نصوص أدبية

نصوص أدبية

حين دخلت الصافية الى بيتنا لم تكن غير طفلة عمرها لا يتجاوز الثماني سنوات، فقدت أمها ثم حرمها ابوها من المدرسة وأتى بها الى المدينة ليشغلها كخادمة في أحد الأحياء المشهور بغنى أهله، وتشغليهم لخادمات بثمن مرتفع؛ تلقفتها والدتي بالصدفة، فأبوها قد طرق باب بيتنا بالخطأ، باحثا عن رجل مقاول في البناء، كان قد أوصاه بخادمة صغيرة لزوجته الثانية التي ماتزوجها الا بعد أن هددته بفضيحة، فقد وثقت به حين توسلت مرافقته في سيارته الى المدينة، عائدة الى عملها كخادمة في احدى البيوتات..فتنه قدها وطولها بطمع في جسدها، فتعمد ان يتوقف أكثر من مرة في الطريق الى أن داهمه الليل فاغراها بالمبيت معه في احدى منازله الاقتصادية التي يتاجر في بنائها للطبقات الفقيرة، وقد اعد منزلا منها لخلواته ونزواته الخاصة.. وقع المقاول في البنت فاغتصبها، ومارس عليها شذوذا فظيعا بعد أن لعبت الخمرة برأسه وغيبته عن وعيه، فما كان منه بعد أن أمتنعت عن كل اغراء مادي كتعويض الا أن يجبر ضررها بالزواج بها شرط ان تتكتم على ماوقع ويظل زواجهما في السر، ومن شهرها الأول حملت منه...

استطاعت والدتي أن تقنع أبا الصافية أنه يعرض ابنته للظلم والعذاب وهي لازالت طفلة لا تميز بين خير وشر، فالبيت الذي يبحث عنه يقع على هامش المدينة، صاحبته هي نفسها كانت خادمة في العشرين من عمرها وقد تزوجها الرجل الماما لفضيحة قد تأتي على مستقبله وسمعته، ومن تسقطت نفسه طمعا في امرأة التقطها من الطريق قادر أن يطمع في غيرها خصوصا اذا كانت بجمال الصافية، كما أن معاملة خادمة لخادمة لن تكون محمودة، غيرة وحقد، ثم خوف على رجل موسر قد يضيع منها وقد صادته بنصب، فكيف أذا كبرت الصافية أمامه وازدادت تفتحا وجمالا فلن يلبث أن يميل اليها..

لم يكن ابو الصافية في حاجة الى أكثر من قدر مالي للتخلي عن بنته ، فكما قالت والدتي: "هو نفسه كان يتصرف بنوع من قلة الاهتمام فكأنه يريد التخلص من البنت، لكن ما أثارني ان الصافية بسرعة وقفت بجانبي وتمسكت بيدي وكأنها تتوسلني ان أبقيها عندي، وامام عيونها الفاتنة غامرت..بسرعة اخرجت له تسبيقا ما ان تسلمه حتى غادر دون ان يسلم على البنت وكأنها ليست من صلبه..

لم تكن الصافية تكبرني الا ببضعة أشهر لكن عيونها التي تخترق الصدر باستغراب جعلتني اتعلق بها تعلق صبي بثدي أمه، كنت أجلس قبالتها وأظل سابحا في عيونها الكحيلة بأشفار ليلية ، أعماق بزرقة البحر، وخضرة كضفاف النهر؛ ألوان لم يسبق لي أن رأيت تمازجها في عيون غير عيون الصافية..

كنت مأخوذا بعيينها الى درجة الهوس، حتى أني صرت كثيرا ما اتملى عيون صديقاتي في المدرسة ثم اتملى عيون الصافية بعد العودة الى البيت. لامقارنة!!.. فعيون الصافية بحر لامع، هادر، يتماوج فيه الأزق بالأخضر، أكاد أسمع هدير موجه من بين أشفارها الليلية الطويلة..وهي تلعب معي كنت أكره أن اغلبها في لعبة بل افضل ان اتركها تغلبني، خصوصا اذا كانت المخاطرة بيننا قبلا على الخدين، فقد كنت أجد متعة وشفتاها على خدي تهتزان بقبلة، لا أحاول بزها الا اذا كانت المخاطرة قبلا على اليدين، فكم كان يلد لي أن اقبل يديها الرطبتين بأناملهما الطويلة الجميلة، وكأن الصافية أنثى مكتملة النضج والأنوثة، وكما سمعت أمي تسر لأبي يوما : طفلة مكمولة القد والنضج، فسبحان من خلق وصور..حرام أن تضيع بنت مثلها بين البيوتات !!..

لم تشعر الصافية بيننا ابدا أنها خادمة، فقد أحلتها أمي موضع بنتها التي كم تمنت أن يرزقها الله بها بعدي أو قبلي، و قد مكنها ذكاؤها من أن تلتقط طقوس بيتنا وعاداته، تتصرف في البيت كأنها صاحبته، أتقنت الطبخ، وتعلمت بسرعة من أمي تطريز المناديل والازر والوسائد.. وأصبحت اختي التي لم تلدها أمي، فكل مايقع بيننا ونحن نلعب هو من باب براءة الاخوة والأخوات، فالصافية قد صارت هي من يعتني بكي قمصاني، واعداد طعامي ومراقبتي بدقة قبل الخروج الى مدرستي، كانت كلماتها ورائي كنشيد يومي، تردده على مسامعي :

ـ "عندك توسخ حوائجك، عندك تخلي شي واحد يسبقك في الأجوبة والنقط ، اعرف نفسك من انت..؟"

وكان اول سؤال تطرحه علي عند العودة :

ـ "شحال جبتي اليوم !!"

كانت الصافية اختي الكبيرة الحريصة على تربيتي ومستواي التعلمي؛ تصير اكثر حرصا حين اخبرها ان عندنا امتحانا في مادة من المواد، فالصافية لن تنام ولا تتركني انام، تسال عن الصغيرة والكبيرة، وتطرح عشرات الأسئلة التي تحتم ان أرد عليها والتي لا يمكن ان تخطر على بال المعلم نفسه، والحق يقال انها كانت موسوعة أسئلة ومن تلك الأسئلة كونت معارفي وصرت الاول الذي لا يمكن ان يبزه احد..

ومن كثرة حرصها على ما استظهره عليها من دروس وتستمعه من قراءاتي وَمِمَّا تولده من أسئلة كلما اسمعتها قصة من مطالعاتي تعلمت الصافية أن تقرأ وتكتب وأن تصحح لي اخطائي عند استظهار او مراقبة واجباتي المدرسية..

كل من يرى الصافية وهي تنمو وقد زادتها المراهقة فتنة، يكبر ويهلل لما وهبها الله من قد ممشوق وجمال أخاذ، وما تعيشه من عناية وتشب عليه من تنشئة اصيلة.. حتى أن أمي كثيرا ما كانت تتخلف عن أكثر من دعوة او تلبيها بلا مصاحبة الصافية خوفا عليها من عين حاسدة لا تراقب الله في غيرها..

كل ذلك قد أثمر في الصافية حبا لنا، وفاء وثقة وتفان في العمل وحرص على تحقيق سعاتنا..فقد أدركت ما نكنه لها فآلت على نفسها أن تجازي بالحب حبا..وقد سمعت مرة ابي يقول لعمتي :

ـ والله لو ان الحاجة انزلت الصافية من بطنها لما احبتنا وعاملتنا كما تحبنا الصافية وتعاملنا..

كانت الصافية تكره أن تتكلم عن أبيها، اواليه تشير ولو عابرا، أما أمها فقد كانت تتشنج وتضغط على أسنانها ثم تشرع في البكاء كلما تواردت على خاطرها أو سألناها عنها.. وقد كانت امي تظن كل ذلك من تربية اليتم وتشدد الأب وغلظته، وقد اكتشفت ذلك فيه من أول يوم مما لاحظته من محاولة تخلصه من الصافية ومن تهرب الصافية من العودة معه..

