نصوص أدبية

نصوص أدبية

العشاقُ يحملونَ جَسارَتِهم صَقيلةً كالبلّور

بكلماتِ الحَياءِ يُزرِّرونَ اِيماءاتِ تيهِهم

يُغَطونَ ذَواتَهُم بِبَياضِ الأصْغاءِ

وهَمَساتِهم بِدِيَمِ القَرائِنِ

مُنشِدين تَأْويلاتِهم بِمَوفورِ السُّرى

يَشطِفونَ ضَحَكاتِهم بِالماءِ النوراني

ساكّين مِنْ كَمالِ الرفْقَةِ

اَسرارَ المُشتَهى

وعَفافَ الشهْوَةِ

*

2

تشقّين َمَمَرًا اَبيضًا لِنوافيرِ وَجعُكِ

تَتْلينَ فيها خِفيَةً اَناشيدَ دُنوَّها وابتِعادَها

رَأفَةً مُتَغافِلةً من حَفيفِ الألَمِ

سَماحَةً للشّْكْوى

وهِبَةً للدنَفِ المُتَلوي بين الضُّلُوعِ

مُعَلِّلَةً العَذاب المُقطَّر في الروحِ بِسخاءِ الدُّموعِ..

قبلِ ان تَمْسكي نَفسَكِ

مُضرَّجةً بِسِرّْ الذهولِ..

*

3

لنْ اَدَعَ اَترابي ـ بَعدَ مُنادَمَةٍ

يَعودونَ الى بُيوتِهِمْ

دونَ ان يَحْمِلوا من ثَمَرَةِ قلبي

نَفحَةَ حُبورٍ

تُنيرَ لَهُم سِرُّ سَكْرَتِهم آخِرَ اللَّيلِ

***

طارق الحلفي

أَرْوَاحُنَا اشْتَاقَتْ إِلَى لُقْيَانَا

وَتَبَاعَدَتْ كُلُّ الْخُطَا بِرِضَانَا

*

يَا نَفْسُ مَاذَا قَدْ جَنَيْنَا كَيْ نَرَى

حُبًّا عَظِيماً قَدْ غَدَا نِسْيَانَا؟!!!

**

هَلْ كُلُّ هَذَا فِي الدُّنَا كَطَبِيعَةٍ

تَسْرِي لِكَيْ نَنْسَى الْهَوَى أَزْمَانَا؟!!!

*

أَرَأَيْتِ كَيْفَ يَصِيرُ قَلْبِي وَاحَةً

فِيهَا الصَّفَاءُ يُنِيرُ كُلَّ خُطَانَا؟!!!

**

أَعَرَفْتِ كَيْفَ تَحَوَّلَ الْحُبُّ الَّذِي

عِشْنَاهُ يَوْماً بَاسِماً بِهَوَانَا خُطَانَا؟!!!

*

مَاذَا أَقُولُ؟!!!هَلِ انْتَهَى الْكَلِمُ الَّذِي

مَا زَالَ مَكْتُوباً لَنَا دِيوَانَا؟!!!

**

اَلْحُبُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا يَا عُلَا

وَبِهِ نُحَقِّقُ حُلْمَنَا النَّشْوَانَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

 شاعر وناقد وروائي مصري

 

إشْــراقَـةُ الـمَجـَاِلـسِ البَـهِـيّـه

مـَـدارِسٌ ، تُـعــزِّزُ الـهُـويـّـه

*

فِي صَدْرِهَا اوْسِـمَةُ الثَّـقَـافَـه

تَـفْخَرُ فِي أقلامِهَا الصَحَافـَه

*

أجـْواؤهَا تَـزْهُو بِعِطْرِ الأدَبِ

تُــزَوِّدُ الفِـكْـرَ بِـنُـورِ الكُــتُـبِ

*

للشِـعْرِ فِــي رِياضِهـا انـتـِقـاءُ

يـَبـْـرزُ فِــي اجْـوائِه الإصْغاءُ

*

خُـلاصَةُ الآراءِ فِـيـهِ مُـثْـمِـرَه

والنقدُ حُـرٌ في حُروفٍ مُقْمِرَه

*

فـِـي نَهـْجِـهَـا الـوِئامُ والسَّـلامُ

مُـزْدَهِـرٌ فِـي رَوْضِهَـا الكلامُ

*

يَسْتأنِسُ الحَاضِرُ في أشْعَارِهـَا

يَسْتَـلْهِمُ العِـبْـرَةَ  مِـنْ أخْبَارِهـَا

*

طمُوحُهَا صَوْبَ خُطى الأجْـدَادِ

ومِــنْ سَــنَاهـَا قَـبَـسُ الأحْــفـَادِ

*

أهْدافُهَا الـتـنْويرُ فـي الدِّراسَه

بَعِـيـدَةً عَــنْ محْـوَرِ السِّـياسَه

*

تَـسُـودُهَا الأُلـفَـةُ فِي المَسِـيـرِ

وَرِفْـعـةُ الآدابِ فِـي التعْبـيـرِ

*

مِنْهاجُـهَـا يـَبْـعـَثُ فـِي النُـفـُوسِ

أطايـبَ المَـوْرُوثِ والـمَـدْرُوسِ

*

مِنْ مِرْبَدِ الشّعْرِاسْـتَـقَـتْ نَكْهَـتَهَا

وَمِنْ عُـكاظٍ ، وثّــقَـتْ بَصْمَـتَـهَا

*

مَـحْـفِـلُهـَا ، يَزْهــُو  بـِـهِ اللقـَاءُ

يَـسُــودُه الـتـوْقـيـرُ ، والـنَّـقــَاءُ

*

يَغِـيـبُ فِيهـَـا الفَخْرُ  بالمناصِبِ

ويَـحْـتَـفي الحُضُورُ بالمَـواهِـبِ

*

مَـناهِـلُ التـثْـقِـيـفِ فِــي آدابِهــَا

طُوبَى لِمَنْ يَسْعَى إلى أعْـتابِهــَا

*

فـمَـنْ عَـلا  كَعْـبُه فـِـي الآدابِ

يَـسْـمُو عَـلى أوْسِـمَةِ الأنـسَابِ

***

(من الرجز)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

الرسالة التي وصلت إليّ هذا الأسبوع أصابتني بصدمة عنيفة. كادت تجعلني أغيّر بعض مارحت أرسمه للمستقبل

في الوقت نفسه

أرجعتني للماضي البعيد

لسنوات الحرب

لأمّي

للطفولة

للحزن العميق.

يوم وقع الحدث الذي غير مجرى حياتي كنت صغيرا في الرابعة من عمري. أسمع عن أشياء كثيرة وأحداث أفهم معناها وبعضها لا أفهمه. وقد عرفت أن هناك حربا ووعيت أنّ أناسا يقتل بعضهم بعضا.

إذن

هي الحرب التي تغلغلت في ذهني وأنا صغير.

ومازالت بعض صورها تنطبع في ذهني

رأيت والدي يرتدي البدلة العسكرية، ووجدت أمي تصمت وتكاد دمعة تترقرق بعينيها كلما استقبله وهو قادم في إجازة أو ودّعته..

هل أعود إلى السنة الرابعة؟

كانت الحرب بدأت منذ ولادتي.. لست نحسا ولا أظن أن أي شخص نحس، وإلا لكنا نحن الذين ولدنا قبل أن تندلع الحرب بأيام منحوسين.. وقد رأيت والدي الذي تتشرف غرفة الضيافة بصورته مع الشريط الأسود رأيته يذهب ويجئ بالملابس العسكرية.

خلال إجازاته لايخرج من البيت.

يظل يلعب معي أو يصحبني فيبتاع بعض الألعاب ويعود إلى البيت. بدا أيضا، لطيفا مع أمي. لا أدري إن كان لطيفا معها قبل أن أولد إذ ولدت بعد سنتين من زواجهما.

في السنة الرابعة حدثت المأساة

صرخت أمي

ولطمت خديها

شقت ثوبها، وكاد يغمى عليها فقد حضر جنود إلى بيتنا بصدوق خشبي لم يخف الرائحة النتنة التي في جوفه.. وقيل وقتها إن الجثة التي أصبحت ممزقة مشوهة، منفخة الملامح.

هي جثة أبي.

ولم تسمح أمي أن أراه. قالت أبعدوه عن المكان، وكنت أبكي لبكائها. بعض أقربائنا رآى جثة أبي مع أمي. كان مشوها إلى حد بعيد، كل أوصافه التي لم يتبيّنها أحد وهو في الصندوق ورائحته النتنة كل ذلك سمعت عنه بعد سنوات، ووعيت مفتخرا أن لي أبا سقط شهيدا وهو يدافع عن الوطن..

يسمّيني الناس ابن الشهيد

وأمي زوجة الشهيد.

أمي التي رفضت الزواج لتتفرغ لي ، حصلت على امتيازات مادية صرفتها علي تعليمي، وعلى تقدير الدولة والمجتمع، أما أنا فكنت أطالع صورة أبي في الصالة وهو ينظر إلي بعينين مفعمتين بالفرح.

تقف أمي أمامي تربط لي خيط الحذاء وتعدل حزام السروال القصير الذي اعتدت على ارتدائه إلى الصف الخامس الابتدائي ثمّ استغنيت عنه. ذهب عهد الطفولة أصبحت رجلا، وبدلا من أن ألقي تحية الصباح على أبي كل يوم بصوت مسموع تطرب له أمي، رحت أسلم عليه بالسرّ، وأتفاءل بعينيه الودودتين

ثمّ

بعد سنوات طويلة وضعت في الردهة وصالة الاستقبال صورة أمي جنب صورته وعليها شريط أسود!

2

كان علي أن أرقد فغدا عند الفجر أقصد مطار المدينة لأستقبل ذلك الرجل الغريب!

بدا الشارع يختلف وإن كنت رأيته من قبل

هو أو لا هو

المهم أن أصل في الموعد المحدد لأستقبل ذلك الشخص الذي يقول عن نفسه إنه أبي. رأيت صورته التي بعثها لي في الرسالة. إنها تشبه صورة تشخص أمامي على الجدار في الصالة يحفّها من زاوية الإطار الخشبي اليمنى شريط أسود.

لست قلقا، أما الدهشة فقد استهوتني لأنّني أعيش في زمن اللامحال. لم أستغرب من الشارع الذي تغيّر ولا من الأضواء التي بدت تلفظ أنفاسها عند الفجر. كلّ شئ يبدو جديدا بحلّة قديمة وقديما بثوب جديد. لا أريد أن أسأل أحدا فالشارع أشبه بالخاوي ، وهناك على الرصيف الآخر أناس يمشون نحو اتجاهات مختلفة.

متأكد أني لست نائما.

من المنعطف الواسع الذي تغيب نهايته عند المنارة الأثرية العالية، انعطفت نحوي سيارة أجرة.

لن يسرقني الوقت إذن.

لوحت بيدي فتوقفت، فتحت الباب فوجدتها تغص بالركاب.

أين ؟

المطار لكن يبدو لا مكان لي.

إصعد..

لا أظن لي مكانا.

بل قلت اصعد هناك أكثر من مكان.

ترددت وتمتمت:

معقول.

لا أدري كيف سمعني السائق:

نعم معقول وأراك لن تجد سيارة أخرى تقلك إلى حيث تريد.

أخيرا

دلفت..

لا أدري كيف جلست. لم أشعر بضيق على الرغم من أن الداخل كان يعجّ بالركّاب. كانوا صامتين. لا أحد يتكلّم ، والغريب أنهم شبه أثير لا يضايقونك في زحمة المكان.

هناك رهبة

دهشة

وبعض الخوف

قلت أدراي بعض هاجس القلق:

لديّ ساعة واحدة على إقلاع الطائرة.

قال السائق الذي لم يلتفت والذي تبيّنت ملامحه أول ما استوقفته ونسيتها الآن:

أتسافر من دون حقيبة.

داريت كذبتي والإحراج:

هكذا تعوّدت.

لا تقلق إذن سنصل في الوقت المناسب

كان زجاج النافذة معتما فلا أبصر مشاهد الطريق، ولفت نظري أنّ الركاب يتهامسون مع بعضهم بعضا من دون أن يلتفتوا لي، وفجأة قطع السائق همسات الراكبين القريبة من الصمت:سننزل لنتناول طعام الغداء في أقرب استراحة!

انبريت محتدّا:

ماذا؟ الطريق إلى المطار..

قاطعني متحمسا:

عشر ساعات على الأقل أنا واثق أن هذه الاستراحة هي الأفضل

أنا بين مجموعة كثيرة لا أستطيع إحصاءها، تضمّنا سيارة صغيرة، لامعقول في المعقول، أخشى أن أعترض على شئ لا أتصوّره، ماذا لوفاتني الوقت، والسائق يشك أو شك في أني أسافر فقد صعدت معه من غير حقيبة، عليّ أن أقنع نفسي بما يقول ، وبهمس الركاب الذي لا أتبينه.

في منتصف الطريق كما يقول نزلنا، بلغة الأرقام قطعنا مسافة250كيلومترا. أظن المسافة بين المدينة والمطار 20 كيلومترا ، الذهاب قبل ساعة واحدة يكفي لاستقبال ضيف، فكيف انقلب الوقت إلى أضعافه؟

لا شكّ أن هناك خطأ ما، فأبي، أو الرجل الآخر الذي يدّعي أنّه أبي، يمكنه الانتظار وعلى أقلّ تقدير ربما يمل فيستقل سيارة أجرة ويتوجه إلى بيتنا مباشرة. الرسالة التي بعثها إلى العنوان حيث أقيم تدلّ على أنّه يعرف البيت والشارع.

ولكي أكون على بينة من أمري اتجهت إلى قبو قديم ، هناك أردت أن يتزحزح شكّي قليلا. تمنيت أن تختلف الرسالة الغريبة القادمة من الخارج بنكهتها وخطّها عن وثائق وتواقيع قديمة جمعتها أمّي مع مستمسكات أبي من نياشين، وسيف، وعصي وبدلات، والبومات صور. زشياء صغيرة لاها نكهة الماضي التي راحت تتلاشى أمّا الذي يهمّني فهو بعض المذكرات والرسائل التي كتبها بخطّ يده. قد أكون خرجت من السيارة لأدخل القبو، أو دخلت استراحة تقع بيني وبين المطار لألتقط أنفاسي، لا أنكر أن الرسالة القادمة من الخارج كانت تطابق تماما خط أبي، وحين رجعت إلى السيارة ثانية لم أجد الركاب. بل لم أعن بالسؤال عنهم.

3

واستقبلت الرجل الذي يشبه أبي

كان هناك حاجز بيني وبينه.

عشر ساعات في السيارة وربما ساعة واحدة

احتمالات متناقضة لم أتعمّد تجاهلها..

لا أدري كيف ظهر لي القبو القديم بين الزمنين المتناقضين في الطول. مدّ يده لي ، فمددت يدي ببرود. لم أشعر برغبة لعناقه.

هذه المرة عدنا بسيارة أخرى، والذي اثارني أني وجدت السائق نفسه. السيارة الأولى التي قدمت بها إلى المطار كانت رمادية اللون قديمة بعض القدم. لا أقول مستهلكة، والجديدة التي عدنا بها أنا والرجل الآخر سيارة حديثة زرقاء اللون. في البدء لم أتبين ملامح السائق، وحين التفت يسألني عن العنوان عرفته هو الذي أقلني منذ عشر ساعات إلى المطار.

السيارة الجديدة لا تعجّ بالركاب.

وحدنا كنا أنا والرجل الذي يدّعي أنه أبي

قال السائق:

وجهك ليس غريبا ياسيدي أظنني جئت بك إلى المطار لتسافر منذ عشر سنوات.

قال الشخص الذي جنبي: ربما فبعض الوجوه تتشابه.

ودلفنا في الصمت ثانية.

كل العلامات تدينني: الرسالة والرجل الذي كتبها ووقتا قضيته في الذهاب. وددت لو أكون في حلم :

ولدي العزيز لا تستغرب أنا أبوك مازلت حيا سأصل الساعة..

حالما دخلنا، وقع بصره على الصورتين اللتين في القبو. سأل بنغمة شاردة:

متى ماتت أمّك؟

قبل أربع سنوات بالضبط بعد تخرجي من الجامعة بسنتين.

هز رأسه متأسفا، وقال:

والله كبرت هل تذكر حين كنت آخذك في إجازاتي إلى المدينة

واندفع إلى غرفتي وعاد وهو يلهث من الفرح:لابد أن تكون احتفظت ببعض الصور. أعرف البيت جيدا..

قلت بشئ من الضيق:

أنا لحد الآن منحتك الوقت لتتكلم من دون أن أبدي رأيي أستطيع أن أسلمك للجهات الأمنية بتهمة التزوير.

ألا تقتنع بشكلي؟

الشكل لا يدل على أنك هو.

وخطّ الرسالة؟

ممكن أنّك تجيد التقليد.

لكني واثق من أني أبوك العلم تطوّر.. تطوّر جدّا. ماذا تقول عن تحليل الحامض النووي!

الرحل يدينني، ولكنّي أحاول أن أنفيه بعد أن تيقنت من موته قبل أكثر من عشرين عاما:

هل بحثت عني في النتّ؟

نعم وعرفت أن لك صفحة. هناك

لماذا لم تكتب إلي لكان الأمر أسرع.

فقهقه بمرارة وقال:

النت.. ياهو.. غوغل.. فيس بوك تغامر بك. تجعلك في وقت طويل وقصير في الوقت نفسه ألم تستفد من تجربة المطار.

علي أن أقنع نفسي أنّه أبي.. صورة الرجل الذي على الحائط بشريط أسود تلاحقني فأشعر يبرود تامّ للرجل الآتي من بعيد:

مهما يكن فأنا وعيت أنّك متّ.

لذلك لم تحضنّي ؟

نعم

إسمع سأقص عليك الحقيقة.. أنا لم أكن أقتنع بتلك الحرب قطّ.. بعد أربع سنوات من اندلاعها تيقّنت من عبثها مثلما لم أكن جبانا ولو شاركت في حرب آخرى غيرها لما همنّي الموت..

قلت مقاطعا:

أم نت تظنها تطول إلى الأبد.

نعم وإن بدا ذلك أمرا سخيفا لأنني شاركت بحروب قبلها وحصلت على أوسمة وجرحت..

تعجلت ما يقول فكررت:

ثم أخطأ حدسك فوقفت الحرب بعد أربع سنوات من هربك أو استشهادك!

فكرت فيك وفي أمك.. لم نكن نحب بعضنا. قلت لتكن النهاية حين أكون شهيدا تتمتعون بامتيازات وحياة مرفهة واغتنمت فرصة تعرض الفوج لهجوم كاسح. واختلاط الجثث فهربت إلى العدو. لم يعاملوني بقسوة بل سمحوا لي بمغادرة بلدهم إلى الخارج هناك عشت باسم آخر، اشتغلت وكونت ثروة. وتابعت عن بعدالنّزر اليسير من أخباركم التي كانت تسرّني.

اجتازتنا لحظات صمت ثقيلة.. لقد اعتدت على الصورة التي ترمقني وهي على الجدار وعلى الصورة نفسها.. أبي جنب أمي ببدلة العرس.. ومعي في البيت أوالحديقة.. الذي أعرفه مات من زمن

لكن الحرب توقفت بعد أربع سنوات وعرفني الناس والدولة ابن شهيد فكل جوارحي تنطق بموتك.

فقال بتأفف: اسمع الآن الوضع تغير لافرق عند الناس أن أكون حيّا أم ميتا (وهز رأسه مؤكدا) لذلك جئتك عبر رسالة.. لجأت إلى الزمن القديم ولم أدخل لك عبر صفحتك الشخصية عندها لا تقدر أن تتقيّن منّي.

