نصوص أدبية

نصوص أدبية

في البلدان المرعوبة من الكلام

يبتر المواطنون ألسنتهم بأيديهم

مخافة أن تلدغ أحداً

أو ربما يقتلعونها من جذورها

لضمان ألا تنمو عليها براعم سامة

أما في بلداننا الحُرّة

فنحنُ آباءُ الكلام وأبناؤه

لا نبتلع الضفادع لتنُقَّ من بطوننا

أما ألسنتنا

فالسلطات الحكيمة تحُثّنا على تكثيرها

بالانشطار، أو بالترقيد

**

لكلّ مواطن ببلداننا الحُرّة

عشراتُ الألسنة في فمه

بعضنا يُرقّمُها

أو يُلبِسُها أحذية وطاقيات

وبعضنا يربطها بالسلاسل

كي لا تهرب من فمه

منخدعة بنظرات العُشّاق العابثين

**

عندما تمتلئ الأفواه بالألسنة

يفقد بعضنا القدرة على تمييز فمه

فيحشر لقمته في أذنيه

لكننا جميعاً حريصون ألا تتعفّنَ ألسنتنا من الصمت

لذلك يتخذ بعضنا منها أحزمة

لضمان عدم سقوط كرشه منه عند الركض

وبعضنا يحصد منها ما يفيض عن حاجته

فيطبخها

ويولم عليها المحرومين من النطق

أنا اتخذتُ من لساني مجرفة

أحفر بها في جوفي

أملاً في العثور على كلمة حق

***

شعر: ليث الصندوق

بسرد متقطع

أصعد إلى ربوة كتفيك..

دقات قلبي مطر خفيف..

يساقط على قرميد الجسد..

لأن حمامة روحي عالقة بعمودك الفقري..

لأن الهدية الثمينة التي حظيت بها

كانت رصاصة طائشة في القلب..

الحرب ملأت بيوت الجيران

بالدموع والتوابيت..

والجنود الذين ماتوا مساء

خلفوا نصوصا عميقة في مخيال المعزين..

كنت أصغي إلى أوركسترا البنادق.

رقصة القناصة على حبل الهواجس..

كنا نشيع قتلانا مثل نيازك مذعورة.

ندع بريدنا في صندوق الأبدية..

نخاتل وعول الموت في الممرات الضيقة..

كل يذهب إلى سماء حبيبته

على براق المخيلة ..

ليخفف من وطأة المنفى

والغبار العائلي.

***

فتحي مهذب - تونس

.....................

ترجمة الأديب السوداني صلاح القيوايدي

Textes-Contre-la_Guerre 21 En

Narration Intermittente.

En narration intermittente,

Je monterai jusqu'au sommet de tes épaules ...

Mon cœur bat un peu de la pluie..

Il tombe sur la brique du corps ...

Parce que la colombe de mon âme,

Est collée à ta colonne vertébrale.

Parce que le précieux cadeau,

Que tu as reçu,

Ce n'était qu'une balle perdue, dans le cœur.

*

La guerre a rempli les maisons,

De voisins avec des larmes,

Et des cercueils...

Et les soldats morts le soir,

Ont laissé des textes profonds,

Dans l’imaginaire des personnes en deuil.

*

J'écoutais l'orchestre de fusiliers,

La danse des tireurs d'élite, sur la corde des obsessions ...

*

Nous répandons nos morts,

Comme des météores terrifiés,

Nous laissons notre courrier dans la boîte de l'éternité...

Nous nous battons et hurlons la mort,

Dans les couloirs étroits.

*

Tout le monde va au ciel de sa bien-aimée,

Sur l'éclat de l'imagination...

Pour alléger le fardeau de l’exil,

Et la poussière de la famille.

***

Fathi Mohadhab - Tunisie

مُن أَلْفِ نِسْيَانٍ

حائط أحدبْ

يَنْحَدِرُ ظِلُّهُ الزَّاهِدُ

نَمْضِي انتظارَه

مُنْتَشِرًا يُلَمْلِمُ أَنْقَاضَهُ

يُلَمْلِمُ بِنَا النِّسْيَانُ

صُعُودًا

خَاصِرَةَ الْحَائِط

مِنْ بيّنِ..

الجُرح - الشَرخُ

الشَّاخِصُ قَدْرٌ

غَيْرُ قَدَرِنَا

عشَبةْ حُرَّةَ....

العشبةُ:

الظَّلُّ مَوْهُومٌ هُويَةٌ.

الْهُويِة

غَائِرَةٌ فِي جَوْفِ النِّسْيَانِ

الْعُشْبةُ ...

لَا تَكْسِرُ الْمَرَايَا

مَرْجعًا

أنتظرُكَ......

***

فلاح الشابندر - تونس

8/ 7 / 2023

1ـ طاغية في مقبرة جماعية

في الطريقِ الى الله

رأيتُ كلَّ شيءٍ،

إلّا وجهَ ذاكَ الطاغيةِ الناقصِ

الذي كانَ يعتقدُ

وربَّما يتوهّمُ

إنَّهُ خليفتهُ

على هذهِ الأرضِ الصغيرة

التي حتماً

سنرثُها نحنُ

لتكونَ فيها

قيامتَنا الأخيرة

أو مقبرتَنا الجماعية

*

2ـ مواعيد المسرّات والأسرار

المواعيدُ …

مباهجُ وأسرارٌ ومسرّاتْ

المواعيدُ …

بساتينٌ مُكتظّةٌ بفاكهةِ الرغباتْ

المواعيدُ …

جنائنُ عشقٍ وجنونٍ ومواويلْ

المواعيدُ

غاباتٌ غامضةٌ

وعناقيدٌ ناضجةٌ

ومواسمُ للقبُلِ الشهيّةُ

التي نقطفُها

نحنُ العشّاقُ المرحونَ

وتقتنصُها العاشقاتُ الشبقاتِ

في كلِّ الأوقاتْ

ويقتنصُها الشعراءُ المجانين

والفتيانُ المشاغبونَ

في البيوتِ والسطوحِ

والأعيادِ بطقوسِها

وعوالمِها وأسرارِها

وأمكنتها ومسرّاتِها

التي تسرقُ النومَ

من أجفانِنا المتلذذةِ

بهذا السهاد الجميل

وبفراشاتِ النعاسِ

التي تغمرُنا بالكحلِ

والعطرِ والرحيقْ

*

3ـ غابة في ورقة

بكتِ الورقة

حينَ جاءَ الخريفُ

إجتاحَها …

وصيَّرَها …

غابةً مُحترقة

*

4ـ رسائل الدم والدموع

الرسائلُ القديمة

التي كُنّا نكتبُها لأمهاتِنا وحبيباتِنا

في أزمنةِ الحروب

الآنَ بدأتْ تصلُنا مُلطَّخةً

بالدمِ

والدموعِ

والحنينْ

*

5ـ بعوضة مسكينة

هلِ اللهُ يتلذذُ

بتعذيبِ الفقراءِ

بالأمراضِ والأوبئةِ والمجاعاتْ

بالزلازل والفيضاناتِ والحروبِ

حتى يُرينا قدرتَهُ الربانية؟

أَمْ أَنَّهُ في الحقيقة

لا يستحي أَنْ يضربَ مثلاً

بكلِّ هذا ...

