نصوص أدبية

نصوص أدبية

ألا املأهــــــا وناولــــــها

لقد طــــال الجفا صِلْـــــها

*

أنا المفتــــونُ مِن صِغري

طبــــــاعي لمْ أبدلهــــــــا

*

إذا مـــالتْ موازيـــــــــنٌ

فخُــذْ كأســــا ً وعدّلهــــا

*

وآهاتـــــكَ أطلقْـــــــــــها

إلـى المحبــوبِ أرسلْـــها

*

وإنْ جــــارتْ بــــلادٌ إرْ

تحـــلْ وخُطـــــاكَ  نقّلها

*

حياتُـــــكَ لا تُصعّبــــــها

وبالنسيــــــــانِ سهّلْهــــا

*

جبال الهـــمّ صدّعـْـــــها

وبالاشـــــــواقِ زلْزلهــا

*

فإنَّ العشْـــــقَ  آيـــــاتٌ

مُـنــــــــــزلّة ٌ فرتّلهــــا

*

يقـولُ جميــــلُ لا تيأسْ

حيـــــاتكَ قُــمْ وجمّلــها

*

وقبـّلْ كأســكَ الشافـــي

وليـــــــلى لا تقبّلـــــها

*

ستسمــعُ صوتَ ساقيها

يُنــــــــادي لا تقلّلـــــها

*

فحافظُ قالــــــها قبْلــي

وكأســــكِ هــذهِ اسألها

*

(إذا لاقيتَ مــن تهوى

دعِ الدنيــــــــا وأهملها)1

(وخُذْ سجّــادةَ التقوى

بمــاءِ الكرْمِ فاغسلــها)2

***

جميل حسين الساعدي

..............................

* البيتان الأخيران المحصوران بين قوسين  مقتبسان من قصيدة حافظ شيرازي، الذي يكنى في الأدب الفارسي بلسان الغيب، والذي لا يخلو بيت في ايران من ديوانه، الذي يتبرك به الإيرانيون وقد ضمنتهما قصيدتي التي جاريت فيها قصيدته وزنا وقافية.

* والقصيدة أعلاه تمّ الإشارة اليها في حلم، يتحدث فيه الشاعر الألماني فولفغانغ غوته من العالم الآخر قائلا:

انا هنا  بعيدا عنكم في عالم لا نرى بعضنا البعض كما كنا في الارض، نحن هنا بدون ملامح لكن نتعرف على  بعضنا البعض من خلال الاصوات. تعرفت على صوت: عرّف نفسه بملا صدرا وقال انهم كانوا ينادونني بصدر المتألهين. انا من كتبت (الاسفار الأربعة)،  وفيها  بيّنت انّ الحركة الجوهرية في باطن الاشياء هي اساس التغيّر فيما نشهده في الظاهر، وهذا ما اخذه الفيلسوف  الألماني  هيجل بعد ان اطلع على ترجمة مؤلفاتي الى اللغة اللاتينية، التي كان يتقنها هيجل. فأتى بمنطق الديلكتيك

اختفى الصوت، وإذا بي بصوت آخر، عرّف نفسه بأنّه لسان الغيب حافظ الشيرازي. اقشعّر بدني وأوشكت أن أسقط مغميّا عليّ فخاطبته أأنت حقّا من خاطبته في كتابي الديوان الشرقي: خذ بيدي سيدي

قال: نعم

قال ألم تطربك قصيدتي، التي مطلعها:

ألا يا أيّها الساقي أدر كأسا وناولها

قلت: بلى

لكنني طربت أكثر من هذا البيت:

إذا  لاقيت من تهوى *** دعِ الدنيا وأهملها

اختنق صوت لسان الغيب حافظ الشيرازي

وقال ادعوك:

أن تقرأ قصيدة الشاعر العراقي جميل حسين الساعدي، الذي اغرم بشعرك وشعري أظنك تعرفه. إنّه من ترجم شعرك  ومن أنصفني بقصيدته، التي تحمل اسمي

***

سأمنح القصيدة لكلاب تقرؤها

وبمخالبها تضيء المعنى

ليس ثمة معنى

خيطٌ يحفظُ بسالة الألم

يعرضُ منازل الصراخ

لقمة لقمة

فحين تبكي الكلمات

ينهارُ الحزن

يتشردُ الخيال

تصيرُ القطرات معطفا

وقناديل خائفة عند آنية السؤال

إنك إن تأتي

لا تشهق كزورقٍ غصّ بالموج

دعْ أوصالك نائمة

هزّ الدهشة بجموح العصيان

أو بحلمٍ رفرف باليأس

علّكَ من شمس الظهيرة تملأ يديك.

ما يقلق الفراشات هنا

ليست  النار أو البغاة

إنما آية الألوان الرحيمة

نزهة النسيان ضوء بعد ضوء

وان اختفى السواد من دمنا

من التقاويم

من الأسئلة التي تصطاد الهموم

فسيبقى القمر مبعثرا

من رذاذِ جسدهِ تشعُ الحسرات

رائحة الفردوس بعيدة

أقرب من سطرين

اشتكتْ منهما القصيدة

قلت في نفسي:

أيتساقط العمر دون أن تنكسر يداه؟

قبل أن يطبع الجسد إرثه بالمراثي!

***

زياد كامل السامرائي

طيرٌ أبيضُ حطَّ على دجلةَ في الليلْ،

كانت دجلةُ ساكنةً كالزمنِ المتخثِّرِ،

والأشجارُ تماثيلُ تُحدِّقُ مللاً بغبارِ النجماتِ المُتناثِرِ،

لكنَّ الطيرَ الأبيضَ شطَرَ الأفقَ،

فكانَ البرقَ وكانَ السيلْ،

*

في المَوصِلِ – مِنطقةِ الغاباتْ،

سرطانُ الحجرِ سينهَشُ جسدَ الخضرةِ – جسدَ الماءْ،

ولعينيكِ ستنزَحُ زهراتُ البيبونِ البيضاءْ،

في وطنٍ لا تلمِسُ فيهِ الطيرُ الأرضَ،

تكونينَ فناراً لفراشٍ يتشظّى في الفلَوَاتْ،

*

قد تُنسينا الدنيا أنفسَنا،

لكنْ لا ننسى كيفَ نحبْ،

قد تتابَعُ أيّامٌ متشابهةٌ لا معنى فيها،

لكنْ لا نملِكُ إلا أن نُكملَ هذا الدربْ،

قد نَعْمُرُ من بعدِ خرابٍ هذا البُنيانْ،

لكن نحتاجُ لمعجزةٍ كبرى كي نَعْمُرَ هذا الإنسانْ،

***

د.عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

المَـجْــدُ ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ ، والــشِـيَـمُ

فـي جَـوْهـرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِـمُ

*

لــمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولـدَ  الأمَــلُ

فـي الكعــبـةِ ، ازدانَـتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـــاءَ أنْ يَصطفي للمُصطـفى، عَـضُـداً

بــــه المَـسِـيـرَةُ ، نِــبْــراسٌ  ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ ، فــي يــــوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ  مِــــنْ عَـــليـائــهِ ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلــهِ ، أنْ يــخــتـــارَ  فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ ، لـِـوالِـدهــــا  أزْرٌ ، بـــه  شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـــورٌ ، فــي اقـتـِرانِـهـما

وبـارَكَ الـمُــصطفـى ، فانْـهـالـت النِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ  أحـــداثٌ  ،  مُـــؤرَّخَــــةٌ

ولـلــمَـواقِــفِ رأيٌ ،  فـــيــه تـنـحَــسِـــمُ:

*

لــمّـا فـدَيْـتَ رســـولَ الـلـه ، مُــلـتَـحِــفــا

تــصدّعَ الـقـومُ ، حـــتى بــانَ  مَــكـرُهُـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قـدْوَتَـه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ ، لـــهــا قِــدَمُ

*

خُـلِـقْــتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَــداً

لأن كــفَّــكَ ، فـــي وضـح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّــبْـرِ أمْــنِــيــةٌ ،  فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك ، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَــبْـقــريـةُ ، مُـذ  فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله ، إذ  أصـبحَـتْ  لـلـعَــدلِ،  تـحــتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ  كــلَّ  يـَـدٍ ، الـعَــوْزُ ألـجَـأهــا

حــتـى  وأنــت تُـصَلـي ، نـالـهـا الـكَــرَمُ

*

وفـي القضاء ، انـحَـنى كلُّ الـقُضاةِ  لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيـه ، فـزالَ الـشـكُ  والـوَهَــمُ

*

أنـصفْـتَ حـتى عَـلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ ) صِراط ، فــيـه نـلــتَــزِمُ

*

حــتى السِــراجُ  بـبـيـت الـمال صار لــه

حديثُ حــــقٍ ، بـــه الأمـثـالُ  تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَـعــنَـويَّـةُ ، قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

فـي نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهـَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك ، فــي قــوْمِ الـمسـيـح  لـــه

صدىً يُــعــززُ  فـــي الأخــلاق نـهْـجَهُـمُ

*

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك ، أرَّخَــهُ

مــا كـلُّ سـَــيـفٍ ، بــه الأعـداءُ تَــنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كــفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكــهُ

قــبـل الــنِـزالِ ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُــمُ

*

بـه، قَـطعـتَ جــذورَ الشِـركِ، مُــرتَـجِـزاً

واسـتسـلـمَ الخَـصمُ ، لا ســيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيــتَ، بإيـمانٍ  وتــضـحـيــةٍ

فـانْهارَ مِــن وَقْـعِـهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَــفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلـحَـمَـةٍ

إذ كــلـمـا قَــيـل:  ذا  الــكـرّارُ ، هـالَـهُــمُ

*

إذا رجَــزْتَ ،  فـلِـلأجـواءِ  هــيْـــبَــتُـهـــا

ولـِلــحَـمـاســةِ ، فــــي أصـدائهــا  حِــمَـمُ

*

تَــزلزَلَ الخَـصــمُ ، فـــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قــبـل الطِعـانِ  فـتىً ، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ  نَــفْــسَ رســول الله ، حـيـن دعـا

في (خندق) الحَـسْـمِ ، حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس  تَـهـاوى بـَـعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَـةُ الـنصـرِ، فــي قــوْلٍ يـُـجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ، وقـــد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُـمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى،  زالَ عـنه الـوَهْـمُ  والـعَـتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ ، فــي الــذي كــسـَـبـوا

ثـمّ  اقـتـدوا  بـك ، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَ الجُـنـدُ  لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا:  لا فــتـىً  إلّاكَ ،  بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى: انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ ، بالإيــجـاب  كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، لو جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجــواءَ، يَــسْـمُ بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ  والــنَـدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ ، والآفـــاقُ تَــشـــهَــدُه

قـد حَـرّكَ الـوعيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِــفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ،  وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلـعـلـم، والآدابُ تَــصـحَــبـُـه

(أيـن الأسِــرَّةُ ، والـتـيـجـانُ) ، والـخَــدَمُ

*

عَــقـلٌ بــلا أدبٍ ، مِـثـلُ الشـــجـاع بــلا

ســـيـفٍ ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول ،  للـفــرســان مـوهـبـة

والـمقـتـدون بـهــم  يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بـلـغْـــتَ فـــي صِـلةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك ، لـم تَـعْـثـرْ  به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ ، جَـعـلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً ، يـَـجْـلـي  هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثـقتْ

بـــهِ العُـقـولُ ، ومَـنْ بالـرأي  يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عــقيلاً ، إذ  أشــارَ الى:

(أم البنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ   تَــنْــتَـظِـمُ

*

فكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه ، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابـو الحـسَـنيـن ، الـعِـزَّ  في عَـمَلٍ

بــه الـكــرامـةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفـيّــةَ ، لا تــفــريــقَ فــــي  زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك،  فـيــه الحَـسْـمُ  والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك:  الناسُ صِـنـفـان  فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ ، أو فـي صفات الخَـلْقِ يَــتَّـسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المصطفى ، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

ناديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي  أتــيْــتُــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ ، حيــث الحــقُ  والـنُـظُـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن  سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ  والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

(غزّةَ) العِزِّ ما لنا لا ندافع!؟

إذ نرى الموت سادراً في الشَّوارع

*

إذ نرى اليومَ كلُّ صرح تهاوى

و الفتى الشَّهْم ما يزالُ يقارع

*

غازياً جاس في الدِّيار فساداً

بينا العُرْبُ يسردون الوقائع

*

ليسَ يُبدون أيَّ عزمٍ بردعٍ

للمعادين غيرَ عزمِ التَّطابع

*

حيث يزداد موتُ هذي الأيامى

رهنَ أيتامِ من قضنْ بالفواجع

*

إذ نرى العُرْبَ رهنَ سبتٍ تزاوَوا

موسمَ القَرِّ في الخفا كالضَّفادع

*

ليس يبدون أيَّ خيرٍ مورَجَّى

مِنْ بني العَمِّ مِنْ أصيلٍ مُدافع

*

ليس يبدون أيَّ شجبٍ و حتى

ليس يحكون كي يُنَبَّهَ سامع

*

كلُّ من كان ليس يولي اهتماماً

عندما الآن لم تطله المَدافع!!!

*

بعد ذا الضّيم ألفُ ضيمٍ سيأتي

احذروا الغدرَ ؛ فالعدوُّ مخادع !

***

رعد الدخيلي

 

للجُرحِ.. للآلامِ.. للـــــــوطنِ الذي

سَيَظلُّ رَغْمَ أَذِيِّةِ (الحَــــــرْباءِ)!

*

مَنْ أَعْمَلوا غَبَش الرؤى بصَنِيعِهِمْ

وتنَكّروا للــــــــدارِ والبُسَـــــطاءِ!

*

وشَدَا بِمُبْتَذَلِ اللُحُونِ رِخَـاصَهمْ

رفعاً لشأنِ تحالف اللقطــــــاءِ!

*

مَنْ أشهروا في وجهنا أسيافهم

وَلَدَى العِدَا انْبَطَحوا بلا اسْتِحياءِ!

*

النافِثــــــــــونَ ضِبَابَهُمْ بين الورى

كي لاتقــــــومَ قيـــــــامة الغَبْرَاءِ

*

ويَظَلْ ( زُرْقُ العينِ ) في غَلْوائِهمْ

أبداً هُـــمُ الأسيــــــــادُ عَبْرَ الماءِ!

*

تجري بشنآنِ الصليبِ (دَوابهُم)...

فوق الدَّلالِ الغَضِّ والإطــــــراءِ

*

لاكُنَّا إِنْ نَرْضَاها عـــــــاراً قائماً

فشمـــــــــاتةُ الأعداءِ شرُ بلاءِ!

*

ياويـــــلنا إنْ لمْ يَطَأْهَا أُسُودُنـا

ويُوَقِّعُ (البالِسْتي) في الأحشاءِ!

*

نصْليها نـــــــــار جَهَنَّمٍ وجحيمها

والبحـــــر (مقبرة البُغاةِ) أُوْلاءِ!

*

مَنْ قال أنَّ قَنَاتنا لانَتْ...ونَخْــــــ

ــ وَتنا تَخَلَّتْ عن عويلِ دِمَــــــاءِ؟!

*

نحنُ فِدَا (المَسْرَى) وأَهْلَهُ والثرى

يا (هيمنـــــاتُ) خُرَافةٍ.. و(خَلاءِ)!

*

ماهكذا تَــــجري ... بما لا نَشْتَهي

(كُفُّوا) .. (نَكُفُّ)...خُلاصة الأنباءِ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

يناير  ٢٠٢٤م

 

لو تسأليني في الهوى عن ديني

أنـا مـن يُـجيبكِ دائـماً فـي الحينِ

*

أنـا مُـذْ عـرفتكِ قـد تـغيّرَ مـنهجي

وتـغـيّـرَ الـتـركـيبُ فـــي تـكـويني

*

إنّـي خَـلعتُ مـعاطفي وعمائمي

ورَمــيـتُ كـــلَّ لـفـائـفِ الأفــيـونِ

*

وهــجـرتُ كـــلّ مـغـيِّـبٍ و مـخـدِّرٍ

ومــعـلّـبِ الافــكـارِ (كـالـسـردينِ)

*

يـامَنْ سـكنتِ بـخافقي وقصائدي

وسَـحـرْتِ أفـكـاري ونــورَ عـيوني

*

وتـركتني فـي الـتيهِ وحـدِي حائراً

قــد ضِـعْـتُ بـيـنَ حـقيقةٍ وظـنونِ

*

مـاأصـعبَ الـلـحظاتِ حـينَ نَـعُدُّها

فـتـصـيرُ بــضـعُ دقــائـقٍ كــقـرونِ

*

بـعـدَ الـتخبّطِ زالَ شـكّي وانـتهى

ووصـلـتُ بـعـد هـواجسي لـيقينِ

*

أدركــتُ أنّـي قـد وصـلتُ لـغايتي

ورَسَـتْ عـلى بـرِّ الـنجاةِ سفيني

*

وسـتـزهـرُ الأحــلامُ بـعـدَ تـصـحّرٍ

وتــزولُ آوجـاعـي وجـوعُ سـنيني

*

أنــتِ الـتـي خـفقَ الـفؤادُ بـحبها

وتـدفّـقتْ فــي خـافقي و وتـيني

*

وتــمـدّدتْ بــيـنَ الـضـلوعِ كـنـبتةٍ

وتـغـلغلتْ فـي الـجوفِ كـالسكينِ

*

فَـتَـحَتْ بـعـينيها جـمـيعَ مـمالكي

وتـمـلّكتْ بـالـحبِ كــلّ حـصـوني

*

واسـتـبعدتْ كـلّ الـنساءِ بـعالمي

وتــفــرَّدتْ بــالـعـرشِ كـالـفـرعونِ

*

وتـصـرّفـتْ بـالـحكمِ مِـثـلَ مـدّلـلٍ

لــم يـمـتثلْ يـومـاً إلــى الـقـانـــونِ

*

أصـبحتُ مـن فـرطِ الـمحبةِ عاجزاً

وأتـيتُ أشـكو الـظلمَ كـالمسكينِ

*

أنـا مُـذْ رأيـتُكِ طـارَ قـلبي مسرعاً

كـحـمامـةٍ هـربـتْ مــن الـشاهيـنِ

*

وأتــتْ إلـيـكِ لـكـي تُـهدّئ روعَـها

وتــنــامُ بــيــنَ الـتـيـنِ والـزيـتـونٍ

*

عذبٌ هواكِ وسـحرُ عـينـكِ قـاتلٌ

كـمَـحَـــارتـيـنِ لـلـؤلــؤٍ مــكـنــونِ

*

وجـمـالكِ الـفتانُ أيـقظَ دهـشتي

فـوقـفتُ بـيـنَ الـنـاسِ كـالمجنونِ

*

فـلْـتقبليني حـيـثُ كـنتُ كـما أنـا

بــتـهـوّري وتــصـوّري وسـكـونـي

*

أحـتاجُ حـبكِ كـي تـصيرَ قـصائدي

كـالشَدْوِ يَـصْدَحُ مـن فمِ الحسونِ

***

عـبـدالـنـاصر عــلـيـوي الـعـبـيدي

لا أعرف من أين أبدأ بالتحديد، لكن يجب أن تكون البداية قوية، مشوِقة، ولا توحي بفكرة تقليدية، المهم أن أبدأ ولا أترك الحماس الذي باغتني عند اتفاق بيع النص يتبدد إلى غير رجعة، فالأمر لم يعد متعلقًا بالأهواء المجنونة، اهدأ وتعقل، فقط امضِ في الكتابة، دون محو جملة واحدة، حتى تتخلص الفكرة من تشنجها وتسترخي بدلال مغرٍ في فراش السرد الناعم والمثير، ذات إثارة فتنتها المنعكسة في نظرات العيون المحدِقة بها، رغم أنها ليست شديدة الجمال، لكن ملامحها من النوع المحَبَب، بعينين واسعتين قد توحيان بما لا تقصد، فماذا لو أنها تعمدت، بخفاءٍ ماكر، مصحوب بابتسامة تمد أي رجل مغتَر، ومحتقن الشهوة في آنٍ واحد، بثقة أنه الرجل المختار دون سواه للتربع على عرش أنوثتها المصقولة بنهدين رائعي الاكتناز وإن تداريا خلف ثوب من الأثواب، الواسعة إلى حدٍ ما، والتي كان يحرص زوجها الغيور أن ترتديها.

هي المرأة التي كانت بانتظارك طيلة أعوام تخشُب أناملك ومقاطعتها للكتابة التي استحوذت على زهو أحلامك وانصرفتَ لأجلها عن سكينة بيت الزوجية والفرحة المتنامية مع عمر الأولاد، فلا تضِع آخر سبيل للنجاح أمامك، دونه ستظل مركومًا بين أنقاض الفشل.

وكأن تلك الثرية الملعونة تعلم كل هذا عني، وربما أكثر، لذلك عرفت أين ترمي صنارتها بالضبط، واثقة من حصولها على مبتغاها، فما عليّ سوى التفرغ وانتشال تركيزي من شتات أيامه الراكدة ضمن ذات الإيقاع العبثي الممل، حتى لو اضطررت إلى أخذ إجازة طويلة من العمل، لكني أعرف إن هذا الأمر شبه مستحيل، فأنا لست ذلك الموظف المنضبط والكفء الذي يحرص صاحب العمل على ابقائه في شركته، ولستُ الوحيد المستعد لكتابة كلماته المنمَقة التي يتحمس لإلقائها كل فترة في مهرجان خطابي يمجد الحاضر ويلعن الماضي، أو لدى اقتراب الانتخابات البرلمانية التي تؤهله للحصول علي مقعد العضوية دورة تلو أخرى، مقابل مكافأة بالكاد تنفق على ليلة صاخبة لا أمضي مثلها سوى مدعوًا خالي الوفاض، فأستغل فرصة كرم السكارى الحاتمي لأستمتع (مجانًا) بساعات الانعتاق من صرامة دنياهم الخانقة.

تُرى هل تعرف (سيدة الابداع المُشتَرى) عني هذا أيضًا؟ عليّ أن أفتش عنها في ذاكرتي جيدًا، من غير المستبعد أن أكون قد التقيتها في أي مكان اعتدت الذهاب إليه، ولو بين فترةٍ وأخرى، لكنني لا أعرف من تمتلك مثل هذه الرفاهية المسرفة إلى حد عرض مبلغ مغرٍ من أجل شراء رواية لم تحدِد موضوعها حتى، فقط ذكرتُ لها إنها تتمحوَر حول شخصية امرأة، دون أن أكشف لها عن أيٍ من ملامحها، عمرها، طبقتها الاجتماعية، صفاتها ومواصفاتها... ولا من أي بلدٍ هي، حالها حال من تراسلني، فأنا لست متأكدًا، أو بالأحرى لا أعرف حتى جنسيتها، تقيم في بلدها أم أنها مغتربة، مثل الكثيرين ممن شردتهم الحروب والصراعات وخيبة ثورة تلو أخرى، يومياتها في الفيسبوك لا تشي بشيء، اقتباسات وخواطر أدبية، بالإضافة إلى صور اغلفة نصوص كلاسيكية، أشك إنها قد قرأت جملةً منها، كما أن أصدقاءها من جنسيات مختلفة عبر العالم، على كل حال أنا لا أنوي تحديد مكان للأحداث، هذا أفضل وأكثر متعة، كي أعطي لعقلي حرية الخيال بالكامل، دون أن أخضع لأحداث أي بلد تُعتقل فيه الأفكار من قبل أن ترفرف أجنحتها.