قلت من دون رغبة:

يمكن أن أقول للناس إنك قريبي لكني لا أريد أن أفعل شيئا يزعزع تصوّر الآخرين عن أبي.

تقصد عنّي؟

قلت مكابرا :عن أبي الذي مات

فنفث الهواء عميقا وقال :عنيد

ثمّ رفع بصره إلى صورة والدتي متساءلا:.

لم تتزوج؟

طلب يدها ابن عمها فرفضت واحتجت أنها تفرغت تماما لتربيتي.

أتعرف ليست الحرب وحدها التي دفعتني للفرار نحن وأمك لم نكن نحب بعضنا كانت تحب ابن عمها نفسه الذي خطبها بعد موتي المزعوم كان البيت جحيما!

وقد غلا الدم بعروقي:

لن أسمح لك بالحديث السئ عنها هل فهمت.

كلّ ما أريد قوله إني جئت من أجلك لم تسألني عن حياتي في الخارج ولا..

لا أريد أن أعرف أي شئ عن:

لقد تزوجت لك إخوة وأخوات.. تاجرت وغامرت أنا الآن ثري مليونير وعلى وشك الموت.. ستأتي معي لتأخذ حصتك من أموالي.

صرخت فيه منفجرا:

لا أريد أي شئ كفى أنك خدعتنا أنا وأمي. خدعت السلطة والناس

لم يتوقع مني هذا العنف وبقي صامتا. ارتمى على المقعد وهو يلهث.. ظلت يلهث حتى هدأت أنفاسه وسكن..

سكن تماما

بصره استقرّ على الجدار.. فتقدمت نحوه.. انتقلت عيناي بين الصورة ووجهه الهادئ. همست:

أنت.. أيّها.. سيدي..

كان ساهما شاردا اقتربت منه فرفعت يده التي سرت في أناملي منها برودة ساكنة صفراء. فارتخت قبضتي عنها لتسقط على الأريكة، وعن دون وعي هتفت:

أبي..

كان قد مات وهو يتطلع في الجدار.

***

قصة قصيرة

قصي الشيخ عسكر

رَجَــوتُكَ يــا إلــهي والــطريقُ

طــويلٌ والــشرورُ بــه تُــحِيقُ

*

فأَمشي والــظــلامُ لــهُ اِمــتِدادٌ

ولا  أدري مــتى يأتي الشروقُ

*

وَتُــرْهِــقُني هــمومٌ مُــوحِشَاتٌ

يكادُ  الكونَ في صدري يضيقُ

*

فــلا  أحــدٌ أبــثُّ ألــيهِ حُــزْني

ولا  هـــادٍ يـــدلُّ و لا رفــيــقُ

*

تــكــالبَتِ الــنــوائبُ والــرزايا

وبــاتَــتْ  حـــدَّ طــاقتِنا تَــفوقُ

*

تُــشَرِّدُنا  الزلازلُ حيثُ شَاءَتْ

وتَــقتلُنا الــعواصفُ والــبروقُ

*

وبِــتْــنَا كــالسَّفِينِ بــلا مــراسٍ

تُــحَرِّكُها  الــسَّمُومُ أو الخَرُوقُ

*

بنا قد ضَاقَ أهلُ الأرضِ ذَرْعاً

فـــلا  أحـــدٌ لــرؤيَــتِنا يــطيقُ

*

فَــتَغْمِزُنَا الــنَّطِيحَةُ دونَ ذَنْــبٍ

ويَــشْــتُمُنَا مِــنَ الأنْــذالِ بــوقُ

*

كــأنَّا قــد سَــرَقْنَا الشّمسَ يوماً

وبِــتْــنَا  لــلــتقدمِ قـــد نَــعُــوقُ

*

كــأنَّ  الــعُرْبَ ناموا في سُبَاتٍ

مــتى يَصْحو الضميرُ ويستفيقُ

***

عــبــد الناصر عــليوي الــعبيدي

تسيرُ في حديقة فتنتها

فراشات على شفتيها الكلامُ

تصحو... تنامُ

وإن لامسته ومال القوامُ

يكاد

يَئنُّ من شوقه للحياة الرخامُ

*

تسير في حديقة فتنتها

كأن ليس في الكون سِواها

فإنّ الله سوّاها

بوردٍ وعطرٍ ونور مُكثّفْ

كأنّ الزمان

رقّ ولانَ

ومن أجل سحر الجمال توقّف

*

فاتن

واقع من خيالِ

يحفظ كبرياء الجمالِ

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

على شُرفَةِ الانتِظارِ

حُلمٌ مُعَتَقٌ

على دروبِ المَطَر

أَملٌ يَلهَث

وعلى مَذبَحِ القَدَر

أشوَاقٌ تُصلَب

ماذا خَلفَ السِّتارِ؟

شَهَقاتٌ تُحتَضِر

في نَفَقِ الَلَّيلِ

تَوَسُّلات ٌعَلى رَصيفِ النِّسْيانِ

جَفَّ نَدَى اَلعَذارى

وَرَحَلَ اليَاسمينُ

أَفَلَتِ الشَّمسُ

وَحُجِبَتِ النُّجومُ

بوشاحِ النَّفاق ِ

فَتَدحرَجَت الحَقيقَةُ

إِلى قاعِ الوَهْمِ

ببَرقِ رَعْدٍ بِلا وَميضٍ

سَقَطَ اَللؤُلُؤ

من أَعنَاقِ حَواري الشَّرقِ

سَرابٌ مُرَقّعٌ

سُكونٌ بلا عِطرٍ

وبَسماتٌ خَريفِيَّةٌ

صَلاةٌ عَمياء

اِبتِهالاتٌ باردَةٌ

وأَجراسٌ بلا صَدى

التُّرابُ يَنزفُ

والأَرضُ سَكْرَى..

لُطفاً أيُّهَا الرَّبُّ بظِلالكَ

بَأرواحٍ تائِهَةٍ

عَلّها تُبصِرُ الطَريق

إِلى سُفوحِ الصَّحوَةِ

وبَسَاتينِ الخَلاص

فَتُزهِرُ الأُلوهِيَّةُ

عَناقيدَ مَحبَّةٍ

مُضَمّخَةً بِماءِ اَلنُّور

***

سلوى فرح - كندا

بلادُ الأرْضِ مِنْ هَلعٍ تهاوَتْ

عَلى أمَمٍ بما مَلكتْ تفانَتْ

*

بباءٍ حاوَلتْ طمْسَ الخَطايا

فَهلْ بَرَزتْ عَجائبُ حينَ طارَتْ

*

نفوسُ الخلقِ مِفتاحُ الرَزايا

إذا أمَرَ الدفينُ لهُ اسْتَجابَتْ

*

وحوشٌ في ثيابٍ ذاتِ أنْسٍ

أبانَتْ عَنْ حَقيقتِها وكادَتْ

*

مَيادينٌ بها رَتعَتْ جُموعٌ

ذئابُ وجودِنا أكلتْ وعاثتْ

*

جَهالتُنا وغفلتُنا أجازَتْ

بنور الديْنِ ناراً إسْتقادَتْ

*

تدورُ بنا كأنّا في ثراها

جُزيْئاتٌ بلا أصْلٍ توارَتْ

*

أعاصيرٌ على مُدِنٍ أصالتْ

تُدَمّرُ عامِراً ولنا أبادَتْ

*

لإهْمالٍ ونكرانٍ لِحَقٍّ

وإمْعانٍ بفاسِدةٍ تعامَتْ

*

تَحَرَّكَتِ الشوامِخُ بارْتِعاشٍ

فوارَتْ كلَّ مَوجودٍ وفاقَتْ

*

قُراها أصْبَحَتْ عَصْفاً هَشيْماً

مَعالِمُها بأعْماقٍ تَداحَتْ

*

وخلقٌ في مَواضِعهِ تَلاشى

تُكفّنهُ المَخادعُ ما اسْتطاعَتْ

*

وريحٌ صَرْصرٌ رَفعتْ مِياها

وجاءَتْ أمّةً حَيْثُ اسْتكانَتْ

*

فماتَ الجَمْعُ في لحْظٍ عَجيْبٍ

وأبْدانٌ غدَتْ جُثثاً وطافَتْ

*

كَوارثُ نَكْبةٍ وَرَدتْ إليْنا

لتُرْهِبُنا بفاجعَةٍ أصاخَتْ

*

تَحدّى أيّها المَتكوبُ فيها

ولا تَرْكنْ لعاديَةٍ تحامَتْ

*

بمَغْربها زلازلها بأرْضٍ

تَطامرَ ناسُها والنَجْدُ حارَتْ

*

بدَرْنَتها مياهُ البَحْرِ قامَتْ

لتُغْرَقَ كلها فهَوَتْ وماتَتْ

*

دَمِقْرَطتِ النوازلُ في رُبانا

وروحُ الشرِّ عَنْ شررٍ أباحَتْ

*

وإنَّ النفسَ مِنْ كَنَدٍ ولؤمٍ

تَمَزّقَ شأنها فبَغَتْ وساءَتْ

*

تُروّعُنا الخُطوبُ ومُنْطواها

وتُلقينا بهاويةٍ تَساوَتْ

وما عَرَفَ الزمانُ بها سَعيْداً

نَوائبُهُ  على سُعْدٍ توالتْ

*

فلا تيأسْ إذا دارتْ رَحاها

ولا تنهرْ عَجوزاً إنْ تَصابَتْ

*

تَصارعَ خلقها ومَضى هَصوراً

كما الأمْواجُ في نَهرٍ تلاحَتْ

*

تدورُ دوائرُها والناسُ سَكْرى

ولا تدري بما كتمَتْ ورامَتْ

*

تباغِتُنا بأخْطارٍ جِسامٍ

ونَفْسُ المرءِ ما يوماً أخالتْ

*

تُرغّبنا المَطامِحُ بانْدفاعٍ

وتَنهرُنا الفواجعُ إنْ تَدانَتْ

*

إذا نظرتْ لبُعدٍ أو لقرْبٍ

فَعْينُ الكونِ عن زمنٍ أشاحَتْ

*

تَعاضدَتِ الخَطايا والمَنايا

وأتْرَعَتِ الكؤوسَ وما أفاضَتْ

*

عَرينُ وجودِنا أضْحى مُبيراً

يُوافينا بأخْطارٍ تَبارَتْ

*

بأرْضٍ زُلزِلَتْ وبها توارَتْ

خلائقُ أمّةٍ فيها تنامَتْ

***

د. صادق السامرائي

16\9\2023

كنت في طريقي إلى راس الجبل، عندما تألّقت شمس تموز اللاهبة في وسط السماء، غير عابئة بي ولا بعرقي المُتصبّب من وجهي وجسدي، وحتى قدمي، ورغم أنني عامل مفتول العضلات و " بعجبك"، لا سيما عندما أنحو نحو التعقّل والتفكير، كلّما واجهتني محنة، أو وقعت في ورطة مفاجئة مع أحد الاسياد، فقد شعرت بشيء من الانهاك، سهّل عليّ هذا كلّه لأنني كنت أفكر وأتخيّل ما سأتمكن من قطفه بيديّ القويتين من أكواز الصبر. زاد في هذا التسهيل، أنني تصوّرت أبنائي الثمانية وهو يتناولون الصبر بشوق ولهفة.

الدرب الترابيّ نحو تلك الصبّرة القائمة قريبًا من قصر يسكنه أحد الأغنياء من أصحاب الأموال الغزيرة الطائلة.. كان في الواقع طويلًا، غير أنني لم أشعر بطوله، رُبّما لأني كنت أفكّر في غلال الصبر التي سأقطفها بيدي المتمرّسة و.. سوف أعود بها إلى بيتي المتواضع في الحي الفقير القائم في البلدة القديمة. هكذا قطعت الطريق بقدمين ثابتتين رغم ما حلّ بي من تعب وإنهاك. لأطل على الصبرة المنتصبة فوق تلّة راقصة، قُرب بيت كبير وفارِه، تمنّيت طوال أيام عمري ولياليها الإقامة في مثله، ولم أتمكن، "أقطُف الصبّر يا رجل الآن ودع افكارك الجهنّمية .. تسترخي في خزاناتها"، قلت لنفسي وأنا أتابع السير غاذًا الخطى نحو هدفي، بالضبط مثلما يحدث مع كلّ مجتهد، حتى لو كان فقيرًا مثلي. اقتربت من الوصول إلى هدفي، توقّفت قُبالة شجرة الصبر، وأنا اتمعّن فيما ناءت به وحلمته من أكواز الصبر الذهبية، كانت تلك الاكواز تبدو وكأنها قناديل النور الالهي في ليل مظلم، لذا قلت لنفسي أمرها غريب. كلّ هذه الخيرات ولا أحد يدنو منها؟.. ما هذا الامر الغريب، البلدة ملأى بالمُهجّرين الفقراء ممن ينتظرون موسم الصبر لقطفه من أرض الله الطيبة المعطاء دون أن يُطالبهم أحد بثمنه، كونه نبت في مكان لا صاحب له ويعتبر أرضًا مشاعًا.

اقتربت من الصبّرة. كانت حاملة وممتلئة، تمعّنت في الواحها علّي أرى كوزًا ناقصًا مما جادت به تلك الصبرة المباركة في موسمها المعطاء السخي، إلا أنني فوجئت بثمار الصبر تصطفّ في نظام ساحر مُبهر، يُشبه النظام العسكري عندما يصطف الجنود الكرام استعدادًا لتحرير الوطن من أيدي الغزاة العتاة الظالمين. انتابتني حالة من الفرح وسرعان ما تحوّل هذا إلى قوّة، فمددت يدي العارية لأقطف الكوز المبجّل الأول، وما إن لامسته بحنو لا حدود له، حتى استوقفني صوت انطلق من قريب:

-مَن أذن لك بقطف الصبر؟.. قال صاحب الصوت وهو يُرسل نظراتٍ حافلة بالخبث وقلة الحياء. أرسلت نظري نحوه وواصلت قطفت الكوز الأول. وضعته في كيس النايلون وقطفت كوزًا آخر وآخر.. فعاد صاحب الصوت المزعج يدردب:

-قلت لك مَن أذن لك بقطف الصبر. نظرت إلى السماء الواسعة وعزمت أن أقول له: " الله هو مَن أذن لي"، غير أنني عدلت في اللحظة الأخيرة. وسألته:

-لماذا توجّه إلي مثل هكذا سؤال.. هل أنت حارس عليها؟

-وتقول مثل هذا الحكي؟ .. ألا ترى أن الصبرة قريبة من بيتي؟.. ردّ بوجه يفيض احمرارًا.

ما إن استمعت إلى حكيه هذا حتى انتهرته:

-كلا.. لا أرى.. أنا أعمى..

عندها اقترب مني، أمسكني من يدي:

-قلت لك هذه الصبرة لي. صرخ بتصميم.

انتزعت يدي من يده بقوة وتابعت قطف الصبر، فما كان منه إلا أن هجم عليّ موجّهًا لكمة قوية إلى وجهي. غامت الارض في عيني واربدت السماء. انتصبت قُبالته وأنا أدعوه لمعاودة توجيه لكمة أخرى.. دنا مني وهو مطمئن إلى أنني استسلمت إليه، وقبل أن يوجّه لكمته إلى وجهي.. كنت قد رميته أرضًا ووضعت قدمي على رقبته:

-هل تريد أن تتوقّف عن ادعاءاتك؟.. أم تريد أن أقضي عليك؟..

طلب مني أن أزيح قدمي عن رقبته واعدًا إياي بالخير، فرفعت قدمي من موضعها وأنا اهتف به:

-عن أي خير تتحدث.. وأنت تريد أن تستأثر بما تركه إخواننا المهجرون من خيرات أرضنا المباركة؟.. قُمْ لا أريد أن اوسخ يدي بدمك..

نهض الافندي، وبدلًا من أن يكتّ ما علق من غُبار على ملابسه الجديدة، راح يكتّ الغبار عن ملابسي العتيقة المرقّعة، ويرجوني أن أهدأ. "أنت ترى أن الصبرة قريبة من بيتي، وأنه من حقي أن أقطف بعضًا من ثمارها.. لا تزعل مني.. لم أقصد إغضابك".. فهمت ما أراد طلبه.. ملأت كيسي بثمار الصبّر وعندما امتلأت دوكما. خطرت في بالي خاطرة.. ماذا كان هذا النجس يفعل بي لو لم أكن قدّ حالي ومن رجال الشمس الذين انتصبوا شامخين في وجه التهجير ودقوا جدار الخزان.

قبل أن أمضي في طريق العودة إلى بيتي المتواضع وابنائي الثمانية المنتظرين، أرسلت نظرة باتجاه ذلك الكائن المُزعج، فرأيته مصفرّ الوجه.. مسودّه.. انتابتني حالة التعاطف تجاهه.. وقدّمت إليه عددًا من ثمار الصبر.. وولّيت ظهري ماضيًا في درب العودة.. فيما راح هو يتمتم بكلمات فضلت ألا أسمعها ترفعًا و.. حقنًا لدمه..

