولئك الذين ينامون بصعوبة ، ليس لأن النوم صار مستحيلاً، بل لأن الحلم نفسه صار عملةً نادرة، فهو يعمل نهارا في مصلحةٍ حكوميةٍ لا يعرف أحدٌ وظيفتها بالضبط، ويقضي ليله في ركن مهجور من هذا الوطن المثقل بالوعود الكاذبة، وهناك، بين صدى الصمت وغمرة الوحدة، يتساءل بصمت: من أين تأتي كل هذه الخيبات المتتالية؟

ولعلّ الإجابة لم تكن في الأسئلة الكبرى، بل في التفاصيل الصغيرة التي تحاصر يومه وتختصر مأساته، فحياة هذا الوطن البائس، لا تعني له أكثر من تفاصيل بسيطة، فهو رجل بسيط لا يملك من الدنيا إلا مروحة تقاعدت قبل أن تُكمل عقدها الأول، وسقفاً من الصفيح يشبه الفرن أكثر مما يشبه البيت، كلّ صيفٍ يفتح أبوابه كأنه يوم القيامة، ويمرّ نهاره كأنه عقوبة مؤبدة بلا محاكمة، ففي تلك الأزقة التي لا تزورها النسمات، لم يكن يبحث عن ظلٍ، بل ليعتاد على الجحيم القادم، يُقنِع نفسه أن العرقَ طهارة، وأن انقطاع الكهرباء امتحان إلهي في الصبر، وأن صوت المولدة القريبة هو النشيد الوطني الحقيقي لهذا البلد، وعند الظهيرة، يبدأ العرض اليومي للمعاناة، تنقطع الكهرباء، فتسكت الأجهزة، وتصحو الحشرات، يُغمس جسده في دلو ماءٍ كأنه يحاول أن يسرق لحظة نجاة من هذا اللهيب، بينما المولدات تتعارك مع الهواء لتبيع الوهم بالكيلوواط، أما الكهرباء الوطنية؟ فتلك حكاية تُروى للأطفال قبل النوم، فالكبار فيدفعون عن كل أمبير، فاتورةَ صبرهم، وفي المساء، حين تتهيأ النجوم لتضيء لغيره من البشر، يجلس على سطح داره، يعدّ أضواء الطائرات ويشتم الحكومة، ثم يعود ليُصلي صلاةً خامسة اسمها "صلاة الكهرباء"، لا توقيت لها، ولا يقين باستجابة، ورغم ذلك فهو لا يثور، ولا يهاجر، ولا يلعن الوطن، فقط يبتسم ابتسامةً فيها من الحكمة ما يكفي لهزيمة اليأس، ويقول: "هذا الصيف سيعلّمني شيئاً جديداً"، ثم ينام، إن استطاع، على أمل نسمةٍ تُولد بالخطأ، أو انقطاع مؤقتٍ في موجة الحرّ، وفي كل مرةٍ يسأله الزائرون: كيف تصبر؟

يردُّ وهو يعبّ من هواءٍ لا يبرد: "الصيف عندنا ليس فصلاً، هو شخصية وطنية مستقلة".

وسط كل ذلك التعب اليومي، وكل تلك التفاصيل الصغيرة التي تتآمر على راحته، كان في قلبه متسع لشيء آخر، شيء نقي، هشّ، لا يشبه صخب المولدات ولا ضيق الأزقة، حيث لم يكن عاشقا تقليديا، بل كان يحب كما يُحبّ الذين يعرفون أن الحياة لا تمنح فرصا ثانية، يكتب رسائل لا يرسلها، ويحتفظ بأغلفة الشوكولاتة كأنها براهين على وجود لحظات دافئة في زمن بارد، أحبّ امرأةً كانت تمرّ كل صباح من ذات الزقاق، شعرها مشدود كسطرٍ مستقيم في دفتر مدرسي، وعطرها يفتح في قلبه فصلاً لم يكتمل، لكنه لم يقل لها شيئا، اكتفى بأن يمنح ابتسامته للهواء كلما مرّت، ويعود إلى داره المستأجرة، حيث السقف أقرب من الحلم، والمروحة تدور كما تدور أيامه: دون جدوى..

كتب لها ذات مرةً على غلاف دفتَرٍ قديم: "لو كنتِ مدينة، لكنتِ بغداد التي في قلبي، مُتعبة، جميلة، لا يفهمها أحد".. ثم مزّق الورقة، ورماها من الشباك، فطارَت بعيدا، ككل شيء أحبّه.. في الليل، يسمع الأغاني التي تُشبِهه، يغني بصوتٍ خافت كي لا يوقظ جاره العجوز، ويرسم على جدران قلبه امرأةً لا تأتي، ولا تنسى، حتى أصبح قلبه يشبه أرصفة بغداد: كثيرا ما مرت عليه الخطوات، وقليلاً ما وقفت.. فمنذ سنوات وهو كلما أحبّ، ضاع أكثر.

ولأن القلب إذا انكسر لا يتوقف عن المحاولة، دخلت امرأة أخرى حياته، لا تشبه الأولى، لكنها حملت الوعود نفسها التي يحب أن يصدقها، فقد كانت تشبه الربيع، ففي أول آذار أقبلت عليه مثل وعدٍ انتخابي، قالت: "سأجعلك رجلاً لا يعرف الحزن".. فصدقها كما صدق يوما نائبا قال إن الكهرباء ستعود كاملة بعد العيد، فانتظر العيد والعام والعقد، ولم يعد إلا الظلام، كان يعطيها قلبه، ووقته، وماله القليل الذي يجنيه من دوامه الطويل في دائرةٍ تشبه المقبرة، وكانت تأخذ كل شيء، ثم تختفي حين يُطالبها بالمقابل، كما تختفي شعارات الأحزاب بعد انتهاء الانتخابات، قال لنفسه: "لن أُلدغ مرتين".. لكن الحقيقة؟ لقد لُدغ عشرا، وفي كل مرة كان ينهض من الخيبة كمن ينهض من تحت أنقاضه، يلملم ما تبقى من قلبه، ويقنع نفسه أن الإنسان لا يُولد قويا، بل يُصبح كذلك من فرط الانكسارات، كان يعرف جيدا أن الحب في بلده ترفٌ، والصدق عملة نادرة، لكن قلبه، رغم كل شيء، ظل ساذجا بما يكفي ليحلم، حتى جاءت المرأة الثالثة كأنها "برنامج حكومي"، بتسريحة شعرٍ أنيقة، وكلماتٍ محفوظة، قالت له: "نستطيع أن نُغيّر الواقع سويا".

أعطاها مفتاح بيته وقلبه، فغيّرت الأقفال، واحتفظت بالمفتاح وحدها، وحين حاول أن يستعيد نفسه، أخبرته أن حبها كان مشروطا: "إن أردت أن أبقى، فعليك أن تتغيّر".

كأنها حكومة تشترط على المواطن أن يكون صالحا ليستحق الخدمات، لا أن تُصلح نفسها.. كان متمردا، لا يحب أن يُطأطئ رأسه، حتى حين يُجبره الحر على الانحناء، أو حين يغرق الشارع بمياه المجاري المختلطة بالحلم، لكنه كل مرة كان يقع، لأنه كان يؤمن أن الحب قد يكون الخلاص، كما كان يصدق أن صناديق الاقتراع قد تُنجب كرامة.

ومع اقتراب كل انتخابات، يتغيّر شكل النساء في حياته، فجأة تظهر امرأة جديدة، تشبه الملاك، تقول له إن زمن الظلم انتهى، وإنها تختلف عن كل ما مضى، تعده ببيتٍ دافئ، وأمانٍ عاطفي، وبأنها "مستقلة"، لا تنتمي لأي فئة أو مصلحة، فقط تبحث عن شريك صادق، كان يضحك من داخله، لكنه يتبعها.. حتى بات يؤمن أن النساء في حياته يشبهن الفصول: الأولى كانت شتاءً، باردة وناعمة وصامتة، والثانية ربيعا يزهر بالكلام ويذبل بالفعل، أما هو فظل عالقا بينهما، كخريف لا ينتهي.. ربما لهذا كان صوته لا يسمعه أحد، ووجوده لا يزعج أحدا، وغيابه لا يُربك جدول يوم أحد، كان قد وصل إلى نقطة لا ينتظر فيها شيئا من أحد، كل شيء فقد بريقه: الحب، الوطن، حتى نفسه، لكن الحياة، بمهارتها في السخرية، لا تتوقف عن اختبار القلب الذي يظنّ أنه لم يعد صالحا للمعارك.

كان كل شيءٍ حوله يعيد نفسه: الخطابات، الشعارات، الملامح، وحتى الخيبات، كأن المدينة تُعيد بثّ نفس الحلقة القديمة من مسلسلٍ لا نهاية له، ومع ذلك، ظل يمشي، لا لأن في الخطى أملاً، بل لأن التوقّف صار أكثر إرهاقا، وكان في داخله شيء يقول: لا جديد سيأتي، فكل الطرق مأهولة بالمألوف، وكل الوجوه مستعارة.. لكن الحياة، كعادتها، كانت تخبئ استثناءً صغيرا، لا يُعلن عن نفسه، ولا يطرق الأبواب بقوة..

في أحد الأيام، عاد إلى بيته بعد يومٍ عملٍ كُتب على وجهه بالبؤس، لم يكن ينتظر شيئا خلف الباب سوى الظلمة والصمت، لكنّه وجد امرأة جديدة في انتظاره، بشعرٍ أسود وملامح ناعمة، وقفت كأنها استثناء، وقالت له بصوتٍ يشبه المطر: "أنا لا أعدك بشيء، فقط أعطني ثقتك، وسأصنع لك وطنا صغيرا".

نظر في عينيها طويلاً، ، وفي داخله صوت قديم يتمنى التصديق، لكنّه لم يكن ذاك الرجل القديم، ثم أطفأ النور، وأدار وجهه نحو الجدار، وقال بصوت خافت يشبه تنهيدة خيباته: "كفاكنَّ كذبا.. لقد امتلأ قلبي بالوعود، حتى لم يعد فيه مكان للنبض".

لم يكن بحاجةٍ لمزيد من الكلمات، فقط فتح الباب، كمن يُخرج نفسه من غرفة ضيقة في ذاكرته، وخرج إلى الشارع، كانت الجدران مملوءة بملصقات المرشحين، كل واحدٍ يعده بما وعدته به امرأة يوماً ثم اختفت

ضحك بسخرية مرّة، كأنما يعبث به الزمن نفسه، وقال: "حتى الوجوه باتت تتكرر كأنها وجوه أشباح تائهة في صحراء الوعود، وحين تفتش عن الحقيقة، تجد صدى كاذباً يتردد بين جدران الوهم، في الحب وفي السياسة، كثيرة هي الوجوه، لكن صمت الخيبات واحد، والألم هو الوعد الوحيد الذي لا يخلف".

لم يستطع أن يترك ذلك الصوت يمرّ مرور الكرام، فتابع خطواته في الشارع، وهو يشعر بثقلٍ داخلي لا تزيله الكلمات، ويردد مع نفسه: "يا لغبائي، حين اعتقدتُ أن الحبّ يُقاسُ بكمية التوسل، وأن الركوع على أعتاب القلب المُغلق قد يُعيد فتحه يوما، كنتُ أظن أني فارسُ الحكاية، لكنها كانت تكتب النهاية".. ثم توقّف للحظة أمام نفسه، سائلاً بمرارة: "هل تستحقُّ كل هذا الانكسار؟ كل هذا الانحدار من كرامتي؟".. ضحكت نفسه، ساخرةً منه، وأجابت بلسانها الذي حفظ مرارة الخذلان: "أما فهمتَها حين لمّحت بأنها أفضل منك؟"

فلمَ يا قلب.. توسّلتَ لمن رأت فيك ظلاً، لا وطنا، وجعلتَ من كيانك مهزلة، من أجل ابتسامةٍ لم تكن لك؟ ونسيتَ أن الكبرياء حين ينكسر، لا يُصلحه حُبٌّ مزيف.. دعها تمضِ، فالنهايات ليست دائما خسارات.

وفجأة، أدرك أن قلبه توسّل لمن لم تراه سوى ظلاً، لا وطناً، وجعل من كيانه مهزلة من أجل ابتسامة لم تكن له، نسي أن الكبرياء حين ينكسر، لا يُصلحه حبٌ مزيف.. فأغمض عينيه، وقال لنفسه بهدوء مُتعب: "دعها تمضِ، فالنهايات ليست دائما خسارات".

لم يجد أمامه سوى المشي، لا لأنه يؤمن بأن الخطى ستقوده إلى خلاص، بل لأن التوقف كان أثقل من أن يحتمله، فمشى متمردا كما هو، حاملاً على كتفيه وطناً يشبهه، وطناً يشبه وعدا لا يُنجز، يسير في طريقه دون أن يلوي على شيء، فكان يمرّ بين الوجوه كمرور الغيم فوق مدينة عطشى: لا يُمطر، ولا يعد بشيء، وفي كل زاوية، كان كل شيءٍ يعيد نفسه: الخطابات، الشعارات، الملامح، وحتى الخيبات، كأن المدينة تُعيد بثّ نفس الحلقة القديمة من مسلسل لا نهاية له.. توقف قليلاً أمام ملصقٍ لشابٍ أنيق يبتسم بثقة ويعد بـ"الكرامة والتنمية"، همس في نفسه: "هذا الوجه يشبهها، حين قالت لي: سأمنحك حياة لا تشبه شيئا قبلك، ثم مضت، وتركتني أعدّ خساراتي كموظفٍ في أرشيف الوطن".

كان وجهه لا يحمل الغضب، بل إرهاقاً عميقاً، تعبَ من عالم لم يعد يفرق بين الحلم والوهم، بين الوطن والعاطفة، وقف عند الرصيف، أخرج سيجارة من جيبه، أشعلها بلا رغبة في التدخين، بل ليشاهد شيئاً يحترق أمامه دون مقاومة، ثم همس بصوت خافت، كأنه يبوح لسكون الليل: "كلهم وعدوني بمستقبل أفضل، هي، والمرشّح، والدولة، وحتى الشعراء، لكن وحده الليل ظلَّ وفيّا، يأتي كلّ مساء، دون أن يعد بشيء".

في الزاوية ذاتها التي اعتاد الوقوف عندها كل مساء، حيث تناثرت ألوان الوعود على جدران الحي الملطخة بملصقات المرشحين، مرَّ طفل صغير يحمل في يده بالوناً أحمر، توقّف أمامه للحظة، عيونه براءة لا تعرف المكر، وسأله ببساطة: "يا عم، ما معنى الوعد؟"

نظر إليه طويلاً، ثم إلى البالون، ثم إلى تلك الجدران التي تكدّست عليها الأكاذيب والوعود الزائفة، وفكّر في عدد المرات التي علّق فيها قلبه على وعودٍ حلّقت في السماء فقط لتختفي في العدم، تنفّس بعمق، وأجابه بصوت هادئ يشبه الحكمة المتعبة: "الوعدُ يا صغيري، هو شيءٌ يُملأ بالهواء، ثم يُطلق في السماء، فنظلّ نُحدّق فيه حتى يغيب".

ابتسم الطفل، وركض مبتعدا ببالونه، أما هو، فجلس على حافة الرصيف، نزع حذاءه، وترك قدميه تلامسان إسفلت المدينة الساخن، كأنّه يريد أن يتأكّد أن الأرض ما تزال هنا، حتى لو غابت كل الأحلام، ثم نظر للسماء، لكنه لم يسألها شيئا، فلم تعد لديه أسئلة، بل أجوبة لا يطلبها أحد، أشعل سيجارةً لم تَعد تسكته كما كانت تفعل، وقال لنفسه بصوتٍ خافتٍ كأنه صدى وطن بأكمله: "أنا آخر مواطن يؤمن أن الشمس قد تخجل من قسوتها يوما، وأن البلاد ستعتذر، ولو مرّة، لرجلٍ أحبّها دون مقابل".

ثم سحب نَفَسا طويلاً، ونهض ببطء، كأنّه ينهض من داخله بعد غياب طويل، عاد يمشي، ليس إلى بيت يأويه، ولا نحو حبيبة تنتظره، بل نحو نفسه، تلك الذات التي نسيها في زحمة الوعود والخيبات، وها هو يحاول أن استعادتها، ولو بعد فوات الأوان.. وفي آخر الليل، حين سكنَ كل شيء من حوله إلا قلبه، صعد إلى السطح، ذلك المكان الوحيد الذي لا يُحاسبه أحد على صدقه، ولا يُطالب فيه بتمثيل دور، وجلس تحت سماءٍ لا تعده بشيء، حدّق طويلاً في العتمة تلتهم الأفق، كأنه يحاول أن يلمح ملامحه القديمة التي غابت عن بصره طويلاً، ثم تنفّس ببطء، كمن يُطفئ شمعةً لا تخصّه، وقال بصوتٍ بالكاد يسمعه الهواء: "لا أريد أكثر من حياة لا تشرح نفسها، لا حبٍّ يُشبه الإعلانات، ولا وطنٍ يتحدّث بلغةٍ ليست لغتي، أريد فقط.. أن لا أنتظر شيئا، وأن لا أخاف من لا شيء".

وابتسم، تلك الابتسامة التي لا تقول: "أنا بخير"، بل تقول: "لقد مررتُ بكل هذا، وما زلتُ هنا".

ثم أغلق عينيه، كأنه يبحث عن وطن مؤقت في عمق النوم، حيث لا تُطلب جوازات سفر ولا يُقطع التيار، مكان لا تحكمه خيبات اليقظة ولا قسوة الواقع.. فنام، ليس لأن التعب قد انتصر، بل لأن الخيبة تراجعت قليلاً، فأصبح بوسع قلبه أن يستريح ولو للحظة، وفي الخارج، كانت المولدات تئن بصمتها المعتاد، وبغداد، كما هي دائماً، تنفض عن كتفيها غبار الحنين، وتواصل طريقها بلا توقف، وكأن شيئاً لم يكن.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

قد جرى حبُّكِ مجرى النفَسِ

يا فتاةً من هوى الأندَلُسِ

*

جئتُكِ اليومَ غريباً ضائعاً

وحزيناً مثلَ حزنِ الفَرَسِ

*

نظرةٌ منكِ وعودٌ حُلْوَةٌ

شهقةٌ منكِ ورودُ النَّرْجِسِ

*

فَصِليني جسداً في جسدٍ

لستُ أرضى نظرةَ المُختَلِسِ

*

عجباً للماءِ يَظْمَا بعَدما

لامسَ الثغرَ ونارَ المَلمَسِ

*

إنَّما الشمسُ كعينٍ للسَّما

عَمِيَتْ من نورِكِ المُنبَجِسِ

*

يا فتاةً كلّما قبّلْتُها

نبَتَ الوردُ برغمِ اليَبَسِ

*

يا جَمالاً كلّما عدّدْتُهُ

فاتَني شيءٌ لحدِّ الهَوَسِ

*

أنتِ غيثٌ لا منَ الغيمِ همى

بل من القلبِ ونورِ القبَسِ

*

وعلى الشاطئِ تمشينَ وقد

سكتَ البحرُ سكوتَ الأخرسِ

*

موجةً مدَّ فكانَتْ يدُهُ

ردّها الرملُ ردودَ الحرسِ

*

يا فتاةً يأنَسُ الظلُّ بها

ثُمّ يبكي في حلولِ الغلَسِ

*

عطرُكِ المنسابُ قد ذكّرَني

بالخُزامى عندَ بيتِ المَقْدِسِ

*

حُسنُكِ السجنُ وقلبي طائرٌ

طابَ عيشي عندَ ذاكَ المَحبَسِ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

لا، لمْ تكنْ عادياً والله بلْ حقّا

وآيةً تُعجِزُ الأوصافَ والنطْقا

*

تنصلتْ زمرٌ عن أهلِها مَلَقاً

وأهملتْهم، فكنتَ الوعدَ والصدْقا

*

لمْ يبقَ في الأرضِ شهمٌ انْ مشى صَلِفُ

يختالُ نصراً على حُرٍ، ولنْ يبقى

*

يا أيُّها الألَقُ العالي بِجوهرهِ

ألقى بهِ الكونُ فوقَ الأرضِ ما ألقى

*

أبا اليتامى، خليلَ البائتينَ على

ظلمٍ وجوعٍ، وطبلُ الجورِ قدْ دقّا

*

واستهزأت اممٌ مِن نفسِها ومضتْ

ترجو السلامةَ حتى لو قضتْ خَنْقا

*

لا بدَّ أنْ يتبقى في الدنى بَطَلٌ

يبطِّلُ السحرَ حتى يَفتحَ الأُفْقا

*

بِهِ العدالةُ الواحٌ مدونةٌ

على النجومِ، وأحرارٌ لها ترقى

***

شعر: كريم الأسدي ..