كنتُ قد أقسمت أن تكون السياسة لديّ من المحرَمات، منذ أن استدعاني رجل أمن الكلية ليسألني عن التلميح المُشار إليه ضمن قصة نُشرت لي في إحدى جرائد الحائط، وقد رسمتُ خلالها بعض ملامح الشخصية الديكتاتورية برؤية ساخرة تثير الضحك، أجبته في ارتباك من طريقة الاستدعاء بحد ذاتها أن النص يتهكَم من الأنظمة الرجعية التي سبقت ثورتنا المجيدة، ضحكَ ضحكة صاخبة زادت من رعبي أمامه، فصرتُ أشبه بحشرة تنتظر نفخة هلاكها، حدقتْ نظراته في قسماتي المسخوطة من شدة الخوف.3314 رواية للبيع

أخيرًا رقَ قلبه لانكساري وتشبثي بحبل نجاة راح يتفلت مني دقيقة تلو أخرى، قال كما لو أنه يهدئ من روع طفلٍ تائه عن والديه إنه سوف يتناسى الأمر برمته لأنه يتفهم نزق الشباب وانفعالاته غير المحسوبة، ولأنه أيضًا لا يريد لموهبة مثل موهبتي أن تضيع سدى، أو ربما يتم استغلالها من قبَل أعداء الوطن بحجة كبت الحريات...

خرجتُ شبه مهرول من غرفة مكتبه المنزوية قريبًا من بوابة الكلية، اجتزتها كما لو أنني في مطاردة ستجوب بي أنحاء المدينة بلا توقف لإلتقاط الأنفاس المبعثرة مني في كل شارع  وزقاق أمر فيه سريعًا ومن يلاحقونني يقتفون أثر خطواتي الراكضة بلا كلل يهبني فرصة الخلاص.

في تلك الأثناء بالتحديد كانت تمر، شخصية السرد الأولى أقصد، في شارع جانبي، بسيارة صغيرة وقديمة الطراز لا يمكن أن تجذب الأنظار، تحدِق بين دقيقة وأخرى نحو المرآة الصغيرة المعلَقة أمامها كي تتأكد إن ما من سيارة تتعقبها، رغم أن ما من سبب يستدعي قلق السيدة المهابة، ذات السطوة المتنامية في بلادٍ تتغير وجوه صفوتها كل حين، بينما عرفتْ كيف تركن إلى الجانب الآمن، المستظِِل بسلطة القيادات العليا، منذ أن ذهبتْ إلى قصر الرئاسة كي تعلن براءتها من زوجها المعدوم حديثًا بتهمة الإعداد لانقلاب مدعوم من قبَل جهة أجنبية، نالتْ صك الغفران ومباركة بطل الأمة، وهو على أعتاب بدء مرحلة (نضال) جديدة، بعد أن تراءى للكثيرين إن دعائم نظامه موشكة على الانهيار...

البيت الذي اشترته وجددت بناءه، من الداخل فقط، ثم فرشته بأثاثٍ فاخر مع كافة مستلزمات الحياة المريحة، يقع في حيّ متطرف بعض الشيء عن المدينة وضوضائها، بدأ بعض الأغنياء يشترون البيوت القديمة هناك كي يهدمونها ويبنون محلها بيوتهم الفاخرة، لذا تبدو المنطقة شبة خالية، إلا من الحرّاس، عند حلول المساء، بعد انتهاء يوم عمل طويل ما بين هدمٍ وبناء، أوقفتْ السيارة في مرآب الدار، خلف سيارته الجديدة التي أقنعته بشرائها لتناسب وضعه الجديد، تنهدت متذمرة من عدم مبالاته بما طلبت منه، أن يفعل مثلها، فيستخدم سيارة أخرى عندما يلتقيان، ثم أنه لم يغلق الباب الحديدي العالي، والذي كان من ضمن التحديثات التي قامت بها في حصنها الهادئ، حريصة ألا تكشف عنه لأحد، لم تبين له ضيقها كي لا تثير حنقه من تنكرها له ولتلك اللقاءات المنفصلة عن كل ما يتعلق بحياة كلٍ منهما.

"لا يريد أن يفهم أني أخاف عليه أكثر مما أخشى افتضاح سر علاقتنا، رغم أنه يعرف جيدًا ما الذي وصلت إليه، وكما إن هناك الكثير من العيون التي تنظر إليّ بمهابةٍ أكثر من مهابة أي وزير وتتوَسل التقرب مني، هناك آخرون يترصدون تحركاتي ويريدون الإيقاع بي، إما بغية الانتقام من منافسيهم الذين ارتبط معهم بمصالح تعزز من مكانتهم داخل وخارج البلاد، وإما لغرض الابتزاز كي أنضم إلى فريق آخر من الفرق المحتمية بقبضة يدٍ قوية لا يمكن أن تضعف، والأهم ألا تبدي ضعفها، فأكون من أوائل المطرودين من الجنان السيادية".

السيادية، أم المخلبية، الحديدية… المباركة؟ لا يهم الآن، قد أعود إلى تحديد المفردات بدقة فيما بعد، لا يجب أن أجعل التحيّر في انتقاء كلمة حجتي للتلكؤ وأنا في خطوات البداية، حتى أنها وحبيبها لم يلتقيا بعد، لم يعتصر جسدها ولم تعانقه كما تترجى أشواقها نحو رجلها الذي جعلته مؤهلًا لمشاركتها الفراش بعد طول فراق سبق زواجها الأول.

بددتْ حياته الشقية بالكامل، استبدلت خيباته بآمالٍ وأحلام لم يصلها خياله المجهَد من عناء سنواتٍ أمضاها ما بين حروب الجبهات، وحروبٍ أخرى كانت بانتظار نزعه البزة العسكرية الملطَخة بدماء رفاقٍ لم تُكتب لهم الحياة، لفظوا أنفاسهم الأخيرة أمامه، وسط أدخنة النيران المتصاعدة من كل صوب، لم يستطع أن ينقذهم تعالي صراخه في فضاء البرية، ولم تخمد جذوة الحياة في روحه تمامًا ليسَلِم نفسه إلى ذات المصير، فظل يمضي متطوِحًا في عرَض الصحراء، بما تبقى له من أنفاس تخفق بين أضلع صدره، حتى تمكن من الوصول إلى الخطوط الخلفية…

تعانقه بحنوٍ كادت تنساه في غمرة صخب دنياها داخل قصورٍ توصد أبوابها على أسرار السلطات العليا، دولة أخرى ما كان يمكن لها أن تتخيلها من قبل، ولجتها بنظرات متلصصة وأذنين تسترقان السمع على همس الشفاه الغليظة المتفوهة بالخطب الرنّانة المهللة بأروع الانتصارات على الدوام.

تشتعل حمى رغبته أكثر وأكثر ليؤكد لذة انتصاره على سادة دمار أعمار كثيرة، لا عمره فحسب، ولأطول وقتٍ ممكن، يستملكها بين ذراعيه فوق أحد أسرتهم الوثيرة، كما تهيء له مخيلته الشاردة في كل اتجاه وكأنها تجوب الصحراء الفسيحة التي عبرها من قبل، رغم تأكيدها له إنها جددت الدار واشترت كل أثاثه لأجلهما فقط، لا سرير العشق والأشواق الصاخبة فحسب، بمنأى عن كل شيء آخر، هي ذاتها تكون معه امرأة أخرى، فتاة في العشرينات من عمرها، ظلت تنتظره ولم تتزوج غيره، لم تنجب ابنة صارت في زهو الشباب.

جميلة، جميلة جدًا ومثيرة، بدأ الشبان بملاحقتها، مما زاد من مخاوف الأم، لذا عملت على إقناعها بالسفر إلى الخارج من أجل إكمال دراستها، إلا أن الفتاة عاندت رغبة والدتها في إبعادها عن وحل المصالح والشهوات، أخبرتها في تحدٍ عنيد إنها تريد أن تكون محظية مثلها، صفعتها، ضربتها بقوة، ثم احتضنتها وأخذت تشاركها البكاء… دراما مسرحية كلاسيكية سأحاول التخفيف من وطأة انفعالاتها عند الكتابة.

أشد ما كان يؤلمها حقًا، أكثر حتى من كل الثرثرة التي تداني الهمس حول سمعة والدتها وخفايا مغامراتها المثيرة للشهوة والحنق في آنٍ واحد، تلك الشائعات التي ظلت تتسرب إليها كالسم الزعاف كل حين بشأن ابلاغها عن والد ابنتها الوحيدة، أقسمت لها مرارًا إنها كادت تلاقي ذات المصير لو لم تعلن براءتها من زوجها المعدوم، ومن ثم الإذعان لمطالب السلطات الأمنية، بأن تكون من أعوان النظام وتنفذ بلا نقاش ولا تردد، لأي سبب كان، كل ما يًطلب منها.

"ماذا كنتِ تريدين مني أن أفعل؟ أختار الوفاء لميِت لم يفكر في ما يمكن أن نواجهه جراء تهوره وحماقته وأضَحي بحياة ومستقبل طفلة بعمر العامين!..."

داهية هي في الإقناع، وبقدر ما لديها من سحر وإثارة يكاد لا ينجو منهما أي رجلٍ يلتقيها،  تمتلك أيضًا صرامة مخيفة تجعل المرء يحتاط في التعامل معها، وكذلك يتخوف منها، من مدى تأثيرها عليه أن سلًم نفسه لإغرائها، من قدرتها على الاستيلاء على ما تريد دون أن يستطيع أقوى المنافسين، أو المنازعين، الوقوف في طريق مصالحها المتزايدة والمتشعبة في كل مكان، حتى هو ـ حبيبها القديم ـ صار يتوَجس من المرأة مغدِقة الحب والحنان والأنوثة بين يديه وفي أوصاله، يدرك أن كل هذا قد يتحول إلى النقيض ما أن يثير غضبها بأي تصرف تلاحظ أنه يدور خارج فلك إرادتها إلى الحد الذي لا يمكن لها التجاوز عنه وكأنه لم يحدث.

عاتبته عندما قرر الزواج دون أن يخبرها، أخبرته إنها فوق كل منافسة مع أي امرأة أخرى، ولو تزوج وطلق العشرات ستبقى لعلاقتهما خصوصية تسمو فوق أي ارتباط يجمع أي إثنين، ولمّا أخذ يتوَسع في تجارته أبلغته بغنجٍ يغشى صرامة أمر لا مجال لمناقشته أن يأخذ رأيها في كل ما يود فعله، في أمور عمله خاصة، لا أن يتركها تعرف عنه ما كان يجب أن يخبرها به بنفسه، لأنها تعرف ما لا يعرفه أكبر تجار البلاد الذين يسعون لكسب رضاها من أجل تيسير أعمالهم ومضاعفة أرباحها، فلا يجرؤ أن يجادلها أحد بشأن أي نسبة تقررها... ثم يجب ألا ينسى إنها شريكته، حتى وإن كان كل شيء مسجلًا باسمه، دون أن تأخذ عليه أي ضمان، معها سوف يعلو ويعلو بسرعةٍ لا يدركها عقله، وقد أدركه الوهن قبل أن تعثر عليه كي تجدد معه عنفوان الشباب الآخذ في الأفول.

"إياك أن تتلاعب معي، حتى لو كنتَ الرجل الوحيد الذي أحببته يمكن أن تصيبك لعنتي التي يخشاها الجميع..."

كوَمتُ الكثير من الأحداث مرةً واحدة، وبسرعة استغربتُ تدفقها، بغزارة منعشة بعد جفاف سنوات ظننت خلالها إني لن أعاود الجلوس لساعات كي أنصت إلى شخصيات ترتسم في مخيلتي كما أشاء، بالتأكيد تحتاج إلى الكثير من التشذيب لدى تجسيد ما كتبته في أسطر ضمن أحداث تلملم شتات العاشقين.

عشق حقيقي أشقاه ظمأ الحرمان طويلًا، أم سيل من الشهوات المسترسلة ضمن رغبة في التملك والاستحواذ والسيطرة؟ في كلتا الحالتين تتحول علاقتهما إلى حرب خفية تدور بينهما في سوح الفراش، محاولة للتعويض تبقى دون ارتواء، وقد فقدَ كل منهما طمأنينة أحلامه التي كان يجدها في عينيّ الآخر، يشعر بها ولو عبر لمسة حب دافئة وقبلات لا يسعيان إلى تفسير خباياها...

تداعيات مشاعر وهواجس مضطربة تواصل التدفق كي تطرز ثنايا السرد، يمكن للاسترسال في تفاصيلها ملء عشرات الصفحات، قد لا تستحقها ثَرية الماسنجر، لكنني لا أستطيع خنقها داخلي ما دمت قد غطست في بحر الحكاية.

حكاية امرأة جدلت شخصيات العديد من النساء قبل ملامح وجوههن وإغراء أجسادهن، رغباتهن تتحول إلى أوامر، حتى لو نجحنَ في تجسيد دور الضحية المغلوبة على أمرها، تنساق مرغمة نحو شهوات ذوي النفوذ والسلطة، تترك مخالبهم تنهشها باستكانة الضعيف الخاضع للمهانة في صمتٍ أقرب إلى الخرس المخَضَب بدموعٍ اعتادت التواري عن الجميع...

ليس مثل هذه المرأة الذليلة من تغريني بولوج عالمها المنغلق على نصوص كلاسيكية تثير السآمة والجزع وتشحن العواطف والانفعالات الباكية، إنما المرأة التي تجبرني على عشقها، رغم كل ما تبدي من غطرسة، أتشبث بها لتكون وسيلتي إلى مكامن خصوصيتها التي تريد دومًا حجبها عن العيون لئلا يُستشعر فيها ضعفًا يتم استغلاله من قبَل كل من تعرف، لا الرجال المنجذبين إلى سحرها الأخاذ فحسب.

توَجهني ثرثرة أفكاري، عن عمد أو دون عمد، نحوها دون سواها، زميلتي المثيرة أكثر من أي امرأة عرفتها، أدركتْ مغزى نظراتي المخاتلة، مثلي مثل الكثيرين، نحو مفاتنها التي تبدو لي أشبه بشاشة عرض مستمر تتحرى عن أثر إغوائها في نظرات العيون المتطفلة لتتخيّر هي أي عينين تستحقان اقتناصها، إذ تتحول من فريسة عصية على الإمساك إلى مفترِسة يسوق الدلال طريدتها المستمتِعة بوهن الاستسلام حتى النهاية نحو شَرَك مخالبها الناعمة.

كثر الكلام وتنوع بشأن علاقاتها وعشاقها، صدقتُ بعض تلك الشائعات وكذبتُ البعض الآخر، لعل أكثرها مثارًا للدهشة أنها مبعوثة صاحب الشركة إلى من يود الدخول معهم في شراكات وصفقات كبرى لإقناعهم بشروطه، أغلبهم من الأجانب الذين يأتون في زيارات سريعة من أجل الاستثمار في بلادٍ يتسول أبناؤها فرص العيش عبر قارات الدنيا، لكنني أجد في هذا الأمر مبالغة كبيرة قد تصلح لأحد أفلام الإغراء والسلطة والمال التي تجذب الكثيرين من أجل متابعة مشاهدها الجريئة، تبقى دون غيرها في الذاكرة، أيضًا قد تناسب رواية أسعى أن أتناول من خلالها تلك الشخصية الثرية، التقليدية لدى البعض، بشكل مختلف تمامًا، ولم أعرف أن الفكرة التي داهمني سياق سردها بسرعةٍ غريبة ستكون بمثابة مسرى اللقيا الحقيقية لبدء حكايتنا، بعيدًا عن إغراء المال أو أية مصلحة، فأنا بالكاد أستطيع كل حين طرق باب دار فتيات كادحات يرضينَ بالقليل ضمن الواقع البائس الذي اضطرني إلى كتابة رواية في مقابل حزمة من النقود، تلَوِح لي بها امرأة مجهولة كل صلتي بها مراسلات محتجَبة داخل هاتف بحجم قبضة اليد.

**

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

...............................

* فصل من رواية "رواية للبيع"

لم يصدقوني حين اخبرتهم

بانني أحلم بكتابة قصيدة عن:

خردوات هذا العالم النتن

واعواد المشانق في الحقول الملغمة

والرصاصات الفارغة

وشوارب الطغاة وشوارب النساء

وخصلات شعر مريض بالسرطان

وشعراء يمدحون الزعيم بلا مقابل

والمقابر الجماعية

والابادة البشرية في غزة

وارهاب الغرب الصهيوني

وغيبوبة الحكام العرب

الذين لم يتم الكشف عن اسمائهم

والخيانة العربية الكبرى

وواقيات منع الحمل للتماسيح

وديناصورات الفراعنة الجدد

ومافيات الامم غير المتحدة

وحمير الجامعة شبه العربية

وزعماء يتنزهون على دبابة اسرائيلية

وآخرون خائفون من فزاعات الطيور

والجنود الكسالى الذين يعانون من فوبيا الحرب

وبنادقهم الصدئة

تخطئ هدفها من نقطة صفر

كلما رن جرس أو صفارة انذار

يلهثون خائفين مذعورين

لم يطلقوا رصاصة واحدة

منذ انخراطهم في جيش الدولة

يا له من عمل شاق

ان تكون جنديا في معسكر النيام

هناك تقارير عن اصابة الاشجار

بدوخة الدوار

من فرط الوقوف وراء الظل

وانباء عن المعارك الضارية

ضد جيش يتغوط في الحفاظات

وهل احدثكم عن الطائرة الورقية

التي حلقت فوق سماء تل ابيب

ثم رجعت سالمة

الى سلة المهملات

صدقوني سانهي عملي بسرعة

ولن أقول شيئا عن كلاشنيكوفات

التي قيل انها تنموا كالسنابل

في حقول الغضب

وعن علماء البيئة في الدول شبه العربية

الذين يقيسون الاحتباس الحراري

ويضعونه في خرج بغلة

لاستنساخ انسان عربي

قابل للتقلبات الجوية

***

بن يونس ماجن

 

جالس في مكانه قرب حاجز شرفة غرفته، يتأمّل الغروب وهو يهبط على سطح النّهرِ، متّكئًا بمرفقه إلى حافّتها. كان يسند وجهه بقبضة يده بينما تفعمُ أنفهُ رطوبة المساء، لقد كان مُرهقًا.

عبَر بعض المارّة، واجتاز الشّارع بائع الحلويات بعربته، فسمع وقع خطاه يتردد على حجارة الكورنيش السّوداء، ثم يختفي بغوصها في حصى الطّريق المؤدي إلى الساحة المحاصرة بالمقاهي.

في يومٍ ما كان هناك ميدان مفتوح اعتاد أن يلعب فيه مساءً مع صبيان الحيّ، قبل أن تحوّله البلدية إلى متاجر صغيرة ومطاعم ومقاهٍ.

كان أطفال الحي يتنافسون معه بضراوة ويكيلون له الشتائم كلّما فاز بلعبة التيَل (الجلّة). أمّا أخوه الأكبر كان يتظاهر دائمًا بالانشغال بحجة أنّه كبُرَ على اللّعب معهم. كان الأولاد يتفرّقون خائفين عند نزول أبيه الضّخم من السيّارة العسكريّة، برغم أنّه لم يكن يزعق بهم أو يوبّخهم. لم يكن أبوه سيئًا تمامًا في ذلك الوقت وعلاوة على ذلك كانت أمّه على قيد الحياة.

لقد مرّ زمنٌ طويلٌ وكبر فيه أطفال الحيّ وتفرّقوا، ونضج هو، وماتت أمّه ولحق بها أبوه، ورحل أخوه إلى الغرب، كلّ شيء يتغيّر. وها هو الآخر اقترب عامه الستين وبات يشعر أنّ النّهاية دنت منه أكثر.

النّهاية!.. جال بعينيه في المكان بدءا من غرفته التي تطلّ على الشّرفة بكل ما فيها، الشمعدانات البرونزيّة التي أهدته إيّاها زوجته في مناسبة زواجهما العاشرة، اللّوحة الباهتة وقد اقتناها من معرض أحد أصدقائه وهما في ريعان الشّباب، حتّى الساعة العاطلة بجانب صورة زوجته، نزولًا إلى بوابة بيته العتيق، وحجارة الحيّ، وكتف النّهر، والعربات الجوّالة، وصدى أصوات الباعة، وضحكات الأطفال، ربما سيفارق كلّ هذه الأشياء التي شكّلت وجدانه، ماضيه وحاضره، وكلّما تذكّر زوجته المتطلّبة أشاح نظره عن الصّورة.

- زوجته التي تحبّه وكأنّها تملكه.

لقد خففّ من التزاماته الكثيرة نحو الأنشطة الإضافية التي لم يطمح إليها يومًا، واهتماماته بالعلاقات الاجتماعية، واقترب من عزلته أكثر. تساءل إن كان ابتعاده قرار حكيم؟

حاول أن يوازن بين طرفي المسالة. أنجز مهامه الكثيرة نحو الزوجة المستقلّة بعملها، وأبنائه الذين كبروا وهم يواصلون حياتهم كما يفعل الكثيرون ذلك، عدا ابنته الصّغيرة التي يحبّها كأمّه.

منح الحياة كل ما يجب، كان عليه يضنى تعبًا ليكون أبًا صالحًا بما يكفي، وحان دوره ليأخذ من الحياة ما يجعله أكثر حيويّة ويفعل ما يتمنّى منذ زمن بعيد، لم يعُد هناك من يُملي عليه انتماءاته الفكرية، وليس هناك من ستملي عليه واجباته التي لم يعُد يجد منها جدوى، فهو على وشك أن يستكشف الحياة التي طالما تمنّاها، سيرتاد المكتبات التي يعشقها أكثر من أي شيء، ويزاول موهبته القديمة في المحترف، ويبحر بمركبه الصغير نحو الفكر والتّأمل والتّأليف والرسم.

ماذا سيقولون عنه في العائلة، ربما سيتّهمونه بأنه عاشق يعيش مراهقة مشوّهة، أو يريد الزّواج من أخرى. لن يبرّر اختياره بأن يعود للسّكن في بيت عائلته القديم وحده، سوف ينظر إليه النّاس باحترام حينما يرونه يدخل وحيدا ويخرج وحيدا، إلا من كتاب يخرج به إلى المقهى، أو للشاطئ.

اشتدّت ظلمة المساء فصارت ألوان أضواء المدينة أكثر سطوعًا على وجه النّهر. غاب الشّفق الارجواني، ولم يعد قادرًا على قراءة الأوراق على الطاولة الصغيرة إلى جانبه، وقد بدأ في الصّباح كتابة مسوّدة مقال، خطّط أن ينسخ مقالته على الوورد حين ينتهي منها، انتبه إلى بعض الأوراق تخفي كتاب "بؤس الفلسفة" لماركس، فتذكّر والده وتلك المشاحنات البغيضة التي كان يتعرض لها في شبابه المبكّر بسب أفكاره الشيوعيّة، وخيبات أمّه الحزينة كلّما طُرِد من البيت. وتذكّر بعد مضي السنين آنذاك كيف ضحكا معًا على تلك الفكرة البائسة، وقبل وفاة والده كان منشغلًا بلحيته التي نافست حبيباته بالاهتمام بها، ها هو الآن لا يتفاجأ بتحوّلاته بعد أن مال إلى اليمين.