كما فعلَها في وقتٍ سابق

مع بعوضةٍ مسكينة؟

*

6ـ فراشةُ حُب وضوء

يتبعُني ظلُّكِ

يا فراشةَ الضوءِ

وشمعةَ الأَحلامْ

وكلَّما أَردتُ أَنْ ألْمَسَكِ

أَضيعُ في متاهةِ الدهشةِ والغوايةِ

وفي دمي تشتعلُ القصيدة

*

7ـ لا أعرف للخوف أبجدية

وحيدٌ انا الآنَ

في عاصفةٍ بيضاءْ

بردٌ ارعن

مطرٌ مجنون

وثلوجٌ حمقاء

وانا برغمِ المنفى الغامضِ

والفادحِ والمجهول

والغربةِ السوداء

في البلادِ الغريبة

لا أعرفُ للخوفِ شكلاً

ولا أبجدية مشروطة

ولا أعرفُ لليأسِ معنى

ولا أنحني للزمنِ الثقييييل

وها أنا الآن أمشي

بعيداً بعيداااااااااا

وها أنا الآنَ أمضي

عميقاً عميقااااا

في هذهِ المتاهةِ

الرماديةِ الغامضة

المدى الكوني أفقي

وبلاديَ السمراءُ أغنيتي

وحلمي المستحيلْ

***

سعد جاسم

حُروبٌ لا يُخالِطُها انْتِكاسُ

ونصْرٌ للنهايةِ يا حَمَاسُ

*

وطوفانٌ سَيَغْرَقُ فيهِ قومٌ

وقومٌ لا يَجِفُّ لهمْ لِباسُ

*

وقومٌ للوَسَاطةِ ليسَ إلّا

وقومٌ للمَهَانَةِ هُمْ مَدَاسُ

*

وقومٌ واقفونَ على حِيادٍ

لَهُمْ رَجْعٌ وصَدْعٌ واحْتِراسُ

*

ومعذورونَ مِنْ بأسٍ جميعاً

فما كلُّ الرِّجالِ لديهِ باسُ

*

ولا كلُّ الرِّجالِ بهمْ رجالٌ

ولا كلُّ الرِّجالِ بهم حَماسُ

*

أتَوْا كالأُسْدِ تَنْهَشُ لَحْمَ ضَبٍّ

فمَنْ ذا ظنَّ أنَّ أولاءِ ناسُ؟

*

أزالوا فِرْقَةً فيها مِئاتٌ

وهم أَمّا خُماسٌ أو سُداسُ

*

وهلّا يستوي جيشٌ كثيرٌ

بقومٍ مُؤمِنينَ لهمْ مِرَاسُ

*

تفاقمَ غَيُّهُم في الأرضِ جَهْراً

وعاثُوا في أَقاصيها وجَاسُوا

*

فكم مِنْ مرَّةٍ مُسِخوا قروداً

فما منهُمْ أَنُوسٌ أو أُناسُ

*

إذا كانَ الوضيعُ لهُ أساسٌ

فإسرائيلُ ليسَ لها أساسُ

*

قفي يا قُدْسُ فالأنباءُ ماسُ

وتَحْصيلُ السَّعادةِ لا يُقاسُ

*

عقودٌ في صدورِ بنيكِ صمتٌ

وصَمْتُ الصالحينَ له افْتِراسُ

*

تلاءمَتِ النفوسُ بهم فجاءُوا

على هاماتِ أهلِ الفِسْقِ داسوا

*

كأنَّ الأرضَ قد مادَتْ بقومٍ

يَسُوسُونَ البلادَ ولا تُساسُ

*

إذا ما صَرَّحَ الأعداءُ يبدو

بكلِّ صغيرةٍ لهُمُ احتباسُ

*

ولو أنَّ الكُؤوسَ لها عقولٌ

سيُهدَى كُلَّ مَنْ بحماسَ كاسُ

***

وحيد خيون

9-10-2023

اُثْــبُتْ صهيونَ فذي غزّةْ

مَــثَــلٌ لــلــغيرةِ والــعِزَّةْ

*

فــجنودُكَ بــاتوا جِــرْذاناً

قــد ألقوا الخوذةَ والبزَّةْ

*

أيــديــهمْ تــرجفُ خــائفةً

وكـــأنَّ أصــابَــتهمْ كــزَّةْ

*

وحصونُكَ أضحتْ عاجزةً

فانــهارَتْ ما احتملتْ هزَّةْ

*

ما بالُ غــرورِكَ إذْ يهوي

وتــحطَّمَ فــوراً مــن لكْزَةْ

*

قــطــعانٌ فـــرّتْ هــاربةً

كــشياه تركضُ أو(مِعْزَةْ)

*

(فــنبوخذُ) عاد لينتفكمْ

وســيجعلُ صُــوفَكمُ جِزَّةْ

*

لن يأتي (كورْشُ) لينقذَكمْ

فــي وقتِ (الحزَّةِ واللزَّةْ)

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

نصان عن غزة الجريحة المُحاصرة

النص الأول: أشجار التين والزيتون

أشجار التين والزيتون والصّبارْ

ترودُ شواطِئ غزة

الأرضُ مبقورة ٌ بالقذائفِ والفوسفور الأبيضْ

قوسُ السّماءِ مُكسرٌ مُتصدعْ

لا مكان بلا ضحايا

البيوتُ مُدمّرة تشخَصُ بحُطامِها

نحو البحرْ،

لا مكانَ هنا للابتسامهْ

رسمَ الرّصاصُ صُورا

على الجدرانِ المتبقية

مثلَ خناجرِ قاتلي الأنبياء.

الجَرحُ يحكي قصّة الحياة

صورة ً بعدَ صورة

المَطرُ يحكي قصة البعث

ربيعاً بعدَ ربيع،

أشجار الزيتون التي تنمو على السفح

تروي بهاءَ الطبيعة،

ملحُ البحرِ يحكي آلامَ النسوة

اللائي ملأن بدموعهن هذا اليم.

رش هذا الخبز اليابس

كي تطعم الجياع،

تطاردُ كَ السّماءُ أنّى ذهبت

نجمة ُ المَساء ترميكَ بغبارها الأبيض

وتدرجُ اسمكَ ضمنَ الأهدافْ،

فتخرجُ من جيبكَ مُصحفكَ القديم،

وتنطِقُ بالشهادتين.

هذهِ الكرومُ تنتظرُ عودة َ البابونج

ومواسمَ الزيتون.

زَمنا طويلاً وهم خلفَ الخيام

يمضغونَ لُقمة َ أيوب

ذنبُهم أنهم فلسطينيون

في السمة واللسانْ،

جباههم سمراءْ

والكوفية ُ تشامخُ مثلَ خيمةٍ

في مهب الريح ِ

في ليلةٍ مثلجة.

اليدُ مجدولة بالبندقية

والبندقية امتدادٌ للقامةِ الفلسطينية.

زَمناً طويلاً وهم يجوعونَ

ويُستشهدونْ

مُحاصرين من برٍ ومن بحرْ،

أحرَقتِ الشمسُ حقولهم،

داهمَ الجفاف أراضَيهم،

اقتلَعتِ الريحُ الصفراءُ أبوابَهمْ

يدخلُ الموتُ إلى بيوتهم.

نفذَ العيشُ، كما نفذ الماء

وفي الجوّ ثعابينُ داوود تبُث ُ سمومَها،

لم يبقَ لهم سوى الإيمان

وهذا القلب ينبضُ بالأملِ.

زَمناً طويلاً وهم مُحاصرونْ

من برٍ ومن بحرْ

يجوعونَ، يتساقطونْ، ويُستشهدونْ

...      ولكن ما من واحدٍ يتراجعْ

أو يترُكُ سيفَهُ.. ويمشي...

**

النص الثاني: غزة الحرة

غزّة ُ.. هي لكمْ

غزة ُ.. هي لنا

هديلُ يَمامهْ

دموعُ الثكالى

وَحزنُ اليتامى

دفترُ  طفلٍ

وغُصنُ زيتونْ

**

غزّة ُ هي لكم... غزّة ُ هي لنا

ملحُ الأرضِ هيَ.

وهي الطريقُ... نحوَ السّلامْ.

***

بقلم إسماعيل مكارم

داعبتُها وكتبتُ في أوراقي

سِـدرا رعـاها اللهُ في أحـداقي

*

سِـدرا وما أدراكَ ما تعني وما

قد سـطّرتْ في لوح عُمريْ الباقي

*

سِـدرا بها خُـتِمَ الفـؤادُ وإنّها

تـرنـيمةٌ وحــلاوةٌ بـمَــــــذاقـي

*

سِـدرا أعـادتْ للمُـتـيّمِ جَـدِّها

ذِكـرى فـأنعـشَ عِطْـرُها أشـواقي

*

سِـدرا بها حُلُمي تَـجلّى وانجلى

مــــا كـانَ مـكنـونًا غـدا تـريـاقي

*

داعـبتُها وكـشفتُ سِـرَّ تـعلقي

وفـتحــتُ في حُـبي لـها آفــــاقي

*

قـد لوّنتْ سِـدرا حياتي بعـدما

حَـلّـتْ عَــليَّ بـطَـلّـةٍ وعــنـاقِ

*

في مثل هذا اليومِ هَلَّ هـلالُها

يا ربي صُـنْ لي عِـلقةَ الاعـلاقِ

*

واحفظْ بحفظِكَ يا حفيظُ حفيدتي

مـن كـلِّ ســـوءٍ وقِـهـا يـا واقـي

*

وباسـمكَ القُـدُّوسِ صِرتُ مُـعـوِّذًا

سِـدرا وأحـفـادي ومَـنْ بـوثـاقي

*

فَـهُمُ سـنينُ العُـمرِ زهـوُ حـديقتي

وهُـمُ الـحـــــياةُ ونِـعـمـةُ الـرّزاقِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور - الدنمارك/ كوبنهاجن

الأربعاء في 11 كانون ثاني 2023

...................

* القصيدة نظمتها قبل عيد ميلاد حفيدتي سيدرا المصادف يوم الاحد 9 تشرين اول 2023.

لا تـَـرْتَــجـي أبــداً، لِـجُـرحِــكَ بَــلــسَـمـا

مـالــم تـُــجَــرِّع قـلــبَ خـصْـمِـكَ عَــلقما

*

هِــمَـمُ الــرجــالِ، اذا تــوحّـدَ ســـعـيُـهـا

بـــنــقـاءِ إيـمـانٍ، تُــبــيــدُ مَــظـالـِـمــا

*

يـــسْـتــنهِـضُ الهِــمَـمَ الحُـــسـامُ مُـجَـرّدا

ويـظــلُ صَــرحُ الحـــقِ أبْــلـجَ قــائــمــا

*

قــلـبُ الــعــروبـةِ، فــي عُـــروقِــه أنّـةٌ

شــدّوا الــوثــاقَ، نُـريــدُ قــلـبـاً ســالِما

*

جَسـِّــدْ بــصوتِــكَ، غــضبَـةً عــربــيــةً

إقــلِـقْ بـــــهـا مُــتـغـطـرِسـاً، أو ظالـما

*

إقْــلـِـقــهُ... إنّ ثَـــرى بــــلاديَ عَـــنـبـرٌ

يـــأبـى نــســيـمـُه أن يُــلامِــسَ غـاشِـمـا

*

لا تــرْقـُـــدَنَّ، وعــيــنُ مُـحــتَـلٍ بـهــا

أرَقٌ .. يُـــخــاتـِـلُ غـــافـلِاً، أو نـائـمـا

*

أيَــظـنُ مُـغــتـصِـبٌ، دوامَ نــعـــيـمِـهِ

كــلا فـأرضُ الــعُــربِ تُـــفـدى بالــدِمـا

*

فــــشــيــوخـهـا وكــهــولهــا وشــبابُـهـا

ونســـاؤها وصغــارُهــا، ألـقُ السَّــمـا

*

يـنســـابُ مـــن أرض الجـهاد نشيدُهم

مُــتحــمِّــسـاً مُــسْـــتـنكِـراً مُــتـرَنِـّمـا:

*

(هيـهـات مـِنّـا الـذل) أطـلـقَـهـا الـــذي

في حِجْر أحمدَ غصْنُ طهْرِه، قـد نَمَا

*

هــذي قــوافـلــنـا تَــســابــــقُ لـلــفـِـدا

عــــهدٌ عــليـنا لـن نـُـضامَ ونـُـرْغــمـا

***

(من الكامل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

حَـيْـرة أبي العلاء المعرّي

والتعقيب عليها بثلاث لغات

د. بهجت عباس

***

كم وعظَ الواعظون منّا

وقـام في الأرض أنـبـياءُ

*

فانصرفوا والبـلاءُ باقٍ

ولـم يـزلْ داؤكَ العَـيـاءُ

*

حكـمٌ جَرى للمليك فينا

أم نحن في الأصلِ أغبياءُ؟

***

أبو العلاء المعرّي

......................