كم يُفْزِعُ العلمُ أنّ النورَ مُطفِئُهُ

عتمٌ وإنْ بشّرَ المولى برجْعَتِهِ

*

أهمُّ بالسّيرِ غربًا نحو أندلسٍ

شوقًا ليومٍ يُمَنِّيني برُؤْيَتِهِ

*

وحينَ أَذْكرُ كيفَ العتمُ أسْقَطَهُ

أرتدُّ صونًا لهُ من عودِ نكْبَتِهِ

*

أهمُّ بالخوضِ في أحداثِ معرَكةٍ

شوقًا لنصْرٍ يُناديني بفِتْيَتِهِ

*

وفارسُ القومِ يدْعوني لنجْدَتِهِ

فيَتْبَعُ اسْمي اسْمَهُ في متْنِ صفْحَتِهِ

*

أسيّر اسمي على الصّفْحاتِ علّ بها

مُؤَمَّرًا يرْتَجي سيْفي لنُصْرَتِهِ

*

وحين تمتلئُ الصّفْحاتُ بي بدمي

أصحو على ولَدي يلْهو بخِربَتِهِ

*

مُستنصِرًا وُلْدَ من للنّارِ سُقْتُ على

ابنِ من دعانيْ لأمضي تحتَ إمرَتِهِ

*

أرتدُّ خوفًا على دمِ ابْن آمرِنا

خوفًا على ولدِي أهوالَ ردَّتِهِ

*

أهمّ بالسّيرِ نحو مسجدٍ علمَ الـ

علِيُّ شوْقي لدرْسٍ عندَ صخرَتِهِ

*

وحين أذكر أنّ المسجدَ احْتَشدَتْ

به العبيدُ لشُكْرٍ دون رغبتِهِ

*

فما هوى صنمٌ من فوق كعبتِهِ

إلا ليَثْبُتَ "يهوَهْ" فوقَ قُبَّتِهِ

*

ولا صحا وطنٌ من طولِ غفوتِهِ

إلا للاتٍ تلا العُزّى بمكّتِهِ

*

أرتدُّ خوفًا عليهِ كيدَ أُمّتِهِ

لكي أظلَّ أراهُ فوْق رَبْوَتِهِ

*

أهمُّ بالغرْفِ من علمٍ بجامعةٍ

ترعْرعَ العلمُ فيها منذُ نشْأتِهِ

*

على يدِ النُّخبةِ التي اطمأنَّ لها

العقلُ فأوْدعَ فيها ما بجُعْبَتِهِ

*

خوفًا على نفسِهِ تلويثَ سُمعَتِهِ

مِن أنْ ترُدّ خُرافاتٌ لأسْرَتِهِ

*

وحين أذكرُ أنّ الشّرقَ قد رحلتْ

أنوارُهُ وبدتْ في غيرِ عتمتِهِ

*

وأنّ جامِعَتي ليستْ سوى جسَدٍ

مُمدَّدٍ فوقَ تلٍ دونَ مُهجتِهِ

*

أرتدّ صونًا لكبرياءِ جامعةٍ

في موتِها لم يزلْ في أوجِ شدّتِهِ

*

كي لا أرى الشرقَ يبكي هجرَ فلذتِهِ

كي لا أرى غدَهُ شمسًا بغربَتِهِ

*

فالشّرق نورٌ فمن له بمحنتِهِ

من للعزيزِ أيا قومي ودمعتِهِ

*

أهمّ بالشّربِ من عينٍ بباديةٍ

عجلانُ يقصدُها صونًا لفطرَتِهِ

*

وحين أذكرُ أنَّ العينَ قد كَدُرتْ

فلم يعُدْ يهتدِي معنىً للفْظَتِهِ

*

أرتدُّ خوفًا على ضادي تكدُّرَها

على مُقامي حياةً دونَ صفْوَتِهِ

*

أهمّ بالسّير فجرًا نحو مقبرةٍ

مُهنِّئًا ماضيًا جلًّا برَقْدتِهِ

*

وباكيًا هِممًا سَدَّتْ مسالِكَها

فواجعٌ قد تداعَتْ إثرَ غيْبتِهِ

*

إذا مضى أيُّها في دربه قدُمًا

قيلَ لصاحبِها: شهيدُ هِمَّتِهِ

*

وإن تأنّت تلافيًا لفاجعةٍ

قيلَ لصاحِبها: مُودٍ بحسْرَتِهِ

*

يغازلُ اليأسُ همّتي وقد أنفَتْ

منهُ وما استسْلَمتْ يومًا لرغبَتِهِ

*

مرادُها أملٌ يحيا بداخِلِها

ولا ترى نفسَها في غيرِ عصْمَتِهِ

*

تراهُ ندّا لها أهلًا لفِطرتِها

تجنّبُ الفاجعاتُ دربَ خطوَتِهِ

*

وتقتفيْ خطوَه السّرّاءُ غايتُها

قلوبُ من دخلوا في ظلِّ رحمَتِهِ

*

لكنّ يأسًا تعدّى الحدَّ مُغْتنِمًا

غيابَ فارسِها ماضٍ بلُعْبتِهِ

*

بالمالِ والأمنِ يُغويها لتحذوَ حذْ

وَمن غنِمنَ الشّقا في خدمةِ ابنتِهِ

*

وإبنةُ الياس أمّ الفاجعاتِ وأمْــ

مُها اسمُها عودةُ العُزّى لقريتِهِ

***

أسامة محمد صالح زامل

جُدُرٌ تندى بَردا

تتثاءبُ من فرطِ زَحامٍ في الصمتِ

الكثرةُ لا تعني إلاّ ضيقَ مساحةِ شُرْفاتِ جيوبِ الصدرِ

صدرٌ يهوي والحاصلُ ضيقُ مرورٍ فيِ الوقتِ

مرَّ القرُّ المُرُّ وجاءَ البدرُ يجرُّ زهورا

وتنفّسَ مولودٌ مشنوقا

تَبّاً للجُبَّ الساكنِ في قلبٍ ذئبا

يتربصُّ حَرْقاً للفرقِ

إنْ سفَّ الصفُّ وقاومَ أو أمضى

أوْ شذَّ وألقى طَرْحاً حِملا

حيثُ الصدمةُ حقلُ صفيحٍ محروقِ

ما جدوى أنّي ألبستُ التينةَ ثوباً طُهرا

سلّمتُ الزوبعَ مطعوناً رُمحا

تقليداً من بابِ التقوى أعمى

مسحوقاً بمجانيقِ ضَرامِ العِهنِ المنفوشِ سخاما

مَسَدٌ حبلٌ يتدلّى

سَرَفٌ في النظرةِ من تحتٍ للأعلى

ذئبٌ يبكي فيها عينا

ليفكّكَ أوتارَ ثقوبِ المزمارِ

يمسحُ كأسَ قلوبِ السكرى في بارِ

خَمْرُ الحانةِ ألوانُ فقاعاتِ الطوفانِ

في برقِ رحيقِ الأحداقِ

الماشي يتثاءبُ من سُكْرِ إبريقا

فنجانَ شرودِ سرورٍ مقلوبِ

***

11 حزيران 2025

 

شَكَرْتُ

اللّهَ

أنْ

لَمْ يَصْطَفيني

في

الْمَنافي

كَيْ

أَرى ناراً

بِقُرْبٍ مِنْ نِعالي جَنْبَ وادٍ

أوْ

أَرى غاراً

يَمُجّ الْقَوْلَ أَنْهاراً

وَإبْهاراً

يُجاري

مَنْ

تَمادوا

في الْخِلابَهْ

شَكَرْتُ

اللّهَ

أنّي

نابِهاً

أحْيا

حَيِيّا

إنْ

بَدَا منّي

يَقينٌ

لا أُرى قَطْعاً

هُنا

أَرْضى الحِرابهْ!

***

البشير النحلي.

 

هو الذي قال: ".. وفي ليلة خريفية بلا قمر، تأزف اشد لحظات افعى الحنكليس اثارة.وفي غضون هذه الرحلة تطرأ عليها استحالات غريبة: انفها القصير المستدير يصبح مدببا وجسمها يتحول الى اللون الفضي وهكذا تمضي سابحة في الأعماق قاطعة الوف الكيلومترات نحو موطنها الأصلي الذي لم تره من قبل.في هذا البحر تضرب مواعيد الغرام وفي أعماقه الخضر المعتمة تقام عشرات الألوف من الأعراس الصامتة.. "

القت الست (ماجدة) ذراعها الأسمر المكتنز على زجاج المنضدة. التقطت باليد الأخرى جرسا يتدلى من سلك ابيض فوق كتفها اليسرى. ضغطت عليه. مدّتْ ذقنها نحو وسط الغرفة حيث أقف:

ــ اليوم هدايا.. وفي الغد.. ماذا؟

رددت بنفس نغمتها: ــ ماذا؟ ماذا؟

ــ يا تلميذة.. لتجربي إلقاء هذا السؤال على نفسك..

في الفناء المفضي الى الساحة ألقيتُ هذا السؤال على (هناء). رفعت رأسها عن كتاب كان بين يديها:

ــ ألم تجدي يا (كريمة) في العالم غير زوج من السراويل الداخلية وآخر من الفانيلات تهدينه الى استاذ؟! أتعرفين مغزى فعلتك؟!

ــ انا لا أعاني ضعفا في علم الأحياء.. بالعكس انأ اعشقه..

ــ أتعرفين يا كريمة؟

ــ ماذا؟

ــ ما كان ينبغي ان تهديه أيما شيء.. أعني من حيث التقولات..

ــ أنا لا اعبـأ بها مطلقا..

ــ يا لك ِمن كاذبة! ووجهكٍ المصفرّ ساعة خروجك من غرفة الإدارة؟

ــ لا.. ليس الأمر بهذا الشكل.. لم افكرْ في مثل هذا الموضوع.

ــ لعل الهدية فكرتْ بالنيابة عنك ِ..

سألتها لحظة دقّ الجرس:

ــ هناء.. هل تعتقدين أنني ضفدعة مثلا أو فراشة؟!

ــ هذا يعتمد على إحساسك الخاص..

ــ إذن أنا فراشة محنطة..

ــ حية أم ميتة؟

ــ بين هذا وذاك..

ــ أنتِ غريبة الأطوار.. ولكنكِ اكثر جرأة مني..

ــ ليس أمام الست ماجدة على اية حال..!

فتحت عينيها في تثاقل مخافة ان تقعا على حقائق مؤلمة يزخر بها عالم اليقظة.سيصيح الديك ويرتفع أذان الحاج جاسم. كان المذياع في يدها يبث أغنية (الأمل) لأم كلثوم. انتظرتْ طويلا كيما تهدأ أصوات ساكني الغرف المجاورة. الغرفة الشمالية التي لا مناص من المرور أمامها اذا شاء المرء التوجه الى المرحاض.تسكنها (أم زامل) ذات الوجه البومائي الذي يبدو وكأنه مجبول من طين الخضوع المبهم الوحشي للزمن.. " السرعوفة حشرة خضراء غريبة الشكل مفترسة من مستقيمات الأجنحة

تكمن على النباتات بلا حراك لتصيد الهوام ".

بعد أن رمت المذياع جانبا، اقتطعت قصاصة من مجلة طبية دسّتها في ملف: " أنا فتاة في مقتبل عمري.. أعاني من غزارة في شعر ذراعي واضطراب في الغدد كما أظن.. أعاني أيضا من مشكلة خجل شديدة.. حدث مؤخرا ان شاهدت في التلفزيون فيلما يدور حول عقدة الرعب (اغروفوبيا) ورأيت في أعراض هذه الحالة بعضا مما لديّ، ذلك انني حالما استقل باصا او ادخل الى مكان عام يحل بي الرعب ويظهر ذلك من امتقاع وجهي وغزارة التعرق في ثنايا جسدي. فما هي علتي؟

المعذبة (ك)

خطت على هيكل ام زامل الذي تلتف عليه عباءة غطت الجزء الأسفل من جسمها.ترتدي ثوبا اسود طيلة اليوم وقد أقسمت ان لا تنزعه منذ ان ماتت امها لتعاطيها دواء عن طريق الخطأ ــ كانت تحتفظ برفّ تصطف عليه زجاجات بتركيبات سرية قيل انها تعالج العاقرات وتستر خطايا العاثرات من فاقدات غشاء البكارة حيث انها، أي الأم وبعد ان فقدت بصرها اقدمت على تناول مستحضر افقدها الحياة.. في وسع ابنتها أم زامل ان تفتح سيرة اية امرأة من اهل (المناوي) حيث تنتشر الاشاعات

من ذلك البيت المختنق بالبخور الرخيص وعطن الإفرازات الانثوية وروائح المرق المحتبسة في الغرف.ولكنها كانت تلجأ الى الصمت حين يتعلق الأمر بمهنة أمها السرية قبل ان تموت (ميتة جالينوس) على حد تعبير الأستاذ عبد الأمير كلما عاد في وقت متأخر من الليل من بار هافانا ليقضي ليلة ليلاء في أحضان الوحل!

ومن اجل ان تبدد ام زامل وحشة الغرفة، استقدمت من وراء نهر (الخورة) تلك المرأة المهذار (صفية) التي اشترطت ــ للموافقة على الإقامة ــ اصطحاب ديكها الصداح.جعلت هذه العذراء الأبدية التي لم تتوقف يوما عن تخضيب شعر رأسها الأشيب بالحناء، تطارد ديكها في ممرات الطابق العلوي او على درجات السلم المؤدي الى السطح حتى حسب قاطنو البيت ديكها رجلا.

* * *

احتوت رأسها المسكون بالهواجس بين يديها. خرجت مخترقة الممر الذي تتكدس فيه كومة من الأجساد ألقت بحصرها وبطانياتها على بلاط (الكاشي) ابتداء من عتبات الغرف حتى السياج المطل على الحوش.اشتبكت على امتداد السياج نباتات متسلقة وحشية الأشكال وتعثرت بهيكل امرأة اخرى. انطلقت صرخة مكتومة كأنها طالعة من شرخ في رأس نائمة. لبثت للحظات متخشبة في وقفتها.تسللت في خفـة منحدرة عبر السلالم كما لو انها محارة غادرت لتوها قوقعتها.كانت أصابعها تقبض على قطعة طباشير. صفعت وجهها نسائم الفجر. شطبت بالطباشير كتابات الفحم الجدارية (أم كريمة بائعة اللحم اللذيذ)، (ام كريمة تفتح أبوابها ليلا ونهارا فقط)، ماءت قطة عبر الساقية. قفلت صاعدة الى الغرفة وهي تلهث.

الأحد:

يفتح الأستاذ (مشتاق) مختبر المدرسة. نتدافع وراءه الى الداخل.

نتحلق حول منضدة طويلة في الوسط.يتناول مئزرا أبيض من مشجب في الركن. يرتديه على بذلته المخططة ويقف عند طرف المنضدة مشيرا الى زجاجات عند الطاولة:

ــ هل منكنّ مَنْ لم تزر ْ مختبرا من قبل؟ لترفع أصبعها.. واحدة اثنتان ثلاث.. إنها الزيارة الأولى. اذن هل ترغبن في ان أحدثكن ّ في أمر هذه الأفعى القابعة في هذا السائل؟ انه موضوع طويل ولكنه لم يأتِ في اول الكتاب مثلما هي الضفدعة أو هاته الأسماك المتخاطفة في الحوض.إعلمن يا بنات ان ما سنتناوله ابتداء من الآن حتى آخر العام الدراسي ليس سوى ذرة في بحر، ونحن لا نستعرض الا نماذج من غرائب هذا الكون. أما عن مدى تشابه سلوكها بالسلوك البشري فهو موضوع متشعب ومعقد، وقد أكلف بعضكن بكتابة تقارير حوله..

يفتح علبة معدنية ويخرج منها ملقطا وسكينا ومقصا ومجموعة من الدبابيس.:

ــ أعرف انها المرة الأولى ,, نحن في سبيل تشريح هذه الضفدعة التي أتت بها زميلتكنّ (كريمة) من جدول قرب منزلها وقد وعدتني بفراشة محنطة ايضا.كل واحدة منكنّ الآن حرة في الانصراف. اقترح لو شعرت اية واحدة بالغثيان ان تشغل عينيها بفراشة (الطائر الصدّاح) او ذلك الصقر المحنط الذي تم اصطياده في صحراء (الزبير)

او التأمل في وسيلة الإيضاح التي تصور الجهاز الهضمي في (الفاشيولا). انها موضوعات ذات منطلقات متشابهة تتطلب قدرا كبيرا من الدقة والاهتمام.

احد عصاري الخميس:

زارنا (ابو احمد) بدون سابق توقع، بالنسبة لي على الأقل. كنت مستندة الى افريز الشباك أتأمل حلقة من البنات يلهين بلعبة (صندوقنا العالي لو طاح وتكسر).. في اللحظة التي هوت فيها (فوزية) طرق سمعي صوت بوق سيارة. اصطفت سيارة اميركية خضراء اللون ذات سقف متحرك.. انحدر منها ابو احمد فشعرت ببعض الضيق.اغلقتُ الشباك متهاوية بهيكلي على السرير. عادة يثير قدومه الكثير من الهمس في المحلة، فمثلا وقبل شهرين تقريبا اقتحم (مطرود) الغرفة ناشرا فيها روائح (ديتول) مبعثها المستوصف الذي يعمل فيه.وبعد ان اشبع حديثه لفّا ودورانا المح الى ان ساكني الزقاق ينوون تقديم (مضبطة) ضد أمي الى محافظ المدينة يشكون اليه كثرة استقبالها للسيارات الكويتية أملا في ترحيلها.انه في واقع الحال موضوع قديم.ربما كانت امي كذلك فيما مضى

اما ألان فليس سوى سيارة ابي احمد، ولمجيئه غير المرحب به سبب سأذكره في وقت لاحق. المهم ان (مطرود) استطاع إيصالي الى درجة التميز غيظا وهو يثرثر ملمحا الى انّ في استطاعته التأثير على الآخرين وإيقاف عريضة الشكوى اذا تم ارضاؤه. لم افهم نوع الإرضاء الذي رمى اليه. صممت ان لا ينال شيئا ثم ان الناس قد تناسوا هذا الموضوع تقريبا الا اذا كان هنالك من يتعمد اثارة النوازع الشريرة لديهم.أمي عالجت الأمر بطريقتها الخاصة. رمت اليه بزجاجة عطر ثم اتجهت الى باب الغرفة لتفتحه مشيرة اليه ان يغادر المكان فورا.

لقد كان وقتذاك اشد وضاعة من الحال التي نحيا!

تجاهل ابو احمد قدح الشربت منتزعا عقاله وكوفيته البيضاء بنقوشها الفاتحة. برز رأسه المدور الحليق.اعتاد اعتمار العقال والكوفية بتلويحتين او ثلاث. تنحنح مرسلا لجوفه جرعة من الشربت:

ــ الآن وصلت ْ..

غرزت امي الإبرة في رتق ثوبها:

ــ الحدود زحمة؟

ــ خلق كثير..

ــ هل صادفته في الكويت؟

ــ آه..هذه المرة سألت عنه في الميناء.. قيل لي انه عمل هناك لفترة من الوقت. أعرف مدير الحسابات ومن اجل خاطري قام بتكليف من يسأل عنه.. وحين راجعوا الملفات اكتشفوا انه كان قد تسلم مكافأته..وغادر.. ربما الى مصنع (الطابوق الجيري) او انه انضم الى خدم الشيخ ناصر..

عدا الخروج كلما جاء لزيارتنا كان دأبي ان أنأى عن متناول يده. انها تشاركه في الحديث والنقر بشكل خاطف كلما ارتأى ان يؤكد كلمة او تعبيرا على فخذ من يجالسه او على كتفه في السطح لهوت ببضع صفحات من (عجائب الكون): " عندما يحين الوقت الذي تهرب به الفراشة من شرنقتها فإنها تذيب الحرير عند احد طرفيها وتناضل في الخروج من خلال الثقب الذي تعمله.. "

* * *

الاثنين:

المطر هذا الصباح هو الحقيقة الدافئة الوحيدة!

لا استطيع ان اصادق اثاث الغرفة إنْ كان ما فيها من حطام يصح ان يطلق عليه اثاثا ً. أترك امي مع انينها المتواصل وكعبيها المتورمين. اعبر الزقاق الذي تشطره ساقية ذات مياه آسنة.تبدو البيوت على جانبيه كعجائز يتهامسن بشأني.(هاشم) ابن الحفافة يحاول ان يدهسني بدراجته. (عباس) يخزرني باستمرار.. امرأة تغادر عتبة دارها الى الداخل موصدة الباب في قوة.أهي محض صدفة آم انني وباء يوشك على الفتك بهم؟! اخفض رأسي منشغلة بأشكال الساقية التي تتقيأ ما في جوفها من أخلاط الى النهر الذي يطل عليه مغتسل الموتى.. بينها وبين جداره الجصّي ممر ضيق.عبر خط الجدار تشرئبّ نخلة مصفرة السعفات ــ ربما لكثرة النواح على الموتى ــ ويمر الجدار بشجرة صفصاف بري تآكل لحاؤها. خيط من النمل يتسلل عبر فتحة الباب في الأسفل. في الغرفة التي تتوسط الجامع والمغتسل يصل الى مسامعي ترتيل القرآن بصوت (الملا شاكر) بوجهه الأبيض المحمر ّ بتدفق غريب ورخامة موهوبة والأعجب منهما انه حين يستدعى الى طقوس الزواج او مجالس العزاء يتلجلج في الحديث، وما ان يحين دوره في القراءة حتى ينطلق متدفقا منساب الحديث دون اية تمتمات. ولكن اين كريمة من هذا النقاء وكيف تهدأ الأمواج في بحر ماله قرار؟!

:".. ان كثيرا من انواع الفراشات ذات الحجم الكبير تنجذب من مسافة بعيدة الى رائحة الفاكهة المتعفنة والسماد وأشياء اخرى غريبة كالنار مثلا.. "

انحدر الى ضفة النهر الذي توقف عن ان يكون كذلك , تضاءل مجراه حتى كاد ان لا يتجاوز المترين عرضا وصارت السواقي ومؤخرات البيوت تفرغ فيه مياهها الملوثة وتحاصره من الجانبين أعشاب نصف محترقة تحط عليها او تتطاير منها أوراق ممزقة.. جرائد بهت لون الكتابات عليها , حضائن، ذرّات سخام تنفثها محروقات يصعب تحديد مواقعها. الأنهار كالبشر تبدأ نقية وتنتهي ملوثة. تتقافز ضفدعتان هنا وهناك. اجلس على صفيحة فارغة.. أخرج من حقيبتي زجاجة.. ها أنا اكتشف سمكة فضية اللون مغزلية التكوين محشورة بين الطحالب تنبض خياشيمها في ايقاع صامت وهي تنتفض بين الفينة والأخرى. قد تكون (حمرية) هامت على وجهها فوقعت في هذا الفخ.. لو كان الاستاذ مشتاق موجودا لأخبرني

باسمها العلمي. من يقع في الفخاخ غير الأطياب؟! املأ الزجاجة من ماء النهر. اخضّها مزيلا آثار المخللات. فكرة جيدة ان تضحي هذه السمكة في مختبر المدرسة.. سأسرع لئلا أثير الفضول.. ترتجف السمكة وهي تتلوى باتجاه مقوس يمينا وشمالا. تطوي الست ماجدة كتاب (اصول الطبخ) وتتناول حقيبتها القطيفة. تلقي نظرة على جانب من وجهها عبر مرآة الحقيبة.. تمشط الجالسات من المدرسات بنظرة باردة ثم تتوقف عنده:

ــ استاذ مشتاق.. هذا امر لم يحدث من قبل..

يمسح عدستي نظارته بورق شفاف..

ــ الحال كما افهمها لا تستدعي كل هذا العناء..

ــ لا يا استاذ.. الموضوع يمس كرامة المدرسة..!

ــ انا لم اطلع بشكل واف على تفاصيل الموضوع.. لنفترض انها أخطأت.. أليس من مهام المدرسة ان تعالج قبل ان تعاقب؟

ــ أنا شخصيا لا يمكن ان اقع في وهم كهذا.أنا أدير مدرسة لا اصلاحية!

تلتفت جهة المدرسات:

ــ والله والله صحيح.. انتن لسن بعيدات عما يحدث.. كثيرا ما ضبطت منْ تغش زجاجات (الببسي) في حانوت المدرسة وتخلطه بالماء ومن تسرق الطباشير او تلبس الكعب العالي.. امور كهذه يمكن ابتلاعها..أما ان تكون المدرسة ومن فيها حديث المدينة فهذا أمر خطير..

احدى المدرسات تنفجر مقهقهة.. تعطس أخرى وتدمع عيناها:

ــ العفو ست.. شرّ البلية ما يضحك!

يجمر وجه الست ماجدة. تبدو وكأنها على وشك الانهيار بفعل ضغط ما. تعقب الست مريم مدرسة الكيمياء:

ــ وما يبكي أيضا!