كان الوقت يجري، لكنّه استمرّ في جلوسه متّكئًا بكوعيه إلى حاجز الشّرفة، وهو يسند رأسه إلى كفّيه، ترامى إلى مسمعه صوت امرأة عجوز من الشرفة القريبة، فتذكّر آخر ليلة من مرض أمّه، كانت أيضا في الغرفة الكبيرة على الطرف الآخر من الدور ذاته، حينما ودّعتهم بألم، أخذ يفكّر بصورة أمه المُتعبة وحياتها التي امتلأت بالتّضحيات، وجفل حين شعر بالقلق الذي لازم أبيه لحظة فراقها.

كما لو أُخِذَ فجأة من شروده وقف مسرعًا حين انتبه إلى هاتفه الجوال وقد أومض تاريخ ذكرى يوم زواجه على الشاشة، شعر بالانقباض وهو يغادر الشّرفة، غامت الأضواء التي تتراقص مع أمواج النّهر وشكّلت سحابة متلألئة، بحث عن معطفه ولم يكن في عينيه علامة لحزن أو غضب أو حتى قلق حينما غادر المكان.

***

قصة قصيرة

ريما الكلزلي

ببطء قاتل يمر الوقت. حاولت ان الوذ بشيخ همنغواي. هاهو في عرض البحر يصارع سمكته الكبيرة. وانا هنا اصارع قلقي. تركت الشيخ جانبا. فنجان القهوة امامي لا يزال ساخنا كقلقي. الرشفة الاولى حرارتها شيئا عادي بالنسبة لما احسه. ادرت المذياع بصوت منخفض. مطربة من الصف الاول تزعق ترحب بالربيع. اي ربيع هذا والوحول والموت في الشوارع والاف الناس ترتجف من البرد والخوف:

ـ انها لن تثير فيك سوى احساسا بالقرف.

بالضبط، هذا ما قاله مرة (سهيل) عن اغان كهذه. لم احتمل فحيح المطربة، ولم احاول البحث عن محطة اخرى. اغلقت المذياع. طرق على باب الغرفة المجاورة. من اية جهة يمكن للربيع أن يأتي إذا كان ثمة أبواب مغلقة. ضحكة خليعة تتعالى من الغرفة المجاورة. صوت المفتاح يدور في القفل بسرعة. الى متى سنحتمل البقاء في هذا المكان الموبوء. عدت للشيخ مرة اخرى. ها هو سمك القرش اصبح خطرا يهدد سمكتك ايها الشيخ واصبح حاجزا امام تحقيق حلمك بان ترجع ظافرا بسمكة كهذه.. ولكن كيف للحلم أن يتحقق؟

ـ من اجل ان تحيا عليك ان لا تخون الحلم.

آه يا سهيل..سأحيا كما أريد وكما كنا نحلم وستظل كلماتك ترافقني دوما تنتظم مع دقات قلبي..

ـ طق.. طق.. طق!3282 يوسف ابو الفوز

أضطربت يداي.. تركت شيخ همنغواي يسقط على الوسادة. تحفز جسمي كله للطرقات الخفيفة على الباب. هاهو (وافي) اخيرا.. كالعادة.. ثلاث طرقات خفيفة بطرف السبابة. وفتحت الباب. كان ياسر عرفات يحدق بي بثقة ويحك ذقنه بأصابع كفه الايسر ويشماغه يبدو متربا، وهو يطل عليّ من على صدر الصفحة الاولى للصحيفة التي يحملها وافي، الذي فضح كل ما أريد بابتسامة عريضة. أحتضنته.. اخيرا سألقاها، ولوافي ابتسامة تذكرني دوما بعيني سهيل، فهما تومضان بالحقيقة.. ونظرة واحدة لهما كافية لاختصار كل الجمل وهذا ـ الملعون ـ وافي احيانا يتعمد أثارتي ويجعلني أسخن حتى العظم ليراقبني أغلي، لكنه الان وبأبتسامته المحببة عندي أعاد الي الكثير من هدوئي. ناولني مظروف فتحته. قصاصة ورق صغيرة. أنه خطها. وبسرعة تحركت. يجب ان أصل مبكرا. الموعد اليوم. ارتديت بنطالي الوحيد وانتزعت قميص وافي من على كتفيه ـ وسط إحتجاجه ومزاحه ـ فهو يبدو منسجما أكثر مع جاكت أخي الذي اعارني اياه. صففت شعري على عجل. كان وافي يدور حولي ويضحك من هيئي الجديدة. فعلا أني أبدو اكبر من سني بملابسي القاتمة وبنظارتي الطبية المزيفة والشارب الكث الجديد وشعري الذي تركته يطول قليلا. شد وافي على يدي،أوصاني بالحذر، تمنى لي التوفيق وهمس :

ـ أني فخور بك.

لم ادعه يسترسل في عواطفه، و.. استلمتني شوارع وساحات المدينة الكبيرة. وحتى يحين الموعد لا تزال امامي ساعة كاملة، فتركت الباص ينقلني في جولة صغيرة في المدينة. ووسط كل هذا الضجيج والازدحام والشعور بالغربة ما يثير شجونك، ان تكون الشوارع الرئيسية محظورة عليك، وتختار الازقة كي تحافظ على نفسك، فهذا ما يزيد احساسك بالغربة، وان تشعر بان الهواء الذي تتنفسه فاسد، فهذا مما يزيد من سخطك ويشعرك بان كرامتك مهددة وأنك..

ـ ان أثمن رأسمال لدى الانسان هو كرامته.

لا أزال اتذكر كلماتك هذه يا سهيل. لقد قلتها لي حين زرتني لمدينتي الصغيرة بعد اعلان خطبتكم انت و (نادية).. ولكن.. اين لي أن ألتقيك بعد الان؟ ها هي يا سهيل مدينتك، التي طالما دعوتي لزيارتها، أحل فيها ضيفا بدون دعوة. لست وحدي. وأنما معي الكثير.. والكثير من ابناء المدن الصغيرة الذين ما أن يطالع احدهم وجها مألوفا لديه حتى تدور عيناه بسرعة تبحثان عن اقرب زقاق لينقله بعيدا. هاهو الشارع المذكور بالقصاصة امامي، يموج بحركة الناس والسيارات. وذلك هو موقف الباص المعني مزدحما كالعادة. امراة وجهها مدهون كالدمية، كوجه المومس التي تدور كل جمعة بملابسها الفاضحة على غرف بيت العزاب، حيث نسكن، تعرض سلعتها. وجوه اخرى متعبة. عيون ذابلة. صبية بعينين ناعستين ومراهق يحوم حولها بملابسه الامريكية الصنع الفاقعة الالوان يبدو كواحد من مهرجي السيرك. عجوز متعبة تفترش الارض. رجل بوجه مجدور يدخن سيجارة اجنبية غزت الاسواق مؤخرا يغمز للمرأة الدمية وتبتسم. وهنا في هذا المكان يجب ان انتظر. دقائق وتصل. هي دقيقة في مواعيدها. في القصاصة التي جاءني به وافي ثمة خطان رفيعان تحت كلمة (بالضبط). الساحة في مواجهة الموقف تمور بالناس يسيرون في مختلف الاتجاهات. بماذا يا ترى يفكرون؟ ومن على عمود كهرباء قريب، وكأي جدار ولوحة اعلانات في هذه المدينة الكبيرة، كانت فلسطين تطل تراقب الناس. وحدقت جيدا بالملصق. وجه حليق.. ابتسامة حزينة.. بالتأكيد كان يدري ان صورته ستحتل يوما ما زاوية في جدار حيث يكتب في اعلى الملصق اسمه تسبقه كلمة الشهيد. ولكن يا للسماء.. لكم تبدو هاتان العينان كعيني سهيل؟! تومضان بالحلم. يا ترى إذا هو الشيء الذي يوحد ما بين الشهداء؟

ـ حين تكون قضيتك عادلة لا تبخل عليها بأي شيء.

نعم.. نعم يا سهيل وهل بخل هذا الشهيد بحياته على فلسطين؟ وانت يا سهيل؟ ألم..؟ قد يموت جسد الشهيد يا سهيل لكنه يبقى متواصلا مع هذه الحياة من خلال القضية، من خلال الذين أحبوه.. الذين يسيرون على نفس الدرب.. الذين يريدون العيش بكرامة.. الذين..

ـ مساء الخير.

عيناي في عينيها.. الساحة تمور بالناس.. وعلى سريري تركت شيخ همنغواي يصارع سمك القرش، ومن عيني الشهيد كانت فلسطين تراقبنا، وفي عينيها كان سهيل ينتصب عملاقا.

ـ لننتقل لمكان أكثر آمنا.

وسرنا متجاورين. كنت لا ازال قلقا. من أين سأبدا مع نادية. هذه الفاتنة التي تسير بجواري. زهرة فواحة بمستوى الحلم. وكما عرفتها قبل سنين. مشرقة الوجه دوما رغم خطوط الحزن الخفية. استشهد خطيبها تحت التعذيب بطلا. واغتصبها جلادوا خطيبها بعد ذلك بشهور. ولكنها تبقى شامخة كالقضية التي من اجلها تعيش. مع انسانة كهذه يجب أن اتجاوز كل العبارات التقليدية. ولكن من اين سأبدأ مع نادية؟ من اين سأبدأ مع كل هذه الثقة والاحساس بالقوة. وجاءني صوتها قوي النبرات صاف كطيبتها:

ـ إذا كان ما عرضته في رسالتك بدافع الشفقة. أو لردم ثغرة، فأنت تعرف أني اخترت هذا الطريق بوعي كامل. وانا على أتم الاستعداد لتحمل كل نتائج هذا الاختيار، وقادرة على مواجهة ادران هذا المجتمع و..!

ولم ادعها تكمل. في غرفتنا، في بيت العزاب الموبوء بالمومسات، حين أخبرني وافي انه عثر على صديق يمكنه من ايصال رسالة الى نادية، قضيت نهارا كاملا وانا ابحث عن مفردات اسطرها في رسالة قصيرة. كان وافي يدور حولي يضحك على المسودات الممزقة تحت السرير. والان لا أدري من اين لي كل هذه القدرة على الحديث. ها أني اشعر ان سهيل في كل خلايا جسمي. يحثني على التمسك بالحلم. يدلني على أبواب الفرح، اخبرتها بأن شيخ همنغواي لم ترهبه اسماك القرش.. فالإنسان لم يخلق للهزيمة.. وكان موج البحر في عينيها، ونوارس قلبي تصعد وتهبط. اخبرتها ان رسالتي حملت لها قرارا لن أندم عليه، وبأمكانها ان تفسره كما تشاء على شرط استثناء دافع الشفقة. كان سهيل يجد نفسه في عباراتي. وتحدثت لها عن الحلم، القضية، الشهداء، المستقبل والوطن. تحدثت كثيرا، ولم انتبه الى اننا قطعنا مسافة طويلة، واجتزنا ازقة عديدة. كنا في نهاية زقاق أسلمنا الى بداية شارع واسع تحف به اشجار عالية من جانبيه. وانعطفنا باتجاه عمق الشارع. كنا نسير متجاورين. خطواتنا بإيقاع واحد. كنت لا ازال مستمرا في الحديث وبنفس الاندفاع.. و.. احسست بأصابعها الدافئة تشبك اصابع يدي وتضغط عليهما. ها أني ارى سهيلا خلف كل شجرة يباركنا. الليلة سيرقص وافي فرحا. وأنى لكم ايها الجلادون ان تفهموا ان اول مولود ذكر سيأتي سأطلب من نادية ان نسميه سهيل. أنى لكم ايها الجلادون ان تفهموا ان للربيع أبوابا سرية يدخل منها الفرح ولا تستطيع سدها كل أبواب زنازينكم النتنة.

***

يوسف أبو الفوز

22/10/1979 ــ الكويت

3283 يوسف ابو الفوز

قصة من تلك الأيام.. في عام 1979، في الكويت..

كتبت هذا النص، في دولة الكويت التي وصلتها مشيا عبر الصحراء، بعد اضطراري لترك وطني أثر القمع البعثي العفلقي الصدامي الوحشي لكل من رفض سياسة التبعيث الشوفينية الفاشية. نشر النص في نفس الفترة في مجلة العامل الكويتية ووقعته بإسم مستعار (شياع مساعد فهد) ـ لاحظ تركيبة الاسم ! ـ. لابد هنا من الاشارة بتقدير كبير الى موقف الصحافة الكويتية الديمقراطية، واحتضانها لاقلام العشرات من الكتاب العراقيين، اليساريين والديمقراطيين، الذين وصلوا الكويت تخلصا من عسف وارهاب نظام حزب البعث الذي كان يتشدق بديماغوجية مقرفة بلافتات القومية والحرية. تجدر الاشارة هنا خصوصا الى مجلتا (الطليعة الكويتية) الاسبوعية و(العامل) الكويتية الشهرية، اللتين فتحتا صفحاتها، امام جملة من الكتاب العراقيين، الذين وتحت اسماء مستعارة راحوا ينشرون كتاباتهم السياسية والادبية، التي صارت تغيض سفارة النظام الديكتاتوري كثيرا، مما عرض مجلتي الطليعة والعامل الى العديد من الضغوط والاستفزازات من قبل سفارة النظام الديكتاتوري في دولة الكويت.

* النص أعلاه من مجموعة اول كتاباتي القصصية، ستنشر قريبا ضمن مجموعة قصصية تشمل اغلب الكتابات التي نشرت في الدوريات الكويتية ، واغلب النصوص تستند الى تجارب حقيقية عاشها الكاتب ومن حوله من رفاقه واصدقائه ، سيلمس القاريء اللغة الحماسية ـ المباشرة ـ المعادية للديكتاتورية والعسف ، وايضا لفت انتباهي أن فلسطين حاضرة بقوة في النص والصورة!

لابد من توجيه التحية لجندي مجهول حقيقي رفض الافصاح عن أسمه بذل جهدا مثابرا للحصول على نصوصي المنشورة في الصحافة الكويتية وارسلها كأجمل هدية.

ربطت بيننا، عيسى الناعوري وأنا عادل الجبوري، علاقة محبّة ومودة قديمة موغلة في القدم، أكادُ من شدّة قدمها لا أتذكر كيف وأين بدأت، هل بدأت يوم التقت نظراتنا خلال لعبنا في جنينة البلدية؟ أم أثناء غذّنا الخطى متسابقَين، عن قصد أو غير قصد، لزيارة مكتبة مجلس عمّال الناصرة على اسم فرانك سيناترا، هل بدأت يوم جلس كلٌ منّا يحمل كتابَه بيمينه ويُقلع في عوالم خياله إلى آفاق تنطلق من جنينة البلدية تحتويها وتطير مُحلّقة إلى بعيد.. بعيد؟ ليرفع بالتالي عن قصد أو غير قصد، نظره عن كتابه مرسلًا إياه نحو هدف واحد محدّد تمثّل في اثنين، هو وأنا، يحمل كلّ منّا كتابه بروحه وقلبه. ما إن التقت عيوننا في تلك اللحظة، حتى استغللتُ الفُرصةَ.. نهضت من مقعدي الحجري وتوجّهت إليه حيث جلس على مقعده الحجريّ المحاذي، دنوت منه، متوقّعًا أن يقف لاستقبالي إلا أنه لم يفعل. سألته مرفقًا سؤالي بابتسامة خفيفة:

-ماذا تقرأ اليوم؟

فردّ:

-وأنت ماذا تقرأ؟

تجاهلت سؤاله فتجاهل تجاهلي، وغمز لي بشفته العليا:

-هل ستبقى واقفًا.

وراح يفسح لي مساحة ضيّقة بالقرب منه على مقعده الحجري. اتخذت مجلسي لصقه. بعدها لم نكن نفترق إلا لنلتقي.. مع هذا الكتاب أو ذاك. كانت كتبنا تتغيّر وتتبدّل مثل كلّ شيء فينا نحن الفتيين الغضين المتطلّعين إلى دنيا السعادة والامل، باستمرار إلا شيء واحد لم يتبدلّ هو ذلك المقعد الحجري الذي جمع بيننا والّف بين قلبينا النابضين بالكتب والحياة. وتمضي الايام حاضنة إيانا، هو الناعوري وأنا الجبوري، وحاملة أيانا من مكان إلى مكان ومن حلم إلى حلم، إلى أن جاء يوم دنا في أصيله منّي وفي عينه دمعة، سألني:

-ماذا ستفعل إذا غبت عنك فترة مديدة من الزمن؟

فأجبته مِن فوري:

-سألحق بك ولن أدعك تغيب.

عندها لاح على وجهه ظلّ ابتسامة غامضة، وسألني مجددًا:

-هل ستلحق بي إلى أي مكان حتى لو كان المستشفى؟

فهززت رأسي كأنما أنا أريد أن أسأله وهل عندك شكّ؟.. أرسل صديقي الناعوري عندها ابتسامة واضحة، ودنا منّي مستنفرًا كلّ ما بيننا مِن محبّة لكتبنا ومقعدنا الحجري الموحّد، فتعانقنا كأنما نحن نلتقي هذه المرة لنوقّع الميثاق الأول لصداقتنا الثابتة، الحقيقيّة والخالدة. بعد عناقنا هذا اتضح لي سبب حزنه.. فقد عرفت أن مرضًا عضالًا ألمّ بأمه وأنها تمكث حاليًا في المستشفى ولا أمل في شفائها. عندها شعرت بحنوّ لا حدود له تجاه صديقي الناعوري وقرّرت أن أقف معه وإلى جانبه وأن اسانده في محنته تلك. فكان إذا ما توجّه إلى المستشفى اتوجّه معه، وإذا ما توقّف متأملًا ما يمكنه أن يفعل توقّفت إلى جانبه وشاركته همومه. تلك المحنة قرّبت بيننا وعمّقت صداقتنا العميقة أصلًا أكثر فاكثر وأكدّت لكلينا أن جسدينا باتا جسدًا واحدًا إذا شكا عضو منه تداعت لشكواه بقية الاعضاء. بقينا نحن الاثنين عائشين تلك الحالة، حزنًا وفرحًا، إلى أن رحلت أمه مُلبيةً نداء ربّها. يومها شمّرت عن ذراعي.. تركت كتبي لأول مرّة في الحياة .. انصرفت عن قراءتها، وتبعت صديق العمر واقفًا إلى جانبه ومقدّمًا مستحقات صداقتنا عن محبّة وطيب خاطر.. فجلست إلى جانبه في قاعة العزاء الكنسية لتقبّل المواساة بأمه، وعندما شعرت أنني يمكن أن أسكب القهوة السادة في فناجين العزاء قمت بسكبها وقدّمتها إلى المعزّين فكان كلٌ منهم يشرب فنجانه ويعيده إليّ مرفقًا إياه بنظرة غاضبة وكلمة يرحمها الله. ويبدو أن وقفتي هذه استفزت بعضًا من أصدقاء صديقي فبادروا، واحدًا تلو الآخر، يونون في أذنه ملمّحين إلى ذلك الغريب الذي هو أنا.. هامسين فيها دعك منه. وقد سرت تلك الهمسات في شوارع مدينتنا.. زقاقاتها.. منحنياتها وساحاتها الضيّقة، لتصل مسامع أناس عرفتهم وآخرين لم أعرفهم سابقا، فراح هؤلاء يحرّضونني هاتفين في أذني: دعك منه.

هكذا خرجنا مِن مأتم صغير، هو رحيل والدة صديقي، إلى مأتم كبير هو الخلافات بين أصدقاء صديقي وبين أصدقائي، واشتعلت نار الفتنة بين الطرفين وسط ذهولنا، صديقي وأنا، رويدًا رويدًا ويومًا بعد يوم بل اسبوعًا فشهرًا فسنة.. إلى أن بات مِنَ الصعب إخمادُها. وتمضي السنون واحدة تلو الأخرى كأنما هي موجة تجري وراء الموجة، لنجد نفسينا أنا ومَن جمع بيني وبينه الكتاب والحجر.. عيسى الناعوري، أمام الامتحان الأكبر في الحياة.

كان ذلك عندما نجحت جماعته، متوسّلة بألف طريقة وطريقة، في تأليبه ضدي وأفلحت جماعتي بطرائق مماثلة، في تحريضي ضده، فتحوّلنا بين ليلة وضحاها إلى خصمين لدودين يتربّص كلّ منهما بالآخر ليقضي عليه، ويبدو أن أوار الحقد قد تصاعد حتى بات لاسعًا كاويًا درجة الاستحالة، فاقترح خبيث مِن جماعته أن تُعقد منازلة جماهيرية بيننا، نحن الصديقين، يتولّى الفائز فيها مقاليد الامور في البلدة، وبما أنني أنتمي إلى الاكثرية فقد تقبّلت جماعتي التحدي ولم يعد بعدها سوى تحديد موعد المُنازلة.

في اليوم المحدّد توقّفت جماعتُه في أحد طرفي الساحة البلدية، فيما توقّفت جماعتي في الطرف المحاذي، وشرع كلّ منّا في السير نحو الآخر وسط ترقّب الوجوه وتحفّز العيون، من كلا الطرفين المتوتّرين،.. وضعت مِن ناحيتي خطوتي الاولى الثابتة على أرض التحدّي، فيما وضع هو، صديق الامس وخصم اليوم، خطوته المُقابلة على الارض ذاتها، وكنت كلّما وضعت خطوة أخرى على ساحة الوغى أشعر بقلبي يدقّ أكثر، فكيف سأوجّه اللكمة تلو اللكمة إلى الوجه الذي أحببته، وإذا تمكنت مِن القضاء عليه، كيف سيكون وضعي وماذا سأفعل في ذكرياتنا المشتركة مع الكتب والمقاعد الحجرية الحنون.. أين أذهب بها.. وتصوّرت بداية الخلاف في قاعة الكنيسة وأطلّ عليّ وجه والدته الراحلة يهتف بي مِن سمائه العالية قائلًا هل ستقتل صديقك؟ فصرخت لا لن أقتله. عندها انطلقت صرخة مماثلة مِن فم صديقي عيسى الناعوري: لا لن أقتله. عندما وصل كلّ منّا، عيسى وأنا عادل، كان واضحًا أنه لا مناص أمامنا مِن مواصلةِ عناقٍ ابتدأناه مع كتاب بيد كلّ منّا. فتعانقنا وبكينا واحتضن كلّ منّا الآخر كأنما هو يحتضنه احتضانته الابدية.. المثير في الأمر أننا عندما استفقنا من عناقنا فوجئنا بأن الساحة خلت.. إلا منّا.

***

قصة: ناجي ظاهر

على مائدة مطوقة بالتمائم ...وضعت الفضيلة

أسماء وأسمال المغضوب عليهم

ونهود نساء ....فردن جدائلهن تحت المآذن

لم تكلهم إلى قضاة يرسمون الأحكام بالأشعة

بل أحالت أوراقهم إلى قبعات تنابز بالغموض

تطوي دوران الوعي في كواكب معطلة

*

صار الخطاب أمعن ضخا للبغضاء

اخلعوا نعالكم قبل دخول الطابور

لتصرفوا كراماتكم بالدولار

لا تتشبهوا بالرذيلة ...وما منع بظهير المتمردين

اليوم نوزع رغيف الصمت

وبعض حبيبات من عرق الصبر تشد عضدكم ...