Confusion

Abu-Alaa Al-Ma’arry

Translated by Bahjat Abbas

***

English

How often the preachers sermonized to us

And prophets rose on the earth,

They went away and the disaster stayed,

And your incurable disease remained.

Is it God’s judgment on us

Or are we fundamentally stupid?

............

Deutsch

Abu-Alaa Al-Ma’arry

Übersetzt von Bahjat Abbas

***

Verwirrung

Wie oft haben uns die predige ermahnt

Und Propheten erhoben sich auf die Erde?

Sie gingen weg und die Katastrophe blieb,

Und deine unheilbare Krankheit andauerte.

Ist es Urteil Gottes über uns

Oder sind wir grundsätzlich dumm?

......................

التعقيب:

ليس غبـاءً وليس حُـكمـاً

لكـنّـه المَـيْـنُ والرِّيـاءُ

*

مذْ يُولَد الطِّفلُ وَهْـوَ طُهْـرٌ

بصفحةٍ كلُّها صفـاءُ

*

يُنـقَـشُ فـيها كما يُشاءُ

زيـف وجهـل وكبريــاءُ

*

فَيـزحف العقلُ فـي ظلام

يَـبرَعُ في نَـشْرِه الأولياء

*

إنْ كانت الشّمسُ في كسوف

كيف إذاً يَسطَع الضياءُ؟

***

بهجت عباس

.................

English,

Abu-Alaa Al-Ma’arry

Neither dumbness nor judgment,

but lie and hypocrisy.

As the baby is born innocent,

With a blank slate,

Would be engraved as wanted;

With falsehood, ignorance and arrogance,

Then the mind will crawl in darkness,

Over which the guardians exercise control.

When the sun is in eclipse,

Then how does the light shine?

..............

Deutsch

Weder Blödheit noch Beurteilung,

Sondern Lüge und Heuchelei.

Da das Baby unschuldig geboren würde,

Mit einem leeren Blatt,

Würde es wie gewünscht graviert,

Mit Falschheit, Unwissenheit und Arroganz,

Dann wird der Verstand in Dunkelheit kriechen,

Über die die Wächter die Kontrolle ausüben.

Wenn die Sonne in Sonnenfinsternis ist,

Wie scheint dann das Licht?

مهداة إلى أرواح شهداء وضحايا مأساة الحمدانية وآلام أهلها وسائر المفجوعين جراء هذه الكارثة المروعة..

***

طفلٌ

یُخمِدُ رٲسَهُ؛

لیَتدرَّبَ علی وفرةِ الظلامْ.

ارجلٌ

تُلملِمُ اسفارَ التیهِ

لتُنذرَ قوماً

بنشوبِ قنادیلَ موصدة.

خریفٌ عارمٌ

یغزو دهشةَ الفصولْ؛

وجومٌ قاتمٌ

یغمُرُ حدائقَ بغدیدا..

ما هذا الزبدُ المالحُ

یطفو اُدامكِ الغزیرْ؟

ما هذا الزّغَبُ الكالحُ

ینسُجُ لكِ اقفاصاً مزینةً؛

وللحَصاةِ مؤنَ الغدرِ

كي تطیرْ..!!

ها انتي تحتمینَ

برقصتكِ الاخیرة،

ها انتي

تدخِّرینَ اناملَ الغِبطةِ

في دفاترَ كبیرة،

ها انتي

تُدونین حُروقَكِ

في اكفانٍ وثیرة،

وتفرّدین

للَّهبِ المستعِرِ

ضُفُراً تلو الضفیرة..

وباءٌ

بلاءٌ

تَرَكَ جَرادَ شرورهِ

علی بَساتینِ الٲزمنةِ

ومضی.

وكٲنَّ

ماكنةً ضاریةً

قُدَّت قواطعُها

من حنقٍ ولظی.

و كَیْلٌ ماكرٌ

ملٲ السهولَ

بغلالِ الصِّعابْ.

قولي لنا یا بغدیدا؛

كیف لدیدانِ الحُزنِ الغائرِ

تركَ جباهِ المكوثْ،

وتدنوَ الزهرةُ ثانیةً

من حُلّةِ المآبْ؟!

ٲوَ تَهُزّینَ ٳلیكِ

بجِذعِ الحریقِ؛

وتقتفینَ ٲثَرَ الضَّبابْ؟!،

فكیف اذنْ

تنهمِرُ علیكِ

كرمةُ الوصولِ؛

و تَرَینَ ملكوتَ الخلاصِ

دون عناءِ قُفلٍ

ٲو عطیّةَ بابْ؟!.

بغدیدا حزینةٌ؛

بغدیدا

تتشحُ بعزاءِ الٲبدْ،

مددٌ مددْ

مددٌ مددْ.

بغدیدا تُعلنُ

كلَّ ازقَّتها ورقَّتها

كلَّ ساحاتها وصباحاتها

وكلَّ زروعها وربوعها؛

ترانیمَ حِدادٍ

وٲناشیدَ عِتابْ.

تدورُ وتدورُ بغدیدا

تبحثُ في كلِّ الٲقاصي،

تستنفِرُ كلَّ بُكائِها

لِتُبعِدَ عن ٲوانها

و تنفُضَ عن ٲلوانها

حبرَ المُصابْ..

فَوَالنّورِ

لن ٲسامِحَ البابَ

علی كتمانهِ للخروجْ.

فَوَالبابِ

لن ٲسامِحَ النورَ

علی غلقهِ للبروجْ.

بغدیدا،،

مآقیكِ

وما بقي فیكِ؛

ملحٌ اُجاجٌ،

شفاهكِ

رَمادٌ نابضٌ

جراحٌ رابضٌ

لا یستكینْ.

رقیبٌ

یكتنزُ الهواءَ

في اُقبیةِ العویلِ؛

و رِقابٌ تغفو

علی نصلِ سكّینْ.

فَوَالدارِ

لن ٲسامحَ النارَ

علی ٳخفائها النضوبَ

في ٲحشاءِ النحیبْ.

فَوَالنارِ

لن ٲسامحَ الدارَ

علی ٳفشاءهِ

سرّ ٲوجاعِ الحبیبْ.

ٲدخِنةٌ

في مُقتَبَلِ العُتمةِ

وبمُحاذاةِ العِناقْ،

تتراقصُ

فوق حُبیباتِ الجمرِ،

وهي تقصُّ

لِغدِ المآتِمِ

هولَ الفِراقْ.

بغدیدا

ٲلَمَّتْ بها كٲخواتها؛

(صوریا) و(دَکانْ)

ووصیفة اللهیبِ (عامودا)،

فلذّاتُ الروحِ

ٳكتوین بالمحاق.

ٳنها تعویذة الدَّمِ

سَرَتْ في عروقِ مَفازةٍ

ٲَسمَوْها (العراقْ)..

***

ٲمین بوتاني

2/10/2023

وَدَّعْتُ أَيَّامِي الْمُرِيبَةْ = وَمَشَيْتُ أَسْعَى لِلْحَبِيبَةْ

وَهَتَفْتُ هَيَّا يَا عُلاَ = نَحْيَا بِدُنْيَانَا الْعَجِيبَةْ

فََلَطَالَمَا أَوْدَتْ بِأَحْ = لاَمٍ لَنَا كَانَتْ قَرِيبَةْ

***

هَيَّا لِنَجْعَلَ طِفْلَنَا = يَمْشِي سَعِيداً بِالْحَقِيبَةْ

يَلْهُو وَيَلْعَبُ ضَاحِكاً = كَيْ لاَ تُذَلِّلَهُ الْمُصِيبَةْ

***

هَيَّا لِنَسْقِيَ وَرْدَنَا = بِدُمُوعِنَا فَهِيَ الْمُجِيبَةْ

وَنُوَدِّعُ الْآهَاتِ وَالْ = أَحْزَانَ وَالْمُقَلَ الْكَئِيبَةْ

***

شعر أ د / محسن عبد المعطي محمد عبد ربه

شاعر وناقد وروائي مصري

مأهورُ.. يا مأهورُ.. يا مأهورُ

طاب اللقا... واستعذبَ الجمهورُ

*

وتَوَاعَدَتْ أيامُنا شغفاً بِكِ

وتدورُ في فلك المنى وتدورُ

*

وتزاحَمَتْ أقدامَهُمْ في دَربكِ

الوردُ.. والموديلُ.. والمقدورُ

*

إن جاء (ثاءٌ) يفتديكِ بِعُمْرِهِ

فلتسعدي فهو الفتى المنظورُ

*

وإذا هداكِ الـــ(جيمُ) روحهُ إنهُ

ظِلٌّ لشمسكِ بالهوى موفورُ

*

أو جاءكِ (الميمُ) فقولي: مرحباً

بحبيب قلبي أيها العصفورُ

*

هي كل ما رَأَتْ العيونُ وآمَنَتْ

الاَّ يَلُمّها في الوجودِ نظيرُ

*

تمشي ويتبعها الهوى ورِجالَهُ

من غيرها صَلَّتْ عليها الحورُ

*

وعلى يديها أسلمَتْ دول الأذى

وإلى السلام العالميُّ تسيرُ

*

عيناها ما فطر الإلهُ سواهما

وحباها وجهاً يفتديهِ ضريرُ

*

ولِقَدَّها صَمْتٌ يبوحُ بحَرْفِهِ

ويحيطُ قارِئهُ الذي... ويُثيرُ

*

ونبيذها أدبٌ رفيعُ المستوى

فقليلهُ وكثيرهُ منذورُ

*

من لم يذقْ (مأهورُ) عاش بعُزْلةٍ

عن عالمٍ بعليلها مَسْجُورُ!