* * *

ليس من عادتها ان تتأخر في الاستيقاظ. فجر اليوم سمعت الصيحة الأخيرة لديك (صفية) واصطفاق جناحيه. عادت الى الفراش. العتمة تملأ أركان الغرفة.خيط حليبي اللون من ضياء الفجر يتسلل من شق في اطار النافذة. تناهى الى مسمعها غطيط امها وأنينها المكتوم.ثمة تقويم قديم يعلوه الغبار يتوسطه اكليل من الزهور. انها رغم نذر الصباح مضطجعة على ظهرها ولكنها نهضت فجأة ثم تخشبت واقفة قبالة الدولاب وامتدت يدها الى المقبض الأيسر لتسحبه فأحدثت حافات الأبواب صريرا. أخرجت ثوب زفاف ابيض بحركة تخلو من القدرة على التوازن.كان قوس الصدر مطرزا بالتماع عتيق وثمة خيوط تدلت بلا انتظام. طفت رائحة الماضي تحت سقف مدلهم.كان احد أزرار الصدر مقطوعا فشدت الخيط في جنون.

الا انه لم يتمزق.أية اذرع رجالية ضمت هذا الثوب الى صدورها وأية عيون اشبعته تفرسا؟! عثرت على نفسها فوق سطح البيت امام التنور في نهار ساطع.كانت بقايا نار بداخله تنتظر من يؤججها وقد فعلت.تصاعد دخان كثيف وتطاير شرر.. ولكنها الآن في سريرها تحت سماء السقف المدججة بالظلام. تقرصها عقارب الندم. تلسعها اسياخ من الحديد المحمر أسفل البطن، فوق الفخذين.. على الحلمتين وقد ارتطمت الخياشيم برائحة لحم مشوي.أطبقت عليها سجوف من الظلام ولم تنقطع رائحة اللحم المشوي عن الانتشار. من الشباك كان في مقدورها ان تبصر عددا لا يحصى من الرؤوس. هنالك رجل غير واضح الملامح توقف عند عتبة الدار مواجها الحشد.لم يفعل شيئا حين تدحرجت كرة من النار لتجتاح امرأة فتية تزينت بإكليل. وقامت ايد بلا أجساد برفعها مثلما ارتفعت الصبية اللاهية المفزوعة في (صندوقنا العالي).. ان وجهها في مواجهة السماء ودخانا كثيفا ينبعث من ثوب ملقى.. هبطت أسراب من الطيور بيضاء اللون. غطست في اعماق الدخان ثم غادرته بلون الحداد.ارتفع الصندوق الخشبي الذي كانت مستلقية بداخله. انمحت رسوم السماء وظهرت وجوه (مطرود) وصاحب السيارة الفستقية وناداها (الملا شاكر) داعيا إياها هاتفا: أنْ تعالي.. وهي ترد عليه بأنْ: لا استطيع ثم ارتفعت الزغاريد من آخر الزقاق.. الزغاريد؟ هل اختلطت أيام السعادة بأيام الشقاء؟ حين رفعت رأسها لم تصدق انها كانت نائمة على ظهرها على نحو متصالب.. وجهها باتجاه السقف الذي تراكمت عليه قشور من الكلس. انتفضت مثل صبية مسختها قوى سحرية وكانت رائحة البيض المقلي تغزو فضاء الغرفة وأمها تخضها بقوة. كانت غارقة في بحيرة من العرق وشعرت بجفاف في حلقها!

تدفق الصباح بتكاسل عبر الشباك الذي فُتحت شراعتاه.امام البيت باص خشبي. تساءلت عن سبب وقوفه هناك , الصق رجل بدين ظهره الى جدار البيت المقابل.يظهر انه السائق. قرع باب الغرفة. دخلت صفية ملقية بعباءتها على ذراع الكنبة:

ــ صباح الخير يا ام كريمة.. نزمع الخروج الى اثل الزبير.. تعاليا معنا..

اقعت ام كريمة على تختة تقطيع اللحم وانهمكت بإلقاء حب الدنان خارج طبق الرز.:

ــ أنا مريضة اليوم.. وغير مستعدة أصلا..

وتعللت كريمة بقرب موعد الامتحانات.

حلفت صفية برأس احد الأولياء الصالحين إنها لم تنم البارحة والأحرى بها ان تزوره فهو يهب المراد لكل من يطلبه.. ثم اتجهت الى ام كريم:

ــ تعالي.. لا تتعززي علينا!

انتفضت كقطة وخزها سيخ حديد لاسع الحرارة.اغلقت الباب والشباك مشعلة نور الغرفة الذابل..

عادت صفية لتتهالك على القنفة..

ــ لمَ ترمين بالطعام الذي ابعث به اليكِ؟ هل أنا نجسة؟

كان استفزارا غير متوقع.. انفجرت ام كريمة:

ــ أنا مَنْ هي النجسة ,أنجس من كلبة تتمرغ في السواقي!

ــ لا.. لا.. حاشاك ِ..

انتضت ثوبها الكحلي المطرز.. تعرت الا من سروالها البنفسجي اللون الذي ينتهي الى أعلى الركبة بقليل..

ــ منافقات! أنا هي ام كريمة الساقطة ام السيارات..

ترجرجت الأماكن المترهلة من جسدها.برزت الأوردة الشاحبة اللون على بشرتها. قالت صفية:

ــ أم كريمة.. لا تقهري روحك ِ.. عندكِ ضغط..

ــ انا أم البقع واللطخات والبثور.. انا التي لم يدعْ سفلس (الافرنجي) بقعة من جسدها دون ان يلتهمه!

ــ انا والله ما عندي خبر..

تقدمت صفية بتؤدة صوب عري المرأة المتراعش. بسطت يدها ذات العروق الناشفة باتجاه الصدر ومررتها على ذلك الجزء..

ــ ناعم وطاهر إنْ شاء الله..

ثم دست أصابعها الغليظة في قماش سروالها:

ــ اجزم انه من الكويت..

أبعدت ام كريمة خلت من اية ردّة فعل وكأنها فعلت ذلك لمجرد مواصلة الانتفاض.. ارتدت ثوبها ثانية:

ــ انهم يتحدثون بالهمس عنّي..اعلم ذلك جيدا..كل الأوهام والتلفيقات من هذا البيت.. قد يكون بعض ما يقال صحيح وربما كان..ولكن خبريني ماالذي تفعله امرأة هجرها زوجها الى الخمرة ومن ثم الى (الكويت)؟! ها أنا ابعث في طلبه منذ سنتين دونما جدوى.. لقد كنت.. نعم خرقاء بلا كلمة زجر.. أتسكع في هذا الشارع او ذاك خاوية الجيب.. اجهل درب السلامة من درب الندامة.كان عندي رجل ولو انه حرص على بيته لما ضيعنا وراح إلى حيث لا ادري.. مرة مهرب للخمور وتارة فرّاش ولا ادري ما الذي يفعله الآن.. انت لا تعرفين الرجال يا صفية.. لو انك فقط عاشرتِ واحدا! أخذت دموع صفية تتدحرج على خديها وكان واضحا انها مبعوثة من لدن ام زامل وأخريات. من السهل ان يقرأ المرء في عينيها تلك الرغبة الطفولية العتيقة في الصلح وفي نشر كل ما قالته ام كريمة في نفس الوقت. انها من النوع الذي لا يستطيع ان يكتم بين جوانحه سرا.

تنهدت ام كريمة وكأنها مصابة بنوبة برد.سارت بتخاذل نحو سريرها.. أعانتها صفية على الاستلقاء.. غطتها باللحاف:

ــ انت مريضة حقا..

في الزقاق ارتفعت ضجة المتدافعات على الباص. اطل من تحت عباءة صفية الرجل الوحيد في حياتها.غاصت وسط الحشد لتنهمك بالعراك ومحولة الاستئثاربالمقعد المجاور للسائق.لم تستطع كريمة ــ رغم اكتئابها ــ منع نفسها من الضحك لمشهد صفية وديكها.ولكنها قهقهت نهارا كاملا حين عرفت انها فقدت ذلك الديك في اثل الزبير فلم تدع ْ بئرا ولا اكمة دون ان تفتشهما بحثا عنه قبل ان يخبرها احدهم بأن عليها ان تجرب المكان الوحيد الذي لم يخطر ببالها:

بطون الذين الذين خرجوا الى الأثل!

.. لماذا تنكمشين مثل قنفذ؟ انتِ تبترين اندفاعاتك.. أمر حسن.. انتِ

عاقلة.. أمر سيء..ان أمرا مثل هذا يقود روحكِ الى الشلل.. سيذبل جسدك ِمثل رمانة مقتطفة.. ستنطفئين مثل جمرة في الماء.. تدق الساعة الجدارية دقة واحدة.. الرابعة والنصف.. يقرع باب الغرفة.. قومي وافتحيه.. يطل وجه امك مكفهرا. كأن أحدا ركلها في معدتها.. تلهث في تعسر.. تعلن في اقتضاب انه يوم نحس. صودرت منها ثلاثة سراويل وزجاجتا عطر (ياسمين) وزجاجة خروع كانت قد حاولت اخفاءها بعيدا عن المعروض لعجوز تصنع تعويذات الأطفال وتدعي انها تطيل رموشهم بذلك الخروع! تتهالك على السرير.. تخلع فردتي جوربها، تتأوه وتلتقط جردلا فارغا. تملؤه بالماء. تشعل البريموس وتقلب الجردل على قاعدته. تنتشر رائحة خانقة.تفتحين الباب والشباك على أوسعيهما. انها تلقي بحفنة من الملح الى ماء الجردل مواصلة ً تأوهها:

ــ ويلك يا كريمة.. انني جائعة..

ــ كيف؟ ألم تأكلي في السوق؟

ــ الظاهر انك لم تطبخي لقمة رز..

ــ كنت نائمة..

ــ لا تشبعين من النوم أبدا!

تردين بجنون:

ــ وأنتِ لا تشبعين من التسكع!

تتشاجران ساعة.. تتعالى صرخاتك دونما وعي.كنت تشتمين كل من حولك ِ.. أمك والدنيا وكل شيء! هي تهددك بشّق ثوبها والخروج الى الشارع.. انتِ تفكرين في إشعال النار في جسدك فيما اذا وصلت الامور الى حافة الانهيار..

تقذف بماء الجردل عبر الشباك:

ــ لن ابيع سلعة بعد الآن.. لمن؟ لهاته الوجوه؟ لمن يستأهل ومن لا يستأهل؟! غدا تلتهمين التراب وتشربين الهواء.. قومي وجدي لكِ عملا..

افعلي أي شيء.. تزوجي.. اذهبي الى جهنم.. ولكن دعيني أمت في راحة بال ,اخلصي بذلك من صخرة على صدرك..!

* * *

قلّبت الست ماجدة أوراقا في ملف أمامها:

ــ هيا كريمة.. حدثينا عن أصل الحكاية..

ــ اية حكاية؟

ــ الهدية..

ــ أه.. نعم يا ست.. اصل الموضوع.. لا ادري كيف ابدأ كان الاستاذ مشتاق يجلس قربي في باص المصلحة، وحين غادرت الباص اكتشفت نسيان كيس من النايلون يحتوي على تلك الأشياء..

ــ زوج من السراويل الداخلية وآخر من الفانيلات؟

ــ وكتاب قواعد اللغة العربية في طيّاته ورقة رسمية..

ــ ورقة رسمية بشأن من؟

ــ انها ورقة طلاق..

ــ طلاقك؟

ــ العفو ست.. انها امي.. نعم.. اسألي الاستاذ.. ولفرحي وتقديرا لشخصه وجهوده في التدريس طلبت منه وبإلحاح ان يستبقي كيس النايلون لديه معتبرا ما في داخله هدية وقد كان في نيتي أن اقدم له هدية أروع.. ولكن..

ــ أصحيح هذا يا استاذ مشتاق؟

ــ حدث هذا الأمر حقا ولكنني لم اكتشف محتويات الكيس الا بعد انصرافها..

اقتطاع من مجلة عاطفية:

تحت زاوية (نبض القلوب)

عزيزتي محررة الصفحة

.. انقذيني أرجوك من عذاب القلب. لي من العمر عشرون عاما ولم تتفتح ازاهير شبابي بعد.لا تعجبي لو اخبرتك انني حقيبة ملأى بالمفاجآت والعقد.. اسكن حيا معظم قاطنيه من بسطاء الناس.دعيني افتح لك قلبي بكل ما فيه من تشققات وندوب... لا.. لا.. لن اطيل عليك. انا طالبة ثانوية. وقعت في حب استاذ لي هو مدرس لمادة (علم الأحياء). هو يبادلني الحب ايضا ولو بتحفظ. ويخيل لي احيانا انه يحرص على سمعته بشكل اناني.لعلي واهمة فيما يتعلق بهذا الشعور ولكنني واثقة من انني احبه حتى الموت.عقدتي هي انني لا ارغب له ان يزور البيت ولا المحلة برمتها. سيعرف من انا وفي اية تربة زرعتني الاقدار وكيف كانت عليه امي، وهذه الأخيرة عقبتي الكأداء.. جعلت أبي يهيم في الشوارع مخمورا بسبب لسانها ثم ما لبث ان هاجر الى الكويت قبل اكثر من عامين دون ان يرسل شيئا سوى ورقة طلاق ممهورة بختم البصرة، ولا ادري ان كانت ورقة حقيقية او مزيفة.هي اخذت تمارس بيع السلع المهربة. كان المفروض انْ تتدفق الأرباح على البيت وأن تعوض هذه المهنة بعضا مما نفقده يوميا من ماء وجه.. ما ربحنا ولا احتفظنا به! ومما زاد في الطين بلّة إننا نقطن غرفة بائسة في بيت آيل للسقوط. تقطنه ثلاث عائلات او اكثر. يكاد الهمس حول امي ان يصير استنكارا لولا تساهلها في أثمان السلع.انها تحمل الماضي بكل اثقاله على رأسها وأنا انال الحصاد المرّ! مَنْ يفكر بابنة امرأة لها ماض وحاضر معا؟ انه الختم الناري الذي يطبع على فخذ بقرة! انني اكرهها.. اكرهها مثلما يكره عاشق يوما مطيرا يمنعه من لقاء من يعشق وكما يبغض المرء ساحة نحس المت به.انّ من تمتهن الدِلالة ترتبط عند الناس بحياة من نمط خاص وسيول من المال.. انها المرأة التي تستطيع ان تطلق وتزوج وتجعل العاهر قديسة وتحيل الحجر الى معدن نفيس.. أين امي من ذلك كله؟ نحن في شظف من العيش شديد ولا ادري كيف ستؤول بنا الأحوال. لم اعد احتمل.. اريد ان انتحر. يزورنا من وقت لآخر رجل عجوز يدعي بقرابته لأبي رغم انه قد أضاع عنوانه في الكويت مؤخرا.اكرهه لأسباب ليس اقلها كونه يزيد نار الهمس اشتعالا وهو لا يفتأ يتشبب ويتصبب عرقا ولا يخرج الدينار الا مخنوقا لكنه يطمع في صبية ولم يلقَ اما ناظريه سواي وأنا اريد الانتحار.. ما رأيك سيدتي بهكذا انتحار؟ سكون نهاية جميلة أليس كذلك؟

انتظر ردك على احر من الجمر..

(ك)

عند جسر (النور) المقابل لخزان (الباور هوز) تقف فتاة في ظل شجرة ذي كثافات متباينة متكسر على الرصيف. يتطاول الظل منكفئا بتصالب على الشريط الكونكريتي لنهر (العشار) ومن ثم يهوي في شبه تلاشٍ الى مرايا النهر المترجرجة والذي تتهاوى فوقها ظلال هلامية التكوينات للفندق المجاور لدار السينما واشجار يوكالبتوس متعرية الأغصان واشجار دفلى. تلملم فتاة حاشية تنورتها البيضاء المنقطة بالأحمر.تجلس في اناة على الشريط الموازي لمسار النهر ــ في منطقة الظل أيضا ــ. يبدو وجهها ملتهبا بلفح الانتظار. انه أشبه بتفاحة حمراء توشك على الوقوع بأول هزة غصن. عيناها متلامعتان وشفتاها ممتلئتان رغم ان عودها يشوبه قدر قليل من الانحناء.تتأمل لوحة الفيلم للحظات منحدرة ببصرها الى رواد السينما المتقاطرين على مدخلها: بنات بأحسن زينة.. شبان ببذلات كاملة.. مراهقون يتحلقون حول اكشاك الفطائر وهم يلتهمونها في شراهة قد توحي للمتأمل ان مبعثها الجوع او لأنهم يتعجلون دخول السينما.

عبر شارع السينما الى ذلك المكان المظلل شاب بمظهر رصين ونظارات طبية، يخرج منديلا ازرق ويفرشه على الشريط الكونكريتي جالسا عليه:

ــ كريمة.. هل ابدو مثل عاشق حقا؟

ــ أنت أقرب الى انْ تكون معشوقا..

يخرج من جيب سترته الجانبي بطاقتين:

ــ وصلت متأخرا.. فيلم جيد.. من المؤسف انهم سيهدمون هذه السينما..

ــ ستكون هناك شوارع جميلة..

ــ عشرات الأفلام شاهدتها في هذه الدار..

ــ استاذ مشتاق..

ــ دعينا والأستاذية..لن القي محاضرة عن الخلايا مثلا هنا..

ــ متأسفة.. آه.. تذكرت.. السمكة التي وعدتك بجلبها الى المختبر..

ــ ماذا؟ هل افلتتْ منك؟

ــ كلا.. أنا افلتّها بنفسي..

فجأة غمر المكان ظلام وتحولت الكتل المتحركة في الشارع الى أشباح.. تلاشت معالم الوجوه.. ابتعدت عنه قليلا..آه.. يا لحظي!

ــ تريثي..

حدق في ساعته الفوسفورية:

ــ تذكرت الآن.. إنها غارة وهمية.. أعلنوا عنها في التلفزيون.. انتظري.. ذابت الوجوه.. الظلام أحيانا نعمة.. وها هي النجوم تبدو اشد لمعانا..

ــ شأنها شأن الحب.. يتألق على نحو أشد في ظلام الكراهية..

ــ ياله من تعبير جميل.. انتِ تكتبين؟

ــ أحيانا.. ولكنني اقرأ أكثر مما اكتب..

ــ ماذا كتبت عن الحب؟

ــ أجمل نقطة ضعف في حياة الانسان..

ــ ألا يكون مصدر قوة مثلا؟

ــ ربما.. هذا جميل..

ــ انت لم تخبريني اين تسكنين..

أشاحت بوجهها بعيدا عن سطوة نظراته.. أفلتت حقيبتها.. التقطتها..

عوت صفارة انذار.. تلاها انفجار.. صلصلت أجراس سيارة اطفاء.. تراعشت السنة نار.. ظللت الساحة المجاورة للمكتبة العامة سحابة من دخان..

ــ وكأنها حرب..

ــ لا عليك.. كل شيء سينتهي في دقائق..

وهما يعبران الشارع، عادت الأضواء من جديد.أسرعا بالدخول وهما يتعثران بظلام الصالة.. خفتت ضوضاء المشاهدين. ظهر عنوان الفيلم (روفائيل الفاسق).. ماذا تعني كلمة (اورور) يااستاذ مشتاق؟.. لا اعرف الفرنسية كثيرا.. آه.. انها تعني الفجر.. اقرأي الترجمة.. انت ساهمة.. لماذا؟ حين تعشق اورور الوقوع في النار، تعمّد جسدها بالعذاب وهي تهبه لرواد ازقة (مارسيليا) حيث بحارة مخمورون، متشردون وقطط بلا مأوى.القلب قطعة من ربيع راحل.. الطفولة منديل منسي في اقبية الزمن.. ولقد ادركت البطلة ان حقيقة اندماجها بحياة المدينة مبعثها الرغبة في معانقة الوحل. دفعتها ايدٍ ديناصورية الى استرخاص جسدها. أن (روفائيل) المثقل بالفسق وعذاب الضمير ليس احسن حالا منها.. اليد نفسها تجرفه الى وهاد العبث , حين تخبره (اورور) انها لو ارادت الانتحار يوما ستقدم على الزواج من رجل عجوز، وستفعل ذلك حقا..

امّا روفائيل فيعدّ لنفسه مصيرا اشد قسوة وجمالا وتأثيرا. يتفق مع قناص اجير على ان يقوم الأخير بإطلاق النار على مهرج ملثم يسير على حبل امام جمهور في حديقة غناء.لم يكن ذلك المهرج سوى روفائيل بلحمه ودمه وقد تدبر لروحه هذا الوقوع المفجع من حالق.. الى احضان قدر لاه ٍ..

* * *

السبت 24 نيسان:

توقفت عن الذهاب الى المدرسة استعدادا للامتحانات النهائية.اصعد في العادة الى السطح مرتين في اليوم، مرة عند الفجر والأخرى وقت الأصيل.وحين جعل الصيف ينسل في تؤدة وازدادت الحرارة لفحا للوجوه؛ نقلنا اسرّتنا المعدنية الهزيلة بنوابضها المتقطعة البالية والكنابل الخفيفة إذ صرنا نبيت ليالينا على السطح الواسع المنشطر بسياج من الواح (الجينكو) المسندة بشكل عمودي قرب بعضها.فعلنا ذلك بعد انْ عصف بنا اليأس من البقاء في غرف خانقة تحت سقوف تمطر الجص والسحالي وندوفا من سحب الظلام فإذا بنا تحت سماء مرصعة بالنجوم نستروح النسائم الباردة قبل ان يهبط البقّ الذي لا يختلف عن العشق فكلاهما يتركك تتقلب في المقلاة! اشعر بالضيق الشديد حقا وينزلق ذهني بعيدا عن المعادلات واللوغريتمات.. انّ انقطاعي عن مشاهدة الاستاذ مشتاق لشديد الوطأة على قلبي..!

اليوم بعد الظهر ارتفعت صرخات ام زامل وحين استطلعت الأمر علمت بأنها سمعت ارتطاما على السطح فوق غرفتها مباشرة ولما صعدتْ، اكتشفتْ اختفاء قميصها الداخلي. وكانت من قبل قد ارتابت في اختفاء اثنين من سراويلها الداخلية.. وسبق لي ان فقدت اربعة من سراويلي مرة اثر مرة الى ان توقفت عن نشرها على حبال السطح؛ كذلك حدث الأمر نفسه بالنسبة لأمي و(صفية). ومن المزعج حقا ان يصل الأمر الى حدّ تبادل الاتهامات. البيت الذي نسكن فيه متصل بسطحين آخرين لبيتي (مطرود) و(صبري) الخباز. ولكن قياسا الى الارتفاع النسبي للسطح، يتطلب الأمر قطة او شخصا ذا عضلات مرنة للقفز ز ويظهر ان السرقة قد تمت في وقت متأخر اختير بعناية: في عزّ الظهيرة او قبل ذلك بقليل ذلك انني املأ السطح بوقع خطاي جيئة وذهابا الى اواخر الضحى مستظلة بحاجز (البيتونة) وإنْ غبت فـ(صباح) ابن الحداد يقرأ للامتحان في النصف الآخر من السطح. انه يسكن الغرفة الغربية في نفس الطابق العلوي الذي نسكن، إلا انه مثل ابويه واخته العانس ميال الى الانطواء. لا نعرف متى يخرج الأب او الأبن الى السطح. في ليالي الصيف ــ حين يفارقني النوم ــ يطرق اذني لهاث يتصاعد في الفضاء حتى يكاد ينقلب الى صراخ مبحوح فأتخشب مرعوبة بانتظار اول خيط من خيوط الفجر.انهم لفرط انطوائهم آثروا اختيار شطر السطح الأصغر دون ان يتيحوا لأم زامل او صفية قرصة مشاركتهما فيه ن الا ان الأمرأتين لم تكونا بذلك الاصرار على النوم في اسرّة تجاور اسرّتنا. احتجت أولاهما بالبق والثانية بالخوف على ديكها الراحل من انياب الهررة. كان ذلك في الصيف الماضي، اعتادتا على النوم في الغرفة الضيقة.. حين يحلو الجو او الارتماء على ارض الممر في أحيان اخرى..