***

قصة: ناجي ظاهر

بنَخلَتي .. وداعةُ السَماءْ

وحشمةُ الخشوعِ

فلا دموعْ.. ولا نُواحْ

ليستعيذَ من عَويلهِ المساء

كأنّها تَهمُّ للصلاة

وحينَ قُطِّعَتْ فداءَ سيّد الحروبْ

وغزوةِ الرعاع

أنا الذي بكى

حَمَلتُ ذُلَّها كوَصْمِ عارْ

تغتالُني في ذَنْبِها الجِراحْ

*

أبا الخصيب

بحثتُ في انتفاضةِ الحَنين

عن نَخلةٍ تُسامرُ المياه

وعن شريعةٍ تغازلُ الدِلاء

وبِضعةٍ من القَمر

أباحَت الرُؤى لنُوَّمِ السُطوح

وعن وَتَر

يطارحُ المساءَ نَشوةَ السَمَر

فعُدتُ بالخَواء

وأوجُهٍ غَريبةٍ

وفيضِ حُزنْ

*

تَسعىٰ بيَ الخُطى لشاطئٍ بلا مياه

فمُ الشُرودِ فيهِ لايكلُّ من عُواء

تبَلَّدَتْ على رمالهِ أصابعي

ولا تشيرُ لاتّجاه

فانسابَ في صُدوعهِ الرَجاء

مُخضِّباً جَفافَهُ الوداعْ

سمائيَ اختفى من إزرِها السَعَفْ

فغاضتِ الشِفاه

وتاهَ بعضيَ المفتونُ بالضياع

الشرقُ يَقضمُ الشًروق

فأستغيثُ بالغروب

وأنتَقي الظلام

فلا أرى في أُفْقيَ البعيد

سوى الفِرار

وأضلُعاً تُلملمُ الضياءْ

***

عادل الحنظل

اَلْكَوْنُ يَعْـزِفُ أَجْــمَـلَ الْأَنْغَامِ

وَالْغُصْنُ غَـنَّى سَـاعَةَ الْإِلْهَامِ

*

وَالْحُبُّ أَضْحَى صَادِقاً مُتَمَكِّناً

وَالنِّيلُ يَأْتِي خَيْرُهُ لِكِرَامِ

*

وَالْهَجْرُ زَالَ بِظُلْمِهِ وَظَلاَمِهِ

وَالسَّعْدُ سَارَ عَلَى الطَّـرِيقِ أَمَـامِي

*

وَتَبَسَّمَ الْحُبُّ الْعَظِيمُ مُحَيِّيـاً

كَالنُّورِ يُجْلِي وَرْطَةَ الْإِظْلاَمِ

*

وَسَفِينَتِي تَرْسُـو عَلَى شَطِّ الْهَوَى

وَالْبَحْرُ يَمْحُو هَيْكَلَ الْأَسْقَامِ

*

والْغُصْنُ مَالَ بِخِفَّةٍ وَرَشَاقَـةٍ

وَالْحُبُّ زَلْزَلَ قَسْوَةَ الْأَيَّامِ

***

أَنْتِ الْحَبِيبَةُ يَا مَلاَكَ سَعَادَتِي

وَلَقَدْ ظَمِئْتُ لِثَغْرِكِ الْبَسَّامِ

*

وَيَدَاكِ سِحْرُ الْحُبِّ فِي لَمَسَاتِهَـا

وَحَنَانُكِ الْفَيَّاضُ رِيُّ أُوَامِي

*

وَالدِّفْءُ فِـي الصَّـدْرِ الْحَنُونِ بِضَمِّهِ

وَالْبَعْثُ مِنْكِ وَأَنْتِ بَدْرُ تَمَامِ

*

أَنْتِ الْحَيَاةُ رَبِيعُ عُمْرِي كُلِّهِ

قَـلْـبِي اصْـطَـلَـى بِـالشَّـوْقِ زَادَ غَرَامِـي

*

وَالْقَلْبُ عَاشَ حَيَاتَهُ فِي حُبِّهِ

وَتَبَغْدَدَ الْمَحْبُوبُ بِالْأَحْكَامِ

*

فَلْتُطْفِئي النَّارَ الَّتِي اتَّقَدَتْ بِهِ

يَكْفِي الْفُؤَادَ شَدِيدُ كُلِّ سِهَامِ

***

سَاعَاتُ لُقْيَاكِ الْجَمِيلَةُ نَشْوَتِي

فَالنُّورُ أَنْتِ وَزَوْرَقُ الْأَحْلاَمِ

*

وَحَدِيثُكِ الْعَذْبُ الْجَمِيلُ بِخَاطِرِي

مَعْزُوفَةٌ فِي عَالَمِ الْأَنْغَامِ

*

مَازَالَ حُبُّكِ – يَا حَيَاتِي- سَاكِناً

فِي الْقَلْبِ رَغْمَ تَقَادُمِ الْأَعْوَامِ

*

بِالْحُبِّ يَا (عَلْيَا) تَكُونُ هِدَايَتِي

وَبِشَمْسِ حُبِّكِ زَالَ كُلُّ قَتَامِي

*

مَا فَاتَ فَاتَ قَدِ انْقَضَى مِنْ عُمْرِنَا

لاَ تَشْغَلِي الْبَالَ الْخَلِيَّ بِعَـامِ

*

عَاهَدْتِنِي,لاَ تَنْقُضِي عَهَدَ الْهَوى

لاَ تَسْمَعِي الْأَقْوَالَ لِلُّوَّامِ

*

وَبِحُبِّنَا الشَّادِي تَوَثَّقَ عَهْدُنَا

لِنَعِيشَ دَوْماً فِي الْهَنَا بِوِئَامِ

***

يَا نَبْعَ حُبِّي لاَ يَكُونُ فِرَاقُنَا

فَبُعَادُنَا- لَيْلاَيَ- كَالْإِعْدَامِ

*

فَهَوَاكِ يَجْعَلُ زَهْرَ عُمْرِي غَالِياً

فَحَسِبْتُهُ وَالْحُبُّ كَانَ إِمَامِي

*

وَعَلَى الْفُؤَادِ وَضَعْتُ كَفِّي صَامِتاً

وَأَنَا أُوَدِّعُ قِبْلَتِي بِسَلاَمِ

وَتَأَوَّبَ الطَّيْفُ الْجَمِيلُ بِثَغْرِهِ

وَالْقَلْبُ مَشْغُولٌ بِكُلِّ هُيَامِ

*

غَنَّيْتُ لِلْحُبِّ الْوَفِيِّ عَشِقْتُهُ

يَسْقِي الْفُؤَادَ بِخَمْرِهِ الْبَسَّامِ

*

وَنَسِيتُ كُلَّ مَتَاعِبِي وَسَعَادَتِي

فِي الْقَلْبِ تَغْسِلُ نَوْبَةَ الْآلاَمِ

***

وَلَقَدْ ظَلَمْنَا الْحُبَّ فِي مِيلاَدِهِ

جَاءَتْ عَلَيْهِ مَقَالَةُ الظَّلاَّمِ

ضَاعَتْ مَحَبَّتُنَا بِعِنْدِ قُلُوبِنَا

وَالْآنَ لَمْ نَنْسَ الْهَوَى لِصِدَامِ

*

أَسَتَنْجَلِي آهاتُ حُزْنِي يَا (عُلاَ)

وَالْحُبُّ يُضْحِــي ثَابِتَ الْأَقْدَامِ؟!!

*

كُلُّ الْمُنَى أَنْ تُسْعِدِي قَلْبِي الْحَزِي

نَ بِنَظْرَةٍ يَا مَاءَ كُلِّ ضِرَامِ

*

اَلْحُبُّ سَوْفَ يَعِيشُ فِي ثُكُنَاتِنَا

وَيَزُولُ ظُلْمُ الْمِعْوَلِ الْهَدَّامِ

*

وَ الْحُبُّ آرَاءٌ لِكُلِّ تَفَاهُمٍ

وَ الْحُبُّ يُبْعِدُنَا عَنِ الْآثَامِ

*

وَ الْحُبُّ يَجْعَلُنَا نَهِيمُ بِفِكْرِنَا

فِي نَشْوَةِ الْعُشَّاقِ بِالْأَنْسَامِ

*

أَشْجَارُ..حُبِّي حَاوَلُوا تَحْطِيمَهَا

لَمْ يُفْلِحُوا وَتَحَوَّلُوا لِحُطَامِ

*

مَاذَا أَقُولُ وَسَعْدُ أَيَّامِي دَنَا

لِهَنَائِنَا بِزَوَالِ كُلِّ قَتَامِ؟!!

*

أَمَلُ الْحَيَاةِ مَصِيرُهُ لِتَحَقُّقٍ

وَالْحُبُّ  مُنْتَصِرٌ مَعَ الْإِقْدَامِ

***

شعر. أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

أيـن أرضـي أيـن بـيتي يـا بلادي؟!

أيـــن ابـنـي أيــن أمّــي وتــلادي؟!

*

أيــن مـن كـنت أراهـم مـلء عـيني

عـزوتـي فــي كــلّ حــالٍ وعـتـادي

*

سَـكَـب الـبـحرُ عَـلـينا جَـمْـر بــؤسٍ

حــطّ نــارا أَشـعَلَت فـي كـلّ نـادي

*

غَـــدَر الـبـحـر وغـطّـى كــلّ أهـلـي

وأنــــا حــيــرانُ بـــردانٌ وصـــادي

*

(دَرنَــةُ) الـحـسناء تَـنـعى يــا إلـهي

وجــهَ طِـفـلٍ بـثـياب الـعـلمِ بــادي

*

(درنَــةُ) الـحـسناء تَـنـعى يــا إلـهي

زوجةً حُبلى غدت في جوف وادي

*

وجـــــهَ أمٍّ نــاضــرٍ ضــــاء بــطُـهـرٍ

لـــطّــخ الــطــيـنُ ســـنــاهُ بــقـتـادِ

*

أغــنـيـاتٍ مــــزّق الــسـيـل هـنـاهـا

بــمـغـنٍّ؛ كــــان بــالأحـلامِ شـــادي

*

نــكـث الـبـحـرُ عـهـودا مــن ســلامٍ

كـــــان يـــرعــى؛ بــســخـاءٍ وودادِ

*

(لــيـبـيـا) هــــلّا تــشـدّيـن قــلـوبـاً

وتــقــيــمـيـنَ بــــنــــاءً بـــاتّــحــادِ

*

يـــا بــنـي الـمـختار لـبّـوا وتـنـادوا

يــا بــلادي لــك روحــي يـا بـلادي

***

صلاح بن راشد الغريبي

هَجمـــتْ بســرعةِ رفّـــــةِ الرمـــْشِ

ســـــودُ المصــائبِ هجمـةَ الوحــشِ

*

وقسَـــتْ علـــــيَّ لعلمِهــا سَلَفــــــاً

أنّـــــي وحيـــــدٌ وهْــــيَ في جيــشِ

*

فــــــرَحَ الحســــودُ بهــا وأبهجــــهُ

أنَّ المصائـــبَ كـدّرتْ عيشــــــــي

*

فكأنني فـــــــي حالتــــي ملـــــــكٌ

في لحظةٍ أمســى بـلا عـــــــــرْشِ

*

يـــا مَــنْ هواهـــا حاضــــرٌ أبـــداَ

متأصّـــلٌ فــي القلـــــبِ كالنقــــشِ

*

هذي جراحـــــاتي تسيـــــــلُ دمــاً

والجـرحُ يؤلــــمُ ليـــسَ كالخـــدشِ

*

أمشـــي وتخدعنــي الدروبُ ومـا

هــــدفٌ ســـواكِ لأجلــــهِ أمشــي

*

حتّـــى بلغـــتُ البحــــرَ أســـألــهُ

والبحـــــرُ بالأســــرارِ لا يُفشـــي

*

فرجعــتُ منــــهُ مُعاقــــراً حُلُمــي

مُتناسيــــاً مــا فيـــهِ مِــــنْ طيــشِ

*

حُلمـــــي بأنْ أحيـــــا بأجنحـــــةٍ

ويكـــونُ لــــي بيتٌ مــن القــــشِّ

*

وأرافـقُ الأطيــــارَ فــي سفـــــــرٍ

وأعــــــودُ ثانيـــةً إلــــى عشّــــي

*

يا منْ ُوهِــبتِ الحســن َ أجمعـــهُ

وحويتِ كلَّ السحْــرَ فــي الرمشِ

*

إنْ مــــرَّ نعْشــي مِــن أمــامكِ لا

تبكــــي وألقي الورْدَ فــي نعشــي

*

فالمــوتُ ميــلادي ومُنطلقــــــــي

فــــي عالــــمٍ خالٍ مــنِ الغـــــشِّ

*

وأنـا الذي عشَــــقَ الجمــالَ ولــمْ

يضعـــفْ أمــام الغــــدرِ والبطـشِ

***

جميل حسين الساعدي

.........................

* كتبت القصيدة في السادس عشر من ايلول للعام 2023

كلماتٌ

تدورُ رُحاها في رأسي

كطاحونةٍ أعياها إنتظارُ

ذلك الآتي بحبوبِ قَمحهِ

ولا يأتي

أدورُ بلا هُدى مغلوبةً على

أمري

طريقّي إليكَ مُعلّمٌ بفَتاتِ

الخبزْ

الذي أكلتهُ العصافيرُ

فما عَرِفتُ الى أينَ تتجهُ سواقي

روحي

سافرتُ بِكَ وأنتَ مسافرٌ

بِدمي

أحملُ بيدي إعترافاً

بفقدانّيَ الحكمةَ في إختيارِ

مواسِمي

لكنّهُ بصيصٌ منْ ذلكَ

الأملُ

بإفلاتِ بذرةٍ عن قانونِ

المطرِ

لتُنبِتَ شجرةً تطرحُ

الظِلال

على قارعةِ الإحتراقِ

قريباً من أسوارِكَ

أنتحّبُ مصلوبّةً

على خَطيّنِ متعامِدّينِ

من حُدودِ العذابْ

أرتكبُ مخاطرةَ الدورانِ

حولِكَ

سمحتُ لغيرِ المتوقّعِ

بالحدوثْ

ودرّتُ حولَ كوكبكَ بتوجّسِ

المُكتشِفِ

أغمرُ أصابِعي بزيتِ

الحياةِ

ونبضِ الجُنون

بينما ترددُ إستغاثتي

يضيعُ

في المسافةِ بينَ كلماتكَ

وعيني

وحينَ راوغتُ وجَعي

كذبتُ كثيراً على

الحياةْ

ففي المنطقةِ الرماديةِ بين النسيانِ

والتذكّر

تَفقدُ الأشياءُ

وجهتُها

وتستحيلُ الخطوةُ منفى

أُناغي مَقامَ صَباكَ

باحثةً عمّا تبقّى

مِني

متشظيّةٌ كفرحٍ سَقطَ

سهواً

مِنْ يدِ طفلةٍ يتيمةٍ

وانكسرْ

أنتظرُ إلقائكَ للنردِ

لأرى مَنْ سيفوزُ بلعبةِ

الحزنِ

أيها الطائرُ الغريبُ

ليتكَ أسقطتَ لي ريِشةَ

أملْ

كي أبقى باحثةً عن جناحكَ

ماتبقّى مِن عُمري .

***

بقلم: عالية محمد علي

..............................

* القصيدة الفائزة بالجائزة الأولى لقصيدة النثر في مهرجان همسة الدولي / مصر،  للعام / ٢٠١٧

من سكب الازرق الازوردي

في دمي

لأصبح من سلالة النبلاء

وأمطر القصائد

فيروزا

*

جيوش من الأزرق الملكي

تحتلني

وتجبرني على إعادة تلوين مدينتي

انا التي عشت دهرا

بين الأبيض والأسود

*

على حافة البكاء

أتوقف قليلا عن الكتابة

لأطيل النظر الى

الهوة الزرقاء

التي تغريني بالسقوط

داخل عينيك

*

لم يكن الموج يدرك

انه

يحمل سلالة دمك

الا حين أبحرت فيه

قصيدتي

*

لا أدري ان كان البحر

ام السماء

داخل عينيك

كل الذي اعرفه

اني أحيانا

أطير

واحيانا أغرق

*

تلك العيون التي

تسبح في دمي

تعيد النظام

الى نبضي

***

بقلم: وفاء كريم

عاد بيَ الحنين إلى مدرستي الإبتدائية العزيزة وإلى ساحتها المزهوّة بالأشجار والعصافير وصخب التّلاميذ وأوقات الرّاحة وفجأة وجدتني أمرّر يدي على خدّي الأيسر في ذكرى لم تمّحّ آثارها من خاطري.

كتت بالسّنة الثالثة ابتدائي وكنت الأولى في المرتبة دأبي منذ أول امتحان.

و كان معلّم الفرنسية صديقا لعائلة إحدى زميلاتي الميسورة ويسكن مجاناً جانبا من منزلهم الكبير لكونه أصيل منطقة قصر هلال.

كان ذلك المعلّم منزعجا من وجودي ومن نشاطي داخل القسم ومن أعدادي التي مكّنتني من نيل المرتبة الأولى في كلّ امتحان وقد تعمّد في كلّ مرّة أن ينقص أعدادي التي تخصّ الموادّ الفرنسية التي تعود له بالنظر. إلّا أنّ مدير المدرسة ومعلّم العربية كانا معجبَين بنتائجي وخاصّة المدير الذي كان يراقب عن كثب أحوال التّلاميذ النّجباء في مدرسته ولا يغفل عن استدعاء أوليائهم كلّما تراجعت أعدادهم أو تغيّبوا عن أقسامهم.

و لولا هذه العناية والرّقابة الجديّة للإدارة آنذاك لكنتُ أنا وعديد التّلاميذ ضحيّةالمحاباة والحَيف وتضخيم الأعداد للبعض وربّما كنّا انقطعنا عن الدّراسة لما يصيب التّلميذ من إحباط نتيجة مثل هذه الممارسات من معلّمه او أستاذه.

استعصى على ذلك المعلّم أن يؤخّر مرتبتي ويضع زميلتي ابنة صديقه تلك في المرتبة الأولى لجدّية المدير ويقضته

إلا أنّه ذات يوم اضطرّ لمغادرة القسم لبعض الوقت فترك تلك الزّميلة تحرسنا وأمرها أن تسجّل اسماء كلّ من يترك مكانه او يشوّش في غيابه.

قامت الزّميلة بمهمّتها ولمّا رجع أشارت له ببعض الأسماء فأنّبهم تأنيبا خفيفا ولم أكن من بينهم لأنّي لازمت مقعدي وهدوئي خوفا منه فقد بثّ في نفسي الرّعب.

و ما راعني إلّا أنّه أمرني بمغادرة طاولتي والإلتصاق بالجدار وزميلتي تقول له وتعيد : " لا سيدي زهرة خاطية ما شوّشتش !" لكنّه أمرني بوضع يديّ وراء ظهري وصفعني على خدّي الأيسر صفعة تورّم لها وجهي وخلّفت آثارا على عيني لعدّة أيام.

و في الغد قدم أبي إلى الإدارة واستدعى المدير المعلّم واستجوبه وكذلك زميلتي. لكنّها غيّرت أقوالها تحت ضغط والدها وشهدت ضدّي.

مازالت تلك الصّفعة تُحرق خدّي إلى الآن.

فهل يا ترى تذكّر ذلك المعلّم ولوْ مرّة واحدة ما فعلهُ بي....

***

زهرة الحواشي

من مجموعة: كُتّابُ أبي

للمرة الثالثة مذ انحازت بهيجة بعد طلاقها الى أختها خلال هذا الشهر وهي تحس أن يدا بليل تنزع عنها غطاءها ثم تتحسس ساقيها، تقفز بهيجة من مكانها ثم تستقيم جالسة والذعر يتلبسها، لاترى غيرشبح يمرق منسلا من الغرفة دون ان تتبين له وجها؟..

ليس في البيت غير أختها وزوج الأخت وابنهما الطالب الشاب الذي يتابع دراسته الجامعية في العاصمة والذي لا يزورالقرية الا في العطل والأعياد..

في الصباح وهي على مائدة الفطور تحاول بهيجة أن تسرق نظرات خاطفة لسحنات زوج أختها وابنه:

 أيهما قد كان الشبح الزائر؟..

 لا يسعف بهيجة نظر ولا تفكير، فالزوج رجل ستيني متدين، يعرف ربه، مارأته يوما يحاول أن يرفع اليها عينيه بسوء قصد، تعود النوم بعد صلاة العشاء،ولا يغادر سريره الا قبل الفجر بقليل، ثم لا يعود الى البيت الا حين تستدعيه زوجته للفطور بنداء من كوة صغيرة تطل على الكتاب الذي يعمل فيه الزوج كمدرر لابناء القرية الصغار لايفصله عن البيت غير حاجز من طوب.. الابن متخلق يستحي من خالته ويعزها لمواقفها الكثيرة في إصلاح ذات البين بين أمه وأبيه،ومن احترامه لها أن وجهه يصير كطمطمة حمراء حين تفتح معه حديثا..امتنع أن يشاركها غرفته بعد أن تنازل لها عنها رغم معارضة أمه مكتفيا بالمبيت تحت سقيفة البيت كلما حل بالقرية..

لم تكن بهيجة صاحية فتتوهم طيفا أو خيالا من التصورات قد تشغل انتباهها بل كانت نائمة غارقة في سبع نومة و لم تصح الا على لمسات يد حاولت أن تبلغ شيئا أو تحقق أمرا مبيتا..

أيكون الشوق الى زوجها وهي لا تدري هو ما يلاعب أحلامها مما يجعلها تستعيد لحظات كان الزوج لا يعود فيها من عمله الا بعد منتصف الليل فتصحو على يده وهي تتلمس فخديها او شفاهه وهي تطبع قبلة على خدها، يصر على أن تصحو لتجالسه قليلا..

كم تريد أن تبعد الزوج عن تخيلاتها حتى تقطع كل علاقة كانت تربطها به بعد أن ضحت وعانت وفي كل مرة يدعي الثوبة ثم يكرر الزلل..