إلى أن يصير الجرح قيثارة

و الفجر عدما ملقى على القارعة

لا تفكروا بقطع رأس الغول

كيما تغضب أمنا الغولة

كونوا أيتاما على باب الله

لتستمر الفضيلة بألوان التلاشي

لا تفكروا في تقشير أسماء

لبها رجس من عمل الشيطان...فاجتنبوه.....

كيما تنزلقوا في رحم النار

اتبعوا صوت التصفيق يقودكم

نحو سؤال نتن يتسلق الهياكل

ليبلغ عنوان النص....يشكله بمداد نييء

لم تجد علامات الاستفهام بدا من تغيير تاريخ صلاحيته

مذ استقر الرمح بالجسد...وصار يقرأ للنار أشعارا

لتعبر قافلة... تكابد عشق الاستمرار

من أمام قداسة اللعنة

دون ان تفتح الدفاتر على طاولة الحوار

فتقرأ الأفكار .....ويصير الغد ميدانا للتوبة

عدنا إلى أزمنة تنكرنا لها

نحمل خطايانا المؤمنة

وأشلاء قتلانا الذين اشتهوا الانتصار حتفا مبينا

كيما تنتهي الصرخات في قبو الاحتفال

ونخلف وعدا قطعناه على أنفسنا

حين قلنا لجلجامش =نم ..واهنأ ....

إنا للحلم حافظون؟

هذا الصباح استيقظت ميادين

شيدت لها مسكنا في التاريخ

تنادي أبناءها الذين غادروا نحو المحطات القصية

أن ارجعوا ..فالغيث آت ...آت

فوجئت بالباقين يشدون رحالهم نحو نهاية تليق بحزن

طالما نأى في الحدود والرمال والنار

*

الشمس انطفاء مادامت لا تشتهى

وإن أشرقت ....فبين الفضيلة والرذيلة تستبى

يصادر حلم كان لنا فيه سفر....

وكان له فينا اجتراح وغربة

وكانت المحطات لا تجيء

المعابر مغلقة .....والأرق زوادة الطريق

*

صرنا أقرب الى وجه الظلام

بعدما اصطكت المسافة على إسفلت خارطة

هشمها دانوب خطبة تسكن حانة ...

الحانة على رصيف برمودا...

مثلث برمودا تنازل عن رعبه لحيتان الغيوم

عربون محبة لخطوات عجلى

تعبر القلاع نحو تاريخ منسي

يتوهج في ملامح نهار بدائي

مأهول بالثقوب والصرخات

***

مالكة حبرشيد – المغرب

داخل الحلم:

دائماً الساعة الرابعة والنصف مساءً، الشمس وفي ميلان يتسم بالعجلة تعلن اشتياقها الصريح لتقبيل النصف الآخر من وجه العالم فمن حيث المبدأ لكل موعد مكانه في إضبارة العشق وإن تكرر اللقاء، نسمات هادئة تعبر النافذة وفي معيتها بضع قطرات من أشعة الشمس الغاربة نحو شروق آخر، تغتنمها لترى انعكاسها بوضوح على المرآة، جميلة كما ينبغي لفتاة تستعد للقاء حبيبها، تبتسم،رشة اضافية من قارورة العطر الوردية المفضلة عندها.

ثم تشد الحزام أكثر على خصرها بعدها نظرة من الأمام والخلف ثم تنحني لترتدي الحذاء ذو الكعب المدبب في عجلة،تستقيم تعيد ترتيب شعرها الأسود الطويل المقصوص من المقدمة على شكل غرة كثيفة ترسم حدود وجهها بتموجات بديعة ومن الخلف ينساب على ظهرها كالشلال،تخرج تغلق باب غرفتها وبصوتها الذي تميزه بحة محببة تخبر والدتها  انا ذاهبة.

صوت خطواتها كان مصدر قلق بالنسبة لها هكذا كانت تفكر طوال الطريق الذي يأخذ منها سبع دقائق حتى تصل الى مقصدها،يبدو كدقات ساعة ضخمة صوتها كالمطرقة وكلما أسرعت الخطى يزداد صوت الطرق علواً وكأنه ينذر باقتراب حدث رهيب،لن ابطيء المسير حتى لا أتأخر تتلاحق انفاسها من التوتر الصوت يعلو ويعلو تشعر وكأنها تقترب من شيء ما تهز رأسها في حركة لا إرادية وفجأة ينقطع الصوت بصوت اصطدام هائل.

خارج الحلم:

السابعة صباحا وبعد مرور أكثر من شهر على وجودها في المستشفى، تصحو فزعة كعادتها منذ ذلك اليوم وهي تصرخ تأخرت داهمني الوقت كان وكأنه يطاردني وعندما حاولت ان اسبقه توقف وأنهى كل شيء، أين انا، تتوجه بنظراتها التائهة إلى والدتها التي تربت على صدرها بهدوء وتمسح حبات العرق عن جبينها وهي تتمتم ببعض الآيات من القران الكريم اهدئي يا ابنتي لقد تلوع كبدي وماعدت قادرة على الاحتمال أكثر، عودي إلي حبيبتي قاتلة هي تلك الوحدة التي خلفتها منذ ذاك اليوم المشؤوم،تنظر في قلق لوالدتها قلق التأرجح بين النسيان والتذكر بين قرقعة الحذاء وانفاسها المتلاحقة ثم الدوي الهائل كان هو ... نفس الموتوسيكل وخوذته الحمراء لم يمنعه الاصطدام من الوصول في الموعد قذفته الشاحنة بكل عنف ليحلق باتجاهي عجلات الموتوسيكل مازالت تدور في جنون ترسل هواء ساخناً يلفح ساقي وعيناي من بين اصابعي تتلقى الصدمة كالطعنات،راسه قميصه الأزرق يداه أصابعه تتشبث بالأرض التي بخلت علينا بالبقاء معاً،دماء وصرخة أخذت كل قواي اجثو بجانبه،زحام ضجيج يحاولون اخراجه من تحت الموتوسيكل لا افعل شيئاً اودعه على طريقتي قلبي اودعته صدره اصابعي معلقة بذراعه

حلمي في حقيبته روحي صعدت معه وبقى عقلي هنا فارغاً إلا من الرابعة والنصف مساء والسابعة صباحاٌ وتوسلات أمي أن أعود ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

 

بائعو التذاكر أجابوا من وراء الزجاج بهزات من رؤوسهم دون ان ينطقوا بحرف، كانوا يؤكدون صحة الإعلان الكبير على الواجهة عند المدخل الرئيس لدار العرض، ثم ان اجواء صالة الاستراحة التي يركن اليها الجمهور قبل العرض بما فيها من لوحات جدارية واسعة ملونة، وسيارة الإسعاف وطاقمها من أطباء وممرضات لم يكن احد منهم يتكلم سوى بابتسامة عريضة ذات معنى كل ذلك يؤكد ان مايجري بعد قليل على الشاشة داخل الصالة سيتحقق فعلا، فقد تطورت حقا طرق عرض الشريط المعلن عنه اذ وضع مصمموه والمهندسون والمخرج في الحسبان مساهمة الجمهور من حيث يدري او لا ببعض اللقطات لذلك، مادامت التجربة في بدايتها فعلى الجمهور ان يلتفت الى ان هناك شظايا من مسدسات رعاة البقر المتقاتلين فيما بينهم ربما تصيب بلا شك عن غير عمد بعض المشاهدين بجروح طفيفة.

لاشك ان هناك من رأى تداخلا بفعل التطور العلمي بين الشريط المألوف وقرص مدمج حيث امتزج الخيال والواقع والصورة والحقيقة،وهناك من عد الخبر اسلوبا جديدا لبيع اكبر عدد من التذاكر واخرون جمحت بهم الذاكرة الى خيالات ابعد في حين تذكر طرف ثالث تجارب سابقة لصالات محدودة اثارت مشاهد العروض فيها حاستي الشم والذوق عند الحاضرين.

بدا للوهلة الاولى إقبال الجمهور باهتا، ثم اتضحت الأمور بعد نهاية الشريط، وخروج المتفرجين اذ كانت هناك اثار إصابات على عدد منهم. غادر من سلموا من شظايا الرصاص منبهرين بالتقنية الجديدة وكانهم في حلم، ما اجمل ان تجرح من البطل فيبقى الوشم في جسدك علامة على عبقرية مهندس يغير لمحة من الخيال الى واقع وما أسعدك حين تصيح بالطل : احذر المجرم تسلل من خلفك عندئذ الاحرى بك ان تقبل ما تناثر عليك من رصاص او طعنة يفاجؤك بها ممثل شرير اما المصابون أنفسهم فلم يغضبوا او يتسرب الخوف الى نفوسهم بل انهمك طاقم الإسعاف بعلاجهم... كان الجميع يراها تقنية جديدة تجعل المتفرج يساهم في احداث الشريط، فلا بد من ان يكون الخبراء حسبوا الف حساب لمفاجآت اخرى، حتى ان الكثيرين تساءلوا ماذايحدث لو سقط البطل برصاصة طائشة من مكان ما او قتله عن طريق الخطا احد الحاضرين.

راح بعض الذين اصيبوا خلال العرض الاول يتحدثون، مع أنفسهم، عن أخذ للثار، وفكر غيرهم ممن لم يتعرضوا لاي ضرر ان يغيروا مقاعدهم ليروا ما يحدث بعدئذ ..كل يفكر بطريقته الخاصة ويهم ان يشاهد الشريط مرة اخرى ...قبل العرض الاخر ازدحم الناس بصورة لا تصدق، التذاكر بيع اغلبها في السوق السوداء، عدد من النظارة استعدوا لأسوأ الاحتمالات فاحضروا معهم خفية سلاحا قد يحتاجونه عند الضرورة...كانت هناك معركة بين ابطال الشريط وبعض المشاهدين الذين سقط،منهم هذه المرة، قتلى وجرحى من رصاص الممثلين او خطا .. في النهاية تحرك طاقم الإسعاف ليؤدي واجبه في حين راحت مجموعة اخرى كثيرة العدد تنتظر دورها الآتي لمشاهدة الشريط.

***

قصة

قصي الشيخ عسكر

أنا أذوي كما تذوي نباتاتُ البيوتْ،

برَغمِ الدِّفءِ والسُّقيا،

برغمِ الضوءِ مُنساباً من الشُّبَّاكْ،

برغمِ حنانِ أُمِّ البيتِ تقلَعُ عنّيَ الأشواكْ،

ولكنّي أنا أذوي،

وتسقطُ منيَ الأوراقْ،

كمثلِ مدامعِ العشاقْ،

أحبُّوا بعضَهم بعضاً،

وماتوا دونما لُقيا،

أنا أذوي،

***

أنا أذوي،

ولستُ الآنَ مُهتمَّاً لأعرِفَ ما هيَ الأسبابْ،

فأحياناً يكونُ الصمتُ مِفتاحاً لألفِ جوابْ،

رَضِيتُ وقلتُ فلْأصبِرْ،

لعلَّ الصبحَ قد يُسفِرْ،

وطالَ الليلُ جاءَ الصبحْ،

ومِلْءَ الكونِ كانَ الجرحْ،

أنا أذوي،

***

أنا أذوي،

ولستُ بخائفٍ قلِقٍ إلى ماذا أنا سأصيرْ،

رمادُ النارِ مُرتاحٌ ولا تُذكيهِ ريحُ هجيرْ،

فضولٌ ظلَّ يسكنُني لِأعرِفَ كلَّ من خُلِقوا،

وعاشوا فوقَ هذي الأرضْ،

وبي شوقٌ لكي ألقى،

رسولَ (اللهِ) عندَ الحوضْ،

أنا أذوي،

***

أنا أذوي،

قطارُ الموتِ يأتينا بلا موعِدْ،

يقصُّ لنا تذاكرَهُ ولكنْ دونما رجعةْ،

حقائبُنا هيَ الأجسادُ عاريةً،

ووِجهتُنا بلادُ الحُلْمِ،

خلفَ الغيمِ،

خلفَ الشمسِ،

خلفِ عوالمِ الرؤيا،

أنا أذوي،

***

د. عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

رعبوب قَدّها للعيون مَزَارُ

قد هيَّفَتْهَا بقيــدها الأزرار ُ

*

تُبديها أَلْيَنَ من رهافة ِ نملة ٍ

ميّــاسة ٍ في قَدِّها الأَسـَّـارُ

*

إن الجمال بِحُسْنِه ِ متجردٌّ

ليست له بالزائدات ِ وَقَار ُ

*

أبداً..ولا بِمحارَة ٍ عذرية ٍ

تَجلوْ بحار غموضها الأسرار!

*

ولا بانْسِياب ٍ ناعِم ٍ هو يَزدهي

فتضيءُ ثوبَ مَدِيحِهِ الأزهارُ

*

قد لايَعيْ الأحياء نُطْقهُ إنما

لا تستحيل بِصَمْتِه ِالأشعار ُ

*

فإذا تزيَّتْ وردة ٌ بعبيرها

ذهبت بطيب نقائها الأنظار ُ

*

ولأَلْبَسَتْهَا يدُ السراب بريقها

فتبخَّرَتْ من فورها الأنهار ُ

*

ولقادها نحو الخطيئةِ دِرْهمٌ

وابْتَزَّها الدينارُ.. والدولار ُ

*

سبحان من بَرَأَ الجمال بما ارْتَأَى

وتدافَعتْ في نَيْلِهِ  الأقدارُ!

*

بعض النساء جمالهنَّ صَنيعة ٌ

والبعض دون صَنِيعَةٍ جَبَّارُ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

٢٠١٨م

 

أَيَّتُها الذاكرةُ الخضراء

يا ذاكرتي المُتراميةَ الأَسفارِ

والأَسرارِ والأَبعادِ

والخلايا والمرايا

والتفاصيل والحكايات

والوقائع الغرائبية الخادعة

والرؤى الواضحة الغامضة

وقارَّة المنازلِ والاشياءِ السرّيةْ

*

الآنَ يا ذاكرتي البابلية

الآنَ سأَفتحُ صناديقَ خزائنكِ

المحتشدة بكل ماهو خفي

وساحر وعجيب

وسأُوغل فيك عميقاً وبعيداً

ياالذاكرة الصاخبة المُشاكسة

التي لاتتوقفينَ أَو تصمتينَ

أَو تنامينَ حتى لو نامَ الكونُ كلُّه

وتعطَّل جسمي المتوثّبِ والمُتَوهِّج أَبداً

وحتى لو انطفأَ رأسي بالكحولِ والنبيذِ

والأَدوية المُرّة والمسمومة

وحتى لو أَقفلتُ كلَّ حواسي

في ليالي السباتِ والنومِ

الذي يشبهُ الموتَ المؤقت

وهو ما كان دائما يذكرني به

" وليم شكسبير "

حينما كان يفاجئُني مُتسللاً

بخفّةٍ بهلوانية

وشيطنةِ قططٍ وثعالبٍ

وكأَنَّهُ (شايلوك) البخيل

فيستفزُّ قيلولتي التي كنتُ أَتخيّلُها

كما لو أَنَّها حلمٌ في (فينسيا)

وأعني: (البُنْدقيّة) الساحرة

وكانَ (شكسبير) دائماً يصرخُ في أُذنيَّ الرهيفتينِ

بكلِّ جنونٍ وحماقةٍ وفخامةٍ ارستقراطية

وبقرارٍ صوتيٍّ حادٍّ

وجَهْوَريٍّ عاصفٍ :

(المووووووووووتُ نومٌ

ثُمَّ لا شيء)

فإنهضْ يا صاحبي ...

وأَرجوكَ لاتمتْ

قبل أن ننتهي من عرضِ مأساتنِا الدراماتيكية

والتي تُصبحُ أَحياناً

ملهاتَنا الدنيوية

التي تُشبهُ هذا العالم المُصاب

بالخرابِ والحروبِ والمجاعاتِ

والخساراتِ والاوبئةِ الفادحة

وإياكَ أَنْ تنسى صيحتي القديمة

(الدُنيا مسرحٌ كبير،

وكلُّ الرجالِ والنساءِ

ما هُمْ إلّا ممثلونَ على هذا المسرح)

نعم ياصاحبي: المسرحُ والرحمُ والسريرُ والحاناتُ

هي الأَمكنة الحقيقيية

التي نكتشفُ فيهِ حقيقةَ وجودِنا الكوني

والعدمي والعبثي

وهي مرايا اعماقِنا الواضحةِ الغامضة

حدَّ الوحشةِ والقسوةِ والحقيقةِ

التي جعلتْنا عراةً تماماً

أَمامَ انفسِنا

وأَمامَ أُمهاتِنا

وأَمامَ حبيباتِنا الخجولاتْ

وقَدْ أَصبحْنا غيرَ قادرينَ

أَنْ نستُرَ عُرْيَنا الفادحِ

حتى ولو تغطّينا بكلِّ أَقمشةِ

وأَرديةِ وجلودِ وبردياتِ

وأَوراقِ شجرِ العالم

وأَعْني: عالمَنا الذي أُصيبَ هوَ الآخرُ

كما أًصِبْنا نحنُ الكائناتُ

الهشّةُ والمُتعبةُ والحزينةُ

ونحنُ أَشباهُ الموتى

وآخرُ الباقينَ على ذمَّةِ الحياةِ

وبقايا ظلالِ الاحياءِ:

حيثُ تدبغتْ وتقرّحتْ وتبددتْ

اجسادُنا النحيلةُ؛

بالأَوبئةِ الفاتكةِ

والوحشةِ الشائكةِ

والغربةِ السوداءْ

***

سعد جاسم

2021-10-1

 

كيف تَمَكَّثَت غزة فِي ظلي وأَعْجَلَتني الرحيل

في تأويل النهايات، غالبا ما ننقض مواجعنا بالشعر، حيث تستأثر قوة الأشياء بأضدادها. نحاول ترميم الأحزان، عبثا، في النهايات المختلفة، تتحطم كل الخطابات/ الآثار التي خلفتها كآبات الموت، دون أن ننحاز لأحاسيس التغافل والإلهاء الفج. فالذين يرون الساحات الفارغة، ويبحثون عن مآلاتها، ثم ينكصون غير آبهين بما يتردى تحت ستائر الصمت ومعاطيل الوهم، يستكثرون على مساحة الضوء الأثيل، الذي ينبع في ضمائرنا ويتدارى من بؤسنا وعرجنا النفسي، أن يكون ملاذا للأحلام الضِّيزَى، كنُحاس بارد يتأوه بينَ قَبِّ البَكَرَةِ والسَّاعِدِ، يريد أن يظفر بلمعان خاطف مستدير، بيد أنه يفتر في ضحالة الظلام وقعر البهتان.

على الأنقاض أشياء،

هديد مبعثر في سقف البيت،

كالوطء الشديد على الانحناء ..

يأبى الحزن على الشهداء،

معاهدون ابتسامة النصر،

ألا تضيع بين هباء، معلَّق من ذُرَيْرات الكرامة ..

وشأف الجرح البغيض ..

كأنا مثخنون بمصل الشقاء ..

محاقون بغيل الأساطير والآباء الموتى ..

وأطلال تلوك المواجع الطائشة،

وألوية من جيوش غابرة،

وقصائد لأسواق متعبة ..

أنكى بالهزائم أن تزف لنا هذا النصر الموهوم،

ونخوض استعارات جديدة في الزمن المخصي ..

*

على الأنقاض، نجهر بالعجز، دواليك ..

نتَوَسَّل الرَّحم الأبية، المزاحمة الشديدة ..

لكننا،

متعبون جدا ..

ومعاندون، للأشرار في دواخلنا،

*

نحن المتعبون، وهؤلاء إخوة يوسف يدفعون الدية للخطايا ..

أي موت هذا،

لم نحد شبرا عن النبوة،

ولم نمل جانب الطريق العابر إلى الخذلان ..

ولكننا المغرقون في جنون الخسارة،

تَدَرَّقَنا على الحدود والثغور،

ونشبنا غدتها الصماء في تنور بنادقنا ..

وافترشنا حرير النفط والفوسفاط والمعادن الذكية ..

وأغرانا شجر النسيان،

بلا هوادة،

حتى صرنا خَوْخَة في نهْرِ التبعية ..

*

على الأنقاض،

كتبت بالأمس حكاية غزة الشهيدة،

أمهاتها الثكلى، أطفالها الممزقة أشلاؤهم ..

كنباتها المشروخة،

نوافذها العائمة في غبار الانهيار ..

ألثغ حَشْو بياناتي المنثورة في الصحائف ..

وأغيل صدري ممتلئا بوقود اللاجدوى ..

كمن رمى صنما من تيه إلى تيه

وضللت يا ويلي :

(كمن "يخشى أَن يصيرَ التِّيهُ دَأْبا")  ..

*

ساعة الحقيقة، توجست خيفة أن أسمع صوتي، خفيتا، شاردا، مسترابا،

لمست نبض ألمي، وأنا أهرق دمع الحسرة، على شاشات العهر،

أَحدّ النظرَ إِلى وجه مهراق، ليَسْتَبِينني ويَسْتَثْبِتَني،

فأعاتب هذا السقم العليل في عدمي،

وأقطع ماء العذاب، إذ سجا ، ثم ماج إلى هدير متقطع  ..

يا أيها المُوجس الغامض المتحابي،

فكر لحظة،

كيف تنصب كمائن الحقد،

وتنشب الضباع أضراسها الطاحنة، في أجساد الحالمين *

أطل نبع الحياة، في وطن الإنسانية ..

وأبدل الشوك العصي، بالورد الثائر

والقمر الهَجُود بالسحاب الصادي العبوس ..

أفرغ المحبات في كنف القصيد العذب،

وقل للخاطر المحطم:

كيف تَمَكَّثَت غزة فِي ظلي وأَعْجَلَتني الرحيل ..

***

د. مصطَـفَى غَلْمَان

كلهمْ هبّوا لعوْنٍ خائبٍ

والضحايا إرْتضاها الغادرُ

*

يا بلادَ العُربِ يا دارَ المُنى

بهوانٍ إسْتقامَ العاثرُ

*

أيّها الكونُ المُعنى إنتقمْ

زعزعَ الأكوانَ فيها القاسرُ

*

أمّتي هانتْ وشعبٌ مُجهَضٌ

وبها الأهوالُ سيلٌ قاطرُ

*

لستُ أدري يا فؤادي مَنْ أنا

بعد أنْ ضاعَ الضميرُ العازرُ

*

حرْبها أجّتْ وقتلٌ هائجٌ

وبلادٌ قد طواها العاصرُ

*

ذبحوا الأطفالَ نقما أنهم

برروا جرما سقاه الماعرُ

*

حاصروهم قتلوهم عنوةً

جاءهم دعمٌ كبيرٌ فاخرُ

*

مِن ديارٍ ذاتِ فتكٍ شاملٍ

إستطابتْ ما جناهُ الواغر

*

خطبٌ تعلو وشعبٌ مُبتلى

وكلامٌ مِنْ كلامٍ ساخرُ

*

خدعوهمْ أوْهمهمْ إنهمْ

قومُ إلا وحَليفٌ آزرٌ

*

غدرَ الشرُّ وبانَ الخاطرُ

وتمادى والهجومُ القاهرُ

*

شَعبها يَصلى بنارٍ سُعّرَت

بوثوبٍ إرْتضاهُ القادرُ

*

إنها جَمعٌ وليْستْ فرّدا

وإذا الفعلُ اجْتباهُ الحازرُ

*

قتلهمْ فعلٌ يَسيرٌ جاهزٌ

فلماذا يَشتكيها الناخرُ

*

أمْرهم فرّق وشاورْ مأربا

ما أرادوا فالمُرادُ الصائرُ

*

جَمَعوا قوماً وقوماً أحْرقوا

تركوا الأصلَ وحَقٌ بائرُ

*

يا وَجيعَ العُرْبِ يا أسّ الونى

إنّهم هانوا فدامَ الساطرُ

*

بطلَ القولُ بفعلٍ خائبٍ

وأجادَ الذلَ جيلٌ آخرُ

*

عربٌ فيها أهانوا عربا

وتواصى برباهمْ تاجرُ

*

كلما اشْتدّتْ ضراها واسْتوتْ

يتمادى في ضَناها القاصرُ

*

جَعلوا الدينَ سلاحاً فاتكاً

فرّقوها فاستدامَ العاقرُ

*

كمْ شنئنا واعْتداءٌ حَفّنا

وإلينا كلّ خَطبٍ زائرُ

*

يا ذرى الأفهامِ في رأسِ الورى

أممُ الدنيا حَداها الباصرُ

*

مِن سَرابٍ وخيالٍ قولها

لا بفِعْلٍ والدليلُ الشاعِرُ

*

كلما جاءتْ لنكسٍ إرْتأتْ

إنَّ ربّا في عُلاها عاذرُ

***

د. صادق السامرائي

 

تُلاحقني منذ شهرين في منامي كوابيس مزعجة أحاولُ جاهدا التّخلّص منها سريعا بنهوضي من الفراش والدَّوَران في البيت وشرب الماء، ولكن ما أكاد أعود للنوم حتى تعود إحدى الشخصيّات لتظهر لي مُعاتبة:

- لماذا تتهرّبُ منّا؟ نحن نستأنسُ بك ونودّ الجلوس معك، نتسامرُ كما كنّا من زمان بعيد مضى.

