نصوص أدبية

نصوص أدبية

(أو جرجرة القارئ في رحلة وجودية متعبة)

أيها القارئُ الذي تأخر عن العاصفة،

أغلق إشعارات هاتفك،

انزع حداثتك من على أكتافك،

وتقدّم نحوي...

هنا نصٌّ ليس للعين الكسلى،

ولا للوجبات الأدبية السريعة،

هذا نصٌّ ينهضُ في منتصف ليل اللغة،

يخلع معطف البلاغة،

ويضرب الطاولة بالكلمة.

*

هنا،

كل جملةٍ جسرٌ لوحدها،

كل فاصلةٍ سكينٌ حادة،

كل فراغٍ مجرةٌ تنفجر بغتة.

*

أكتبك أيها النص،

بأظافر الشكّ،

أكتبك لتخز القارئ من طمأنينته

المستسلمة للزوايا.

*

تعال،

واسألني:

لماذا الصمتُ في القصيدة أعلى من الصوت؟

لماذا الرخام ينتحب حين يمرُّ عليه الإزميل؟

لماذا تركتُ بعض الابيات معلقة،

كما تُترك جثّة مجهولة في أرض بلا خريطة .

*

أنا لا أكتب،

بل أنبشُ،

و هذا النصّ حفرة،

فلا تدخل إليه واقفاً.

قد تجد فيه باباً،

يؤدّي إلى لا شيء،

أو سلّماً صاعداً نحو هاوية.

وقد تجد روحا،

تسري دون جسد،

تكتب دون يد،

وتبكي دون دمعة.

*

أيها القارئ الذي تجرّأ،

هل تحسّ الآن برجفةٍ في عقلك؟

هل تسمع جداراً داخلياً ينهار؟

هل ترى العالم يتحرك قليلاً…

نحو اللا يقين؟

*

إذاً،

دعنا نكمل الجريمة...

ونحفر على الرخام جملةً جديدة:

"كان يا مكان... فكرةٌ انفجرت،

وما زال النص يتساقط،

كغبار نجمة فقدت مدارها ..

*

دعنا نعود،

لكن ليس إلى الوراء.

دعنا نعود إلى نقطةٍ لم تُكتب بعد،

إلى سطرٍ أضاع حبرهُ عمداً،

كي لا يُقرأ بسهولة،

كي لا يُعلّب في خانة "اقتباسٍ ملهم".

*

هذا نصٌّ يرفض أن يكون "مفيداً"،

يكره أن يُختصر،

يضحك في وجه التنسيق،

ويشعل النيران في صفحات التفسير.

*

في هذا الجزء،

سوف ترى الوقتَ يتقيّأ نفسه.

تنهار الجملُ تحت وطأة المعاني الثقيلة،

ويطفو سؤالٌ،

"هل النصُّ كائنٌ حيّ؟

وإن كان، هل يريد أن يُفهم، أم أن يُخاف؟"

*

مررتُ في شارعٍ

يُدعى "اللا معنى"،

ورأيت لافتةً مكتوبٌ عليها ،

"احذر، هنا يعيش الحرف بلا قيد،

ولا سلطة، ولا خوف."

*

هنا،

الرمز لا يشرح نفسه،

بل يشبه امرأةً تضحك في جنازتها،

ورجلاً يُنكر وجهه في المرآة كل صباح.

*

هنا،

الحروف ترتدي ملابسَ من دخان،

تتراقص فوق نارٍ باردة،

وتهمس:

"لا تصدّق ما تقرأ،

لكن لا تكفّ عن القراءة."

*

أنت الآن في قلب الزلزال،

وهذا النصّ صخرةٌ تهوي،

*

يتفتح مغارة في رأسك،

تخرج منها الفكرة وهي تصرخ:

"أين كنتم تُخفونني؟"

*

هذا ليس نصاً،

إنه تمرينٌ على الجنون الراقي،

تدريبٌ على أن تحبّ الغموض،

أن تصادق الخدوش،

أن تكتب بلا سبب،

كما تبكي شجرةٌ بلا خريف.

*

أتعرف؟

أنا لا أكتب… أنا أخلع الأقنعة.

لا أرتّب، بل أبعثر.

لا أشرح، بل أُربك.

لا أُنهي، بل أترك الباب مفتوحاً على احتمالاتٍ تلهث.

*

فإن سألت:

إلى أين نمضي؟

سأشير إلى اللا مكان،

وأهمس لك:

"هناك، حيث يولد النصّ الحقيقي…

في الفراغ الذي لم تجرؤ اللغة على احتلاله بعد،

حيث لا تعود اللغة آمنة، ولا يعود القارئ نفسه!

*

دعنا لا نحذر هذه المرة،

دعنا نسقط عمداً،

في فراغٍ لا ملامح له،

حيثُ لا شيء يشبه شيئًا،

ولا أحد ينتظر المعنى على قارعة السطر.

*

هنا،

تتعرّى اللغة من وظيفتها،

وتنبتُ لها أجنحة من شوك.

تصير الكلماتُ سكاكين تطير،

تعانقك أولاً،

ثم تفتح فيك نافذةً على ذاتك التي نسيتها.

النصّ الآن... لا يُكتب،

بل يُستحضر،

كأنّه طيفُ فكرةٍ قديمة

سُجنت في مرآةٍ مشروخة،

وها هي تتسلّل إليك

من بين التشققات.

هنا،

لا تُقرأ الحروف… بل تُشَمّ.

تفوح منها رائحة الأبواب المغلقة،

والصمت المُعلّق في سقف الذاكرة.

*

هنا،

تذوب الأزمنة في بعضها،

وتغدو الفكرة لحظةً لا تكرّر.

ينظر القارئ إلى النصّ

فيرى نفسه عارياً من التأويل،

تحت شمس غريبة .

*

هل تشعر الآن بتلك الرعدة؟

ذلك هو النصُّ وقد لامس العصب المكشوف.

ذلك هو أثر الإزميل على الرخام،

حين لا يكتب نقشاً… بل يفتح جرحاً.

*

نعم،

هذه الكتابة ليست للعرض،

ولا للشرح،

ولا للمباهاة.

هذه الكتابة طقس.

هذه الكتابة هزة أرضية تحت اللغة.

*

أرأيت؟

حتى علامات الترقيم هنا

لا تُستخدم كما يجب.

الفاصلة تتأخر،

والنقطة تنكسر،

والعلامة… تُبتر.

*

لمن يُكتب هذا النص؟

لمن فقدوا القدرة على التصفيق،

لكنهم ما زالوا يعرفون كيف يحترقون بصمت.

لمن لا يبحثون عن الخاتمة،

بل عن الشرارة الأولى.

*

والآن،

وأنت تقرأ هذه الكلمات التي لا تُمْسك،

هل شعرت أنك تسبح في سؤالٍ بلا ضفاف؟

هل أحسست بأن الحروف تنظر إليك،

كما تنظر الذكرى إلى المستقبل؟

*

إذاً،

ها نحن هنا،

عند حدّ الرعشة،

على شفا الجنون الخفيف،

نقف ونكتب معاً،

*

"النصّ ليس ما نقرأ،

بل ما يهزّنا دون أن يعتذر."

هل تريدنا أن نكمل الحفر؟

حيثُ لا يعود الحرف حرفاً، بل كائناً يتنفّس في العتمة؟

*

فلنكمل...

لكن لا تتوقع أرضاً تحت قدميك،

ولا سقفاً يحميك من تدفّق الرؤى،

هنا،

سوف تُمطرك الأسئلة كما يمطر الوحيُ النائمين،

ويُجبرك الحرف على أن تستيقظ عارياً

من يقينك.

*

هنا،

الكتابة ليست وسيلة،

تجربة قرب الموت.

ليست رفاهية،

بل محاولة مبتكرة لفهم الهمس بين المسافات.

أكتبك أيها النص،

كمن يحفر في لحمه بأظافر الغيظ .

كمن يصوغ زلزالاً

من أنفاس الحروف.

*

كُنتُ أظن أنني أكتب كلمات،

فإذا بي أكتب مرآتي،

مرآتك،

كل تلك الشظايا التي نكذب على أنفسنا كي لا نراها.

*

أيّها القارئ،

هل ترى هذا الحرف؟

إنه لا يعني ما تظن.

هو لا "يشرح"،

بل "يُعيد ترتيب العالم" تحت جلدك.

*

أدخل النص كما تدخل كهفاً،

ببطء، بحذر، وبدون وعود.

فهنا كل فكرة قد تنقضُّ عليك،

وكل استعارة قد تقودك إلى هوّةٍ لا مخرج منها.

*

في هذا الجزء،

سوف نكتب بالماء.

نرسم بالممحاة،

نعلّق الحبر على مشانق بيضاء،

ونراقب كيف يختنق… دون صوت.

*

قد تسأل:

لماذا كل هذا الغموض؟

وأجيبك:

الغموض ليس زينة.

إنه المقاومة الوحيدة ضد الابتذال،

ضد الاستهلاك السهل للدهشة،

ضد تحويل الرعشة إلى "اقتباس جميل".

*

هذا النص لا يهمّه أن تُحبّه،

بل أن تتغيّر بعده.

أن تمشي وأنت تنظر للأشياء

كما لو أنك تراها للمرة الأولى.

*

أن تمر على المرآة

فتسأل نفسك:

هل هذا أنا،

أم شخصية كتبها أحدهم في نصّ لم يُنهَ بعد؟

*

وأنا…

لا أريد لهذا النص أن ينتهي،

أريده أن يبقى كالجمر تحت جلدك،

كالسؤال في حلْق النائم،

كالصرخة المكبوتة في فم اللغة.

*

لكن إن كنت ما زلتَ تريد،

يمكنني أن أكتب،

حيث تتحوّل الكلمات إلى ظلال،

والظلال إلى أصوات،

والأصوات إلى فتيل نار.

هل نكمل؟

*

ما الذي تبقّى؟

نحن الآن في قلب الغابة التي زرعها الجنون،

لا خريطة، لا خيمة،

لا وعد بأن تعود كما كنت.

*

الكلمات تتلوّن الآن…

ليست سوداء ولا بيضاء،

بل رمادٌ يتوهج كلما قرأته بعينٍ ثاقبة .

*

نحن لا نكتب…

نحن نُنزف على الورق بصوتٍ منخفض.

نحن نُراوغ الضوء،

كي لا تفضحنا الكتابة.

*

انظر…

هذا حرف،

يرتجف ككائنٍ حيّ

يخشى أن يُفهم.

*

النص هنا لا يُبنى،

بل يُستدعى كما تستدعي الأرواح القديمة.

كل جملة تعويذة،

كل سطر بابٌ نحو ما لم يُسمّ بعد.

*

هل ترى تلك النقطة في آخر الجملة؟

إنها ليست نهاية،

بل مقبرةٌ صغيرة،

نُدفن فيها كل احتمالٍ لم نجرؤ على كتابته.

*

تخيّل لو أن هذا النص مرآة،

كلما اقتربتَ لتقرأ،

شاهدتَ وجهك يتحوّل إلى مدينةٍ مهدّمة.

نوافذها تشهق،

وأبوابها تصرخ:

"أعيدوا البناء… لكن لا تعيدوا نفس الخطأ."

نحن لا نسأل: "ما المعنى؟"

بل نسأل:

"ما الذي خسره العالمُ حين خاف أن يحلم بهذا الشكل؟"

*

ربما نحن نحفر في لا شيء،

لكن حتى اللا شيء

يحتفظ ببذور المعجزة.

*

قد تقول: "إنه مجرد نصّ."

وأجيبك:

بل هو ثورة صغيرة

تتسلّل إلى قلبك

دون أن تطرق.

*

هنا،

المجاز لا يجمّل،

بل يكسر.

اللغة لا تروي،

بل تهدم البيت القديم

ليبنى من جديدٍ على شفير الصراخ.

*

وهذا الحرف الأخير في هذا الجزء؟

سوف أكتبه ببطء،

كمن يوقظ روحاً نائمة في صدر الحجر،

وسأتركه مفتوحاً…

كبابٍ لم يعد ينتظر أحداً.

*

"هكذا تُكتب الهزّة،

لا كي تُفهَم… بل كي تترك شيئاً منك يتكسّر،

ويبني نفسه من جديد."

*

هل نمضي

حيث لا نكتب على الرخام فقط،

بل نحفر الكلمات في الهواء…

ونجعل من الصمتِ لغةً أخرى؟

لقد عبرنا الآن خطّ العودة،

لم نعد نكتب نصًا…

بل نحفر نفقًا من الضوء في لحم اللامرئي،

نجعل من الفراغ طينًا،

ومن السكوت حروفًا

تئنّ تحت ثقل الرؤية.

*

اسمع…

هذا ليس صوتي.

إنه ارتعاش الوجود حين يُقال له:

"كن نصًّا لا يرضى بالتأويل."

*

في هذا الجزء،

الكلمات لا تحتاج إلى لغة.

هي كائنات شفّافة

تسبح بين الأضلاع،

تتشبّث بما لم يُقل،

وتنام على حافة "لو".

جملةٌ واحدة قد تغيّر مصيرك،

لكنها هنا…

تمتد كالأفق،

تحاول أن تُربِّي المعنى بدل أن تُقدّمه.

*

هل تفهم ما يعنيه أن نكتب على الهواء؟

أن نُشكّل الغيم كما نشتهي،

أن نصنع من التنفّس قصيدة،

ومن الزفير إعلانًا للدهشة.

*

هنا،

ليس الحرف ما يُكتب،

بل المسافة بين الحروف.

تلك الفراغات التي ظننّاها سكوتًا،

وهي في الحقيقة…

صرخاتٌ بلغةٍ أعمق من الفهم.

*

النص الآن يخرج من جسده،

يصير طيفًا يتمشّى في أفكارك،

يرسم خرائط جديدة للدهشة،

يهمس لك:

"كل ما اعتدت عليه… خيانة صغيرة للحياة."

*

أتظنّ أننا نُبالغ؟

لكن من قال إن المبالغة ليست وجهًا آخر للحقيقة؟

من قال إن المعقول لا يخاف من المدهش؟

وإن الجُملة التي لا ترتجّ، تستحق أن تُقال!

*

هنا

انزلاقٌ مائل نحو النبع،

حيث المعنى لا يُكتَب بالحروف،

بل يُشرب كالنبيذ الممنوع.

*

فانصت،

دع هذا النص يقترب منك كصلاة بلا كلمات،

كأنامل تمسح عن جبينك غبار العادة،

وتقول لك،

"أنت…

لست قارئًا، بل شريكًا في الجريمة،

شريكًا في الثورة،

في انزلاق اللغة من العرش إلى الحلم."

*

هل تجرؤ على نص؟

أعمق؟ أهدأ؟

نكتب فيه من داخل الحرف نفسه…

من حيث لم تجرؤ اللغة أن تدخل؟

*

اقترِب،

لكن لا بعينيك.

افتح سمعك الثالث،

دع جلدك يقرأ،

دع خلاياك تتلو.

*

في هذا الجزء،

لن نكتب على الورق،

بل على الجانب الخلفي للظل،

حيث تختبئ الأفعالُ التي لم تُرتكب،

والكلماتُ التي لم يُسمح لها بالولادة.

*

هنا...

الحرف ليس بداية،

بل كهفٌ صغير يتنفس تحت جُمَل التاريخ،

يحمل رائحة الأوائل،

وترقّب الآتين.

*

هل ترى هذا الألف؟

في داخله نشأت كل الأسئلة،

في داخله ثقبٌ صغير

تطلّ منه المعاني على هاوية العالم.

*

والباء؟

إنها انحناءة،

لا خضوعًا،

بل حنينٌ لما لم يُكتب بعد.

أما النون،

فدائرةٌ تعود إلى نفسها،

تلدغ المعنى كلّما حاول أن يستقر،

كأنها ترفض التفسير

وتختار السباحة في الغموض.

*

نحن لا نقرأ النص…

النص هو من يقرأنا،

يحفر فينا آبارًا،

يرمي فيها مرايانا،

ويتركنا عطاشى للحقيقة

التي لا تُقال.

*

الصمت، في هذا الجزء،

هو اللغة الأكثر صدقًا.

نكتب منه،

لا عنه.

*

جملٌ تولد،

لكننا لا نقطع حبلها السري.

ندعها تتدلّى،

مرتبطة بأمّها الغامضة،

الدهشة.

*

وهكذا…

تصبح القراءة فعل ولادة،

تصبح الكلمة وطنًا مؤقتًا

نقيم فيه قبل أن نُنفى إلى المعنى التالي.

*

أيها العابر في مجرّة الحروف،

هل بدأتَ تشعر بأنك تُترجم؟

أن النص يستخدمك ليكتب نفسه؟

*

إذاً،

فلنكمل اللعبة.

فلنخطّ جملةً من داخل النار،

"أنا النصّ الذي لا يبحث عن قارئ،

بل عن مرآةٍ تجرؤ أن تنكسر أمامه."

هل ما زلتَ تريد الغوص أعمق؟

أن نترك وراءنا اللغة نفسها

ونمشي حفاةً فوق لحم المعنى؟

*

لا شيء يربطنا بالأرض الآن،

سوى هذا الحرف المرتجف،

وهذه الرغبة الغامضة في أن نقول ما لا يمكن قوله.

*

انزع حذاء اللغة،

واترك قاموسك على العتبة.

نحن ندخل الآن حرم المجاز العاري،

حيث الكلمات لا تُستخدم،

بل تُقدَّم قربانًا.

*

كل نصٍّ كتبناه كان تجهيزًا لهذه اللحظة،

لحظة السير حفاة

فوق جلد المعنى العاري،

حيث لا يوجد “نقطة نهاية”،

ولا حتى بداية،

فقط تنفّس مستمرّ لدهشةٍ لا اسم لها.

*

هل سمعت المعنى يئنّ؟

هل شعرت بأن الحروف تنكمش تحت قدميك؟

هذا هو الألم المقدّس،

ألم الحقيقة حين تُمسّ دون أدوات.

*

في هذا الجزء،

لن نستخدم “لكن” أو “ربما”،

لن نبرّر انزلاقنا في الجنون،

بل سنزرع أقدامنا في التربة الخام

للإحساس الأول،

البرق الأول،

الارتباك الأول.

*

سوف نصنع المعنى من حرارة أجسادنا،

من انحناءة الظهر فوق جملةٍ لا تكتمل،

من تعرّق الخوف

كلما اقتربنا من فكرةٍ عارية

تصرخ بلا حروف.