تغلبها دموعها، فتحاول أن تمنع صرة الغيم قلب محاجر عيونها، من فتق، فهي من أصرت على الطلاق بعد أن استعظمت زلة سقط فيها الزوج حين لبى رغبة أحدى الجارات يتحدث الناس عن مرض خبيث قد أصابها، دعته ليغير لها حبابة فاسدة ثم ألحت على أن تهديه كاس قهوة لكن ما لبث أن طوقها بذراعيه وهو يودعها فلانت و تبادلا القبل... وكانت الخادمة بالمرصاد فصورتهما بهاتفها وأبلغت زوجته محذرة أن ينقل الى بهيجة عدوى الجارة..

لم تكن هذه هي الزلة الأولى لدى الزوج، فكثيرا ما وقع في زلات غيرها مع عاملات المعمل ومع غيرهن وكأنه يريد أن يختبر استمرار فحولته خاصة بعد فحوص وتحليلات طبية أكدت عجزه الكلي عن الانجاب..

ـ " لئيم، لا امنعه شيئا متى شاء وكيفما أراد، ولم أحرك رغبة في ضنى بحديث أو شكوى أو حتى بالتلميح قد يحسسه بالدونية لكن جرثومة الخيانة تينع في أعماقه بلا ذبول"

بهيجة أنثى في العقد الرابع من عمرها لا يخلو وجهها من مسحة جمال خصوصا حين تكون بكامل زينتها وبحكم أنها لم تلد فقد ظلت تحافظ على جمال قوامها وتناسق جسدها، لكنها كانت نقيض أختها، عفة نفس ورجاحة عقل،مقابل رذالة أختها وخسة نفسها وطيشها..

بعد العطلة الأسبوعية عاد ابن أختها الى جامعته لكن في الليلة الثانية لرحيله تستفيق بهيجة مفزوعة على نفس اليد تتحسس خصرها، حاولت أن تمسك بها لكن صاحب اليد كان أقوى منها واستطاع الانفلات من قبضتها، وقفت وشرعت تصيح، وعلى ضوء شمعة خافتة أضاءت غرفة أختها رات بهيجة من خلاله أن أختها وزوجها يهرعان معا من غرفتهما إثر صياحها..

لم تصدق عيونها، فاذا كانت أختها وزوجها وهي تراهما رؤية عين وهما خارجان معا من غرفتهما فمن يكون هذا المتسلل اليها بليل يحاول ان يتحسس جسدها؟..

ضاق بها التفكير، فذاكرتها العرضية تؤرقها،فهل حولها طليقها الى أرشيف من زلات تؤرقها حتى بعد طلاقها، لكن مايقع لها ليس تخيلا بل حقيقة يتصرف فاعلها عن قصد وإصرار..

 نصحها زوج أختها أن تقرأ آيات من القرآن الكريم قبل النوم، أما أختها فقد كانت نظراتها بين السخرية والارتياب؛ وكأنها تحاول أن توجه ظنون زوجها منحى آخر..

دخلت بهيجة في جلبابها بعد طلوع الشمس وخرجت الى فتيحة صديقتها التي تسكن نفس الدوار..كانت تريد أن تتنفس هواء غير هواء بيت أختها، أن تنشغل عن أحداث ليلها وتخفف من أثرما يؤرقها وقد غطى على كل هدوء تتميزبه بهيجة..

أدركت فتيحة أن بهيجة تعاني وأن إصرارها على الطلاق ربما كان تسرعا وخطأ،فالأخبار الواردة عن الزوج تقول أنه قد ارتبط بإحدى عاملات المعمل والتي كانت تربطه بها علاقة قديمة..

حقا بهيجة قد تعبت من السلوكات الوضيعة لزوجها، خيانة بعد أخرى، لكن أن يربط علاقة بأنثى قد تكون عدواها وبالا عليها فهذا ما لن تقبله..

 "ليس بالجنس وحده يحيا الانسان.. لو كنت أحرمه أو أرفض له رغبة لتحملت مسؤولية طلاقي.. أما وفضيحته مع أختي لازالت تؤرقني بالليل والنهار تحملت وتسترت عليه على حساب كرامتي وحالتي النفسية والعقلية حتى لا أشتت شمل أختي لو بلغ الخبرالى زوجها فقد بالغ في علاقات أخرى بلا خجل ولا حياء "..

الحديث يسرق المرأتين الى ساعة متأخرة من العشي، حيث تعود حماة فتيحة من عملها في بيت أحد سكان المدينة..

تحية وسلام، وخيوط الكلام تنسل من هنا وهناك فتقترح الحماة على بهيجة عملا كخادمة لوالد مشغلها السبعيني في مدينة كبيرة، توفيت زوجته وامتنع عن الزواج،وأبناؤه يبحثون له عن سيدة ثقة ترافقه وتقوم بأعبائه..

 تلقت بهيجة العرض بترحيب وفرحة بعناق حار لحماة صديقتها..

ثم عادت مهرولة الى بيت أختها وهي تحمل الخبر السار.

.أخيرا أتى الفرج وستغادر القرية بل تترك أختا ما لجأت اليها بعد طلاقها الا لتحميها من نفسها..

تقترب بهيجة من باب غرفة أختها فتتناهى اليها ضحكات ثم كلمات من نافذة صغيرة ذبحتها:

ـ اياك أن تعرفك فننفضح، حاول أن ترهبها ما استطعت..حظ من زفت ما ان تخلصت من الابن بدخوله الجامعة حتى فاجأتني الأخت بطلاقها..

تتداعى الصور على بهيجة، تهتز نفسها بقشعريرة وهي تستعيد لحظة ضبط أختها بين أحضان زوجها وعلى سريرنومها..

كانت بهيجة لا تفكر في زوج تعودت سلوكاته لكن تفكيرها كان في الرجل الطيب زوج أختها والذي لم تهدأ زوبعة الشك الذي انتابته في ابنه إثر خروج أختها اليومي بلا إذنه، وقد لعبت فيه بهيجة دورا كبيرا في تهدئة الأوضاع الى أن عادت أخت بهيجة الى بيتها، وكان الجزاء خيانة مع زوج بهيجة..

قبل أن تعود بهيجة أدراجها بكل هدوء، تعتلي على نتوء صخري  وتمد رأسها قليلا من النافذة الى الداخل لتجد أختها عارية تماما مع أخ زوجها الحارس لفرعية مدرسة ابتدائية تقع في الدوار..

انقبض صدرها بألم وقد غالبتها دموعها..

 أنثى لا تثوب، يحركها شيطان مارد بِشرٍّ وفجور تلك هي اختها منذ صغرها وهي لا تنتهي من زلة الا لتبدأ أخرى..

في العاشرة من عمرها أسلمت نفسها لراع في الدوار ففض بكارتها وحين بلغ الامر الى أمها اصابتها جلطة صدرية افقدتها الروح..

قبل زواجها بسنة حملت سفاحا من شيخ القرية الذي بادر الى اجهاضها في المدينة وهو من زوجها الى قريبه فقيه القرية..

لم تجد بهيجة غير بيت فتيحة تبيت فيه ثم تصاحب حماة فتيحة صباحا لمقابلة والد مشغلها..

ما أن رآها الرجل الذي يريد تشغيلها حتى اختلى بخادمة أبنه:

ـ السيدة لازالت شابة هل انت متأكدة من عفتها وأمانتها.. لا يخفى عليك أني أقيم في مدينة سياحية تغري،ولست مستعدا أن أجد نفسي قلب مشاكل،معرضا للقال والقيل..

طمأنته الحماة بان بهيجة امرأة درويشة ولا تبحث الاعن سترها في مكان ترتاح فيه،وتبتعد عن أختها ومشاكل أختها وهي الضامنة لها..

وجد الحاج في بهيجة أنثى تعيد اليه ما افتقده بعد موت زوجته، اهتمام به فاق الحد وعناية بكل ما يحافظ على حياته..ارتاح لأمانتها ونظافتها وصدق تعاملاتها..

تعود الحاج أن يخرج كل صباح ليمارس هواية المشي، لايغيب أكثر من ساعة ثم يعود الى بيته أو يجلس في أحد المقاهي الى أن يؤدي صلاة الظهر في المسجد ثم يعود الى بيته..

فتح الباب بمفتاح ثم دخل ليجد بهيجة وسط الدار تسبح في بركة من الدماء، ورائحة الغاز تخنق البيت !!..

من فعل بها هذا ؟ هل سقطت ؟ كيف ؟ بسرعة فتح النوافذ ثم استدعي الشرطة وبسرعة تم حمل الضحية الى المستشفى حيث تم انقادها..

بمجرد ما اطلع رجال الشرطة على تسجيلات الكاميرات الموجودة في بيت الحاج حتى تعرفوا على المجرم الذي لم يكن غيرعشيق أختها وأخ زوجها بايعاز من أختها حسدا وغيرة

والتي أرادت أن تنهي زلات حياتها بعشرين سنة سجنا مع عشيقها..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في مثلِ هذا اليومِ

قبلَ مواسمِ الفقدِ

*

كنَّا نحلقُ عاليًا

ونتيهُ في الخلدِ

*

نشدو لأيَّامٍ نديَّا

تٍ  من الوردِ

*

ونطوفُ في دنيا الـ

منى ومواسمِ الودِّ

*

لم ندرِ أنَّ الدهرَ يو

مًا يرتضي وأدي

*

وبأنَّ طيرًا صادحًا

سيؤولُ  في لحدِ

*

أسفي على زمنٍ غدا

حربًا على فردِ

*

أنَّى  لمثلي أنْ يعيـ

شَ مرارةَ الصّدِّ

*

يا منيتي عدْ لم أعدْ

أقوى على البُعدِ

*

أدري محالٌ نلتقي

والدمعُ لم يُجدِ

*

تتراكضُ الأيَّام مسـْ

رعةً  بلا ودِّ

*

علَّ الذي ترك الحيا

ةَ يعودُ في الوعدِ

*

فجرًا يدقُّ البابَ أوْ

في شهقةِ البردِ

*

نصحو ويأخذُنا النَّعا

سُ  نلوذُ بالعدِّ

*

ونعودُ مكسورينَ نشـ

كو  لوعةَ الفقدِ

*

نستذكرُ الماضي التليـْ

دَ و أدمعَ الوجدِ

*

نتذكرُ الولدَ الأنيـْ

قَ  الساحرَ القدِّ

*

مَن يوقفُ الذكرى إذا

ما أضرمت كبْدي

*

مَن يقنعُ المفجوعَ وال

مذبوحَ في الحدِّ

*

مَنْ يقنعُ الثكلى إذا

بالغتَ في البُعدِ

مَنْ يوقفُ النزفَ الذي

يجري مع المدِّ

*

لا شيءَ  يجبرُ خاطري

ويعيد لي رشدي

*

إلآ اللقاءُ يضمّنا

في جنة الخلدِ

***

د. جاسم الخالدي

استيقظ باكراً بعد ليلة دخل فيها إلى النوم بصعوبة حاملاً أحلام سعادته يترقب بلهفة شروق الشمس وحلول الصباح، حتى ذرّت الشمس خيوطها على نافذة الغرفة؛ أسرع بحماسة نحو الصالة مزاحماً أفراد الأسرة وهي تحزم مستلزمات الرحلة السياحية، يسبقهم في حشر ألعابه ومستلزماته الخاصة في صندوق السيارة. بينما تشق السيارة قلب الطبيعة خلف أرتال السيارات الهاربة من سجن المنازل إلى أحضان الطبيعة للتنزه والاستجمام، تباهج أنظارهم مشاكسات الغيوم لقرص الشمس، وتراقص الأشجار والأزهار وسط ألوان الطبيعة الخلابة. حالما أقاموا في الرَّبع تحت ظل شجرة صفصاف تغازل أغصانها الطويلة المتدلية مياه النهر، شرع الأب بترتيب مكان الاستراحة وموقد النار، بينما انطلق كنان متوقداً بالمرح يطارد ذكر فراشة تشابهت ألوانه مع ألوان الطاووس الذكر قبل اقترابه من عائلة تجاورهم بالموضع الذي نزلوا فيه حتى ارتطم بصبية تماثله العمر تشع من وجهها بشاشة ساحرة حدق بها طويلاً، ثم تبسما ابتسامة ودية اقتحمت بعمق فطرتيهما الغريزية، فهب معتدلاً التقط يديها الممتدة إليه ساعدها على النهوض وأسبل ثوبها الملتف حول نحرها، فأخذا ينفضان أيديهما من التراب العالق بهما ثم انطلقا يتعقبا الفراشة حتى وجدوه راكن على غصنٍ شجرة وملتحم بشعيرات أنثى فراشة. بينما كان الأب يحتطب من شجرة عظيمة الارتفاع وكثيفة الأغصان برفقة والد الصبية ليان شاهدا في جويف الشجرة طائر يكبر السنونو حجماً لكنه يتشابه معه بالألوان يجثم فوق بيضاته، اقتربا بخطوات وئيدة من العش، فهمس أحدهما بتعجب قائلاً:

- يبدو إنه طائر فريد! يضارع المارتليت في شعارات النبالة.

- السمام كغيره من الكائنات والظواهر الطبيعية الخاصة بالإنسانية والطفولة التي لم تسلم من تسخيرها لنزوات أنانية تنتهك جمال الطبيعة وتنسبها إلى دلالات تغير المعنى الذي وجدت من أجله.

- وما أنزله؟ أليس طائر دائم التحليق في السماء!؟

- لا يهبط السمام إلا حينما تناديه غريزة التكاثر والإنجاب؛ بدافع المحافظة على الذات والنوع واستمرار الحياة.

- حقاً؛ الجنس غريزة فطرت عليها أغلب الكائنات الحية من أجل استمرار الحياة والحفاظ على النوع، لا وسيلة للإمتاع فحسب.

- كل هذه المخلوقات الجميلة التي نراها في الطبيعة ما هي إلا خلاصة هذه العلاقة المقدسة بين الذكر والأنثى؛ وما غير ذلك يتنافى مع مقاصد وجودها.

عاد الأب بما جمع من حطب فحشره تحت ألسنة اللهب المتراقص مع  دخان الموقد، وأخذ يتسلى بتحريك هواء الموقد، يوقد لهب الجمر المكدس تحت وجوانب الإبريق، لا يبالي بالدخان الذي يغطي ملامح وجهه، مستمتع بفواحة عبير الهيل الممتزج برائحة الشاي، تناسلت نظراته بنظرات زوجته، وماجت الغرائز مداً وجزراً مع رشقات الابتسامة المكللة بالأنوثة الباذخة التي تطلقها وهي تهدهد صغيرها في المهد، ومع نسمات الهواء العابق بالربيع وتناثر الخيوط البرتقالية لأشعة الشمس التي تخترق أوراق الشجرة أخذ يفتل خواطره ويدونها على الورق ويتطلع إلى المنظر الفردوسي للسهول والجبال وهما مكتسيتان بالثوب الأخضر المرصع بشقائق النعمان الحمراء، أدام نظره إلى السماء يتابع حركة غيوم داكنة تمضي بجموح مسرعة نحو قرص الشمس، فأسترسل بالكلام مع زوجته؛ الربيع عروس الفصول؛ إنه موسوم التزاوج؛ سيولد الجمال، ومع تقعقع صوت السماء؛ تراقصا الصبية فرحاً على أنغام موسيقى المطر، وتهللت وجوه الجميع بالبهجة وهم يشهدون ولادة القوس قزح.

***

صفاء الصالحي

وقصص أخرى قصيرة جدّا

أشرس المعارك

ما إن جلس على كرسيّه الدوّار وأخذ يمرّر بصره على الوثائق التي سلّمته نسخة منها حتّى بدأ جسده ينكمش على نحو سريع ويكسوه شعر كثيف.. كشّر عن أنيابه وهرّ ونبح كثيرا..

ولم يكن لي من سلاح غير قلمي أشهره في وجهه. بيد أنّ نباحه اشتدّ أكثر من ذي قبل، ثم لم ألبث أن سمعت نباحا آخر يأتيني من كلّ مكان..

***

النّبوءة

جلس العمّ سام إلى طاولته الفخمة وشرع يأكل من طبق لحم مُرّ المذاق..

قال خادمه: "مولاي هذا آخر ما تبقّى من ابنك (هيستيا) فهل أذبح (هيرا) كما اتّفقنا؟"

وافق بإشارة من رأسه فخرج الخادم.. فجأة أخذته رعدة بكاء حارّ وهو يتذكّر قول العرّافة: "يولد من صلبك من يقتلك!"

قائل: "لم يدر أنّ منيّه سقط منه في البحر واختلط بالماء الأجاج حيث بدأ يتخلّق (أورانوس).."

***

الحرب القادمة

لم تكن الحرب متكافئة على الإطلاق ومع ذلك كنّا نشعر كلّ لحظة بأنّ الدّائرة على قوّاتنا.. لم تنفعنا المدافع ولا الطّائرات أمام تلك المخلوقات الغريبة.. كانوا رجالا عراة أقوياء الأبدان، يركبون الغيم وفي أيديهم رماح رفيعة. ينسلون كما ينسل الهواء. فجأة يظهرون وفجأة يختفون..

لاحظ بعضنا أنّ تلك المخلوقات كانت تقاتل في انتقائيّة شديدة. تستثني الرّعاع والبسطاء وتشدّ على أصحاب الكروش الكبيرة..

***

نيــد*

كنت وحيدا في عرض الشّهباء والسّماء فوقي مكتملة البدر حين رأيته. كان على هيئة رجل مذبوح من العنق تتّسخ أسماله بدماء كثيرة.. اقترب منّي.. شخر.. لم أبد أيّ ردٍّ للفعل.. احتطبتُ حطبا ففعل مثلي.. أشعلت نارا وجهّزت فطيرة دفنتها تحت الجمر.. قاسمته إيّاها.. تظاهر بمضغها مقلّدا حركاتي وسكناتي.. شخر مجدّدا.. قلت في هدوء: "لماذا لا تظهر إلى قاتلك؟"

تبخّر ولم أره بعد ذلك..

***

حسن سالمي

......................

* نيد: شبح

عندما كان وحيداً يتأملْ

بحكاياتِ دروبٍ عَشِقَتْها مقلتاهْ

كانَ يَجْهَلْ

كَيْفَ تاهتْ قدماهْ

في دروبٍ غيَّرَتْ مَسْرى خطاهْ

كَيْفَ صارَتْ بهِ تنأى

من متاهٍ لمتاهْ

تتهكّمْ

كلما كانت تراهْ

وهو لايمكنه أن يتحكّمْ

بدروب سالكةْ

فالمتاهات بهِ كانتْ تسيرْ

في دروبٍ حالِكةْ

تتلاقى

في الأخيرْ

عِنْدَ بحرٍ  دون مرفأْ

ما المصيرْ ..؟

وإلى أين المسيرْ ..؟

لم يكن يدري

ولا يمكنه أن يتنبأ

*

مرّتْ الأيّامُ تجري

وَهْوَ يسألْ

ظلَّ يسألْ

ظلَّ يسألْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن

حَنّت بضلعي نياط القلبِ من ألمِ

تبكي مراكشَ أبناءً لها بدمِ

*

في عتمة الليل والأطفال نائمةٌ

والأمّ تُهدي بنيها قُبلةَ الحُلُمِ

*

والشيخ يتلو بآياتٍ وأدعيةٍ

بقريةٍ حفّها الرحمن بالنّعمِ

*

والبعض في فرحٍ جذلانُ قد صدحت

قلوبُ أحبابهِ بالطبلِ والنّغمِ

*

أبكي عليها دما والقلب محرقةٌ

فأين بهجتها قيثارةُ الأممِ؟!