***

محمد ثابت السميعي

11/9/2023 م

خرجت نجاة من الثانوية متأخرة عن المعتاد بعد أن حبستها مقتصدة الثانوية بحديث..

وحيث ان حصة هذا المساء هي فترة لراحة نجاة فقد جلست الى جانب المقتصدة لتسمع حديثها..

الشابة كوثر المقتصدة تشكو طليقها الذي أوقف عنها مستحقات ابنها والتي تم الحكم بها من قبل المحكمة وقد كان زوج نجاة هو القاضي الذي اصدر الحكم..

وعدت نجاة المقتصدة خيرا وانصرفت..

كوثر في العقد الثالث من عمرها، فقدت أبويها إثر زلزال أتى على المنطقة القروية التي كانت مسقط رأسها وأربع سنوات من أول عمرها.. تربيتها في ملجأ تحت تهديد الضغط والخوف ولد فيها الخجل وبعضا من خنوع، فرت من الملجأ وعمرها لا يتجاوز العاشرة بعد أن بدأ التحرش بها ومحاولة إخضاعها الى رغبات بعض المتحكمات والمتحكمين في الملجأ، تلقفتها أسرة من زوجين، تبنتها وسهرت على تربيتها وتعليمها الى أن حصلت على إجازة في الاقتصاد.. ِالتحقت بإحدى مدارس تكوين المقتصدين ثم اشتغلت مقتصدة في مؤسسة بها داخلية. تزوجت كوثر دون رغبة منها بأحد أقرباء الأسرة التي ربتها..

من سوء حظ كوثر أن الزوج كان غريب الأطوار مضطربا سلوكيا لايثق بنفسه ولا بغيره، منذ بداية زواجهما وكوثر تعاني، تعزم على الطلاق ثم تتراجع خجلا من الأسرة التي ربتها وأحسنت اليها في وقت كادت كوثر أن تتيه في الازقة بلا معيل ولا سند..

كانت كوثر أنثى جميلة بلون قمحي، وديعة تأسر بنظرات ناعسة، لا يمكن أن يراها رجل ولا تلوي له عنقا بإلتفات؛ قد مياس وأنوثة صارخة رغم الخجل الذي كان يغطي على جمالها بمسحة من ثقل..

سبب طلاق كوثر هو جمالها وشدة خجلها وسمعة الملجأ الذي قضت فيه فترة من عمرها، فما أن يتطلع اليها رجل حتى تصير كبرقوقة قمحية تعلوها حمرة زاهية لكن الشك الذي كان يستحوذ على زوجها هوما أصابه بهوس ان كل من ينظر الى زوجته فهو يعرفها وله علاقة بها من أيام الملجأ، حتى عن ابنه كان يتساءل في غباء:

ـ لماذا يشبه سعيد أمه ولا يشبهني، أخذ مني أنفي المعقوف وخطل أذنيَّ لكن هذا غير كاف..

تعبت كوثر من عراك يومي وخصومات لا تتوقف مع زوج يلازمها كظلها بمتابعة أنى تحركت، يداهمها في مكتب عملها شكا في كل رجل يعمل بالمؤسسة، الى أن طرده المدير بعد أن سجل ضده شكوى لدى الشرطة، فرفعت كوثر دعوى طلاق للشقاق حكم على إثرها القاضي بما يحق للطفل من تعويض..

بعد جلسة طويلة في المحكمة عاد القاضي زوج نجاة متأخرا الى بيته للغذاء، استغرب أن زوجته لم تعد بعد حصتها الصباحية.. اوشكت الساعة على الثالثة فشرع القلق ينقر صدره على زوجته، هاتفها لكن هاتفها لا يرد، هاتف الإدارة فأخبرته المقتصدة ان نجاة قد تأخرت معها بعض الدقائق ثم انصرفت..

حين خرجت نجاة من الثانوية وجدت الطريق مقطوعة جراء حادثة سير بين حافلة للنقل العمومي وسيارة أحد المتحرشين بتلميذات الثانوية، وكانت الضحية إحدى تلميذاتها.. بادرت نجاة باستدعاء الشرطة والاسعاف ومن قلقها على تلميذتها صاحبتها في سيارة الإسعاف الى المستشفى بعد أن تأخر أهل التلميذة بحضور..

بصراحة فنجاة قد تفاعلت مع الحادثة بكل إحساس فيها، أنساها نفسها وبيتها وزوجها، ففقدانها للخلفة من مرض في زوجها منذ صباه ظل جرحا عميقا نازفا في حياة نجاة تداريه بصبر وتحمل، لكن أمام منصب الزوج وسمعته والحب الذي يبديه لها جعل نجاة تنغمس في مهنتها بكفاءة واقتدار،

وتدفن رغبتها في الخلفة في أعمال الخير بلا كلل خصوصا إذا تعلق الأمر بالطفولة وحاجياتها..

ركضت نجاة عبر كل أجنحة المستشفى أولا كأستاذة مرافقة للتلميذة وثانيا كزوجة قاضٍ مشهور قد يجعل الطاقم الطبي يهتم ويبادر بإنقاد التلميذة في غياب أهلها..

وكمن يستعيد نفسه التي قد فقدها إثر صدمة عنيفة تذكرت نجاة بعد دخول التلميذة غرفة الإنعاش أنها يلزم ان تخبر زوجها عن سبب غيابها، لكن ما أن وضعت يدها في حقيبتها اليدوية حتى وجدت انها تعرضت لسرقة كل ما في حقيبتها في زحمة الحادثة وهي لا تدري..

كان المستشفى بعيدا عن بيتها ولا أحدا تعرفه يمكن أن تستلف منه مالا لركوب سيارة أجرة..

رجعت الى إدارة المستشفى وطلبت هاتفا بعد أن شرحت وضعها..

بعد محاولتين يرد الزوج ويطلب منها انتظاره بإدارة المستشفى..

وهي تنتظر الزوج تسمع طبيبة تغادر غرفة الإنعاش وهي تردد:

"مسكينة الله يكون في عون والديها "

تشهق نجاة شهقة قوية وتهوي على الأرض في غيبوبة، فيتم نقلها الى الإنعاش لاسعافها..

حين أقبل زوج نجاة لم يجدها، وقبل أن يسأل الإدارة ظل يذرع الممر بين الإدارة والبوابة في قلق متزايد وغضب يغلي، تنبه الى أن أما تسأل عن بنت أتوا بها اثر حادثة قريبا من ثانويتها فأخبرتها إدارية ان ابنتها قد تم اسعافها لكن قضاء الله كان أكبر فتوفيت من لحظات، وأن السيدة التي كانت في رفقتها قد هوت من طولها في غيبوبة بعد أن سمعت بموتها..

أدرك القاضي ان المعنية هي زوجته وقد طمأنه طبيب عليها فبعد الاسعافات قد استعادت نفسها لكن من الأحسن ألا يعجل بخروجها، فسقوطها قد سبب لها رجة خفيفة في مخها قد يكون مصحوبا بنزيف داخلي، وتحتاج الى متابعة وان تظل تحت رقابة الطاقم الطبي..

عادت نجاة بعد يومين الى بيتها لكن كانت تصيبها غيبوبة بين حين وآخر ما أن تصحو منها حتى تأخذها سورة من البكاء، يضيق تنفسها وتشعر باختناق يكاد يأتي على روحها، حركات لا ارادية تقوم بها أحيانا وكأنها ترى طيوفا فتكلمها عن الرحمة بتلميذتها..

لم تتوقف كوثر يوما عن زيارة نجاة، تأتي اليها طيلة رخصتها المرضية والتي كانت طويلة.. كم أنبت كوثر نفسها !!..

ـ أنا السبب في ما وقع لنجاة، وأنا من أخرتها عن الخروج في موعدها..

 من طيبة كوثر كانت تهوي على يد القاضي تقبلها ملتمسة منه العفو و الغفران، بل من شدة إحساسها بذنب لم تقترفه أتت بالسعدية مساعدتها الى بيت فتيحة لتقوم بما يلزم البيت من نظافة وطبخ عساها تخفف عن الزوج معاناة زوجته..

كانت السعدية بالنسبة لكوثر كأخت صغيرة تعرفت عليها كوثر مذ كانت السعدية طفلة صغيرة في الملجأ ولما تزوجت كوثر أتت بالسعدية الى بيتها خوفا عليها مما تعرفه من شذوذ في الملجأ.. فكل فتاة جميلة تظهر هناك الا كانت ضحية مؤامرات وتحرش الى أن تفقد مقاومتها..

صارت نجاة تستعيد بعض توازنها لكنها كانت تفقد القدرة على التركيز للعودة الى عملها، عجزها عن إرضاء رغبات زوجها كما تعودت، فكوثر رغم حصول نجاة على تقاعد نسبي وتوقفها عن العمل بإلحاح من أبويها أصرت الا تسحب السعدية من بيت صديقتها كما صارت تسهر بنفسها على طهو كل ما يستلذه زوج نجاة، ولا تتقنه السعدية، فغايتها استمرار لحمة البيت والحفاظ على تماسكه والحب الذي يسود بين نجاة وزوجها..