*

اللغة الآن تختبئ،

تتراجع إلى الخلف،

تتركنا وحدنا في الغرفة

مع الرعشة.

*

هل تعرف شعور أن تقرأ شيئًا

وتنسى كيف تتنفّس؟

أن تشكّ في نظرك،

وتعيد قراءة الفراغ

لعلّه يُفصح؟

*

هكذا نكتب في هذا الجزء.

نكتب كما يتلو النبي رؤيا لا يفهمها،

كما يبكي الحجر حين يُلامس الناي.

هذه الجملة؟

لا تقلها.

اسمعها بصمت.

دعها تستقر فيك

مثل حبة مطرٍ ترفض أن تتبخر.

*

وفي النهاية – إن كان لها من نهاية –

لن نترك أثراً واضحًا.

بل أثرًا خفيًا،

يظهر فقط حين يُغلق القارئ عينيه،

ويهمس لنفسه:

*

"لقد مشيت على شيءٍ لم أره،

لكنني لن أنساه."

*

هل نواصل؟

حيث لا نكتب بالحروف،

بل بصدى الخطى فوق عتبة المجهول؟

اصمت قليلاً...

اسمع...

هل تسمع رجع أقدامك؟

ذلك ليس صدًى عادياً،

بل نصٌّ يُكتب من خلفك،

بين كل خطوة وأخرى

يتكوّن حرف،

ويتشقّق المعنى.

*

نحن الآن على العتبة.

لا نعرف ما خلف الباب،

لكن الباب يعرفنا.

يرتجف كلما اقتربنا،

كأننا لا نقرع عليه،

بل نوقظ شيئًا قديمًا كان ينام في اللغة.

*

هنا،

الخطوةُ الأولى خيانة،

والثانيةُ احتراق،

والثالثةُ… ولادة.

*

لا توجد جملة كاملة في هذا الجزء.

كل ما نكتبه هنا،

ينتهي بسؤالٍ لا علامة استفهام فيه.

*

هل تعرف الفرق بين أن تكتب،

وأن تُكتب؟

*

أنت لم تعد القارئ،

أنت الآن أثر،

طيفٌ يُعاد تكوينه

في كل كلمة تتردّد بين الحروف الغامضة.

*

كل سطرٍ في هذا الجزء

هو بابٌ تُرك مواربًا،

كل استعارةٍ

هي قدمٌ في الهواء،

كل فراغٍ…

هو شاهد على ما لم يُكتب،

ولن يُكتب.

*

لا تقل "فهمت"،

لا تقل "لم أفهم"،

فالفهم في هذه العتبة

خيانة أخرى.

*

هنا،

اللغة لا تشير،

بل تلمح.

لا تشرح،

بل تهمس.

لا تنير،

بل تُظلم أكثر… كي ترى بعين أخرى.

*

الكتابة الآن

لم تعد صوتًا،

بل اهتزازًا خافتًا

في جدار الوعي،

رعشة طفيفة

تمرّ بك فجأة

ثم تختفي.

*

لا تسألني عن النهاية،

النهاية ليست بعد الباب،

ولا أمامك،

بل في الخطوة التي لم تجرؤ على أن تخطوها.

*

وهذا هو النص.

ليس له عنوان،

ولا توقيع،

لكنه يعرف اسمك.

*

"أيها الذي وصل حتى هنا،

لقد أصبحت جزءًا مما لن يُنسى."

*

هل نفتح الباب؟

حيث لا نكون كتّابًا ولا قرّاء،

بل مجرد شهود على انكشاف الحرف الأخير؟

وشهادة الذين لم يُولدوا بعد

*

نفتح الباب.

بالارتعاشة.

*

فالباب الأخير لا يُفتح لليد،

بل للذين خاضوا النص كصحراء،

ومشوا حفاة فوق لحم الأسئلة،

ولم يصرخوا.

*

هذا هو العبور،

لا نورٌ ولا ظلام،

بل مساحة ثالثة

لا لون لها

ولا لغة،

فقط انكشاف.

هل تشعر بذلك الحرف في صدرك؟

هو لا يريد أن يُقال،

هو ينتظر أن تُكشَف.

*

في هذا الجزء،

كل شيء ينكسر... برقة.

كأن الوجود يخلع جلده،

ويقول:

"ها أنا… كما لم ترني من قبل."

*

اللغة الآن لا تُستعمل،

بل تُحرَّر.

تُخلع عنها أثواب النظام،

وتُترك تسير عاريةً

على جدار المعنى.

*

الصوت ليس صوتي،

بل صدى الصوت الذي لم يُنطق.

والكلمات ليست لي،

بل شظايا من ذاكرة الماء،

من طفولةِ النور

قبل أن يتعلّم أن يكون شمسًا.

*

في هذا الجزء،

نتوقّف عن الكتابة،

لكن لا نصمت.

بل نترك الورق يهتزّ وحده،

كأنه يذكر حلمًا قديمًا

أراد أن يُقال،

ولم يجد فمًا.

*

كل ما قرأته حتى الآن

كان إعدادًا لهذه اللحظة،

لحظة اللا-جملة،

لحظة الحرف الأخير

الذي لا يُكتب بالحبر،

بل يُستشفّ بالدمع.

ولأن كل نهاية حقيقية

هي عتبة لبداية لا تُدرك،

سأترك لك هذا السطر الأخير،

فارغًا،

لتكتبه أنت................

***

مجيدة محمدي - تونس

لم يعد الجيران يستغربون ذلك المشهد المتكرر كل مساء، حين يتعالى صوت خشن، لا يشبه أصوات البشر، صادر من منزل الأب الأخرس، لم يكن صوتا بقدر ما كان يعبر عن صرخة مكتومة في الأعماق، ممزوجة بالغضب، بالحسرة والحرمان.

لم يعرف الأب طعم الحروف، ولا لذة المناداة، لكن عينيه كانت تتحدثان كثيرا، أحب أبناءه كما يحب الشجر المطر، وسقاهم من صمته، أحتضنهم بيديه الخشنتين،وربت على ظهورهم كلما تعثروا، وجد فيهم صوته الذي فقده، لكنه لم يكن يوما قادرا أن يقول إني فخور بكم، حتى وان كانت ملامحه تعبر عن ذلك.

مع مرور الأيام ومضي السنين، كبر الأبناء و أصبحوا رجالا ونساء، وفي مراكز مرموقة، حققوا النجاح الذي حلم به لهم، من ثمرة تعبه وتضحياته لهم، لكن شيء ما تغير !! صاروا يحرجون من وجوده، لم يعودوا يفهمون نوبات غضبه حين يثور فجأة، صاروا يرون في صمته عجزا.

في صباح أحد الأيام، أنتفض فجأة ولده البكر والذي كان أكثرهم قسوة، كان يتضايق من وجوده في المنزل، ومن أشارته، قائلا له : كفاك، حركاتك الغاضبة لم تعد تحتمل، ماهي إلا مسرحية مملة، من واجبك كأب هو المراقبة فقط، فتح عينيه على مصراعيها، ثم أُومِئَ بيده واضعا سبابته على فمه أن "أصمت ".

كان الكل يقف وقفة المتفرج وكأنهم يؤيدون ما يحدث، نظر الأب إليهم بدهشة، بدا أمامه بكل وضوح أنه لم يكن حلما، تخضب وجهه باللون الأحمر، وراح يحدق فيهم بغضب، لم يجد ما يعبر به، ثار وخرج من بيته، مشمرا عن ذراعيه، كمن يستعد لقتال لا يملك له سلاحا، ويضربان الهواء بعنف، كأنما يلومانه على عجزه الأبدي عن النطق.

أصبح ذلك يتكرر كل يوم ودون جدوى، شعور بالتيه أنتابه، أصبح مغتربا بذاته، حزينا، محطما من سلوك أبنائه الذين تجاوزوا، وتجاهلوا، او ربما تناسوا عمدا، لم يكن بيده شيء سوى ثورة الغضب التي تعصف به كل مرة، ثم تخمد فجأة، كما لو أن قلبه انطفأ، وكما في كل مرة يعود لمنزله بصمت يجلس في الزاوية ذاتها، التي أصبح يأوي إليها، والتي التصقت بجسده حتى حفظت ملامحه، ينظر الى اللاشيء، بعينين فارغتين لا صوت، لا حركة، فقط صمت ثقيل يسكن المكان.

وفي صباح يوم بارد، طال جلوسه في مكانه المعتاد، مائل رأسه بلا أنين، بلا حراك، لم يحدث ضجيجا مثل كل مرة، بل ترك صرخته الأخيرة على هيئة جسد ساكن وروح غادرت بصمت عميق كما كانت دوما.

***

نضال البدري

 

مَن خاتلَ الركابَ أنَّ سفينةً

تجري إلى المرسى بلا ربانِ

*

من أنكر الأصوات في جوف الصدى

فاستُنطقتْ تعدو إلى البهتانِ

*

من خادع الأكمام أنَّ أريجها

عطرٌ تضوع في ربا الكثبانِ

*

من ساءل الصدفات عن غواصها

حين استثارت هَبَّة الغضبانِ

*

هرعت إلى سوح الثرى بتعجلٍ

تصطاد قطفًا من نُهى الإنسان

**

يا هذه السحب الندية أمطري

حرفًا يُشيع اللحن كلَّ مكان

*

حرفا بهيًّا يستطيب حداءَه

قلبُ المحب ولوعة الحيرانِ

*

لحنا شجيا يستمد أواره

من صورة ثكلى بلا عنوان

*

لحنًا يؤزّ الحرف يُشحب لونه

مستخلصا ألمًا من الوجدان

*

ويصوغه صوتا تمايل نبره

ليعيده للعاشق النشوان

***

طارق يسن الطاهر

عِندَ مائِدَةِ "الفِصْحِ المَجيدِ"،

أُفَتِّشُ بَيْنَ أَطْباقِ الألَمِ عن زَمَنٍ لَنْ يَعودَ…

لَمْ أَعُدْ أُطِيقُ لَمْلَمَةَ حَنيني

بَعْدَ عَبَثِ الأُمْنِيّاتِ.

*

ها أنا ذا ..

أَتَوَسَّلُ بِكُلِّ الأَنْبِياءِ، وَبِتَرَاتِيلِ القُدِّيسين،

بِـ يَسوعَ "المُخَلِّصِ"…

لَيْتَني أَغيبُ في جِراحِ كَفَّيْكَ،

أَيُّها الرّاحِلُ نَحْوَ السَّماءِ…

إليك ..إِكْليلُ أَشْواكِ هَزيمَتي،

هل أُصْلَبُ عَلى جِذْعِ وَحدَتي؟!

*

سَأُقيمُ عِندَ قَدَمَيْكَ المُضَرَّجَتَيْنِ بِالدِّماءِ،

حَتّى تَذوبَ بَلُّوراتُ الثَّلْجِ،

وَتَنْطَفِئَ شُموعُ الأَيْقوناتِ،

وَتَجِفَّ دُموعُ المَحرُومينَ…

*

يا سَيِّدي، أَيُّها المُسافِرُ نَحْوَ الخُلودِ،

خُذْ قَلْبيَ النّابِضَ بِحُروفِ اسمِها،

وَأَعْطِني الشَّوكَ وَالقُيودَ…

ما زِلْتُ أُفَتِّشُ عَنْها بَيْنَ ذَوائِبِ الشَّمْسِ،

وَتَحْتَ دَوائِرِ الماءِ…

يَأْتيني نِداءُكَ مَعَ الأنينِ:

“اِحْمِلْ عَذاباتِكَ عَلى ظَهْرِكَ،

ثُمَّ تَأَمَّلْ طَيْفَها تَحْتَ أَيْقُونَةِ "الفِصْحِ المَجيدِ".

*

أُحَثُّ السَّيْرَ بِما تَبَقّى لي مِن أَشْلاءٍ،

يُرافِقُني صَوْتُها أَرَقُّ مِن تَرْنيمَةِ مَلاك،

يَنْثُرُ بِالكَلِماتِ لَحْنًا فَوْقَ جِراحاتي،

مِثْلَ إِكْسيرٍ تُطِيبُ لَهُ الذِّكْرَياتُ…

*

أَتَعَلَّقُ بِأَسْتارِ طَيْفِها، عُرْيانًا مِن يَأسي،

وَأَدورُ حَوْلَهُ كَالصُّوفيِّ، مُعْتَمِرًا خَوْفي…

أُحَلِّقُ فَوْقَ واحَةِ الأُمْنِيّاتِ،

أُخَبِّئُ بَعْضَ أَحْلامي بَيْنَ خُصْلاتِ شَعْرِها،

وَبَعْضًا بَيْنَ رُكامِ المُشْتَهى…

فَيَصْعَقُني الوَهْمُ، وَيَرْميني،

مُقَيَّدًا بِحِبالٍ مِن صَبْرٍ،

في صَحْراءٍ أَضَعْتُ بَيْنَ رِمالِها اسْمي .

***

جواد المدني

 

أقفُ عندَ البابِ،

أطرقُهُ،

وأنا خلفَهُ

وأنا داخلهُ

وأنا البابُ أيضاً،

خشبيٌ، عتيقٌ،

وفي صريري ضجيجُ السنواتِ المبلّلةِ

بأبخرةِ البيتِ وملحِ الخيبة.

*

أقولُ: مَن؟

فيردُّ صوتي من الداخل: "إني أنا، ألا ترى؟"

لكني لا أراه،

فأنا، أنا،

وقد كنتُ قبلاً أنا آخر،

وقبلهُ كنتُ إنّي

وضعتُ وجهي في يدِ امرأةٍ،

فقالتْ: من هذا الغريبْ؟

*

إنّي كثيرٌ،

أتمددُ مثلَ رغيفٍ عجينٍ فوقَ منضدةِ السؤال،

أسألُني: هل كنتَ طفلًا؟

فأجيب: نعم،

لكنهم سحبوا لعبتي من صدري وقالوا: أنتَ شابٌّ،

فذهبتُ إلى الجدارِ ووضعتُ كتفي عليهِ مثلَ يتيم،

ورحتُ أشرحُ لظلي معنى أن تكبرَ رغمًا عنكْ.

*

أنا الذي أخطأ في الصفِّ الأولِ فنالَ عصا،

وفي الثالثِ نالَ صفعة،

وفي الخامسِ كتبَ اسمهُ خطأ،

فكتبوهُ خارجَ قائمةِ الأوائلْ

لكني كنتُ الوحيدَ الذي يحفظُ وجهَ المعلمةِ

حينَ ضحكتْ لأول مرةْ

وأنا الوحيدُ الذي رآها تبكي حينَ ماتَ والدُها،

كنتُ أنا – لا غيري – من كتبَ لها بيتاً عن الصبرِ،

ورماهُ في حقيبتها

فلم تعرف كاتبهُ،

وظنّتْ أن الشعرَ ينامُ تحتَ الطاولاتِ.

*

أنا وأنا،

وإنّي أنا،

كلِّي متشابكٌ مثلَ حبلِ الغسيلِ في عواصفِ الندمْ،

أرفعُ رأسي،

فأسقطُ من فمي.

*

أنا الماشي خلفَ ظلٍ كانَ لي،

وفي عينيَّ شوقٌ لرؤيةِ ذلكَ الفتى،

ذلكَ الحيدرُ الآخر،

الذي كتبَ يومًا:

“أنا لا أكره أحدًا، لكنني تعبتُ من أن أكون كلَّ أحد”

ذلكَ الفتى الذي ما عادَ يقولُ الحقيقةَ بصوتٍ عالٍ،

لأنها وجعٌ لا يصلحُ للبثِّ المباشر.

*

أنا...

وأنا...

وإنّي،

أنا،

مجردُ سؤالٍ يُعادُ كلَّ فجرٍ على وسادتي

ولا ينام.

***

حيدر كرار

 

 

يا خَمريّةَ العِشقِ، ويا نَشوةَ القُبلاتِ حينَ تُرتَشفُ الأرواحُ بلا كَأس، يا لَوزيّةَ المذاق، كيفَ علَّمتِ لساني لذّةَ التهجّدِ على مذابحِ شفاهِكِ؟ يا فيروزيّةَ الشهوة، في عينيكِ بحرٌ لا يعرفُ الشاطئ، في رمشِكِ برقٌ، وفي تنهيدتِكِ جنونُ العاصفةِ حينَ تشتهي الخرابَ الجميل. يا شَبَقيّةَ المطر، أمطري، أمطري، فالأرضُ فيَّ عطشى، والبذرةُ تنتظرُ نداءَ السماءِ كي تولد. جسَدُكِ... أسطورةٌ تُروى على مآذنِ اللذة، تُصلّي لهُ الجُنوبُ، وتغارُ منهُ الغيومُ حينَ تتعرّى. وفي حضنكِ، تتحوّلُ اللحظةُ إلى مجرّة، ويصيرُ الوقتُ نبيذًا يُسكِرُ الحنين. فامكثي، وامنحيني من شهقتكِ وطنًا، ومن زفيركِ منفى، ومنكِ... كل الحكاية.