الأحد:

بعد ان رحل الربيع، عاد الشتائ ذات ليلة من جديد. هطلت امطار غزيرة.. استبدلت منامتي بأخرى اخف اذ كان الهواء راكدا فيه رطوبة في البدء. وكالعادة كنا على السطح حبن أخذت هوائيات التلفزيونات بالاهتزاز

وانتفخت الناموسيات مثل أشرعة سفن توشك على الرحيل. طوينا المقاعد واثقلناها بالطابوق ثم هبطنا في حذر من السلم المعتم البئر مستعينين بالبرق المتلامع عبر الكوى والشقوق في تثبيت اقدامنا على الدرجات.استد قرع المطر واندفعت ريح قوية حتى المّ بنا الفزع. اختضت النوافذ وتلاطمت الألواح فخيل الينا اننا على متن مركب بليت اخشابه وهو يغرق! أتت امي بطست وضعته تحت خيط من الماء يتسرب من شقوق السقف:

ــ أخشى انْ ينهار السقف علينا..

اقترحتُ ملقية بكتابي جانبا:

ــ لو اننا أزحنا السرير الى الزاوية الأخرى..

ــ لا داعي لذلك ولكن لتطوي الفراش وحسب..ما يخرّ السقف الا من كثرة الأقدام على ارض السطح.. انا اسوّيه بالتراب والرماد وانتِ تصهلين رائحة جائية مثل عاشقة مفلسة..

غادرت بينما تملكني شعور بالضيق. جلست في الممر في نعية النور الحائطي الذابل تحت (ابي بريص) وصراصير الثقوب..وعبر السياج ــ عند الغرفة الغربية ــ أخذ اهل الحداد يطلعون باثاث الغرفة الى الممر..يبدو ان الشرخ الذي احدثه المطر في سقف غرفتهم كان اشد اتساعا.اتجهت نحوهم وفي نيتي مساعدتهم..في تلك اللحظة بالضبط.. وحين صرت على مبعدة امتار من صفية التي انبرت هي ايضا لتمد لهم يد العون؛لمحت في يد (صباح) حقيبة كان يحاول اغلاق حزامها، ويبدو انه ترك قفلها سائبا فإذا بها تفرغ ما في جوفها على ارضية (الكاشي) وكانت محشوة بملابس مهلهلة لم تخفف كومة اخرى من الملابس الداخلية التي استطعت بعد امعان ــ لم يطل زمنا ــ ان اميز بعضها. اطلقتُ صرخة لا ارادية! أما صفية فقد انقضت على عنق صباح فملأ الولد الضخم الجثة ذو الشعر الأجعد أرجاء البيت بعويل حيواني متقطع بفعل قبضة صفية غير انه استطاع الإفلات والاتجاه الى باب السلم المؤدي الى خارج البيت..

في اليوم التالي غادرت اسرة الحداد الغرفة لتسكن عبر النهر في بيت من بيوت الطين وتوقفوا عن شراء الخبز من مخبز الزقاق وأخذوا يقطعون المسافات الطويلة الى مخبز آخر. أما صباح فقد انقطع عن الخروج وهرب مرة مني ثم اختار السكنى في كراج ابيه كما انه هجر المدرسة الى الأبد.. يا للمسكين!

الخمـيـس:

ابكرت في النهوض. قليت بيضا وطماطم. انسابت اغنية صباحية لـ(اسمهان)، شعور مبهم يتسلل الى القلب. رغم انجلاء الصباح كنهر يتدفق في ايقاع رتيب نحو بحر.. طلبت مني أمي انْ أطفئ المذياع. لم تنم البارحة ايضا.حالتها تسوء يوما اثر يوم.توقفتْ تماما عن الذهاب الى السوق.قبل اسبوع تقريبا باعت آخر سلعة لديها وكانت منامة نسائية مستعملة. طُرق باب الغرفة بشكل مفاجئ لتلج معه نسيمة هواء ثم يدخل (أبو احمد) بلا استئذان منهارا على القنفة معلنا وفاة أبي في الكويت.

شهقت أمي وفقدت الوعي. نفضتُ انا عن وجهي التراب ونهضت بعد حين من الزمن لا اعرف مقداره.كان حشد من اهالي المحلة يتجمع امام البيت.تسلق مطرود سقف السيارة. رفع التابوت مع الآخرين الى حيث أيدٍ تلقفته بثبات. لم اجرؤ على الاقتراب. اكتفيت بالاستناد الى جدار هش وانا انتحب دون ان القي بالا الى العباءة التي ألقتها صفية على كتفي الا فيما بعد. وعند باب المغتسل اخذ سطر من النمل بالدبيب نحو الأسفل حيث التقاء أساس المغتسل بالأرض ومن ثم الى مرقد الجثث. جذبت يدي كف ثقيلة. أدرت وجهي فاذا بي أرى وجه مطرود المعصور وعينيه الحمراوين.

رجاني العودة الى البيت منوها الى انه سيقوم بكل ما يتعلق بمجلس العزاء.

للمرة الأ ولى احس بصدق مشاعره التي تنم عن خؤولة لم اكن اعهدها فيه من قبل وربما كنت واهمة بسبب الخزي الذي كان ومازال يعمل على تطويقي بشرنقة. أوشكتُ على ان القي عليه سؤالا. ذاب كدمعة في بحر.قفلت راجعة الى البيت وارتقيت السلم الذي وكأنه مكون من الف درجة. اطللت على امي.كانت تحملق في الفراغ بعينين جاحظتين وهي تتمتم في تعسر.

السبت:

اليوم الأول للامتحان النهائي. المادة اللغة العربية.تركت الدفتر الامتحاني فارغا خلا موضوعا واحدا في مادة (الانشاء).

في آخر الليل قدمت صفية لتسرّي عن امي التي تفاقمت عليها نوبات التشنج وقد ابرز موت ابي مدى تعلقها بسراب.القت على جسدي ثوبا غامق اللون. القيت بكتاب اللغة الانجليزية جانبا. أخرجت صفية من محفظة متهرئة اوراقا مالية ألقت بها الى حضن امي وهي تغادر الغرفة الا انها نفضتها بعيدا عنها وظلت ساهمة تحملق في الفراغ.

الأثنين:

لم اصادفْ الاستاذ مشتاق في الأماكن التي اعتدت ان اراه فيها، ثم جاء من يخبرني بأنه سيتزوج الست ماجدة. لقد عرفني جيدا إذن.. اسمي.. عنواني الكامل ونوعية الحياة التي أحيا..خاف على سمعته.. لم اصدق الخبر في بادئ الأمر. سألت هناء فأكدت خبر الزواج.

الثلاثاء:

ألغيت فكرة تأدية بقية مواد الامتحان..

حلمت لثلاث ليال متكررات بغجريات قدمن الى مدينتي.. رقصن حتى الإعياء..ثم دعونني الى الرحيل معهن الى آخر الدنيا..

ها أنا واحدة من فراشاتك المحنطة في مختبر المدرسة يا استاذ حسبما وعدتك..قررت الانتحار.. ابو احمد قادم الخميس لاريب..

عزيزتي هناء: لا تستهجني فعلتي ارجوك. ليس هينا ان تقتلع نبتة من جذورها وتزرع في صحراء.. هنا في الكويت اسكن بيتا مزدحما ولكن لي ملحقا مستقلا.. الرجل العجوز يقلِبني كدجاجة حفظت في صندوق ثلج. ما الذي سأفعله الليلة او غدا.. لا ادري.. الآن.. معي الكتاب الوحيد الذي لا انقطع عن قراءته (غرائب الكون): ".. حين تصبح الحياة مستحيلة بالنسبة لحيوان (اللايمنج) الخجول وحين تتأزم الأمور بسبب الانفجار السكاني لدى الحيوان؛ تقذف قوافل (اللايمنج) بأجسادها الى أمواج البحر.. فلا يصل منها الى الشواطئ المقابلة سوى القليل.. ان هذا الحيوان لايجد امامه غير طريقة واحدة هي الانتحار.. " هل تتذكرين (أورور) بطلة الفيلم الذي حدثتك عنه؟! وحيدة أنا.. لا احد احدثه بشأن مناديل البحر وانثى الحنكليس والأسماك التي تتسلق الأشجار.. والقلب المعذب الوحيد..!

--------------------------------------------------

اشارات

--------

* صدرت مجموعتي القصصية الأولى (العين والشباك) في الكويت عام 1985 وضمت اثنتي عشرة قصة من بينها النص التاسع من حيث التسلسل والمعنون (يوميات فراشة محنطة) وهو من النصوص الطويلة في المجموعة. وقد أهديت بضع نسخ منها الى البصرة، ثم استكملتُ مسار الاهداءات اثر عودتي الى البصرة. في عام 1994 عملت في التعليم الأهلي بالاردن لأفاجأ بتحويل هذه القصة الى تمثيلية تلفزيونية تحت اسم (فراشة محنطة) وقد قام بتمثيل شخوص هذه النوفيلا كل من الرائدة المسرحية السيدة سميرة الكعبي والفنان طلال محمد خشان والوجه الجديد ظمياء هادي وآخرين لم يسبق لي اللقاء بهم. والمعلومة الوحيدة التي علمت بها ان السيدة ظمياء قد اعتزلت التمثيل اثر زواجها. وقد كتب سيناريو القصة فائز ناصر الكنعاني وأخرجها للتلفزيون الأستاذ كاظم حسين المالكي. وقد سمعت ان من تبنى فكرة انتاج التمثلية كان المرحوم الاستاذ محمد صالح عبد الرضا ابان عمله في تلفزيون البصرة اضافة الى اسهامات كل من الاستاذين خالد السلطان واحسان وفيق السامرائي. غير ان الصديق الراحل حسين عبد اللطيف لم يخبرني بالمزيد من التفصيلات عن طبيعة اسهامات الرائدين السامرائي والسلطان. وقد قام تلفزيون العراقية بعرض التمثيلية مرتين ــ كما اذكر ــ وحاولت الحصول على نسخة من العمل فزودني الاستاذ المخرج بقرص سرعان ما فقدتْ المادة المعروضة فيه ــ للأسف ــ! ومن واقع مشاهدتي للعمل تبين لي انه استغرق ستا وخمسين دقيقة أي انه كاد ان يعدّ فيلما سينمائيا لو اضيفت الى احداثه عشر دقائق او ربع ساعة. وهو الأمر الذي ينطبق على المتن الكتابي للنص فقد كاد ان يعد رواية قصيرة ــ كما اسلفت ــ لو انني اضفت صفحتين او ثلاث اليه. وللعمل أهمية مكانية حيث ان تصويره تم في محلة (السيف) على الصعيدين الخارجي والداخلي ما جعله وثيقة مكانية لعالم الشناشيل العريق، اضافة الى تركيزه على النماذج المهمشة في مايسمى تجاوزا بقاع المدينة؛ لاسيما نموذج المرأة  المهشمة.

***

محمد سهيل احمد

في الوهن نبحث عن زوايا

نختبء فيها

في الوهن نكتشف الماضي

نعيد صياغات

ونبحث عن معانيها

في الوهن تنغلق الابواب

تشتد الصراعات

ونستجدي مغذيها

كل الأمور التي كانت

منغصة

للذوق

أو للنفس ندنيها ونغريها

انا لنبحث في ألطلال عن شغف

في مكمن الاحزان

كي نخفي الذي فيها

منها إليها كأنا لم نكن ابدا

إلا رعايا بأرض

مات ساقيها

حتى بقايا العزم وهي كثيرة

لا نطلب العون منها

كي نذكيها

في الوهن وان قد صار في أيامنا

قدرا

كل الاماني

تلاشت في مآقيها

***

عبد الهادي الشاوي

 

في البيتِ الابيضِ يا سـادَهْ

شــيـطانٌ يـجــمعُ عُــبّـادَهْ

*

لـيَقولَ الصِـدْقَ وفي خَـجَلٍ

ذا الـوعـدُ الـصادقُ قــدْ آدَهْ

*

والـمُضحِكُ هـذا والـمُـبكي

صيـدٌ قـد أفـلتَ فـاصـطادَهْ

*

والـحــالُ بأنّـا قـد صِـرنـا

سِــمـسـارًا يـتـبـعُ قَـــــوّادَهْ

*

والــوعـدُ الـصـادقُ عَرّانـا

لا جــدوى مَـنْ كِــدنـا كـادَهْ

*

مــا نِـلـــنـا إلّا خُـســرانًـا

وبـهــذا عُــدنـــا كـالــعـادَهْ

*

نـسعى والـمَسعى في فـشلٍ

لـلـباري فـي الامــــرِ إرادَهْ

*

وعـلـيـنا نـرفَــعُ رايـتـنـا

للـوعـدِ الصادقِ يـا قـادَه

*

شـيطانُ البيتِ حـكى هـذا

لـيـقي مـن ســـوءٍ أولادَهْ

*

أحلامُ الـماضي قـد صارتْ

كابــوسًا والـبــؤسى زادَه

*

مَـكّـارٌ يـحــيـا في حُــلـمٍ

قــد عــبّـأ مـنـهُ مِـنـطــــادَهْ

*

فـأتــاهُ الــوعــدُ فَـصَـيّــرَهُ

والاســدَ الـصـاعِـدَ سِــجّـادَهْ

*

صـهـيونـي مـاسـوني عـادا

لـلـمَـبكى يـشـتِـمُ مَـنْ شــادَهْ

*

والـمــولى قــــال وأكـدَهُ

إنْ عُـــدتُـمْ عُــدنا بـزيـادَهْ

*

إنْ عُـدتُـمْ عُــدنـا بـاقـيـةٌ

مـا شــاءَ اللهُ لِـمَـنْ كـــادَه

*

لـنْ يـبـقى الـبـغيُ ودولـتُهُ

مـــا دامَ الـحـــــقُّ جَـــلّاده

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور - الدنمارك / كوبنهاجن

الأربعاء في 25 حزيران 2025

تـقـلّبتُ فــي جـمـر اشـتياقِيَ مُـولَعا

وقـلـبي بـصبرٍ لـيس يـسلو ولـو دعـا

*

كــأنّـي بـــلا عـيـنـيك أفـقـد وجـهـتي

فـلـسـت أرى دربـــا ولا قـــطّ مـربـعا

*

فــيـا لـــه لــيـلٌ قـــد تــوقّـد جـمـرُهُ

وإن كـــان خـــزّاً بـالـنـجومِ مُـرصّـعـا

*

جــمـالٌ سـبـانـي مـــن بــلادٍ حـبـيبةٍ

عـلى الـقلب؛ فـيها كلّ حُسنٍ تمتّعا

*

فـدجـلـة فـيـهـا والــفـرات قـصـيـدةٌ

وصوت الأغاني أطرب القلب أسمعا

*

لـبـغداد تـسـري مــن فــؤادِيَ أنـهـرٌ

بـها الـدفء مـن حـبّي تـسوّر أضـلعا

*

أحـــــسُّ وربّـــــيْ أنّ قــلــبِـيَ طــائــرٌ

يُـرفـرف عـشـقا لـلـحبيبة قـد سـعى

*

يــغــرّد فــــي الآفـــاقِ لــحـنَ مـتـيّـمٍ

شــذاهُ الـهـوى مـن طـيبِها فـتضوّعا

*

فــمـا لـــي بـلـيـلٍ لا تــقـرّ جـوانـحي

ومــا لــي أرانــي الـنـوم عـنّـي تـمنّعا

*

أحـــدّث نـجـما فــي سـمـاء بـعـيدةٍ

يقول: "فمن عهد الصبابة ما رعا؟!"

*

كــلانـا نـديـمـي عـــن يـقـينٍ وفــاؤهُ

ولـكـنّ نــأي الأرض والـوقـت قـطّـعا

*

ســأغـمـض عــيـنـي راغــبــا مـتـمـنّيا

لـــعــلّ بــأحــلامـي تـــــزورُ لأقــنـعـا

*

تــضـمُّ رؤى الأحـــلام كــفـي بـكـفـها

نـنـام ونـسـقى كــأس عـشـق مـنوّعا

*

هـواها عـلى صـدري كـنهرٍ جـرى به

فـأحـيـا يــبـاس الــروح حـبـّا وأتـرعـا

*

أحـاسيسُ مـن فيض الحبيبة ترتوي

ووجــدٌ بـمـاء الـشـوق مـنّـي تـرعرعا

*

سـرى فـي دفـيءٍ لانَ مـنها لخافقي

جـرى سـلسبيلا فـي الـفؤاد فـأمرعا

*

ومــا زلـت عـن يـمنايَ ألـثم مـبسما

وأرشــــف مــنــه؛ لا يــضِــنُّ لأقـنـعـا

*

يــزيـد عــطـاءً مــثـل عـيـنٍ نـضـوحةٍ

تـسـبّح مـن أهـدى الـجمال وأبـدعا

*

تــحــلّـق أحـــــلامٌ ويــبــعـدُ ســربـهـا

وحـلمي بـمن أهـوى يُـرفرِفُ مُقلِعا

*

فـلـيت الـمـنام الـحـلوَ عُـمـرِيَ كـلّـهُ

إذا كــــان يـبـقـيـنا ويـجـمـعـنا مــعـا

***

صلاح بن راشد الغريـبي

 

غَابَةٌ مِنْ أَسْئِلَةْ

بَدَتْ اَلْأَشْجَارُ فِيهَا ذَاهِلَةْ

وَهِيَ تَسْأَلْ

كُلَّ مِنْ يَعْبُرُهَا

لِمَ لَا يَسْأَلُهَا

عَنْ حُقُولٍ وَسُهُولٍ،

هِيَ أَدْرِى مَا بِهَا؟

لَمْ يُجِبْ مِنْهُمْ أَحَدْ

كُلُّهُمْ مَرُّوا سَرِيعًا

دُونَ أَنْ يُصْغُوا لَهَا

وتَنَاءَوْا. . .

لَمْ يَظَلُّوا قُرْبُهَا

فَارَقُوهَا لِلْأَبَدْ

- 2-

غَابَةٌ مِنْ أُمْنِيَاتْ

سَكَبَتْ فِيهَا عُيُونٌ ثَاكِلَاتْ

دَمْعَهَا

وَهْيَ تَسْأَلْ

هَلْ يَعُودُ اَلْرَاحِلُونْ

ذَات يَوْمٍ يَضْحَكُونْ

دُونَ أَخْطَاءٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونْ

فَنَرَى اَلْعَالَمَ أَجْمَلْ؟

وَالْمَكَانْ

يَخْتَفِي فِيهِ اَلَّذِي كَانَ يَخُونْ

وَ اَلَّذِي كَانَ يُخَانْ؟

- 3-

غَابَةٌ تَكْبُرُ فِيهَا اَلْخُطُوَاتْ

حَدَّقَتْ فِيهَا عُيُونٌ عَاشِقَاتْ

سَاهِمَاتٌ ذَاهِلَاتْ

أَنْكَرَتْنِي

سِرْتُ وَحْدِي

وَأَنَا تَسْأَلُ وَقْتِي اَلطُّرُقَاتْ:

لِمَ تَمْشِيَ أَنْتَ وَحْدَكَ؟

مَنْ هُوَ اَلسَّائِرُ جَنْبَكَ؟

مَنْ هُوَ اَلرَّاكِضُ قَبِلَكَ؟

مَنْ هُوَ اَلْمُرْتَدُّ خَلَفُكَ؟

يَا لِهَوْلِكَ. . .!

لَسْتَ تَدْرِي...؟

لِمَ أَرْجُوكُ أَجِبْنِي

لِمَ خَلَّفَتَ خَوَاءَ اَلْكَلِمَاتْ

وَدُمُوعَ اَلْأَسْئِلَةْ

فِي مِيَاهِ اَلْوَهْمِ تَجْرِي؟

لِمَ خَلَّفَتَ دُمُوعَ اَلذِّكْرَيَاتْ

فَوْقَ شُبَّاكِ اَلْأَمَانِي هَاطِلَةْ؟

لِمَ يَا سَيِّد عُمْرِي؟

وَأَنَا سَلَّمَتُ أَمْرِي

لَكَ يَا كَاتِم سِرِّي

***

شعر: خالد الحلّي

أنا الإسكافيُّ،

ليس لي وطنٌ سوى الطرقات،

ولا نَسَبٌ سوى ما خلّفته الأقدامُ من أثرٍ على العتبات.

*

أعْرفُ الأحذية كما تعرفُ الأمُّ نبضَ الجنين،

ألمسُها

فأسمع صدى الشوارعِ البعيدة،

وأشمُّ العَرَقَ الغافي على جلدها الميت.

*

لكلِّ حذاءٍ قصة،

بعضُها نَزَفَ في المعارك،

وبعضُها رقصَ في أعراسٍ لم تكتمل،

وبعضُها هربَ من موتٍ،

فصار الموتُ يلاحقه على الأسفلت

*

أعرفُ من ضَرْبِ النعلِ جنسَ صاحبه،

أميزُ خطواتِ المترددين من نَفَسِ الشجعان،

أقرأ خرائطَ المدنِ في الحوافِّ المهترئة،

وأُحدِّدُ اتجاهات الهزيمة من انحناء الجلود.

*

في دكاني

ينام الزمنُ بين المطارقِ والشكائم،

وتحلم الجلودُ بأقدامٍ عادلة،

لم تدس بها ظلًّا،

ولم تطأ بها وطنًا غريبًا.

*

أنا الإسكافي،

أُخيط وجع العابرين بخيطٍ من تأمل،

وأختم نعلَ الطغاةِ

بكلمةٍ ،

"ستُهزَمون..."

*

أُدركُ أن ليس كلّ مَن يملك حذاءً يسير،

ولا كلّ مَن يسير،

يعرف إلى أين...

وحين أمسك حذاءكَ،

أعرفُ أيُّ حلمٍ تهشَّم في الطريق.