جلست الصافية مرة بين يدي أمي لتمشط شعرها وتلف لها ظفيرتها كعادتها، وقد كان من طبيعتها أن تقبل يدي أمي عند الختام وتقول : شكرا خالتي العزيزة،..تعانق الصافية أمي ، ثم تقول :

ـ أنت لست خالتي، أنت أكثر وأحن من خالة، أنت أمي، هل تسمحين ان أناديك أمي وأنادي الحاج أبي ؟

تضمها أمي بين احضانها، تمسح دمعات تتسربل على خدها ثم تقول لها :

طبعا أنا أمك فانت هنا بنتنا ويشهد الله أني لا اميز بينك وبين ابني، ولاتوجد قوة قد تبعدك عنا..

لازلت اذكر فرحة الصافية بذلك من يومها لم تعد تناديني باسمي وانما بخيي العزيز، وصارت لا تتحرج من أبي في طلب أي شيء يمكن ان تطلبه بنت من أبيها..

اقبلت أمي ذات مساء بعد زيارة لخالتي المريضة، ظلت تطرق الباب لكن بلا رد..عدت من المدرسة لأجد أمي في قلق كبير على الصافية، أين هي ؟ هل نامت ؟ ليس من عادتها أن تنام مساء، هل خرجت ؟ لايمكن ؟فما تعودت أن تخرج بلا إذن..

دخلت من دار الجيران، ونفدت الى بيتنا عبر السطوح..ما أن نزلت الادراج حتى وجدت رأس الصافية على عتبة احدى الغرف ودمها قد صار سيولا وسط البيت.. ارتعبت، وشرعت اصيح وأبكي، بصعوبة استطعت الوصول الى الباب لأفتحه..

كان المشهد بشعا حقا، كيف ماتت الصافية، وماذا كانت تفعل حتى سقطت بتلك الطريقة على عتبة الغرفة؟

حين اقبل أبي أصر على استدعاء الشرطة بعد ان وجدنا خزانة امي مفتوحة وكل ما فيها من ذهب قد تم نهبه.. فالعملية اذن عملية نهب وسرقة نتج عنها قتل..

بعد تدقيق من الشرطة عرفنا ان أحدا قد طرق الباب ولما فتحت له الصافية هجم عليها فقتلها بعد لي عنقها ثم أسقطها عمدا بتلك الطريقة للتوهيم..

لم يخطر ببالنا ان يكون ابوها هو الزائر القاتل، فكلنا يعلم أن الصافية صارت لديه نسيا منسيا اذ يكتفي بزيارة متجر ابي ليتسلم شهرية الصافية وما يجود به ابي عليه من عطايا وهبات ثم يعود ادراجه من حيث اتى، وحدها والدتي قالت : ـ ان الصافية لن تفتح الباب لاي كان الا اذا كانت تعرفه، وقد تمسكت الشرطة بهذا الدليل لتكتشف في الأخير قاتل الصافية.

كانت الصافية تفكيرا مهيمنا يشغل اباها بخوف ليل نهار، فهو لن ينسى ان البنت قد شاهدت أمها وهي تسلم الروح بقبضة اختناق على عنقها، ثم وهي تهوي على الأرض فيتم شج راسها على عتبة البيت..

 اقبل والد الصافية يطرق بابنا بعد ترصده لعدة ايام للداخل والخارج من بيتنا، استغل خروج أمي فسار خلفها مقتفيا أثرها الى ان ابتعدت بمسافة ليست قصيرة، عاد مسرعا الى البيت الذي لم تكن فيه غير الصافية، طرق الباب عدة مرات ولم تفتح له الصافية الا بعد أن تأكدت منه، لكنها منعته من الدخول الى البيت بحجة ان اهله غائبون، وأمام إصراره ، دفعها بقوة الى الداخل ثم لحق بها وصفق الباب وراءه..

لقد كان هو قاتل الصافيه كما قتل أمها بنفس الطريقة التي قتل بها ابنته. التي كانت عليه شاهدة.

احد ضباط الشرطة اخبر ابي ان الصافية كان لابد ان تموت فقد كانت تهديدا يؤرق أباها بالليل والنهار، فهي قد رأت الأب وهو يقتل أمها، التي كان يشك فيها ويغار من كل عين تنظر اليها فالمرأة كانت صنما للفتنة تتحين أية غفلة من زوجها الذي كان لا يتركها تغيب لحظة عن عينيه لتفر مع احد شباب الدوار الذي كانت له بها علاقة حب قبل ان تتزوج كرها من والد الصافية؛ غادر الشاب القرية للدراسة في الخارج، وصار مخرجا سينيمائيا ما ان رآها بعد عودته حتى ازداد هياما بها، أرسل اليها أخته لتقترح عليها الفرار معه الى كندا، لكن الأب استطاع ان يكتشف اللعبة فقتل ام الصافية بلي عنقها وكانت الصافية طفلة صغيرة شاهدة على فعلته..

هكذا غابت الصافية عن بيتنا الذي تحول الى معزوفة صمت حزينة، آهات حرى ودمع سيال، وتبدى اثره كبيرا على تعلمي، فقد مرضت أمي حزنا على الصافية و ضعف حرصي على واجباتي المدرسية ونتائج امتحاناتي..لمدة تزيد عن السنة الى ان رأيتها مرة في أحلامي وهي تقبلني وتقول :" ان كنت اخي حقا وتحبني فلا تتأخر كما صرت بعدي"..

الى اليوم وبعد أزيد من عشرين عاما مازلت أذكر ان اختا لي رائعة الجمال، فاتنة، ماتت بعد أن وشمت اعماقي بعيون ليلية بعمق البحر..أتلوى حزنا لطريقة موتها، واني لأواصل ذكرها حتى آخر رمق من وجودي.. صارموت الصافية حدادا مؤثرا لا يغيب عن بيتنا، تبكيها والدتي بالليل والنهار، فأمي لم تفقد في الصافية بنتا سهرت على تربيتها وإنما فقدت فلذة كبد وبضعة منها وتمزيقة من حياتها..

مرة وبعد ثلاث سنوات من موت الصافية قال لها ابي مازحا :لو بقيت لتزوجتها

تبسمت والدتي من وراء دموعها وقالت:

للي فاتك خليه لأولادك، لا يهم، المهم ان تبقى.. نار فراق الصافية لن تنطفئ الا بموتي..

حقا عيون الصافية عيون لايمكن أن تنسى.. فلانراها الا في اشهار ات المجلات، او بعض ملكات الجمال الأفريقيات، عيون الصافية الخالق وحده قادر على ان يجعل البحر بصفاء زرقته يهدر من وراء رموشها الليلية، فجمال الصافية كان ادق من ريشة رسّام وجراحة إزميل نحات.

***

محمد الدرقاوي - المغرب

تلك الاغاني

من أيقظها

هذا الصباح

ومن بعث اسمي

من مرقده

كنت قد بدات في ترميم

الجسر المقطوع

مع الزمن القديم

رممت معبدي  ايضا

و قلت من يمنحني جناحين لاطير

بهما

سيكون

ربي

تصالحت مع عيوني

الحزينة

ووجهي الشاحب

ووضعت اعلانا بالخط  العريض

في جريدة

يومية

ومعه صورة لوجه

بلا ملامح

"انني  ابحث عن اب "

من فتح الباب الخلفي

للغرفة المنسية

و عبث بخزائني

و ادراجي

لم اتواطأ مع الرياح كما زعموا

و لم اخلط مياه المطر

الشفافة النقية

بالنفط  الاسود

القذر

رايت التاريخ يكتب

اسمي على موجة

و اغمضت عيني

و قلت لا بأس

رايت الموج يكسر اسمي

على الصخور

و اغمضت عيني

و قلت لا بأس

رايت النوارس تهجم

علي ما تبقى من اسمي

و تاخذه الى صغارها

و اغمضت عيني

و قلت لا باس

غدا سيمنحي الموت

اسما

اكثر فخامة

من بعث اسمي من مرقده

و كم نمت

داخل الصدفة

لم اتواطأ مع الرياح

كما زعموا لتذيع

اسراري

للمراكب البعيدة

و لم اقطع شجرة واحدة

لاصنع من اغصانها نايا

انفث فيه

اوجاعي

لطالما اخذت الملح

تعويذة

ابدية

للاغاني التي تجرحها

الكمنجات الحزينة

تقول الصحراء

انت ابنة

الرمل اخذت من ملامحه

شحوبك الاصفر

و صبرك الجميل

انام زمنا على رمل

دفئه يشبه

حضن ابي

انام على عطش.. واصحو

على عطش..