أنتفضُ ثانية وأغادرُ الفراش، تنتبه زوجتي لحركاتي غير الطبيعيّة وتتساءل:

- مالك حيران مش عارف تنام، بوجعك إشي؟

أتجاهلُ سؤالها، وأتابع دَوَراني في أرْجاء البيت.

لليال عديدة غادرتني هذه الكوابيس، ولم تزرني أيّة من الشخصيّات، فارتحتُ وشعرتُ بزهوّ المُنتصر خاصّة وقد رفضتُ مشورة زوجتي بالذّهاب إلى أمّ سليم لترقي لي، وتُبعد عنّي الكوابيس.

وحدَه العمّ فندي التركي عاد ليزورَني أثناء نومي على فترات قريبة، أجدُ نفسي آتيه بعد الظهر، أطرقُ عليه بابَ خُمّه الذي ينام فيه، وأجالسُه لساعة على الأقل، نتبادلُ الأحاديث المختلفة، يسألني عن جميع إخوتي وأخواتي ووالدي، وعندما أخبرُه بأّنَّ أخوَيَّ ووالدي فارقوا الحياة من سنوات يحزن، تطفر الدمعة من عينيه ويُردّد:

- يا خسارة كان والدك رِجّال ولا كلّ الرجال، رحمه الله، وأخوك الكبير ما حَدا عِرْفُه إلّا وحبّو.. يا خسارة.

العمّ فندي التركي أحبَّ بلدتنا وأهلَ بلدتنا من اليوم الأول الذي نزل فيها. وكذلك الجميع في بلدتي أحبّوه، كان الرجلَ الوسيم القويّ، الشخص المُتسامح المُساعد لكلّ مُحتاج، حضر إلى البلدة مع الخال سلمان الذي تعرّف عليه في معارك الليّات عام 1949. جاء إلى البلاد مع جيش شكيب وهّاب لإنقاذ البلاد وخاصّة الجليل. وكان مثالا للشجاعة في كل المعارك التي خاضها، كان قريبا من الخال سلمان في معركة هوشة والكساير عندما أصابته رصاصة في عينه فسارع العم فندي وحَمَله بعيدا عن ساحة القتال ووضعه في سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المَشفى.

كان الحزنُ باديا على وجه العمّ فندي عندما وصل إلى بلدتنا ليكون في ضيافة أخته التي تعيش فيها منذ تزوّجت قبل عشر سنوات. وفي الليالي التي يسهرُ فيها مع الشباب يروي لهم تفاصيل المعارك التي خاضها، لكنه يتباطأ في كلامه، وبحزن واضح يُنهي حديثه عن هزيمة القوّات العربية وتَرْكها ساحات القتال وسُقوط كلّ الجليل.

رفض العودة مع الجنود اللبنانيين والسوريين المهزومين إلى أهله في لبنان، وفضّل أن يعيش في بلدتنا لاجئا غريبا على أنْ يعودَ مهزوما ذليلا إلى بلدته ووطنه.

رحبّ به جميع أهل بلدتنا وأكثروا من دعوته لزيارتهم وتناول الطعام، وفي مناسبات الأفراح يكون على رأس صفّ السَّحْجة يُلوِّح بالمنديل ويصدح بالأغاني الجميلة أو ينفخ في الشبّابة.

وبدأ اهتمام أهل البلدة يقلّ بالعمّ فندي مع مرور الأسابيع والأشهر والسنين، وفقط في موسم الزيتون يعود ليكون مَطْلَبَ الكثيرين من مَلّاكي حقول الزيتون لما عُرف عنه من الإخلاص في العمل والمُثابرة حتى أنّه كان يتسابق والجوّالات، هو في فَرْط وإسقاط حبّات الزيتون وهنّ في جَمْعها، وكانت الغَلبَة له دائما.

كان العم فندي راضيا وقانعا بحياته، يشكر الله على ما هو عليه، لكن ما كان يُردّده الشباب في جلساتهم ساعات المساء خاصّة مساء يوم الخميس حول (يانصيب هبايس)، وفي مساء الجمعة عن الذي فاز بخمسين ألف ليرة ، كانت مثل هذه الأحاديث تُثير العم فندي فيُكثر من التساؤل عن نزاهة يانصيب هبايس وإمكانية فوز العربي بالجائزة، ويُفكّر بعد أن يخلو إلى نفسه بإمكانيّة تجريب حظّه لعلّ الله يُساعده ويفوز بالجائزة الكبرى خمسين ألف ليرة، فيشتري بيتا ويملأه بالأثاث الجميل، ويستغني عن الأعمال الشاقّة التي يُضطر للقيام بها لتوفير النقود. وهو الآن قوي ويعمل ويربح النقود وبإمكانه تخصيص مبلغ كل أسبوع لشراء أوراق اليانصيب لعلّ وعسى.

هكذا بدأ العم فندي يقضي أيام الأسبوع، حتى وهو في العمل، ينتظر مساء الخميس لسَماع الرقم الفائز بالجائزة لعلّ إحدى ورقاته التي تزدادُ كلّ أسبوع تكون الفائزة.

ومع تقدّمه بالسنّ قلّ عملُه، لكنّه ظلّ محافظا على شراء أوراق اليانصيب، فاضطر لترك البيت الذي يعيش فيه ليقبَل غرفة صغيرة بائسة تحسّنَ بها أحدُ الرجال لتكون المكان الذي يعيش فيه.

وبدأ زوّارُه الشباب ينصرفون عنه، فيقضي الساعات الطويلة كلّ يوم وحيدا. يقوم أحيانا بزيارات قصيرة لبعض المعارف والجيران، ثمّ يعود لغرفته التي سمّاها بعض زوّاره بالخُمّ لضيقها فيعزف على شبّابته أو يرغوله حتى يتعب فيطفئ القنديل وينام ليحلم بفوزه بالجائزة الكبرى.

احترامي وإعزازي للعم فندي لم يتأثّرا بتغيّر حالته الاقتصاديّة أو الاجتماعية، ظلّ بالنسبة لي المُجاهد الوطني الشجاع الذي ترك أهله ووطنه وجاء ليحاربَ ويصدّ العدوان.

الشيء الغريب الذي كان غير مفهوم لي في العمّ فندي رفضه العودة إلى بلده ووطنه وأهله بعد سقوط الرامة والجليل وانسحاب الجيوش العربية وجيش الإنقاذ، ورفضه التفكير بالزواج من أي فتاة كانت، وإيثاره البقاء عازبا وحيدا يعزف على يرغوله ويُردّد مواويل الحب والعشق والبُعد والهَجْر والحنين التي كانت تُثير فينا العواطف وتشدّنا أكثر للعم فندي.

سنوات دراستي الجامعية في القدس أبعدتني عن العم فندي وأخباره وقصصه الجميلة، والزيارات المُتباعدة التي كنت أزورُه فيها عندما أعود إلى البلدة في العطلة الدراسية لم تكن موفّقة دائما، لكنني في إحدى زياراتي له وجدتُه في حالة حزن شديد، ودموع تنساب على وجنتيه فسألته مستغربا:

- شو جَرالَك يا عم فندي؟ وليه كل هالحزن وهاي الدموع؟!

صمَت لبعض الوقت وقال كلاما متقطّعا:

- شو بدي أقولك يا عمّي الله يلعن أبو هالزّمن الغدّار. وأنا شاب في عزّ قوّتي كنت أسرع لأساعد كل محتاج، وبيتي ما يفضاش من الزوّار، واليوم إنت شايفني وحدي ما في حَدا بصبِّح عليّ أو بمسّي، صَرْلي عشرة أيام مريض، بَدّي دوا، بدّي حدا يجبْلي أكل، يقولّي مرحبا، يسأل عني. الكل نسيوني، ولا حَدا بِطُلّ عليّ، هيك الغريب البعيد عن أهله وبيته ووطنه.

حاولتُ أنْ أخفّفَ من حزنه، وأبرّر تصرّفَ الناس بانشغالهم بهمومهم وأعمالهم وعدم معرفتهم بحالته.

لكنه هزّ رأسه وقال:

- يا عمّي إنتِ قلبك مْنيح وطيّب. الناس تغيّرت، بطّلت مثل أيام زمان، ما حدا بسْأل عن الثاني، بتتْصوّر ابن جيراني يجاوب واحد سأله عنّي بجاوبه: هذا غريب مقطوع من شجرة!

هيك يا عمّي أنا صرت في هاي البلد اللي حبّيتها وفضّلتها وأهلها على بلدي وأهلي ووطني صرت غريب ومقطوع من شجرة؟!

رغبتُ في ردّ مسؤولية ما يحدث له إليه فقلتُ:

- بس الحقّ عليك، أنت يوم ما كنت شبّ وشيخ الشّباب وكل أهل البلد حبّوك ورحّبوا فيك وفتَحولك بيوتهم رفضت تتزوج وتفتح بيت وتْخلّف أولاد، وفضّلت تظلك عايش لوحدك، وهِيّاك وصلت لَسِن اللي بحاجة للزوجة والأولاد ولا تجد واحد حدّك يساعدك.

هزّ رأسه وقال:

- حكْيَكْ صحيح يا عمّي، ولكن كيف كنت بدّي أرجع لوطني وبلدي وأهلي بعد ما خسرنا الحرب وسقطت البلاد وانهزمنا، كيف بدي أرجع وأنا مهزوم، وكيف بدي أتزوّج غير..

ودخل أحد الجيران الذي سمع وعرف صوتي، سلّم بحرارة وسأل العم فندي عن حالته الصحيّة ثمّ جلس.

بعد دقائق اعتذرتُ ووَعَدْتُ العم فندي بزيارة ثانية عندما أحضر إلى البلدة. خرجت وأنا مُحَمّل بهموم كبيرة تزيدني حزنا وشفقة وتعاطفا مع العمّ فندي.

طوال رحلتي من الرامة إلى القدس وكلمات العم فندي (كيف بدي أتزوّج غير..) التي قطعها الجار بدخوله تُثير تساؤلي وحبّ استطلاعي ورغبتي وتَشوّقي لسماع كل قصّة العمّ فندي. يبدو أنّه يحمل سرّا كبيرا أخفاه طوال عمره، وكان السبب في عدم عودته إلى وطنه وبيته وأهله في لبنان بعد انتهاء الحرب وسقوط البلاد.

أيّ سرّ هذا الذي يُخفيه العمّ فندي!؟

لعلّها فتاة عشقها وتركها خلفه، فهجرته وتخلّت عنه بعد انضمامه للمجاهدين؟ أو معشوقة أجبرها أهلُها على الزواج من غيره فترة غيابه ووجوده في فلسطين؟ أو لعلّها ماتت وتصعب عليه العودة، ولا تكون التي أحبّ في استقباله؟!

أسئلة وفرضيّات كثيرة لاحقتني وشغلتني، أنتظر الجواب عليها وحلّ أسرارها عند عودتي القريبة للبلدة.

زيارة العمّ فندي كانت أوّل ما فكّرت به عندما حملتُ حقيبتي المليئة بالملابس والكتب، وصعدتُ إلى الحافلة التي ستقلّني من القدس إلى حيفا ومن ثم إلى بلدتي في الجليل. فرغبتي الكبيرة في التّعرّف على سرّه الذي كاد أنْ يبوح به لي لولا دخول الجار ظلّت تُلاحقني طوال الأيام الماضية.

كانت بلدتي كباقي المدن والقرى تستعدُ لاستقبال الأعياد القريبة، وصدف أنْ تقاربت مواعيدُ الأعياد هذه السنة وبدت مَظاهرُ الفرح والسعادة في كل مكان.

ووجدتُ المناسبة ممتازة ومُقنعة للعم فندي بأنْ قمتُ واشتريتُ له كلّ ما يمكن أن يحتاجه من مأكولات وملابس وحلويات. طرقتُ باب خُمّه ودخلتُ لأجده وحده يمسك بيرغوله ويعزف عليه بصوت هادئ، توقف عن العزف، نظر إليّ غير مُصدّق وقال بفرح:

- يا هلا.. يا هلا بأغلى الناس.. ياما فكّرت فيك وقلت طالت غيبتك، كنت متأكد إنك ستحضر عالعيد.. يا هلا..

وسارع ليملأ لي فنجان القهوة ويسألني عن حالي ودراستي ومتى سأعود نهائيا للبلدة. ويتمنى لي النجاح والتوفيق والفوز بالمناصب العليا والكبيرة.

الفرحة غمرتني، والمشاعر العاطفية هزّتني، والأحزان كادت تفضحني بدمعتين طفرتا من عينيّ.

وطالت جلستنا، تحدثنا في كلّ المواضيع، شكا لي من الوحدة التي يشعرُها ويعيشها بعدما ابتعد عنه معظمُ الناس، وكيف بدأ يشعر ببعض المُضايقات من الأولاد الذين يُحاولون مضايقتَه، وعدم اهتمام حتى الجيران بسؤاله عن حاله واحتياجاته. ويتذكر أيام زمان ويقول:

- وين أيام زمان لما كانت الناس تحبّ بعضها ويساعد الواحد الثاني.

ووجدتُ الفرصة سانحة لأثيره وأجعله يكشف عن سرّه فقلتُ له:

- بس أنت اللي وصّلت حالك لهالوَضْع ، لَوِنّك تزوّجت ورزقت ببعض الأولاد كانوا معاك وحواليك اليوم، وما كنت بحاجه لحَدا.

هزّ رأسه وقال

- الحق معك يا عمّي، بس هاي إرادة الله، هيك كتَبْلي.

قلت له مستفزّا

- بس كان لازم تتزوّج ومَتْظلّكْش وحدك عايش.. مين إلو الواحد غير زوجته وولاده بس يكبر ويعجّز؟

ولم يستطع كتمان سرّه الذي حمله كل هذه السنوات أكثر فقال:

- يمكن كلامك صحيح يا عمّي، يمكن كان لازم أرجع لوطني وبلدي وأهلي بعد هزيمتنا وسقوط البلاد. ولكن كيف كان بقدرتي أعود مَهزوم وخَسْران وذليل. اسمع يا عمّي إلك بس بَحكي سرّي وليش ما رجعتش ولا تجوّزت.

وأخذ العم فندي يحكي لي قصّته ودموعه تنساب على خدَّيه.

- يوم نادى المنادي في بلدنا لتلبية نداء الوطن والشرف والانضمام لجيش القائد شكيب وهّاب لحماية الجليل في فلسطين من خطر سقوطه في يد الأعداء التهبت مشاعر الشباب، وكنتُ من الأوائل الذين سارعوا للتجنّد. خافت أمي، وحاولت مَنْعي، وقالت لي كيف تروح وتتركنا وتترك أبوك العجوز المريض؟! وكلّ الأقارب والجيران حاولوا يقنعوني بالبقاء في البيت. وحده أبوي كان معي وقال لي يابا أنت بطل والوطن بدو أبطاله تَيحْموه، روح والله معك. أبوي كان مع سلطان الأطرش في حربه ضدّ فرنسا وكان دايما يحكي لنا عن المعارك ضدّ الفرنسيين وبطولاته فيها. ولمّا قرّب يوم السفر زارتنا زهرة اللي كنت بحبّها وبتحبني ومتّفقين عالزواج وطلبت مني البقاء وقالتلي وهي تبكي:

- كيف بدك تروح عالحرب وتتركني. كيف إلك قلب تَرْك أهلك وأبوك العجوز وأمّك وأخوتك، وتتركني أنا وتروح. بلكي متت شو بصير فينا. مين إلنا غيرك.

ولمّا شافتني مْصمم عالسَّفر قالت لي:

- إذا رُحْت مش حَتْلقيني إذا رجعْت.

فقلت لها:

- تقوليش هيك، لازم أروح وأحارب لنحفظ البلاد. ورايح أرجعلك ويكون مهرك النّصر الكبير. ادعيلي. مش راح أرجع إلّا مع النصر الكبير وطرد العدو.

تركتني وخرجت وهي تبكي وتقول: أنا متأكدي مش حَتْشوفني وأشوفك بعد اليوم.

وهذا يا عمي اللي صار، إجيت مع جيش شكيب وهاب وحاربنا واخسرنا وانهزمنا، وكيف أرجع وأنا مهزوم والبلاد ضاعت. وين المهر اللي وعدت زهرة حبيبتي فيو؟ عشان هيك ما ارجعتش للوطن والأهل والبيت، ولا لزهرة اللي خلّيت بوعدي إلها.

وصمت مرّة واحدة وتساقطت الدموع من عينيه.

أمسكت به، مسحتُ جبهته وقدّمت له كأس ماء ليشرب. وبعد أن هدأ قلتُ له:

يا عمّي فندي لا تبكي ولا تحزن ولا تندم، أنت بطل وعملت اللي كنت مْآمن فيه. وإنت قلت هذا اللي كتبلك إياه الله. فاقبل بحُكمه وكون راضي. أنت بطل وبتظلك بطل.

بعد أنْ هدأ واستعاد طبيعتَه تحدّثنا حول الأعياد القريبة وفَرَح الناس والأولاد، وأنّ الأيام القادمة ستكون أفضل، وقد يتحقق السلام الذي يتحدّثون عنه بكثرة هذه الأيام، ويعود إلى بلدته وأهله في لبنان، وسأكون برفقته لأقنع زهرة بأنّه أوفى بوعده وكان بطل الأبطال ونحن مَنْ مَنَعه من العودة.

ودّعْتُ العم فندي وخرجت. وقبل عودتي للدراسة الجامعية في القدس ذهبتُ إليه وودَّعْتُه على أمل اللقاء به في زيارتي القادمة للبلدة.

وطالت مدّة غيابي بسبب الامتحانات السنوية، وانقطعت أخبار الأهل والبلدة، وكان كل انشغالي بدراستي والامتحانات.

كان أوّل ما فكّرتُ به بعد عودتي للبيت بعد غياب مايزيد عن ثلاثة أشهر أنْ أفاجئ العمّ فندي بفتح باب خُمّه والدخول إليه مُحمّلا بكعك القدس الذي أحبّه كثيرا. طرقتُ الباب بنعومة ودفعتُه فاستعصى عليَّ، حاولت مرّة ثانية لم يُفتَح، ناديت يا عمّ فندي افتح الباب، لم يُجبني أحَد. نظرتُ حولي لأسأل أحدَ العابرين، لم أصادف أيّ إنسان. عدتُ لأدقَّ على الباب بقوّة وأنا أُنادي:

- يا عم فندي افتح الباب!

- صباح الخير أستاذ.. كِنَّك مَعْرفتش؟ العمّ فندي أعطاك عمره من شهرين.

نظرتُ للشاب الذي كلّمني غير مصدّق لما أسمع، وسألته:

- كيف مات وليش؟!

- من الله.. خَلَص عمره. اتفضل شرِّ فْنا.

شكرتُه وعدتُ حزينا مُنكسرا إلى البيت لأسأل شقيقتي:

كيف بموت العمّ فندي ومَحَداش خبّرني؟!

نظرتْ إليّ باستغراب وقالت

- يعني كنت بتترك الامتحانات والدروس وبْتيجي عالأجر.

- أكيد كنت باجي. العم فندي عزيز علينا.

وانزويت لوحدي في غرفتي أستعيدُ جلساتي وأحاديثي مع العمّ فندي، البطل الشجاع الذي ترك بيتَه وأهلَه ووطنه وحتى حبيبته، وحضر ليمنعَ الغريب من احتلال البلاد، فمات غريبا شريدا فقيرا مُهَمّشا وحيدا لا يهتم به أحد.

***

قصّة

د. نبيه القاسم - الرامة /  فلسطين

لا الــطبخُ يَــشغلُني أو كانَ يَعنيني

لــكنَّها صــدفةٌ مــرّتْ بــها عــيني

*

شــاهدتُ  صــفحةَ طــبَّاخِ فأذْهلَنِي

قــد بــاتَ أتْبَاعُهُ كالرُّزِ في الصينِ

*

أدركــتُ أنَّ فــنونَ الــطبخِ معـجزةٌ

لأمَّـــةٍ  هَــمُّها  حــشوُ الــمصارينِ

*

إنَّ الــكُــرُوشَ إذا دَلّــلــتَهَا كَــبُرَتْ

يــصيرُ صــاحبُـها مــثلَ السلاطيـنِ

*

هـي  الــوسيلةُ كي تَرْقَى بنهضتِها

تــحــرّرُالقدسَ  مــن أنــيابِ تــنِّينِ

*

ثُـــمَّ انــتــقلتُ إلــى أُســتاذِ فــلسفةٍ

مــازالَ مــلتزماً بــالعُرْفِ والــدّينِ

*

حــروفهُ صَــدِئَتْ، مــا مــرَّها أحدٌ

إلاّ إذا خــطــأً، بــعــضَ الأحــاييــنِ

*

فــالفكرُ  مـعضلةٌ والــناسُ ترهبُهـا

مـــا راقَ مَــسْــلَكُها إلاّ لــمِــسْكِيـنِ

*

فَــعُدتُ  مــدَّكِراً مِــنْ هــمِّ هــندسةٍ

إذْ مَــسَّنِي هَــوَسٌ مِــثلَ الــمجانينِ

*

حــتى تَخَرَّجـتُ باتَ الكونُ يَغبِطُنِي

أمضيتُ عُمْرِيَ بينَ الوحلِ والطينِ

*

أَتْــبَعتُهَا فــي بحورِ الشعرٍ منشغلاً

كــي أَنحَـتَ الحـرفَ طِبْقاً للموازينِ

*

مــا فَادَنِي الــشعرُ حــتى لــو مُعَلَّقةً

كــتبتُها فــي مــدادٍ مــن شــراييني

*

فــالــشعرُ يـحــلو إذا تــتلوهُ فــاتنةٌ

حــتى وإنْ تُــبْدِلَ الــثاءاتِ بالسينِ

*

مــا أجـملَ  الــضَّمَ للكسراتِ تَرفعُها

وفــتــحةً زيَّــنَتْ صــدرَ الــفساتيـنِ

*

أنْ تَــكْسِرَ الــوزنَ مغفورٌ لها سلفاً

هـيَ الــتي، جَـبَرتْ كَسْرَ الملاييــنِ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

تجادل مع صديقه في معلومة مفادها ان جميع الرجال المرهفين العاطفيين، وقعوا في غرام صديقته امتثال، انكر صديقه انه مغرم بها، ربما اعجب بها في مرحلة من العمر وبعد فترة ادرك خطأ احساسه، حين علم ان معاناة الحب  لا يمكن ان تكون من جانب واحد، فحاول ان يترك حبه لمعشوقة الرجال الى امرأة اخرى تبادله الشعور نفسه، كانت السيدة ابتسام صامتة تسمع الحديث بين الرجلين،واثار استغرابها ان زوجها  ثار محتجا:

- انك كاذب، كيف تقول انك تركت حبها وانا كل عمري اعشقها؟

- انت وشأنك ـ لكنك تزوجت من امرأة تحبك!