***

مجيدة محمدي - تونس

حينَ شَهَقْتُ في فَلَكِكَ

انفَلَقَتْ صُفْرَةُ المَلَكوتِ على جَبيني

واْستَعَادَتِ الملائكةُ أجنحتَها المفقودةَ

في ساعةٍ

كانَتْ قِياساً لِنَشيجِ الآلهةِ وهي تُخفي وَجْهَها

يا ظِلَّ الكَلِمَةِ قبلَ نُطْقِها

وسُلالةَ (الطّوْطَمِ) حينَ تَغَيَّرَتْ أنسابُ النَّار

أنا المَرايا الَّتي سَقَطَتْ من يَدِ الغَيْب

أنا الغُصْنُ المُؤَنَّثُ في تَناسُخِ الجَذْر

لِرُوحيَ إيمانُها المُرتابُ

تُطْفِئُ قَناديلَ الوَحْيِ لِتُبصِرَكَ

وتَصُومُ عنِ الشَّكِّ حينَ تَرَاكَ

لِماذا لَفَحَتْكَ نُبُوءَاتُ دُخَاني؟

أكنتَ أوَّلَ مَنْ خَرَجَ من نُقْطَةِ الفَوْضى

وعادَ مُتَّكِئاً على مِحْرَقَةِ (الماموث)؟

يا مِدْيَةَ اللهِ في غَلالةِ البَدءِ

يا غَصَّةَ النّاي في فَمِ الزَّمَكان

تَمَدَّدْتَ في عُرُوقِ الصَّدَى

وأَنْطَقْتَنِي بلُغَةٍ لَمْ تُفْتَحْ لها سُورَةٌ

أنا...

أنا الَّتي كُتِبَتْ بِنُقْطَةٍ لا تَسْتَقِرُّ

أَنْزِفُ في مَجَازِكَ

كَأنِّي الوَحْيُ الضَّالُّ في كِتَابٍ مَنْسِيٍّ

وكأنِّي فِكْرَةٌ بَكْرٌ في دِمَاءِ النُّبُوَّةِ

أفَكُنْتَ حَقِيقِيّاً؟

أمْ كُنْتَ رَجْفَةً في حُلْمٍ تَأَخَّرَ أنْ يَفِيق

***

مرشدة جاويش

 

الصّخور المُدبّبة تملأ المكانَ حتى ليتعذّر على المرء المشي بمحاذاة السّاحل الذي يمتدّ عبر المدىَ البعيد إلاّ بحَذرٍ شديد، الأمواج الهادرة غاضبة مُزبدة، تتلاطمُ على الصّخور الكبيرةَ التي تواجهها في صمودٍ حادٍّ عنيف، يتطاير رذاذها المتناثر في كلّ إتجاه . أخذ مجموعة من الصيّادين أمكنتهم المعتادة بين النتوءات الصّخرية الحادّة، وهم يرفعون قصبات الصيّد الطويلة إلى أعلى، ينظرون إلى ثبج البّحر ولججه العالية في صبر، وإصرار، وأناة، حتى ليخيّل للناظر إليهم أنّهم تماثيل حجرية منصوبة على أشكال مُجسّمات أدمية متباينة الأحجام منذ أقدم العصور .

عند مدخل مغارةٍ مظلمة، بالقرب من “جرف صخريّ” وعر التضاريس، غير بعيدٍ عن مكان مقدّس لدى المتاجرين بعقائد الجهال والدّين يُسمّى الوليّة “لالة عيشة مولات لكاف” أو كما يطلق عليها بعض المجاذيب ب ” ضريح الشريفة” يتكوّمُ زُمرة من السّكارى والمتسكّعين، وهم يحتسون فى لا مبالاة أردأ أنواع النبيذ الرّخيص، يحدّقون في البّحر، يلتفتون بين الفينة والأخرى صوبَ ناحيةٍ من نواحي الشاطئ المترامي الأطراف مخافة أن تداهمهم سيّارة دوريّة لشرطة الآداب، على مقربةٍ منهم تمتدّ طريق طويلة أخرى تؤدّي إلى سوق الخُضر، وإلى ضريحٍ عتيق تعلوه قبّة ناصعة البياض، يقع على بُعد بضعة أمتار من الشاطئ، أكثرُ روّاده أو زوّاره ممّن هم واقعون تحت وطأة الخرافات، والأضاليل، والشعوذة، والخزعبلات، والشّرك، أو ممّن بهم جنون، أو مسّ، أو مروق، أو من الإناث اللاّئي يبحثنَ عن فارسٍ من فوارس الأحلام، بعد أن خانهنّ الحظّ في العثور على شريك العمر، إذ في إعتقاد السكّان القاطنين بالقرب من الضّريح أنّ مَنْ قصدته منهنّ لا يحولُ عليها الحَوْلُ حتى تصبحَ في عِداد المتزوّجات..! في هذا المكان تُقام ما يُعرف عندهم بالحضرة، وعلى أنغام موسيقى الكناوة الشعبية الصّاخبة تهتزّ، وتتمايل معها أجساد النساء من العجائز، والصّبايا، قبل أن يتبرّكن بدماء الذبائح والقرابين لطرد أعمال السّحر، أو إبطال مفعول الثقاف المعقود على أجساد الضحايا البريئات.

على الجانب الأيسر من الشاطئ تنتشر دور الصّفيح، وأكواخ الخشب المختلفة الأشكال والأحجام، وقد وُضعت أحجار ثقيلة على أسطحها، وبعض عجلات المطّاط العتيقة المهترئة تبدو للناظر إليها وكأنها آيلة للسّقوط بفعل هبوب الريّاح القويّة التي تأتي من ناحية البحر، وغيرُ بعيدٍ عن هذه الأكواخ يوجد الحيّ الشعبي الذي يحمل إسمَ دفين الضّريح الوليِّ الصّالحِ “سيدي موسىَ”. عند كلّ مساء يخرجُ السكّان، قبيل غروب الشّمس إلى أبواب أكواخهم ليهيّئوا بعضَ الطعام، وقبالة كلِّ بيتٍ من هذه البيوت القصديرية تتجمّع مجموعات من الأطفال الصّغارشبه حفاة وعراة إلاّ من سترات رثّة، وأردية بسيطة تقيهم لفحاتُ البّحر القارصة، كلّهم تبدو عليهم الفاقة في أحلك وأحطّ صورها، مُعظمهم يصرخ لأسبابٍ أو بدونها، وقبالة هذه البيوت المتواضعة نُشرت بعض الألحفة المهترئة، والملاءات، والحُصُر البالية منذ الصّباح الباكر لتُبعِد عنها أشعّةُ الشمس آثارَ رطوبة اللّيل، وبلله، وبرودته التي تحوِّلُ ليلَ السكّان إلى عذابٍ مقيم .

بعيداً عن البحر تمتدّ بعض المراعي والحقول، التي ظلّت جرداءَ، قاحلةً، يابسة على الرّغم من أنّ الفصل كان ربيعاً..! في بعض جوانبها يرعى قطيع من الحيوانات من معز، وأغنام، ودوابّ بقايا الكلإ، والحشائش الجافة، تبدو هزيلة، نحيلة ومُرهَقة.. وحول جدران أطلال بناءاتٍ بالية مهدّمة تنتشر أسراب من الدجاج، والديوك تنقر الثرىَ بدون انقطاع بحثاً عن حبوب أو ديدان قبل أن تهرع الى اصطبلاتها داخل الأكواخ، من بعيد تبدو بعض الكلاب السّوقية الضّالة تتسكّع، تشمّ الأرضَ، وتحشرُ أنوفَها أسفلَ أجداعَ الأشجار بدون إنقطاع، في عصبيّة وتوتّر وهلع، وعبر الطريق الطويلة الممتدّة نحو السّوق والضريح تمرّ بين الفينة والأخرى بعض العَرَبات المُحمَّلة بأنواعٍ مختلفةٍ من الخُضر، والفواكه الموسميّة، وبعضُ السيّارات، والدرّاجات النارية، والعَجَلات، وبعض المارّة .

هذه الصّورة المتداخلة والمتعدّدة المشاهد، لا يمكنك أن تظفر بها في مختلف أرجاء هذه المدينة البيضاء العتيقة، مدينة الأولياء والصّالحين المحاذية لوادي أبي رقراق إلاّ إذا جلستَ عند مقهى الحاج علاّل، الذي كان محظوظاً في إختيار هذا الموقع حيث نصبَ بعضَ الأخشاب المهترئة ليقيم بها شبهَ مقهى متواضعة يؤمّها بعض المارّة، وعشّاق البّحر، ولكنهم قليلون بالقياس إلى الأكوام البشرية الهائلة التي تقطع الطريقَ الطويلة كلّ يوم بدون إنقطاع منذ شفق الفجر، حتى غسق آخر النهار.

أخذتُ مكاني كالعادة على مقعدٍ مُنحنٍ من المقاعد الخشبيّة القديمة الموجودة عند مدخل المقهى التي غيّرَ أشكالَها البللُ، وكستها رطوبةُ البحرلوناً رماديّاً باهتاً، وأضفتْ عليها شكلاً دامغاً بالياً مهترئاً، فإذا بالحاجّ علاّل يُهرول نحوي هاشّاً باشّاً فى صببٍ يجرّ خطاه فى تثاقل وهو يقول بصوتٍ مبحوح:

– أهلاً بالأستاذ ديالنا. مَرْحْبَا بك فين هاد الغْبُور..شْحَالْ هَادِي مَا شُفناك ..؟

شكرته على ترحيبه بطريقته الخاصّة، وملاطفته، وطلبتُ منه كوباً من القهوة المُرّة الخالية من السكّر أو السّكارين..عاد إلى داخل المقهى يجرّ الخطىَ بتؤدةٍ . الحاج علاّل لم يزر الدّيار المقدّسة، بل إنّه لم يبرح مدينته أو بالأحرى قريته قطّ فى حياته ومع ذلك فإنّ جميع روّاد مقهاه ينادونه ب ” الحاج”، كان رجلاً بديناً، ضخمَ الجسم، يرتدي سروالاً مغربياً تقليدياً أصيلاً ” فضفاضاً يزيد من بدانته، يطلق عليه أهلُ البلد “القندريسة”، وقميصاً مزركشاً سميكاً بالياً رثّاً لا ترتاح العينُ لرؤيته من نسيج المَلف تتوسّطه أعقاد تُسمّيه العامّة ” البدعيّة”، لم أكلّف نفسي عناءَ إقتفاء أصل، أو أثل، أو جِذر هاتيْن الكلمتيْن، فى وجهه بقايا بثور برص قديم، وحول خصره يلتوي شالٌ أحمرُ اللون قانٍ بدأ البلىَ يدبّ فيه يشدّ به فتاقاً يعاني منه منذ زمن بعيد، وتغطّي فروة رأسه قلنسوة في لون شاله تلفّها عمامة بيضاء اللّون يشبك حواشيها بدبّوس عند أعلى القلنسوة، على طريقة لبس أهل الشّام . وأوّل ما تصيب العينُ من هذا الرّجل البدين هو شاربه المعقوف الكثيف الأشيب الذي يحجبُ فمَه الصّغير، كما أنّ حاجبيْه كانا كثّيْن أشيبيْن يكادان يغطّيان عينيْه لولا أنّه يرفعهما نحو الأعلى عندما يتحدّث، ويصعبُ عليك إدراك إذا ما كان الحاج علاّل سعيداً أم حزينا إلاّ من جرّاء حركات رأسه أو ضحكه أو وجومه .

عاد إلى داخل المقهى، وسرواله الفضفاض يجعله يبعد قدميْه عن بعضهما عند المشي وهو يهزّ رأسَه فرحاً جذلاً بمقدمي. لقد تعوّدتُ زيارة هذا المكان لكونه كان دائماً مرتعَ صباي وطفولتي، ومربع سنوات دراستي فى المدرسة الإعدادية الحكومية المجّانية التي لا تبعد عن هذا المكان، ويصعبُ على المرء أن يطرد من ذاكرته بقايَا الماضي، ورواسبَ الطفولة البعيدة، وأشلاءَ الزّمن الغابرالتي تظلُّ عالقةً، لصيقة بأهداب عقله الباطن وماثلةً نصبَ عينيْه إلى أن يُوارىَ التراب.

إنّني لست أحسن حالاً ممّا كنتُ عليه من قبل. حتى ولو أصبحتُ أحمل لقباً أمقته لأنّه لا يمنحني صفتي الحقيقية، ولا يزيد في فتات مرتّبي الشّهري المتواضع حبّة خردل، فأينما حللتُ أو إرتحلتُ أو أقمتُ أجده أمامي، فأنا أستاذ عند الجزّار، أستاذ عند البقّال، أستاذ عند الخُضري، أستاذ عند الحدّاد، أستاذ عند الإسكافي، وأستاذ عند الحاج علاّل، جميع أهل مدينتي الصغيرة يلحقون بي هذه الصّفة، وإن أنا في الواقع إلاّ “مدرّس” بسيط يلّقّنُ الأطفالَ الصّغارَ أبسطَ المبادئ الأولى للكتابة والهجاء.

كان والدي صيّاداً ماهراً، كان ذا قوّةٍ وصبرٍ عجيبين فقدهما مع مرور الزّمن، وتقدّم العمر، وبتأثير رطوبة البّحر، وصقيع الليل، وطول السّهر، وتلك السّجاير الرّخيصة اللعينة القاتلة التي كان يملأ بسمومها رئتيْه بدون انقطاع، ولكنّه، مع ذلك، كان يوفّر لأسرتنا معيشة أكثرَ رخاءً ممّا أوفّره لها أنا اليوم..!

منذ أن توفّيّ والدي أصبحتُ العائل الوحيد لأخواتي الصّبايا الثلاث اللاّئي فاتهنّ قطارالزّواج، ولوالدتي العجوز، ولزوجتي وولدي الوحيد، وحتى ولو إنتقلنا للعيش في مدينة مجاورة لهذا المكان، فإنّه كثيراً ما يحلو لي أن أزوره بين المرّة والمرّة.

حضرَ الحاج علاّل وقطعَ عليّ حبلَ تفكيري بسُعاله الجريح المُحشرج المستمرّ الذي يخيّل لسامعه وكأنّه يُخفي مرضاً فاتكاً بين ثنايا ضلوعه. وضع الفنجانَ على الخشبة المتآكلة الموضوعة أمامي، وهزّ رأسَه معتذراً عن نوبة السّعال التي عاودته وانصرف دون أن ينبس ببنت شفة .

أحسَسْتُ بنوعٍ من الإشمئزاز من القهوة التي حملها إليّ، وتخيّلتُ أنّه أصابها برضاب فمه أثناء السّعال، ولكنّي مع ذلك لم أجد بدّاً من شربها، فصرتُ أحسوها ببطء، وأشعلت سيجارة من نفس الصّنف الرّديئ الذي كان يدخّنه بشراهة والدي، وطفقتُ أسرح بنظري، وفكري، وخيالي هنا وهناك حول تلك الصّخور المُدبّبة، التي حفرها تحاتّ البّحر، ومرور الزّمن بالثقوب، وملأها بالتجاويف والندوب، و تمتدّ على يساري المراعي البئيسة التي كانت يوماً مّا مسرحاً لطفولتي البعيدة، وملاذاً لسعادتي وأفراحي الصغيرة. ودارت بمخيّلتي أشرطة الذكريات، وأنا أهزّ رأسي أسفاً وحسرةً على فقدان تلك الأوقات التي ولّتْ، ومضتْ، وإنقضتْ وليس لها إيّاب. وعلى النقيض من ذلك تولّدتْ في نفسي فجأة سعادة غامرة عابرة دبّت كدبيب النمل في كلّ جسمي، فتناسيتُ قليلاً البيتَ ومشاكلَه، وزوجتي، وولدي، وأخَوَاتي الثلاث، ووالدتي العجوز، ونسيتُ الدّنيا وكلّ ما فوقها وحولها وسرح فكري .

– آه يا والدي العزيز كيف خلّفتَ وراءك ولداً وثلاثَ بنات ؟ ألم تفكّر في المستقبل ..ولكن أنَّىَ لك ذلك..؟ ثمّ إنّ الذنب ليس ذنبك، فليس أقسى عليّ أن أرى هؤلاء البائسات القعيدات، وهنّ يسرعن الخُطىَ كلّ يوم إثنين مُهرولاتٍ لملاحقة عربة من العربات التي تجري حاملة فوقها أكواماً من النساء، والذبائح، والقرابين، من خرفان، وتيُوس، ودواجن، وسوى ذلك من الزّاد والمُؤن إلى هذا الضريح العتيق، لعلّ الحظّ يسهّل عليهنّ أمرَ الزّواج .!

مذ كنتُ صغيراً وأنا أرى ذلك المنظر الذي كنت فيما مضى أومن به إيماناً راسخاً من أعماقي. غير أنّ إيماني به اليوم إندثر وتلاشى كما تتلاشى الرّغاوي المُزبدة للأمواج الهادرة عند انكسارها على الشطّ، حدث ذلك تماماً عندما عايشتُ تجربة أخَوَاتي الثلاث عن كثب اللاّئي أخفقنَ جميعُهنّ في العثور على زوجٍ صالحٍ أو طالحٍ، وهنّ من أكثر الصّبايا إرتياداً لهذا المكان.!.

كانت الأفراح بهذه المنطقة تكتسي صبغة غريبة من الحزن والكآبة، فقد كان محظوراً على السكّان أن يَضحكوا بأصوات عالية مُجلجلة، أو أن يُغنّوا، أو يزغردوا، أو يَرقصوا بتبرّج إحتراماً لقدسية هذا المكان الذي تُقام فيه طقوس غريبة من السّحر، والشعوذة، والدّجل، والخرافات، والغيبيّات، لذا قلّتِ البّسمات فيما بينهم، وملأت الكآبةُ والحزنُ، والوجومُ والشّجنُ والترقّبُ وجوهَ الجميع .

كانت الشمس آيلة نحو المغيب، وبدأ قرصُها الأحمر الذهبيّ يدنو من الأفق البعيد رويداً رويداً، وصار يختفي بين السّحب الداكنة، والغيوم الملبّدة شيئاً فشيئاً، وطفقت بعض البيوت تغلق أبوابَها الصّغيرة، وبدأ عدد الأطفال يقلّ تدريجياً، كما أنّ الأبقار، والمواشي، والدوابّ والدواجن تستعدّ هي الأخرى للعودة إلى إصطبلاتها من حيث أتت.

الكلُّ في حركةٍ دائبةٍ، وفى هرولةٍ وعجلةٍ من أمره، إلاّ أنا فقد خيّل لي في تلك الهنيهة أنّني كنت أستمتعُ بأسعد لحظات عمري. بينما أنا على تلك الحال إذا بموكبٍ لجموعٍ من البشر يتراءى لي من بعيد، فَخِلتُه بحكم العادة أنّه موكبُ إحتفالٍ إمّا بعقيقة، أو إعذار، أوعرس أنهى مراسيمَ التبرّك بأعتاب الضريح الصّالح وهو عائد من حيث أتى. فتسمّرتْ عيناي محدّقتين في ذلك الحشد البشري الهائل القادم نحوي، وجالت الذكريات من جديد بخاطري، فتمثّلت أمامي أيّام الطفولة البريئة، وهنيهات الصّبا الأغرّ، أيّام مَا كنتُ صغيراً أركضُ وراء هذه الجموع الغفيرة لعلّي أظفر في الأخير ببعض الحلوى أو الأكل الذي غالباً ما كان “الكُسكُس”، وصرتُ أرقب الحشدَ عن كثب، وهو يدنو منّي رويداً رويداً، والبسملة لا تفارق شفتيّ . كانت أصواتُ الموكب تنتهي إليّ من بعيد متداخلة، لم يتبيّن لي مدلولها بعد، ووجدتُ نفسي في حالةٍ من الذّهول، لهذه الصّدفة الغريبة التي سأزداد بها متعة لا شكّ، وَاصَلَ الحشدُ مسيرتَه البطيئة في إتّجاهي، وما أن اقترب منّي حتى داهمني صوتٌ جهوريٌّ رهيب أحال إبتسامتي إلى وجوم، وجَذلي إلى خشوع:

– لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله.

كان الجميع يردّدها هذه في رتابة، وفى آلية، ولا مبالاة غريبيْن، كان النعش يتوسّط عربة حصان، وكان الحصان ذميماً هزيلاً، ونحيلاً تعلو عنقه الكدمات، لابدّ أنّه كان حصاناً مريضاً أو عجوزاً، كان يمشي الهُوينى، ويهزّ رأسَه من أعلى إلى أسفل بدون إنقطاع، حول النعش إلتفّ جمعٌ غفير من المُشيّعين، والمقرئيين وقد إتكأوا بلا إكتراث على المَحمل وهم ينظرون إلى الغادي والرّائح مردّدين بشكلٍ آلي ومتوالٍ رتيب نفسَ الكلمة المُرَخّمة المألوفة:

– لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله.

كان الناظر إليهم يحار فيما إذا كانوا حقّا حزانىَ أم لا.. !

تابع الموكبُ طريقه في لامبالاة، ولم يلتفت أحد إلى الموكب الجنائزي، ظلّ الصيّادون في وضعهم السّابق، أصوات السّكارى لم تنقطع عن الوشوشة والعربدة والصياح، ضجيج الأطفال بقي كما كان عليه من الصّراخ والصيّاح، نباح الكلاب لم يهدأ.. حتى الحاج علاّل لم يكفّ عن السّعال وعدم الإكتراث، كنت الوحيد المتتبّع للموكب الذي سيطر على مجامعي، ظللتُ أرمقه بنظري برهةً حتى أصبح بعيداً عنّي، وخفّت أصوات الحشد . ثم غاب عن الأنظار.

لم أفق من سباتي أو غفوتي، إلاّ عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي بلطف وهو يقول:

– الأستاذ.، الأستاذ، واشْ نعانستي ولاّ ؟

أدرتُ رأسي نحوه ببطء، فإذا به يبتسمُ لي وهو ينتظر الحساب، ولم أدرِ على وجه التحديد هل كنتُ نائماً حقّاً، أم كنت في حالةِ غفوةٍ، أم صحوةٍ، أم منهمكاً فى أضغاث أحلامٍ، أو سبات، فى ذهول وذعر، إرتبكتُ قليلاً، نهضتُ من مكاني، دفعتُ له الحساب، ثمّ حيّيته وإنصرفت .

في طريق العودة إلى البيت، إلتقيتُ بجموع النّساء الغفيرة العائدات من الضّريح الصّالح إلى بيوتهنّ، وعلامات الغِبطة والجَذل، والإنشراح تملأ وجوهَهنّ بالبِشْر، و الأمَل، والحُبور، بعد أن قمنَ بجميع الطقوس اللاّزمة للغاية التي قَدِمنَ من أجلها إلى هذا المكان، وكلّهنّ شوقٌ، وتطلّعٌ، وترقّبٌ، ورغبة، وإنتظارٌ لما سوف يأتي به الغدُ القريب من أخبار سارّة قد تنبئهنّ بقدوم فوارس الأحلام، وشركاء العمر، وهم يمتطون صَهوات جِيادهم المُسوّمة البيضاء..! عندئذٍ تذكّرتُ أخَواتي البنات الصّبايا الثلاث الحسيرات، الكسيرات، الكسيفات، وأسِفتُ لعدم قدومهنّ اليوم كذلك ليجرّبنَ حَظّهنّ، هنّ الأخريات مرّة أخرى من جديد، بعد أن سبق أن قَدِمْنَ إلى هذا المكان مرّاتٍ، ومرّاتٍ عديدة من قبل دون جدوى…!