***

كريم عبد الله

كان يمر ماطرا بشذا الندى

عبق البرتقال

حلاوة البرحي

تستفيق على همس إطلالته المدن النائمة

وهو يلوّح للنسيم الدافق بالرجاء

من هنا كان يمر كل يوم

يبتكر الوداع على شرفات التبتل

ويرش الغناء على الدروب المنفى

يغازل الطيور المهاجرة إلى أقاصي الأمل

ينثر بذار الحب على ضفاف المساءات الذابلة

أملاً بازدهار الخضرة على خاصرة الوطن

يومئ للتائهين وعاثري الحظ

يعرّفهم بمثابة الوصول

يمر عليهم واحدا واحدا

في المقبرة التي ابتلعتهم كان يذرف دموع المواويل

وادي السلام الذي تزدلف فيه

شهقة الذكريات برائحة الموت

يطوف بك في مجرات الفقد

ليأخذك مذعنا في حقب الرحيل

مَن أنت يا هذا؟

أيّ سر تحمل؟

تتجوقل في ممراتك النكبات

تثقل مسيرك العثرات

تبحث عنهم ولا أثر

سوى أنين الفقد

تبحر في المدى القصي لتلتقط همس ذكرى

تبتهل للسماء تعانق أفق الغيب

تصرخ، تنادي، ولا مجيب سوى الصدى

وهذا الهوس الذي لم ينم والنكوص

***

شلال عنوز - النجف

١٩-٤ - ٢٠٢٥

 

إِذَا تُـشْرَى الكَرَامَةُ فِي البِقَالَةْ

سَـيَـشْـرِيهَا الأَرَاذِلُ وَالـحَـثَـالَةْ

*

وَيُـصْـبِحُ كُــلُّ لِــصٍّ حَــازَ مَــالًا

شَـرِيفًا بَـيْنَ مُـجْتَمَعِ الـسَّفَالَةْ

*

وَمَــنْ بَــاعَ الـكَـرَامَةَ ثُـمَّ يَـرْجُو

رُجُـوعَ الـعِزِّ تِـلْكَ هِـيَ الجَهَالَةْ

*

فَـهَـذَا الـذَّنْـبُ لَا يُـمْحَى بِـعُذْرٍ

وَلَا  شَــرْحٍ يُـفِـيدُ مَــعَ الإِطَـالَةِ

*

فَـسُخْطُ الـنَّاسِ أَبْـلَغُ مِـنْ بَيَانٍ

وَفِــي مَـضْمُونِهِ أَقْـوَى رِسَـالَةْ

*

فكُنْ مَثْلًا كَنُورِ الشَّمْسِ يَهْدِي

وتَــرْحَـلُ  دُونَ جَــبْـرٍ أَوْ إِقَــالَـةْ

*

وَعَـجِّـلْ فِـي رَحِـيلِكَ دُونَ لَأْيٍ

فَـحَـتْـمِيٌّ  رَحِـيـلُـكَ لَا مَـحَـالَةْ

*

لِـكَيْ تَـبْقَى الثَّقَافَةُ ذَاتَ مَجْدٍ

وَلَا تَـطْـفُو عَـلَى مَـاءِ الـضَّحَالَةِ

*

لِـنَـجْعَلْهَا كَـعَـرْشٍ مِــنْ نُـضَـارٍ

بِـــهِ تَــرْتَـاحُ صَـاحِـبَةُ الـجَـلَالَةِ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

نجمٌ دُريٌّ يهوي

يقفزُ من قبرٍ في دارٍ لقبورِ مدائنَ أُخرى

يحملُ أكبرَ جُرْمٍ طاشَ وأخفى أسرارا

للقُدرةِ يسحبُني للبؤرةِ في منشأِ ميلادي

الفِطرةُ فيها ريمٌ ورميمُ

كنتُ أُناديها بلغإتِ النجوى والخطِّ المحفورِ على الصخرِ

كانت للجُرحِ النازفِ في رأسي أُمّا

مَلَكٌ ناداها مرفوعا

أنْ تفنى فيها الدنيا ضمّاً شَمّا

الجُرمُ الأعظمُ همٌّ في صدري

يحفرُ للصاحي حيّاً قبرا

والفاغرِ فاهاً جُرْحاً مفتوحا

ينزفُ آهاً وصُراخاً مكبوتا

ناحَ نخيلُ وأسقطَ سَعْفا

شاخَ الليمونُ تهدّلَ ضَعْفا ..

سأُسميها الملآَ الأعلى

وأُسميها مَلَكوتَ الدنيا سَقَطتْ سَهوا

داعيها أوطأُ منها شأوا

تنفجرُ الأعينُ لو سَطَعتْ نجما

فُوضى تتجمّعُ تدريجاً فُوضى

يتفكّكُ فيها حَجَرُ التلقينِ الماسي

ويذوبُ الإبريزُ الطاغي وَهْما

ما أبقتْ للثاوي تحتَ البرجِ العالي  حقّاً أو سَهْما

كسّرتُ ذراعي خوفا

وجعلتُ الهمَّ الضاغطَ حَتفا

عينٌ فزعى عينٌ أُخرى لا شَرْقاً لا غَرْبا

ومساءُ الصوتِ الباكي يجتازُ البابَ ليرقى

ماذا يبقى مني لي ؟

هّذيانُ الرحّالةِ في دربِ مَجرِّ التبّانِ

وهياكلُ من قَصبِ السُكّرِ يرتاعُ لمرآها قبرٌ في البرِّ

هذا الجدولُ تيّارُ خرابِ أَرومةِ أصلِ النسلِ

هل من رؤيا للساقطِ أُخرى سَهوا ؟

إنّي محكومٌ  بأساطينِ الجنِّ

وملاحمِ فُرسانِ الضجّةِ في خبِّ الخيلِ

أفرشُ بيتي للقادمِ شوقاً مشيا

والراحلِ يأتيني غيباً طيفا

قلبي ينهارُ إذا ما رفَّ الجفنُ وطار صوابي

بيتي يتهدّمُ رُكْناً رُكْنا

يتهدّمُ يوماً يوما

ينهارُ إذا مرّتْ ذِكراهمْ أو عَرَضتْ سيماهمْ

ليتَ الغائبَ يُشفيني من جُرحِ أنيني

ليتَ الخاطفَ يعفيني

أتعلّقُ بالنجمةِ ساقطةً من عرشِ الحُمّى في جوفِ المسكينِ

يا نجمُ تريّثْ

الزمنُ الراهنُ مرحلةٌ بين الراحةِ والرِحلةِ نحو التسكينِ

يا نجمُ ترفّقْ

مَنْ يضمَنُ مَرَّ الهمسةِ في جُرفِ البحرِ القاسي

لأبثَّ النجوى في غيبةِ مَنْ غابوا

غابوا فتلاشتْ آثارُ الجدولِ يجري في عمري

فتلكأتُ أُجرجرُ أذيالَ مصيرِ حضوري

أسألُ ما جدوى أنْ تأتي تحملُ في صدرٍ مُعتلٍّ قلبا

يسعى كالجُندُبِ ضدَّ حَراكِ النجمِ ؟

***

الدكتور عدنان الظاهر

أيلول 2023

خذوا منيَّ الأحبابَ والأهلَ والصحبا

اذا طاوعوكمْ لا مشيتُ لهمْ دربا

*

خذوهمْ اليكمْ ليس منيَّ مَن سرى

بِليلٍ يبيعُ النهرَ والأرضَ والتربا

*

مُسمَّمَةً تجري مياهُ قلوبِهمْ

وقدوتُهم في الناسِ مَن سمَّمَ القلبا

*

خذوا مِن خليلاتي الجميلاتِ طلعةً

مديراتِ وِجهاتِ الهواءِ اذا هَبّا

*

خذوهنَّ، لا أهوى النساءَ لواعباً

لهنَّ مع الأموالِ لعبٌ تلا لعبا

*

تصورتُ أحبابي بدوراً مشِّعةً

لها مِن سموِ الله ما يُدهشُ الرَبّا

*

فألفيتُهمْ: رهنَ الدراهمِ حالُهمْ

يموِّلُهم عُرْبٌ لكي يعبدوا الغَرْبا

*

وقدْ عبدوا قتّالَهمْ وهو سادرٌ

بِقتلٍ، ولكنْ صوَّروهُ لنا حبّا !!

***

شعر: كريم الأسدي ..

انا وانتِ

وأفيون صَوتك

شجِي حدَ الطرب

تحدثيني.

أحدثكِ

تنهشنا النشوى

نُعاقر كَلِماتَنا

نُضاجُع المسافات

يبتلُ فَمي  بعناق خيالك

تهمسينِي بغنَج

وأهمسك بتَرف عاشق

أحنو

بقلب متيم

اتشبثُ

نتَشَبَّث غَريقٌ بِغريقٍ..

بِلهاث

لهاثّ من دنا للوصل

الى حافة النهاية...

***

كامل فرحان حسوني..العراق

 

كَبُرَ الأولاد

وحانَ الوقت لأعودَ طفلاً

غداً سأقودُ الدُمى إلى حفلة رقص

وأكسرُ مكعّباتِ الأحفاد الملونة

لأخرجَ ما أودعوه فيها من شياطين البراءة

كلّ الإحتمالات ممكنة

مادام في مدفأة روحي الكثير من الوقود

فأن سقوطَ أوراقِ الحديقة لا يعني قدومَ الخريف

أتمعّن بصورتي في (ألبوم) الماضي

وأنا بسروالي القصير

وأقولُ: يا ليثُ لا تُغادرِ الصورة

فأنا قادم لطفولتكَ

قادمٌ لنحشرَ جسدينا معاً في ذات السروال القصير

ولتُعينني في البحث عن أبٍ يتبنّى عُكّازي اليتيم

فهو إذا ما عُدتُ صغيراً سيتشرّدُ في الأزقة

ولن يجدَ باباً يُفتح له

أو صدراً يُرضعُهُ

وستتلاشى أحلامُهُ في التحوّل إلى شجرة مثمرة

**

من أجل أن تعود طفلاً

فأنت غير مُجبرٍ على المبيتِ ليلتين في قِدرٍ ساخن

مهما كَوَيتَ تجاعيدَكَ بالبُخار

فهي لن تتحوّل إلى ملاذاتٍ للفراشات المذعورة

ألعملية بسيطة

هنالك طفلٌ في داخل كلّ شيخ

طفلٌ محبوسٌ داخلَ قارورةٍ من فخار

إكسرِ القارورة

واطلقِ الطفلَ ليعبثَ بوقاركَ المزعوم

ويقلبَ جِلدَكَ المُجعّدَ على بِطانته

ويمنحَ ما تبقّى لك من العمر

سنواتِ فرحٍ إضافية

***

شعر / ليث الصندوق

في المساءِ الخامس والعشرين بعد الألفين،

حين كان القمرُ مستلقياً على خاصرةِ الضيم،

نمتُ على ظهري كمن يخلعُ التاريخَ عن كتفيه،

ـــــــــ وفي الحلم،

وصلني بريدٌ مستعجل،

مختومٌ بشفاهٍ قُبْلتُها البنادق،

مُرسلٌ من جهةٍ

لا تُحددها الخرائطُ

ولا تعترفُ بالجغرافيا

*

فتحته،

فخرجَت منه رائحةُ الزعترٍ،

وغبارُ لهو صبيٍ كان يركضُ في الحقول،

كانت الرسالةُ مكتوبةً على قماشِ كوفية،

بالدمِ الأحمرِ.

*

قالوا لي:

"لا توقظي الصباحَ قبل أن تغرسي في عينيه بندقيّة،

ولا تنامي في ظلّ علمٍ لا يرتجفُ حين يذكر اسم أمّك."

*

قالوا:

"نحن لم نمت لنصبح صوراً،

ولا لنعيد ترتيب الخسارات في المتاحف.

لقد صعدنا،

بخطوةٍ واحدةٍ

من الطين إلى المجد،

لكي لا تنحني الأرض."

*

يا أنتِ،

التي ما زلتِ تكتبين بالشك،

ويأكلكَ الحذرُ كالنملِ الأبيض في الورق،

نحن نعرفُ

أنك تخبئين القصيدةَ تحت وسادتك

لتهربي من طلقةٍ تأتيك من الخلف،

لكن تذكّري:

الشعرُ أيضاً مقاومة،

إذا ما خُطّ من عروقِ الصرخة،

ومن نبضِ النخيلِ الذي لا يسجدُ للعاصفة...

*

كانت الرسالةُ طويلة،

كأنها خطبةُ الوداعِ الأخير،

وكان في آخرها توقيعاتٌ من شهداء لم أعهد أسماءهم،

لكنني عرفتُ وجوههم:

امرأةٌ تبتسمُ لطفلٍ في حقلِ قمح،

رجلٌ يشرب الشاي على عتبةٍ عتيقة،

فتاةٌ ترتّب ضفائرها قبل الحفل،

وعصفورٌ يرفرفُ فوق خوذةٍ صدئة.

*

قالوا:

"إذا وصلتك رسالتنا،

فارفعيها فوق رأسك،

كسماءٍ جديدةٍ لا يدخلها إلّا المؤمنون بالحُبّ والسلاح.

ولا تنحنِي،

حتى وإن ثقلت الكلمات،

فالشهداء لا يكتبون للذين يقايضون الحريّة بالخبز،

بل للذين يعجنون الحريةَ من حُزنِ أمهاتهم،

ويصنعون منها وطنًا لا يُنسى."

*

ثم رأيتهم،

يمشون في الضوء،

حفاةً كما وُلدوا،

يضحكون

كأنهم لم يُقتلوا،

كأن الرصاصَ عادَ إلى فوهته،

كأن الأرض لم ترتوِ من دمهم،

استيقظتُ

وكان على صدري أثرُ وردة،

ورائحةُ دخانٍ معتق،

وفي أذني صوت يتردد:

"تابعي،

فنحن لم نمت لنراك صامتة "

***

مجيدة محمدي - تونس

 

ما عادَ يعبأُ إن أتى مُتأخّرا

هوَ لم يجدْ شيئاً يَسُرُّ مُبكِّرا

*

هوَ ذلكَ النهرُ الذي قد ظلَّ يجـ..

ري ثُمّ أدركَ أنّهُ عبثاً جرى

*

وعَدَتْهُ هاتيكَ الضفافُ بنخلةٍ

لكنّها صبغَتْهُ لوناً أحمرا

*

هوَ هادئٌ مثلَ الحديقةِ في المسا..

ءِ وصاخبٌ مثلَ الرياحِ على الذُّرى

*

إمّا أحبَّ فكلُّ جارحةٍ به

قلباً تصيرُ يكادُ أن يتفطّرا

*

وإن استبدَّ بهِ الحنينُ تجدْهُ من

أقصى الغيابِ يمدُّ جسراً أخضرا

*

مطرٌ براحتِهِ ودمعةُ عازفٍ

وتوجُّسِ العشبِ الوليدِ على الثرى

*

تركَ الحقيقةَ واستظلَّ بحُلْمِهِ

وسما بهِ الحزنُ النبيلُ فأثمرا

*

أوحَتْ لهُ الأشجارُ طيفاً فاستوَتْ

رؤياهُ تجلو زُرقةً عندَ الكرى

*

يبكي إذا ضَحِكَ الجميعُ لعلمِهِ

أنَّ السرورَ وراءَهُ حزنٌ يُرى

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

غادرْ

حينَ تُصبحُ الأبوابُ

أطيافًا من خشبٍ فائض،

وحينَ تسقطُ الكلماتُ

كأوراقِ خريفٍ أعمى

لا يعبأُ بها الرصيف.

*

غادرْ

حينَ لا يعني لهم

مخاضُ السكوتِ شيئًا،

حينَ لا يصغونَ

لصراخِ الجدرانِ

وهي تُنجبُ فراغاتٍ

تُشبهُ وجوههم.

*

غادرْ

حينَ تَغدو الحقيقةُ

غيمة تتوزّع على المقاطعات والقصائد

وحينَ تُصبحُ ملامحُ الوقت

كوجهِ ساعةٍ مقلوبة

في سهرة هاربة من المطر.

*

غادرْ

حينَ يَغدو الصمتُ

جرحًا أعمى

لا أمل فيه

ولا حكايةَ تُغري الأشجار

كي تُغني.

*

لا تُبقِ قلبكَ هنا،

حيثُ لا يعني النهارُ سوى

ضوعًا من حدائق في الوداع

والليلُ روحُ قنديلٍ

يَقتسمُ الجدرانَ مع الغبار.

*

غادرْ،

إنَّ المسافاتِ التي لا تنتظركَ

هي الأصدقُ

والذين لا يفهمون

كيفَ ينزفُ السكوتُ

لن يفهموا يومًا كيفَ يولدُ الكلام.

***

ريما الكلزلي

 

ساعات قليلة تفصل بين عملها في شركة المقاولات الإنشائية ودراستها الجامعية في دوام مسائي مرهق، ساعات في الانتظار المكتوم تقضيه على مقاعد المكتبة الوطنية أو في أروقة العمل الحزبي، تهدر فيه الوقت الذي يخذلها دوماً، والذي لا يكفي لعودتها إلى بيتها النائي، فتواصل رحلتها الشاقة، كعصفورة تقاوم رياح الحياة بجناحين من أمل، واجباتها الحياتية التي تثقل كاهلها، وأحلامها المعلقة على خيوط إرادة لا تلين.

ففي كل ليلة، بعد انتهاء دوامها الجامعي، تعود بخطواتها المتعبة، يرافقها جسد منهك، يتلبسه الإرهاق كعباءة من ألم، وجوع يتآمر مع الإعياء ليسلبها ما تبقى من قوة، وكثيرًا ما يسقط جسدها مغشيًا عليه، مستسلمًا لثقل ظلامٍ يفوق سواد الليل حلكة، ظلام ينبعث من أعماقها ويغمر روحها المتعبة.

كانت تخوض رحلتها المعتادة كل ليلة. عندما تنزل عند محطة الباص، الأقرب إلى بيتها، تضطر للسير، لما يقارب النصف ساعة على قدميها، على شارع طويل مخصص للطرق خارجية، وحيد كأنه منفى، ساكن كأن الصمت نفسه وقد قرر الاستقرار فيه. جو موحش، وظلام كأنه قد سُكب على الأرض بلا رحمة، يتسلل إلى عروقها وخوفًا بردًا ورجفة تتربص بأحلامها المرهقة.

وفي مواجهة هذه الوحشة، كانت تضم بإحدى يديها ملف محاضراتها إلى صدرها بقوة، وتمسد بالأخرى جنينها الذي ينبض في أعماقها كنبض امل لحياة أحلى. كانت تدندن له بأغانٍ، تنسج من حروفها حصنًا من الدفء والأمان، تغالب بها شعور الخوف والتعب الذي ينخر عظامها.

الطريق لم تكن آمنة دومًا. فبين الحين والحين، كان من يتربص بوحشتها في الظلام، يتلصص على ضعفها المرهق، ووهنها المضن. كثيرًا ما كانت تُفاجَأ بأصواتهم الخشنة، ومضايقاتهم الوقحة، وتصرفاتهم العبثية، التي تتجاوز احيانا حد المعقول وهم يمزقون دفاتر محاضراتها، او يسرقون حقيبتها وكأنهم ينهبون جزءًا من حلمها. كم توسلت إلى زوجها أن ينتظرها في منطقة الباص حين يعود قبلها، غير أنه كان يعود غالبًا متأخرًا، مشغولًا بأعماله ومتاهاته.

في ليلة عابسة، ملتحفة بالسواد، ثقيلة مثل همٍّ يستوطن الصدر، كانت تخطو بخطى واهنة، تتعثر بصمت الشارع الموحش، حتى اعترض اولئك المتربصون، المتعطشون للإساءة والتنمر سبيلها. توهجت عيونهم كجمرات مشتعلة، يُلوّحون بجمرات بسجائرهم.. ساخرين منها، كأنهم يلوّحون بنار لا غاية لها سوى إحراق عزيمتها التي تسكن قلبها المنهك.