- هذان امران مختلفان، ابتسام زوجتي تقوم بواجباتها نحوي وامتثال حبيبتي اقوم انا بواجباتي نحوها ..

تسكت ابتسام، منذ زمن طويل لم يتبادلا حديث العواطف بينهما، قبل الزواج كان يردد دائما انه يحبها، فبنت في قلبها امالا وزرعت ازهارا، وتعهدتها بالرعاية والاهتمام،وحين تزوجا نسي قوله هذا وعاد الى سيرة الحبيبة التي ما زالت تتربع على عرشها، جاءتها احدى طالباتها في الثانوية، وقالت لها:

- كيف تسكتين؟

- عن اي شيء اسكت؟

- رأينا انا ومجموعة من الطالبات زوجك يتمشي مع امرأة في شارع الكرادة!

- وما الضير في هذا؟

- وانت تطالبين بحقوق المرأة؟

 تصمت هي وتعود الى ذكرى طالما ارقتها، اذ قال زوجها محتجا:

- لماذا يظلم الشاعر معروف صديقته الفنانة امتثال؟

- كيف ظلمها؟

- احبته بعمق وسهرت معه عددا من الليالي لكنه خانها؟

- كيف خانها؟

- لماذا لم يتزوجها وقد قامت بتقديم التضحيات له؟

- اعرف ان الشاعر معروف متزوج وله اولاد .. كيف يتخلى عن اسرته لقاء نزوة؟

- هل تسمين حبها له نزوة؟

- وهل حقوق المرأة تنحصر بالصديقات وتحرم منها الزوجات؟

- يجب ان تعرفي ان الشاعر معروف قام باضطهاد صديقته الفنانة التي هي صديقتي، وقد اشتكت لي الفنانة عددا من المرات ان نيران حبها المتأجج له قد اتعبتها، كيف يبرر الشاعر معروف خيانته للحب الجارف؟

***

صبيحة شبر

15 كانون الاول 2023

 

لا أحلم، فأنا من كثرة الأرق او لعلة ما لا أكاد أرى جفنيي يتطابقان... دوما هما في تنافر، ربما أكون واهما لكن هذا ما تعودت عليه، كأني احد الذين دخلوا موسوعة جينيس لقلة النوم هذا ما سمعته عن جار مثقف حين كنت اجوب الطرقات مع والدي عندما رآنا نجوب الطرقات نصيح من يريد حد السكاكين علم بحالتي التي اخبره والدي عنها، لكن هناك من سبقني ولم ينم لمدة 37 سنة يالحظي النحس أليس كذلك؟ على اية حال عملي هو من يقودني لأجوب الطرقات فأنا اعمل حداد للسكاكين، مهنة ورثتها عن ابي الذي راح ضحية الحرمان وانفلات احد اربطة الماكنة فهربت إحدى السكاكين من بين يديه فغرزت بطنه فكانت نهايته.. غير اني وبعد تلك الحادثة ذهبت الى احد حدادي الابواب والشبابيك، طلبت منه أن يحيط الماكنة بواقي، يُحيط بأربطة الماكنة وقرص دورانها، سألني احد الأشخاص في مرة؟ ألم تسمع بنوم الظهيرة او القيلولة؟ قلت بلى سمعت عنها لكني لم اتعرف عليها، فأنا والنوم خصمان لدودان، لا يجرؤ احدنا على ملاقاة الآخر، دعني أجملها نحن متجافيان منذ زمن بعيد فحتى أمي رحمها الله كانت تستغرب ذلك!! في مرة وانا صغير اخذتني الى عدة اطباء لكنهم احتاروا في حالتي فتركت الامر، غير ان احد الاطباء وصف لي شرابا قال لها اسقيه منه فسينام بعد دقائق... وقد فعلت بعد ان رجعنا فكانت تلك المرة هي الاخيرة التي نمت فيها، لقد أخبرتني امي عن ما عانته في محاولة ايقاظي، فروت لي اني ما ان اسلمت نفسي الى النوم حتى رحت في عالم الاحلام، فرأتني انهض عن مكاني، احمل حصير الخوص الذي نتغدى عليه راكضا الى الشارع وانا اصرخ هيا خذني طر بي، ارتفع ايها البساط سيكون لي معك زمن الاعاجيب، سندخل مغارة علي بابا، سنمتلك الذهب والجواهر... إني احب العقيق الأحمر، تقول صارخا وانت ممسك بالحصير، ثم رميت به على الارض ثم اعتليته واقفا فاتحا ذراعيي كأني في فضاء لا ينتهي، خرج الجيران واطفالهم وهم يشاهدونني اقوم بحركات جعلتهم يضحكون مني وينادون علي المجنون.. لكني لم اسمع ايا مما قالوا فأنا في عالمي امير السماء اجوب ملذات الحياة حتى اني تسابقت وسرب من الطيور، رمقني قائدها وقد صاح بصوت عالي ضاربا دفه الهواء فأعلن للجميع ان يسابقوني... ومن شدة خوفي ومحبتي للطيور تراجعت فأراني صرت فوق البحر الأزرق الذي لبس صورة زرقة السماء، سكنت الى غيمة نادت علي... هيه أمجنون انت!!؟ ما الذي جاء بك الى هذا المكان؟ فمثلك لا تعتاده هذه الامكنة، لازلت يافعا يا عزيزي هيا عد الى حيث امك لابد إنها قلقة عليك يا مجنون... ضحكت بصوت عال وقلت لها إذا كان الجنون عالم من المتعة والجمال فأنا أول المجانين الذي يحب ان اكون من مواطنيه، فعالمي الواقعي حاد كالسكاكين التي يحدها ابي تجرح مرة وتقتل مرات، إنه عالم من الدم المعلب بأشكال غريبة، عالمي هذا هو الهروب من المعتقل البشري الذي أعيش، إني يا هذه لم استطعم الحياة ولم اتذوقها أصلا إلا مُرّة كالحنظل، حرمان، بؤس، فقر، تشرد وضياع، أتصدقين ان بساطي هذا الذي اطير عليه هو اغلى ما نملك، بل هو الشيء الوحيد الذي نملك، عادة ما أرى امي تحافظ على نظافته وبقائه لعمر اطول اكثر مني، صدقيني فدعيني احلق حيث يراني الله عله يغير حالي الى غير حال... تخلت عني وهي ممتعضة مما سمعت، حزينة في نفس الوقت، خاصة بعدما ارتدت السواد من ثيابها فادلهمت، في ذلك الوقت أحيا في عالم آخر وامي في عالمها الواقعي تصرخ وتنادي على والدي الذي خرج ولم يعد إلا حين يأتي بعدد اقراص من الخبز وبعض من الباذنجان والطماطم، في ذلك الوقت تلك الاطعمة التي كان بساطنا يتزين بها فنفترشه مائدة طعام، نغمس الخبر بالطماطم المقلية بزيت اسود مر عليه دهر من الزمن، اما الباذنجان فكان سيد الاطعمة المقلي منه سرعان ما نقضي عليه للحفاظ على الحصير لسببين، الاول الخوف من اتساخه فتعنفنا امي والثاني من يفوز منا يمسح الطبق الوحيد بقطعة خبز اخيرة تمتص الزيت المتبقي، انه لذيذ وغالبا ما كانا والداي يتركاني ألحس آخر ما تبقى، قلت لهما في مرة اريد ان اصبح طيارا لم يجيباني على امنيتي لكني سمعتهما في المساء يضحكان على قولي بحسرة وألم فلم اعيد ما تمنيت عليهما...  ساعات وأنا أحلق في فضاء عالمي اسابق الريح، فجأة فززت وخرجت عن عالمي بعد ان رمت والدتي علي الماء بقدرنا الاسود من السخام، صحوت فزعا ممسكا بحافة الحصير وانا اصرخ غاضبا، لم جعلتني اعود من عالم السماء؟ لقد كنت اسابق الريح... يا للخسارة، تطلعت حولي وإذا بي في وسط جمهرة من الاطفال والنساء الذين يهزؤن مني ومما رأوه عن حالتي، في ذلك اليوم قررت والدتي ان تكسر زجاجة الدواء وتتركني بلا نوم حتى لو كان لفترة دهر.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي  

بكَّاءٌ

هذا العجوزُ المُلتصقُ بالبوابةِ

طيلة هجرنا..

لا يردُّ السّلامَ على أحدٍ ..

لا يبتسمُ لأحدٍ..

بعيد عنْ مرحِ الأطفالِ..

فونطوم في فترة التوالد

مرْحباً بفونطوماتنا على أسرَّةٍ من فخارٍ

*

كُلّنَا نرْحلُ

نحْرسُ أمتِعَتنا

نلعنُ ظُرُوفَنا…

نَنْفثُ الارضَ والسَّماءَ

نتشَكَّى….

وهذا الأدَميُّ نصف جامد….

*

منْ

هوَ

إذنْ..؟

أهو حكيمُ المُصَادفاتِ بحاناتِ المدينةِ الميِّتة..؟

أهو بيلوانْ في نسختهِ الأدميَّةِ ؟

*

أهو إحدى تجلياتِي المستقبليَّةِ عقاباً لِخَطيئتِي …؟

ام فقطْ رجلٌ من دخانٍ يسكنُ مِخْيالِي

ولما لاَ

ولما لا تمثالٌ ثلجيٌّ عرج به البردُ لمواجهة الحائطِ الحجري…

*

إذنْ:

إن لمْ يكنْ لا هذا ولا ذاك

فهُوَ مخْبرٌ متشلفطٌ بيننا.. .

"كُوكَا بارْدَة"

يلمُّ أخبارنا في رقاقة إلكترونية من سِعةِ العذابِ …

ترانزيستور العرب….

لا يأبهُ  بغدرِ الحركةِ

منْ لفها حتَّى دورانها

لا ينشُّ عن وجههِ دبابة تمر

ولا يرفعُ عينهُ للسّماء

أيُّ خجلٍ منَ الرجلِ ..!

*

منْ

هوَ

إذنْ..؟

*

طلْسَماِنيٌّ

يرسمُ الوجودِ برشقة مغموسة في  الطِّينِ

ويدّعي أنه يربطُ رُوحِياتِ السَّماءِ لصالحِ طبائعِ الأسفلِينْ *

حربائيٌّ

ينتقلُ بشَهْوانِيةٍ بينَ الَّلوْنِ واللَّونِ ليصنعَ أُحَادِيةَ الطَّبْعِ بينَ أبيضٍ وأسْوَدٍ…

*

سَحَراتيٌّ

يُخرجُ إكليلَ شوكٍ من فمِهِ بعدَ تناولِهِ علكة تُونْدِرْمَانتْ.. فيَمسَحُ بهِ وجههُ لِيصِيرُ شومپانزي الفرْجَةِ…

*

سفْسْطَائيٌّ

يهادنُ المعنى بقليلٍ منَ الكلماتِ فينشغلُ بتمْجِيدِ آيَاتَ جُنُونِهِ وكَأنَّهُ لُغْزٌ فيَّاضٌ للمَعْرفَةِ…

*

بهلوانِيٌّ

يُخْرِجُ منْ جِلْبَابِهِ شرِيطًا قوزحِيّّاً فيطوفُ العالَمَ برَمْشَةِ عَيْنٍ مستَغْنِياًّ عن بُورَاقِهِ الخشَبِي لِيَعُودَ أفْطَسَ الأنْفِ وذيلٍ منْ نُحاسٍ ….

*

كُومِيديٌّ

يصنَعُ الفَرْحَةَ بِقَلِيلٍ منَ عَجِينِ التَّمَظْهُرِ ويُكَسِّرُ تماثيلَ العِشْقِ أمامَ مُتَفرجٍ جَائِعٍ..

أكْبَرَ مِنْ حظِّهِ ، كلُّ الصَغِيرات مَنْسُومَاتٍ بالهوَى

*

تراجيدِيٌّ

يرْحَلُ بِخِنجَرِ برونْزِيٍّ ..

يُغْرِزُهُ بعْدَ سِلْسِلَةٍ منَ الغَدْرِ في عُنُقِ زَوْجَتهِ يُسَلِّمُ آخرَ رسَائلِهِ لِسَلِيلَةِ عِشْقِهِ

فينتَحِرُ مَشْنُوقًا بِحَبْلِ الوِصَالِ….

*

پِيرْمَانِيٌّ

أصَرَّ علَى حَرْقِ المَدِينَةِ ،فانتَهَى مَحْرُوقاً بجمرَةِ حُبِّها…خبتْ أنوارُ المدينةِ وظلَّ هو يشتعِلُ  …..

*

غرائبيٌّ

نَطَّ فَوْقَ صَخْرَة الموْتِ ..تَخَلَّى عَنْ أحْلاَمِهِ ليقبِّلَ موجَةً كانَتْ تَعْبَثُ بِسَبَّاحٍ بلاَسْتِكي ضَاعَ مِنْ طفْلٍ صَغِيرٍ …انتهَتِ المَوْجَةُ عندَ قَدَمَيْه وكانَ السبَّاحُ مُجَرَّد ظلهِ….

*

عدَمِيٌّ

العالمُ قُبَالَة وَهْمٍ حقيقي  وهو يَتَغَنَّى بأمجَادِ بطُولِيَّةً وراءهَا طوفَانٌ مِنْ دم…

*

أين يحملُ هذا العبء اللعين ..؟

تدلَّى كلّ شيء فيهِ متين

أين يقودُ العالم بهذا البطء الرتيبِ ..؟

لماذا يستثني من الأسماءِ سَمْراءَ الفراشاتِ…

ويتَّهم ظِلَّ الأشجارِ بالمُرُوقِ …

والمستظل بالزندقة والإخلال بأمور المغارة

يحضنُ بين أضْراسهِ مغصَ السِّنين …

كلمَّا هلَّل مهلِّلٌ بخَرْقِ الحُدُودِ

أطفأ شمعةً في محرابِ  عشقهِ

ولَمَّ  شظايا مكنستهِ في كمشَتِهِ اليابسَةِ..

وخرَّ في سجُودٍ…

*

من هو إذن …؟

قد أكُون أنا في لاحقيةِ الزمنِ

أو هو الزمنُ بتمامهِ وتكاملهِ…

ربَّما هو الحق بعد تعرُّضهِ لنزلةِ تفريطٍ مدلَّة

أو تاريخُ السواد لمحنة البشرِ…؟

*

بكَّاءٌ…شكَّاكٌ ..

ينطقُ عن هوَاه لمَّا تحومُ الطيُّور حولَهُ

فيفتح كمشَ يديهِ …

حَبَّة قمْحٍ ..

تِبْنٌ مسْبولٌ..

نقطة عرقٍ صبَّتْ من سبابّة ٍأو إبهامٍ

..

يتَلَعْثمُ بداخله رعديدٌ

عَصَبيٌّ

متمردٌ  جبَّارٌ

آه

لستُ مُنزَعِجاً

لأنّهُ يطأ ذكرياتِي حافياً

ولستُ كذالك

لأنّهُ يتفوّهُ رائحَةَ الحربِ...

وأسمالُهُ تقلُ آثارَ القذائِفِ الخَبيثةِ…

لكنَّ

ببراءةَ الطفلِ الذِّي يستَدرجُني لمتْجرِ الألعابِ النَّاريةِ

أودُّ فقط التَّعرفَ

على حظِّي

من الشيخُوخةِ

كيْ أنسحبُ مِنْ قائمة ِالوافدينَ الجُددِ

او أتْبع خيْطِي

حتَّى يلجَ خُرم الابرةِ…

وقتئذٍ لي شَهْوة حاملِ المظلَّةِ

أعضُّ على أصابِعِي …

أو ألحَسُها

أولولُ لفَواتِ القِطارِ…

أو أقبِّلُ زوجةً خارِجةً عنْ نِطاقِ العيّارِ

أزغردُ بفمٍ أدْرد للرّيحِ..

أم أكتفي بمصِّ رُضابي حتَّى النهَايةْ….

*

هذا العجوز

رماني بعُريِّ

منْ

هوَ

إذنْ….؟

***

عبد اللطيف رعري

مراكش / المغرب

15/01/2024

 

كم من الصراخ سيغدو كسيحا،

تذروه الرياح،

ويرعوي إلى النسيان،

لو كنت هناك،

لأوقدت نار القصيدة،

وأوعزت البندقية، أن تكون صراطا لحروفها الهشة،

أن أبني معمارا مخالفا لعقائد المؤتمرات،

ونذوب المعتوهين، وأحقادهم وخياناتهم، ..

كأن أقرأ فجرا جديدا للأمة المهدورة،

دون أن أرثي تاريخها الغابر،

وأصنامها المستعبدة؟

2 ـ

المشكل أني ..

لا أرى شرقا دون افتئات شنيع،

دون غرابة أو بدعة معقودة ..

وبينما أفكر في تأليب الغضب على الضعة والاستسلام ..

أنتظر دوري للاختباء خلف صمتهم ..

حيرانة أنا ..

كم يتبقى من وقت،

وآمال سخيفة،

لنجتاز هذا البؤس القاتل،

ونعود لأمشاج عتمتنا الموحشة؟

3 ـ

في غفلة مني،

أثغو من شدخة القلب/ العمى

من فكرة لا تستقيم على وطن منهوك..

من تراب تطيِّره الرِّيحُ ويلزق بأشيائي الكتوم ..

من فجوة لا تنتهي،

وكآبة لصيف لا يتكرر؟

4 ـ

أو ليس الأسر صنيعا لهذا الفراغ؟

أو ليست المتاهة وتدا في كتف الشهادة؟

5 ـ

عندما أبتلع نصف اليوم،

أقطر الممحاة على الكتابة،

فتنجلي وصمة الموت،

كما أراها في مشاهد الاحتلال ..

منحورة بأوحال الساسة، السماسرة الجوعى  ..

مذاك،

أغفلت أن أضيع بين مساميرها،

وقررت العزلة ..

6 ـ

العزاء لنا من دمع مملوء حزنا،

ومن ليل تشتد ظلمته، بلا غاسق مرتحل ..

ولا سنام يعدل في الجنون المستباح؟

***

شعر: مالكة العلوي

 

رعبٌ أن تمدَّ يدكَ

فيخطفُ أصابِعَكَ الهواءُ

أن تغرِّدَ بصوتكَ

فيَعود الصدى

هباءً

أن تفتحَ أبواب قلبكَ

فيسرقَ عواطفكَ

وأحاسيسكَ

غرباءٌ … وغرباء ْ

رعبٌ

أن تبوحَ بسرٍّ لصديقٍ

فيهدي أسراركَ للرّيح

رعبٌ أن تنامَ على فراشٍ وثيرٍ

محشوِّ بالغدرِ

والسُّمِّ

لتلدغكّ حتى الأحلامُ

رعبٌ

أن تتجنَّب المآسي

و .. زمهريرُ الحاجةِ ..

يجتاحكَ

في كلِّ زمانٍ

ومكان ..