***

بقلم وفاء كريم

قطرات من النّدى تنزلق على حافة النّافذة، كعادته كلّ صباح، يختلس النظرالى العمارة العالية مقابل شقته .

يرمقها وهي تمشّط شعرها الليلي الطويل، تسترخي على الكنبة بقميص نومها الشّفاف الذي يكشف عن جسد بضّ ومشاغب .

يحبس أنفاسه يتكىء على جانب السّرير محدّقا بسقف غرفته، يمتصّ بتلذّذ ريقه الأول المائع على معدة خاوية، يمسح عرقه ...

-يا لها من ليلة قاسية، أشعر بدوار " دوّختني هذه الأنثى"..!

دخل الحمام بخطوات مترنّحة، رشّ جسده بالماء البارد مستعيدا نشاطه، تأبّط حقيبته الجلديّة وخرج الى الشارع الطويل الذي خذله وصفعه الآف المرات، وهو يعود خائبا باحثا في غربة الليالي عن وطن انطفأت مصابيحه، عرّش على جنحه الخوف وباعه المنحرفون والأنذال، كان يعود بقلبه المصفّر ليريق دموعه على وسادة خالية يحتضنها منتحبا على مناديل الذاكرة .

رائحة القهوة تناديه، عرّج على المقهى القريب ارتشف قهوته السادة، عطر امرأة يفوح بالمكان ...وكأنّه ظلّ يسير على الماء، تتراشق اللحظات، يحدّق.

- هي بجسدها الرشيق، صاحبة قميص النّوم الشّفاف.. أميرة أحلامي ...

خفقات قلبه تزداد، سار وراءها، كلّما ابتعدت نقرات كعبها العالي ينفكّ رباط حذائه، يتحلحل، يتطاير، وأصوات الباعة والحافلات المكتظة بعمّال الصباح تحتفي بقدومها راقصة على ايقاع وتر مشحون بهمس مجنون.

أقراص الزعتر الساخنة من مخبز الحي تتدحرج ككرات ملتهبة تعبق بنار مقدّسة تحرق جسده تغويه بطقس من طقوس العبادة .

- لو يتوقّف الزّمن، يصمت الكون لأتنفّس ليلها، ألامس شعرها، أغرق بعينيها ....!

تذكّر بنت الجيران في حيّهم القديم وهو يلاحقها بين البيوت المتراصّة.

فجأة تتوقّف أمام كشك لبيع الصحف والمجلات، تبتسم للبائع، يحاصر مساحتها ومن خلفها تسقط من يده علبة سجائره، تلتفت، يلتقي اللّحظ باللحظ..

ينحني ليلتقط العلبة، فتسبقه يدها، وقلبه يسبقه اليها.

-شكرا سيدتي ...

وهو يتأمّل وجهها الذي طالما صاحبه في مساءاته حتى مطلع الفجر، احتوى جمالها، ارتبك كطفل بتول يتلعثم أمام قامتها.

تهمّ بالمغادرة وهي تشقّ طريقها بثقة وكبرياء

-لو سمحت يا أستاذ ينتظرني عمل

تبتعد ونقرات كعبها العالي كطنين نحل في قفير، عطرها يعلق مثل فراشة على علبة سجائره وأصابعه التي لامست أثر لمساتها تتخدّر.

في قريته التي ولد فيها لا يستسلم الرّجل من المرة الأولى، ولا تعصاه امرأة، كسحابة مشوشة تمرّ بباله زوجته " زهرة" بجلبابها الذي يكنس مصطبة البيت.

"زهرة" الزّوجة المطيعة، الخدوم الصامتة، حتى حين رمى عليها يمين الطلاق وتركها، لم ترفع نظرها، خنقته رائحة الرّطوبة التي تفوح من تحت جلبابها، وقدميها المتشققتين وهي تهرول حافية على الطريق الترابي المؤدي للحقل.

ذات الكعب العالي تتمايل، شعرها ينهمر سيولة مع نسمات الصبح الباردة، يتراقص خصرها كغزالة بريّة، تنهمر من تحت ثوبها زهرة رمان يلعقها بريقه الناشف المتعطّش للون ورائحة ومذاق.

في زاوية الشارع يستقبلها رجل بسيارته السوداء الفاخرة، تصعد وتنطلق في الفضاء ضحكات مزغردة، يتشظّى فؤاده تجحظ عيناه، يدسّ علبة سجائره في جيبه ويراقب طرف السيارة التي تقلّها، لحظات ويختفي ظلّها، خطوتان يمتلىء المكان بدويّ وضجيج، وأصوات جمهرة المارين الذين أحاطوا بسيارة الاسعاف بأضوائها اللولبية اللامعة، يركض لاهثا للجهة الأخرى يتعثّر بثقل رجليه، كعبها العالي السابح بدمها على الاسفلت تخترق نقراته أذنيه فينزف احتراقا.

تنفلت من علبة سجائره فراشة بلونها الأحمر، شفافة كلزوجة اللمسة البكر..يبكي بين راحتيه، يهوي حلمه المدنّس من ثقوب السراب .

***

هيام مصطفى قبلان

الآنَ أَيَّتُها الذاكرة

الآنَ سأَفْتحُ صندوقَكِ الأبيضَ

المُحْتشدَ بكلِّ ماهو خفي

وعجيب ونائم فيكِ

ياذاكرتي الصاخبة

التي لاتتوقفينَ أَو تصمتينَ

أَو تنامينَ حتى لو نام جسمي

وتعطَّلَ رأسي بالكحولِ والأَوجاعِ

أَو غفتْ حواسّيَ الستُّ

في ليلِ السباتِ والنومِ

الذي يشبه الموت المؤقت

عندما كانَ يذكّرُني بهِ

السيدُ " وليم شكسبير "

حينَ كانَ يفاجئني متسللاً

مثل (ياجو) الخبيث

الى قيلولتي {الهاملتية}

ويصرخ في اذنيَّ الصغيرتين

(الموت نوم ثم لا شيء)

فانهضْ صاحبي ولا تمتْ

قبل أن ننتهي من عرض المسرحية

وإياك أن تنسى

(أن الدنيا مسرح كبير

يُمثّلُ عليهِ الرجالُ والنساء)

*

والآنَ تنفتحُ  ذاكرتي المُثقلةُ بالتواريخِ

والوقائعِ والناسِ والخساراتِ

والدموعِ والاسرارِ والتفاصيلِ الصغيرة

والذكرياتِ المريرة

والحكاياتِ الشعبيةِ الجميلة

في مدينتي الأولى

(الديوانيةِ) الطيِّبةِ الخجولْ

التي حدثَ أَنْ ولدتُ

على واحدٍ من شواطيءِ

فراتِها العذبِ الحنونْ

و (الديوانيةُ) التي أُحبُّ

كلَّ شيءٍ فيها

وخاصةً عندما كانتْ صبيَّةً

ترفلُ بالوداعةِ والعذوبةِ والحياءِ

الذي يجعلُها أَحياناً

تتعثَّرُ بثوبِها (الديولين)

أَو (الجرْسيه) الطويــــل

من تخومِ بابلَ الغامضة

وحتى فرات سواقيها وشطوطِها

وبطّاتِها العراقياتِ المُكتنزاتْ

وأَعْني : اناثَها ونسوانَها

وصباياها الحلوات والطيّبات

والعذبات والشَبقات العيون

والاصابع والاثداء والمؤخرات

المكتنزات حدّ الرغبةِ

واللذَّةِ الآسرة .