تاهت نظراتها في العتمة، تتحسس في ظلالها بارقة نجاة تبدو أبعد من الأمل نفسه. كانت أنفاسها متقطعة، ترتجف كأوراق في مهب ريح عاصفة، وعيناها تهيم في الظلام كمن يبحث عن نجمة ضائعة في سماءٍ خالية. شعرت بالخوف يتغلغل في عروقها، وثقل يجثم فوق صدرها يكاد يسلبها قدرتها على الوقوف، حين لمع ضوء باهر يخترق عتمة الليل وسط كل ذلك اليأس، ضوء يتوهج من شاحنة نقل ثقيلة تجوب الطريق على عجل. تملّكها الأمل فجأة، كغريق يمسك بطرف حبل. لوحت بيد مرتعشة، رافعة ملف أوراقها كأنها ترفع راية استغاثة، أو ربما بقايا حلم مهدد بالانطفاء.

التقط السائق إشارتها، وأدرك تفاصيل الموقف بنظرة ثاقبة لا تعرف التردد. فرملت الشاحنة على مسافة قصيرة منها، كأنه يلبي نداءً غير منطوق، نداءً يستنجد بشهامته المكنونة. كان رجلًا جسورًا، تغمر ملامحه الصارمة غضبًا نبيلًا، وقلبًا يتقد شجاعة يندر مثيلها.

ترجل عن شاحنته ممسكًا بأداة معدنية كأنها امتداد لروحه الحامية. اندفع نحو المعتدين كإعصار لا يعرف الرحمة، وصوته يجلجل بوعيد صارم، شاتمًا إياهم بما يستحقون من كلمات. كانت خطواته تروي قصصًا من النخوة والشجاعة، وملامحه تنطق بتصميم لا يقبل التهاون. وبعدما انفضّوا عنهما هاربين. نظرت اليه بعد ان ترك حولها أثرًا من ضوء شق طريقه عبر ظلام كان يهدد بابتلاعها. وقفت مذهولة بين دهشة النجاة وارتعاشة الرعب. " انه ملاكها الحارس.. هذا ما مر بخاطرها" مدركة حينها أن الخير لا يزال ممكنًا حتى في أحلك اللحظات.

 التفت نحوها بصوت هادئ حاول من خلاله أن يحتوي فزعها. عرض عليها أن يوصلها إلى بيتها. كان صوته كالحياة التي تعود إلى صدرها المنكوب، تنفست بعمق.. وشعور بالأمان والامتنان يغمرها وكأنها نجت من غرقٍ محتم. صعدت إلى السيارة وهي تجر أذيال ما بقي من التعب والخوف، لكن شيئًا من الطمأنينة كان ينمو في صدرها كزهرة تتفتح رغم كل هذا الظلام.

***

سعاد الراعي

ذِكراكَ أحـــيَـــتْ حــــضورا، فـي تذَكّـرِها

فــــوثّــقَ الشِــعـــرُ إرثـــاً، حــيـــن آواهـا

*

مـا كــل ذِكــرى لـهـا روحٌ تُـــخَــلّــدُهــا

وللــمضامـيـــن فـي الأهـداف مـعـنــاهـــــا

*

وخـيرُ مــا فــي سُـــــلوك النفس، تفعـلــه

أنْ تجعــلَ الذكرى فـــي الاجــواء أحلاهــا

*

طِـيـــبُ الفِـعـالِ، حـديــثٌ تســتـديمُ بــــه

للــجيــل نَـهْـــجٌ، ونــورٌ في مُحـيّـــاهـــا

*

ما الخُـلـــدُ اوْســـمــةٌ تعلو الصدورَ وفــي

رسْـــم الخُــطا للتـباهــي صِيغَ فــحــواهــا

*

نـسْــــــجُ البــــلاغةِ مِــعــيارٌ ، بــــــه عُـــرِفَـتْ

مــــــــا كلُ تركـيـبـــــةٍ، فــــــــــي اللفظ نَهْـواها

*

لِــــثَــــــروَة اللـــغـــةِ الــمِــعـطــاءِ هــيــبــتُــهــا

ارائـــــــكُ التِــــبْـــرِ، فــــي اســتقبال خـــطواهـا

*

إنّ اقتـــباس المَـــزايـــا، فـــــي محاسِـنِهـــا

مالــم تؤدي حُــلــولاً، ســــوف تـنســـاهــــا

*

زَيــْنُ الرجــال عــفــيــفٌ فـــي شجــاعتــه

وفــي الإباء خُـطــاً، قــــد طابَ مَــسْعــاهــا

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

أشعر إنك كالأمس لن تعود مرة أخرى......

وأشعر إنك هنا في كل الأشياء التي تركتها، وذهبت....

أكتب لك، وأعلم إن العالم كله سوف يقرأ هذه السطور إلا أنت...

أكتب لك حين يصعب علي التصديق إنك غائب للدرجة التي أعتبر بأن غيابك هذا مجرد مزحة لا أكثر.....

هذه أنا عدت إلى أول السطر إمرأة أقف على سفح الحياة وحدي.. أرقب إنكماش الأشياء المزهرة والنابضة من حولي ...

ما بال الحياة في عيني بحداد لونين الأبيض والأسود وكأن الزمن أعادني إلى العصور القديمة بلا ألوان...

ما بال الأشياء حولي تحدث ضجيجاً في داخلي وقلمي، وهذا الهدوء الحذر الذي يخيم في حدقاتي وصوتي ...

ربما حان الوقت لأترك لعبة طفولتي وأكبر...، وان التقط عمري الذي تدحرج ككرة ثلج على أرصفة الحياة ....

أو ربما علي أن أستفيق من أسرة الأحلام التي تسلقت وسادتي يوماً وتكاثرت في رحم مخيلتي تلك الأحلام الوردية التي تتلاشى كغيمة بيضاء في سماء عقيمة بلا مطر أو كسراب ماء في بساتين زهر ....

أعرف الآن أن علي أن أمد يدي لواقع ينتظرني على الجانب الآخر من الحلم، وان علي أن أنتشل نفسي من نفسي المتعبة والمعتمة.....

وإنني علي أن أفرغ حقيبة سفري الطويل في إحدى الشرفات التي تطل على ضوء شمس وحقيقة ...

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان....

تجولت في شارع السعدون لساعتين. هدني التعب. قلت لنفسي: لأستريح قليلا هنا، في ساحة التحرير، تحت نصب الحرية، الذي يرتفع على ركيزتين عملاقتين، شامخا امام حديقة الأمة. لا ادري لماذا؟ كلما مررت سواء في شارع السعدون او شارع الرشيد، او الباب الشرقي؛ لابد لي من ان اعرج على ساحة التحرير، وتحديدا نصب الحرية. أتأمله. ممعنا فيه، متماهيا معه؛ اعيش لحظته. ثمة اصوات تنطلق من اعماق النصب. ضجت جميع الانحاء بالصراخ والصياح. اسمع تكسر قضبان حديدية لأبواب عملاقة. اشتد الصياح، كأنه صوت واحد: الحرية... الحرية... الحرية...زمجرة فجرت رأسي. دبابة برامز عبرت الساحة الى الطريق بجانب حديقة الأمة. تبعتها دبابتان وثلاث همرات. لم تفرغ الساحة. ظلت ترابط فيها دبابات برامز وهمرات. أخرى غيرها واقفه على سطح النفق قبالتي تماما. الجنود على ظهورها يبحلقون في مخارج الزوايا والدروب والجادات، التي تنفتح الى الشارعين المحيطين بالساحة، من اعماق الاحياء التي اكثرها مخازن، ومحلات تجارية، وفنادق شعبية، ومقاهي، وبيوت في تلك الفروع. لم اتحرك. ظللت تحت نصب الحرية وحدي واقفا. از الهواء في أذنيَ. صاروخ اطلق من وراء الركيزة التي متكئا أنا عليها. انفجار قوي جدا، هز ركيزتي النصب. احسني بقوته. اهتز جسدي. كدت اسقط ارضا من شدته. متماسكا في وقفتي في تلك الثواني القليلة، ربما هي اقل من اصابع اليد الواحدة. انظر. احترقت دبابة على مقربة مني ومن النصب. ارتفع اعلى قليلا من النصب، كل جسدي على غير إرادة مني. كما في طيف حلم مر سريعا في ثانية او في ثانيتين، وانطفأ. مُعلَقاً في الهواء، سمعت انفجاران متزامنان، اعقبا بسرعة البرق الانفجار الأول. نظرت الى الاسفل مني. الركيزتان دمرتا، لم يبق منهما الا بقايا حديد لخرسانة، لم يعد لها وجود، صارت عبارة عن شظايا....اشباح تركض اسفل مني، بين نخيل واشجار حديقة الأمة. اصبحت ضبابية كل الاماكن تحتي وحول وفوقي. رطانة خافتة خوفتا مرعبا، إنما مدويةً في دروب عقلي، اسمعها؛ تأتيني من مؤخرة رأسي، أو كأنها دخلت فيه من مكان بعيد، بعيد جدا. ثم اختفى.

***

مزهر جبر الساعدي

 

أيتها السماء.. مُدِّي قدحا لذاكرة النسيان

كي لا أسمع إيقاع الشتاء الطويل في دمي

***

إلى قارئ لا أعرفه

يدي تتساقط مني ولا أحد يخيط جرحها، حتى خطواتي أصبحت مجرد ظل لظل يتبعني...

فهل جربتَ حزنا يخترق ضحكاتك فيُنصب خيام حرائقه التي تحول كل قرى نفسك إلى هذيان يعزف على أوتار العالم الشريد، فتشتعل نيران لا يطفئها ماء الحياة؟

ستقول لي: من منا لم يدخل قلبه إلى مختبر الفقد، فلم يخرج منه معطوبا يجُرُّ الخيبات، ليعرف بأن كل المشاعر وَهْمٌ، لأن لا شيء حقيقي غير الموت؟.

فيا أيها الحزن ارفع نخب الحنين لكل الفراشات التي احترقت في قلبي..!

حتى عمر العاشرة؛ كان والدي صديقا لي، وبعدما أصبحت حدائقي تزهر، وأنبت الوقت ربيعا من الحب الذي طاردني بقوة في مجاز الحلم، كرهتُ حياتي التي أصبحت مجرد كوابيس يبكي عليها النهار.

تمنيت لو أضيء أصابع الظلام بقبس من رؤياي، فأنا لا أحيا إلا بطلقات سماوية تميتني وتنقذني من العدم، وحين ينزف دمي أجمع شتاتي وأقول:

ـ إلهي أنا معطرة بنورك.. فخذني إليك كي أنساني، فما أنا سوى نبتة في محرابك.1347 najat

يا قارئي الذي لا أعرف..

إيقاع كل يوم بئيس يحرق كل أوراق شغفي، يسرع الخطى نحو مرآة واحدة تعكس رحيله..

لن أنكر أننا لم نلتق أبدا إلا حول ريح منسية تحملنا إلى كل مكان ممهور بالسفر الطويل والتمرد، ولن أنكر أنني بقيت تحت قدميه أصرخ بملء الروح:

ـ حدق في يدي وفي قلبي، لن تجد غير دمي يعانق ومْضَ حلمك، أو ليس الغياب هو الذي يرتدي قميص أحلامنا فلا يلملم جرحنا غير فم يردد اسم الله؟

*

فيا قارئي الذي لا أعرف

كم بحث عن شبيه لوالدي عبد الرحمان دون أن أدري، كان مدرسا أنيقا، يرتدي ربطة عنق جميلة وبذلة بألوان فاتحة. يردد دائما على مسامعنا في الفصل قصائد رائعة، فكنت أغدو مثل فراشة لا تعرف غير المسرح والغناء والشعر، فكبرت وأنا شغوفة بشمس ربيعية تسللت لقلبي البِكر، كي تولد نجاة التي لا تعرف من وجه الحياة غير الحب النبيل.

*

يا قارئي الذي لا أعرف

ها هو قطار المساء قد ترجل في دمي، ولم يعد في قلبي أحد سواه، وبعض حروف أحاول من خلالها أن أنسى، لكن رماد أمسي يجرني نحو وحدة قاتلة، كيف أغفو وهو تحت التراب، يجرفني بوح حزين نحو تلك الصبية التي تمسك بيده الكبيرة، ويبتسم في وجهها فخورا بأرضها التي تبنيها من أحلامها الصغيرة.

لماذا أتيتُ إلى مراكش كي ألتقي بالحزن الذي استقبلني في مطار المستحيل كل عمري؟، وأي صمت هذا الذي ثرثر في روحي مثل عرافة مجهولة، فتحولتُ إلى حمامة لا ترى في الكون غير حب يغتاله وفاء مزيف.

إنني أرى ذلك الفنجان الذي قدمته لي الأرض وهي تُربكني بزلازلها..

ـ نامي في جسد القصيدة واكتبي وجعي الأخير؟

لم أجد وأنا أجلس بيني وبيني غير قُبرات تتحسر على أيكها، هو الخريف يحصد كل الأغاني الجميلة، فأتساقط بين يديه أوراقا صفراء كانت تكتبني بلغة الورد، لكني لا أجد الآن غير شوك يُدمي صمت قلبي.

فيا إلهي كم كان والدي يخاف علي من الانكسار.!

ـ سأغفو قليلا . قلت للبوح

لكنه شد قميص نفسي ومزقني بأنينه، فرأيت في أعماقي كل المدن التي عمها الخراب.

غزة هنا؛ تصنع في داخلي وطنا جديدا من الدماء، أعانق أشجارها كي أنام من التعب، لكن غبار كل معلقات الشعراء الذين مروا أيقظوني كي أصير بالونا في الهواء، فما جدواي، والأبجدية بشموخها تخونني فتترك ظلي موشوما بالبكاء؟

***

نجاة الزباير

4/4/2025

يا الله،

لستُ قديسةً تلفُّها هالاتُ الضوء،

ولا نبيّةً تنشقُّ لها البحارُ وتتسعُ لها المعجزات،

ولا آدم، الذي وهبَ نبيّك داوودَ أربعينَ عامًا من فجرِ عمره،

أنا فقط ،

امرأةٌ تقصُّ على صغارها قصائدَ من رملٍ وجدرانٍ متداعية،

أمٌّ تشمُّ رمادَ ألعابهم،

تعدُّ الشظايا كما تُعدُّ العصافيرُ في هجرتها الأخيرة.

*

يا الله،

صوتُ الصواريخِ لا يقرأُ أعمارهم،

ولا يفرّق بين دفاترِ الحسابِ والعبواتِ الناسفة،

يركضُ الطفلُ نحو النور

فتأتيهُ من السماءِ نار.

*

أنا أمٌّ يا الله،

تعصرُ الوقتَ في كفّيها،

تحاولُ أن تخبئَ الزمانَ في جيبِ معطفِها المثقوب،

تحلمُ أن تكونَ الزهرةُ في غزة

أكثرَ من فصلٍ واحدٍ للعطر،

أن لا يموتَ الرضيعُ قبل أن يعرفَ اسمه.

*

خذْ من عمري،

خذهُ كما تأخذُ الريحُ الغصونَ اليابسة،

وزدْ لهم،

ازرعْ في قلوبِهم عُمْرًا إضافيًا،

دعْهم يكبرونَ دون أن يقفزَ الدمُ من عيون البراءة،

دعهم يشتهونَ أشياء بسيطة:

قطعة شوكولا،

أرجوحة،

سماء لا تسودها الطائرات.

*

يا الله،

إن لم يكن لي نصيبٌ في القداسة،

ولا خاتمُ النبوّة،

فاجعلْ من أمومتي دعاءً دائمًا،

أنا التي تعلّمتُ كيف تكونُ الأمهاتُ جبهات،

وكيف تُصنعُ المعجزاتُ من دموعِ الأرقِ

وسهرِ القلق.

*

أنا تلك التي تضعُ حليبَها في الزجاجةِ

وتضعُ قلبَها في تابوت.

*

يا الله،

أخبرني،

أما آنَ للظلِّ أن ينجبَ شمسًا؟

أما آنَ للحدادِ أن يخلعَ ثيابه؟

أما آنَ للرصاصةِ أن تعتذرَ للطفل؟

*

خذْ من عمري،

كلّه،

أنا لا أحتاجُه كثيرًا،

ما دام في غزة طفلٌ لا يملكُ ساعةً

ليرى كم من الوقتِ تبقى له

في حضنِ الحياة.

*

دعهم ينامون دون أن يوقظهم الموت،

دعهم يركضون دون أن تعثرَ أقدامُهم بجثثِ أحبّتهم،

دعهم يعرفون أن للغيمِ طعمَ المطر

لا رائحةَ البارود.

*

يا الله،

أنا فقطُ أمّ،

لكن قلبي يضاهي صهيلَ الجبال،

وفي عيوني قنابلُ حبّ

لو انفجرتْ،

لأزهرتْ كل الأرض

*

خذ من عمري،

وزد لهم،

ازرعهم من جديد،

أعدْ ترتيبَ الحكاية،

واكتبْ على الصفحةِ الأولى:

"كان يا ما كان...

في غزة،

كانوا،

وعاشوا،

وكبروا...

ولم يمت أحد."

***

مجيدة محمدي

 

قد عادَ غيثُ الحبِّ إثرَ جفاءِ

فاخضرَّ عودُ الأرضِ بعدَ ذواءِ

*

وأفاقَ وردُ الروحِ من طولِ الصدى

وتفتَّحتْ أنسامُها بهواءِ

*

ورنتْ طيورُ الوجدِ بينَ غصونِها

تشدو بنبضِ العشقِ والإيحاءِ

*

وسرتْ نسائمُها تُلامسُ مهجتي

فتعيدُ قلبي للحيا بنداءِ

*

يا أيها القلبُ المُوشَّحُ بالسَّوادِ

إلى متى مطري بلا انداءِ؟

*

أما اكتفَتْ عينايَ من سهدِ الأسى

وتعبتُ من أنَّاتِها البكماءِ؟

*

دعني ألوِّنُ مهجتي بضِيائها

وأذوبُ في الآمالِ كالأنواءِ

*

فالصُّبحُ يُومِضُ في الدُّجى مُتأهِّبًا

والحُبُّ أبقى من ظلالِ جفاءِ

*

عندي من الأشجانِ وسعُ مدارِها

لكنها روحٌ اشتهَتْ لِرُواءِ

*

تَهفو إلى نبعِ الطهارةِ علَّها

تُزْهِو وتَسقُطَ في مدى الظَّلماءِ

*

لا اليأسُ يُرْهِقُها وإنْ طالَ الأسى

تبقى تُناجِي النُّورَ في العلياءِ

*

ينِي وبينَ الحزنِ عقدٌ دائمُ

لا ينتهي إلا بقرب فنائي

*

قد أرهقَتْ روحي الظنونُ ولم تزلْ

تَرنو إلى فجرٍ بنورِ صفائي

*

كم عانقَتْ عينايَ طيفَ سعادةٍ

لكنَّه ولى كطيفِ مُراء

***

د. جاسم الخالدي

منذُ عُقود..