***

سلام البهية السماوي

 

أنا قد مللتُ من الرتابةِ ياقمــــرْ

إنّي أريدُ بأن أعيشَ معَ البشرْ

*

الناسُ في هذا المكانِ دمىً فهُمْ

مثل الذينَ مضوا وناموا في الحُفرْ

*

كلماتُهُمْ مثلُ الحصى نظراتُهمْ

ليستْ تُطاقُ كأنّها وخْزُ الأبرْ

*

أنا قد جمعتُ حقائبي وحزمتُها

مُذْ أمسِ إنّي قد عزمتُ على السَفَرْ

*

في هذهِ الأرضِ اليبابِ تعثّرتْ

كلُّ الأماني ليسَ فيها مُسْتَقَرْ

*

صلّيتُ فيها مِنْ زمانٍ داعيا

أن لا تعيشَ بلا حياةٍ كالحجَرْ

*

أنْ تستفيقَ على ربيعٍ باسمٍ

أنْ لا تظلَّ بلا زهورٍ أوْ شَجَرْ

*

أنْ تنزلَ الأمطارُ في صحرائها

ويزورها قَطْرُ الندى وقت السَحَرْ

*

لكـــــــــــنَّ آمالي التي أمّلتُها

خابتْ كأدعيتي وما نزلَ المطرْ

*

كــــــــمْ من بلادٍ قبلها ودّعتُها

لمّــــــا تحجّرَ في مدائنها البَشَر

*

حانَ الرحيلُ ولنْ أعودَ إلى هنا

فلقدْ سئمتُ وكادَ يقتُلني الضَجَرْ

*

مِنْ أجْلِ حُبٍّ قدْ بقيتُ هنا وقدْ

ولّى كما ولّى السرابُ فلا أَثرْ

*

أنا راحلٌ أبغي مكانا آخرا

أنا لستُ أنسبُ كلَّ شئ للقَدرْ

*

قدْ كانَ لي وطنٌ جميلٌ حاولوا

أنْ يمحقوهُ بحقدهم جُنْد التترْ

*

ولكم قسى فيهِ الطغاةُ فلم يَمُتْ

رحَلَ الطغاةُ مع الغزاةِ وما اندثَرْ

*

فيهِ زرعتُ الحُبَّ حتّى أينعتْ

أزهارُهُ وتبسّمتْ بين الحَجَرْ

*

ما زالَ لي فيــــــــهِ هنــــــاكَ أحبّةٌ

يتلونَ شعري في الأصيلِ وفي السَحَرْ

*

لا حالَ تبقى مثلَ ما هيَ فالسما

تصحو ويرحلُ غيمُها بعد المطرْ

*

ولسوفَ يجمعنا مســــــاءٌ هـــادئٌ

أنـــا والحبيبة تحت ضوئك يا قمـر

***

جميل حسين الساعدي

قــناديـلُ الـنـزاهــةِ إن أضاءتْ

فــلا ظـلــم يــدوم ، ولا ظــلامُ

*

نَـقـاءُ الـقـولِ تَـعـزِفُـهُ السَـجايـا

اذا سُــرُرُ الــوفـاءِ ، لــه تُــقـامُ

*

قـلوبٌ إنْ ثَـوى الإيـمانُ فــيـهـا

يُـلاقـي حــتْــفَـهُ المَـكْـرُ الـزؤامُ

*

وإن نالـتْ سِماتُ الوصْلِ صِدْقا

فــلا زَيْــفٌ يـــدومُ ولا خِـصـامُ

*

فـكَـم مِــن نَــزْوةٍ أوْدَتْ بــحُــبٍ

فَــضاع الـحُــبُ واشــتـد الـملامُ

*

مَـقـالٌ إنْ حَـوَى كَـذِبَـا تَـهــاوى

وأفْـصَحَ عـن حَـقِـيـقَـتِـهِ الـرُكـامُ

*

وإن كان الجَّـمـالُ جـمالَ حُــسْـنٍ

بــلا خُـلـقٍ ، فـبـئـس الإهـتــمـامُ

*

وإغـراءٌ بـحَـرْفٍ ، فـــيه زيْــفٌ

مَـكائـدُ يــسْــتَـقـي مـنهـا الـلِـئـامُ

*

إذا مـا الـحُـرُّ أسْـفَـرَ عـن نــقـاءٍ

تـهاوى الزيـفُ وانكـشف العَـتامُ

*

وإنْ لاذ الـحــوارُ بــثـوب شـــكٍ

ولم يُـفـصِح ســيـتـبعه انـفـصـامُ

*

ومَـن أخـفى عـيـوبـاً فـي لـسـانٍ

فــفي نـظـراتـِه ، يـبـدو الــكـلامُ

*

سِــماتُ الـعِـزِّ تأبى كــلَّ ضَـيـْـمٍ

وآفــاقُ السـمـوِّ، لـــهــا وِســــامُ

*

لَـعَـمْـرُكَ مــا عَـلا نَـجْـمٌ جُـزافَـا

شُـــعـاعُ الــنــور للأدنـى زِمــامُ

*

سِـهامُ العُــسْـرِ لا تَـقْوى وُلـوجـَـاً

اذا الإيــمـــانُ  دِرْعٌ يــُـسـْــتــدامُ

*

دوامُ الخُـلْـدِ ، فـي خُـلـقٍ وعـلـــمٍ

ومَـأثَـرَةٍ  ، لـهـــا نُــصْـبٌ يُــقــامُ

*

ومَــنْ دَرَس الـخُـطى قَـبْلَ انْغِـمارٍ

ســـيَـدْنـو مِـــن نــتائـجــه الـتّــمامُ

*

جِــدالٌ ، إنْ تَــضـمَّـنَـه انــفــعــالٌ

بــلا هَــدَفٍ ، يُــفـارقـــه الــوِئــامُ

*

مُـشــاوَرةُ المَكِيـنِ ، سُــلوكُ رُشْــدٍ

وعَـــقْـلَـنـةٍ ، بهــا يَـعـلـو الـمَــقــامُ

*

ومَـن رامَ الـتــألـقَ، صَـوْبَ نــورٍ

يُــؤاخي الصبـرَ، والصبـرُ التِزامُ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

سحبني من نومي في آخر الليل طرق على باب شقتي الصغيرة. فتحت عيني ثم اغمضتهما، لعلّ الطارق يخجل على نفسه ويدعني اواصل نومي الجميل في تلك الليلة الليلاء، إلا أن الطرق ما لبث أن تواصل. عندما ايقنت أن الطارق معنّد ولن يفكّ عنّي.. فكّرت في أن أفتح الباب له. إلا أن سلطان الكرى ما لبث أن الحّ علي غامزًا بعينه.. نم يا رجل.. نم الآن.. والصباح رباح. تواصلُ الطرق دبّ فيّ نوعًا مِنَ القلق، هل حصل شيء للأحباء وجاء مَن ينذرني؟ هل خشي علي محبّ أن أقضي في شقتي الوحيدة ولاحقه كابوس رأى فيه أنني أموت ويتحلّل جسدي في شقتي الوحيدة دون أن يعلم بي أحد؟.. هذه الاسئلة دفعتني إلى نوع من اليقظة.. فتحت عينيّ وسط تواصل الطرق، وكان لا بدّ هذه المرّة من المواجهة فإما.. وإما.. توجّهت نحو باب شقتي. دون أن أفتح الباب سألت مَن الطارق؟ فأجابني صوت انثوي.. إفتح الباب.. اعتقدت أنها إحدى الجارات.. أو إحدى الصديقات جاءت تطلب المساعدة في أمر ضروريّ لا يحتمل التأجيل، فبادرت إلى فتح الباب. رفعت نظري في صاحبة ذلك الصوت لأفاجأ بأنثى أشبه ما تكون بالملكة، بل هي ملكة تضع على رأسها التاج وتتراقص قُبالتي:

- مَن أنت سألتها؟ فردّت: أنا السيّدة كورونا.. ألا ترى علامتي المميّزة على رأسي؟.

ما إن سمعت كلماتها هذه حتى بادرت إلى إغلاق الباب، غير أنها دفعته ودخلت غصبًا عنّي، تراجعت إلى الوراء وأنا أشعر أن بدايتي انتهت، وأن كلّ أحلامي في كتابة القصص وإقناع العالم كلّه بأن تشيخوف آخر ظهر في الناصرة.. ذهبت أدراج الوهم.

جلست السيدة كورونا على مقعد قُبالتي، وغمزت لي بعينها سائلةً:

- ممَ أنت خائف؟ ما أنا إلا زائرة.. قد أمكث عددًا منَ الايام معك هنا في شقتك الدافئة.. بعدها قد أرحل.. وتختفي آثاري إلى لا رجعة.

- ماذا تريدين منّي أيتها السيدة.. قلت وأضفت مرسلًا نحوها نظرةَ توسّل: ألا يمكن أن تكوني أخطأت الطريق؟ ودخلت شقّتي بطريق الصدفة؟

عندها أخرجت دفترًا من تاجها وتمتمت قارئةً فيه.. ورفعت رأسها غارسة عينيها في عينيّ الوجلتين الخائقتين:

- ألست ناجي ظاهر.. الكاتب المعروف؟

التقطتُ كلمة المعروف من فمها وأهملت اسمي في محاولة منّي للنجاة بجلدي. قلت لها:

- أما انني ناجي ظاهر فهذا صحيح.. وأما أنني أنا الكاتب المعروف.. فإنني لا أعتقد.. أنا أشعر بأن حضوري وغيابي لا يعنيان أحدًا.

ضحكت السيدة الجالسة قُبالتي:

- لنتّفق أولًا.. الست ناجي ظاهر؟

هززت رأسي مُوحيًا إليها أنني أنا ناجي ظاهر بلحمه وشحمه. ضحكت الزائرة:

- إذا وافقتني على أنك المقصود من طلعتي هذه الليلة الشتوية الباردة. بإمكانك أن تترك لي أمر أنك كاتب معروف أو غير معروف. فأنا مَن يقرّر هذا الامر وليس أنت.. يا كاتبنا الجميل.

ما إن سمعت كلماتها هذه حتى انتابني شعور بالنهاية.. غلى الدم في عُروقي.. شعرت برعدة تزلّزل أركاني.. توجّهت إليها:

- والآن ماذا ستفعلين بي أيتها الملكة المبجّلة؟

افترّ ثغرُ السيّدة الزائرة عن ابتسامة حفلت بكمّ هائل من السخرية. نهضت من مكانها وسط تجمّد أطرافي خوفًا منها. دنت منّي. ربّتت على كتفي:

- لا تخف. كلّ ما أرجوه حاليا هو أن يتّسع سريرك الضيّق لاثنين، أنت وأنا، سأمكث هنا في زيارتك، فإما أن آخذك معي بعد فترة مِن الزمن وإما أتركك تواصل كتابة القصص.. وأمضي في طريقي عائدةً من حيث أتيت. وباحثة عن صيد أسمن منك.

- لماذا لا تتركيني الآن وتذهبي في حال سبيلك؟ لماذا لا تختصرين عليّ أحمالًا تنوء بحملها الجبال مِن الهموم؟ هتفت بها، فابتسمت مرةً أخرى:

- تروّ يا صديقي.. تروّ قليلًا لا تكن متسرّعًا عجولًا.. سأمكث معك هنا في هذه الشقّة الوحيدة المشوّشة.. سأقوم باصطحابك فترة مِن الزمن.. فإذا انست إلى صُحبتي أخذتك معي وأرحتك من هذه الهموم التي تعيشها ليل نهار، أما إذا عرفت كيف تتعامل معي.. فقد أدعك لمواصلة أحلامك الفارغة.

قالت هذه الكلمات دون أن تترُك لي مجالًا للرّد عليها.. طلبت منّي أن استرخي على سريري.. وعندما فعلت مدّت يدَها إلى جانبي موحية لي أنه لا مفرّ أمامي مِن إفساح المجال لها لأن تنام بقربي وإلى جانبي. استلقت إلى جانبي.. وأغمضت عينيها فأغمضت عينيّ.. بعد قليل فتحت عيني لعلّي أكتشف أن كلّ ما حدث حتى تلك اللحظة ما هو إلا أضغاث أوهام، إلا أنني فوجئت بها تتحرّك إلى جانبي وتفتح عينيها.. عندها أيقنت أنني أعيش لحظات قد تكون الاصعب في حياتي الصعبة أساسًا.. فزائرتي.. تلتصق بي كلّما مرّت لحظة.. أكثر فأكثر.. ورغم محاولاتي الهرب منها كانت تُفلح في كلّ مرة في الالتصاق بي.. الغريب المُريب أنها كانت تفلح في كلّ اقتراب لها.. في حين أنني كنت أفشل في المقابل..

عند هذا الحدّ شعرت بالنعاس يهاجمني مِن كلّ جهة وناحية، وكان لا بدّ لي من النوم. فنمت..

كانت تلك من أصعب الليالي في حياتي..

فتحت عينيّ بعد ثلاثة أيام من النوم والمُعاناة.. لأجد نفسي أطلق السعلة تلو الاخرى.. وليأتيني صدى سعلتها إلى جانبي مُماثلًا لسعلتي.. في كلّ شيء.. لقد باتت السعلةُ واحدةً.. والتنفسة الضيقة واحدة.. موحدة.. هل انتهى كلّ شيء. لا أعرف.. لأنتظر.. ماذا سيحدث ولأكن يقظًا كعادتي.. فأنا اؤمن أنه لا يُطلب منا أحيانًا في لحظات القسوة خاصة.. إلا أن نمرّر الوقت.. لأمرّر الوقت إذن ولأنتظر لحظة الفرج.. لأتخلّص مِن زائرتي .. ضيفتي الثقيلة.

في الليلة التالية في الهزيع الاخير منها.. سمعت طرقًا خفيفًا على باب شقّتي. شعورٌ غامر بالأمل والتساؤل حملني لأن أتوجّه إلى الباب. رفعت رأسي.. رفعت السيّدة الزائرة رأسها. مشيت نحو الباب فمشت إلى جانبي. إلا يمكنك أن تتركيني أيتها الثقيلة ولو لحظة واحدة؟ الغريب أنها هزّت رأسها علامة الرفض.. لا لن أتركك.. إلا عندما تنجح في الامتحان فإما تُكرم بالحياة وإما تُهان بالموت.. طيّب سنرى أيتها الزائرة. سنرى.. على كلّ لنرى مَن يطرق بابي الآن.. سمعت طرقة أخرى على الباب.. فعرفت مَن الطارق.. أنا أعرفها.. أعرفها مِن طرقتِها اللطيفة.. خمسون عامًا مضت عليّ وأنا استمع إلى طرقتها.. إذن هي القادمة.. هي .. هي.. هي.. قصتي الرائعة الجميلة.. مددت يدي إلى اكرة الباب وكلّي أمل أنها هي.. وأتاني صوت زائرتي أشبه ما يكون بفحيح أفعى توشك أن تختنق:

- لا تفتح الباب لها.. شقّتك الصغيرة المشوّشة لا تتّسع لاثنتين. إذا كانت القادمة أنثى سيكون عليّ أن أذهب.. لا تفتح الباب.

شعور بالقوة والامل يجتاحان اطرافي.. هل أتى الفرج بتمرير الوقت؟ ما أذكاك يا ناجي ظاهر.. عرفت كيف تدير المعركة أخيرًا.. قصّتك ستخلّصك مِن ضيفتك الثقيلة.. ما أحلى هذا.. آه ما أحلاه.. ومددت يدي بسرعة غريق طرق بابه أمل الخلاص.. مددتها إلى اكرة الباب.. وفتحته بكلّ ما لديّ من قوّة وحُلم.. لتدخل تلك.. ولتخرج هذه.. الزائرة الثقيلة.. بل اللعينة..

***

قصة ناجي ظاهر

 

(شكوى الحمزةُ إبْنُ وائِلَ إلى ولاةِ الدمِ)

ياربُّ عفْوَكَ إنْ أتيْتُكَ سائِلا

كَرَماً تُؤازِرُ في الشدائدِ وائِلا

*

لا عَدْلَ مابينَ الخلائقِ في الورى

فَقَصدْتُ خالِقَها الرحيمَ العادِلا

*

هاهُمْ وُلاةُ دمائِهم في سَكْرَةٍ

وَصَفوا القَتيلَ بِما يُريحُ القاتِلا

*

ربّاهُ قد غَدَرتْ أعاريبُ الحِمى

فَغَدا المُصابُ على رِجالِكَ هائِلا

*

تَتْرى على جَسَدِ الجريحِ نوائبٌ

لِيُذيعَ جَوّاً بالدِماءِ عَواجِلا

*

نَفَثوا صواريخَ الضغينةِ والخَنا

حِمَماً على فِلْذاتِهِ فَتَمايَلا

*

مَنْ هَوْلِ عَصْفِ الريحِ عندَ هُبوبِها

ثُمّ استوى جَبَلاً مَهيباً ماثِلا

*

وأراهُ يدفنُ صابراً أشلاءَهمْ

لتصيرَ أوقاتُ العَزاءِ فَواصِلا

*

أجُبِلْتَ من لُبِّ البَسالةِ والفِدا

لَتَصدَّ عن مسرى الرسولِ نَوازِلا

*

بِفِدائكَ الطوفانُ أصبحَ شُعْلةً

فَضَحتْ لِغافِلَةِ الأنامِ أراذِلا

*

قَطَعوا براعِمَكَ الفَتيّةَ إنّما

ماإنْفكَّ صوتُكَ في الفضاءِ زلازِلا

*

وَأخالُ حَمزةَ يرْتقي أُحُداً وقد

شَهَروا على كَبِدِ الشَهيدِ مَناجِلا

*

ياهِندُ قد شَهِدَ الغُرابُ على التي

حَمَلتْ بمكنونِ الفُؤادِ غَوائلا

*

وَتَهونُ طعناتُ الرماحِ على الفتى

وتظلُّ طعناتُ الرِياءِ نواجِلا

*

لم يبقَ غيرُكَ ياإلهي موئلاً

فَلَقدْ نَعينا في الفلاةِ مَوائلا

*

أبَتاهُ إنّي كافِرٌ بِعروبَةٍ

عَجَزتْ ترينا في الوقيعةِ صائلا

*

أفنيْتُ عُمْري عاشِقاً لِعُروبتي

وَلِأجْلِ عَيْنيْها هَجوْتُ عَواذِلا

*

واليومَ جِئْتُكَ تائباً مُسْتغْفِراً

عن عِشْقِ سلمى موطِناً وَقَبائلا

*

طَلَلٌ تَهاوى خَلْفَ ذاكِرتي سُدىً

مُذْ هَدّموا فوقَ الفُؤادِ منازِلا

*

خانوا الرِسالةَ يومَ أن بَعَثوا إلى

تلكَ اللقيطةِ في الظلامِ رسائلا

*

يَرْجونَها مَحْواً لِغَزّةَ هاشِمٍ

مَعَ كُلِّ مَنْ حَمَلَ اللواءَ مُقاتِلا

*

أتَهاوتِ الغاياتُ ياابْنَ أرومتي

حتى ترى في الأرْذَلينَ وَسائِلا

*

أبَتاهُ عُذراً إنْ هَجرْتُ عُروبَتي

ماعُدْتُ في نَغَماتِها مُتَفائلا

*

دَهْراً تُلَقّنَني شَمائلَ قومِنا

وَلَكمْ أضاعوا ياحَبيبُ شمائلا

*

تَرَكوا الثَكالى في العراءِ مواكباً

وكذا اليتامى في الهباءِ قوافِلا

*

أَتَهبُّ من كُلِّ الديارِ أعاجِمٌ

وَنَرى ذَوي القربى النِيامَ هَياكِلا

*

يختالُ طاغيةُ البلادِ خيانةً

حتى يرى في العاصفاتِ جَحافِلا

*

وَتَكادُ تشتعلُ المدائنُ في الدُنا

مُستهجنينَ مجازِراً وَمَهازِلا

*

عجباً نرى عَرَبَ البلادِ تقاعَسوا

والشعبَ في بلداننا مُتَثاقِلا

*

ياخاذلينَ كِرامَهمْ حينَ الوغى

وَيُلومُ منكمْ خاذلٌ مُتَخاذِلا

*

وَغَداً يُباهِلُنا الذي بَذَلَ الدِما

أكْرِمْ بمن خَبِرَ الجهادَ مُباهِلاً

***

د. مصطفى علي

 

عُدتُ الى ضفتنا

كل شيء كما هو

المقعد الفارغ

السياج الواطئ بوشاح النبات المتسلق

بضع وردات وحيدات

الإوزة البيضاء والنهر بمصابيحه الراقصة

أصوات السكارى الطيبين

حتى أناقة المساء بصحوه الخجول

بدتِ الأشجار واثقةً في الحديقة

كما أثق الآن بوحدتي

قلَّدتُ جلستنا وتحدثتُ مع الهواء

أيقنتُ بأن حمامةً تراقبني

تغفو وتُسِرُّ لنفسها

الشعراء يفشلون في استعادة اللحظات الهاربة

يطيلون الموت عند الذكريات

و ينجحون في السكوت عندما تحدثهم القصيدة

كل شيء هادئٌ هذا المساء

أيها القلب  المتورط بالشغف

الخارج من الليل الى الفجر محملاً بالحلم

ومن الفجر الى الصباح مبللاً بالوهم والندى

انه الضوء

ابتسمتُ بصمتٍ وَمَضيتُ

إذ سمعتُ الحمامة تطير قائلةً..

على الشاعر أن يكون خاسراً

***

فارس مطر / برلين

15.1.2024

في ديسمبر من هذا العام

أجدني أقف بلا ظلي

أتوارى مني

أنا الهناك في العام الماضي

حيث تركت ضحكتي

على الطاولة

وابتسامة شقية للنادل الأنيق

ولمعة عيني وهي تلاحق الألعاب النارية

من الطابق العلوي

ويدي في يده

كان الدفء عنوان المكان

كيف تمكنت من الخروج

وتركت ظلي هناك

يقرأ القصائد وحيداً

وسط ذاك الخراب

عن المطر المؤجل

والسنابل الغزيرة مد البصر

عن المعاطف وحميمية العرق

عن الأحلام والأسرار التي في عهدة الوسادة

عن الأقلام والدفاتر والكتب

عن الروائح التي تصارع المسافة

ولا تتوه

لتوقظ فينا الحنين للأماكن

عن العصفور الذي يستريح على النافذة

ويغني

موطني

م

و

ط

ن

ي

عن العرافة وسوء طالع العشاق

في زمن الحرب

حينما يعز اللقاء

وتتبعثر المشاعر

وتتعثر اللغة

وينتصر القبح

فتنزوي الحبيبة

وتترك الأيام

لتلون وجهها وشعرها بالرماد

ظلي

يجول في الشوارع

يحدث نفسه

في ديسمبر

تتهافت صناديق الهدايا

لمعانقة البهجة

تتزين المرايا

لاستقبال تفاصيل جديدة

مابين نهاية وبداية

وتقف اللهفة بيدها شمعة

إلا هنا

هنا لا شيء

الشوارع فارغة من أي دهشة

والناس؟

المدينة بلا أي ناس

ي

ق

ه

ق

ه

ويترنح

ي

ص

ر

خ

مرحباً بكم في

مدينة الظلال

تفقدوا ظلالكم يا سادة ...!!!

***

أريج محمد - السودان

سيحدث ما يجب ان يحدث

رأيت جملا بسنمين

يرقص رقصة التانجو

كأنه يلعب على حبل

في باحة اضلاعها غير متساوية

*

قرأت عن قصائد

تحكي عن اشياء تافهة

مكتوبة بحروف ابجدية

محفوفة بالتعاويذ

والطقوس الفراهيدية

*

وسمعت عن اموات بلا كفن

يستنجدون برائحة التراب

الضارب الى السواد

في مقبرة  متأرجحة

على حين غرة

كادت تصيبهم نوبة احتضارية

*

ثمة جنرالات بلا زي عسكري

ولا نياشين مرصعة

ولا حتى بندقية صيد

تراهم يشترون الذمم

برائحة الغاز

وحفنة من نفط خام

ويعتقدون انفسهم

اكثر ذكاءا من الآخرين

في السياسة الميكفالية

*

وقرأت في كتاب فرنسي

عن فيزياء الجسد

لعوانس يكتمن اسرارهن

في حضن راهبات

يقطن دير مهجور

لا تلجأه الا العناكب المخصية

*

أتظاهر برفع الراية البيضاء

وادخل في حرب عسكرية

ضد الغزو الافتراضي

واشعر ان خسارتي الفادحة

سوف تعوضني برهان

لا يخضع لقوانين اللعبة النرجسية

*

اتمنى ان اكون هناك

بين ضفتي كتاب

او جدران زنزانة

تحرسها غربان

باقنعة انسانية

*

لوكان هناك متسع

لامتطيت ذاكرة المنفى

وقمت بهبوط اضطراري

على الضفة الاخرى النائية

*

لقد مات الشاعر

وقبل ان يغادرنا

مزق قماش كفنه

ثم كتب على شاهدة قبره:

هنا يرقد شاعر مفلس

لم يدفع فواتيرالحفر

ولا اجرة الدفن

ولا اجرة العزاء

حتى نواح العجائز

لم يزكيها احسن تزكية

***

بن يونس ماجن

للبحرِ أسرارٌ... ولي أســـــرار ُ

وغُموضنا في الحالتينِ قرار ُ

*

فهو الذي في موجـــهِ قيثارة ٌ

ولهُ بأفئـــدةِ الهوى أوتــــــار ُ

*

وبِعُمْـــقِهِ للمعجباتِ نفــــائس ٌ

تُبديها في سِحْرِ العيونِ مِحار ُ

*

وله بطرفِ الحور (كاريزما)..وما

للدافئاتِ بِحُضنــــــــــــه ِإنكار ُ!

*

وبِمَـــدِّه شغفٌ يُكرِّرُ سُــــؤْلهُ

وبِجَزْرِهِ  ردٌّ  هو الإضْمْـــــار ُ!