*

وأَتذكر الآنَ (الديوانية)

عندما كبرتْ ثم مرضتْ

وشاختْ وداختْ وحارتْ

ومن ثم هرمتْ

وأَصبحتْ الآن

" يابعد روحي "

وحيدةً وحزينةً وخائفةً

من الغامضِ والمجهول

وصارتْ تنامُ طويلا

وتسمعُ في كلِّ الأوقاتِ

بكاءً ونحيباً وعويلا

في كلِّ شارعٍ وبيتٍ

وليسَ فيها

لا كهرباء ولا ماء

ولاهواءً نظيفاً وعليلا

*

وناسُها الطيبون

(بِطَلْ حيلي عليهم)

قد أصبحوا أَيتاماً

وفقراءَ ومساكينْ

حيثُ لا فوانيس ولا قناديل

تُضيءُ لَيْلَهم الحزينْ

وقدْ شاعَ فيها الخرابُ

فأصبحتْ حبيبتي

ومدينتي وجميلتي

خاويةً و"عاويةً " وذاويةً

وليسَ لي فيها

اذا ماعدت يوماً من منفاي

إليها والى بيتِ أَهلي

حيثُ لمْ يبقَ لي والدٌ

ولا أُمٌّ ولا عَمٌّ

ولا خِلٌّ ولا خالٌ

ولا خليلٌ طيَّبٌ وأَصيلْ

وليسَ عندي أَخٌ حقيقيٌّ

قَدْ أَنجبتْهُ روحُ أُمي

حتى يكونَ لي ملاذاً

بعدَ غربتي المُوحشةِ

ومنفايَ الثقيـــــــــــلْ

***

سعد جاسم

كندا - 2022

يَهِلُّ الشَّيْبُ فِي سِرْبِ الْعَذَابِ

وَيَبْكِي الْعَنْدَلِيبُ صَدَى الشَّبَابِ

*

وَتَزْدَحِمُ الْمَوَاجِعُ فِي فِنَاهُ

وَمَا عَادَ الْمُحِبّ سِوَى اكْتِئابِ

*

تُوَدِّعُهُ الْغَوَانِي آسِفَاتٍ

ويَصْحَبُهُ الدَّوَاءُ بِالِانْتِحَابِ

**

فَيَا رَجُلَ الْمَشِيبِ احْذَرْ شَقَاهُ

وَدَارِ جِرَاحَ هَمِّكَ فِي الجِرَابِ

*

وَصَطِّبْ أُغْنِيَاتٍ خَالِدَاتٍ

لِذِكْرَى الْحُبِّ مَا بَيْنَ الصِّحَابِ

**

فَيَا أَسَفَاهُ يَا عَهْداً تَوَلَّى

هَجَرْتُ زَمَانَهُ بَعْدَ اغْتِرَابِ !!!

*

وَلَمْ أَذُقِ الْفَوَاكِهَ مِنْ جَفَاهُ

وَلَا اللَّحْمَ الشَّهِيَّ فَمَنْ دَرَى بِي ؟!!!

***

شعر: د. محسن عبد المعطي - مصر

 

 

النهر يكتم أسراره / المشهد الثاني (1)

كان اعتقادي أن واحدة من خزعبلات البشر التي يمكن إدراجها، أو أنا من يفضل تصنيفها في خانة الترهات الغبية ليس إلا. هو ذلك الحديث الطويل العريض عن القدر المفروض على وقائع حياة الإنسان وتصرفاته اليومية. فقناعتي كانت تامة بأن ليس هناك قدر مفروض، وإنما هناك وبشكل قاطع فعل متعمد. هذه القناعة التي حملتها لفترة طويلة، ودافعت عنها أمام آراء مختلفة لأصدقاء ومعارف، لا بل حتى أمام غرباء كانت تتهدل شفاههم دهشة واستغراباً ،حين يسمعون ما أفصح عنه في هذه المسألة الشائكة، وكنت دائماً مبشراً بوجود مادي للروح والجسد معاً، وليس هناك من انفصال بينهما، ولم أسمح لأحد أن يثلم ما كنت مقتنعاً به أشد الاقتناع، وأصبحت قضيتي أو فكرتي هذه أشعر معها وكأني أتفرد بها دون سواي.

اليوم أسجل في دفتري تأريخ التاسع عشر من حزيران 2005 . هذا التأريخ سوف يكون شاهداً على التغيير، أو هو الحد الفاصل بين فكرتين لم تكونا تنازعانني سابقاً، ولم أسمح لوجودهما مع بعض ولو لمجرد تفكير بسيط، وأن ينافس قناعتي حول تناقضهما. كنت حاسماً ومنحازاً في تفسير كليهما. ولكن مع هذا التاريخ أجد أن عنادي قد صرع بالقاضية، وتهشمت قلاعه وهوت مثل قصور رمل، لا بل مات وشبع موتاً، بعد أن وجهت له ضربة قاصمة ووضح معها خطل ما كنت اعتقده وصدقته كمسلمة لا تتزحزح .

  دون مقدمات تغيّر كل شيء، دون سابق إنذار ودون أي جهد. لم أستمع لنصائح أو ينتابني كابوس مفزع. فجأة دون مقدمات، وجدتني ألوك خاطراً ملحاحاً يدفعني عنوة للاعتقاد بأن هناك روحاً شريرة جاءت من خارج جسدي، وبغفلة مني تلبستني، سيطرت عليَّ بالكامل، وأن سقم جسدي بات ناتجاً طبيعياً لعذاب روحي وأشجانها. أعترف أن هذا الخاطر غلّ عميقاً في داخلي، وأنا أنسحب منزوياً مبتعداً حابساً تلك الروح الرجراجة الهشة الممزقة في غرفة صغيرة بأثاث معدم. سرير واحد يصر عند إرخاء جسدي أو شده، ومنضدة  تتكدس فوقها بعض الأغطية وتحتها صندوق حديدي يحوي مدخرات أمي التي أعتبرها مخلفات لملابس توحي رائحتها لزمن اندثر. فراش أمي فوق سجادة بالية يجاور باب الغرفة. مساحة الدار كانت الغرفة الوحيدة هذه، وفسحة إسمنتية تمتد أمامها نحو الباب الحديدي الخارجي. و كان هناك في زاوية من تلك الفسحة مستطيل  ترابي صغير يجاور السياج الكونكريتي الخارجي، تصر أمي على تسميته بحديقة وتتلذذ  بزراعته، ومعها كل الحق في تلك التسمية لو نظرنا للمحصول عند موعد القطاف، وبالذات حبات الطماطم القانية الحمرة المعلقة بغصون وأوراق خضراء، وما يضفيه المنظر من طراوة عند طرف المساحة الأسمنتية المغبرة.

في ذلك الوقت، كنت أشعر ببعض راحة وليس الوحشة بالمطلق. لقد سجلت كل حيثيات وشذرات ودقائق الأيام بقصاصات ورق أحتفظ بها تحت وسادتي. تحت ضوء الفانوس الكابي كنت أدون كل شيء ولم يفتني مشهد ما. لقد ركزت جهدي على توصيف التغيرات الجوهرية التي طرأت على فكري، وأيضاً ظنوني وتحفظاتي وكرهي للوقائع، وكيف واجهت الصدود والعدوانية من أناس كنت أستمع لوعودهم وتصريحاتهم فتسبغ على أمالي الكثير من الغبطة والفرح.