*

يا للبديع وقد خطّت حضارتُها

عليه رسما من الآياتِ والحِكمِ

*

ويا لجامعها قد زان ساحتَها

ما كان إلا نداء غير مُنكتمِ

*

أتظلمُ الأرضُ أحبابا لها رسموا

في كلّ ناحيةٍ صرحا من القيّمِ

*

إن هُزّت الأرضُ أو ساخت منازلهم

فقد أبان بنوها ذروة الهِممِ

*

وأينعَت في رحاب المجد أفئدةٌ

بالبذلِ تُعطي دروس العزمِ والكَرمِ

*

لله درّهمو من أمّةٍ صدقت

إيمانُها نَضِرٌ في كلّ مُحتَدمِ

***

صلاح بن راشد الغريبي

ها قد التقينا في محطة الجرح يا وطني..

الحزن يغمر القلوب.. الوجع يعصر الافئدة

سياط الطين تجلد الاجساد..

لا فرق هنا بين رضيع يصرخ..

عجوز عاجز.. مقعد لا حول له..

الكل  يستجدي السماء..

العيون تبكي الليلة الليلاء

حين اهتزت الارض..

توقفت عقارب الساعة عند الفاجعة..

واحتضن التراب الاجساد والاهات..

النداءات والنواح.. الانين والحنين..

الكتب تلوكها الصخور..

الثياب تعلكها الرياح

وسوط المسافات يدمي القلوب..

انياب الوقت تمضغ الامل..

الانتظار يفرك جباها بالوحل مجبولة..

قرى الحوز في الرمس مدفونة..

والقلوب.. كل القلوب نحو الله تضرع..

الذكريات من تحت الانقاض تحكي

وحش الزلزال ذي الانياب خلفها يركض

بلون الدمار  يلاحق الشيب والشباب

لا يستثني الجدران والصخور والصور المرصوصة

لا يستثني الدمى.. قصص الاطفال والسبورة

من ممشى الى ممشى.. من مدرسة الى مستوصف..

ساهمس في اذن الريح..

لعلها تحمل الرسالة الى ابناء يوسف ابن تاشفين..

احفاد المرابطين..

سلالة السعديين والموحدين :

إن دماء ابن تومرت تسري في الشرايين..

حبل ود وتعاضدد ممتد

عبر ربوع الوطن الحزين..

رافعة الاذان فوق الصوامع

وسوس العالمة شاهدة:

حي على الجهاد.. من اجل البلاد والعباد..

المغرب مازال وسيظل صامدا

في وجه الزلزال والاعصار..

بعون الله وسواعد اسوده

سينبعث  من عمق الدمار اقوى.. .

فالمحن تكشف معدن الشعوب الاصيلة..

***

مالكة حبرشيد - المغرب

مُدّي.. إلى بَوحِ اللَّيالي سِرَّنا

لِيَظَلَّ ما نُخفِيهِ ما بينَ الشُّهُبْ

*

مُدّي.. إلى سِربِ الغُيومِ كَلامَنا

لِيَكونَ بَوحُ الحُبِّ في طَيِّ السُّحُبْ

*

مُدّي.. إلى سَفَرِ الغَرامِ قِطارَنا

لِيَجيءَ بِالأحلامِ مِن غيرِ سَببْ

*

مُدّي.. إلى عَبَقِ الزّهورِ هُمومَنا

لِيَفوحَ عِطرُ الحُبِّ مِن عُمقِ الغَضَبْ

*

مُدّي.. إلى مَطَرِ الحَنينِ شُموسَنا

تَروي مِنَ الأشواقِ جَمراتِ اللّهبْ

*

مُدّي.. إلى سَهَرِ النّجومِ غَرامَنا

لِيَطيرَ نحوَ النّورِ يُدرِكُ ما طَلَبْ...

*

مُدّي المَحَبّةَ دربَ نورٍ بَينَنا

تُحيي المُنى وَتَصُدُّ عَن قَلبي التَّعبْ

*

داوي القصيدَةَ بالوِصالِ وَأَسعِفي

عُمرَ الهَوى مِن مَدِّ طوفانِ العَتَبْ

*

مُدّي غَرامَكِ لِلغَرامِ يَشُدُّنا

إنّا بِغَيرِ الحُبِّ أجسامٌ خَشَبْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

تحت الركام

انين ارواح

فاجعة الحوز

*

جبال الاطلس

تبكي مع الهضاب والتلال

ضحايا غدر الطبيعة

*

تحت الانقاض

رضيع وشيخ وامرأة

شظايا وجثث

*

صرخات ثم صمت رهيب

بكى النهر

حتى انجرفت ضفتيه

*

في الساعة23.11

غضبت الارض

وقعت الواقعة

*

دون سابق انذار

اهتزت الاجواء

منازل مهدمة

*

مشردين

دون سكن

المقابر هي المأوى

*

قرى معلقة على التلال

تقف على اعممدة الغبار

سلالات منقرضة

*

ملك الموت

يضع زهرة ذابلة

على قبورالارواح المنسية

*

قتلى وجرحى

يا هول الزلازل

غضب الطبيعة

*

قماط رضيع

اسمال ملقاة في الوحل

كل شيء ضاع

*

غرباء في وطنهم

مستضعفين

ارواح حزينة

*

يعيشون حياة

ممزوجة برائحة الموت

عزاء الغرباء

*

في جوف الارض

آهات وأوجاع

ليلة مشؤومة

*

وينحتون من الجبال

بيوتا من القش والقصب والطين

ركام فوق الرؤوس

*

الارض خالية الآن

فوق كتفيه

الموت يحمل نعوش الشهداء

*

مآذن مبتورة

منابرعالقة تحت الانقاض

صلاة الغائب

***

بن يونس ماجن

إذْمَــا تــغيَّبَ فــي الأنــامِ الــعقلُ

وإذا  الــنــعاجُ يــقودهنَّ الــوَعْلُ

*

أســفي عــلى مَــنْ يَتْبَعونَ بهائماً

بِــعَــفِيطِها يَــتَــضَجَّرُ الإســطبلُ

*

وعَــجِبْتُ مِــمَّنْ يــدَّعونَ عروبةً

وحــقــيقةٌ  هُـــمْ لــلأعاجمِ نَــعْلُ

*

لا يــمــلكونَ مــن الــعروبةِ ذرةً

لا شــيــمةٌ قــد أَثــبَتَتْ أو أَصْــلُ

*

ولو ادعوا زوراً وأبدوا حِرْصَهُمِ

الــقولُ  يَــدْحَضُ كِــذْبَهُمْ والفِعْلُ

*

يَــتَــفَاخرونَ  بــكلِّ عِــلْجٍ حــاقدٍ

و  بــخالهِ كــمْ قــد تــباهى البَغلُ

*

هُـــمْ  مُــعْجبونَ بــقربةٍ مــثقوبةٍ

ولــطــالما بــهــرَ الــتوافِهَ طــبلُ

*

قــد غُــيّبوا والــفكرُ باتَ محنطاً

(الـكـيفُ) يـَـشغَلُ بَــالَهُمْ والأكــلُ

*

خانوا العروبةَ واستباحوا أرضها

الــحِقْدُ بــاتَ مــسيطراً والــجهلُ

*

إنّــي أرى الــعربيّ حــرّاً شامخاً

لا  تــابــعــاً أو لــلــعــدى يــنــذلُّ

*

مــجدُ الــعروبةِ في الحقيقةِ خالدٌ

مــاضــرَّهُ لــو قــد أســاءَ الــهُبْلُ

*

عــبــد الناصر عــليوي الــعبيدي

بَريدُ الدَهْرِ منْ بَلدي أتانا

رَسائلهُ تُحرّرُها رؤانا

*

سَفينةُ خَلقها مَخَرتْ عِباباً

مُباركةً مُجدّدةً كِيانا

*

بلادُ الكوْنِ مِنْ ماءٍ تَنامَتْ

ومِنْ طينٍ لصانِعهِ اسْتكانا

*

رؤوسٌ عَنْ أيادٍ ما اسْتعاضَتْ

تُعالجُ مِحْنةً وَرَدَتْ مَكانا

*

بها دُررٌ مِنَ الألواحِ دامَتْ

تُحدّثنا بما فَعَلتْ قِوانا

*

سَلامٌ يا فؤادَ الروحِ مِنّا

نُحَمِلهُ التَحايا والأمانا

*

فهلْ سَرقَ التليدَ بها غَريبٌ

وهلْ تاهَتْ برَمْضاءٍ خُطانا

*

وحبلُ الوصلِ مقطوعٌ بحَيفٍ

كأنّ وجودَنا حُلمٌ تَفانى

*

وما خُلِقتْ حَضاراتٌ ومَجْدٌ

وأيّامٌ بها زمَنٌ رَعانا

*

إليها يا رُبى الأمْجاد إنّا

سَنُعليَ صَرْحَها عَلماً مُصانا

*

بفَجْرٍ عاشَ للتأريخِ نبْضاً

تَيقّظَ كلنا وغَفى سِوانا

*

أصيلٌ مِنْ بديعاتِ المَعاني

يُسطّرُ خالداً وبَنى عُلانا

*

عُبَيْدٌ قَبْلها إنّا سُرِرْنا

بأمّ السامِقاتِ على رُبانا

*

مَعالِمُها بها الدُنيا تَباهَتْ

برَوْعَتِها إذا بَرَزتْ تَرانا

*

تُحَدّثنا مَواطِنُها بفَخْرٍ

وتَمْنَحُنا مِنَ العلياءِ شانا

*

بها قومٌ تَسامَتْ في سَماءٍ

وأطعَمَها التَعزّزُ افْتِتانا

*

تَباريحٌ إذا وفدَتْ تلاحَتْ

وعانَتْ في مَرابعِها امْتهانا

*

ألا رَفضَتْ عيونُ المَجْدِ غَمْضاً

تُحدّقُ عاليا لترى العَنانا

*

عراقٌ قائدُ الدُنيا لنورٍ

بقانونٍ ومَدرسةٍ حَدانا

*

وتَدْوينٍ يُسطّرُ ما فَعلنا

فيمْنحُنا التعلمُ مُهْتدانا

*

على طرُقٍ إلى العلياءِ سِرْنا

وإنّ بَعيدَها مِنّا تَدانى

*

إذا اعْتصَمَتْ قلوبُ القومِ فيها

بحَبلِ الوَصْلِ أبْهَرتِ الزَمانا

*

بلادُ العُربِ يا وطنَ انْبثاقٍ

وإنْسانٍ يُبادلها امْتنانا

*

ظلالٌ في كهوفِ الصَمْتِ شادَتْ

عَوالمَ رؤيةٍ دَحَضَتْ مُدانا

*

بَلغنا ذروةَ الأكوانِ عِلماً

بأبْراجٍ تباركُ إقترانا

*

على قِمَمٍ من الإشراقِ كنا

بأرْواحٍ تُساقيها دِمانا

*

وطفنا قرب مَحفوفٍ بإلاّ

بُراقُ وجودِنا أبْدى سِمانا

*

ودُمْنا فوقَ إشراقٍ تَسامى

بإيمانٍ يُبادلنا ضمانا

*

فخُذْ رُسلاً رسائلهمْ وصايا

إلى أبَدٍ وما بَصَرَتْ أوانا

*

تِلالُ مَسيرةٍ فيها كنوزٌ

تَلائدُ نَهْضَةٍ سَبَقتْ صِوانا

***

د. صادق السامرائي

العرض كان مغريًا جدًا، فلم أستطع الرفض، وقد انهار كل شيء من حولي فجأة إثر سقوط نظام من تبعات كيان عظيم خفقت أعلامه على مدى عقود في أصقاع الأرض، وقد كنتُ من أحد حماته المتخفين عن العيون أغلب الوقت.

هكذا وجدتُ نفسي في بلد ما كنتُ أسمع به إلا نادرًا، وعلى نحو سريع، فهو من البلاد التي لا تقع على خط اي اهتمام أمني، وبالتأكيد لم أتوقع أنه سوف يكون ذات يوم مأوى هزيمتي، من بعد شتات في سوق الأسلحة المهرّبة من ثروات بلدي نحو كل صوب من العالم الجديد، وأني سوف أصير من ضمن الأملاك المتَنقلة بيَد من تكون له سطوة الدفع أكثر، بل خالجني الأحساس أول فترة المكوث في البلاد الغريبة أني أستُقدمتُ مثل الكثير من الراقصات والفرق الاستعراضية التي أخذت تنثر فنونها في مرامِ الشهوات المستثارة والمزدادة تدفقًا من حطام الأحلام المتهاوية، وألقاني عصفها إلى خدمة سيادة الرئيس هنا.

كنتُ من أبرز رجال الأمن في عهده الجديد، والذين شغلوا مناصب القادة العسكريين ممن ساندوه في الانقلاب على الرئيس السابق للبلاد، مع ذلك لم ألتقه إلا مرات قليلة، لأن عملي كان ينصب بالدرجة الأساس على ترصُد حركات المعارضة في الخارج، وكتابة التقارير عنهم، ثم إرسالها إلى مكتب أحد مساعديه المخلصين، والذين يُستَبدلون كل فترة بدورهم، وأيضًا إعداد خطط الاغتيال إن جاء الأمر بذلك، ولذا توَجبَ عليَ السفر أكثر الوقت بين البلدان التي تأوي مثل هؤلاء، أو تلك التي يتنقلون بينها لغرض تلقي الدعم من هذا الطرف أو ذاك، وفي بعض الأحيان كنتُ أشارك بنفسي في تنفيذ مثل تلك العمليات التي أحرص أن تكون شديد الإحكام، والقادرة على بعث الخوف في نفوس أعداء النظام.

كانت مهنة سهلة بالنسبة لي، ومثيرة في ذات الوقت، لأني تحديتُ من خلالها كل ما تراكم فوق صدري من وهَن وكسَل إثر تجريدي تلك الوضيفة الأمنية المرموقة وشديدة السرية في بلادي، وفي النهاية الجميع غرباء عني، فلأكن زناد من يملك ثمن الرصاص، أما مسدس السلطة فهو ذاته في كل نظام وعهد، مهما اختلفت التفاصيل، وإن كنتُ قد فقدتُ الحماس القديم المتشبع بكل ما وعيتُ عليه منذ كنت صغيرًا، فلم يعُد هناك وطن أحارب لأجله أو أموت في سبيله بلا تردد، وقد تم الاتفاق على مبلغ من المال أتسَلمه بعد كل عملية اغتيال ناجحة، بالإضافة إلى الراتب الكبير والامتيازات المادية التي تضَمَنها عقد توظيفي منذ البداية، ولأني لم أفشل في أية واحدة فقد تم نقلي إلى دائرة أمنية تابعة للقصر الجمهوري، كل من يعملون فيها من الأجانب، عدا بعض الموظفين الصغار، كانوا من مواطني البلد، جلَهم أولاد وأقارب المسؤولين المرتبط بقائهم بحاكم البلاد، وكذلك منفذي عمليات الاعتقال والمشرفين على شتى أساليب التعذيب، فالمواطن عادةً لا يرهبه إلا ابن بلده، وهو الأعرف بكيفية إذلاله وإجباره على الاعتراف بما فعل وما لم يفعل، وكذلك الوشاية بالآخرين، حتى لو كان أولئك الآخرون ممن لم يلتقِهم يومًا، وقد أُعِدت أسماؤهم ضمن قوائم من يفَضَل التخلص منهم، ولأسباب قد تخضع لتصفية حسابات شخصية للرجال البارزين في الدولة، تحت مسَمى (الامتيازات الثورية) فكل صاحب منصب رفيع من حقه التخلص ممن يريد، وإن كان رفيق دراسة أو صديق قديم تعارك معه في يوم من الأيام لأي شأن من شؤون الصبية التي لا تلبث أن تتهاوى عن الذاكرة سريعًا.

نظام معقد، بما تسيطر عليه من شخصيات، كان لا بد لي من محاولة دراستها قدر المستطاع، ودون أن أثير الريبة في أني قد أفعل ذلك من أجل توجهات شخصية، ربما تكون مدفوعة الثمن من جهة خارجية، خاصة وأن الكفاءة في مثل هذه البلاد قد تصير مصدر خوف أكثر مما هي مبعَث امتنان، لذلك كان لا بد من المحافظة على مسافة، حدودها غير ملموسة، بين نوازع شتى تتحكم بقيادة البلاد أكثر من أي قرار معلَن أو خطاب حماسي يثير صخب الهتافات في الساحات العامة، تلك التي رحتُ أتجول فيها كسائح يحب التقاط الكثير من الصور هنا وهناك، خاصة في الزوايا والأركان التي قد لا تثير الانتباه عادةً.

كانت تأخذني السخرية من كثير من القضايا التي كنتُ أكَلَف بمتابعتها، رغم اجتهادي في تحَري كل تفاصيلها حتى النهاية، خاصة تلك التي تتعلق بمجموعة من الشباب الذين يجتمعون وتأخذهم الثرثرة للتكلم عن الديمقراطية وحق انتخاب الحاكم بكل حرية، دون تهديد بأبسط مقومات الحياة…

كل ذلك في النهاية مجرد لغو لا يستحق الاهتمام، على العكس تمامًا، مثل تلك التجمعات قد تكون أفضل وسيلة لامتصاص نقمة الشعوب المقهورة، كي لا ينفجر البركان ذات يوم، ومثل هذه البراكين قد تخبو سريعًا، وقد تلتهب حمَمها إذا ما حان وقت التغيير، بنفحات خارجية على الأغلب.

عرفتُ بعد ذلك بموت عدد من أولئك الشباب تحت وطأة التعذيب، وفي ذات الوقت تضاعفت الامتيازات المالية، وهذا هو الأهم بالنسبة لي بالتأكيد، ومن حسن الحظ أن مثل هذه القضايا لا تنتهي أبدًا، وإلا كان ذلك مدعاة قلق من قبَل القيادات العليا، بالإضافة إلى التنظيمات التي كانت تمثل خطرًا حقيقيًا لا بد من التصدي له، مع شيء من التهويل كي تتراكم أموال أكثر في حسابي المصرفي في الخارج الذي رحتُ أتوق للانطلاق نحوه بعد الانعتاق من أسر الوظيفة التي راحت تضغط على أعصابي بصورة متزايدة مع تتابع السنوات في خدمة نظام تقليدي جدًا، مهما اصطنع من تجديد في اتخاذ التدابير الأمنية الصارمة، المهم أن يكون هذا بعد تأمين نفسي تمامًا، ولا أنكر أني في سبيل هذا الهدف لجأت إلى تقاضي الرشى وكتابة التقارير عن زملاء العمل من مختلف الجنسيات، ولا بد أن الآخرين فعلوا ذات الأمر معي، لكن يبدو أني كنت الأكثر براعة في دَس المكائد للكفاءات المستوردة، حتى صرت سبيل البعض للإيقاع بالبعض الآخر من القيادات المرموقة في الدولة التي كانت تبدو لي مثل بيوت الرمال، كان لا بد لي من إسنادها بأقصى ما يمكنني، فالمسألة  لا تعدو أكثر من استثمار ما تبقى لي من جهد وقدرة على المواصلة بأفضل نحو ممكن، ولم أجد في نهاية المطاف سبيلًا للنجاة بحياة المليونيرات التي كنتُ أحقد عليها فيما مضى غير اغتنام الفرصة قبل فوات الأوان.