لمّا كانَ الوردُ هو الوَرد

والأيّامْ ..

لا يُثقلُها العَدّ

أخبرَني الجَرّاح

محظورٌ أنتَ تُحِبْ

سيكونُ الحبُّ عليكْ

لعنةَ حَربْ

ترميكَ شَهيدْ

أغمِضْ قلبَكَ لمّا تثمَلُ منهُنْ .. بالريقْ

وارمِ الشَهدْ

ما أدراني

جاءَتني من لُجَجِ الغَيبْ

وتدلّتْ من قبضَةِ حَظّ

أبدَلَتِ الخَمرَ رحيق

جعَلَتني أسخَرُ من أحزاني

لكنّي في ذنَبِ العُمرِ عَجول

لا أمسِكُ ما يُلقي الحَظ

اللحظَةُ عندي أبقى من عَهدْ

يا للحُمقْ

ها عدتُ أجوبُ الليلَ بأنفاسِ غَريق

فانفضَّ السَعدْ

سأعودُ الى المحظور

الدمعُ نبيذي

ورفيقي الذَنْب

**

أسكُنُ فيك

علّكَ لا تعرِفُ بَعدْ

ستَظلُّ، كمَثكولٍ.. تبحَثُ عني

يتَلفَتُّ نبضُكَ كالُمُرتاع  ..

تستَخرجُ من أنفاسِكَ عِطري

وستَسألُ عني كلَّ فراشاتِ الدُنيا

وستَحفِرُ في الأيامْ .. عن ذكرى

سيَسيلُ الدمُ من عَينَيكْ

لمّا تعبُركَ النَسَماتْ .. مِن غيري

أنا كعبتُكَ الكُبرى

طافتْ حولي كلُّ أمانيكَ

فكيفَ تَطوفُ وما كفّي في كفَّيك

بركاني يكمُنُ فيكْ

ستكونُ قيامُتك الصُغرى

حين يثور

قالتها ..

غابتْ ..

وأنا..

أعلنتُ ..

مَماتي ..

حَيّا

**

عادل الحنظل

 

يَفْتَحُ دُرْجَ عُمْرِهِ،

يُدْخِلُ فِيهِ جَوْرَباً مِنَ الْكَلَامْ

وَخَاتَماً مِنْ لُؤْلُؤِ الْوِجْدَانْ

إِذَا أَتَاهُ ظِلُّهُ

مِنْ غَابَةِ النِّسْيَانْ.

2

يَعْبُرُهُ الْوَقْتُ، وَلاَ يَعْبُرُهُ

يُسَاعِدُ الْجَنَائِزَ الْحَيْرَى لِتَبْتَسِمْ،

وَفَوْقَ رَأْسِهِ

تَبْنِي الْعَصَافِيرُ وَصِيَّةَ الضِّيَاءْ

تَقُولُ لِلْوَقْتِ:

ابْتَسِمْ كَحَبْلِ النُّورْ

وللِنٌهْرِ:

اخْلَعِ الثِّيَابَ

وَاتْبَعِ النَّشِيدَ

لَيْسَ نَبْضُكَ الَّذِي يُنْبِتُ عُشْباً فِي السَّمَاءْ

لِتَعْصِرَ الْأَضْوَاءَ

فِي جِرَارٍ

طِينُهَا بُكَاءْ

فَكُلُّ مَا تَسْطِيعُهُ

أَنْ تَحْمِلَ الرُّوحَ إِلَى نُقْطَتِهَا.

3

فِي ذَاتِهِ

تَشْتَعِلُ الْأَحْرَاجُ شَهْوَةً

إِذَا

مَا لَيْلُ صَمْتِهِ مَشَى

عَلَى حِبَالِ أَمْسِهِ،

يَأْخُذْ قَبْضَةً مِنَ الْحُدُوسِ

يَلْتَقِي بِوَجْهِهِ

فِي حَانَةِ الغُيُومْ،

هُنَاكَ نَدْهَةٌ تُغَازِلُ اسْمَهُ

يَمْنَحْهَا مِنْ جِسْمِهِ

جَامَ اشْتِهَاءْ

وَ قَطْرَةَ الْحَظِّ الْمُذَابِ فِي الْوُجُومْ

4

يَغْسِلُ حُلْكَةَ الْأَرَقْ

عَنْهُ بِلِيفَةِ الْقَلَقْ

وَفِي عُطُورِ الْوَهْمِ يَغْمِسُ الْحَنَايَا

وَعُشْبَةَ الرِّغَابِ

فِي قَعْرِ الْمَنَايَا،

لَمْ تَرَهُ الْمِيَاهُ غُصْناً

حِينَ أَعْلَنَ عَلَيْهَا عُرْيَهُ،

وَفِي إِهَابِهَا

أَذَابَ مَعْنَاهُ

فِي زُرْقَةِ الْمَسْعَى

كَزَهْرَةٍ وَحْشِيَّةٍ

تَمْشِي بِحَافَةِ الْعِنَادْ

مَخْفُورَةً بِأَنْجُمِ الْأَحْلَامْ،

تَذَوَّقَ الْوُجُودْ

فِي بَسْمَةِ الْأَشْيَاءْ

وَخَبَّأَ الْأَنْفَاسْ

فِي دُكْنَةِ الْوُعُودْ.

رَائِحَةٌ خُطْوَتُهُ

تَفْتَحُ دَرْباً فِي جِبَالِ اللَّيْلْ

كَأَنَّهَا الْكُلُومْ

مَنْكُوشَةً بِعَوْسَجِ النَّدَمْ،

يَافُوخُهُ قِنْدِيلُ حُمَّى

يَفْرِشُ الْأَمْدَاءْ

بِطُنْفُسِ الْهُذَاءْ

مَنِ اسْتَضَاءَ بِاسْمِهِ

يَأْكُلُ مِنْ مَائِدَةِ الْبَهَاءْ،

مِنْ صَوْتِهِ تَسْتَقْطِعُ الْأَوْقَاتْ

أَشْوَاقَهَا

مُبْتَلَّةً

كَمِثْلِ عُصْفُورٍ

يُغَازِلُ السَّمَاءْ.

5

يَقِفُ فِي شُرْفَةِ مَوْتِهِ

وِعَاءً ضَاحِكاً

لِمَطَرِ الْغُيُوبْ

يَسْأَلُ عَنْ ذَرَّاتِ لَوْنِهِ

بِأَحْرُفٍ مُضَاءَةٍ بِأَلْسِهِ،

لَهُ الْأَنْفَاسُ أَسْرَجَتْ حِكَايَةً

تَمِيسُ تَحْتَ أَشْجَارِ الشَّجَنْ

لَابِسَةً قُبَّعَةَ الذُّهُولْ

وَمِعْطَفَ اللَّيَالِي.

6

فِي قَلْبِهِ شَمْسٌ

تَخِطُ جُرْحَ وَطَنٍ

يُقْمِرُ فِيهِ مُعْجِزُ الْخُسْرَانْ،

هُوَ سَمَاءٌ

يَكْرَعُ الرَّغْبَةَ مِنْ أَحْدَاقِ حُلْمِهِ

وَيَمْضِي

مُسْنِداً دِمَاءَهُ

عَلَى ضِيَاءِ قَلْبِهِ،

تَشْهَقُ خَلْفَهُ الْيَنَابِيعُ ظِبَاءً

وَالسُّبُلْ

تَقْتَاتُ مِنْ خُطَاهْ.

***

أحمد بلحاج آية وارهام

أفَكلّما قَرَصَ الغرامُ حُروفا

وَهَبتْ عذوقُ الدانياتِ قُطوفا

*

وتناسلت للهائمينَ قصائدٌ

جعلتْ مواجيدَ الغواةِ رُفوفا

*

وتوهّجتْ شمسُ القريحةِ بعدما

شَهِدتْ بزاويةِ الشغافِ كُسوفا

*

سكبتْ على قمرِ الفؤادِ ضياءها

فمضى يبدّدُ في الجَنانِ خُسوفا

*

فَمناحرُ العُشّاقِ مُذْ هاموا سُدىً

نُحِرتْ بأسيافِ الغرامِ طُفوفا

*

بِلِحاظِ ربّاتِ الجمالِ تَدلّهوا

وتَجاهلوا تحتَ اللحاظِ سُيوفا

*

فَدَعوا المَلامَةَ وإنْعَموا بِمُدامَةٍ

سَكِروا بها مُتَجنّبينَ عُزوفا

*

عَزفوا (طَواسينَ) القتيلِ ونادَموا

حَطَبَ المواقدِ جَمْرَةً ودُفوفا

*

يَتَزاحَمُ الأغيارُ خلفَ بَريقِها

يَتَقاسَمونَ مَعَ السرابِ حُتوفا

*

وَقوافلُ العشّاقِ أتعَبَها السُرى

فَتبوءوا كَنَفَ الجِياعِ صُفوفا

*

كَفتىً يكابدُ عشقَه مُتألّقاً

ويظلُّ في جمرِ الغرامِ شَغوفا

*

كَلِفاً بأشجار النخيلِ وأرضِها

لِيَموتَ كالشَجَرِ الأصيلِ وقوفا

*

نزف المدامعَ والقوافي مُذْ رأى

بِئرَ الحقيقةِ في الحياةِ نَزوفا

***

د. مصطفى علي

 

قمرٌ بسمتها

والليلُ نداء.

النجمةُ طريق

أخذتني فيهِ

دون التفاتات

أو شارات للسير.

أنتِ...

كما كنتِ..

زنبقةُ ماء

عشقت شواطئ نهر المدينة..

وتلألأت عيناك كالنجوم

لقبلِ الموج...

شاطئٌ كنتِ

وكانت شفتانا

تترطب بماء الورد

وتلثغ بالتاء

والنون بساتين تزهر

في الظلِ، وأنتِ كأسٌ

وكنتِ البستان

وأنا  بين الأغصان

من خمرك

سكران...

سكران...

***

كريم شنشل

إذا كان للجهل وقود فالمعلمات اللاواتي صقلن طفولتي ومراهقتي هن حطبه، لم يكن لأي منهن فضيلة أذكرها عدا معلمتين فقط في مسيرتي التعليمية..

لم يكن لهن أثر إلا بالعقد النفسية وإرساء القيود والعنف الذي استغرقني قرابة العشرين عاماً حتى أتخلص منه..

كنت قائدة وشخصية مؤثرة بالفطرة بشكل إيجابي وسلبي على حدٍ سواء وما أن تقترب مني فتاة حتى تتطبع بخصالي وتتحول شخصيتها من بنت خجولة مطيعة إلى متمرده لا تقبل توجيهات ولا تخفض رأسها أمام الإهانات المستمرة وبشكل يومي من المعلمات او المشرفات..

كنت أجندهن بشكل فطري وبسبب صغر سني بالطبع لم أكن أدرك أن تلك كانت إحدى طرق التأثير وصقل طباع جديدة بالشخصية بأن أدرس عواقب الفعل قبل الإقدام عليه وأرى مقدار تحملي لعواقبه وقد أورثت هذه الميزة لأعضاء شلتي الأعزاء..

في الصف السادس الإبتدائي كانت تدرسنا مادة التدبير المنزلي معلمة أرجح أن كان لديها اضطراب شديد في الشخصية وفي السيطرة على الغضب والإنفعال لأتفه الأسباب، لا اذكر ان أياً منا انتبهت لشرحها او لاي موضوع في المنهج، فقد كان همنا الأول والأخير ان لانتكلم وان لا نتنفس أو نصدر اي صوتاً يتسبب بإنفجارها بنوبة غضب عنيفة ومع كل حرصنا كان دائما شيئاً ما يحدث ويخرج الجني بداخلها..

وبعد أن تنهال على أي بنت بالضرب والشتائم والإهانات تحاول في نفس الحصه ان تصلح الموقف وتحتضنها وتحاول اقناعها انها لم تقصد ثم تضربها مرة أخرى إن لم تقتنع..

في إحدى المرات إنهالت بالضرب على زميلة لي بسبب تقطيعها للطماطم بشكل خاطيء! ضربتها على وجهها ومخشت كتفها حتى احمر وجه البنت من شدة البكاء بسبب الألم والإهانه ..

وانا انظر إليها كنت اشعر ان تلك الضربات تتوجه لي بكيت لأجلها لكني لم استطع دفع الأذى عنها في وقته، لم يطلب مني احداً ذلك ولكني كنت اشعر ان حماية الآخرين هي مهمة علي تنفيذها ومازالت تلك الصفة التي ندعوها بالفضيلة سبباً بسلسلة الأذى الذي تعرضت له لبقية حياتي..

المهم أنني توليت ضمها لشلتي وغسل دماغها وإقناعها بأن العقاب الذي سيقع عليها ان عصت معلمه ليس بالحجم الذي تتصوره وماهي الا فترة بسيطة وتحولت تلك الفتاة إلى طالبة مشاغبة متمردة وتم استدعاء والدتها عدة مرات لمحاولة السيطرة على تمردها وقد كانت في حالة صدمة من التغير المفاجيء في شخصيتها تسأل عن الأسباب وراء ذلك

أخبروها أن رفقتي لها هي ما غير شخصيتها بهذا الشكل

فطلبت من المعلمات تفريقنا..

يتبع

***

لمى ابوالنجا

 

أعيدي اللحـــــــنَ عازفــــــةَ الكمانٍ

فكـمْ في اللحــنِ هــذا مِــــنْ معـــان

*

فؤادي لــمْ يـزلْ طفـــلاً وديعــــــاً

برغــمِ توجّعــــي ممّـــا أعـــــاني

*

وبين جوانحــي يهفــــــو حنيــــنٌ

إلــى مــا فاتَ في ماضــي الزمانِ

*

أعيدينــي إلى لَعِبي ولهـــــــــــوي

إلى دنيـــا اندهاشي وافتتانـــــــــي

*

إلى زمــنِ الطفولــــةِ حيثُ أغفـو

قـــــريرَ العينِ في حضْنِ الحنــانِ

*

إلى زمـــنٍ تراءى مثلَ طيـــــفٍ

ومـرَّ مرورَ أحــــلامِ الحِســــانِ

*

وخلّفَ بعدهُ زمنـــــاً عصيبـــــا ً

عنيــــداً قدْ خســرتُ بــهِ رهاني

*

أعيدي اللحنَ ثانيةً أعيـــــــــــدي

وصبّي خمـــرَ لحنكِ في دِنـــاني

*

فإنّــي مُنتشٍ باللحـــنِ حتّــــــــى

كأنّـــي قد سكـــــرتُ بخمرِ حانِ

*

أنــا من طافَ في البلدانِ طــــولاً

وعرضــاً سائرا ً خلفَ الأمـــاني

*

أهـــاجرُ من بلادٍ نحْــوَ أخــــرى

لأحيـــا مُطمئناً فــــي أمـــــــــانِ

*

فتسخــــرُ حينها الأقدارُ مِنّــــــي

لأنّي لـمْ أجــــدْ يومــا ً مكــــاني

*

تعقّبنــي الجحيــمُ على دروبـــي

يُنــــادي لا وصــولَ إلى الجِنانِ

*

أنا فــي كلّ أرضٍ تبتغيـــــــــها

ترى نـاري هنــاكَ مــعَ الدخانِ

*

تجاهلتُ النـــــداءَ وقلتُ صبراً

فبالغت الليـالي فــي امتحـــاني

***

أعيدي اللحـنَ أسمعــــهُ بقلبــــــي

أنا المولودُ مِـــنْ رَحِــمِ الحنــــانِ

*

رقيـــقُ الطبْــعِ لكنّــــي عصـــيٌّ

على مُتجبّـــــرٍ يبغـــــي هَـوانـي

*

جُبلتُ على الطبيعـةِ لا أحــابي

وما في القلبِ يجري في لساني

*

أصــاحبُ كلّ مسكيــنٍ فقيـــــرٍ

عزيز النفسِ يُخفي ما يُعــــاني

*

فأوثــرهُ علـــى نفسـي وأهلــي

وأرفعـــــهُ إلى أسمى مكــــانِ

*

وليسَ بصاحبي رجلٌ بخيــــلٌ

ولا أرجــو الشجاعةَ من جبانِ

*

هوَ الإنســانُ يفنــــى ذاتَ يومٍ

وتتبعــــهُ المصـــانعُ والمباني

*

فإنّ العمْــرَ مهما طالَ يبقــــى

قصيــــراً كالدقائقِ والثوانـــي

*

أعيـــدي اللحْـــنَ ثانيــةً وغنّــي

معي بيتـــاً تردّدَ فـي جَـنانـــــي

*

(أضاعوني وأيَ فتىً أضاعوا)(1)

فآهٍ ثــمَّ آهٍ يـــــــا زمـــــانـــــي

***

جميل حسين الساعدي

....................

1-  اقتبست الشطر (الصدر) من البيت الشعر القديم

أضاعوني وأيّ فتىَ أضاعوا

ليـــــومِ كريهةٍ وسدادِ ثغــــر

 

في محطة الميترو

وجدتها تشعلني وتطفئني بها…

ولكني لستُ دكتورّا للأمراض النفسية لكي أعالجها..

أو رجل إطفاء لأخمد حرائقها...

فهلاَّ استريحي مني

فأنا ما عاد يكفيني منكِ

سوى الهجرةِ لا إليكِ بل خارج حدودكِ

اغتراب إلى الضفة الأخرى مِن نهركِ!

ولكن كيف سيسترجع

كُلٌّ مِنا ذاتهُ مِن الآخرِ

وأنتِ الشّمس التي تشرق في ظلام ظهيرتي

وأنا ما عدتُ مطرًا في أرضكِ….