أعرف أن تدوين الأحداث نوع جيد من الخداع، يساعد على تزجية الوقت والسيطرة على الروح، والأكثر من هذا يبعد ولو لقليل من الوقت، القلق والضجر عن النفس بنوع من المماحكة الصعبة. ولكن لحظات الكتابة، في أغلبها، لم تكن لتعينني على إفلات روحي من قيد خيبتها ويأسها المحكم والتفكير بما يخبئه أو يكون عليه مستقبلي.

*****

كان ذلك يوماً مختلفاً. فجأة سمعت طرقاً على الباب الخارجي، ثم صرير الباب الحديدي الثقيل وهو يوارب. بعدها صوت خطوات ثقال على أرضية الفسحة المقابلة للباب الداخلي. رفعت رأسي عن الوسادة وطالعت صورة القادم، وأخيراً كان صوته الأجش بفخامته المزعجة الثقيلة، التي تطرق الأذن وكأنها صوت مزمار صدئ  لحافلة نقل ركاب قديمة متهالكة، قادمة من خلفك،  أو نهيق حمار يغافلك ليضع شفتيه الغليظتين قرب راسك ثم ينهق بأعلى صوته.

ـ خالد ....لك داد خالد ...خلودي أني ابن عمك وهاب.

أجبته بتثاقل دون أن أحرك جسدي.

ـ شتريد ؟

ـ أخوية أبو الخلود .. جا وين حجيك ذاك ...وين زماطك ؟

ـ شتريد ..لتداهرني تره اسبك واسب الكون كله .. خليني بقهري وروح شوف غيري تسولف وياه.

ـ عيوني أبو الخلود ...حجاية  زغيره  وأروح ..والله أريد أفيدك.

حركت جسدي فشعرت ببعض الغثيان، ثم استقامت قامتي فتوجهت نحو باب الغرفة وفتحته.احتضنني وهاب بقوة شعرت معها بأن سلسلة من عظامي بدأت بالصرير والنواح فدفعته جانباً.

ذاك اليوم زرعها هذا الملعون في رأسي مثل علة شيطانية، بدأت تتسلل بين أوردة جسدي وشراييني. ماضية في رواحها ومجيئها، هازة كياني مقلقة وضعي، مربكة تفكيري الذي كان في قمة عجزه وهشاشته. شطرت روحي لا بل شظتها إلى بقع متنافرة متباعدة.

 من أين له هذه الأفكار هذا الوهاب الخبيث ؟ ليتني لم ادعه يدخل الغرفة تلك الساعة. لو أني أخبرت أمي سلفا، وطلبت منها منعه من الدخول. هذا الوحش الكاسر دفع  بي وحشرني وسط متاهات لا قرار فيها.لا بل كان مبيتاً لنية أن يراني بعدها مضرجاً بدمي أو مقيداً بالسلاسل. كانت نواياه الشريرة محسوبة بدقة وعرف مسبقاً ما يريد أن يصل إليه.

يا ترى أتكون صفات البغض والخبث متوارثة مع الجينات! إنه يحمل الكثير من طباع أبيه. ذلك الوحش الكاسر الذي سام أبي مر العذاب قبل أن يُقتل. أتذكر ميتته البشعة حين وجدوه ممزق الجسد مضرجاً بدمائه دون أن تتعرف الشرطة على قاتليه، وكثر الهمس حول الأسباب ولكن دوافع القتل ظلت تلوكها الألسن متذكرة معها مساوئ  كثيرة  كان يتمتع بها عمي.

سهمت وأنا أستمع لحديث وهاب، بكلماته المتسارعة  الضاجة، وهو يمازج الجد بالهزل، ولكن نبرة الإقناع والاقتناع جعلتني أصغي إليه بوجل.

ـ خالد حبيبي..يمته خلصت جامعة ؟

أجبته بتململ وضجر..

ـ شنو متعرف.

ـ أعرف .. بس جم سنة صار وانته أدور على شغل؟

 ـ وأنته شنو..صاير حنين.

ـ مو  خمس سنين كافية تلف بيه بين شغل يوم وعشرة بطال.

ـ ليش أني لكَيت شغل ثابت وتبطرت عليه ..حته شرطي ردت أصير ..رادو مني دفتر...كَلي مخلص الحجي شتريد..

ـ أنته مو جنت مدرب للسلاح بخدمتك العسكرية؟

ـ أي جنت.

ـ تعرف كل شي عن قطع السلاح ..كل أنواع السلاح ..مو؟

ـ أعرف، بس شنو دخل هذا بالموضوع..شنو تريد تكول ؟

ـ أوكي حبي..أريدك تشتغل ويانا.

-ـ شنو أشتغل أوين وأنتم منو ..؟

ـ دون لف ودوران...أحنه نشتري ونبيع الأسلحة...شغلتك سهلة.. بس فحصها واستلامها وتسليمها..

ـ هيه هذه شغلة ...هاي مغامرة خطرة وجبيرة وكسران ركَبة..

ـ صحيح ابن عمي.. مغامرة ولكن فلوسها تستحق المخاطرة موشلون ماجان..فكر زين، مسؤوليتك مو صعبة سلم واستلم وأبوك الله يرحمه..بعدين راح تشوف شلون حالك يتغير وتلعب لعب بالفلوس..فكر زين وباجر أمر عليك..مزمز وراح تدعيلي طول عمرك.

انسل مثل الزئبق عبر باب الغرفة وتركني مصعوقاً حائراً يلف رأسي دوار غريب. لم يكن هناك من منفذ، فكلماته واضحة اندفعت نحو رأسي مباشرة.رأسي الذي حشي بالضجيج واعتمر باليأس.عقلي الذي بدا هشاً مشتتاً، ولكني وبعد أقل من يومين حسمت الأمر.

مضت على تلك الواقعة بضعة أسابيع كنت فيها مثل المهووس المجنون. فقدت فيها الشحيح مما في قلبي من ود ومحبة لعالمي وما يحيط بي. ما عاد يعنيني ما يأتي به اليوم  القادم  بقدر ما كنت أشغل نفسي وأغلها في لهو يومي لا يهمني فيه  إن كان مناسباً  أو غير مناسب لشخصي. أتنقل من مكان إلى أخر، أحمل قطعة السلاح أفحصها ثم أسلمها لشار أو أتسلمها من بائع. ولم أكن في كل تلك المقابلات للتسليم أو الاستلام أهتم بشخصية من أقابلهم، رغم ما كنت أحمله من مشاعر تهيب وتوجس وخوف وحذر. كان وهاب بدوره يهيئ ليَ ما تحتاجه العملية ويعطيني النقود بعد انتهاء المهمة.ويردد دائماً:

ـ ها أبو الخلود..شلون الأجواء؟

فأجيبه بنفرة وضجر:

ـ الكالة أخت المداس ..وضاع الداس  ياعباس..سلم الفلوس أو ولي عني ..