الآن، تذكّرتُ، وأيقنتُ أنّه عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي، وصحوتُ من غفوتي خُيِّل لي أنني رأيتُ في منامي فيما يراه النائم وقت الظهيرة، أنّ الحشد الجنائزي الهائل المَهيب الذي مرّ أمامي قبل قليل، والذي ذهبَ بدون رِجعة، وإختفى عن الأنظار، لابدّ ولا جَرَمَ أنّه كان يحملُ معه داخلَ النعش كومة التقاليد البالية السّائدة، أو رزمة العوائد المتوارثة العتيقة لتُوارىَ التراب .؟! ..كانت بقايا أصداء أصواته الرّهيبة، المُبهمة، والغامضة ما زالت تزدحمُ، وتتفاقمُ، وتتلاطمُ بداخلي في عنفٍ وزخمٍ، وتملأ أسماعي وأعماقي بنفس تلك النّبرة الحزينة، القويّة، الحادّة، المؤثّرة، والمتواترة، والرتيبة الرّهيبة إيّاها.

***

د. محمّد محمّد الخطّابي - أدييب مغربي

 

لو كان الحبُّ بحجم الوَعدْ

وكحجم هداياكِ

والوردْ

وكجَرْيِ الدّمعِ

وعُمر اللّيلِ

وسرِّ الغَيمِ

ونارِ البُعدْ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ...

**

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

وكَطَعمِ القُبلةِ فوق الخَدْ

وكَلمعِ البَرقِ

وَجَرفِ الشَّوقِ

ودفءَ الضّمّةِ لحظةَ بردْ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

وَكجمر اللّوعةِ لحظةَ حُبْ

كَهَمسِ الرّوحِ وخَفْقِ القلبْ

لو كان كما عند لقاءٍ

يضربُنا الرّعدْ

ما كنتِ بَكَيتِ الأيّامَا

واللّيلُ طواها الأحلامَا

مِنْ قَبلِ الغَدْ...

ما كان سَيَكوينا نَدَمٌ

وَسَتَحْرِقُنا نيرانُ الوَجْدْ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ...

**

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

وَكَسِحرِ الرّمشِ

وَبَوحِ النّهدْ

وَكَرحْلَةِ حُبٍّ تمشيها

ما فوقَ الجَسَدِ الملهوفِ

شَفَتي واليَدْ

آهٍ يا قاتلتي منكِ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

في كل صباح، تصل نسرين الى موقف الحافلات قبل الجميع، لا لأنها على عجل، بل لأنها اعتادت أن تسبق الزمن بخطوة، وكأنها تبحث عن لحظة صافية قبل زحام اليوم.

تركب الحافلة رقم 18، وتتجه مباشرة الى مقعدها الثابت، قرب النافذة. من هناك تراقب الحياة وهي تمضي خارج الزجاج، مشاهد صامتة تتكرر دون ان تصيبها بالملل. بل كانت ترتاح لذلك التكرار.

خمسة أعوام مرت على غياب زوجها، دون موت مؤكد، ولا خبر. حرب أخذته ولم تعده.

في البداية، كانت تتشبث بالأمل، ثم صارت تتشبث بالصمت، ومن ثم اعتادت على انتظار لا يحمل رجعة.

ذات صباح بارد، حين كانت تتابع بعينها ما وراء زجاج النافذة، صعد رجل في خريف العمر الى الحافلة. مظهره بسيط، كان يحمل ملامح رجل أنهكته الحياة دون أن تهزمه.

جلس امامها، لم ينظر اليها، بل الى الخارج.

في البداية لم تنتبه اليه الا كغريب جديد، لكنها لاحظت وبدافع الفضول انه لا ينظر الى الركاب، ولا مهتماَ بما يجري داخل الحافلة، بل ينظر بصمت الى خارج الحافلة.

مر اسبوع، ثم آخر، والرجل يظهر دائماَ في التوقيت ذاته .

لم يتكلما، ولكن لم يعد بالنسبة اليها غريباَ كما كان. كان هناك شيء بينهما، شيء لا يُرى ولا يفسر.

و ذات يوم، حين توقفت الحافلة فجأة، تمايل جسداهما في اتجاه واحد، وتلاقى نظرهما في ومضة خاطفة. نظرة واحدة فقط، لكنها كانت مثل نسمة ناعمة مرت على صفحة ماء راكد.

كانا يتحدثان بين حين وآخر وفي كل يوم بلغة تفهما القلوب، دون كلمات.

حل الشتاء، وتحولت الأحاديث من العيون الى صمت مشترك له مذاق غريب، صمت يقال فيه ما لا يقال.

صارت الحافلة بالنسبة لها موعداَ يومياَ، مع احتمال جديد، مع شخص يعيد ترتيب أنفاسها.

في أحد الصباحات، صعدت لتجده جالساَ يسبقها. حين جلست التفت نحوها وقال لاول مرة بصوت خفيض: - " الحافلة بدونك تصبح باردة ".

كانت جملة عادية، لكنها أربكت نبضها، وأحست بشيء يتحرك في صدرها، شيء يشبه الحياة.

في صباح آخر، أخرج من معطفه ورقة صغيرة، طويت بعناية، ومدها اليها بصمت.

فتحتها بتردد وقرأت: " أنا لا أعرفك، لكن قلبي يذكرك ".

ارتبكت، لم ترد. لكنها احتفظت بالورقة، كمن يخفي شيئاَ ممنوعاَ.

مضت الأيام، وبدأت الأبتسامة تزور عينيها في الصباح،  وأصبح للأيام نكهة أخرى.

صار يحمل غصن ياسمين أحياناَ ويضعه قرب مقعدها دون أن يتكلم. وصارت حين تنزل من الحافلة، تشعر بأن شيئاَ خفيفاَ يتبعها.. كالحنين، أو الود دون موعد.

 غاب عن الحافلة يوماَ. شعرت بأرتجافة باردة، كأن الغياب يعيد نفسه من جديد. جلست مكانها، لكن العالم بات باهتاَ، شيء ما قد فُقد.

في اليوم التالي، انتظرته، ولم يأت. وفي الثالث، صعد فجأة من باب الحافلة الخلفي، اقترب منها وهمس: " اردتُ أن أراك حين لا تتوقعينني، لأتأكد أنك تنتظرينني فعلاَ ".

كانت الكلمات مثل الدفء يفكك طبقات الجليد. ابتسمت. لم تتكلم.

مرت أيام، وذات صباح، كانت الحافلة تقترب من محطتها الأخيرة، كان هو واقفاَ عند الباب، يحمل غصن ياسمين، مده نحوها بهدوء، بلا وعود، ولكن بشيء من الأطمئنان.

شعرت أن قلبها يطرق صدرها. نهظت ببطء وسارت نحوه، وخرجت معه. لم يكن ذلك نزولاَ من الحافلة، بل صعوداَ الى شيء جديد، ربما الى بداية تأخرت. وادركت ان الحب لا يعود كما كان، بل يعود أجمل مما كان.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

شاعر وقاص عراقي كوردي

 

تعانق نسيمات الصباح خصلات شعرها الأشيب الذي يحمل قصصا من ماضيها الذي لا تود ان تبوح به لأقرب الناس اليها.

كعادتها تجلس قبالة باب الدار فربما يزورها أحدهم تنتظر دون ملل مرتمية فوق كرسيها الخشبي المتهالك تحت شجيرة الياسمين. وبعد ان يخذلها الانتظار تعود الى غرفتها صامتة تجر أطراف شالها الأخضر بلون أمانيها.. وهمسات الحنين تسكن أضلاعها.

تمسك ست وداد قلما ودفترا وتكتب بسرية تامة دون ان تسمح لأحداهن ان تعرف شيئا عن مذكراتها أو ربما تكتب قصة حياتها في دفتر كأنه سجل مدرسي لونه يميل للرمادي الغامق انه يذكرها بسجلاتها المدرسية قبل احالتها على التقاعد.

عشرون عاما واسمها يتصدر لوائح مديرية التربية كأفضل مديرة مدرسة في تلك المدينة اضافة لكونها ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء ذكور. وها هم اليوم رجال ملتحون.

أستشهد زوجها في حرب الثمان سنوات. ولن يثنيها هذا عن دورها كأم مكافحة في بيتها ومربية ناجحة في مدرستها.

متوسطة القامة ومكتنزة قليلا لكن ملامحها تنبؤ بما كانت تتمتع به من جمال في سالف أيامها. وما زالت شديدة الاهتمام بملبسها واناقتها التي عرفت عنها دائما الست وداد.

الظروف وضعتها هنا رغما عنها. وهي تتأبط سجلها وصندوق يحمل كل ذكرياتها وسرها الذي لا يعرفه سواها. كانت تكتب رسائلها التي لا ترسل، ولا زالت تتذكر صوته حين قال لها: ان ضاعت الأيام فلا تدعي الحب ان يضيع.. انتظريني سأعود، لكنه لم يعد وبقيت هي كما وعدته تنتظر.. وكل ما تملكه هو صوته في آخر لقاء ونظرة طويلة بدرت منه قالت كل شيء وكأنه تنبأ لفراقهم الأبدي. لم تنسَ ذلك اليوم ولكن عقلها الباطن يرفض مسألة موته في جبهة القتال وضياع جثته بين الوديان. ولتبقى تنتظر من لا يعود.

كان الجميع يحترمون رغبتها في الانعزال والصمت الذي ينهش عزلتها.. وحنينها الجارف لأبنائها الثلاثة الذين ربتهم بدور الأم والأب. لقد انشغلوا عنها تماما. لم يزرها أحدهم منذ أمد بعيد وكل ما تبقى منهم ورقة معلقة فوق جدار سريرها: اتصلي بنا عند الضرورة.

اثنتان كن يشاطرنها سكن غرفتها في دار المسنين

كانت احداهن مولعة بمتابعة المسلسلات من خلال جهاز التلفاز في قاعة الدار.وكانت تتفاعل بشدة مع احداث القصص وتذرف دموعها من اجل البطل أو البطلة.. لذا يكون تواجدها نادرا.

اما السيدة الثانية فكانت تشغل جلّ وقتها بقراءة الكف لبقية النزيلات وهي شديدة التعلق بهذه الهواية. لكنها ثرثارة قليلا

سألتها ذات مساء لماذا لم تتزوجي بعده.. ؟؟ تضحك الست وداد بهدوء وهي تقول: انا متزوجة من الانتظار.. وفاء لزوجي فربما يعود لي ذات يوم.

اذن وماذا تكتبين ولمن.. ؟؟

أخذت الست وداد شهيقا طويلا ثم الزفير بعده وببطء ايضا.

ثم قالت: أكتب له.. ربما يقرأه ان عاد ويشعر انني كنت هنا وكنت اتذكره ولن انساه يوما واني بقيت أحبه رغم كل هذا الغياب. انه لا يكذب حين قال لي انتظريني..

كانت الأيام في دار المسنين تمر ببطء ولوعة. والوقت لا يقاس هناك بالساعات والأيام بل بعدد مرات شهيقها وزفيرها وبعدد زيارات ابناءها التي لم تتحقق أبدا.

وذات ليلة تموزية شديدة الحرارة شعرت الست وداد بدوار شديد مع ارتفاع درجة حرارة جسدها وعدم تقبلها لوجبة العشاء وكذلك لوجبة فطورها الصباحي في اليوم التالي. وهذه الحالة لا تشبه نشاطها اليومي المعتاد، نقلت على أثرها للمشفى.

طلب منها الطبيب ان لا تغادر المشفى تحسبا لأي عارض.

ولكن في اليوم الثاني ازدادت حالتها سوء وأخذت تهذي مع ارتفاع شديد بدرجة حرارة جسدها.وقبل ان تغمض عينيها طلبت من الممرضة ان تحتفظ بدفترها وتعطيه لولدها البكر ان حضر.

اتصلت مسؤولة الدار على رقم ولدها البكر. وقد تأخر كثيرا في الحضور للمشفى لكنه جاء أخيرا ليستلم جثتها مسجاة داخل ثلاجة المشفى.

بقي المقعد الخشبي خاليا في دار المسنين والدفتر بين يدي ولدها البكر والياسمين مازال يتساقط بصمت فوق شاهدة قبرها كأنه يعرف تماما ان هنا يرقد قلب أحب بصمت ورحل بصمت.

تنقل ولدها البكر بين صفحات الدفتر ليجد رسائلها الموجهة له ولأخويه. كتبتها بحنان الأم ولوعة المشتاق.

.. أثارت شجونه هذه العبارة في أول ورقة بالدفتر وأول سطر فيها أولادي: سامحوني ان أثقلت عليكم في طفولتكم فقد كنت أما وحيدة ومرتبكة ومسؤوليتكم كانت ثقيلة فوق أكتافي.. ربما كنتم تكرهون عصبيتي أحيانا. لكنني أحبكم يا أغلى الناس.

تساقطت دموعه فوق السطور.. لكنها تساقطت في الوقت الخطأ

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

1 / 6 / 2025

 

مُـسـتَـنـفِـرًا شـوقَ الـضـريـرِ الـى الـضـيـاءِ:

نـهـضـتُ قـبـلَ صـيـاحِ دِيـكِ الـفـجـرِ

يَـمَّـمـتُ الـخـطـى نـحـو الـرصـافـةِ

حـيـثُ مِـعـراجـي الـى مـقـهـى "رضـا عـلـوانَ"(1)

أسـرى بـيْ فـؤادٌ نـبـضُـهُ مـاءٌ ونـارْ

**

شَـمَّـرتُ عـن مُـقـلـي أفـتـشُ فـي الـوجـوهِ

الـوقـتُ مـن حَـجَـرٍ

أحَـشِّـمُ سـاعـتـي أنْ تـسـتـحِـثَّ خـطـى عـقـاربِـهـا

لِـيَـنـتَـصِـفَ الـنـهـارْ

**

فـأريـحَ ظـهـري

مـن صـخـورِ الانتظار

**

بـمـجـيء "إيـنـانـا"(2)

لِـتـنـسـجَ لـيْ

قـمـيـصـاً مـن زهـورِ الـجـلّـنـارْ

**

لِـيـعـودَ ثـانـيـةً كـمـا فـي الأمـسِ " أنـكـيـدو "..

يـعـودُ فـتـىً يُـسـامِـرُ فـي الـدجـى الـبـدرَ الـتـمـامَ

ويـقـتـفـي أثـرَ الـغـزالـةِ فـي الـنـهـارْ

**

الـوقـتُ مـن جـمـرٍ

ومـا بـيـنـي وبـيـن الـنـهـرِ وادٍ غـيـر ذي زرعٍ(3)

أحَـشِّـمُ وردةَ الـكـرَزِ الـخـرافـيِّ الـنـدى

أنْ تـسـتـقـي لـلـسـومـريِّ الـجـائِـعِ الـعـطـشـانِ

كـأسـًا مـن زفـيـرِ الـزعـفـرانِ

وصـحـنَ ريـحـانٍ

وظِـلّاً لـلـغـريـب الـسـومـريِّ الـجـائـعِ الـعـطـشـانِ

يـبـحـثُ عـن مـلاذٍ فـي الـقـفـارْ

**

ويُـطـيـلُ تـحـديـقـًا بـنـهـر أنـوثـةٍ

فـي لـوحـةٍ زيـتـيَّـةٍ قُـزَحـيَّـةِ الألـوانِ

فـي وسَـطَ الـجِـدارْ

**

الـوقـتُ مـن صـابٍ (4)

ومـا بـيـنـي وبـيـن الـشـهـدِ بـعـضُ خُـطـىً

أقـلُّ مـن الـمـسـافـةِ بـيـن خـاتـمـهـا وزيـقِ قـمـيـصِـهـا (5)

أو

بـيـن مِـعـصـمِـهـا الـطـريِّ كـمـا الـسـفـرجَـلُ

والـسـوارْ

**

الـوقـتُ مـن ٍ شــوكٍ كـبـاديـةِ الـسـمـاوةِ

قـائـظٌ..

وأنـا حـبـيـسُ الـوجـدِ

شـيـخٌ طـاعـنٌ فـي الـعـشـقِ

فـي مقـهـى " رضـا عـلـوانَ "

يـرقـبُ هـدهـدَ الـبـشـرى يُـطِـلُّ عـلـيـهِ بـالـنـبـإ الـيـقـيـنِ

لـيـدخُـلَ الـفـردوسَ طِـفـلاً جـاوزَ الـسـبـعـيـنَ

فـي كـهـفِ الـصـبـابـةِ لا يـزورُ

ولا يُـزارْ

**

لِـتُـعـيـدَ تـرتـيـبَ الـحـكـايـا " شـهـرزادُ "

فـيـسـتـحـيـلُ الـسـومـريُّ الـى الـمـؤرَّقِ

" شـهـريـارْ "

**

جــاء الـضـحـى

والـمـوعـدُ الـورديُّ مُـنـتـصـفَ الـنـهـارْ

**

الـوقـتُ مـن سَـمـكٍ وخُـبـزٍ عـنـدَ دجـلـةَ

كـيـفَ مَـرَّ الـوقـتُ عـصـفـورًا رأى نـسـرًا

فـطـارْ ؟

**

يـمَّـمـتُ وجـهـي نـحـو بـيـتـي فـي الـسـمـاوةِ

عـدتُ شـيـخـًا جـاوز الـسـبـعـيـنَ

مُـنـطـفـئ الـخـطـى

وحـدي

أُنـادِمُ ذكـريـاتـي

لا أزورُ ولا أُزارْ

***

يحيى السماوي

بغداد / الجمعة 20/6/2025

.........................

(1) مقهى رضا علوان: إحدى مقاهي بغداد الشهيرة، تشتهر بتقديم أنواع القهوة، غالبية مرتاديها من الأدباء والفنانين.

(2) أينانا: إلهة الحب والجمال والخصوبة والجنس والحرب والعدالة في ملحمة كلكامش

(2) (3) إشارة الى قوله تعالى في سورة إبراهيم: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم..)

(4) الصاب: نوع من النباتات المزهرة عصيرها شديد المرارة.

(5) الزيق: ياقة القميص أو ما يحيط العنق من الثوب.

ما زِلْتَ تَهوي

كَأَنَّكَ تَعتَنِقُ فَراغاً يُشبِهُكَ

تُرَبِّتُ على لَهفَةٍ

خانَهَا الضَّوءُ

فَأَورَقَتْ في حَطَبِ العارِ

هَل أَنتَ

مَن جَرَّدَ المَجازَ مِن أَقمِشَتِهِ!

وَرَاقَصَ الحُرُوفَ على مَائِدَةٍ مِن زَيفٍ؟

هَل وَثِقتَ بِوَجهِ اللُّغَةِ

حَتَّى غَدَرَتْ بِكَ

في مُنتَصَفِ الاِنكِشَافِ؟

أَنا الَّتي

لَم تَنعَطِفْ في رِيحِكَ

لَم تَستَجْدِ ظِلاً

أَنا الَّتي تُحاكِي السَّمَاءَ

وَلا تُبَالِي بِمَا يُقَالُ

مِن أَينَ لَكَ

أَن تَمسَّ الجِهَاتِ كُلَّهَا

وَلا تَسقُطَ؟

مِن أَينَ لِفَمِكَ هَذَا

أَن يَقطُرَ صِدقاً

في قَفَصٍ لا يَرَى غَيرَ ذَاتِهِ؟

حِينَ جِئتَ

كُنتَ تَحمِلُ صَدىً

نَسِيتَ أَن تَخلُقَ لَهُ صَوتاً

كُنتُ أَنا:

الَّتي نَفَضَت الرَّملَ عَن صَمِيمِ المَعنَى

وَلَم تَكتُبْكَ

كَفَى

فَأَنا الحَرفُ الَّذي لا يُعَادُ

صَوتِي كَسرٌ لا يُرَدُّ

وَجَمرٌ مُشتَعِلٌ

لَهِيبِي لا يَنحَنِي أَمَامَ ظِلٍّ لا يُرَى

وَيَحمِلُ مِنَ الصَّمتِ رَنِينَ الأَبَدِ

مَا عَلَا فِيَّ

لَهَبٌ لا يُسأَلُ عَن وَجعِهِ

وَلا يُروَى بِحَكَايا الوَدَاعِ

أَمَّا اللِّقَاءُ

فَهُوَ طَيفٌ رَحَلَ قَبلَ أَن يُولَدَ

***

مرشدة جاويش

 

قالتْ: تَأخَّر، قلتُ: يأتي

لا تَقلقي، يا أُمَّ بيتي

*

قالتْ: أما زالَ الرجاءُ؟

أما سمعتَ نَشيجَ صَوت

*

قالتْ: أما آنَ الرُّجوعُ؟

أما أتى في لَيلِ صمتي؟

*

قالتْ: مضى، والريحُ تُطفئ

شمعةً في ركنِ كبتِ

*

قلتُ: الغيابُ وإن تطاول

لا يُغيِّرُ لون سمتي

*

قالتْ: أراهُ إذا جلسنا

فوقَ رَحلِ الحزنِ يأتي

*

قلتُ: العيونُ تراهُ شوقًا

في المدى، في كلِّ لفتِ

*

قالتْ: أُداري الدمعَ لكنْ

يُنذرُ الآهاتِ صمتي

*

قلتُ: المعادُ يضمنا

في دهشةٍ قد تُحي سكتي

*

قالتْ: ولكنّي فقَدتُ

النبضَ من صمتي ولفتي

*

قلتُ: الحبيبُ، وإن تَوارى

لم يَغب عن فجر سبت

*

قالتْ: دَعوتُ اللهَ لَيلًا

أن يَرد الموت موتي

*

قلتُ: اصبري، فالرُّوحُ لا

تَفنى،ستنبضُ بعد صَّمتِ

*

قالتْ: أحنُّ إلى خُطاهُ

كأنَّهُ في باب بيتي

*

قالتْ: فقل لي هل ترى

ام في ليالي الصبر عنتي

*

قلتُ: "الخُطى، إن طالَ دربٌ،

يَبلغُ الوادي بثَبتِ

***

د. جاسم الخالدي

في الساعة الخامسة صباحاً رنٌ الهاتف، كان رقماً لا يعرفه، وصوتاً بلا ملامح.

- السيد كريم؟

- نعم، من المتحدث؟

- تم اختيارك، انت البديل.

- عن من؟

- ستعرف حين تبدأ.

ثم انقطع الخط.

في الساعة السابعة وُضعت امام باب شقته حقيبة، بداخلها /

* مفتاح

* بطاقة هوية باسم (رائد كمال)

* ورقة كُتب عليها:

برنامج اليوم /

06:47 - الاستيقاظ

07:15 - فنجان قهوة

08:00 - الخروج بصمت

08:35 - الجلوس على المقعد السادس في الحديقة العامة

09:00 - الأبتسام للكلب رقم 4

لم يفهم، لكنه نفذ.

في اليوم الاول، مشى كما طُلب منه، لم يحدث شيء.

في اليوم الثاني، تكرر كل شيء بنفس الطريقة، بنفس الاشخاص، ونفس الكلب.

كلب بني صغير، يعبر الحديقة، يقترب من المقعد السادس، ثم ينظر اليه لثانية ويمضي.

في اليوم الثالث، سمع رجلين يتحدثان خلفه:

- هل هذا هو البديل الجديد؟

- يبدو انه التزم جيداً.