*

هو مافَشَى للضالعاتِ بأمره ِ

أن الهوى في صَدْرِهِ هَــدَّارُ

*

وبأنهُ في كل طَرْفَةِ عاشق ٍ

يَشدو ويَسمعُ هَمْسَهُ البَحَّار ُ

*

هو عـــــاشق ٌأبداً وحَسْبُهُ أنَّهُ

للزائـــــرات ِعلى ضِفافِه ِ دار ُ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

كما في كلّ بلدة أخرى هكذا في بلدتنا المُعْتَزَّة أنّها كانت ولا تزال بلد العلم والثقافة بنسبة المُتعلّمين العالية، فمدرستها الابتدائية قديمة جدا بناها المسكوب الروس عام 1883 والثانوية أسّسها خمسة رجال من البلدة بعد عام النّكبة بثلاث سنوات. كان الطلاب يأتونها من أكثر من عشرين بلدة، وخرّجت الآلاف من الطالبات والطلاب الذين انتشروا في كلّ مَرافق الحياة وبرزوا بنجاحهم المُتميّز. وأوّل ثلاثة طلاب عرب بعد عام النكبة التحقوا بالجامعة العبرية في القدس كانوا من بلدتنا، حتى النّساء كنّ من عهد الانتداب البريطاني على البلاد تقرأن وتكتبن، والعشرات منهنّ تُدَرِّسْن في كل مدارس البلدات القريبة، وتُشغلن مناصب مختلفة، وعضوات في نواد كثيرة، وكان الناس من مختلف القرى المُحيطة يأتون إلى أسواقها ودكاكينها، فحلّاق القرية يأتيه الناس من مختلف الأماكن، والدكتور شيبان وصلت شهرته لكل البلاد بأنّه يُعيد الحياة لمَن يموت. أمّا عن خوري البلدة ميشيل فحَدِّث ولا حَرَج، مَلاك على شكل إنسان، يشفي من كلّ مرض، ويُعيد الضائع لأهله، وقصّته التي يرويها الناس عنه عندما غرق ابن بلدنا في البحر، وعَجِزَ السبّاحون ورجال البحرية من الشرطة في العثور عليه طلبوا من الخوري أن يُساعدهم، فرافق رجال الشرطة البحرية ووجّه السّفينة إلى المكان الذي حدّده وانتشلوه.

بلدتنا هذه كان فيها مختار لكلّ طائفة، وزعيم لكلّ عائلة يزوره رجالُ الحكومة والضيوف الكبار، ويحلّ من المَشنقة لعلاقته القويّة جدا بالحكومة، ومحبوب من كلّ الخواجات خاصّة من الحاكم العسكري. وما كان يُنغّص على المخاتير والزعماء يوم حضور شخصية حكومية كبيرة زمرة من الشباب الصّايْعين، كما كان يصفهم رئيس البلد، الذين يقومون بالصّراخ والسّباب في وجه الضيف، وإذا ما سأل الضيف باستغراب واستنكار:

- شو اللي بَسْمعو وبَشوفو، عندكم في بلدكم شيوعيّة؟

يُسارع الرئيس للتّبرُّؤ ورفض التّهمة ويردّ وهو يرتجف:

- لأ يا سيدي، هذول شوية شباب صايْعين لا تُشغل بالَك فيهم.

وفي بلدتنا كانت أم عوّاد المرأة القويّة التي تسير في الشارع وحولها أولادها رزق الله وسعد الله وعطا الله ونصر الله وركن الله وعز الله وفتح الله وحَسْب الله، وإذا ما قالت لها امرأة مرّت بها:

- الله يخلليك هالشباب

تُجيبها أم عوّاد بسرعة: خَمْسة في عيون الحَسود، سَمّي قبل ما تِحْكي.. لَتْكوني بِتْصيبي بالعين.

ولا تجد المرأة إلّا الاعتذار لأمّ عوّاد وتدعو لها ولأولادها بالصّحة والعافية والعمر الطويل وإبْعاد عيون الحُسّاد عنهم.

أم عوّاد امرأة محبوبة في البلدة، ضحكتُها لا تُفارق مُحيّاها وتُسْمَع من بعيد، ولكنّها امرأة مَهْيوبة ومَرْهوبة من كلّ نساء البلدة وحتى الرّجال. فإذا ما حضرت تحمل تنكتَها لتملأها بالماء من الحنفيّة وسط الحارة تؤكد للجميع أنّ الحقّ لها الآن لمَلء تنكتها فالدّور دورها واللي مش مْصَدْقة تروح تشكيها للرئيس تَشوف شو بَدْها تحصِّل من حضرته. فتضحك كلّ الموجودات، وتُفسِحْن لها الطريق، وحتى تتبرّع بعضُهنّ لمساعدتها.

أهل البلدة لا ينسَوْن مواقف أم عوّاد البطوليّة يوم معركة الزّيت ضدّ الشرطة والضابط أبو خضر الذي كان يُخيف المنطقة ويسجن ويطرد وينفي ويضرب مَن يريد من الناس ولا أحد يُحاسبه. وكيف كان يصول ويجول وخاصّة أيام جَمْع موسم الزيتون، ويراقب كل فرد من المَلّاكين وأصحاب مَعاصر الزيت حتى لا يقوم أي واحد بإخفاء بعض منتوجه من الزيت والزيتون، ولا يُسَلّمه لموظفي وزارة التّموين الذين يُقرّرون السِّعر للكيلغرام ، ويصادرونه لحساب الحكومة، وكثيرا ما كان يدخل البيوت ويُعيث فيها فسادا بعد وشاية تصله أو رغبة منه ليحافظ على هيبته وعنجهيّته وسطوته ولا يجرؤ واحد على الاعتراض. وأكثر ما كان يغيظه تعمّد بعض الشباب صغار السن الذين يمرّون بقربه ويضحكون بصوت عال أو لا يُعيرونه أيّ اهتمام وكأنّهم لم يروه.

أهل البلدة كلّهم يتذكرون بداية موسم جَمْع الزيتون عام 1952 كيف دخل الضابط أبو خضر إلى البلدة من الحارة الشرقية وحوله وخلفه عدد كبير من أفراد الشرطة يصرخ ويشتم ويُهدّد ويتوعّد كلّ مَن يجد في بيته نقطة زيت أو حبّة زيتون لم يُصرِّح عنها.

لحُسْن حظّ أهل البلدة وسوء حظّ أبو خضر أنّه التقى بالصّدفة بأمّ عوّاد وهي تسير وحولها أولادها والعديد من النساء بعد تأديتهن الصلاة في الكنيسة تتكلّم بصوت عال وتُشير إلى رجال الشرطة قائلة:

- أولاد الحرام صاروا جايّْين!

فسمعها أبو خضر وأراد تأديبَها:

- لوين يا حُرْمة تعي لهون

سألته أم عوّاد: بتحكي معي؟ ليش شو خصّك تَتِسْألني لَوين؟

فصرخ بها: أنت مش عارفة مين أنا؟ تَعي لهون.

نظرت إليه بجرأة وتحدٍّ: بَعرفك بِقولولك أبو خضر، بَسْ لو الخَضر يوخذ روحَك ويْرَيِّحْنا منَّك.

وهاج أبو خضر وتقدّم نحوها رافعا يده ليضربها فما كان منها إلّا أنْ أمسكت بيده وضربته على وجهه، ودفعت به بقوة فسقط في قناة العَكر الذي يخرج من معصرة الزيت.

وهجم رجال الشرطة وسارعت النساء الموجودات والأولاد وبعض الرجال لصَدّهم، ودارت معركة كبيرة انتهت بانسحاب الضابط أبو خضر مع يده المكسورة وثيابه المُبللة والمُلطّخة بالعَكر مع رجاله وهو يتوعَّد ويُهدّد بأنه سيعود لينتقم.

هكذا تحوّلت أم عوّاد لتكون البَطلة المحبوبة في البلدة: الكل يمدحها ويستعيدُ مشهدَ رَمْيها للضابط أبي خضر في القناة وبَصقها عليه، وصعوبة تخليصه من بين يديها على يد أفراد الشرطة، ولكنّ الكلّ خاف عاقبة فعلتها وما يمكن أنْ يكون انتقام الحكومة.

وجاء العقاب سريعا، فقد هاجمت قوّات من الشرطة برفقة موظفين من وزارة التّموين البلدة وصادروا كلَّ ما وجدوه من زيت وزيتون في الخوابي والبراميل. وتحدِّيا لما فعلته الشرطة كتب شاعر البلدة مسرحيّة باسم "موسم زيتون" تُخلِّد معركة يوم الزيت، وعلى مَدار ثلاث سنوات قام مَسرح تَشكّل من فتيات وشبان البلدة بعرض مسرحية "موسم زيتون" حضرها معظمُ السكان، وكانت تُخْتَتَم بتحيّة أم عوّاد بترديد اسمها ثلاث مرّات رغم غضب أفراد الشرطة الذين كانوا يقفون على بعد أمتار ويتابعون ما يجري.

وفي البلدة عاش أيضا الحَلّاق عيسى المُرجان، شاب خلوق يحلق للشباب شَعْرَهم مقابل قروش قليلة. كان يُعاني من شَلل في رجله اليسرى فيجد صعوبة في المَشي لكنه عوّض ذلك بكلامه الجميل وتقرّبه من كلّ الناس وخدمتهم بحَلق شَعْرهم. اختلف الناس في سبب عَرْجه، البعض يقول منذ ولادته كان مشلولا، والبعض يقول إنّ سبب شلل رجله أنه يوم دخل اليهود البلدة عام النكبة واحتلوها انتبه لطائرة تقترب منه فركض، وكان في مقتبل شبابه، ليحتمي في أقرب دار منه، ولسوء حظّه ألقت الطائرة قنبلة على الدار فهدمتها، سارع عيسى ليهربَ فعلقت رجلُه بقضيب حديد طويل وانكسرت في عدة مواضع، وهكذا قضى حياته مشلولا حتى عُرف عند البعض بعيسى الأعرج.

وكما عيسى المرجان أيضا كان في بلدتنا نايف الفوزي اليتيم الذي عاش حياته مع أمّه في غرفة بائسة، عمل في نَقْل الماء إلى البيوت مقابل أجرة محدّدة. نايف الفوزي كان شابا بسيطا صموتا لا يحبّ الكلام ولا يتصادق مع أحد. طوال اليوم ينقل الماء من العين إلى البيوت ويعود آخر النهار إلى أمّه يُساهرها وينام مبكّرا.

أذكر أنني كنتُ أحبُّ عيسى المرجان فقد كانت محلقتُه قريبة من بيتنا، وكان الذي يَحلق لي شعري بداية كلّ شهر. والأهمّ أنني كنتُ أجد عنده مَخبَئي من غضب والدي عندما كنتُ أقوم بعمل يستحق العقاب.

أمّا نايف الفوزي فلم تكن لي أيّ علاقة به، دائما أراه يسوق حمارَه أمامَه وعلى ظهر الحمار تنكات الماء التي عبَّأها من العين وينقلها إلى البيوت التي طلبتها. يسير ينظر أمامه، لا يُكلّم أحدا ولا يُلقي السلام على أحد، وإذا ما حاول ولدٌ التّعرّضَ له يرفع به ويضعه على ظهر الحمار ويقولُ له سأبيعُك للنَّوَر. فيصرخ الولد ويستنجدُ بالآخرين، البعض يُنجده ويُخلّصه، والبعض يتركه لأنّه تطاول على الذي يكبره بالسّن.

بمرور السنوات بدأت ملامحُ الضّعف والعَجز والتّعب تبدو على وجْهَي عيسى المرجان ونايف الفوزي. وكانت الضربة القاضية التي حلّت بنايف الفوزي أنّ العمل بمشروع إيصال المياه إلى البيوت تمّ، ولم تعد الحاجة له ولغيره بإيصال الماء من العين البعيدة إلى البيوت. فحُرم من مصدر رزقه. صحيح أنّ موت أمّه خفّف عنه المصاريف. ولكنه ظلّ بحاجة للمال ليضمن شراء حاجيّاته الأساسية ممّا اضطره لقبول العمل بأيّ شيء مقابل أنْ يحصل على المال. وبانقطاعه عن الناس وعدم حاجتهم لخدماته لم يجد غير عيسى المرجان ليزوره ويُجالسه ويُبادله الحديث. فهو مثله مقطوع من شجره. لم يتزوج وليس له أولاد. وحتى إذا ماتَ قد لا يجدُ مَنْ يقوم بغَسْله وتكفينه ودَفْنه. فأيام كانت قلوبُ الناس على بعضها انتهت، وقد لا يسأل الواحدُ عن حالة أخيه أو جاره. زمنٌ غدّار. هكذا كان عيسى المرجان يُكرّرُ على مسامع نايف الفوزي الذي يُوافقُه بهزّة رأسه.

وكثرت شكاوى عيسى المرجان لنايف الفوزي على أولاد يقومون بمُضايقته ومُناداته بالأعرج ويرمون ببعض الحجارة على بابه، وشكا بشكل خاص من مُضايقات وتَعدّيات سَعْد الله ابن أمّ عوّاد ومن عدَم مساعدة أحد له في طرد الأولاد.

وصدف أنْ كان نايف الفوزي يجلس عند عيسى المرجان وإذا بصَخَب أولاد يقتربُ وتدخلُ عليه أمّ عوّاد وأولادها مُحيية وسائلة باستنكار:

- صحيح يا عمي عيسى شو قَلْلي صاحبك نايف الفوزي إنّو اولادي بضايقوك وبِرْموا عليك حجارة؟

نَقَّل عيسى المرجان عينيه بين الأولاد فرأى إشارات التّهديد التي تتوعده من كلّ واحد.

فابتسم بخوف وقال وهو يُداعبُ رأس الشقيّ المُشاغب سَعد الله:

- يا أم عوّاد ولادك الله يخليهم مثل كلّ الولاد، وبَعِدّْهُم اولادي وبَفْرح فيهم، بَس بضايقوني شوية، أنا بَحبّهم بَس هذا العكروت قرد الله هو إلْلي مِتْعبني أكثر واحد.

وانتفضت أم عوّاد وصرَخت بأولادها:

- يلّا كلّ واحد يبوس إيد سيدو عيسى ويْقولو سامحني.

وبعد أنْ نفّذ الجميع ما أمَرت به قالت:

- وحتى يكون كل اشي منيح إسّى سيدكو عيسى بحلقلكو شَعركو.

واصطفَّ الأولاد، وأخذ عيسى المرجان يقصّ شَعر الواحد بعد الآخر. وبعد أن انتهى من عمله وقفت أم عواد وقالت:

- يسلموا ايديك يا عمي عيسى، وانشا الله بعد مرة بَسْمع إنُّه واحد منهم ضايقك وخاصة سعد الله سَأقْطعْله لسانه.

وخرجت والأولاد يُسابقونها ونظرات عيسى المرجان تُتابع خطواتها وبسمة حزينة تمتزج بدمعة حاول اخفاءَها بيده.

وانقطعت أخبار نايف الفوزي ولم يعد عيسى المرجان يلتقيه حتى علم من أحد الذين يحلقون عنده أنَّه مريض وحالته صعبه ولا يوجد مَن يمدّ له المساعدة بعد موت قريبة له كانت تعطف عليه وتزوره. وبعد أسابيع سمع أنّ نايف الفوزي تَوَفّاه الله وارتاح من مَصاعب الحياة.

وبعد أقل من ثلاثة أشهر لاحظ بعض جيران عيسى المرجان أنّ بابَ المَحلقة يظلّ مُقْفلا، وعرفوا أنّه مَرضَ وفَقَد القُدرةَ على الحركة، ولعدم وجود مَنْ يعتني به لم يصمد كثيرا ومات.

**

قصة: د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

تخرج كل صباح تسأل قوت يومها، يرافقها قفتها التي اخذت تأريخ من مساحة عمرها، وهنة مثل سنينه، ضاع بين متاهات ازقة وهي تطرق الابواب طالبة الخبز اليابس، حتى ولو كان قد اصابه العفن عفن الفائض عن الحاجة، الشمس لا ترحم وهي تتزاحم مع رطوبة الجو، الرمضاء تأكل من اقدامها، برغم عجزها تقفز باحثة عن ظل يؤيها للحظة، خرج لسانها يعوي يلعق شفاة متيبسة طلبا للبلل.. لم تعينها قواها على السير اكثر، انزوت بسد جدار يزفر من بطنه هواء ساخن، ومن شدة زفرة يدفع حنقه قطرات الماء، تلقفها لسانها دون ان تسأل... فالعطش نال منها، كل ذلك وقفتها تتسائل كم حقير انت ايها الزمن؟ لا.. بل كم نحن حقراء في هذا الزمن، العناوين متفشية كالسرطان كثيرة لكن الفقر متفش بأضعاف، مبرات الايتام في ازدياد، مكاتب دعم الفقراء الشرعية والغير شرعية، دوائر حقوق الانسان، عناوين... وعناوين، لكن الحرمان اثواب سملة للمعوزين، يرتدوها ملابس اعياد أيام ميتة، كل من عليها فان، للصبر اجران، اجر الصبر نفسه واجر الصبر على الصبر، إذن هو الحنظل أليس كذلك؟؟! امسكت باصابع خشنة لسان قفتها وهي تقول: أششششش لا تثرثري فما عاد تجدي الثرثرة، لقد بتنا أناس اسلام دون مسلمين، ورع دون تقوى، امة تبحث تقتات الفقراء مناصب سياسية... تحول مأسيهم الى ارقام ونسب، يركبون ما يسمونه البرلمان، يركلون بأحذيتم البالية القديمة اصوات جوع الفقراء، يقتلونهم لأن الجوع كافر يستحق القتل، فلم تبحث عن المستحيل في اللامستحيل، انها رسالة الى ابواب السماء لكنها دون عنوان فجميع العناوين استنفذت كرسائل تماما مثل الوصايا العشر... ما ان عاد بها النبي موسى و شاهد السامري وقومه يعبدون عجلا من الذهب حتى حطم الوصايا، فلا حاجة لوصايا الرب لسادة يعبدون أصنام انفسهم اربابا، اما الفقراء فلا زالوا فقراء ما لم يزدادو فقرا، ان البحث عن بقايا خبز غيرعفن غاية طموحهم، هكذا خلقهم الله عوزهم كالنار وقودها الناس والحجارة، ساعات ظهيرة حارقة مرت وهي لازالت قابعة في ذلك الظل الذي سرقته الشمس عنها دون ان تشعر... مر احدهم، شاهدها مستلقية على قفتها، نادى عليها ايتها المرأة العجوز قومي معي، تعالي الى الداخل اروي ظمأك من هذا الحر، لدي الكثير من الخبز اليابس... لكنها كانت متيبسة كخشبة حطب منخورة فالموت قد آواها إليه رفقا بها.

***

عبد الجبار الحمدي

 

كَــنَــجمَتين فـــي الــدجــى

يَــــلــفُّــهُــنَّ الــمِــعــطَــفُ

*

الــــبــدرُ لــــو رأُهُــــمــا

مــن غَــيْــرَةٍ قــد يُــخسفُ

*

ذُهِــــلْــتُ لــــمّــا أشْــرَقــا

وراحَ قَــلــبــي يَــــرجِــفُ

*

قـــد أَحــدَثَــا فــي داخــلي

نـــاراً وريــحــاً تَــعصِفً

*

زَوابِـــــعـــاً مَــجــنُــونَــةً

مـــن هــولــها لاتــوصفُ

*

وأنــــقَــذَتْــنِــي بَــــسْــمَــةٌ

إذْ كــنتُ سـوفَ أتْـــلَـــــفُ

*

أَدرَكْــــتُ أنِّــــي هــائِــمٌ

لــلــحــبِّ قــلــبي يــهــتفُ

*

أحْسَسْتُ في الصغرى هوىً

أحــــلامُــهــا تُـــرَفْـــرِفُ

*

ومــــا خَــــفَــتْ بــقــلبِهَا

بــالــعينِ راحـــتْ تَــكْشِفُ

*

وقــالــتْ الــكــبرى: أَجــلْ

أهــــواكَ إنـــي أحــلِــفُ

*

ومِــــنــكَ يــــا مُــعَــذِّبــي

غَـــدَتْ عــيــوني تــذرِفُ

*

شــقــيقتانِ فـــي الــهــوى

طــبــعُ الــهوى لايــنصفُ

*

يــاقــلــبُ قــد حيَّـرتَنِـي

أُحِـــبُّ مَــنْ لا أَعْــرِفُ؟

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

بين اشتدادك... وانزوائي

خيط رفيع ضائع

ضياع الفصل

بين معنى الحلم

والتمويه في تفسير الوهم

نقيضان بينهما دمي

وسنين ...ينطفيء في بردها وهجي

بيني وبينك ....قصيد شهم

على صبواته جوع الهي

تشكل من حطب النأي

وحريق الانتظار

فانبعث انثى تتدثر

باغنيات الشرود

عند أطلال دارسات في الرمال

في دروب التيه... أنتفض

المعصم ندوب قيود ...لا تندمل

والذكرى على شاشة  الافق ترتسم

عصفورين مرصودين

في برد الشوارع

غارقين في نهر الحنين

ووشوشات الليلك

كلما رف طير الصباح

على وجنة اليقظة القاسية

رقصت في دمي الابجديات

ومات في شرياني الزيزفون

مجبولة حروفي على ملاحقة السراب

وربيعك عناد...جزر...واعصار

عند تخومه أرابط مهرة

تترامح بين الاياب والادبار

أعاتب الريح

والاماكن التي اجتاحها الضوء

قبل ان أدون على شاشة الليل

اخر اعترافاتي ....

موجز مخاض كاذب

رجني عند جدع نخلة خاوية

كنت آمل ان ينفلق الفجر

ندى ...وغماما

يلغي مسافات الخريف

لكن الريح ...

كسرت عناد الشعر

اقتلعت وتد القصيد

وأغرقت احلام الامس

في حمرة الشفق الذبيح

*

هذي الحروف

قشدة الزمن البخيل

لب الصمت المتمترس

في مساء انيق

ما انفك يسالني=

كيف حال الشوق في الغياب؟

أزرع كافورة في الغسق وأرد=

بعافية ...ايها المترجل في العشق

الحامل هم الحزن الوديع

ما رايك ان تؤرخ حلمي

من اول الحكايات البائدة؟

ليدرك العابرون

كم عثرة أجلت الوعد المكنون

كم بذرة تسامقت

كيما يلتقي الخطان المتوازيان

فيصيرا شجرة

تمد اغصانها ..قطوفا دانية

للحلم اليانع ...في المدى

من الكلام...يبتدعان زهرا

متحمسا لحدائق الهيام

مزينا سمته بشوك التمنع

ليتنامى في موجات اللهيب...السؤال

ويغدو الجواب

كل ما آنسه الاحتراق ...

عند اول الشعر ....واكتمال الانهيار

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أبوح لك بأمر ونحن في منتصف فصل شتائي يشتد برودة كلما بسط حضوره في مسام الورق وفي جلدي...

أخبرك بعد أن تقلص مداد قلمي كأن الأجواء الشتوية نابت عن كتاباتي....

بعد انكماش أبجديتي على السطر برغم تراكمات الأحرف الكتابية في مخيلتي... كأن الشتاء جاء مختصراً شارحاً كل المفردات المكتوبة باسمه....

لا يمكن تصور ارتجافي وأنا أقف على جانب حرف عصي على الخروج من رحم القلم كأن كتلة صمت متجمدة تسد الفوهة....

إنني أصارع حتى مفرداتي في حلبة الورق لأبقيك على مقربة من الأشياء المتوهجة على هيئة نص مكتوب بجر حبر وضوء حرف...

إنني أتساءل هل تصلك رسائلي باردة كبرودة كانون الثلجي العاصف من خلال سطر عصي على الكتابة...

لو كان بأمكاني أن أبعث لك شتاءات مطرزة بحبات الندى الصباحية وهي تتزحلق من أعلى نافذتي....

لو كان بإمكاني أن أعبر طريقاً آخر أكثر دفئاً وأكثر هدوءاً من تداخلات الطرقات الضيقة وهذا الشتات المبعثر على رصيف حرف طويل...

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان....

في نصوص اليوم