***

فرات المحسن

عبد الامير العباديامرأةٌ في اقصى الجهاتِ

قالوا جُرِحَ قلبها

استوطنتْ ادغالَ الدنيا

تبحثُ عن ضماداتٍ لِقلبها

قلتُ اني انهيتُ إعدادَ حقيبةِ اسفاري

حملتُ شرايين قلبي كي اقطبَ جراحاتها

 

امرأةٌ تهزُ مهدَ الالهةِ

تداوي ساعاتِ السحرِ

أنى لكِ تلكَ الشموعُ

اخبرتني ثمةَ عيونٍ لا تعرفُ الحسدَ

ايقضتْ صحوي ارجوحةُ مصيرٍ

عفيفةٌ من احببتها

فتحتُ لها اسرارَ صمتي

انتصبتُ الهاً نذرتُ له العمرَ قرباناً

 

تسألني النساءُ عن اصولِ العشقِ

أتهافتُ ابحثُ عن فكِ طوقِ عذاباتي

اقولُ لعلني اخطأتُ يا امرأة

يأتي الصدى اقتربَ

السماءُ تحتضنُ من عشقتْ

تعلقها كوكبٌ سماويٌ يا رجلُ

 

يا أمراه لقد تعاقدتُ مع الالهةِ

اشتري لكِ جبلاً ومنصةَ شعرٍ

القي في حضرةِ الكهنةِ

قصيدةً، قلتُ دونوها

بأحبارِ اوردتي 'انثروها

مع كلِ الصباحاتِ الفيروزيةِ

 

الان خذي ما تبقى

من شذراتِ نزفي 'قولي ما تشائين

قررتُ ان تكون جذوراً

لعمري الذي افنى جذوره

تبركاً باغصانِ حبكِ

 

أنا وانتِ اي حرفٍ يجمعنا

احرفُ الحبِ ما خُلقتْ الا لاجلكِ

كي تكوني مليكةً لحبٍ انتِ تاجه المؤبدِ

 

من الحماقةِ ان لا تعشقي

لا مدوناتٍ ترصعُ سحرَ غورنا

انتِ المخطوطةُ الازليةُ

وانتِ النقوشُ والازاميلُ

وقلبي اللوحُ الذي ينتظرُ لبَ ريشتكِ

لنكتبَ قصةَ حضاراتِ هذا الوله الخالدِ

 

يا خاتمتي المؤبدةِ

لقد مخرتِ كل عبابِ البحورِ

أنا يا سيدتي مولوي في النسكِ

ادعو لاكونَ آخرَ المتصوفةِ

وأشعاري حتفٌ يسوقني قنديلاً

يضيئُ لشهداءِ الحبِ

***

عبد الامير العبادي

 

ناجي ظاهرجمع صخر العدوان في اسمه ما بين اسمين، يكمل احدهما الآخر ويعزّزه ايضًا، وكنا نرى فيه اسمًا على مسمى، فقد قسا علينا، نحن ابناء حارته، واحدًا تلو الآخر، ولم يوفر أيًا منا ليوم كريهة وسداد ثأر. كأنما هو يقتصُ منا.. وينزل فينا عقابًا كان يفترض ان ينزله بقتلة والده قبل ولادته بأشهر، الامر الذي دفع احد ساخرينا إلى القول: " مقدرش على الجمل دق بالبُردعة". أما أنا فقد راقبته منذ بداياته أيام أراد أن يكون شاعرًا مفلّقًا، وأصدر مجموعة من الشعر دلّت على موهبة متدفقة، وعلى قدرة معجزة في الاغتراف من بحر الشعر، وليس النحت من صخره، وقد كنت معجبًا به آنذاك.. كل الاعجاب، فرُحتُ اكيلُ له المديحَ على الطالع والنازل، ما حبّب الكثيرين من أبناء حارتنا به ودفعهم لأن يخطبوا ودّه.. وحتى حينما وقع الحادث الاكبر في حياته، ذلك الحادث الذي بقي متحفظًا عليه.. كما يتحفّظ الموجوع على دُمّله، بقيت واقفًا معه.. وإلى جانبه، أما عندما انقلب من العدوان الركيّض، إلى عدوان الاعتداء، فقد كان لا بد لي من توجيه السؤال الخالد إليه: لماذا؟، فبرر عدوانيته المستجدة.. بقوله إنها كانت ملجأه الوحيد للمضي في رحلة الحياة الصعبة، وإنه إنما أراد بها أن يُعلّم الحياة درسًا لا تنساه، مضيفًا ان الحياة هي الناس، الاخصام والاحباب أيضًا.

بعد ذلك الحادث الذي تكتم عليه صخر حتى أيامه الاخيرة في الحياة، لم يعد هو.. هو وإن كنا بقينا نحن، أنا على الاقل، أنا.. أنا، وكان سبب بقائي على ما أنا عليه، هو إيماني المطلق به وبرسالته الشاعرية، غير أن ما حصل فيما  بعد، هو أن طرقنا اختلفت وتصالبت مع بعضها بعضًا، وقد جاءت النتيجة على النحو التالي، هو ترك عبادة ربة الشعر هاجرًا إياها إلى ربة المال، وأنا بقيت على حبي للربّة الاولى، الامر الذي دفعه لأن يُعيد.. وأن يكرر وصفي بـ الابله. وقد تقبلت وصفه ذاك، لمحبة تأصلت في نفسي تجاه ابطالنا المُهجّرين أولًا وتجاه ابنائهم الميامين.. وهو منهم ثانيًا.

للحقيقة أقول إن صخرًا كان عنيدًا وطموحًا أيضًا، في كل ما يقوم به ويمارسه من أفعال، وهو لم يكن يؤمن كثيرًا بالأقوال، وكان يراها بضاعة الخائبين، أمثالي، لذا عندما انتقل من عبادة الشعر إلى عبادة المال، كان دائم السعي والتنقيب عن المصادر المترخنة الغنية بالأموال، فتنقّل من عمل إلى آخر.. ومن منصب حسّاس.. دسم إلى آخر، وكان أن توصل في فترات حياته الأخيرة، بحنكته وتخطيطه المحكم، لتولي ادارة مؤسسة ثقافية ذات قيمة وشيمة، وذلك بعد حكاية تروى، فقد تم تعيينه خلال، وبعد ندوة أقامتها تلك المؤسسة وحضرها مستخدموها جميعهم تقريبًا، ومما نُمّي إلي أقول: إنه ما أن انتهى رئيس المؤسسة من طرح وجهة نظره القائلة بأن على الجميع أن ينصاعوا لأوامره، إذا ما أرادوا وضعًا أفضل لهم وللمؤسسة، موضّحًا أن السفينة إنما تُقاد بهمّة ربانٍ واحد فقط، وأن الطبخة إذا ما كثُر طباخوها شاطت، حتى انطلقت تذمرات مستخدمي المؤسسة الرافضة لمنطق، لا يرى أي منطق سوى منطقه الخاص سليمًا، ويبدو أن صخرًا رآها فرصة سانحة، فراح يكيل المديح للرئيس.. ولما فاض به لسانه من حكم تشبه الدرر، بل إنه تمادى في موقفه ذاك، فراح ينتقد المنتقدين داعمًا رأيه بأهمية نقد النقد.. منطق صخر ذاك أعجب رئيس المؤسسة، فما كان منه إلا أن أشار إليه بهزة من رأسه، طالبًا إليه أن يتبعه بعد انفضاض الاجتماع إلى غرفته في أعماق المؤسسة.

بسرعة التوافق بين الطيور المتجانسة، تمّ الاتفاق على أن يتولّى صخر، ابتداء من اللحظة، بل من الآن، منصب مدير المؤسسة، فالثقافة تحتاج إلى مَن يصونها ويرعاها، وليس إلى مَن يُميّعها.. كما اتفق الاثنان، الرئيس وصخر. في اليوم ذاته تولّى صخر منصبه، حمل حقيبته الديبلومات، وتوقّف في أعلى مرتفع في المؤسسة مُراقبًا كل ما يحدث فيها، وكان أن أجرى لقاءات تعارف أولية بينه وبين موظفيه، بهدف اعطاء كل ذي حق حقه وتوكيل الانسان المناسب بالمهمة المناسبة.

أجرى المقابلات مع موظفيه واحدًا تلو الآخر، وعندما توقف قبالته الموظف الثالث، ادرك انه عثر على بغيته، فطلب منه أن يقترب منه وهمس في أذنه قائلًا له إنه وقع الاختيار عليه ليكون الساعد الأيمن له في مراقبة ما يدور في المؤسسة، من أجل نجاعة أكثر في أدائها. انتهى الاجتماع بين المدير الجديد وبين مستخدميه الجُدد في المؤسسة، ليتفرق كل عائدًا إلى مكتبه وعمله.