- أفضل من الذي قبله، ذلك الذي كان يسأل كثيراً.

اراد ان يلتفت اليهما، لكن جسده لم يتحرك. لم يعرف لماذا.

مرت الايام...

الورقة تجدد كل صباح، الجدول يصبح اطول:

* زيارة قصيرة لمحل النظارات دون شراء شيء.

* ترك مظروف فارغ على مقعد خشبي.

* النظر الى المرآة لمدة 40 دقيقة.

في احد الايام، حاول ان يسأل المرأة في مقهى صغير عن شيء، فأبتسمت وقالت:

البديل لا يتحدث الُا اذا طُلب منه.

ثم في صباح احد الايام، جلس على المقعد السادس كعادته، فوجد رجلاً يجلس هناك قبله. يشبهه كثيراً، يرتدي نفس المعطف، ويحمل نفس الورقة.

قال الرجل دون ان ينظر اليه:

- لقد كنتَ جيداً.

- من انت؟

- انا البديل الجديد.

و قبل ان يرد، رن هاتفه، نفس الرقم، نفس الصوت:

- شكراً. لقد تم استبدالك.

- لكن، من كنتُ؟

- لا احد، فقط بديل.

عاد الى شقته، فوجد الباب لا يُفتح بالمفتاح. والبطاقة لا تطابق صورته. وجهه في المرآة بدا غريباً.

حاول الاتصال باي شخص، فلم يجد رقمه مسجلاً في أي مكان.

و في المساء، جلس في الحديقة، على المقعد السادس، راقب مرور الكلاب، دون ان يعرف ايها كان رقم 4.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

 شاعر وقاص عراقي كوردي

 

هذه أول سطوري أكتبها لك بعد صيامي الكتابي منذ قرابة ثلاثين يوماً منذ آخر رسالة بعثتها لك.. لا تتخيل من أين أحدثك الآن؟ أحاول أن أرسل لك أكثر من الكلمات وأعمق من أبجدية اللغة.. أحاول أن أجعلك تسير معي في هذه الطريق الفاصل بين الشمال والجنوب، وأن أنقل لك بمداد قلم كيف تكتب هذه الأفواج العائدة ملحمة تاريخية لا تتسع لوصفها سطور... أنا الآن أسير مع الألف العائدين من منتصف قطاع غزة وجنوبه إلى الشمال عبر شارع صلاح الدين لا تتصور هذا النهر العائد من الناس أحاول أن ألصق تعابير وجوههم ونبض حديثهم على شفافية الورق الأبيض، وأرسله لك.. سوف أسرد لك هذه التفاصيل الكثيرة التي أعيشها مع هذه الجموع في رسالتي التالية، ورغم كل شيء لا تزال متشبثة بالأرض والتراب والضوء....

أعلم ما الذي ترغب أن تسألني عنه الآن، وأكاد أجزم بأنك أمطرت رسائلك به، وهو ماذا بقي لي هنا؟، وهل سوف ألملم ما بقي لي من أشلاء نفسي، وأبحث لي عن وطن؟

لن أنتظر حتى أصل إلى بيتي إن كان لا يزال هناك حتى أجيبك فأنا الآن أكتب لك، ونحن نسير منذ الشروق الأول للشمس، وحتى الآن...

كل شيء يقول لي: ماذا بقي لك هنا بعد أن سكت صوت الحياة؟! بعد أن شاخت ملامح وجهي تحت سماء مدينة مندثرة ماذا بقي لي هنا؟! ماذا سوف أفعل في وطن بعد أن إنطفئ فيه كل شيء، وإنحنى ظهري بين جدرانه..

حتى إنني سمعت طنين من خلف المحيط يقول لي: سوف أجد لك وطن آخر فقط أحمل حقيبتك وغادر....

من أين لي بحقيبة تتسع لجواز سفري وذكرياتي وبيتي وسنوات عمري؟! إنني لا أريد أرض برفاهية عيش لا تشبه أرضي ولا سماء صافية زرقاء غير سماء مدينتي الملبدة بغيم ودخان كما يعتقد الآخرون، وإنما أريد أن أكمل ما بقي لي من عمر في وطن يعكس ملامحي، وهويتي، ودمي...

أتوسد بيتي وعطري برائحة تراب.

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان.....

في ليلة شتوية باردة، حيث تتلألأ أضواء سوق عيد الميلاد وسط صقيع الزمن، قرأت آنّا في أحد مواقع التواصل الاجتماعي خبراً مفجعاً: "وفاة عازف الكمان الذي وُجد متجمّداً تحت ضوء القمر والثلوج. كان اسمه أورلوف مولر، خريج جامعة برلين للفنون عام ١٩٦٢، وعازف كمان موهوب في ألمانيا الشرقية. تألّق في فرقة الإذاعة، ثم في أوركسترا الفلهارموني الوطنية. عندما عُيّن في عمر الخامسة والأربعين مدرّساً للموسيقى في قرية قرب ليبزغ، التقى بآنّا هوفمان…".

كانت آنّا فتاةً رقيقة، بشرتها بيضاء وعيناها زرقاوان تحملان براءةً تخفي روحاً متمرّدة. كان صوتها ساحراً، والغناء شغفها الحقيقي، فُتِن بها أورلوف، فشجّعها ووضع بين يديها ألحانه الرقيقة... "هناك صدقٌ في صوتكِ، آنّا، صدقٌ لا يُعلّم؛ لكنه حقيقي كضوء الفجر. هل تعرفين أن الصوت أحيانا يكون أبلغ من أيّ فكرةٍ نحاول التعبير عنها؟"، قال أورلوف وهو ينظر إليها بعينين تحملان ثقل سنوات من الإبداع المكبوت. أجابت آنّا بخجل، "لكنني ما زلت أتعلم، وأخطئ كثيراً.". ابتسم أورلوف بحنان وقال: "الأخطاء هي التي تمنح النغمة صدقها. الصوت الذي يفتنّ بكماله يُنسى، أما الصوت الذي يلامس القلب فيبقى."

كان يرى فيها أكثر من مغنيةٍ؛ كانت ملهمته وحبيبته. "آنّا، عندما تغنين، يخرج لحنٌ يتسلل إلى أعماق الروح؛ لا تدعي أحداً يسرق منكِ هذا النور... الفنّ هو نافذة الروح على الحرية".  في تلك اللحظة، لم يكونا مجرّد معلّم وتلميذة؛ كان هناك شيءٌ يشبه الوعد بأن شيئاً جميلًا سيولد من هذا اللقاء.

صار اسم آنّا مرتبطاً باسم أورلوف في المهرجانات والإذاعات المحلية، بل أصبح اسمها مشهوراً، واكتفى أورلوف بنجاحها الذي يحمل صدى ألحانه. في مهرجانٍ وطنيٍّ بتمويلٍ حزبيّ، طُلب من موسيقيي الدولة تلحين نشيد الافتتاح. رآها أورلوف فرصةً لآنّا، فصنع لحناً أوركسترالياً مهيباً، غنّته آنّا ببراعة، انتشر النشيد في الإذاعات والمقاطعات الأخرى؛ لكن في تلك الأيام الرمادية، حيث كانت السلطة تراقب كلّ شيء، جاء مندوبٌ حكوميٌّ ليأخذ الأغنية. "اللحن اختير ليُعزف في مؤتمر الحزب أمام قادة الدول الصديقة، والأغنية ستُصبح جزءاً من الأوركسترا الوطنية؛ سيتمّ تسجيلها رسمياً، لكن بصوت مغنّيةٍ أخرى. إنه أمرٌ مهمٌّ للوطن.". الكلمات كانت جافةً كرمادٍ يتساقط بلا وزن؛ لكنها تركت أثراً ثقيلاً على أورلوف. شعر بخيبةٍ مريرة: “لحني صار شعاراً لهم، دعايةً للحزب. أما أنا، فلست سوى شبح".  قالت له بهمساتٍ ممزوجةٍ بالمرارة والألم: "كيف يُمكن لقلوبنا أن تخفق في زمنٍ يخضع فيه الإبداع للأوامر؟"، ابتلع أورلوف مرارته: “هذا نظامهم، آنّا. نحن مجرّد أدوات، لا أسماء.” ردّت آنّا بحدة: “كيف يأخذون لحنك ويتركوننا في الظل؟ صوتي هو الذي جعل النشيد يعيش!”.  تلك اللحظات كانت بمثابة بذرة تمرّدٍ في قلب آنّا، بذرة طالما نادت بالحقّ في الوجود والتعبير... " لن أبقى أداةً! سأغنّي للعالم، سأكون آنّا التي يعرفها الجميع!". لم تجد آنّا مفرّاً من قيود النظام حين بدأت أنفاس الحرية تهمس بطرق الخروج إلى العالم. "الغرب ليس كما تظنين. سيأخذون صوتك؛ لكنّهم لن يروا آنّا، الإنسانة... التي أحبّها." قال لها أورلوف حين صارحته بقرا رها. "أفضل أن أخسر صوتي وأنا أحاول، على أن أبقى سجينةً هنا. سأجعل العالم يسمعني"، ردّت آنّا بعناد.

 سلكت طرقاً خطرةً نحو ألمانيا الغربية، تأمل في عالمٍ يتغنى بالحرية ويزداد فيه بريق الإبداع. رافقها أورلوف مقهوراً، تركا وراءهما كلّ ما يعرفانه، حاملين القليل من المال والكثير من الأحلام المثقلة بالوجع. كان الانتقال إلى ألمانيا الغربية أشبه بالقفز في هاويةٍ مجهولةٍ، أخطرها هو الخوف من إعادتهما إلى ألمانيا الشرقية، وتسليمهما لجهاز الشرطة السرية؛ لكنّ الحلم كان أكثر توهّجاً من كل الحسابات الأخرى.

في الأشهر الأولى، عملا ما بوسعهما للبقاء واقفين على أقدامهما؛ كان أورلوف يعزف في الشوارع وفي زوايا الأسواق، يأمل أن يلتفت أحدٌ ما إلى موهبته. أما آنّا، فقد حاولت الحصول على فرصٍ لأداء أغانيها، لكنها لم تكن تملك سوى صوتها ونغماته النقيّة، في عالمٍ يبحث عن الأسماء الكبيرة والإبهار.

بعد أشهرٍ من الرفض والإحباط، تلقّت عرضاً من أحد المتعهدين الصاعدين لتوقيع عقدٍ يتيح لها تسجيل أغنيةٍ جديدة؛ لكنّ الشروط كانت ثقيلة؛ كلمات الأغنية اختيرت بعناية لتكون "رائجة"، ولحنها كان بعيداً عن الألحان التي اعتادت عليها. في الشقّة الصغيرة المليئة بالنوتات المبعثرة، ينظر إليها أورلوف بصمت للحظات، ثم يتحدث بصوت هادئ: "آنا، العالم سيطلب منكِ دائماً أن تغيّري لونكِ. إذا كنتِ تؤمنين أن هذا هو المدخل للطريق، فلا بأس... لكن لا تنسي من أين بدأنا."

لاقت الأغنية رواجاً.  وقّعت آنّا عقداً، مع المتعهد، للغناء في مطعمٍ شهير. توقيع العقد كان لحظةً مزدوجة؛ بدا وكأنه انتصارٌ بعد شهورٍ من الفقر والتهميش، لكنه، أيضاً، كان بدايةً لفصلٍ جديدٍ من التحديات الداخلية. كان أورلوف وآنّا يعتمدان على بعضهما في مواجهة عالمٍ يبدو لامعاً من الخارج؛ لكن، بدآ يشعران بأنه، في داخله، باردٌ، ومزدحمٌ بالأضواء التي تحجب الدفء الإنساني؛ آنّا تغني تحت دائرة الضوء، بينما جلس أورلوف في الخلفية، يرافقها على كمانه؛ يضع لها ألحاناً لأغنياتٍ جديدة، ويراقب، بصمتٍ، وهي تزداد شهرةً، متسائلًا عما إذا كانت هذه هي الحرية التي سعيا إليها. كانت ألحانه تناسب الأمسيات الهادئة في نهاية الأسبوع، بعد أن يكون (الزبائن) قد ارتاحوا وشبعوا وانتشوا. حقّقا نجاحاً جيداً، وصار للمطعم روادٌ جدد، يأتون من أجل عشاءٍ هادئٍ على أنغام أغنياتهما.

بدأت آنّا تنال الشهرة، وبدأت الصحافة تكتب عن "المطربة الهاربة من قيود الاستبداد الشيوعي"، والعقود تتوالى عليها. غير أن الشهرة لم تكن بالبساطة التي تخيلتها؛ فقد تحوّلت موهبتها، التي كانت تمثّل رمزاً للحرية، إلى سلعة تُستنزف لملاحقة الأرباح؛ زخم الجدول المرهق وفقدانها السيطرة على اختياراتها الموسيقية جعلاها تشعر وكأنها تُستهلك يوماً بعد يوم

أما أورلوف، الذي رأى آنّا تتغير أمام عينيه، فقد اختلطت مشاعره بين الفخر بما حققته والحزن لما فقدته. لقد تحوّل صوتها العذب، الذي أسر قلبه يوماً، إلى أداةٍ لتحقيق مكاسب مادية، بينما ألحانه القديمة بدأت تضيع وسط ضجيج الإيقاعات الحديثة والآلات الإلكترونية. بدا له أنّ الزمن قد تجاوزه هو وكمانه القديم، وهما مجمّدان على كرسيهما خلف آنّا، وأصبح وجودهما نشازاً وسط صالات المطاعم الفاخرة وقاعات الحفلات المزدحمة. صارحها ذات ليلة، بينما كانا يجلسان بعد حفلٍ كبير: "ألحاني كتبتها لروحك، آنّا، لا لتُغنّى في الملاهي وأمام السكارى؛ هذا ليس فننا الحقيقي.”. ردّت عليه، غير منتبهةٍ لرعشة التعب التي تسلّلت إلى صوته: “الفنّ يتغير، أورلوف. ألحانك رائعة، لكنها جزء من الماضي. العالم اليوم يبحث عن الحيوية، عن الإيقاع!”. تملّكته موجةٌ من الحزن واليأس، وقال بصوتٍ يحمل مرارةً خفية: "كنتُ أؤمن أنّ الفنّ هو النور الذي يُبقي الإنسان صامداً في وجه هذا العالم القاسي؛ لكنك أصبحت تلهثين وراء الأضواء، بدل أن تصنعيها... متى أصبحتِ جزءاً من هذا السوق؟". رمى سؤاله ولم ينتظر إجابةً. عمّ صمتٌ ثقيل للحظة، آنّا تدرك عمق سؤاله وصدق المشاعر التي تنبثق عنه؛ لكنها، بين مشاعرها وطموح الشهرة المُغري، اختارت طريقها؛ ردّت، دون أن تلتفت إليه: "كيف نحافظ على صدق صوتنا في زمنٍ لا يُقدّر الإبداع إلا بمقاييس الربح؟". هدوء صوتها وملامح وجهها أثار في أورلوف رعشة قلقٍ غامضة، كأنه أدرك فجأةً أنها أصبحت بعيدةً تماماً، امرأةً ناضجةً في عالمٍ لا يعرفه. وبينما كان يراقبها بصمت، تساءل في نفسه: "متى تغيّرت كلّ هذا التغيير؟". كان هذا آخر ما فكّر فيه، تحت مظلّةٍ من صمتٍ ثقيل، وسكونٍ طاغٍ.

تبدّلت الأحوال مع سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، مما فتح المجال لاستقطاب الفرق والمغنيات من الشرق. أسّست آنّا فرقةً صغيرةً ضمّت عازف جيتار كهربائي وعازف إيقاعات، بالإضافة إلى عازف كيبورد شاب يحمل وشماً كبيراً على ذراعه وحلقاً في أذنه اليسرى، شخصية ذات حضورٍ قويّ بين جيل الشباب. سرعان ما أصبح له تأثيرٌ كبيرٌ على اختيارات آنّا وقراراتها، حيث تولّى إدارة عقودٍ مربحةٍ لها مع ملاهٍ فاخرة، دون اكتراثٍ لاعتراضات أورلوف وتحذيراته.

في إحدى الليالي، بينما كان أورلوف يجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ قديم، قرب النافذة، يعزف بهدوءٍ على كمانه، جاءت آنّا مبكّراً لتخبره أنها ستنتقل للعيش في شقّةٍ أوسع، وأنها ستترك له الشقة ليعيش فيها، مؤكّدةً أنها ستتكفل بدفع الإيجار وتكاليف المرافق، كنوعٍ من الشكر والامتنان للشخص الذي كان ركيزة نجاحها.

توقف أورلوف عن العزف، ونظر إليها طويلاً، سألها، وهو يضع الكمان على ذراعه كأنه يحتضنه: "هل تشعرين أنكِ ما زلتِ أنتِ، آنّا؟"، جلست آنّا بصمت لثوانٍ طويلة، وقد صدمها سؤاله المفاجئ، قالت وهي تنظر إلى يديه على الكمان: "لا أعرف. أحيانا أشعر وكأنني أعيش حياةً ليست لي؛ لكنني أملك شيئاً على الأقل.". اقترب منها، يتحدث بنبرة أكثر دفئاً: "لكن ما تملكينه ليس حقيقيّاً، آنّا؛ إنه وهم... أتعلمين، عندما كنا في الشرق، كنتُ أرى نفسي جزءاً من شيءٍ أكبر. ربما لم يكن مثاليّاً؛ لكنني كنت أشعر أن الموسيقى كانت تخدم الناس، تمنحهم شيئاً يتشبثون به وسط كل ذلك البؤس."

خلعت آنّا حلقها ووضعته على الطاولة، قالت بشرود: "تخدم الناس؟ كلّ لحنٍ عزفته هناك كان يُستخدم لتجميل صورة نظامٍ لا يهتمّ إلا بالبقاء. لم يكن هناك مكان للفرد، أورلوف. كنتَ مجرّد ترسٍ في آلة ضخمة.". نظرت إليه بهدوء، وسألته: "هل تفضّل أن يعو ذلك الزمان؟". تنهّد أورلوف، وهو ينظر إلى الكمان: "لا، لا أريد أن يعود؛ لكنني أريد أن أجد مكاناً لا أضطر فيه للاختيار بين أن أكون ترساً في آلة، أو سلعةً في سوق. أريد أن أكون إنسانًا، فقط إنسانًا."

كانت كلماته الأخيرة كأنها جدار سميك، وضع حدّاً لكل كلماتٍ بعدها. صمتت آنّا، بين الضحك والبكاء. طالت برهة الصمت، وصار الكلام عصيّاً. أيقن أنه فقد آنّا للأبد. "استثمري في روحكِ آنّا، لا في زخم الأضواء الزائفة!"، قال دو ن أن ينظر إليها، حمَل كمانه وغادر بهدوء.

عاد يجول الشوارع، يعزف للمارة، يكتفي بما يُلقونه في وعائه. كان يعزف حبه القديم، وخيبته المزدوجة.  كان كمانه يبكي جحود دولةٍ وجحود امرأة.

أما آنّا، فقد أصبحت مطربة بوب شهيرة برفقة عازف الكيبورد الذي جرّه طموحه إلى أرض الشهرة والفرص. رحلت آنّا إلى أمريكا مع عازف الكيبورد؛ لكن سرعان ما تحطّمت أحلامها، ولم يجد صوتها مكاناً وسط مؤسسات الشهرة المتوحّشة، فانتهت تغني في باراتٍ رخيصة، وتحوّلت إلى مدمنة كحول ومدخّنة شرهة، بعد أن تخلى عنها عازف الكيبورد الشاب..

في ليلته الأخيرة، عزف أورلوف في ساحة بيتهوفن حتى سكنت الشوارع. لم يتوقف كمانه، يروي قصة موهبةٍ سُرقت، وحبٍ ضاع؛ غطاه الثلج، وصمت قلبه، تاركاً لحنه الأخير يتردد في الصقيع.

عندما قرأت آنّا الخبر في الصحيفة، شعرت بأن شيئًا ثميناً انكسر داخلها؛ قالت وكأنها تخاطب صورة وجهه، "لقد كنت دائمًا تقول إن الفن مثل الكمان، أوتاره حساسة، إذا لم تُشدّ بالشكل الصحيح، فقد تتقطّع… وأظنني شددت عليك أكثر مما تحتمله روحك الحساسة."

وقفت تحت ضوء القمر الذي كان ينعكس على الجدران المتجمدة، وغنّت اللحن كما غنّته أول مرة؛ بلا إضافات، بلا زخرفة، فقط صوتها وروحها. لم تُغنِ لجمهورٍ أو من أجل الشهرة، بل غنّت لذكرى أورلوف ولتُعيد لنفسها حريتها؛ وبينما كان صوتها يعلو وسط الهدوء البارد، أدركت أنّ الحرّية ليست مكاناً أو وعداً خارجياً؛ إنها فهم عميق للنغمة التي تسكن قلب الإنسان.