صارت كوثر كفرد من أهل بيت نجاة حتى أنها كثيرا ما قضت لديها الليل خلال أيام العطل، تغمرها السعادة، تسعد بتماثل نجاة للشفاء وهي تتحرك وتهتم بزينتها، وان في تثاقل طبيعي. راحة نفسية تغمر نجاة حتى بعد أن توقفت عما تتناوله من مهدئات وهي تنسلخ من أزمتها شيئا فشيئا..

كثرة زيارات كوثر الى بيت صديقتها والمبيت عندها أثارتها إشارات شغلت انتباهها.. تقارب مثير بين القاضي والسعدية مضغ كوثر بقلق وخوف على نفسية نجاة..

حاولت أن تبعد كل سوء ظن عن خاطرها لكن ما رأته وسمعته في إحدى الليالي رسخ يقينها أن السخيلة قد نبت لها قرنان للنطح.

 هل تبادر كوثر بسحب السعدية من بيت صديقتها ؟.. كيف؟

و نجاة لا زالت في دور النقاهة، فقد تنتكس و مرة أخرى تكون كوثر السبب؟..

هل تخبر نجاة وتدعوها للانتباه؟ قد تضيف لها صدمة أخرى أمام ما أصابها بعد موت تلميذتها، أم تنبه السعدية مباشرة وتحذرها من سلوك قد يجرها لحتفها؟ فالرجل ذو سلطة وقد ينسل من زلته انسلال الشعرة من العجين، ونجاة وديعة تبادر لكل خير لكنها ليست سهلة خصوصا اذا تعلق الامر بعشها وكرامتها..

انزعاج وضيق ما يلازم كوثر.. يغلفان وجودها بقتامة فتصاب بنوع من الحيرة قاتل..

ـ انقلبت موازيني، خاب اعتقادي في السعدية الطفلة الوديعة التي ربيتها، وكذلك في القاضي الذي يفصل بين قضايا الناس وكم له قد قبلت يدا تقديرا واحتراما، حتى في صديقتي الذكية التي لم تنتبه لسلوكات من يعايشها في البيت..

السعدية مراهقة و قاصر لا تتجاوز السادسة عشرة من عمرها فكيف أغرت القاضي وأ سقطته في رغبات طائشة؟ لكن، من اسقط من؟..

خيوط الدهشة والارتباك تتشابك في عقل كوثر وأمام عيونها.. السعدية جميلة، خفيفة الظل، بسماتها تثير الكبير والصغير لكن ليست بالجمال الذي قد يخر له إنسان عاقل متعلم واع وله مسؤولية، فتغريه مراهقة ثم يذوب تحت وهجها..

نجاة رغم مرضها لازالت أكثر اثارة من السعدية، امرأة تملا الأحضان، أنوثة واعتدال قد، تزداد فتنة كلما اهتمت بزينتها..

بدأت كوثر تغيب عن بيت السعدية، تباعد بين أيام زياراتها متعمدة أن تترك فرصة أمام نجاة علها تكتشف بنفسها ما يجري داخل بيتها..

غابت كوثر قرابة شهر وعنها لم تسأل نجاة وليس هذا من عادتها

تطرق كوثر باب نجاة بعد غيبة طويلة فتكون نجاة هي من يفتح الباب، باستغراب تسألها كوثر :

ـ تفتحين الباب بنفسك !!..فاين السعدية ؟..

وكأنها فجرت قادوسا للصرف الصحي تنطلق نجاة:

ـ هل تضحكين مني ام على نفسك ؟ ذاك وجهك أم قفاك؟

البنت الدرويشة تنقلب ماردا، عجبي !!..حرضت البنت على العودة اليك وغبت نهائيا ثم أتيت لتسخري مني..

على الأقل أخبريني بدل التصرف كلص اتى للسرقة بليل..

أدركت كوثر ما حدث، تمثلته بسرعة، وما كانت تخشاه قد وقع، دخلت قلب الدار والتمست من صديقتها الهدوء والسكينة، ثم صارت كوثر تحدث نجاة عن شكوكها السابقة:

ـ في إحدى الليالي قد رأيت زوجك يتسلل الى غرفة السعدية

 و الى مسامعي كان يصل كل ما يمارسانه وقد خفت أن أخبرك بالحقيقة، فقد توهمت أن الامر لايتعدى نزوة عابرة..

 كان وجه نجاة يتغير بين صفرة وزرقة، والدمع في عينيها قد تجمد، أخذها تفكير وكأنها تستعيد ماضيا أو صورا بعيدة.. هي حتما قد استوعبت الحدث لكن في صمت ولا كلمات وإن شرع في أعماقها يغلي بعد أن ربطت بين سلوكات لاحظتها وتوهمتها عفوية وبين غياب الخادمة وتأخر الزوج المتكرر ليلا مما لم يكن من عادته.. طلبت من كوثر أن تلتزم الصمت الى أن تنهي ما تبادر الى عقلها اللحظة وما تنوي تنفيذه..

ـ ليست هي المرة الأولى الذي يسقط فيها القناع عن زوجي مع خادمات مراهقات، فله سابقة تنازلت عن زلتها بعد توسل من قبله، لهذا فماعادت تدخل خادمة لبيتي لكن هيهات لنفس ساقطة أن تترفع عن الزبالة، تصبرت على عقمه، تجاوزت أكثر من ناقصة تكرهها زوجة في رجل، لكن اليوم سيعرف الوجه الحقيقي لزوجته..

استدعت نجاة ابن عمتها وهو شاب يعمل ضابطا في سلك الشرطة وطلبت منه أن يكلف أحدا باقتفاء أثر زوجها بحذر والا يتصرف الا بعد إذنها..

أغرى القاضي السعدية الطفلة القاصر بشقة اشتراها خارج المدار الحضاري بعيدا عن رقابة الأعين، سجل الشقة باسم السعدية وفيها صار العاشقان يلتقيان في انتظار أن تبلغ السعدية سن الرشد ثم يعقد عليها..

في إحدى زياراته ما أن دخل بيت العشيقة حتى اقتحمت الشرطة البيت وأخرجت القاضي الذي حاول ان يُعرِّف بنفسه لكن دون جدوى فقد أبلغوه انهم أتوا بناء على شكاية من زوجته..

كانت آخر كلمة تفوهت بها نجاة في المحكمة وقد توسلوها أن تتنازل عن الدعوى حتى تسقط المتابعة عن زوجها:

ـ مرضي ليس من حادثة عابرة، مرضي من هدم أصاب نفسي مذ أقنعت نفسي بالصبر بعد أن عرفت عقم زوجي ويأسه من العلاج، تحملت وفي مشاريع الخير انغمست، وعن كل ما يسعد زوجي بذلت الجهد والنفس، لكن أن يكون الجزاء خيانة ينسجها قلب بيتي مع طفلة قاصر لا تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، وممن ؟ من زميل لكم عيشني وهم الحب والثقة و غير قليل من كبر واعتداد بالأصول و هو يضرب القيم بأنانية..

 أصر على الطلاق وعلى متابعته، ولن أتنازل عن ذرة حق من حقوقي أو ألين بعفو قد ينتظره مني..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

قوافلُ عاشقاتٍ

حشدُ مُتصوّفةٍ

موكبُ مجانينْ

جنودٌ مُنكسرون

وقطّاعُ طُرقٍ وقلقٍ

يهربونَ خِلْسَةً

من اوطانٍ طاردةٍ

زنازينَ ظلامٍ

مدنٍ مهجورة

منازلِ ذكرياتٍ

متاهاتِ ضياعٍ

طقوسِ سحرٍ

وغواياتٍ خادعة

*

العاشقاتُ الباذخات، المُتصوّفةُ الناصعون،

المجانينُ الاحرار، قطّاعُ الطُرقِ والقلقِ،

هُم الآنَ يُبحرونَ خارجَ الزمكانِ

بلا خرائط ولا بوصلاتٍ

ولا إسطرلاباتٍ صدئة

*

إنَّهم يئنونَ من هولِ الفزعِ

والجوعِ والغثيانِ واليأس واللا خلاص المُعتم،

حيثُ انَّ اكثرهم قد بدأوا يشعرون باللا أمل والعطبِ

والشعورِ بالاحتضارِ والنهاياتِ الفادحة

*

ثمَّةَ ما هو عجيبٌ ورهيبٌ

ومرعبٌ حدَّ النحيبِ والخوف والانكسار

حيثُ انَّ البعضَ منهم وخاصةً النساء،

كُنَّ أَحياناً يصرخنَ صامتاتٍ

وفي بعضِ الاحيانِ

يبكينَ بلا اصوات:

- ايُّها الإله، ياربَّنا البعييييد

لكنَّكَ الأقربُ الينا

من حبلِ الوريد،

أَينَ أَنتَ؟

أَينَ ارضُكَ القلقةُ الصغيرةُ

أَينَ إختفى خلقُكَ الطيّبون؟

أَييييييييييينَ؟

أَرجوكَ أَينْ؟

***

سعد جاسم

2023 -5-1

أطيلي اللقاءْ

فلم نَدْرِ ماذا سيَجْري غداً...

إذا الليلُ جاءْ

إذا طائفُ الليلِ أرخى الرّداءْ

إذا الشّمْسُ غابَتْ

إذا اللحْنُ هَدْهَدَ أضلاعَنا واسْتَوى للبكاءْ

إذا بِتُّ وَحْدي

إذا عُدْتُ وَحْدي

كما لم نَكُنْ ذاتَ يومٍ معاً أصْدِقاءْ

إذا لم أجِدْ نظرةً منكِ ماذا أقولْ؟

وماذا سأفعَلُ لو لم تكوني معي في المساءْ؟

أنا لا أعيشُ سوى لحظةٍ بعدَ أنْ تذهبي

بعدَ أنْ تخرُجي من حياتي

سأرْمي بنفسي إلى المَغْرِبِ

وتبقى على مكتبي ....