في اليوم التالي، وهذا ما عرفته من ذاك الموظف "العَين" ذاته، بعد حكاية سأؤجل سردها قليلًا، جاءه هذا الموظف بخبر مفاده أن هناك تذمرًا جديًا بين الموظفين بسبب تجاوز رئيسهم لهم وجلبَ شخصٍ من خارج المؤسسة ليكون مديرًا عليهم، وأشار إلى موظف مشاكس عُرف بالرفض وعدم القبول للكثير من الاوامر. هزّ صخر رأسه علامة على أن حَبَّ الموظف المقصود وصل لحظة الطحن، فوضعه تحت المجهر طوال أربع وعشرين ساعة ليدعوه فيما بعد، انت قمت بالكثير من التقصيرات في عملك خلال الاشهر الماضية، لذا فإنني أسلمك كتاب الفصل. بإمكانك التوجه إلى محاسب المؤسسة لتقاضي أجرتك واتعابك مع حبّة مسك. وعبثًا حاول الموظف استعطافه، متوسلًا إليه بأنه أب لخمسة اطفال ويحتاجون للكثير من أجل إعالته لهم، فقد اصم اذنيه، فما كان من هذا الموظف إلا أن توجّه إلى رئيس المؤسسة طالبًا منه إعادة النظر في فصله المباغت من العمل، وقد عرفت مما نمي إلي، أن الرئيس فتح ملف الفصل عن العمل، ليتأكد من أنه عثر على المدير المناسب، وليواصل رفضه لإعادة النظر المطلوبة في فصله عن عمله. وعندما دخل صخر غرفة رئيس المؤسسة.. وقع ما كان يتوقعه، لقد قررنا رفع درجتك، لتكون مساعدًا اوليًا لي. لكن كيف سنملأ الفراغ الذي خلفه ذاك الموظف الكبير؟ ابتسم صخر وهو يرسل نحو رئيسه ابتسامة ذات الف معنى ومعنى.. أترك هذا علي.. في اليوم التالي كان صخر قد ملأ الفراغ بأحد اتباعه الراضخين له.. على طول المدى.

وكان صخر كما قال لي جاسوسه ذاك الموظف، قد استبدل معظم موظفي المؤسسة، بأشخاص آخرين هو راضٍ عنهم. بعد هذا، كان عليه ان يُسدّد ضربته الأخيرة إلى ساعده الايمن، ذلك الموظف، ولم يكن صعبًا عليه أن يخيط له ملفًا، يمكن أن يدخله السجن، وليس الاقالة من عمله في المؤسسة وحسب، إلا أنه وُجه هذه المرة بقوة كبيرة، فما كان من هذا الموظف إلا أن فرط كيسه من أسفله إلى أعلاه، وهو ما أدى إلى موافقة رئيس المؤسسة الفصل.. شكليًا.. اولًا، ووضع مديرها، صخر العدوان ثانيًا، تحت المراقبة أربعًا وعشرين ساعة، مستعينًا بالموظف المفصول ذاته، وطالبًا منه أن يكون عونًا له في كشف عورات مدير المؤسسة. لم تمض سوى أيام حتى تبين أن صخر العدوان قد سيطر على المؤسسة الثقافية سيطرة شبه تامة، وعندما توقف رئيسها حائرًا ما بين الشك واليقين، قرّر أن يلعب لعبته الكبرى، .. في أن يمتحن قدرته وأن يكتشف العطل، فاستدعى صخرًا وسلّمه كتاب إقالته من عمله مديرًا لمؤسسته. تقبّل صخرٌ الامرَ ببرود أعصاب عُرف به، منذ ذلك الحادث الذي تكتم عليه حتى يومه الأخير في عالمنا، وما أن خرج من غرفة رئيسه، حتى عقد اجتماعًا لأصدقائه الموظفين، تباحث معهم في كيفية الرد على مديرهم، فاتفق هؤلاء على مقاطعة المدير، وعدم العودة إلى العمل إلا بعد إعادة صخر إلى عمله.

أوصل ذلك الموظف المفصول شكليًا، الانباء إلى رئيسه أولًا بأول، فما كان من الرئيس إلا أن ضرب ضربته القاصمة، وشبه الانتحارية لانقاد سفينة مؤسسته.. وافق على استقالة جميع موظفي مؤسسته غير آسف على أيٍ منهم، وكان آخر من أقالهم ذلك الموظف الجاسوس الملازم للجميع. الامر الذي دفعه لطلب اللقاء بي، على اعتبار انني من اصدقاء صخر العدوان.. وسرد تفاصيل ما جرى له في أيامه الاخيرة. وها انذا اروي لكم ما رواه لي، دون زيادة او نقصان، أما صخر العدوان فقد عاد إلى بيته.. وقد اعتمت الدنيا في عينيه.. واستسلم لنوم عميق... عميق..

 

قصة: ناجي ظاهر

 

 

سوف عبيدفي عامه الخمسين

لجلوسه على العرش

اِنتصب أنو شروان في صدر الإيوان

بين يديه الأمراء والوزراء والأعيان

والجواري والغلمان

*

ظلّ أنو شروان صامتا

لم ينبس ببنت شفة

ولا حتّى اِبن لسان

أطرق زمنا

وجم الحاضرون في أماكنهم

لا أحد يجرؤ على الكلام

طال إطراق أنو شروان

فجأة هزّ رأسه كسرى أنو شروان

وقال ـ أتدرون ما ألذّ شيء

في الدنيا؟

لا أحد عزم أمره أجاب

*

حينذاك قال كسرى أنو شروان

ـ أخذت من الدنيا كلّ شيء

شربت حلو الشّراب

أكلت شهيّ الطعام

لبست فاخر الثياب

أنا الذي سلطانه من هنا

إلى أقاصي البلدان

ونلتُ من كلّ حسن وجمالْ

فلم أجدْ في الدّنيا

ألذَّ

من مُحادثة الرّجالْ !

***

سُوف عبيد

 

عبد اللطيف الصافيلأجلكِ يَا حَبِيبتي

سأجْعلُ منْ رذاذِ الغيْمِ

زاداً للقُلوبِ البائِسةِ

وأَرْوي عطَشَها بدَمِ الرِّيحِ

سأُربِّي الحلْمَ الذِّي يطْفُو فوقَ ملْحِ عَيْنيكِ

أبثُّهُ قواعِدَ العشْقِ الأربَعونَ

وآياتٍ بيِّناتٍ منَ الجُنونِ

سأكرِّسُ كلَّ حَواسي لِرَائحةِ المَطرِ

أجْعلُ منْ ثغْركِ العَذْب

معْزوفةً متْرعةً بالجَمالِ

تداعبُ أوْتارَ قَلبي

سأَهْدِمُ كُلَّ معَابِدِ الْحُبِّ الْقَدِيمةِ

أهْزِمُ الْحَنِينَ الَّذي يُسَيِّجُ رُوحِي

وأمْضِي مِثْل ضوْءِ البرُوقِ

أفضُّ بَكارةَ اللَّيلِ

فترقصُ النُّجومُ بينَ تلالِ نهْديكِ

تُضيءُ وُشُومَ الْفرحِ

البَادِيةَ عَلى جَسَدِكِ الْمُرْتجِفِ

مثلُ بُرْكانٍ

حِينئذٍ

سَيكونُ بوُسْعي يا حَبيبتي

أنْ  أحتضِنَ صوْتَ النُّبوءاتِ

المشْتعلِ في دمكِ

وأنْ أهزَّ عُروشَ خيْلكِ المُسرَّجةِ

خلفَ أبوابِ الصَّمتِ

وأصْرُخَ في العالَمِين

مِلءَ أَشْواقِي

من فَوْقِ الْمآذِنِ

بيْنَ شُقُوقِ الْماءِ الْمُتَوهِّجِ فِي صَلَوَاتِي

فِي سرِّي و عَلانِيَّتي

وعَلَى مَائدة إحْتِضارِي

أحِبُّكِ.