واتتني على دفعات من التصفية التي لا بد منها في كل نظام دكتاتوري، خاصةً لمّا  قرر حاكم البلاد، الذي ظللتُ لا ألتقيه كثيرًا، التخلص من وجبة من أبرز مناصريه، خشية الإعداد لانقلاب ضده مستقبلًا، فقد كنتً أقوم بالإشراف الكامل على خطة التخلص من الرفاق القدامى، ليس هذا فحسب، بل ربط ذلك بجهة خارجية كان يريد الرئيس مجابهتها منذ زمن لأسباب عدة لا شأن لي بتحليلها ما دامت لا تعني مخططاتي بشيء، وقد عقدتُ من أجل ذلك الكثير من الاتفاقات والتحالفات مع أطراف خفية كي أقوم بمهمتي وفق إرادة سيادته على أتم وجه، ولمّا تم تنفيذ المخطط المعَد بعناية شديدة كانت مكافأتي الاستيلاء على كل ثرواتهم المصادَرة، كعطية من عطايا القائد المنتصر دومًا لأحد مساعديه الأوفياء، ولعله أراد فعل ذلك نكايةً بثوار الماضي الذين جعلهم عبرةً لمن تخطر على باله فكرة معاداته أو الغدر به مستقبلًا.

قررتُ الاعتزال أخيرًا، الخروج من الدائرة التي ظللت أدور داخلها منذ ريعان الشباب حتى تلبستني بالكامل، وقد عشتُ أكثر من حياة، كلٍ منها ضمن شعارات مختلفة عن الأخرى، وحسب إيقاع كل عصر، خاصة بعد أن تحقق لي أكثر مما كنتُ أتمنى، إلا أني لم أحسب حساب الهاجس الأمني لدى نظام يخشى من يعرف الكثير من أسراره أكثر من أي شخصٍ آخر.

تكررتْ محاولات الاغتيال، كل محاولة صرتُ أكاد أعرف بصمات مخططها، وكذلك جنسية المنفِذ غالبًا، أو على الأقل إن كان من أبناء البلد الذين أشرفتُ على تدريبهم في فترة من الفترات، أم من القتلة المأجورين الذين يُستعان بهم في المهمات الصعبة وغاية السرية، دون أن يعرفوا شيئًا عن الجهة الداعمة للعملية، وكوني رجل أمن قديم وشارك في خدمة أكثر من نظام، وفي أكثر من حقبة زمنية، فلم تكن مهمة اغتيالي بالسهلة أبدًا، الأمر الذي جعلني كثير التنقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة نحو أخرى، حتى كدتُ أيأس من قدرتي على الاستمرار في حياة الترحال طويلًا، إلا أن عناد ما وُطدتُ عليه عمرًا كان أكبر من كل تحدٍ يواجه شعور العجز الذي أخذ يستبد بي وأنا على مشارف العقد السابع.

لم يستلب آخر أنفاسي كما ظنتتُ، فقد بدأت تتردد هتافات تغيير جديد، وبدوري صرتُ من أكثر مناصريه، ولو عن بعد، وهو يهلل بتباشير عهدٍ آخر يخفق برايات الثوار التوّاقين إلى الحرية، ولمّا تم استدعائي مرةً أخرى، بعد سطوع وهج الأحلام المباركة، كي أعاود الخطى إلى ذات البلد لم أستغرب، فأنا ومن مثلي عماد كل سلطة، مهمتنا دومًا الحفاظ على نظام كل وليمة تعيد توزيع المناصب والمزايا والنفوذ كل حين، كما أني لم أتردد في الموافقة، لأني في النهاية تأكدت أن الأمان الحقيقي للذين عاشوا مثل حياتي لا يتحقق إلا داخل قلعة أمنية أكون ممن أشرفوا على تصميمها ووضع كافة تفاصيلها المترصدة كل خطر من قبل أن يلوح في الأفق.

***

قصة: أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي

5 ـ 9 ـ 2023

قُلتُ يَومًا للذي لَوّعَني داخَل صَدري:

دَعْ شَفاعاتِ الغوايةْ

دَعْ مِنَ اللّوعَةِ روحي والضَّياعْ

دَعْك من قولِ النساءِ

والوَميضِ الغضِّ

ما خبَّئن سرًا

تحت ياقوتِ صَداريهُنَّ يومًا

من ينابيع الكلام

دعك منّي

فَلِماذا...؟؟

كُلّما رَفَّ جَناحٌ

رفرفت روحك بالبهجة وامتد حبورك

ولِماذا لا تَدعْني أهدأ الليلَ

لماذا لا تَدعني

...

...

لم يَعِد للقَلبِ قلبٌ

وانا أعرِفُ رُؤياكَ

وأدري بالعَناوين التي غَيّرتَ فيها

شَهقةَ الشوقِ وأجْفَلتَ الهَديل

...

...

وتَأنّى فائِضُ الحُبِّ..

تأنّى وامْتَثَلْ

وعلى نافِذةِ الشّوقِ تَمَلّى بِهدوءٍ..

اسْتَرقَّ السّمعَ

فاخضَرَّ المَساءُ

بأناةٍ..

كَتَمَ اللّوعَةَ بالصّمتِ

وغادر

...

...

وتداعى صمت صوتي

وتداعى

غَسَقًا كان هَسيسُ الشوقِ يَعلو

والندى كان مُغطى بِغِلالاتِ الصّدى

حافِيًا يَمسحُ عَن أذيالِ ثوبي

لَوعةَ الصمتِ الجَّسورةْ

وانا استِرُ خُطوي

بمياهٍ لَعثمَتها عُشبةُ الفيضِ الأخير

عَلّني مِن وَطأةِ الحَيرَةِ اّخْضَّرُ جَلِيًّا

في عَناقيدِ الحُضورِ

...

...

آه كَمْ رِضْتَ لِأسبابِ الغوايَةِ

فلتَدْعني أهدأُ الليلةَ

واهدأْ

**

02

لم يَكُنْ قَلبي ـ وَقاكَ اللهُ شرًا ـ

غَيرَ شَرٍّ

حَيثُ لا يَعْرِفُ إِلَّا اَلْحُبَّ أَمْرًا

فبَكيتُ!!

حَيْثُ لَا يَنْفَعُ نُصْحِي

وَلَانَ القَلبُ لَا يَفْتَأُ أَنْ يَأْخُذَ دَومًا

قَلبَهُ المِسْكينَ مِنْ شَرٍّ لِشَرٍّ

***

طارق الحلفي

اسلبهم الجنة

واتفرد بنصف حقيقة

وسؤال..

يضعني رأسي خارج الصندوق

وقدماي بالكاد تطأ ارضهم..

لكني صرت اتفرد بنصف حقيقة

وألف سؤال..

نصف شبر بيني وبين الموت..

ونصف شبر بيني وبين الحياة..

نصف شبر ايضا بيني وبين الاله..

لم يكن في نيتي ان ابتعد حين

كنت اطارد الكتب

القديمة

في اروقة الزمن الغابر

وابحث فيها عن رؤاي..

لم اكن انا حين كنت ألمع

تماثيل الملح

حتى سالت بين يدي ..

ولم اكن انا حين تخلفت عني

الشمس..

صرت انا حين..

اخذت قطعة من الليل

لاسكن فيها

مع ذاتي..

ولم يكن في نيتي

ان ابتعد ..

اعدت ترتيب دهشتي

حسب المكان والزمان

وقلت :

ربما علي ان أعترف

ان الليل مخاض عسير

للنهار..

وأن الشمس التي

تكتب كل يوم اسمها

على ظلالي قد قطعت

أشعتها ورمت بها في البحر

حزنا على فوضاي..

ولن تعود حتى اخرج من كاهل الليل

اعدت الكتب على رفوفها

بكامل غبارها..

ولم يكن في نيتي

ان ابتعد ايضا

ولكن حتى نصف الحقيقة غادرني

حين شاهدني

اسير خلف الإله

من جديد..

وصدقا لم يكن في نيتي ان ابتعد..

كنت فقط

اريد ان اسأله

لم يبدو وجهك شاحبا..

***

بقلم: وفاء كريم

كلما تدلتْ خيوطُ الشمسِ

تعثرتُ بقماطِ طفلٍ

تزحلقتُ بدمِ ثائرٍ

*

كثيرونَ اصحابُ الانحناءِ

نطقهم لا يستحي

بواباتهم بلا مصراعٍ

*

للشطآنِ اشداقُ ضحكٍ

من يسبحُ للقيعانِ

محاراتٌ تصرخُ حزناً

*

سنابلنا تنبتُ بلا ماءٍ

الجبناءُ هنا

عارهم عريُ الارضِ

*

سارقُ العبراتِ والنظراتِ

يمتطي صوتَ البكاءِ

زاحفٌ لجهلِ الحكايا

*

وحيدٌ كالزئبقِ في مهارتهِ

يشتهي تغييرَ الوانهِ

محطاتهُ أثماناً بلا حدودٍ

*

لا أخاطبكَ عن اسراري

أخاطبُ الاملَ

أما تعودُ لذاتي

*

أحتضنتُ خرائطَ العمرِ

ليتني أبتلعُ مرافئها

لتذكرني بصدى أقمارِ بلادي

*

مَن لاتلسعهُ العقاربُ

لن يجدَ الهواجسَ

تحتفي بوهجِ العتقِ

*

طفلاً أتشردُ كالغبارِ

رضيعاً جفَ حليبُ أمهِ

ليلاً اطبقَ عليه الليلُ

*

في كورنيش المدينةِ

سرقتْ أسنانَ المنشارِ شجرةٌ اليوكالبتوس

أينَ تُكتبُ الذكرياتِ

*

لماركيزَ مئةُ عامٍ عزلةً للمعتزلةِ ستمائةُ عامٍ عزلةً

نحنُ في كهفنا بعزلةٍ لن تنتهيَ ابداً

*

المتصوفةُ ارضةُ العقلِ

الحلاجُ قضبانٌ ازليةٌ

قوافلُ التيهِ اغرقتنا بلجتها

*

يأسفُ الشمعُ لانطفائهِ

فتيلهُ نديمُ الخجلِ

دموعنا متلازمةٌ لا تنكفء

*

الصدورُ تسقطها قلاداتُ الوهمِ

زيفُ الاطراءِ يعبثُ بها

تتساقطُ ورقةُ خريفٍ تحتَ الاحذيةِ

***

عبدالامير العبادي

كجرس يرنّ دون انقطاع تسأل والدتها وتستعلم منها قائلة : هل كان أخي هكذا؟ وهل زواج الأقارب ينتج عنه أطفال متخلفين؟ ترد عليها الأم كيف ذلك وما الذي تعنيه بقولك! ماذا دهاك هل اصابك الجنون، وهل ستمضي حياتك بطولها تحت مطرقة هذا الهاجس اللعين. طفلك طبيعي هو خجول ليس اِلا، خوفك عليه هو ما زاد من عزلته ومن وضعه سوءاً.

تصمت محدثة نفسها: ربما والدتي على حقّ عليّ أن أتوقف عن هذا التفكير . ثم يبتسم ثغرها وهي تستذكر أشهر حملها الأولى ومدى سعادتها حين بدأ بطنها يكبر، بعد زواج متأخّر وعنوسة قضمت بعضاً من سني عمرها .طفلها نحيف ذو أطراف طويلة كالدمية الخشبية (بينوكيو) . وعيناه جميلتان بحدقة سوداء واسعة وابتسامة بريئة ساحرة، بلغ عامه الخامس ومازال منطويا على نفسه، متكورا كجنينٍ في بطن أمه،لا يتحدث الا ما ندر ولا يملك سوى التحديق حين يسلبه أحد الاطفال العابه وهو ينظر اليه عاجزا على أن يستجمع شجاعته في استردادها، أو معبراً عن اعتراضه ولو حتى بالصراخ ! كان هذا ما يزيد من قلق والديه وخصوصا الاب الذي كان يشعر بأن الامر يعنيه اكثر من زوجته، لذلك أخذ يفكر في أيجاد حل يخرج ولده من تلك الانطوائية والعزلة، فوجد ان الحل في الحاقه برياض الاطفال ممن هم تحت سن الست سنوات خصوصا وانه طفله الوحيد. تحدث الى زوجته قائلا لها : يجب أن نساعد طفلنا، كفي عن تعلقك المفرط به ! نظرت اليه واطرقت قائلة :نعم لابد من ذلك، تقبلت الامر على مضض محدثة نفسها لابأس بأن يكون بعيد عني لأربع او خمس ساعات يوميا طالما ذلك يجعله بحال أفضل . تحلّت بشجاعة زائفة، وفي اول يوم جهزت له حقيبته الصغيرة، واّلبسته الثياب التي يحبّ وكان معظمها يحمل صورة لشخصية (سبايدر مان)، فقد كان يمثل رمزية الرجل الخارق المُحببة لدى الاطفال وتحديداً الذكور منهم، كانت تسمعه وهو يتحدث معه همساً وحين يشعر انها تراقبه يتوقف فورا عن الكلام . وقبل ان يصعد الى باص الروضة قبلته وهي ترقيه بالأدعية وسور من القران الكريم وكأنها تزج به وسط معركة طاحنة، مضت عده أيام على ذهابه الى رياض الاطفال، لا شكوى تسمع ضده بل إشادة بهدوئه، الهدوء الذي كان يقُلق والده ويشعره بالاسى على طفله الخائب، لكن كان هناك ما أثار حفيظة والدته واستغرابها الا وهي حقيبته الصغيرة التي كان يعود بها حاملا داخلها تفاحة قضم منها قضمتين تركتا اّثار أسنانه اللبنية عليها وقد كساها اللون البني، بالإضافة الى قصاصه ورق زادت من حيرتها، اذ رسم عليها وجوه مستديرة غير واضحة المعالم سقط منها دمع غزير ملأ الورقة بعشرات النقاط . ذات يومٍ تأخر الطفل في العودة فهرعت والدته الى الروضة وهي في غايه القلق تبحث عنه ولم تجد سوى الحارس الذي كان يغط في نوم عميق في قيظ ظهيرة حارّة زادت من لهيب قلبها وقلقها على طفلها الصغير،ايقظه طرقُ الباب وصوت نداء الام الحارس وهي تتوسل إليه :أ فتح الباب بسرعة أين ولدي، نهض وهو يطّل براسه ويمد عنقه الطويل من خلف الباب قائلا : وقت الدوام قد انتهى وركب جميع الاطفال في الباص أتصلي بمعلمته لا علم لي بأي شئ ! اتصلت وهي تسأل عن طفلها الذي أختفى، وبعد السؤال والتأكد اتضح أنه لم يكن في الباص مع باقي الاطفال وانهم ربما نسوه داخل الروضة .فتح الحارس الباب سبقته الام تجري بهلع بالكاد تحملها قدماها تتفقد الصفوف خائفة متوجسة من ان تجد طفلها وقد ألم به شيء او أصابه مكروه، وكاد قلبها أن يتوقف بعد ان وجدته جالسا القرفصاء في أحد زوايا صفه واضعا كفيه الصغيرين على وجهه وهو يرتجف تحيط به بالونات ملونه تركت كما هي بعد ان غادر الجميع حملته متهمة ادارة الروضة بالإهمال والتقاعس، وكذلك كانت تلوم زوجها الذي اصر ان يزجّ بولده في هذا المكان الذي يفتقد العناية والاهتمام بالأطفال، بعد يومين من الحادثة اتصلت مديرة الروضة وقدمت اعتذارا بسبب تقصيرهم قاطعهً وعداً بأن لا يتكرر ما حدث ثانية، أعادت الأّم طفلها الى روضته بعد أن أطمأّنت انه سيكون بخير، مرّت عدّة ايام والطفل لم يبُد عليه اي تحسن ,.الانطواء نفسه والجلوس وحيدا وكذلك،الاطفال مازالوا يسلبونه العابه دون أي ردة فعل منه لكن فجأة حدث شئ غريب، حين علا صوت صراخ احد الاطفال، ركضت المعلمة نحو الصوت لتجد احد الأطفال يقف بالقرب منه لاصقاً جسده الصغير على الجدار ويصرخ بشكل هستيري، أمسكته وضمته بين ذراعيها , محاولة تهدئته قائله له : اخبرني ما الذي أصابك، أشار الى الطفل قائلّا لها : هو أخافني كثيرا ! أشار إليه وهو يفتح ذراعيه الصغيرتين على اخرهما، لقد أصبحت عيناه سوداوين كبيرتين كعيني جرذ وخرج منها ماء غزير أغرقني وبلّل ثيابي، لم تصدقه بل ضحكت في سرّها قائلة له : انت تبولت في سروالك سأسامحك هذه المرة لكن لو فعلتها ثانية سأخبر والدتك بذلك . لكن ذلك أخذ يتكرر كل يوم تقريبا يصُاب أحد الاولاد بالذعر بسببه ومعظمهم بدأ يخاف الاقتراب منه أو اللعب معه، بل وأصبحوا ينادونه بالوحش، ما كان من إدارة الروضة وخاصة بعد ان أن أبلغوا الأم بذلك معتذرين لها رافضين بقاء ابنها في روضتهم بعد ان سحب معظم الأهالي اطفالهم من الروضة بسبب وجوده، قائلين لها لقد أصبح طفلك عدوانيا مع اقرانه فهو يقوم بأشياء غريبة تثير الخوف فيهم، اصطحبت الام طفلها وقد لفها الحزن، وهي في حيرة شديدة من امرها ماذا ستقول لوالده؟ هل يعقل أن طفلها قد جُن وزادت حالته سوءاً، تعاطفت معه كما هي عادتها وفرط حنانها اتجاهه، ضمّته الى صدرها وهي تطبع قبلها الامومية على خده وعلى جبينه قائلة له : لن ادعك تذهب هناك ثانية يا صغيري ابقَ في حضن أّمّك سأشتري لك ألعابا كثيرة،رفع الطفل رأسه وهمس في أذنها بصوت بالكاد يُّسمع كمن يودّ أن يخبرها بسرّ قائلا لها : ماما لست أنا من أخاف الاطفال أنه صديقي سبايدر مان، فحين سمعني ابكي عندما اخذ الاطفال لعبتي حضر مسرعاً لمساعدتي، وهو أيضا من طلب مني في المرة السابقة أن ابقى في الصف كي نلعب سوياً! صمتت الامّ والدهشة تلفّها، وهي تنظر اليه متسائلة هل ما أسمعه وعاشه طفلي وهم؟ أم كابوس ليس هو بحقيقة ولا هو بخيال .

***

نضال البدري

عضو اتحاد الادباء / العراق

تدنو منه أمه في الغرفة الجديدة، ماذا تفعل هنا؟ اقرأ، يقول لها، ماذا تقرأ؟ تسأله، يرسل نظرة صامتة إليها، ويتابع القراءة. تسأله أمه وهي مولّية ألا تريد أن تتناول الطعام؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل.

تنصرف أمه، يواصل القراءة في كتاب " الأم" يطوي الصفحة تلو الصفحة، يتوقف عند بعض الكلمات، يعيد قراءتها لا سيما تلك التي تتحدّث عن صمود الأم وثباتها على أرض لا تميد، أم مكسيم جوركي تشبه أمه من العديد من الجوانب، الاثنتان مناضلتان في هذه الحياة، الفرق بينهما أن المجال اتسع أمام أم جوركي وضاق أمام أمه، أمه جاءت مع أبيه وأخويه الأكبرين من قرية سيرين بعد أن طردتهم منها العصابات الصهيونية المدجّجة بالسلاح، كم من مرة حكت له عن كفاحها مِن أجل أن تحافظ على ما تبقّى من الحياة.

يواصل القراءة، كم هو مُعجب بما يقرؤه. يشعر بقدمّي أمه تدُبّان بين الغرفتين، يفتعل عدم رؤيته لها. تدنو منه تضع يدها على رأسه بحنوّ لا حدود له، ألا تريد أن تتناول الطعام يا ولدي؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل. الساعة متأخرة يا ولدي أخشى أن أنام دون أن أضع لك الطعام، لا تخافي يا أمي.. لا تخافي، بعد قليل أعدك أن أفرغ من القراءة، وأن آتي إليك.