صورةٌ منكِ تبكي اللقاءْ

فيا شمْسَ كلِّ الفصولِ التي في حياتي

ويا نجمةَ الحُبِّ لا تغْـرُبي

ويا نورَ عيْني التي ماتَ فيها أبي

بحقِّ الذي دارَ ما بيْنَنا

تأنَّيْ ولا تَذهَبي

ويا ضوءَ أقماريَ الغافِياتْ

ويا نجْمَةً أشْرَقَتْ في زُحامِ الحَياة ْ

ويا زَهْرَةً أغرَقَتْني بعُطْرِ التغَنّي

وعُطْرِ التَمَنّي

وعُطْرِ الصّلاةْ

ويا طورَ سَيْناءَ

إني خلَعْتُ الحِذاءْ

وأقبَلْتُ أبْكي

فلا تحْرِميني قَبُولَ الدُّعاءْ

بحقِّ العيونِ التي علَّمَتْني البُكاءْ

بِحَقِّ الخرائطِ لا تَسْـألي

بحَقِّ التّواريخِ لا تَرْحَلي

بحقِّ السّـماءْ

أطيلي اللقاءْ

*

خُذيني لأرضٍ بلا ماءْ

يا ماءَ عَيْني التي...

يرقصُ الصّبْرُ في جَفْنِها منذُ عامْ

عيوني اللواتي تنامينَ فيهِنَّ

قد أعْلَنَتْ حَرْبَها للمَنامْ

خذيني إلى ما وراءَ البِحارْ

خذيني إلى ما وراءَ الظلامْ

خذيني بعيداً عن النّاسِ يا كلَّ ناسي

ويا كلَّ معرِفَتي بالغَرامْ

خذيني أنا واحِدٌ في الزّمانِ

و جثَّةُ شوقٍ رَمَوْها بأرضٍ حَرامْ

ملأتُ لكِ الكونَ شِعْراً ونَثْراً

كلاماً ولكنَّهُ لا كَكُلِّ الكلامْ

خذيني لأرضٍ بلا ماءْ

يا ماءَ عيْني

وكُحْلَ العُيونِ ومِسْكَ الخِتامْ

خُذيني لصَحراءَ لا هَمْسَ فيها

ولا صَوتَ إلا هديلُ الحَمَامْ

إلى موطِنٍ فيهِ نبقى معا

إلى موطِنٍ فيهِ هذا التلاقي يدومْ

أخافُ أنا مِنْ غَدٍ فامْنَحيني

سَلاماً فإنّي كثيرُ الهُمُومْ

وصَلْنا إلى نُقْطةٍ في الطريقْ

وصَلْنا إلى حيثُ لا شئَ إلا نقومْ

نُوَدِّعُ شَوْطاً قضَيْناهُ حُزْناً

ولا شئَ فيها يَدُومْ

نودّعُ ألحانَكِ الصّارخاتْ

نودّعُ أشْجارَكِ الوارِفاتْ

ونَتْرُكُ قيثارَنا وحْدَهُ في المَكانْ

يرِنُّ على الوَتَرِ الخائِفِ

ويبكيكِ في الزَمَنِ الزائِفِ

ويبكي على لحظةٍ مِنْ أمانْ

لقد عُدتُ وحدي

وقد كنتُ وحدي بها مِنْ زَمانْ

أُمَشِّـطُ أوراقَ صَبْري بمِشْطٍ قديمْ

أُعَطِّرُ أغصانَ وقتي بعُطْرِ النّـسيمْ

وأخلعُ عنّي الرّداءْ

لقد عدْتُ وحدي

فلا تتْـرُكيني وحيداً

أطيلي اللقاءْ

*

هُنا بينَ أقطابِ هذي العيونِ

تدورُ النّجومُ ويكبُرُ وجْهُ القَمَرْ

ويهْطِلُ ما بينَ تلكَ الرّموشْ

سَحابٌ يُبَلّلُ ثوبَ الشّجَرْ

وتبْني العصافيرُ أعْشاشَها

وتنقُشُ إحْساسَها بالحنينْ

على صَفْحةٍ مِن حجَرْ

هنا بينَ أقطابِ هذي العيونْ

تَسَرّبَ للكونِ أحْلى نَهَرْ

هنا كلُّ أوتارِ عشقي تَرِنْ

وقيثارةُ العِشْقِ ليلاً تَئِنْ

هُنا يَنْزِلُ الشِّعْرُ مِثْلَ المَطَرْ

هنا بينَ عَيْنَيْكِ أوشَكْتُ أهوي

فلو تُغْمِضينَ العُيونْ

أصيرُ كفيفَ البَصَرْ

لقد صِرْتِ عَيْني

فلا تزرَعي في عيوني بذورَ البُكاءْ

ولو جِئْتِ يوماً ونحنُ التقيْنا

فأرجوكِ كلَّ الرَّجاءْ

أطيلي اللقاءْ

***

وحيد خيون

وَيُــحــكى أنَّ قِــطّــاً فــارسيّاً

أتَــى لــلحيّ من شيرازَ مُوفَدْ

*

لــهُ عــينانِ زرقــاوانِ تَــسْبِي

قــلــوبَ الــمُعْجباتِ إذا تَــنَهَّدْ

*

وقِــطّتُه الأنــيقةُ كــم تــباهتْ

بــأطواقِ الــلآلئِ والــزَبَرْجَدْ

*

فأَوغلَ في قِطاطِ الحيِّ ضرباً

وفــي أمــوالِهمْ بــالليلِ عَــرْبَدْ

*

فــعانى الــحيُّ مــن ظُلمٍ كبيرٍ

وبـــاتَ الــقطُّ دونَ اللهِ يُــعْبَدْ

*

وصــاروا إنْ يَــمُؤ القِطُّ مَوْءًا

لــفكِّ رمــوزِه الــندواتُ تُعقَدْ

*

لإظــهارِ الــمقاصدِ والمعاني

بــذاكَ الــقولِ والــفكرِ المُوَقَّدْ

*

ولــمَّا شــاخَ وانــحَدَرَتْ قواهُ

وكــانَ الــخوفُ عنهمْ قدْ تَبَدّدْ

*

فــثارَ الــحيُّ مُــنْتفضاً عــليهِ

ومـــن أتــبــاعهِ قِــسْمٌ تَــمرَّدْ

*

فــأسرعَ لــلكلابِ يــريدُ عوناً

وعــادَ بــجحْفَلٍ كــالليلِ أَسْوَدْ

*

فــعاثوا فــي الدّيارِ وأَفْسَدُوها

ومــا تركوا بها حجراً مُنَضَّدْ

*

وقَــتَّلَ كــلَّ مــنتفضٍ خَــؤُونٍ

ومــن وَالَاهُــمُ أضحى مُشَرّدْ

*

وحــصَّنَ عــرشَهُ بعدَ اهتزازٍ

شــعورُ الخوفِ عنه باتَ أَبْعَدْ

*

وأصــبحَ يَــنْفِشُ الأَوبَارَ نفشاً

بــأنيابِ الــكلابِ رَغــا وأزْبَدْ

*

وبَــاتوا أوصِــياءَ عــلى بــنيهِ

ومــن كــلِّ الأمورِ غدا مُجَرَّدْ

*

وفــي أفــحوصِهِ نامتْ كلابٌ

وصارتْ دونَهُ الأبوابُ تُؤصَدْ

*

يَــهــزُّ الــذيلَ يــشكرُ مُــنْقذيهِ

وكــانَ عــلى الــمذلّةِ قدْ تَعوَّدْ

*

وقــالَ بــلهجةٍ فــيها انــكسارٌ

أنــا الــعبدُ الــمطيعُ لكمْ تَوَدَّدْ

*

مُــرُوا مــا شئتمُ من أيِّ شيءٍ

بــلادي كــلُّها نَــهْبٌ ومَــرْفدْ

*

فــردَّ الــكلبُ يَــهْزَأُ من عميلٍ

لــقدْ خــانَ الأمــانةَ مــا تَرَدَّدْ

*

أخَــذْنَا مــا نــشاءُ بــغيرِ إذنٍ

ولا نَــحــتَاجُ قَـــوَّاداً مُــحَــدَّدْ

*

وجُــودُكَ قَــدْ غَــدا عِبْئاً ثقيلاً

ومــا ظَــنِّي عَــوَاقبَهُ سَــتُحْمَدْ

*

فَــهَــيَّا لَــمْلِم الأغــراضَ هــيّا

رَحِــيلُكَ بــاتَ مَحْسوماً مُؤَكَّدْ

*

فَــمَنْ يَــطْردْهُ مــن بيتٍ ذووهُ

بِــلاَ شَــكٍّ من الأغرابِ يُطْرَدْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

نَافِرًا

مُتَمَرِّدًا

عَصِيّا

أَغْبَرَ

أَفْحَمَ

كَدُخَانِ الْمَعَارِك ْ

*

أحبّكَ أنا

قصيدةً

زَجَلاً

عفْراءَ

بِروحٍ من طينةِ أرْضِي

بعَرقٍ زناتِيِّ النّمارق

*

أحبّك أنا

صُداعًا

شَرارًا

صُراخًا

مَرارًا

تَرْياقا يُخْرسُ الليلَ

فتنْهمِرُ البَوارِقْ

*

أحبّك أنا

كالنِّصَالِ

كالوِصالِ

كالزّلالِ

كَمَنبعِ الزِّلزالِ

كَصعْقةِ الصّواعِق

*

أحبّك أنا

كالّرّفِيقْ

كطِفلٍ أنيقْ

كطائرِ الفِنيقْ

كزَهرةٍ يغْمُرُها الرّحيقْ

فيُفَرِّخُ النّحْلُ لِأجْيال الْعَواشِقْ

أحبّك يا وطني!