***

عبد اللطيف الصافي/المغرب

 

محسن عبد المعطيقِصَّةُ الْغَزَالِ فِي ضَوْءِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفْ

يَا رَوْعَةَ الْغَزَالِ!!!=فِي قِمَّةِ الْجَمَالِ

رَشَاقَةٌ وَخِفَّةٌ=يَا مَضْــــرِبَ الأَمْثَالِ

إِشْرَاقَةٌ وَسُرْعَةٌ=تَعِيشُ فِـــي خَيَالِي

عِنْدَ الشُّرُوقَ – إِخْوَتِي=يَا فَرْحَــةَ الْأَطْفَالِ!

وَالْمِسْكُ – يَا أَحِـبَّتِي-=بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

                      ***

عُرْبٌ كِـــــــرَامٌ لَقَّبُوا=الشَّمْسَ بِالْغَزَالةْ

فِي وَقْتِ إِشْرَاقٍ لَهَا=بِفَضْلِ ذِي الْجَلاَلَةْ

                      ***

لَحْمُ الْغَزَالِ طَيِّـبُ=وَالْمِسْـكُ مِنْـهُ أَطْيَبُ

كَمَا أَبَانَ سَــيِّـدِي=خَيْرُ الْأَنَامِ الْمُهْــتَدِي

فَطَيَّبَتْهُ عَائِشَةْ=قَبْلَ الطَّـــــوَافِ الْأَمْجَدِ

فِي يَوْمِ نَحْـرٍ خَالِدٍ=لَدَى الزَّمَانِ الْأَبْعَدِ

               ***

اَلْمُسْلِمُونَ فِي الطَّوَافْ=كَأَنَّهُـــــــــمْ غِزْلاَنْ

فَحِينَمَا جَــــاءَ الرَّسُولْ=اَلْمُصْطَفَى الْإِنْسَانْ

وَقَصْدُهُ أُمُّ الْقُرَى=فِي الْعُمْرَةِ الْمُقَدَّرَةْ

وَمَعَــــهُ أَصْحَابُهُ=كَعُصْبَةٍ مُسْتَبْشِرَةْ

مِنْ بَعْدِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةْ=بِسَنَةٍ يَا صَحْبِيَهْ

يَأْمُرُهُمْ بِالْهَرْوَلَةْ=رَسُولُنَا مَـــــــا أَنْبَلَهْ!

فَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْ=رٌ وَالْجُمُوعُ مُكَبِّرَةْ

وَالْمُشْرِكُونَ أَبْصَرُو=هُـــــمْ قُوَّةً مُعَبِّرَةْ

عِنْدَ الطَّوَافِ الْهَرْوَلَةْ=وَالْمَشْيُ بِالرُّكْـنِ الْيَمَانِي

فَشَبَّهُوهُمْ عِـــــنْدَ ذَا=كَ الْحَالِ بِالْغِــــــــــزْلاَنِ

                 ***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

فرات المحسنفي الجنوب البعيد، في قرية نائية. هناك حيث يغور الجوع والمرض بعيدا في تلك الشعاب والسواقي وبيوت الطين، ليصطاد ويغل حقده في صدور البشر دون رقيب وحسيب. كان جبار مطشر مهودر، بعامه الذي لم يدون في تأريخ محدد، يشذب سعفاته، استحضارا لطلب جديد. فقد أمتهن منذ طفولته صناعة المقاعد والمناضد من سعف النخيل.  

 يروي جبار مطشر مهودر بفيض من كلمات، إن عمره من عمر ملك العراق فيصل الثاني، الذي قتلته اليد الظالمة في اليوم الأول من جمهورية عبد الكريم وعبد السلام. هذا ما يؤكده جبار مطشر  بتلذذ يخالطه شيء من الحزن، حين يُسأل عن عمره. يدون في ذاكرته هذا التأريخ مع تفاصيل أخرى، يلذ له الحديث حولها، ويردف ذلك بالقول تأكيدا لما يرويه، بأنه سمع ذلك وغيره، من عمته لطيفة، التي ماتت بالتدرن بعد وفاة أمه بعشرة أعوام، لذا أحتاج لمعرفة يوم مولده مدة ليست بالقصيرة، ودائما ما يقول بأنه ما عاد يأسف لضياع أيامه، ولا حتى سنوات طويلة قضاها هاربا من الخدمة العسكرية، يجوب الهور، يعبر الحدود نحو إيران هربا من رجال الأمن العراقيين، ومن ثم يعود هاربا حين يطارد من الشرطة الإيرانية.

 كان يمط شفتيه ويشعر بالنشوة وهو يتحدث عن عمره، الذي يقرنه بولادة ملك العراق، بالرغم من أنه لا يعرف بالضبط في أي عام أو يوم ولد ذاك الملك. ولكن جبار مطشر مهودر يقول إن عمته لطيفة كانت ذكية نبهة وتؤرخ للقرية حوادثها وأبناءها، لذا لا يمكن الشك فيما تقوله أو تعلن عنه.

 دائما ما يبدو جبار مطشر في حديثه عن عمره، وكأن له علاقة قربى بذاك الشاب الجميل الطلة الأنيق الذي اغتالته رصاصات رعناء، لم تأخذ بالاعتبار حتى صلة الرحم التي تربطه بآل بيت النبوة، هكذا يصف جبار الملك فيصل الثاني والواقعة التي أسست للجمهورية الأولى في العراق.

 يسرح في البعيد، ومع دقات فأسه فوق اللوح الخشبي وهي تشذب السعف وتنضده، يتذكر سنوات عمره التي سارت بعجالة، دون أن يتغير حاله كما حال قريته المنسية الراقدة بين الماء والسماء.

فوق حصير جوار باب كوخه الطيني، جلس جبار مطشر مهودر يبسط يده ويرفعها في عمل دؤوب مثابر،تحيطه كومة سعف نخيل، وجواره جلس حفيده ذو التسعة سنين، ينظر لكف جده وهي تعمل بترو ودقة، فيشعر بذات الزهو الذي يعتمر قلب جده.

ـ جدي ، مَن هو بوش؟!

قال الحفيد وهو يتطلع لفأس جده وهي تنقر برتابة غصن السعفة لتشذبه. 

بوجه باش وابتسامة عريضة أجابه الجد

ـ بوش هو رئيس أمريكا.

ـ أهو من عشيرتنا؟!

ـ كلا يا ولدي فهو رئيس أمريكا.

ـ وأين تسكن عشيرة أمريكا؟

ـ أمريكا ليست عشيرة، أمريكا دولة يا ابني.

ـ وأين تقع دولة أمريكا؟

ـ إنها بعيدة جدا عنا.

ـ أبعد من سوق الشيوخ؟

ضحك الجد بصوت مكتوم قبل أن يرد، وراح يمسد شعر حفيده :

ـ أبعد وأبعد.

ـ أبعد من الناصرية ؟.

ـ أبعد وأبعد يا ولدي. قالها وتغضن جلد خديه، حين انفرج فمه عن ابتسامة برزت معها عظام وجهه المكدود الهرم، وبقايا أسنان نخرها دخان التبغ.

ـ أبعد من بغداد؟ 

ـ إنها بعيدة عنا جدا، بعد السماء عن الأرض.

ـ ولكن لماذا تأتي وتضربنا بالقنابل مثلما يقول أبي.

ـ إنها تريد أن تأخذ نفطنا.

ـ ولكن جارنا أبو أرحيم جاء وأخذ منا صفيحة نفط ، برضانا دون أن يؤذينا.

ــ إنه قدر فرض علينا يا ولدي.

***

فرات المحسن 

 

 

 

 

في نصوص اليوم