يبقى وحده في الغرفة لا يشعر إلا بحركة الحياة تنبعث من الكتاب بين يديه، المقارنات تتواصل، الناس عند جوركي يقاومون الظلم، الناس حوله مستسلمون له، لا حول بيدهم ولا قوة، أبوه يعمل بعيدًا عن البيت وأمه تحاول أن تسدّ الغيبة، أحيانًا تعمل في أراضي اليهود، اليهود أخذوا البلد واخذوا معها راحة البال، لم يخلفوا وراءهم سوى الشقاء.

الليل يمضي متقدمًا دون أن يشعر بأنه في ليل، الكائنات في كلّ مكان صامتة إلا هو هناك في غرفته.. هو يقرأ الصفحة تلو الصفحة، حالمًا بامتلاك عالم ما يقرؤه.

يواصل القراءة. تهلّ تباشير الفجر، تستيقظ أمه من نومها، يشعر من حركتها تدُبّ في ساحة البيت، تدنو منه مرةً أخرى، أما زلت تقرأ منذ مساء أمس؟ لماذا تفعل هذا كلّه؟ أريد أن أكون كاتبا، يرد عليها بشمم، أريد أن أكتب القصص عنكم وعن عذابكم مع الأيام. تنظر إليه أمه كمن لم يفهم، ماذا تقول.. ستكتب القصص؟

عام 1968

يكتب قصته الحقيقية الأولى، قبلها كتب الكثير من القصص، ما إن كتب تلك القصة حتى شعر أنه وضع قدمه على بداية الطريق، ليس مُهمًّا ما يقوله الآخرون، المُهم ما نقوله نحن عن أنفسنا، هو شعر بنفسه أصبح كاتبًا، أخيرًا تمكّن مِن الكتابة عن أمه ومدينته، بل عن حبيبته المُتخيّلة، لكن ماذا عليه أن يفعل كي يتأكد من أنه أصبح كاتبًا؟ الكثيرون مِن أصدقائه القلائل آمنوا به قالوا له إنك كاتب بالفطرة، قرؤوا كتاباته بانبهار، أنت مولود لتكون كاتبًا، هو يعرف أنه أصبح كاتبًا لكن كيف يتأكد؟ كيف يعرف أن ما يسمعه من أصدقائه لا يعدو كونه شفقة ورأفة بولد مُهجّر ابن مهجر؟

ظلّ يفكّر إلى أن توصّل إلى تحدٍّ ليس سهلًا، ما لبث أن بادر إلى خوضه، فإما يكون أو لا يكون، إما أن يواجه فشله وإما أن يضع قدمه في خطوتها الأولى على طريق المجد (كان متأثرًا فعلًا بكتاب" طريق المجد للشباب لسلامة موسى).

طوى القصة عدة طيات.. وضعها في مغلف اشتراه من المكتبة خصيصًا، كتب عليه عنوان مجلة" الجديد" المجلة الأهم في بلاده تلك الفترة، وأودعها صندوق البريد الأحمر القريب جدًا من بناية البريد في الناصرة، أودعه هناك إبعادًا لأي سبب قد يحول دون وصول الرسالة إلى عنوانها.

في نهاية الشهر اشترى مجلته المقدّسة، ليُفاجأ بقصته منشورة فيها، حمل المجلة كأنما هو عرف أنه يمكنه أن يفعل شيئًا للمرة الأولى في حياته، وركض إلى بيته، كان فرحًا يريد أن يشارك الإنسان الأعز على قلبه فرحه بقصته.

اقترب من أمه احتضنها، لقد أصبحت كاتبًا، أصبحت كاتبًا يا أمي. أمه تُرسل نظرة مستفسرة، ماذا تقول؟ أصبحت كاتبًا؟ يعني ستكتب الرسائل لمن لا يعرف كتابتها ستعمل قُبالة المسكوبية؟ كلّا يا أمي، انتظري ها هي أهم مجلة في البلاد نشرت واحدة من قصصي. ماذا يعني هذا يا ولدي.. أنا لا افهم عليك، هذا يعني أنني أصبحت كاتبًا يا أمي، سأملأ الدنيا قصصًا عنكم وعمّا ذقتموه من عذاب. لا أفهم لا.. افهم يا ولدي، على كل حال " على الله يطلع من بيت هالمطبّلين مزمر"، سأزمّر يا أمي سأزمّر، سأكون كاتبًا، سأكتب أجمل القصص.

عام2006

تأتيه أمه في منامه، تقترب منه، هو ما زال يقرأ الكتاب تلو الكتاب، أما زلت تقرأ الكتب يا ولدي؟ نعم يا أمي، الكُتّاب لا يتوقفون عن قراءة الكتب، إلا في واحد من أمرين حينما يرحلون من هذه الدنيا، أو حينما يفقدون أبصارهم، ويستدرك حتى حينما يفقدون أبصارهم فإنهم يبحثون عمّن يقرأ لهم الكتب.

تتمعّن والدته في ملابسه، لماذا أراك تزداد فقرًا يا ولدي؟ لقد أصبحت كهلًا وبعد قليل تصبح رجلًا مُسنًّا، وأنت كما أنت ما زلت فقيرًا، إلى متى ستبقى فقيرًا يا ولدي، ألا يفيدك أنك أصبحت كاتبًا؟ لست فقيرًا إلى هذا الحد يا أمي، ثم إنني لا أعرف ماذا يُخبّئ لي الغد، كم كنت أود لو أنك بقيت إلى جانبي في عالمي الفاني هذا.. لنقطف ثمرة أحببت أن نقطفها معًا. تتمعّن أمه في ملابسه، لكن لماذا ترتدي هذه الملابس الرثّة يا ولدي؟ يحاول أن يشرح لها.. أن يقول لها إن الإنسان الجميل يبدأ من الداخل إلى الخارج، وليس العكس، وإن مَن يبدؤون من الخارج إنما هم أناس تعساء.. يشرح ويشرح ويشرح.. إلى أن تستوقفه أمه بإشارة من يدها.. لا افهم ما تقوله يا ولدي، أنت تعرف أنني أميّة لا اقرأ ولا أكتب، إلا أنني أفهم أن الواحد منّا نحن بني البشر إنما يحاول أن يحسّن حياته. أنا أحاول أن أحسن حياتي يا أمي، لا تقلقي، أرجوك لا تقلقي، طريق الكُتّاب كثيرًا ما تكون طويلة، أطول من أعمارهم، لهذا هم يعيشون أحيانا بعد رحيلهم. لا أفهم عليك يا ولدي، ما أفهمه أنك ينبغي أن تعيش حياة أفضل من هذه، وماذا تقترحين يا أمي؟.. أقترح عليك أن تبحث عن عمل آخر.. يمكّنك من أن ترتدي أفضل الملابس، لن أبحث يا أمي، قلت سأكون كاتبًا، يعني سأكون كاتبًا.. ولن أتنازل عن حُلمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

عام 1963

طوال الطريق نحو الشقة كنت أشعر بغثيان يلف رأسي وأحشائي. أحسست بخدر ودوار يجعلان جسدي يرتخي، فيسندني مرافقي لبعض الوقت. وأخيراً شعرت أن ساقي ما عادت تساعدني على المسير، فاضطر مرافقي لرفعي، وحين وصلنا الشقة وضعني على السرير وجلس جواري، فدفنت رأسي بالوسادة وبدأت أبكي بحرقة.

***

شحيح الضوء يتسرب من بين فتحة الستارة، والمساء الثقيل قد ابتعد وأنا ما استيقظت طيلة الوقت. رفعت رأسي ونظرت حولي. كانت هناك جالسة تطالع سقف الغرفة دون أن تنتبه لي. حيّيتها تحية الصباح فلم تجبني. ناديتها فلم أسمع سوى صوتي. كانت أمي هناك تجلس فوق كرسي قريباً من باب المطبخ. سمعتها تدندن، ربما كانت تحدث أحداً ما في المطبخ. من يكون ؟ هل هي راشما أم مرافقي؟ ولكن لم تتغاض أمي عن ندائي. ما الذي يجعلها تهملني بهذا الشكل!

ـ أمي..أتسمعينني..اليوم قررت الذهاب إلى يوتوبوري للحصول على الجائزة..أتودين مرافقتي..أجيبيني لا تجعلي الصمت يزيد من ألمي.أمّاه سوف ترافقينني أليس كذلك..إني أخاف هذا البولوني...سوف يقتلني إن عرف بالأمر.

دخلت المطبخ دون أن تلتفت نحوي. أهملت وجودي كلياً. لم ألمح سوى ثوبها الكالح الذي مازال يظهر جوار حافـّة باب المطبخ. سمعت صوت راشما وكان همساً خفيفاً وهي تكلم أمي.  حركت جسدي فكان ثقيلاً مثل الصخر، وازداد ارتعاش أطرافي ولكني استطعت في النهاية أن أحركه وأرفعه، ثم هبّطت من السرير وطالعت ساعة الجدار التي كانت دقاتها الرتيبة تملأ الغرفة وصوتها ينخر رأسي الذي لفـّه دوار غريب. الساعة تشير إلى السادسة صباحاً. تقدّمت نحو المطبخ فلم أجد أحداً هناك. أين ذهبوا ؟ ما عاد ذهني المشوش يحتمل كل هذا. أشياء غريبة تحدث. لِمَ يتركوني وحدي ؟ ولكنـّي لست بحاجة لمساعدة أحد. أنا قادر على إنجاز كل شيء. ما الذي يفعلونه الساعة. ألم يعدوني بالمجيء ؟ مشقة السفر لن أتحملها وحيداً. لترافقني أمي وسوف أحكي لها ما يعذبني. ما من أحدٍ سواها يعرف ما ينتابني من تعب وألم.

***

الصباح البارد يجعل الجسد ثقيلاً متكاسلاً. لملمت بعض قطع الملابس التي أحتاجها في سفري، ودسستها دون عناية في حقيبتي الصغيرة، وسرت باتجاه موقف حافلات النقل التي توصلني إلى محطة القطارات المركزية. كنت أشعر بالوحدة والخوف، فربما لا أستطيع تحمّل مشاق السفر، فيا ترى من سوف يساعدني إن شعرت بالإرهاق، وانتابتني أعراض المرض. مثلما قال بيتر الفنلندي فالموت يلاحق رابحي الجوائز، وشركات اليانصيب تنتظر ذلك ودائماً هي من يربح الرهان. أتراني أستطيع أن أغلبهم في هذا الرهان ؟  الموت، أيّ معنى سخيف وأية نهاية لا تقبل المساومات. أتراني أقع صريعاً قبل أن أتسلم الجائزة؟

الشوارع مزدحمة، وحركة سير الحافلة بطئ جداً. تلمست الحافظة للتأكد من وجود ورقة اليانصيب ونظرت نحو الأفق المترامي لفسحة الوادي المخضرّ الذي يمتد مجاوراً الشارع. هذا اليوم يتوقف عليه الكثير من مستقبلي، وتلك الورقة هي التي ستكون مصيري الجديد أو منقذي الذي بحثت عنه كثيراً.

قطعت تذكرة السفر واتجهت صوب الرصيف رقم سبعة عشر، حسب ما نبهني له قاطع التذاكر بعدما لاحظ ارتباكي وارتعاش يدي، وسألني إن كنت أحتاج لمساعدة فهناك في المحطة من يستطيع تقديم العون للذين يحتاجونه. شكرته وتقدمت أخط بقدمي فوق أرض الرصيف.

كانت حركة القطارات تملأ المحطة بضجيج طاغ، وصوت أزيز العربات المسرعة يرتطم برأسي فأشعر بثقل غريب ينتاب جسدي. القطارات تنطلق مثل البرق مخترقة المكان، قادمة أو عائدة من جهة ما، بعضها لا يتوقف عند المحطة وإنما يندفع شاقاً فضاءها مثل سهم حاد محركاً الهواء بحدة تشعرني بالخوف، وتنتاب جسدي قشعريرة باردة. جلست فوق الكرسي جوار الباب ورحت أطالع تقاطع سكك الحديد. وبين لحظة وأخرى كان هناك قطار يخترق المكان بسرعة هائلة. أشعر الآن أن قرار سفري وحيداً جاء متسرعاً، وأني اتخذت هذه الخطوة دون دراية بمخاطر وضعي الصحي. وحتماً  إن طول المسافة سوف يرهقني، ولكني أشعر بأن هدفي يستحق العناء. أردت أيضاً  أن أحافظ على سرّ ورقة اليانصيب، أن أتفرد بها، أن لا يعلم بها ذلك الوحش أو غيره.

لحد الآن لم أشاهد من السويد غير مدينة ستوكهولم، وحتى في هذا الأمر فإن لي حدوداً  لم أكن لأبرحها. لا أعرف من ستوكهولم غير بضع مناطق، وهذا الشيء يزيد من قلقي وخوفي. قاطع التذاكر أخبرني حين سألته، أنّه يكفيني أخذ سيارة أجرة حال وصولي محطة القطارات في مدينة يتوبوري، وسوف يتكفل السائق بإيصالي إلى بناية التلفزيون. سوف أحاول النوم أثناء الرحلة، فأنا لم أستطع النوم وبقيت أتخبط، ينتابني الفزع والقلق طوال الليل.

كان الزحام في المحطة على أشده وكنت أطالع الوجوه بريبة ووجل. وسيل البشر أمامي يبعث في نفسي خوفاً شديداً. فجأة اقترب مني فتى طويل أشقر، أشعث الشعر بجبهة ناتئة وعينين صغيرتين، ودون مقدمات جلس جواري ووضع رأسه فوق كتفي وهمهم بصوت مبحوح أن أعطيه بعجالة سيجارة أو قطعة نقود. دفعت رأسه وأخرجت علبة السجائر وناولته واحدة. دفعني من كتفي بقوة حين همّ بالوقوف. بعدها انحنى نحوي ووجّه لي التحية وأطلق ضحكة مدوّية أرتجف لها قلبي، ثم مد يده المتسخة فارجاً ما بين الأصابع ووجّهها نحو وجهي مباشرة وصاح بسويدية ركيكة.

ـ لن أقول لك ما سوف أفعله أو ما لا أفعله، فأنت مثلهم..لن أقول ما سوف أقوم به حتى لو حاولت قتلي أيها السويدي القذر...أيها الغبي.

فجأة بدأ ينتحب، ثم راح يدير رأسه بشدة يمنة وشمالاً، وذهب مسرعاً نحو باب الصالة الداخلية. شعرت بقشعريرة برد وبدأ العرق يغرق جبهتي وبدأت أحس بالاختناق. انتابتني حالة من الكمد والوحشة، وكأن كل شيء حولي مسكون بالأرواح. هزتني رجفة وشعرت بوهن شديد وبدأت أصابع يدي لا تقوى أمساك السيجارة. صمت ضجيج الناس، وبدت الساحة أمامي فارغة تماماً. تقاطع السكك الحديد أخذ يتشابك ويتلوّى بحدّة وثمة صوت صفير يأتي من بعيد. راح الصمت يكبر ويتـّسع، وصوت الصفير ينفرد ليخترق فضاء السكون. بدأت سكك الحديد تتلـّوى أمامي مثل أفاع تتراقص كأنها في حمى سراب هلامي غطى كل شيء. انكشفت أمامي تلال ترابية يغطيها السبخ وعوسجات تتناثر بين طيات الكثبان وثمة يد مغطاة بالدم خارجة من حفرة قريبة تلوح في الفضاء. اقتربت أمي من الحفرة وكانت تنظر نحوي بعينين متسعتين. مدت يدها وسحبت اليد من الحفرة. أخرجته، كانت بدلته مطلية بلون دم قان متيبّس. شدته أمي إليها وضمته لصدرها. كانت تنتحب، سمعت صوت نحيبها، أمال الجسد رأسه نحو صدرها ونظر اتجاهي بابتسامة شاحبة، ولوّح بيده مرة أخرى وكانت عيناه تتوسلانني. صوت الصفير يشتد ويقترب. صرخت بكل ما أوتيت من قوة أن ابتعدوا عن المكان كي لا يدهسكم القطار. تقدمت أمي ساحبة معها العسكري الجريح نحو تشابك سكك القطارات. سحبته وهي تحتضنه بحنوّ. صرخت ..توسلتها أن تبتعد. كان ثغرها ينفرج عن ابتسامة رضيّة. وكنت أصرخ وأحس أن صوتي يُكتم في جوفي ويختنق بحشرجة موجعة. نزلت عن الرصيف وتقدمت نحو سكة القطار. سمعت ورائي صراخاً وضجيجاً. التفتّ فكانت هناك وجوه فزعة وعيون ناطة وأفواه فاغرة وأياد تشير نحوي. نظرت نحو القطار القادم بسرعته الجنونية ثم اقتربت من أمي. اقتربت منهما ..اقتربت وأخذت يدها، ضممتها إلى صدري وأجهشت بالبكاء. كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيَّ. لقد أصغيت له جيداً.شعرت ببرد قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً مثل ريشة يلاعبها الهواء، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة تبرق من خلالها ألوان تومض. اختلطت الألوان وثمة ضباب كثيف يغطي المكان. بدأ جسدي يرتجف وغطّتني غمامة سوداء.. صوت هدير قوي.. القطار يقترب..كان يقترب.. صوت ضجيج يملأ الكون.. يحتدّ.. ثم راح الهدير يكتسح كل شيء .

***

فرات المحسن

..........................