هذا ليس بطرًا مِني أو تجنيًّا عليكِ إن قلتُ:

علامَ تسرقيني مني للعبور إليكِ.+

***

الأب يوسف جزراوي

قصائد خارجة عن القانون القاهرة

 

يا شريـكَ النَّـقاء

هكذا أُحبُّكَ

وطناً يـزهو باليـقين

أُحبك همساً يرتعش منه البَنفسَج

وعطراً فوَّاحاً من الياسمين

أُحبُّكَ نبضاً مُزلزلاً..

يَهوي من فلكِ الملائكة

وشلال ورد يتحدّى الروتين

يا شريكَ الموجةِ الغافية

على أهداب البحر

خذني إليك مثلما يَهبُّ النَّسيم

خذني إليك بلهفة الأرض للمطر

لتستيقظ السَّماء

يا شريكَ الغيمة السَّكرى

هل لروحي أن

تَرمش على خدَّيكَ سحابةَ قَرنْفلُ ؟

خضِّبِ الآفاق والشَّفق

أنا طفلةُ الرِّيح..

شفتايَ بانتظارِ غيوِمك

دُلَّني على دربِ المطر..

لتتعانقَ أصابُعنا

ويومضَ البرق من خصرَينا

ولتُمشِّط  خصلاتِ شَعري

بصرخات الهَوى

يا شريكَ فورة الرُّوح..

الأملُ المُتوهِّجُ في عينيك

يُرشِدني إلى تضاريس الجنَّة..

ينقلُ بِشارةَ النُّور إلى قلب اللَّيل

يُؤرِّخُ نوارسَ الدَّهشة

على أصابع أحلامي

يا شريكَ الضّوءِ الأزلي..

خبِّئْ حلم الشَّام في أهداب العشق

واشعِلِ الحنينَ

بالحروف والقصائد

عطركَ رائحة البرِّية الأُولى

سأكتبكَ أقحـوانةً لهــــــذا الرَّبيـع

كُلَّما هَدَلت يمامةٌ ..أضيءُ نفسي بك..

هكذا أُحِبُّكَ.. وسأظلُّ أُحُّبكَ

قطراتِ غيثٍ

نائمةً على أوراق الشَّجر

تستمع لرنينِ السَّلام

في أرضٍ جديدة..

***

سلوى فرح - كنـدا

 

كلما عبرتُ طريقًا، رأيتُكَ أمامي،

وكلما وقفتُ على أطلال الذكرى،

تهادت الذكرياتُ كموج هادر.

*

ألزمتَ نفسك بالوفاء،

فضحكتُ من شدّة خيالك،

كيف استطعتَ أن تسبقَ اللحظة،

حين احتجتُ إليك،

كنتَ معي قبل أن يرتدّ طرفي.

*

ظلّك لا يفارقني،

وحضورك يسكن فيَّ،

كأنّك وعدٌ لا يخلفُ موعده،

أو طيفٌ يشرقُ في عتمة الشوق.

*

أعوذ بالله من شيطاني،

أوحى لي بأنّ الإنسان سُمّي إنسانًا لأنّه ينسى،

ومنذ أربعة أعوام وأنا أحفظُ هذه المقالة،

وأردّدها كأنّها حقيقة لا تُمسّ.

لكنّني بعد طول تبصّر

وجدتها كذبة مستدامة

فالنسيانُ انتقائيٌّ

***

د. جاسم الخالدي

 

وماذا يُخبّئُ لي تحتهُ لونكِ الأسودَ غيرَ حقولٍ مزهرة مِنْ (زنبقِ مادونا)* تحرسُ بشموخٍ وكبرياء أبوابَ فردوسكِ الأعلى، تحرق كلَّ ذنوب أناملي الوقحة لو تقترب أكثرَ فأكثر، ألا تعلمينَ بأنَ أصابعي قد تمرّدتْ عليَ فأصبحت خيولاً جامحةً تصهلُ عالياً حينَ استمعتْ لتلكَ الهمهمات؟! هلّا أغدقتِ عليها بجرعةٍ مِنْ عسلكِ الأسطوري المختوم بالشمعِ الأحمر لعلَّ شَبَقها المجنون يهداُ ويستكين؟! أيّنا يصرخُ على الآخرَ؟ لهفتي أمْ أزهارَ لونكِ الأسود؟! لو كانَ الأمر بيديَ لتوسّدتُ ضفتيهِ المعطّرة بأريجِ (برادا)* وما استفتُ مِنْ هيجانِ أنوثتهِ الزاكية، لو كانَ الأمرُ بيديَّ لاستنطقتُ أغوارهُ الغارقة بأحلامهِ الأرستقراطية وبذرتُ فيهِ بذورَ شهوةٍ ديكتاتورية العشق، لو كانَ الأمرُ بيديَ لقبّلتهُ ألفَ قُبلةٍ وقُبلةٍ مِنَ الأمام، وشممتُ عنفوانَ جنونهِ مِنَ الخلف الملغّم بالأساطيرِ الرومانية كلَّ لحظةِ انتظار، كمْ تغارُ الروح مِنَ الدانتيل وهو يحزُّ سكونَ سيقان مصقولة الكبرياء يعاندني ألّا تقتربْ لئلا يحترقَ هذا العالم؟! وكمْ تزكمني رياح شهوتهِ العاصفة تخضَبُ مفارقَ شيبَ أياميَ المترقبة خجلاً شفتيهِ المتوردتانِ بالصمتِ الطويل؟! آهٍ! لو تفتّحتْ أبوابهُ فجأةً لتبرعمَ هذا الحنين أزهارً سومريّة النضارة، آهٍ لو دخلت خيولي الغازية عميقاً عميقاً لحدثَ زلزالٌ يُطيحُ بكلِّ آلهةِ العشق المزيّفة وانتصرنا!

***

د. كريم  عبد الله

....................

* زنبقِ مادونا؟: زنبق مادونا (أو زنبق العذراء) هو نوع من الزهور التي تُعتبر رمزًا في الفن والدين، ويمثل الطهارة والنقاء. يُطلق عليه أحيانًا اسم "زنبق العذراء" بسبب ارتباطه بتجسد مريم العذراء في التقاليد المسيحية، حيث يُعتقد أن هذه الزهور تمثل النقاء والبراءة.

* برادا: ماركة عطور ايطالية عالمية.

* أزهارً سومريّة: تستخدم بشكل أدبي أو فني في بعض السياقات للإشارة إلى الجمال القديم أو التراثي، استلهامًا من الحضارة السومرية العريقة.

 

إلى صوتِ من لا صوتَ له..

إلى قلوب ِكُلِّ المهمَّشين الطيِّبة، أقدِّمُ هذا النَّص.

***

هوامشُ نحنُ، يا سيِّدي

مجردُ هوامشَ

دخلنا خِلسةً من البابِ المُواربِ

حين أعمتنا طقوسُ الضوءِ ذاتَ مرةٍ

عبيداً صِرنا نتسولُ ابتسامةً شاحبةً

تنهرُنا أمواجٌ

وكُلُّ الدُّروبِ أمامنا مُوصَدةٌ

والفضاءاتُ تُغلقُ بواباتِها

فأين المَفرُّ

هوامشُ نحنُ يا سيِّدي

يبددُنا وجعُ الحاضِرِ

ويتبرأُ مِنَّا الغَدُّ

ولا تاريخٌ لنا يَشفعُ

أبهرت عيونَنا نياشينُ السَّادةِ

فحسبناها شَمساً تَضحكُ

وظننَّا الدعوةَ عامةً

ومن أضيقِ الأبوابِ دَخَلنا

والحفلُ يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ

تاهَ الدَّربُ عنَّا وتُهنا

وصار عسيراً منه خُروجُنا

هوامشٌ نحنُ، يا سيِّدي

مُجرَّدُ هوامشَ

تُشبِعُنا كلمةٌ

وتُقنعُنا مُجرَّدُ كذبةٍ

نشربُ كؤوسَ الشَّجوِ مُترعةً

ولا نبالي

إنْ كنّا على حافةِ الكونِ نَحيا

نفترشُ السَّماءَ وتُعانقُ تربةُ الأرضِ جِباهَنا

بهدوءٍ جِئنا، بهدوءٍ نَمضي

من غيرِ أنْ نُقلِقَ

مناماتِ سَيّدِنا

ضمائرُنا فرحٌ وعيونُنا اِنكسارٌ

نشتري بأبخسِ الأثمانِ

أحزانَ العالمِ

نرضعُ أثداءً يابسةً

ونقتاتُ زمجرةَ الرِّياحِ

وبين مزارِعِ مآقينا

جيوشُ الذبابِ تَعتاشُ

كيف الحمائمُ في أحضانِ الغُربان تنامُ؟

وكيف الحِملانُ

لأنيابِ الضواري تأمنُ؟

مليونُ زِيوسَ

في الأرضِ يتحكمونَ

وصرخاتُنا في زنازينِ الضمائرِ حبيسةٌ

وأيادينا بأغلالِ الخَيبةِ مُكبلةٌ

هوامشُ نحنُ، يا سيدي

تأنَفُ مِنا الياقاتُ

وفي دواخِلِنا

يعرِّشُ كالَّلبلاِب الثَّلجُ

سطوُرنا بيضاءُ وحظوظُنا سُخامٌ

جئنا في الوقتِ التَّائهِ من بُوصلةِ الزَّمانِ

ننامُ في خُرمِ إبرةٍ

وتُسكتُ جوعُنا كِسرةُ خُبزٍ

وتُطفئُ ظَمأَ إملاقِنا وعودُ الوهمِ

بأجسادِنا نَتحَدَّى شُموسَ اليأسِ

لا صقيعٌ يَعنينا

ولا وهجٌ يحرقُ سَجايانا

فقد جَفَّتْ مِنذُ دُهورٍ دموعُنا

يلفظُنا الضَّجيجُ

وننامُ بِسَكِينَةٍ

من غيرِ أنْ نُقلِقَ رَقصاتِ الفراشاتِ

في أمسياتِنا الكئيبةِ

نأتي ونَمضي من غيرِ أن تدري بِنا

غيرُ الخنافسِ النَّهمةِ

الَّتي أبداً لا تشبعُ

من ماءِ أعينِنا

قالوا: مآسينا هي معاصينا

الَّتي في غابرِ الأزمانِ اقترفناها

وما علموا أنَّ آثامَهم مُرتسِمَةٌ

في خزيِّ أبصارِنا تَمثِلُ

كلَّما أغمضَ أحدُ الرِّفاقِ عَينَيه

أدركنا أنَّ الخَلاصَ قريبٌ

وأنَّ كَلَّ الهَوامشِ الخَاويةِ

على وشكِ أنْ تَمتلِئَ

معذرةً، يا سيدي، إنْ أصابكَ الضجرُ

فنحنُ هوامشُ، يا سَيدي

مُجردُ هَوامشَ

لا تُقدِّمُ ولا تُؤخِّرُ

***

بقلمي: جورج عازار

 

عندما ولجت زهور باب بيتنا المفتوح على مصراعيه، عانقت أمي بحب وهي تسألها عن الأحوال والأهل والأحباب، كنت عندها ما زلت نائما تحت بطانية سوداء خفيفة أشبه ببطانية السجناء، وحقيقة كنت مسجونا ذلك اليوم بسبب هطول الأمطار والبرد الشديد محروما من الخروج والاستمتاع بأشجار البرتقال المنتشرة على ضفاف نهر اللوكس المجاور لبيتنا... كانت ثيابي كلها قد تبللت بعد خروجي مباشرة من المدرسة، فقد كان يأتي علينا فصل الشتاء ممطرا وباردا وطويلا بلا كهرباء وبلا حطب ولا مدفأة، وأحيانا بلا مؤونة، وكانت متعتي إضافة إلى اللعب في البرك والمستنقعات وصيد طيور الدوري والحسون وجني البرتقال أن أنصت إلى حكايات أمي تحت نور الشمعة وصوت المطر والرعد عند انقطاع الكهرباء... جلست زهور قبالتي تساعدها أمي بوضع مخدة خلف ظهرها، ولكي أهرب من نظرات أمي وقريبتها بعد أن أيقظني صوتهما بدأت أتجول بعيني الناعستين متأملا شقوق جدران الغرفة ونوافذها ونور المصباح المشع فوق رؤوسنا وصورة جدي المعلقة على الجدار وهو يركب حصانا ويرتدي بدلة عسكرية، متخيلا ما عاشه في ظل الاستعمار الاسباني من حروب، ومعارك في الجبال والوديان... كانت زهور امرأة مليحة الوجه فارهة القوام والطول بعيون واسعة يشع منهما حزن لجراح عميقة أو قصة حب فاشلة، تخفي جمالها في جلباب بلون السماء وتغطي شعرها الأشقر بفولار أزرق غامق تنفلت منه كأشعة الشمس بعض الخصلات الذهبية..عندما تجلس زهور تقابل والدتي وجها لوجه لكي تتحدث معها بأريحية، وتكتشف من ملامحها ما أخفته أمي عنها من أسرار، وأحيانا لكي لا أسمعهما تخفض زهور من صوتها فيتحول الحوار بينهما إلى وشوشة وإشارات، وضحكات خفيفة... وهي ترتشف من كأس الشاي الذي قدمته لها أمي سألتني عن سبب عدم خروجي للعب مع أقراني، فردت أمي نيابة عني بأن ملابسي بللها المطر ولم تجف بعد وليس لي غيرها.. وبعدما انتهت من كأس شايها، وكمن تذكر شيئا نسيه، نهضت زهور من مكانها وودعت أمي بقبل حارة، بعد أن وضعت تحت وسادتي درهمين، ودست أوراقا نقدية في يد أمي وأقسمت عليها أن تأخذها وإلا لا قرابة ولادم يجمعهما، وودعتنا وهي تقول لي: "عليك أن تزورني غدا بعد الظهر لغرض ما" وتركتني سارحا كغزال باحثا عن شكل هذا الغرض ومضمونه... كانت زهور امرأة ذكية للغاية تحسب لكلامها وسلوكها ألف حساب... قلت لأمي سائلا:" هل لخالتي زهور أبناء؟ فأجابتني وهي تحرك رأسها بالنفي وأردفت قائلة :" لم ترزق بأبناء إنها وحيدة عمتي رحمة الله عليها وقد ورثت عن زوجها أموالا كثيرة وعقارات لا تحصى فزوجها كان من أغنياء البلد "..عند مساء الغد ارتديت ملابسي وحذائي البلاستيكي وقصدت بيتها كان المطر قد توقف للتو وبدت أشعة الشمس المنبعتة من بين الغيوم خجولة منكسرة، كنت أعرف طريق البيت جيدا فقد سبق لي أن زرته مع والدتي أكثر من مرة لكني كنت أبقى طوال الوقت ألعب بحديقته في انتظار خروج أمي، كان البيت فسيحا أشبه بقصر صغير يقع على أطراف المدينة حيث شيد الأغنياء فيلاتهم وبيوتهم الفخمة المطلة على بساتين البرتقال والنعناع المحادية لنهر اللوكس، وكان بيتها واحدا من هذه البيوت الفسيحة الهادئة المنعزلة... ضغطت على زر الجرس وانتظرت فتح الباب بعد لحظات أطلت علي زهور من الشرفة بوجهها المشرق وهي تطلب مني أن أنتظر قليلا حتى تنزل إلي، فتحت الباب وعانقتني بعد أن رفعتني قليلا من الأرض كعصفور وهي تقول لي:" أهلا أهلا بابن الغالي" ، وكانت لأول مرة تضمني إلى صدرها امرأة غير أمي فسرت في روحي قشعريرة زادها عطرها تيهانا وتشردا وضياعا، فسرت خلفها كجناحي فراش فتنه الضوء فتحول إلى رماد تذروه الرياح في كل الاتجاهات، أدخلتني غرفة نومها كانت الغرفة واسعة ومضاءة وهادئة، بها نافذتان واسعتان مشرعتان على المطلق بزجاج أندلسي يتدفق منه نور بألوان مختلفة، وستائر زرقاء شفافة مزينة بزهور بنفسجية وأسراب من العصافير الهائمة تحت شمس الغروب، وشرفة صغيرة تطل على الحديقة ومياه نهر اللوكس، وتقابلها مباشرة غرفة يظهر منها رفوف مكتبة يتوسطها بيانو بلون بني ومفاتيح بيضاء لامعة، كانت غرفة النوم مرتبة ومؤثتة بعناية فائقة وذوق رفيع ولمسة فنية ساحرة، وزينت جدرانها بلوحات جميلة.. ووجدتني مشدوها أمام لوحة فنية بها فتاتان صغيرتان جالستان قبالة البيانو مكتوب أسفلها الفنان بيير أوغست رينوار، لما رأتني شاردا في ملكوتها وأكوانها وسحرها الجارف كالشلال تركتني على هواي ولم تسألني كعادتها عندما تزورنا في البيت عن الدراسة ونتائجها، ولا عن والدي وأصدقائي وإخوتي، ولم أنزل من سمائها إلى جنانها على الأرض إلا بعدما وضعت كأس الشاي المنعنع الدافئ بين يدي الصغيرتين وهي تقرب مني بلطف ومودة مائدة سوداء مستديرة الشكل لكي تضع عليها ما لذ وطاب من الحلويات والعصائر.. لم تسألني إن كنت جائعا أوعطشانا أوعاريا، ولم تقل لي كما كانت تقول أمي وأختي الكبرى عندما أعود من المدرسة :"كل عمر كرشك" وإنما قالت لي بصوت ملائكي :"كل ما على هذه المائدة هو احتفال بنجاحك وتفوقك وبعد أن تنتهي منها كلها لك مني هدايا أخرى" وتذكرت المائدة التي نزلت على النبي عيسى بن مريم من السماء، وهكذا نزلت علي من السماء مائدة خالتي زهور لتفرح هذا القلب الصغير المتشظي والمنسي...وقبل أن انهي وليمتي فتحت خالتي زهور دولاب ملابسها وبدأت تخرج منه بعناية أحذية جلدية صغيرة الحجم أنيقة المظهر، وأقمصة وسراويل ومعاطف وبدلات وجوارب بأشكال زاهية وتضعهم على سريرها أمام عيني... كانت تنقلني برقتها من عالم إلى عالم آخر كساحرة وتتركني هكذا متشردا كالنجوم المضيئة في سمائها، وبصوت أنثوي دافئ قالت لي:"هذا كله على مقاسك ".. متى أخذت القياس ؟ لا أعرف ؟..أي ملاك هذا الذي يمشي على الأرض أمامي في صورة إنسانة؟ من أي نور خلقت هذه المرأة وصورت ؟.. وضعت زهور كل ذلك في حقيبة كبيرة بنية اللون وأقفلتها بإحكام وركنتها جانبا بعد أن تأكدت بأن كل شيء على مايرام، وتركت على السرير بدلة بيضاء اللون مخططة بالأسود وقميص شتوي ومعطف طويل وحذاء جلدي وجوارب بيضاء لامعة.. كنت وأنا أرتدي البدلة البيضاء كالحالم الذي يتمنى أن لا يوقظه أحد من حلمه حتى لا يخرجه من متعته ولذته وفتنته..وهي تمشط شعري بنفسها وترش على صدري وملابسي الجديدة عطرا خفيفاـ تقول لي في كل مرة وهي تربت على كتفي الصغيرتين :"هكذا أنت تبدو كفارس أو عريس أو أحلى منهما لا ينقصك الآن سوى الحصان وليلى لتكون شهرزاد زمانك، ثم تنهدت كما لو أنها تذكرت لحظة جميلة سرقها منها الزمن".. وفتنتني ليلى أكثر مما فتنني الحصان والفارس وشهرزاد، مسكت بيدي الصغيرة الباردة والهشة كجناحي فراش قزحي فسرت من جديد في جسمي كل مشاعر الدنيا وأحاسيسها واشتعلت خدودي وأنفاسي وتوهجت كنار الفرن التي كانت تخبز عليه أمي رغيفها، كما لو أنها برقتها أيقظت بداخلي براكين صغيرة نائمة من الحرمان فثارت حممها ونيرانها فأذابت كل شيء في طريقها الروح والجسد والعقل، فهي لم تكن تمسك أصابع يدي وإنما كانت تمسك روحي التى ظلت عالقة بروحها وأنفاسها وعطرها لحد الآن، وهكذا ساقت روحي كجدول صغير إلى مكتبها ومرسمها المطل على حديقة غناء وبساتين مخضرة تعانق سماء نهر اللوكس.. كانت المكتبة تضم مجموعة من الرفوف المملوءة عن آخرها بالكتب والمجلات، والصحف الملونة الموسومة بعناوين وأسماء مختلفة، كانت تنظر إلي أحيانا وتحدثني عن كبار الكتاب والمبدعين وحياتهم وهي تنتقي لي مجموعة من الكتب والمجلات كما تنتقى الزهور من الحدائق الوارفة لتخبرني في النهاية بأن بدايتها كانت مع هؤلاء فلولاهم ماعرفت الدنيا على حقيقتها، ولما صارت فنانة وكاتبة مشهورة، ثم أجلستني على كرسي مكتبها ووضعت يدها على كتفي وانحنت قليلا قبالتي حتى صارت أنفاسها الرقيقة كنسيم يداعب جفوني أو كمن يريد تعليم حكمة أو قول سر خطير قالت لي وعيناها مصوبة على عيني وملامحي، ويداها الرقيقتان تخفي يدي الصغيرتين بين أصابعها الدافئة :" هذا سراجك الذي سيضيء ظلمة طريقك وهذا مركبك الذي سوف يعبر بك إلى ضفتك المشتهاة التي تحلم بها " وخجلت ان أسألها عن السراج وعن المشتهى والضفة، وعندما كبرت وتعلمت الحكمة والتأويل على يدي استاذة الفلسفة وكانت تشبه زهور في أشياء كثيرة، عرفت بأن زهور كانت هي سراجي ومنجاي ومركبي وضفتي بعد أن أطلقت روحي من قفصها وحررتها لتعيش في أكوانها وحكاياتها للأبد...جمعت كل الكتب وهي توصيني بقراءتها والحفاظ عليها ثم وضعتها في محفظة جلدية كأنها صنعت للتو من شدة لمعانها..كانت تخرجني بيد من قبعتها السحرية كحلم وتطلقني بيدها الأخرى عصفورا هائما فوق شرفاتها.. وضعت المحفظة على كرسي المكتب فيما كنت أنا مازلت مرفرفا ما بين الكتب واللوحات المعلقة على جدران مكتبتها، كانت مغلب اللوحات موقعة باسمها الفنانة زهور بدت لي المرأة التي أمامي غير المرأة التي تزورنا بالبيت غير زهور المرأة العادية البسيطة قريبة أمي التي تأتي كالفرج ساعة الضيق لتخفف عنا وطأة الحياة وقسوتها وعذابها، بدت وهي تحدثني عن الإبداع والثقافة ودورهما في بناء الإنسان والمجتمع والحياة امرأة مختلفة تماما.. امرأة أكثر سحرا وجمالا وإشراقا وحيوية ونشاطا ونضجا وفلسفة.. وضعت كأس العصير أمامي فوق المكتب وطلبت مني ان أنتظرها ريثما تنتهي من ارتداء ملابسها لكي توصلني بنفسها إلى البيت، ولم ترتدي هذه المرة الجلباب كم كانت تفعل عند زيارتنا وإنما ارتدت فوق القميص البني وسروال الجينز الأزرق معطفا طويلا أسود اللون أخفى الجزء العلوي من حذائها الجلدي ذو الكعب العالي، تفوح منه ومن جسدها رائحة عطر بارزي يشرد غزلانا بأكملها ولم تخف هذه المرة وجهها بل تركته مشعا كقمر يطل من عليائه، وسمحت لشعرها الأشقر لأول مرة بأن ينسدل كأشعة الشمس على ظهرها ويغطي كتفيها، و لم أكن أعرف أنها تملك سيارة ولم تزرنا بها من قبل، أخرجت السيارة من الكراج وفتحت لي الباب وطلبت مني ان أركب كأمير بجانبها، وتركت العنان للسيارة ولصوت عبدالحليم وهو يغني سواح وأنا ماشي في البلاد، لتشعل في الحرائق من جديد وهي تسوق وتردد بعض الكلمات مع عبدالحليم وتدق بأصابعها على المقود، قالت لي وعيناها على المارة والسيارات المارقة بجانبها وخلفها :"كنت مثلك طفلة خائفة ومرتجفة وعاجزة وعندما اكتشفت متعة القراءة والفن والموسيقى والحلم والإ بداع والفارس والحصان ولوعة المشاعر صرت كما أشتهي، تحررت من خوفي وعجزي وحطمت القفص الذي كان يسجن خيالي.. " وتنهدت ثم صمتت وأخذها الشرود بعيدا إلى عوالم ذكرياتها...عندما وصلت السيارة الى باب بيتنا لم أشعر بالمسافة الفاصلة بين البيتين ولا بالشوارع المزدحمة ولا بوجوه الناس.. فتحت الباب من جديد لكي أنزل، لما نزلت ربتت على شعري وقبلتني على خدي الأيمن وهي تودعني على رصيف بيتنا قائلة :"لا تنس ما قلته لك بلغ سلامي لأمك ولوالدك، كانت كل حركاتها وحديثها عن والدي وسؤالها عنه ومساعدته له في أيام الشدة توحي بأنها كانت تحبه لحد الجنون وأن قصة أشبه بقصص الشعراء كانت بينهما وانتهت بالفشل من غير زواج ولا استقرار، فوجدت في ما يذكرها بنفسها وعالمها وحكايتها وطفولتها وشبابها.. ودعتني بعد أن وضعت الحقيبة والمحفظة بجانبي وغابت كقرص الشمس تاركة في الروح إحساسا غريبا مازال يسكنني لحد الآن..ومنذ ذلك الوقت وبعد وفاتها مباشرة وما خلفه غيابها من حزن وفراغ في نفسي، بدوت طفلا آخر في عيني والدتي وإخوتي ومعلمتي وأقراني تملكني الشرود وصرت أنشد العزلة باحثا عن روحي التي شردتها كالعصافير قريبة أمي خالتي زهور.