***

- زهرة الحوّاشي

من كتاب: رأسي في قفص الإتهام 

حُـسْـنُ النوايا إذا ما الحَـزْمُ رافَـقَها

مَـنــازِلُ الـعِــزِّ تـأويــهــا، وتـفـتخرُ

*

ما رفْعَـةُ الـشأن، فــي ثوبٍ وقُبـَّعَـةٍ

الشأنُ فــي جَوْهرِ الأفـعالِ يــُعْـتَــبَرُ

*

مَن يَـعْــتلي السّـرْجَ في عَينٍ مُعَطَلةٍ

يهوي بـه الوهْـمُ، لا سَرْجٌ ولاظَـفَــرُ

*

إنّ المُـباهاة: نـَقصُ المرءِ يَـسْـكُــبُه

وكــلُّ فـِـعـلٍ يَــليـهِ الـــردُّ والأثـَـــرُ

*

مَنْ رامَ زُخــرُفَ قوْلٍ كـي يُسِئَ بــه

فالشاهدان عــليه، الســــمعُ والــبَصَرُ

*

سَـدِد خُــطاكَ، ولا تَحْــكُم على عَجَلٍ

كــم مِـن سَــفيهٍ، بثوب الحقِ يَسْـتَـتِـرُ

*

وكــم وُعـودٍ تُــرِيكَ الأفــقَ مُبـتسِــما

لــكنها فـــي ضباب الـــوَهْـمِ تـَنـْـغـمِرُ

*

لا تُغمِض العينَ عــن عيبٍ بذي صِلةٍ

فــتَـزْدَريـكَ قـــلــوبٌ كلــهــا نَــظَــــرُ

*

ماخانَ حُــرٌّ فطـُـهْــرُ الأصل يـمنعُه

قــد جـسَّـدَتْ ذلك الأشــعارُ والسّـوَرُ

*

إنّ الأصــالـةَ لا ترضى مُــساومــةً

ولا الـكـرامــة أنْ يــنْــتابـــها الـكَـدَرُ

*

جُـــرْحُ السِــنانِ، لــه مَشْفـىً يُطبِـبُـه

وزَلّــة مـِـن لـِســانٍ، لــيس تـُـغـتَـفَرُ

*

(مـا كلُّ مـــا يتمنى المرءُ يُــدرِكــه)

فادْرِكْ سَـنـا المَجْدِ، تزهو عنده الفِكَرُ

*

فالصُـبحُ يُــنْـبِئُ عن سَعْيٍّ تقومُ بــــه

فاجعله ســعـيا تُـجاه الخيـــرِ يـَنْحَـدِرُ

*

شــتّان بـين انسياب اللفظ فـــي ألَــقٍ

وبيــن لــفظٍ، بـــرُوح فــيه تَحْـتَضِــرُ

*

رسالةُ الحـبِ، عينُ الحـب تـقرؤهــا

كــم مُــقْلَــةٍ تـَدّعـي، والقـلبُ يـنْـبَهـِرُ

*

(إنّ العيونَ التي فــي طرْفِها حَــوَرٌ)

تصونُهــا عِـفّــةٌ، فـــي طرْفِها حَــذَرُ

***

(من البسيط)

عدنان عبد النبي البلداوي

طرقت بابي شابة انيقة الملبس جميلة المحيا حنطية البشرة ممتلئة نوعما ينسدل شعرها الكستنائي فوق كتفيها وتغطي خصلة منه نصف وجهها المدور تميل قامتها للقصر أو ربما تعد بين بين... لا اعرفها وكأني لم أر ملامح وجهها من قبل فاجأتني بسؤالها... انت لميعة اليس كذلك... ؟ كما عهدتك لم تغيرك السنون... !!!

وعدتك ان أزورك وها أنا أبر بوعدي..

الجمت الدهشة لساني... ثم تمالكت نفسي وقلت بصوت مبحوح النبرات اهلا بك ولكني تمنيت في سري أن أتذكرها كي يتوضح الأمر لدي... ثم بادرتها قائلة أهلا وسهلا تفضلي... شعرت الشابة كوني شديدة الارتباك ابتسمت ثم أزاحت خصلة شعرها المتدلية فوق وجهها وبادرتني قائلة...

أنا صديقتك نسرين ووو... وقبل ان تكمل كلامها عانقتها بحرارة تذكرت صوتها وكذلك ابتسامتها التي كانت لا تفارق محياها وقهقهتها بصوتها الهادئ المحبب للنفس..

لميعة ونسرين كانتا معا في الجامعة قبل سنوات وبعد تخرجهما افترقتا وجرفتهما ظروف الحياة بقسوتها المعهودة خلال تلك السنين حيث حرب الثمان سنوات ما زالت مستمرة وما زالت تحصد أرواحا بريئة لا تملك فيها ناقة ولا جملا... لذلك تحول الانسان آنذاك الى ما يشبه الدمية المتحركة دون احساس جميل يشده للحياة ودون التفكير بالمستقبل فهو مرتهن بأحداث هذه الحرب المشؤومة...

نعم في خضم تلك الظروف نسيت لميعة صاحبتها وأقرب صديقة لقلبها... ... أو ربما بسبب سمنة ملحوظة طرأت عليها فغدت مختلفة عن عهدها السابق...

أما روح نسرين وطيبتها وضحكتها وثقافتها العالية وحبها لقراءة الأدب من الروايات والشعر والقصة باقية كما هي.. كانت نسرين تتمنى ان تكون أديبة وروائية أو مترجمة للروايات الأجنبية لأجادتها للغة الإنكليزية وكذلك ضبطها لقواعد اللغة العربية علما انها درست في كلية العلوم وهذا ما جعل لميعة تتمسك بصداقتها أما أفكارها اليسارية فكانت تعتبرها لميعة أفكارا حرة تخصها رغم ان لميعة كانت تنحاز لأفكارها احيانا لكنها كانت شديدة الحذر والخوف ويعود السبب الحقيقي وراء خوفها ان أخاها الأكبر قد أودعته السلطة في السجن منذ سنين دون ان تعرف عن اخباره شيئا... . وكانت تعتبره لميعة الأب الروحي لها لما يحمله من مبادئ وقيم قد آمن بها.. لذلك كانت لوعتها شديدة...

نسرين التي كانت تسكن معها بنفس الغرفة في القسم الداخلي لأربع سنوات خلت... ها هي اليوم تتجشم عناء السفر من محافظة بعيدة بصحبة احدى قريباتها لزيارة لميعة... وتستعيد معها ذكرياتهما الجميلة وطفولة أفكارهما وبراءتهما في تلك السنين...

وبعد ان خاضتا معركة الحياة ومارستا مهنة التدريس وتحملتا مسؤولية كبيرة فغدتا تنظران للماضي كأنه حلم جميل وانتهى... تسامرتا وضحكتا ثم ودعت نسرين صاحبتها على أمل ان تلتقيا في حفلة زواج نسرين عما قريب... . أعطتها رقم هاتفها الارضي... ثم ودعتها

ولكن لميعة لم تحضر ذلك العرس ولم تحاول ان تتصل بها أو حتى تعتذر منها... وكذلك لم تحاول ان تسأل عنها فيما بعد... لكنها لم تغب عن مخيلتها أبدا... وكانت أمها تزجرها بشدة حين تذكر أسم نسرين خلال أحاديثها في البيت مع أخواتها... فكانت تكرر على مسامعها ان (للحيطان اذان)... نعم الخوف ألجم الألسن وحتى مجرد التفكير بما يخالف ورغبات السلطة الحاكمة آنذاك...

كان أخو لميعة يحمل نفس أفكار نسرين وهذا مما جعلها تركن للصمت والابتعاد عن أخبار صديقتها توجسا من ملاحقة العيون..

وفي أحد الأيام كانت لميعة في زيارة لبيت أحد أقاربها في بغداد وكانت عندهم حفلة عرس وقد تجمع في بيتهم الكثير من الأقارب والأصدقاء... فكانت إحدى النساء تغني بصوتها العذب الذي تناسب مع رقتها وانوثتها الطاغية... أثنت على صوتها جميع النسوة فأخذت تتباهى وتفتخر باسم مدينتها التي يمتاز أكثر ساكنيها بعذوبة أصواتهم ويا للمصادفة الغير متوقعة... انها من مدينة نسرين... شعرت لميعة بقشعريرة تسري بأنحاء جسدها ولم تعد تسمع ما تقوله بأغنيتها..

انتظرتها حتى أكملت غنائها فنهضت وجلست بجانبها وبعد التعرف عليها بحجة الأعجاب بصوتها وذلك مما جعل المرأة تسترسل بالحديث المطول معها وتحدثها عن كثرة المعجبين والمعجبات بصوتها... انتهزت لميعة فرصة اندماج المرأة معها فسألتها عن نسرين ان كانت تعرفها أو لا... فتنهدت المرأة طويلا ثم قالت آه نسرين أعرفها تمام المعرفة نعم انها مدرّسة الكيمياء ولكن أرجوك لنترك الخوض بهذا الموضوع... وهنا احترمت لميعة رغبتها وأسبابها وانسحبت بهدوء تام...