قصة (تلك الأيام المضنية) أو بطاقة اليانصيب. واحدة من مجموعة قصص تبحث فيما تبقى من وجع ولوثات عافتها الحروب في النفس البشرية، وبالذات عند أبناء الشعب العراقي الذين نخرت أرواحهم حروب عديدة أشدها إيذاء كانتا حربي الخليج الأولى والثانية، وهما حروب صدام. في تلك الحربين ذهب أكثر من مليون شهيد وتعوق الآلاف وترملت النساء ويتم الأطفال. وهناك من خرج منها مكبل بالوجع بعد أن حزت الحرب بمشرطها روحه وبات يلوك وجعها في ساعات يومه، في صحوه ومنامه، لوثة تغلف كيانه تتلبسه مثل شياطين، فلا يعرف كيف يهرب منها.عندها يثار السؤال الضاج أبدا.  من يسمل عين الحرب؟

زَائِري عَلى البَابِ يَقرَعْ

هُو كلّ ما بقيَ داخلي

خريف طَويل

غَلالة سِحر

تَسْبقُ المَطر

دَعِ الأوراقَ

تسْقُطُ

وتفْتَرشُ الأرضَ

كسجّادة أعجمّية

إنّه الإنعِتاق

مِن غُصنٍ مَازال قاسِياً

عَادت ألحان الهُطول

تَسْكب

رَذاذاً

عَلاَ

إيِقاع مَطر

الخَريفْ

فَتصَاعَدت

أَبخِرة أَعمِدة

مِن دُخان

مُعطرة بالمُّرِّ واللّبَان

وأَنفاس بَيلسان

سَوسنَة عَانَقتْ وَردة

مُحاطة بالأَشوَاك

زائري على الباب يقرع

هتَفت نَفسي لهُ طرباً

مَن هُناك؟

إِنّهُ خَافقي

مؤْنِسِي

مُهِرَ باسمي

أصْبح لي وَطناً

زائري الذي أَعشَق

على الباب يَقرع

أَيّتُها الأرض

التي تَحمِل ظِلّه

كوني لَه مُبارِكة

برفِّوفٍ مِنْ

طُيورِ السُّمّانْ

رَغَدٌ

وَسلام

دِفْقُ احتضان

وحَصَاد يوُسف

زائري ومن أَعْشَق

على الباب يقرع

***

راغدة السمان

تَنْأى بِيَ الذكرى وشـوقــي غامِـرُ

وبَريقُ حَرْفك فـــي الجّوَى يَتَسامَر

*

ورَفيفُ أَجنحةِ القريضِ لـه صَدَىً

فــــي الليل يسْرقُ غَفْوَتي ويُساهِر

*

وأَبُثُّ مِــــنْ شـوقي ، بـقافيـــةٍ إذا

عَـزَّ اللقاءُ ، مـــــع النسيــمِ تُسـافِرُ

*

أفَـكُـلما وَسَـــــنٌ يُـغازِلُ مُـقْـلتــــي

تَـغْـزوهُ نَسْـمَـــةُ يــَقـظـــةٍ فيُـغـادِرُ

*

وإذا رَقَـدْتُ فَمــِنْ مَحاسِن رقْدَتـــي

حُلُمٌ بــــه وَزْنُ القصيـــــدةِ  عـامِـرُ

*

وإذا ارتَقى المضمونُ صَوْبَ عَلائه

يحلــو النـشيــــدُ بـوَقْـعِـــهِ ويُــجاهِرُ

*

ينسابُ مـــــِن رَوْضِ البراعَة بُرْعُمٌ

أحْـلـــــى صـفاتٍ فيــــــه انـه زاهـِرُ

*

فإذا البـيانُ مـــــــع البـديـــــع تواجَدا

فَـلِـــرِحْلَةِ النـظـم البَـليـــــغِ تـَواتـــــرُ

*

ولِصورة الوصفِ الأنيـــــــــقِ مَعالمٌ

تـبدو اذا أذِنَـتْ لـــــذاك مَشــــــــاعِـرُ

*

إنَّ التَـفـنـنَ فــــــــي الكــلام مواهبٌ

يســـمو بها مـــَنْ في التجارب ناظِرُ

*

يبقــــى رَصيـــدُ المفرداتِ مُوافيــــا

للإنتـقاءِ ولـــــــــونُ حـَرْفِــــه ناضِرُ

*

إشراقـةُ المعنـــــــى دَليــــــلُ تَبَصُّـرٍ

ورشاقـــــــةُ الألفـــــاظِ حَـرفٌ قادِرُ

*

أوْسِـــــعْ خيالاً فــــــــي رُؤاكَ تألُّقاً

فالشِـــــعـرُ دون تخَـيـّــلٍ يــتـناثــــرُ

*

وإذا شَمَمْتَ العِطرَ فـــــــــي أرْدانهِ

وعَلاكَ ضوْءٌ فـــــــي القوافي سائرُ

*

إعزفْ لــــــه لحْـــــنَ التـفوّقِ منشدا

واسْتوْحـــــــي ما يَعلو بــه ويُـفاخِرُ

*

إنّ التبحُّرَ فــــــــــي جمالِ بُحُورِها

خَـلْـقٌ لإبـداعٍ .. لـديـــــــــه بــوادِرُ

*

وإذا عَـــــلا الأغصانَ طائرُها شدا

دُرَرا بـــــــها عَبـَقُ البـلاغةِ زاخـرُ

*

تُهدَى لمـــــــن يبغي المعاليَ منهجا

فيـــــــــه الشهامةُ والإبـاءُ ســرائـرُ

***

(من الكامل )

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

كُــنْ  ثــابتاً مِــثلَ الجبالِ رسوخا

جــارِ الــنخيلَ تــحدِّياً وشــموخا

*

قــد  يــرتضي بعضُ الرجالِ مذلّةً

أمَّــا  الأبـيُّ فلا يَـطِيقُ  رُضُـوخاً

*

تــأبى  الــصقورُ بأنْ تُدَانِي جيفةً

أو أنْ تُــنــافسَ عَــقعَقاً وفــروخا

*

لا يــخضعُ الأسدُ الهصورُ لوَبْرَةٍ

أو أنْ يهابَ مدى الزمانِ مسوخا

*

شــتّانَ  مــا بــينَ الــثُّرَيَّا والثرى

مَــنْ رامَ عِـــزّاً أو يــرومُ الكوخا

*

يَمْضي إلى الأنذالِ يطلبُ رِفْدَهمْ

دومــاً يُــصَفِّقُ أو يُــمَسِّحُ جُوخا

*

إنَّ الــخُنُوعَ لدى الخِساسِ سجيّةٌ

فُــطِــرُوا عــليها فِــتْيةً وشــيوخا

*

فاخترْ لنفسِكَ أينَ أنتَ مِنَ الورى

إمَّــا كــجِذْعٍ أو فــكنْ شُــمْرُوخا

***

عــبد الــناصر عــليوي العبيدي

كنت دائمًا أبرحُ وحيدًا بين طيّات الموائد، أنظر إلى الأشياء بزرقة العين، تفاوض مع الذات في سبيل المعرفة التي ضاع وقتها في زمن الصبا. بعد قليل من الوعي، ازدادت حيرتي بين الماضي القديم والحاضر الذي أشاهده كلّ يوم، مخالب عقلي تنتفض في عصف مأكول محاولًا القدرة على التنبؤ العظيم بعيدًا عن "نوستراداموس"، لكن طاقة الوصول تقول: لا يأس.

العجلات ما زالت تدور، أيّها الذات، رجوتك أن تبحثي مرة أخرى في غير ضياع، من هو أنا؟، عليك أن تحلم كثيًرا حتى يمضي الوقت الذي قُدّر لك، أقفلت الكتاب، لكن قبل الإغلاق وقعت على تلك المفردة التي قالت: أنت جميل. مضت العين والقلب والوجه أبعد ما يكون محاطًا بانفراد، مضيت أقرأ ما تبقّى، أكملت الجملة المتمرّدة على السطر، أنت جميل لقد رأيتك فوق الشجرة تقرأ كتابًا، غرور بدأ ينبض في داخلي، بدأ السؤال: من هو الجميل؟ أنا أم شخص آخر؟

مضيت في القراءة، ربما أجد العلّة والمعلول، الخيبة تزامنت مع الفرحة، لا شيء بعد، إنه السطر الأخير من النبأ العظيم، إذًا إنها لي، لا بل لي. فتحت المذياع على القناة المفضّلة، الموسيقى السريالية لـ أرنولد شونبرغ، تصرفت كأنّها في علم بفرحتي، وصل إلى السامعين خبر فرحتي، جاؤوا يطرقون الباب فرحًا، الباب كان مواربًا، ثلة منهم يتفقّدون المكان. وصلت إحداهما تزغرد وفي عينيها فرح وهي تقول: سوف يضمّني وأضمّه، انظروا، سوف يقبّلني وأقبّله، لا حاجة للندم بعد الآن.

تذكرت المتنبي حين قال: انثنيت ولي فؤادٌ شيّق.

وقفوا ينظرون بحرية الجمال، حتى وقعت بين يدي كأنّها وردة ذابلة في انحناءتها العاشقة، سمعتها تنادي بعضها: لا تتوقف، قالت والجمع يصفّق: أنت جميل، رأيتك فوق الشجرة تقرأ كتابي. ابتسمت ثم ضحكت بوثبة واحدة، قلتُ: أنت روايتي القادمة. نظرت إلى الورقة كي أقرأ، كانت الأحرف ممحوّة، بدأ المذياع يثير الضجيج، أطفأت النور وقلت: لا طعم للحياة بدون امرأة.

***

فؤاد الجشي

لِسُعْدى لم تَلِدْ إلّا السُرورا

أزُفُّ الشِعْرَ تاجاً والشُعورا

*

قلائِدَ سُؤْدَدٍ وَ فُصوصَ تِبْرٍ

لِخيرِ عرائِسِ الدُنْيا مُهورا

*

وَحُسنى غَرّدتْ خمسينَ حَوْلاً

فَهَلْ نَطَقَتْ مَعازِفُها كُدورا ؟

*

متى شَغَرَ الزَمانُ مِنَ المعالي

سَدَدْنا في مَحاسِنِها الشُغورا

*

أنا بَدَوِيُّها قد جِئْتُ أحْدو

وأنْحَرُ قُرْبَ جَوْسَقِها الجَزورا

*

فَمَهْما زادَني التَغْريبُ بُعْداً

وَهَدّمْتُ الأواصِرَ والجُسورا

*

سَيَبْقَ القلبُ مسْحوراً بِسُعْدى

وَسُعْدى تعْشَقِ القلبَ الغَيورا

*

شَقائِقُها تُغازِلُني نَهاراً

فَأنْسَغُ من ندى روحي الجُذورا

*

الى السَرّاءِ لا الضرّاءِ شَدْوي

وَنَفْخي في رُفاتِ المَجْدِ صورا

*

وَخُبزي من بيادِرِها لُحونٌ

متى زِيدَتْ تنانيري سُجورا

*

سنابُلُ حَقْلِنا كَمَنتْ عِجافاً

وَلَمْ تَلْقُطْ هَداهِدُهُ البُذورا

*

الى سَرّاءِنا أسْرى بِقلْبي

بُراقُ قَريحَةٍ سَكِرَتْ غُرورا

*

بِأَنْبِذَةِ القوافي ثمّ طارتْ

بِأجْنِحةٍ تأبّطَتِ الكُسورا

*

فَيا ريمَ الجَزيرَةِ والبَوادي

شَمَمْنا المِسْكَ عِنْدَكِ والعُطوراً

*

بِجَوْسَقِ عاشِقٍ كُنْتِ الثُرَيّا

إليكِ أيائِلي حَمَلتْ نُذورا

*

مَزاميرُ الأوائِلِ أمْ صَداها ؟

دَعَتني في الكَرى حتى أزورا

*

فَراديسَ الأُلى غابوا وَلَمّا

يخاصمْ جَمْرَ ذاكِرتي الفُتورا

*

مزاميري لها آياتُ شِعْري

فَدَعْ داوودَ جَنْباً والزَبورا

*

سَنادِسُها تُراوِدُني وأخشى

على أهدابِ سُنْدُسِها المُرورا

*

بِأجْنِحةِ الخسائِرِ هَمَّ قلبي

الى أبهى مَياسِمِها العُبورا

*

أَ يَلّاءَ البَصيرَةِ أَلْهِميني

كفاكِ العُمْرَ صَدّاً أو نُفورا

*

رُويْدَكِ إن تَمَنّعتِ القوافي

وَ ضاهَتْ في تَمَنُّعِها الصُقورا

*

حَناناً مِنْ لَدُنْكِ وَ ظِلَّ ذكرى

لَعَلّي أتّقي فيها الحَرورا

*

أتَيْتُكِ سابِراً أسرارَ جيلٍ

وَلَسْتُ بِنابِشٍ فيكِ القُبورا

*

فَهاتي جَمْرَ ياقوتِ القُدامى

فَحاضِرُنا يرى ماضيهِ زورا

*

وَ صُبّي هالَةَ الأسْلافِ كأسًا

لِأسْكَرَ في سُلافَتِها فَخورا

*

كَدِرْويشٍ تَواجَدَ في حِماها

وَحَوْلَ السورِ آثَرَ أنْ يَدورا

*

يَذُرُّ رَمادَها بينَ الأثافي

وَيَسْأَلُها القِيامَةَ والنُشورا

*

رأى العَنْقاءَ يَعْلوها رَمادٌ

وَسيْفُ هِرَقْلَ قد بَلَغَ النُحورا

*

وَميضٌ للجَواشِنِ في دِمائي

ترائى طيْفُها شَرِساً جَسورا

*

على أبوابِ قَلْعَتِها حِصاني

يُعاني دُونَ صَهْوَتِهِ الضُمورا

*

تَرَنّحَ في جَواسِقِها حَسيراً

يُديرُ الطَرْفَ مُحْتَسِباً صَبورا

*

فَيا مَنْ سُرَّ قَلْباً مَنْ رآها

أوانَ الضوءِ نادَمَها عُصورا

*

غَداةَ الجَمْرِ في شَبَقِ المَرايا

أحالَ البِرْكَةَ الحَسْناءَ نورا

*

وَناراً في قَياثيرِ الغَواني

بها أشْعَلْنَ بالرقْصِ الخُدورا

*

أباريقُ الكَواعِبِ أَمْ بُروقٌ

بِآناءِ الرُخامِ بَنَتْ قُصورا ؟

*

جَلابيبُ الدُجى شابَتْ ضِياءً

وَتِلْكَ سماؤها إنْفَجَرَتْ بُدورا

*

وَكَم هَتَكتْ فراقِدُها حِجاباً

ورغمَ الليلِ أعْلَنَتِ السُفورا

*

مَعاً صَدَحَتْ كَمَنْجاتُ الصَبايا

وَرَقّصْنَ المناكِبَ والخُصورا

*

كُرومُ البُحْتُرِيِّ بَكَتْ نبيذاً

كما سالتْ قَوافيهِ خُمورا

*

فَهلْ ظَنَّ البُحيْرَةَ غيرَ بَحْرٍ

يُفَجِّرُ في قريحَتهِ البُحورا ؟

*

كَغوّاصٍ مَحارَتُهُ أباحَتْ

لَآلِئها وَحَرّمَتِ القُشورا

*

رأى تيكَ الأنامِلَ ناقِراتٍ

نَواقيسَ الهَوى فَسَقى الطيورا

*

على أشْفارِ بِرْكَتِهِ قِيانٌ

كَأنَّ العِينَ قد راقَصْنَ حورا

*

مَزَجْنَ الماءَ سِحْراً كوثرِيّاً

فَمُذْ لامَسْنَهُ أمسى طَهورا

*

وَديكُ الفجْرِ أذّنَ فإسْتَفاقتْ

ذُرى مَلْويّةٍ فاضتْ حُبورا

*

يَهُزُّ سماءَها العُلْيا لِيَرْقى

نِداءُ الحقِّ والتقوى جَهورا

*

هُنا، مُتَوّكِّلاً، ألْقى عَصاهُ

فَلوْلَبَتِ الحِجازَةَ والصُخورا

*

مَضى حَلَزونُها يَلْتَفُّ لَيَّاً

يُناهِدُ في أعاليها النُسورا

*

كَلِبْلابٍ تَسَلّقَ ذاتَ فَجْرٍ

سماءَ اللهِ مُبْتَهِلاً شَكورا

*

وَحَلّقَ فَوْقَ مَسْجِدِها لِتَزهو

كُوى أبراجِها وَتُنيرَ سورا

*

تَسَلّقها فؤادي في خُشوعٍ

وَأوْقَدَ عِنْدَ (جاوَنِها) البُخورا

*

أبا تَمّامَ لا أنْباءَ عِنْدي

سِوى نَبَأٍ به أرثي الدُهورا

*

زماني عاقِرٌ لا بَلْ عَقيمٌ

وذئبُ الرومِ قد أضحى عَقورا

*

وَمُعْتَصِمُ الوَغى أمسى أصَمّاً

فما لَبّى لِصَرْخَتِها حُضورا.

*

أَفي أُذُنيْهِ وَقْرٌ أم تُراها

صِباءُ الخيْلِ طَلّقْنَ الظُهورا.

*

غَدَتْ (لبّيكِ ياأختاهُ) وَهْماً

نعاقِرُهُ لكي نُشفي الصدورا

*

صفائحُ جيشِهِ لمعتْ بياضًا

كما إسْودّت صحائفُنا سُطورا

*

شُراةُ الهاشِميّةِ حينَ قِيدَتْ

شرارتُها كَوَتْ أسَداً هَصورا

*

ألا (لَبّيكِ) وإنْطَلَقَتْ سَرايا

وعانقتِ الأسيرةَ والثُغورا

*

صُراخُ اليعْرُبيّةِ كان يومًا

يُصدّعُ في ظُلامتِهِ الشُرورا.

*

أبا تمّام لم نشهدْ خَميساً

يصدُّ الويلَ عنّا والثُبورا

*

فَناطورُ الديارِ بَدا عُتِلّاً

أزاحَ العدلَ وإمْتَشقَ الفُجورا

*

زماني لا زمانُكَ ياصديقي

يُصيّرُ لِصّهُ شيخاً وَقورا

*

دَمي الثَرْثارُ حَمّلَني رَجاءً

الى (ثَرْثارِها) حتى يثورا

*

على نَهَمِ الكَواسِجِ والسَعالي

ويستبقي الخزامى والزهورا

***

مصطفى علي

أَيَا حُبَّ عَلْيَا يَا جَمِيلَ الْمَحَامِدِ

شَغَلْتَ فُؤَادِي بِالصِّفَاتِ الْفَرَائِدِ

*

عَهِدْتُكَ حُبًّا مُسْعِداً وَمُبَشِّراً

عَرَفْتُكَ حُبًّا ثَابِتاً فِي الْعَقَائِدِ

*

وَجَدْتُكَ أَحْلاَمِي وَحَقْلَ مَشَاغِلِي

رَأَيْتُكَ مَرْفُوعاً عَلَى كُلِّ حَاقِدِ

*

تَخَافُ الضَّنَى تَهْوَى الْوِصَالَ لِبَسْمَتِي

تُحِبُّ الْهَوَى عِشْقاً لِعَذْرَاءَ نَاهِدِ

*

تُؤَمِّلُ حُبًّا صَادِقاً مُتَمَكِّناً

يَنَالُ الْمُنَى يَسْعَى لِدَفْعِ الْمَكَائِدِ

*

وَخِلْتُكَ صَبَّاراً عَلَى كُلِّ حَادِثٍ

أَلِيمٍ يَهُزُّ النَّفْسَ صَعْبِ الْجَلاَمِدِ

*

وَبِتُّ عَلَى شَوْقٍ يُعِيدُ تَفَاؤُلِي

وَجِئْتِ أَيَا عَلْيَا بِأَشْهَى الْمَوَارِدِ

**

ضَحِكْتِ بِوَجْهٍ بَاسِمٍ مِثْلَ الضُّحَى

يُنِيرُ الدُّجَى يَمْحُو عَظِيمَ الشَّدَائِدِ

*

وَقُلْتِ: "حَبِيبِي مَرْحَباً" بِبَشَاشَةٍ

فَأَضْحَى فُؤَادِي فِي الْهَوَى غَيْرَ صَامِدِ

*

وَنَادَيْتِ بِاسْمِي فَانْتَعَشْتُ وَبَانَ لِي

مِنَ الْحُبِّ يَا عَلْيَاءُ أَقْوَى الشَّوَاهِدِ

*

وَعُدْتُ إِلَى بَيْتِي سَعِيداً بِلَيْلَتِي

أُؤَمِّلُ سَعْداً بِاتِّفَاقِ مُوَاعِدِ

**

سَهِرْتُ أَيَا عَلْيَا بِنَشْوَةِ هَائِمٍ

أُنَاجِيكِ عَلْيَائِي بِأَحْلَى الْقَصَائِدِ

*

أَنَامُ فَيَأْتِي طَيْفُكِ الْغَالِي.. عُلاَ

لِكَيْ يُوقِظَ الْأَجْفَانَ مِنْ كُلِّ هَاجِدِ

*

وَأَلْمَحُ عَلْيَاءَ الْحَبِيبَةَ بَغْتَةً

تُمَثِّلُ لِي أَحْلَى الْحِسَانِ الْخَرَائِدِ

*

أُقَبِّلُ فَاهَا يَا لَذِيذَ سَعَادَتِي

مَعَ الْحُبِّ فِي أَوْجٍ مِنَ الْحُسْنِ صَاعِدِ

***

أَضُمُّكِ .. عَلْيَائِي بِقَلْبٍ مُعَذَّبٍ

وَأَخْشَى رَصَاصاً مِنْ عُيُونِ الْحَوَاسِدِ

*

نَعِيشُ هَنَاءً مُسْعِداً فِي حُبِّنَا

وَيَرْفَعُنَا رَفْعَ الصَّفِيِّ الْمُسَانِدِ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

في نصوص اليوم