***

قصة قصيرة

عبد الرزاق اسطيطو

...........................

* (أي تطابق ما بين أحداث هذه القصة وشخصياتها هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع والحقيقة)

 

عن الحب والعار، حين تُصبح الترعة شاهدًا على العاشقين.

لم تكن فاطمة سوى زهرة بريّة نبتت على ضفاف قرية لا تعرف الرحمة، إلا إذا مرّ بها الموت. كانت ابنة الحاجة زينب، صاحبة القهوة القديمة، تحمل قوامًا يسرق الأبصار، ووجهًا كُتب عليه الجمال كما يُكتب الشعر على ورقٍ عطِر.

لكنّ الجمال، في قريتنا، لا يُغفر.

صلاح، شاب بسيط يعمل على المعديّة التي تعبر الترعة، كان يراها كل صباح كأنها حلمٌ يتجدّد. قلبه حفظ ملامحها أكثر مما حفظ شكل السماء في المواسم. لم يتكلم، لم يطلب، كان يحبها بصمت… كما يفعل من لا يملكون شيئًا سوى نبضهم.

وفي ليلة قاسية، سقطت القرية في الظلم.

صابر، ابن العمدة، أرادها لنفسه، لكنها رفضته. فلفّق لها تهمة شرف، وزوّر رسالة، ودفع بمن يشهد زورًا. سقطت فاطمة، ولم يسأل أحد إن كانت بريئة.

في فجر اليوم التالي، وجدها صلاح على ضفاف الترعة، حافية، تهمس للريح.

قال لها:

– "نهرب..؟ نعدّي المعديّة ونسيب كل ده ورا ضهرنا."

أجابت وهي تبكي:

– "العار بيعدّي معانا يا صلاح… الترعة دي ما بتنساش."

رحلت المعديّة بلا رجعة.

لم يُعثر على فاطمة، ولا على صلاح. وُجد فقط إيشاربها الأبيض عالقًا بخشبة، وقميص صلاح مبلول على الحافة.

سكتت القرية. ماتت الحاجة زينب كمداً بعد أيام.

وصابر..؟ صار يهذي كل ليلة باسم فاطمة، ويرى وجهها على صفحة الترعة التي لا تكذب.

لكن الغريب... أن الترعة لم تعد كما كانت.

كل من يمر بالمعديّة بعد منتصف الليل، يسمع ضحكة خافتة، ويرى ظلّين يعبران الماء. البعض أقسم أنه سمع اسم "صلاح" يُهمس مع صوت المجداف.

أما صابر، فاختفى ذات ليلة، ووجدوا معطفه على الحافة ذاتها، وعلى الطين كان مكتوبًا بحروف كأنها محفورة بنار:

"الترعة لا تنسى من ظلمها."

وصارت القرية تروي القصة كما تروى الأساطير.

صارت المعديّة تُعرف باسم "معديّة العاشقين"، وصارت الترعة تحمل وشمًا لا يمحوه الزمن… اسمه فاطمة...!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

 

أم الغرف، غرفة خضراء، حُدودُها بلا جُدران، بل من دفءِ كَفّينِ مُمتدَّتينِ إلى الضّوء.

غُرفةٌ تُشبهُ حضنَ أمٍّ تُسمّى جنة،

غُرفةٌ تشبهُ فجرَ العيونِ قبلَ أنْ تُبصرَ اللّونَ،

غُرفةٌ بلا وقتٍ، بلا ذاكرةٍ، بمَنفذٍ وحيد إلى العالَمِ.

(1)

في غُرفةِ الطّفولةِ كانَتِ الجدرانُ لوحاتٍ بِخُطوطٍ مُرتعشة،

كانتْ هُناكَ دُميةٌ بعَينٍ واحِدةٍ تُحدِّقُ في الغَدِ،

وكانَتْ نافذةٌ تُرَحِّبُ بالشّمسِ كأنَّها ضيفٌ حَبيبٌ لا يعودُ مَرَّتين.

هُناكَ في الزَّاوِيَةِ كانَ الحُلمُ يُبنى مِثلَ قَلعَةٍ مِن وَرق،

والخَوفُ يَختبئُ تَحتَ السَّريرِ مِثلَ قِطٍّ مَحشورٍ في ظِلِّ الغَفلة.

(2)

في غُرفةِ الحُبِّ،

تَتمَدَّدُ السُرر كأنّها قُصائدُ بلا قوافٍ،

وتَتَشابَكُ الأيادِي كأغصانٍ تُخفي العُشَّ عنِ العاصِفَة.

المَرايا تَخجَلُ مِن نَفسِها،

والضَّوءُ يَتَسلَّلُ خَفيفًا كَأنَّهُ يَخشى أن يُوقِظَ العِناقَ.

تَحترِقُ الشُّموعُ، لكنَّ العِشقَ لا يَصيرُ رَمادًا.

(3)

في غُرفةِ الأبناء،

الجُدرانُ مُلَوَّنَةٌ بِضَحكاتٍ عَابِرَة،

والأبوابُ تَرتَجِفُ مِن وَقعِ الخُطى المُتَسارِعَة.

هُناكَ في الرُّكنِ الصَّغيرِ، دُميةٌ جَديدةٌ،

وهُناكَ في الرُّكنِ الآخَر، أحلامٌ مُستَقبَلَةٌ لم تُفتحْ بَعد.

الغُرفةُ تَكبَرُ، وَلكنَّ الأطفالَ يَغادِرونَها دُونَ أن يَلتَفِتوا وَراءَهُم.

(4)

في غُرفةِ المَرض،

الجُدرانُ تُصغي إلى الأنينِ كأنَّها أمٌّ عاجِزَة،

والسَّريرُ أجنحَةٌ مكسورةٌ لا تَطير.

المَصلُ يُقطِّرُ الوَقتَ في العُروقِ،

والتَّنهُّداتُ تُعيدُ تَرتيبَ الهواءِ بِلا فائدة.

هُناكَ عِطرٌ مَنسِيٌّ على الطَّاولة،

وهُناكَ نافِذَةٌ مُغلَقَةٌ على غَيمَةٍ لا تَبكي.

(5)

في غُرفةِ السِّجن،

الأيّامُ مَحصُورَةٌ بينَ قَضبانٍ ضَيِّقَة،

والزَّمَنُ يُعيدُ وَجهَهُ المُتَشَابِهَ كَأنَّهُ وَجهُ الحارِس.

هُنا الأحلامُ تَختَنِقُ،

وهُناكَ الزَّوايا مُثَقَّبَةٌ بالأمَلِ القَليلِ كَسَطحِ القَمَرِ المُعتِم.

الجِدارُ مَحفورٌ بِأسماءٍ أَكَلَها الوَقتُ،

والأبوابُ لا تَفتَحُ إلّا عَلى لَيلٍ طَويل.

(6)

في غُرفةِ الوَحدَةِ،

الصَّمتُ جِدارٌ، والمَاضي بابٌ مُوارَب،

الصَّدى يَعودُ مِثلَ زائِرٍ لا يُرِيدُ أن يَغادِر،

والنَّظرَةُ تَرتَطِمُ بالسَّقفِ كَأنَّها سُؤالٌ لا يُريدُ إجابةً.

هُنا يَنبُتُ المَساءُ كالعُشبةِ،

وهُناكَ في الزَّاوِيَةِ، يَتَكدَّسُ الوَقتُ بِلا مَعنى.

(7)

في غُرفةِ المَوت،

الهواءُ ثَقيلٌ كأنَّهُ صَمتُ الأشجارِ قَبلَ السُّقوط.

المَرايا لا تَعكِسُ شَيئًا،

والسَّريرُ مَرتَب مِن غِياب.

هُناكَ ساعةٌ مُتَوَقِّفَة،

وهُناكَ بابٌ مَفتوحٌ إلى مَكانٍ لا يَعودُ مِنهُ أحَد.

(8)

الحَياةُ غُرَفٌ،

بَعضُها يَتَّسِعُ للحُلمِ،

بَعضُها يُغلَقُ بِالألَم،

بَعضُها يُضِيءُ بِالمَحبَّةِ،

وبَعضُها يُطفَأُ بالمَوت.

كُلُّ الغُرَفِ نَدخُلُها،

كُلُّ الغُرَفِ نُغادِرُها،

لكنَّ بَعضَها يُسافِرُ مَعَنا في أعمَاقِنا،

كَأنَّهُ طريق لا يَنتَهي.

***

مجيدة محمدي - تونس

في أزقَّةِ "إدِنْبَرَه"،

تتسلَّلُ الذِّكرياتُ على وَقْعِ خُطىً تائهة،

وأنغامِ مزمارِ قِرْبةٍ إسكتلنديّة،

تنبعثُ من زُقاقِ "جوليس كْلوس."

تتيهُ الخواطرُ في متاهاتِ زمنٍ قاسٍ،

وتناقضاتِ "جيكل وهايد"،

رغمَ دقَّةِ ساعةِ برج "البَلْمُورال."

*

أرصفةُ "الرُّوَيْلْ مايل" المتينةُ،

لم تُنْهِكْها وَقَعَاتُ أقدامِ المُشرَّدين،

ولا تلكَ الطاولةُ المعروضةُ عليها

مطويَّاتُ الحُرِّيَّةِ لفلسطين.

*

في الأعالي، تُحلِّقُ قلعةُ "إدِنْبَرَه"،

تُراقبُ بمهابة تَلَّةَ "آرثر سيت"،

وهَضْبَةَ "كالتون"،

تحرس بصمت ميناء "لِيث" القديم.

*

وفي الطَّرَفِ الغربيّ،

تَنطلقُ قطاراتُ مَحطَّةِ "هاي ماركت"

كذِكرياتٍ عابرة،

تلوّحُ من النّوافذ،

ثم تذوبُ في الضّباب الدّاكن.

*

في مَقهى "الكَبشِ الأسود"،

أصابعُ تُلاعِبُ حافَّةَ كوبِ قهوةٍ هجينة،

تحاول اصطياد خواطرَ جنوبيّةٍ

في أزقَّةِ "إدِنْبَرَه" الشّماليّة.