***

قصة: منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 20.06.2025

أنت تُقصيهِ وهْوَ يُقصيكَ حتّى

جاءَ من يُقصيْ الشّعبَ والأحزابا

*

كم فريقٍ أقصى أخاهُ وأقصا

هُ بقُدسٍ أقصاهُ للكونِ طابا

*

فأتى منْ أقصى البلادِ قصِيٌّ

معْهُ أمسَوا في دارِهمْ أغْرابا

*

يسكنونَ النّسيانَ والدّهرُ أيدٍ

لا تُمدُّ إنْ تُنسَ إلا حِرابا

*

ما لهُم ْمن أمواهِهم غيرُ كدْرٍ

يدفعونَ الشّقا لقاهُ شرابا

*

ومن الأرضِ أينَما ذهَبوا غيـ

ر قبورٍ إنْ تبْدُ نالوا عِقابا

*

ما لهمْ من عهدٍ مضى غيرُ رسمٍ

لا يَزيدُ الغريبَ إلا اغْترابا

*

و مِنَ الآتِ لو أتى غير شكٍّ

مستحيلٍ قبلَ الوقوعِ تُرابا

*

ما لهُمْ في ما قدّسوا غير ركْعا

تٍ بظهرٍ إنْ يعبُروا الأبوابا

*

و مِنَ الذّكرِ والهُدى غير شرحٍ

معْهُ يُمسي الفرعونُ للدّينِ بابا

*

ما لهُمْ من أيّامهِمْ غير سبتٍ

ورجاهُمْ ألّا يطيلَ الغِيابا

*

و مِنَ الصوتِ صمتُهُ دون واهٍ

منهُ يُجري عند القصيِّ اللُّعابا

*

و مِنَ الصّمتِ صوْتهُ شرطَ ألّا

يَسْتفزَّ عندَ القصيِّ ارتِيابا

*

فتقبَّلْ أخاكَ في القدسِ يا ابن الـ

القدسِ في قدسٍ بالتّشَرذُمِ شابا

*

وتَفَهَّمْهُ من يمينٍ أتى أمْ

منْ شمالٍ ما دامَ يرْجو الصَّوابا

*

وتَوَدَّدْهُ مائلًا لعليٍ

كانَ أم للصدّيقِ والْجُمْ عِتابا

*

إنّ قدسًا تزورهُ اليوم ماءً

إنْ توانيْتَ قد تجِدْهُ سَرابا

*

إنّ قدسًا أمسى بلا أُمّةٍ يحـ

تاجُ ذا اليومِ منكَ حتّى التُّرابا

*

إنّ قدسًا من دونهِ أنتَ لن تُصـ

ـبحَ أنتَ يحتاجُ منكَ الجَوابا

***

أسامة محمد صالح زامل

لَا لَمْ يَجِئْ أَحَدْ

لَمْ يَجِئْ اَلْوَالِدُ وَالْأُمُّ،

أَوْ اَلْبِنْتُ أَوْ اَلْوَلَدْ

فِي اَلْبَرِّ،

أَوْ فِي اَلْبَحْرِ،

أَوْ فِي اَلْجَوِّ

أَوْ فِي اَلنَّوْمِ، أَوْ فِي اَلصَّحْوِ

لَا. . .،

لَا لَمْ يَجِئْ أَحَدْ

فَهَلْ يَظَلُّونَ إِلَى اَلْأَبَدْ

مُذَوَّبِينَ فِي اَلزِّحَامِ،

غَائِبِينَ، لَا نَرَى

لِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ جَسَدْ

يُثِيرُنَا مَشْهَدُهُمْ

وَكُلُّهُمْ

سَلَاسِلٌ تَرْبُطُهُمْ

يَسْتَبْدِلُونَ سِلْسِلَةْ بِسِلْسِلَةْ

وَكُلُّهَا سَلَاسِلٌ مُجَلْجِلَةْ

**

لَا لَمْ يَصِلْ أَحَدْ

لَمْ يَصِلُوا

وَنَحْنُ نَسْأَلُ

هَلْ يَصِلُونَ اَلْيَوْمَ، أَوْ غَدًا

أَوْ بَعْدَ غَدْ

هَلْ تَبْلُغُ اَلْعَائِلَةُ اَلْمُكَبَّلَةْ

أَحْلَامَهَا اَلْمُؤَجَّلَةْ؟

أَمْ أَنَّهَا

ضَاعَتْ وَضَاعَ ذِكْرُهَا

وَلَمْ تُعَدْ هُنَاكَ مَسْأَلَةْ

تَشْغَلُهَا

مُذْ غَدَتْ اَلسِّنِينُ قَاحِلَةْ؟

**

لَا لَمْ يَجِئْ أَحَدْ

لَا لَمْ يَجِئْ

مَا يُفْرِحُ اَلرُّوحَ أَوْ اَلْجَسَدْ

فَهَلْ سَتَأْتِي وَحْدهَا

كَاشِفَةً لَعَمْرِي اَلْحَزِينِ سِرَّهَا

فَتَعْبَقُ اَلْوُرُودُ لِلْأَبَدْ؟

***

خالد الحلي

 

للكلاب حقّهُم في النُباح

إذا أكرهتموهُم على الصمتِ لم يعودوا كلاباً

بل سلاحفَ مسخّرةً للحراسة الليلية

ما داموا قد وِلِدوا بسبطانات في حناجرهم

فمن حقّهم أن ينقلوا حروبهم إلى مهاجِعكُم

لماذا تُهدّدونهم

بجعل أفواههم مخازن للكراسي المحطّمة

والأحذية العتيقة

هل تُريدونهم أن يُهدهدوا أطفالَكُم ليناموا؟

إذا كنتم تكرهون الكلاب

لماذا تتحوّلون إلى أشباههم

عندما تختصمون بينكم؟

ما دمتم تنامون في خزّانات الملابس

فلا تتذمروا من رائحة النفثالين

**

للكلاب حقهم في النباح

فلا تجعلوا الميكرفونات حِكراً على البلابل

لو كانت البلابلُ أهلاً للميكرفونات دون الكلاب

لماذا إذن لا تُطلقون البلابلَ من أقفاصها؟

وتُزودونها ببنادقَ لحراسة بيوتكم؟

أرجوكم

ألزمنُ ليس في صالحكم

لن يمرّ وقتٌ طويلٌ

حتى تجدوا أحفادَكم خدَماً في أوجار الكلاب

فتحوّطوا لأيام الذل

لا تجرحوا كرامتَهم بالنظر إليهم من الأعلى

متذرعين بعدم تزييتِ مفاصلكم

أرفعوهم إلى مستوى عيونكم

ودعوا مياهَ نظراتِكم تمتزجْ بوحولِ نظراتِهم

أنقلوا أهاليكم للنوم في الخرائب

واسمحوا للكلاب النوم في أسِرّتهم

أطعموا أطفالكم من القمامة

وأرضعوا الجِراء من حليب رضّاعاتهم

فالكلابُ مثلكم

يتبوّلون

ويتغوّطون

ويُطفئونَ شموعَ القمر بدِلاءٍ ملآى بالدموع

إذا لم تمنحوهم اليومَ حقّ النباح

فغداً سيحرمونكم من حق الإنجاب

وإذا ما اتخذتم الصداع ذريعة

لحرمانهم من الميكرفونات

فغداً، حين يجتاح قرادُهُم الحدائقَ العامة

وتَستبدلُ الأنهارُ مياهَها العذبة بلعابِهم الدبق

سيحوّلون ثقوبَ أجسادكم إلى ميكرفونات

***

شعر / ليث الصندوق

 

لا شيء يثنيني عن النسيان

ما زال يسكن مقلتي وجناني

*

ما زال يسكن بيننا بمحبة

وينام منتشيًا بظلّ حناني

*

وعلى شغاف الباب تجلس أمه

ويفور قدر الشوق في الهجران

*

وتعود غرفته وتسال هل أتى

ام أنه في مجلس الجيران

*

ويطلّ من طيفِ المساءِ ملوّحًا

كالعطرِ يسري في دمي وكياني

*

وأنا أُخبّئ خيبتي في صمتهِ

وأمدّ أشواقي إلى عنواني

*

فكأنّ قلبي كلّما ناديته

عاد الغيابُ يردّهُ بثوانِ

*

يا شوق قلبي كيف حالك بعده

نار على نار على نيران

*

وتمرّ بي ذكراه في وجعي كما

مرت على قلب الظمي أحزاني

*

في كلّ ركنٍ كنتُ أسمع خطوَهُ

وأراهُ بين دفاتري وبياني

*

ويلومني صحبي على فرط الأسى

وانا اداري الفقد بالكتمان

*

وإذا بكيتُ، بكيتُ من وجع الحوى

لا من وداعٍ أو جفاء زمانِ

*

لكنّهُ ظلّ الحضورِ بمهجتي

يأبى الغيابَ، كأنّهُ عنواني

***

د. جاسم الخالدي

هرطقةٌ،

تلك التي تسللت من بين ضلوعي ذات مساء،

حين كنت أُقلّبُ في الكتب القديمة

وأبحث عن اسمي في هوامش الأنبياء.

*

هرطقةٌ،

حين قلتُ،

السماء ليست دائمًا زرقاء،

وأنَّ اللغة العربية تنصلت من جناحيها، الضاد والظاء .

*

كنتُ طفلة حين ارتكبت أولى خطايا الوعي،

حين سألت أبي،

لماذا لا يصلي الصخر؟

ولماذا يموت الضوء في نهاية كل مغيب؟

*

ضحك، وقال،

تلك مجرد هرطقة.

فصمتُّ،

لكنني كتبتُ السؤال في نخاعي الشوكي،

وتركتُه ينمو مثل وردةٍ مبللةٍ في زمن الجفاف.

*

كبرتُ،

وصار في داخلي مسرح من أصوات متعارضة،

كل فكرةٍ لها لسانان،

وكل إيمانٍ له ظلٌ مرتجف،

وكل "يقين" له أبوابٌ خلفية،

تنفذ منها رياح الشك.

*

قلتُ لليل:

لستَ ظلامًا… أنت مرآة الضوء الخائف.

فصفق لي الليل،

وصار صديقي.

*

قالوا: تلك هرطقة.

قلتُ،

بل فُسحة بين التفسير والسكوت،

بين السجود والوقوف منتصبًا في وجه الحكاية.

*

تلك التي سميتموها هرطقة،

هي التي علمتني أن أسمع الموسيقى في بكاء النافذة،

وأن أقرأ الحروف في طيران النمل،

وأن أرى وجهي الحقيقي في عيون الغيم.

*

تلك التي نفيتموها خارج مدينة المعنى،

هي التي أنقذتني من الغرق في بحيرة التكرار،

وجعلت من لساني شجرةً تنبت فصولًا جديدة

و لا تخضع لمواقيت الفقهاء.

*

في كل ليلة،

أفتح كتابًا لم يُكتب بعد،

أقرأ بصوت مبحوح،

"وكان الإنسان فكرةً مشتبهًا بها"،

فترتعش النجوم،

وتنطفئ شموع المنطق.

*

أكتب على جدران الوقت،

أن الهاربين من القطيع

ليسوا ذئابًا،

بل أحيانًا… قديسين تعبوا من الرتابة.

*

هرطقة؟

نعم.

لكنها ليست خيانةً للحق،

بل حُبٌّ للبحث عنه،

ولو تحت حطام المسلمات.

*

أنا ابنةُ الريح،

وصديقة النار،

وتلميذة الظلال،

أتهجى الخلق من جديد،

وأعيد ترتيب الأبجدية كي تنطقني كما أشاء.

وإن أحرقوني بنيران الفتوى،

سأقوم رمادًا ناطقًا،

وأُلقّن الرمادَ كيف يصير نجمًا.

*

فلتلعنني المجامع،

ولتُقصني الكتب،

ولتغلق في وجهي المعابد،

لكنني،

سأظلّ أكتب،

وأكتب،

وأكتب…

أن تلك التي سموها هرطقة،

هي ببساطة، حقيقةٌ خجولة… تنتظر أن يُؤمن بها أحد.

***

مجيدة محمدي - تونس

في الميدانْ

لستُ أريدُكِ في الميدانْ

أكثرَ من حُزمةِ ألوانْ

أكثرَ من تغريدةِ شَوقٍ

تتلوّى ما بين ضلوعي

تحرقُني شَبَقًا يتمنّى

أنْ يعصِفَ فينا الطّوفانْ

في الميدانْ

لستُ أريدُكِ في الميدانْ

أكثرَ من أنثى إنسانْ

تأكُلُني

تشربُ إحساسي

تُمطرني

مطرًا عطشانْ

تزرعُني زَهْرًا لا ينسى

رَغمَ جمالِهِ

واستسلامِهِ لحظةَ وُدٍّ

واستبسالهِ لحظةَ صدٍّ

أنّي.. أنّكِ..

في الميدانْ.

**

في الميدانْ

كوني خيلًا تصهلُ حُبًّا

كوني أخذًا كوني رَدًّا

كوني فوقَ بلادي جُندًا

احتلّي أرضي وسمائي

كوني البدرَ يشقُّ مَسائي

خلِّ خريفي زهْرَ ربيعٍ

صُبّي صيفَكِ فوقَ شتائي

كوني شيئًا لن يتكرّرْ

شَفَةً تحرقُ.. نهدًا يزأرْ...

في الميدانْ

هُبّي نارًا

تطلعُ من جوفِ الحِرمانْ

ثوري شوقًا

موجي شَبَقًا

كوني امرأةً كالبركانْ.

**

في الميدان

لا يبقى منّا إلّانا

يبحث كلٌّ منّا فينا

عن عاصفةٍ

تضرب أعماقَ الوجدانْ

لا يبقى منّا إلّانا

فينا يكتملُ الإثنانْ

**

في الميدانْ

بوحُ الصّدقِ

ودفقُ العشقِ

نسيانٌ يمحو نسيانْ

في الميدانْ

كوني أَلَقًا

كوني حُلمًا

يُزهرُ من عُمقِ الوجدانْ.

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

روحُــكَ تَلاشـتْ عن مَهـدِ مائـي

وتَبخَّـرت بُحيـرَةُ ذاكِـرَتي...

يا مَنْ كُنتَ أميرَ فاكهتي

لقـد حـلَّ الخَريـفُ برحيلِ الجلنار

خَفَـتَ فانـوسُ العِشـق

وأَطفأتُ قَمرَ أيلول

حتى نَبضُـكَ تَجمَّـدَ في عُنُقِـي

وخَبـا بَخـورُ أَنفاسِـي..

الشَّـوقُ غادرَ شُـرفَةَ أَحلامِـي

فَلا سِحـرُكَ يَغْوينـي وكرزُ شَفتيـكَ

دون حَلاوَة..

صَنـوبَرُكَ باهِـتٌ أصفرُ

سئمتُ الـدُّروبَ إلى صـدرِكَ

وفي القِفـار دَفَنـتُ أَشعـارَكَ

وأَضعـتُ مَفاتيـحَ قَلبكَ

بَصماتُـكَ تائهةٌ إلى ساقِيـةِ الريـح ِ

أَتـدري.. هَمَساتُكَ الباردةُ

التَهمَتـها نِيرانُ صَحوَتي؟

ألمَـحُ  طيفَـكَ

عنـد أَعتـابِ مَساماتِي

لن تَعبُـرَ ضِفـافَ البَنَفسَـج

أَكاليـلُ النـورِ لا تُزهِـرُ إلاَّ في الضَّـوء

لَمْلِمْ أوراقَكَ العاريَة وارْحَلْ

أنا لا أُتقِـنُ دَورَ الجـاريةِ

وأنتَ فنَّـانٌ في تَقليـدِ السَلاطيـنِ...

ماذا لو أَهدَيتَنـي القَصـائدَ المُطـرَّزةَ بالحَريرِ

وذاتـي تَنتَـحِرْ؟

ماذا لو طَوّقتَنـيْ بالَلآلـئ وشَهقاتِـيَ تُحتَضَـر؟

سأدعُكَ حتَّى آخرِ عهدي

وتراً يَتيماً في سيمفونِيَّـةِ المـوتِ

أَنت لا تُحسـنُ العَـومَ في بحـرِ المُستَحيـل

ولا التَّحليـقَ فوق الثُلـوجِ

فَلتَبـقَ أَسيـرَ الجَليـدِ

***

سلوى فرح - كندا

 

يسير الأعمى بخطىً سليمةٍ

متأبطاً عصاه

التي لا يذكر كيف أصبحت رفيقته

هي صولجان حكمه الضائع

مازال يسير وفق حدسه الغريب…

نحو حانة النسيان

واثقًا بخطوات صديقته

بوصلةٌ عصاه

مطرزة بضوابط

التوقيت مثل مطلع الفجر

مقبضها خصر امرأة خيالية

شده الشوق إليها

مازالت تؤرق همهمته

التي تشبه نوح الحمائم في المساء

وكأن خيطاً من بصيص يتلمس من خلاله

نعومة شعرها بيديه الذابلتين

يتأرجح كالبندول بين عقله والجنون

استقام عود ذاكرته وانحنى عود ظهره

فتاه عن سبل المرسى المأمول

سيغلق النادل ابواب الحانة

ويجف ما تبقى من كأسه الفارغة

كأخر قبلة تغلغلت في ثغرها

يبحث في بحبوحة البدايات

التي انتهت قبيل اكتمال الأغنيات

تثاقلت قدماه في وحشة المجهول

من يبصر اسير العيون

من يزيل الغبار عن عزلته القاسية

من يزيل اشواك الماضي وأحجار المأساة

التي تهيمن على درب ضالته

يرحل النهار يجيء الليل

وينسج عتمته بشرايين

الظلام المتدفق في الأقاصي

آآآه أين تتجة سهام العاشق الأعمى

لا إمرأةً يأوي إلى كهفها

لا حانةً تفتح أبوابها

في نهاية المطاف

يبقى السؤال المعلق دائمًا

في عنق الدروب

إلى أين يسير هذا العاشق الأعمى!!!

***

باقر الموسوي

في ظهيرة احد أيام أواخر شهر أيار، جلس الطفل على تلة خالية من الاشجار تغطيها بقايا حشائش الربيع المتيبسة، مديراً ظهره الى المدينة الميتة التي يتكرر فيها كل شيء بلا حياة. شرع بيديه الصغيرتين بصنع طائرة ورقية من ورقة كبيرة، وقام برسم خارطة وطن على جناحي الطائرة، وطناً لم يعش فيه قط، ولكن احتفظ بتفاصيله الدقيقة التي تمنَاها في مخيلته، رسم فيها قرية تنام مبكرا في أرجوحة من الهدوء وتصحو على زقزقة العصافير، ورسم فيها بيوتاً، ودروبا، وجداولا، ووزَع عليها الواناً تشبه حنينه وأحلامه الطفولية، لوَن التراب، لوَن السماء الصافية التي طالما حلم بها في ليالي الغربة. لم تكن الطائرة مجرد لعبة، بل كانت له سفينة تحمل في أشرعتها صفقات أجنحة الطيور ووشوشة فراشات مهاجرة وخفقات قلبه الصغير. رفع الطائرة نحو السماء والرياح تلعب برفق بأوراقها الرقيقة. بدأت الطائرة تصعد، تصعد في عمق السماء اللامتناهية، ومع كل ارتفاع كانت خطوط الخارطة تتلاشى وتتبدد بين الغيوم. كان يتابعها بعينيه المبللتين وهي تختفي عن الأنظار، شعر وكأنً وطنه يغادره. ظل واقفاً في صمت عميق، تتلاطم في ذهنه موجات الذكريات، وجه الجد المليء بالحكايات، ابتسامة الأم التي كانت تشبه دفء الشمس، ضحكات وصيحات الاصدقاء وهم يركضون في الأزقة الضيقة التي لم تعد موجودة. كانت الوجوه ترتسم أمامه كلوحات محاطة بضباب الفقدان والغياب. في تلك اللحظة شعر بثقل الغربة يعصر كيانه. وطن لم يُفقد من الأرض فحسب، بل من الذاكرة ومن الروح. حدَق صامتاً في السماء متمنياً أن تعود الطائرة يوماً ما حاملة وطنه، وطن لا تتغيب عن أرضه الشمس ولا تتلاشى فيه الوجوه.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

* شاعر وقاص عراقي كوردي

 

أَبَىَ (الــــدولارُ) إلا أنْ يَـدُورا

على مَنْ شاءَ مِنْهُــــنَّ الفُجُورا

*

ثَـــــلاثٌ ليس يَطهُــــرْنَ بحالٍ

وإنْ قَـــــــــدَّمْنَ للـــه النُّـذُورا

*

ثـــــلاثٌ خَــصَّـــهُنَّ بالتِفَــــاتٍ

ونَـــــادَاهُنَّ بالعربيّ: (بُـــورَا)!

*

فَرَشنَ لهُ (المَصَارِفَ) و(الخفايا)

وأَصْلَحّــنَ الأسِــرَّةَ والبَخُــورا

*

وأَشْرَعْنَ الصُّـــدور لتحتـــويهِ

ويَحْــــلُبُهنَّ(ثَيْـبًا) أو (بُكُـورا)!

*

وحَضَّرْنَ (الإباحـَ  ـةَ) دون (يـاءِ)

لِيُظْهِرْنْ المكـــارِمَ... والسُرُورا!

*

وأمْكَـرَهُــــنَّ أهْــدَتْـهُ (فَضَـــاءً)

فـــأعْــرَبَ عن سَفَالَـتِها كَفُورا!

*

وأَفْرَطْـــــنَ بنِخْبِ العارِ صرْفًا

وفَـــــرَّطْــــنَ بأَنْفَسِهَا حُضُـورا

*

بِعَيْنيْ مـــارَأَتْ رُخْصًـــا كهــذا

ولن تَذْرِفَ على (سَــقَطٍ) دُهُورا!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

دعوا المفاخِرَ يا أعرابُ للعَجَمِ

فقد تفشّى بكم شوقٌ الى الصَنَمِ

*

شوقٌ قديمٌ طغى فيكم وأرجعَكم

للجاهليّةِ رغْمَ البونِ والقِدَمِ

*

كأنَّ إيمانَكم رملٌ بقاحلةٍ

والريحُ تذرو رمالَ القَفْرِ للعَدَمِ

*

قُلْ للصديقِ الذي ساءَتْهُ قافِيتي

لو كانَ أنصفَ لَمْ يَعْذلْ وَلَمْ يَلُمِ

*

شاهتْ هُوِيّتُنا ياصاحبي وَبَدا

صوتُ العُروبةِ جُرْحاً غائراً بِدَمي

*

قد أستعيرُ بذيءَ القولِ من لُغتي

لكنّما خَصْلةُ الإنصافِ من شِيَمي

*

لسْتُ الغَشومَ ولكنْ جاشَ بي غضبٌ

خوفاً على أمّتي من لُعْبةِ الأمَمِ

*

حيثُ الركونُ الى سفّاحِ غزّتنا

ياصاحِ منقصةٌ مذمومةُ الذّمَمِ

*

والشامتونَ بِقتْلى أهْلِ قِبْلَتِنا

يُلْقونَ أرواحَهُمْ في حالِكِ الظُلَمِ

*

هَبْ أنّهم أخطأوا يوماً سياسَتَهمْ

فاغفرْ كما غَفَروا بالفِعْلِ والكَلِمِ

*

واشْكُرْ فقد بذلوا أزكى الدماءِ فِدىً

كُرْمى لِغزّةَ والأيتامِ والحَرَمِ

*

قد نامَ قادَتُنا عن شَرِّ مذبَحةٍ

وباتَ مُرشدُهمْ سهرانَ لم يَنَمِ

*

هل ذا جزاءُ الذي يفدي قضيّتَنا

بالنفسِ أُضْحِيةً من دونما نَدَمِ ؟

*

ياناكرينَ جميلَ القومِ ويلكموا

مِمّا تخطُّ يَدُ التاريخِ بالقلمِ

*

فَذَرْ خصومةَ مَنْ هَبّوا لِنَجْدَتِنا

واحْذرْ فجوراً وَحاذرْ زَلّةَ القَدَمِ

*

وادعوا لَهُمْ ربّكَ الأعلى مُؤازَرَةً

وأن يُسدّدَ صاروخاً غداةَ رُمي

*

ياصادقَ الوعدِ شِعري صادقٌ ويَدي

تومي تفسّرُ ما معنى دعاءِ فمي

*

عَظّوا النواجِذَ يا أعرابُ واختبئوا

بينَ الجحورِ بلا توقٍ إلى القِمَمِ

*

عبادةُ البُرْجِ في دُنيا الخليجِ هوىً

وفي الكِنانَةِ يعلو عابِدُ الهَرَمِ

*

لا تزعجوا عربَ الأقطارِ إذ رَقدوا

فالنفطُ ينبعُ من خمّارةِ الرِمَمِ

*

قد صامَ حاضرهم عن كلِّ منقبةٍ

صومَ الصحارى عَنِ الأمطارِ والدِيَمِ

*

داستْ مناقِبَكمْ أقدامُ قاتِلِكُمْ

حتى تَشوّهَ معنى الجودِ والكَرَمِ

*

فالمالُ يُغْدَقُ للخنزيرِ مكرُمةً

والجوعُ يُرْدي صِغاراً من ذوي الرَحِمِ

***

مصطفى علي

 

في نصوص اليوم