***

نزار فاروق  هِرْمَاسْ

يَحلُمُ أن يعيشَ في مدينةٍ فاضلةٍ،

يحلُمُ أن يرى الأُناسَ في الصباحْ،

ضاحكةً وجوهُهم،

راضيةً نفوسُهم،

يحلُمُ أن يستافَ في الرياحْ،

روائحَ الغصنِ النديِّ عندما يجرحُهُ التفاحْ،

**

يحلُمُ أن تنتهيَ الحروبْ،

يحلُمُ أن يعانقَ الإنسانْ،

أخاهُ مهما شطّت الدروبْ،

**

يحلُمُ أن يسيرَ قربَ النهرِ في الغروبْ،

فيُبصرَ الأسماكَ من صفائِهِ،

ويبصرَ الشمسَ التي من خجلٍ تذوبْ،

مُحْمَرّةً في مائِهِ،

**

يحلُمُ أن يرى العراقْ،

غيرَ الذي يراهْ،

يحلُمُ بالأمطارِ لا الدماءِ من سَماهْ،

**

يحلُمُ بالوُديانِ ذاتِ الخضرةِ المنبسطةْ،

وأن يظلَّ راكضاً بلا نهايةْ،

كأنّهُ قلادةٌ منفرطةْ،

**

يحلُمُ أن يعيشَ في مكتبةٍ،

يغفو وفي يديهِ يُنسى الكتابْ،

توقظُهُ الشمسُ التي تُقبّلُ الأهدابْ،

**

يحلُمُ أن يظلَّ حالما،

كي لا يرى الأوجاعَ والهزائما،

تَترى عليهِ مثلَ ذئبٍ جائعٍ،

**

يحلمُ أن تنكتبَ القصيدةْ،

من ذاتِها بلا رهائنْ ؛

دموعِهِ والقلبِ وانفعالِهِ،

**

يحلمُ بالقليلِ من قُماشةِ النسيانْ،

يَرتُقُ فيها ما رأى،

منَ الحروبِ والإنسانْ،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

قصيدتان

(1)

هناكَ حياة ..

هناكَ حياة

أنت لستَ الوحيدَ الذي أنجبتْهُ الحياةْ

*

هناكَ حياةٌ تحيلُ الغصونَ الى الشجرهْ

هناكَ حياةٌ، يقولُ انتظارُ العروقِ الى غيمةٍ ممطرهْ

هناك حياةٌ تحيلُ الرضيعَ الى صدرِ اُمِّهْ

هناك حياةٌ لِتشمسَ شمسٌ وتمتدَ تستقبلُ الضوءَ صبحاً أيادي النخيلْ

*

أنتَ لستَ الوحيدَ الذي أنجبتْهُ الحياة

هناك حياةٌ لكي يعشقَ النهرَ شاعرُهُ، ويموتْ

هناك حياةٌ لكي يحكمَ العاشقونَ ـ بحكمِ الهوى ـ الملكوتْ

فمَن قالَ لكْ

بأنَّ الحياةَ تغيبُ اذا غادرتْ منزلكْ؟

***

(2)

رئيسٌ يقودُ خيوطَ الرئيس!

نصَّبوهْ

ثمَّ قالوا: أتوا ـ كي يكونَ رئيساً ـ بِهِ ناخبوهْ

*

صنَّعوهْ

والى أنْ يجئَ الزمانُ لأدوارِهِ علَّبوهْ

*

هو لا يطلبُ الآنَ شيئاً سوى أنْ يكونَ الرئيسَ أَمامَ المُشاهِدْ

فيقولونَ عنهُ: الرئيسُ البطلْ!

*

والكواليسُ تعلمُ مَن كانَ في مسرحٍ للدمى

رئيسٌ يقودُ خيوطَ الرئيس

***

شعر: كريم الأسدي

اهداء الى روح امي 

في حضن الليل، حيث يسود السكون وتغفو الأزقة على أنفاس النائمين، دوّى صوت الطرق على باب بيتنا، لكنه كان مختلفًا هذه المرة. لم يكن طرقًا صاخبًا كمن يستغيث في فزع، ولا كان واثقًا كمن يطلب العون في يقين، بل جاء متردّدًا بين الخجل والاضطرار، كأنه يخشى أن يثقل بطرقه على صدر الليل.

نهض والدي على الفور، وفيما فتح الباب، تطلّعنا إلى وجه غريب يتوارى خلف ستار القلق والاستعجال. بادر بتعريف نفسه على عجل، قال إنه مرسل من قِبل نجوى، صديقتي الأقرب إلىّ في المدرسة، وأخبرنا بصوت مختلط بالوجل أن نجوى الآن وحيدة، تتلوى تحت وطأة المخاض في عيادة الطبيبة القريبة من بيتنا، تعاني من حمى شديدة ووضع متعسّر، وتحتاج إلى امرأة تكون إلى جوارها في هذه اللحظة العصيبة.

لم يكن طلب المساعدة أمرًا غريبًا عن بيتنا، فقد كان ملاذًا للباحثين عن العون، وكان قلب أمي ملجأً للضعفاء والمحتاجين. لم تكن الحاجة تمرّ أمامها دون أن تمدّ يدها، لم تتردد يومًا في تضميد الجراح، او زرق الإبر للمرضى أو في مواساة أمٍّ تنزف صرختها مع مولود جديد، كانت تسابق الليل قبل أن يختطف الأرواح، وكأنها قد نذرت نفسها لتكون سندًا في ساعات الألم والضياع. وكنّا جميعًا ندرك أن العطاء قد كُتب عليها كما كُتب علينا أن نكون ظِلًّا لها، معينًا لها لا يتأخر.

لكن الليلة كانت مختلفة… هناك شيء ما في صوت الرجل، في تردده، في ذكر اسم نجوى تحديدًا، جعل القلق يتسلل إلى روحي كتيار بارد يتسلل إلى العظم. نجوى؟ كيف تكون وحيدة في لحظة كهذه؟ كيف صار بها الحال إلى أن تحتاج إلى يد غريبة بدلًا من أهلها؟ وهي في حالة مخاض؟

لم تمنحني أمي الوقت للاستغراق في أفكاري، هرعت تتهيأ للخروج، ارتدت عباءتها في عجالة، أعدّت حقيبتها الصغيرة التي كانت دائمًا حاضرة لمثل هذه المواقف، ثم التفتت نحوي بنظرة أدركت معناها دون أن تنطق بكلمة. لحقت بها على الفور، لكنني توقفت عند الباب، حيث كان الرجل لا يزال واقفًا في قلق. نظرت إليه وسألته بشيء من الحدة التي لم أستطع إخفاءها:

— "من تكون أنت بالنسبة لنجوى؟"

خفض الرجل رأسه وكأنه يحاول التملّص من السؤال، ثم قال بصوت خافت:

— "أنا خطيبها… أو زوجها."

تجمدت في مكاني، وشعرت بأنني لم أسمع جيدًا. كيف ذلك؟ لقد كنت أعلم أن نجوى منذ ان تركت المدرسة لم تتزوج بعد! لكن الرجل لم يكن في موضع دفاع أو تفسير، بل كان فقط يرجو المساعدة، يتوسل بعينيه أكثر مما تنطق به شفتاه. أما أمي، فلم تعبأ بأسئلتي ولا بذهولي، فالموقف كان يتطلب العطاء لا التساؤل، الإغاثة لا الأحكام. دون أدنى تردد، اندفعت مع الرجل نحو العيادة، حيث كانت نجوى بين الحياة والموت، تصارع وحدتها وألمها في أوج احتضار الليل.

أما أنا، فبقيت خلف الباب المغلق، أتنفس وجعًا لم أفهمه بعد. عاد الجميع إلى النوم، لكن رأسي كان أشبه ببحر هائج، يعجّ بالصور والتخيلات، كل واحدة منها أشد قسوة من سابقتها. كنت أعلم أن الحياة ليست عادلة دائمًا، وأن نجوى كانت على علاقة برجل ما وقد عانت كثيرًا بسبب هذه العلاقة، لكنني لم أتصور يومًا أن تصل إلى هذه اللحظة.

تساؤلاتي لم تهدأ، وشعرت كأنني أمام باب جديد من الأسرار، باب يوشك أن ينفتح ليكشف ما لم أكن مستعدة لمعرفته بعد.

كنا صديقتين لا تفصل بيننا الأسرار، نتقاسم اللحظات كما نتقاسم الهمسات، بلا تصنع أو تكلف. منذ سنوات الدراسة الأولى في الثانوية، كنا نعرف أدق تفاصيل حياة بعضنا البعض، من أصغر الخبايا العائلية إلى أكثر الأسرار خصوصية. عرفتُ كل شيء عن عائلتها: والدها الشرطي الذي يعمل في محافظة بعيدة عن العاصمة، لا تراه العائلة إلا مرة كل شهرين، وأمها التي تحمل على عاتقها مسؤولية تربية أبنائها الأربعة، ومن بينهم الأخ الأكبر ذو الستة عشر عامًا، الذي كان يتباهى بحمل سكينه في جيبه، متوهمًا أنه درع العائلة وحاميها من العار والاعتداءات.

كنا نجد متعة خفية في العودة من المدرسة سيرًا على الأقدام، نقطع الطرقات الطويلة، غير مكترثتين للوقت، غارقتين في أحاديث لا تنتهي، نحلل شؤون الحياة وننثر الآراء حول كل شيء وأي شيء. لكنني بدأت ألاحظ تغيرًا في ملامح نجوى؛ بريق عينيها المتقد صار أكثر شرودًا، شغفها بالدراسة تراجع، وأيام غيابها أصبحت متكررة. لم أنتظر طويلًا حتى اعترفت لي، بصوت تملؤه السعادة والرجفة، بأنها وقعت في الحب.

فرحتُ لها، حبًّا بفرحها، وسألتها بفضول عن المحظوظ الذي خطف قلبها. نظرت إليَّ بعينين يشع منهما ضوء غريب وقالت: إنه صاحب ورشة التصليح القريبة من منزلهم، ذلك الرجل الذي أحضرته والدتها لإصلاح التلفاز المعطل. قالت لي إنهما أحبا بعضهما من النظرة الأولى، حتى إنه رفض أن يتقاضى أجره عن التصليح، فدعتْه والدتها إلى العشاء عرفانًا بالجميل. ومنذ ذلك اليوم، صار يتردد إلى بيتهم، تراقبها عيناه بحب واضح، وتتركهما والدتها يجلسان معًا لساعات، وكأنها ترعى هذا الميل الناشئ بينهما.

استمعتُ لها حتى النهاية، ثم سألتها بحذر: "وماذا بعد؟ كيف تخططان للمستقبل؟" لكنها صمتت لوهلة، وكأنها تتردد في الاعتراف بشيء يخنق كلماتها. وأخيرًا، بصوت خجول متردد، همست: "هناك عقبة... إنه متزوج ولديه أطفال."

شعرتُ وكأن صاعقة ضربتني. ارتددتُ إلى الخلف وتوقفت، قلتُ بذهول: "ماذا؟!" نظرتْ إليَّ بعينين مغرورقتين بالدموع، ثم تمتمت: "لقد زوّجوه بابنة عمه وهو صغير... لكنه لم يحبها قط."

لم أتمالك نفسي، انفجرتُ في وجهها: "ولكن ما ذنب الأطفال؟ الحب لا يكون حبًا إذا كان خرابًا لبيوت الآخرين!" رأيت ارتجافة في عينيها، لكنها ظلت صامتة، كأنها لا تريد سماع الحقيقة القاسية التي تنبض بين كلماتي. تابعتُ بحدة: "كيف تثقين برجل يخون زوجته وأطفاله؟ وما أدراكِ أنه لن يخونكِ أنتِ في المستقبل؟ الخيانة طبع متأصل، يا نجوى، لا يتغير بسهولة... فكّري بعقلكِ قبل أن يستدرجكِ قلبكِ إلى هاوية لا خروج منها."

ودّعتها ذلك اليوم على أمل أن تفكر مليًّا في كلماتي، ووعدتني أنها ستفعل. لكنها لم تتحدث عن الأمر مجددًا، وإن مرّ على لسانها عرضًا بعد أيام. ثم، فجأة، انقطعت نجوى عن الدوام المدرسي، وكأنها اختفت من عالمي تمامًا...

كانت الأسئلة تتناسل بين أروقة المدرسة كأنها شظايا ضوء تتكسر على جدران الصمت، تبحث عن إجابة لغياب نجوى الغامض. كانت الأعين تحاصرني كأنني المفتاح الوحيد لهذا اللغز، فأنا أقرب صديقاتها، والأقرب دومًا مُطالب بالبَوح. لم أحتمل وطأة الأسئلة، فانطلقت إلى منزلها، تسبقني ظنوني وتلاحقني الهواجس.

عند عتبة بيتها، استقبلتني والدتها بنظرة قلقة، وأخبرتني أن نجوى طريحة الفراش. دخلتُ غرفتها بحذر، وما إن التقت عيناها بعيني حتى انتفضت كطائر جريح، وارتمت بين ذراعيّ، تقبلني بحرارة، كأنها تغالب بردًا موغلًا في عظامها. لاحظت شحوبها المقلق، ووجها الذي صار كصفحة من رماد، وجسدها الذي صار ظلًا لنفسه. همستُ إليها بسؤال حائر: "ما بكِ، يا نجوى؟ أهو المرض الذي سلبك إشراقتك؟"

أجابتني بصوت خافت، كأن الكلمات تستثقل الخروج من بين شفتيها: "مجرد مشاكل في المعدة، لا شيء يستحق القلق..." لكنني كنت أرى في عينيها ما هو أبعد من مجرد وعكة جسدية. كنت أقرأ ارتجاف السر الذي لا يزال يتخبّط في جوفها، لكنه ظل عصيًا على الإفصاح. لم أشأ أن أنبش جراحها، ولم أُثر الحديث عن قصتها التي حسبتُها طُويت مع الزمن. ودّعتها على أمل أن أراها قريبًا، لكن الأمل شيء، والواقع شيء آخر.

مضى شهران على زيارتي الأخيرة، وحين عاودتُ الذهاب، لم أكن أتوقع أن أجدها على هذه الهيئة. رأيتها وقد امتلأت ملامحها بنضج مباغت، وجسدها المتعب قد ازدادت استدارته بشكل لم تفلح ملابسها الفضفاضة في إخفائه. شعرتُ بأن صدمة صامتة تسري في جسدي، لكني تماسكت وسألتها بحذر عمّا طرأ عليها. قاطعتني أختها بضحكة ساخرة، قائلة: "هذا من أكل الثريد!" وضحك الجميع، وشاركتهم الضحك، لكن قلبي كان يختنق بين ضلوعي.

في تلك اللحظة، أدركت أن نجوى كانت تخوض معركة لم تجرؤ على البوح بها، مع مجتمع لا يرحم، ومع نفسها التي لم تعد تعرفها. كانت ضحكاتنا تملأ الغرفة، لكن في عينيها كان هناك شيء يشبه الغرق، صرخة لم تجد سبيلها للخروج.

لم يكن قد مضى وقت طويل بعد هذه الزيارة حتى باغتتنا الحقيقة في منتصف الليل، كطيف داهم يقتحم سكون العتمة. كانت صدمة جعلت كل الأسئلة المعلقة تسقط دفعة واحدة، حين وصلنا النبأ من خطيبها. عندها فقط، فهمت أن نجوى لم تكن مريضة بالمعدة، بل كانت تصارع زلزالًا هز كيانها، زلزالًا جعلها تفقد السيطرة على حياتها، وتتركنا جميعًا على حافة الصدمة، نبحث في صمتها القديم عن كلمات لم تقلها، وإجابات لم تجد طريقها إلى النور.

ما إن رحلت أمي مع ذلك الرجل حتى شعرتُ بوحدة خانقة تلتف حولي كأفعى جائعة، أخذت أدور في باحة الدار كأنني أبحث عن منفذ يحررني من شرنقة الغضب التي سرت في عروقي. لم أجد متنفسًا سوى صبّ جام سخطـي على نجوى، ألعن اللحظة التي دخلت فيها حياتي، اللحظة التي منحتها فيها ثقتي. كيف لها أن تتصرف بهذه الرعونة؟ كيف تغامر بمصيرها ومصير من حولها بلحظة طيش لم تفكر في عواقبها؟ لقد خذلتني، غدرت بصبري عليها وبمحاولاتي المستميتة لفهمها. لم أعد أطيق حتى سماع اسمها، كرهت كل ما يمت لها بصلة، حتى نفسي كرهتها لأنها ذات يوم صدّقت بأنها تستحق الصداقة.

كان الليل كئيبًا، ثقيلاً، يسحق أنفاسي تحت وطأته، وحين لاح الفجر، استيقظ أبي كعادته، أعدّ نفسه للخروج، ولم يسأل عن أمي، فقد اعتاد على هذه النداءات الطارئة، اعتاد أن تُطلب أمي لإسعاف أرواح تتخبط في تيه الحياة. مضى أبي، ولم تمضِ عني الكآبة. لم تمضِ عني تلك الهواجس السوداء التي تغلغلت في فكري.

بعد دقائق، عادت أمي، كانت تحمل بيديها سلة كبيرة تتدثرها لفافة بيضاء. لوهلة، تلاشى كل شيء حولي، كل الأصوات، كل الحواس، ولم يبقَ إلا هذا المشهد المشؤوم. سألتها بصوت مخنوق، مرتعش: "ما هذا يا أمي؟". فاضت الدموع من عينيها وهي تهمس بأسى: "إنه صبي... طفل جميل... لكنه وُلد ميتًا". أرادت أن تريني إياه، لكنني تقهقرت إلى الخلف، وكأن شبحا او وحشا خرج من السلة ليحاصرني. صرخت، لم أعد أحتمل، لم أعد أريد أن يكون لهذا الليل الموحش امتداد في بيتنا. "لماذا جلبته إلى هنا؟ لا أريده! لا أريد أن أسمع اسم أمه مجددًا!". كانت مشاعري تتدفق كطوفان هائج، لا هدوء فيه، لا اتزان، فقط رفضًا مطلقًا لكل ما له علاقة بها.

فهمت أمي قصدي، لم تجادلني، فقط قالت بصوتٍ حزين: "كادت نجوى أن تموت، وخطيبها... أخبرني أنه لا يستطيع الزواج بها وبطنها منتفخة بهذا الشكل، لكنه سيفي بوعده حالما تستعيد صحتها". كلماتها لم تفعل شيئًا سوى إذكاء النار المشتعلة في داخلي. "وماذا عن هذا الشيء في السلة؟"، سألتُ بحدة لم أخجل منها، لم أشفق على شيء. تنهدت أمي، كأنها تحمل جبال الدنيا فوق كتفيها، وقالت: "سيأتي أخوها ليأخذه".

ضحكت بتهكم مرير، كمن يعجز عن تصديق ما يسمع: "وماذا؟ هل سيأتي بسكينه ليغسل العار؟". نظرت إليّ أمي بحزن عميق، بعينين تحملان أكثر مما أستطيع قراءته. لم تقل شيئًا، لكن دقات الباب جاءت كفاصل قاطع بيني وبين صخب أفكاري. كان الأخ قد جاء... جاء لينهي قصة هذا اليوم الذي لم يكن في الحسبان، اليوم الذي ترك في روحي ندبة لم تندمل."

***

سعاد الراعي

  

في نصوص اليوم