وبعد سقوط الصنم ورغم تقادم الزمن عادت لميعة تبحث عن نسرين وعن أخبارها مجددا ولكن دون جدوى ولولا الوضع المرتبك في بعض المناطق وعدم استطاعة أي امرأة للسفر لوحدها لمحافظة بعيدة لكانت قد سافرت اليها لشدة شوقها لصديقتها ولسماع أخبارها...

بحثت عن عنوان بيتها الذي كانت تحتفظ به سابقا والذي وجدته مكتوبا على أول ورقة لرواية الأم (لمكسيم غوركي) التي أهدتها لها نسرين أيام الجامعة سرا عن باقي زميلاتها... خبأته في مكان آمن ثم قررت ان تزورها في الوقت المناسب... وحين تهدأ الامور

كان من عادة لميعة في المدرسة ان تقرأ ما وصل للمدرسة من صحف خلال درسها الشاغر... فوقعت بيدها مصادفة إحدى صحف البلد تصفحت بأوراقها وقلبتها... وهنا وقعت عيناها على خبر هز كيانها وأفقدها صوابها فأخذ جسدها يترنح فقد أصيبت بدوار شديد فحاولت ان تسند جسدها وتتمسك بأطراف الأريكة لكنها لهول الصدمة لم تتمالك ان تسيطر على نفسها فسقطت أرضا من فوق الأريكة ولولا تدارك زميلاتها للموقف لتعرضت لما لا تحمد عقباه...

فقد وجدت أسم نسرين الثلاثي وأسم مدينتها بقائمة الشهداء الذين تمت تصفيتهم من قبل النظام السابق... .

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

أيّامٌ بلا فُصُول

النّايُ ضيّعَ لَحْنَهُ

منذ ارتحلتِ عن الجُنَيْنَةِ

فاَخْتَفَتْ

منها الوُرودُ، وأقفَرَتْ

الوقتُ فرَّ وصارَ،

ليْسَ له وجودْ

هَلْ أُكْمِلُ الخطواتِ وحدي؟

أمْ أعودْ؟

الحزنُ سَرْبَلَني،

وزَلْزَلَني الذُّهولْ

فَطَفِقْتُ أجهلُ ما أقولْ

الوقتُ ..؟ أين الوقتُ

ليس لديّ في وقتي شروقٌ

أو أُفولْ

كُلُّ المناخاتِ اِلْتَقَتْ

وتَداخَلَتْ

كُلُّ المسافاتِ اِنْتَأَتْ

وتقارَبَتْ

كُلُّ الفصولِ تغيّرَتْ

حتّى غدتْ

فصلاً وحيداً ليس من فصلٍ سواهْ

فصلاً يناورني وأَجهَلُ مُبْتَغاهْ

هَلْ تستطيعُ؟

أيَّامُنا الثكلى التنفّسَ

دونَ صيفٍ،

أو خريفٍ،

أو شتاءٍ،

أو ربيعْ ..؟

.....................................

.....................................

هَلْ تستطيعْ؟

***

كلماتٌ تؤرقها الخيبة

مُراوَغة

صوتٌ هامسْ

كان يناجي اِمرأةً

في ليلٍ دامسْ:

وجهُكِ نورْ

وأنا ممتلئ غَزَلاً وسرورْ.

قالتْ مَنْ أنتَ؟

فلَمْ تسمعْ ردّاً

من أنتَ؟

فلَمْ تسمعْ صوتاً

مَنْ أنتَ؟

.....................................

.....................................

مطّت شفتيها هامسةً:

يا للأوهامْ

كيفَ تطوّقُني؟

هَلْ يُفرِحُها دمعُ عذابي؟

كيفَ تبدّدُ ما أجمعُ من أحلامْ؟

ولماذا تفتحُ لي بابي

حتّى حينَ أنامْ؟

**

وَجَل

لا تَرْفَعْ صوتَكَ

فالحائطُ مفتوحُ الآذانْ

.....................................

منذُ طفولتهِ مقموعاً كانْ

اللاءاتُ تحاصرهُ،

في كلِّ مكانٍ وأوانْ

يركضُ مبتعداً

تبقى اللاءاتُ تطاردهُ

لا أحدٌ يسمعهُ

لا يسمعهُ حائطُ،

لا يسمعهُ إنسانْ

**

تَدَحْرُج

دنيانا حبلى

بغرائبَ لَمْ نألفْها

وعجائبَ لَمْ نَعرِفْها

دنيانا عجلى

تأتينا مُسرِعةً

تغمرنا غاضبةً

بالأغربِ ثُمَّ الأغربْ

والأعجبِ ثُمَّ الأعجبْ

............................

دنيانا.. يا للخيبةْ

ما عادتْ تمنحُ أعيُنَنا

أحلاماً صافيةً عذبةْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

أَبْكِيكَ يَا نَبْعَ الْهَنَا

أَبْكِيكَ يَا دَرْبَ الْمُنَى

*

أَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا الَّتِي

ضَاعَتْ وَكَانَتْ مِلْكَنَا

***

كُنَّا وَكَانَتْ جَنَّتِي

وَحَبِيبَتِي وَهِيَ السَّنَا

*

وَالْآنَ مَاذَا قَدْ جَرَى

لِحَيَاتِنَا بَعْدَ الضَّنَى

***

تَاهَ الْفُؤَادُ مَعَ الْهَوَى

مُتَظَلِّماً مُتَمَسْكِنَا

*

لَيْتَ السَّعَادَةَ مَوْعِدِي

فَأَضُمُّهَا مِنْ شَوْقِنَا

*

وَيَعُودُ حُبِّي شَامِخاً

فِي دَرْبِهِ مُتَمَكِّنَا

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

من لي بمنشار لأقطع

ذلك اليوم المتعفن

المتجذر في حنجرة الوجع

ثمة الكثير من المرارات

تدعوني للتفكر ملياً

كل صباح وقبل أن أدس

قدمي في حضن مشاويري اليومية

ما الجدوى من الشروق

والظلمة تكسو النهارات

من عوز الاحتياج

ثياباً من جوع ومرض

والغابة مازالت

تشهد اغتصاب

أشجارها على مرأى

من عيون ثمارها الوليدة

أي جرم أكبر من احتمال

أن يستيقظ الفرح

في صندوق الألعاب

مبكراً ليجده خالياً

فالدُّمى شدت الرحال

نحو منزل به مدفأة

والفقد ذلك الخالد في

الماضي والحاضر والمستقبل

الصاخب كجوقة مشروخة حبالها بالنحيب

الممتد في كل الأيام

المقبور

المفقود

المطرود

المهاجر

الضائع

المقطوع اللسان إلا عن قول الآه

ما الجدوى ولونه القاتم

يلقي بظلاله على

الدهشة فتنكسر ساقها على بعد شهقتين من الفرح

مسخ أنت تتجول في أزقة الخلود

كلما أغلقنا الأبواب

تسربت من النوافذ

يابحر الملح

المنساب من ثقب

في كبد السماء

يا رديف الحياة

المتخفي وراء مرايا الغدر

بألف وجه

نسميك يوماً سيئاً

وتبقى في العمر

مِقصلة مسنونة

على براعم الوقت ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

يَا أَبَتِ

أحببتُ عروسَ البحر

ــ كُنْ سفينةَ الصحراء

كيْ لا تغرقَ في مَوجها

*

إنّها تُشبهُ غزالة

ــ حسنًا

اِقتربْ منها

بخُطى السّلحفاة

لتلحق بها

*

يا أبتاهُ

اِقتربتُ

فطارت عاليا ...وبعيدًا

ــ إذن

رفرفْ في سمائها

كالفراشة

النّسيمُ سيحملك إليْهَا

وسيلتقي جناحاك

بجناحيْهَا

سُوف عبيد ـ تونس

 

هذا صباح يوم آخر في حي "السدرة"، مشمس شديد الحرارة، مثل أي يوم تموزي لاهب، مع نفحة غبار خفيف يصعب معه التنفس بسلاسة. كان باب منزل السيدة عالية مقفلاً. تلك العجوز التي تتوسط حديقة بيتها شجرة سدر عجيبة. كانت الشجرة هي الدواء السحري لكثيرين من طالبي الشفاء، وتيمناً بها أضحت اسماً لحيهم الشعبي القديم، وصارت محط قداسة تحسدها عليها أشجار السدر في البيوت المجاورة، أغاضتها أوراق قليلة قدمتها السيدة عالية بعفوية لجارها "أبي ياسين"، هو الذي طلب منها ذلك، فأنعشت رئتيه المنهكتين بدخان السكائر، وغبار المواسم. كانت تلك هي البداية.

وجد العطارون في أوراق السدرة وصفتهم المفضلة، صار الواحد منهم كأنه دليل سياحي يرشد الناس لمقام شجرة السدر. لكن الأمر أصبح كابوساً لسيدة عجوز لم تعرف الهدوء في آخر سنوات حياتها. الباب مغلق. يمتد أمامه طابور طويل من طالبي الشفاء، والمتبركين، ومن لم يرزقوا بذرية بعد، مع بعض المتسولين، والباعة، وجدات مولعات بمحبة الشجر بلا سبب. لقد بدا للجميع أن أحلامهم لن تجد سبيلاً للتحقق من دون بركات تلك الشجرة الفارعة إلى الحد الذي تتعذر معه رؤية قمتها حتى مع الابتعاد إلى أقصى نقطة في الحي، أو بصعود أعلى مبنى فيه. الباب لا يزال مقفلاً، غير أن سكان الحي مستعدون لقضاء نهار كامل بلا تململ أو ضجر، أمام احجام ساكنة الدار، متمسكين بفكرة أن الفرج لا يأتي إلا بعد مشقة. روائح الأطعمة التي يحملونها هي وحدها التي استطاعت التسلل إلى باحة الدار، متنقلة بين جنبات بيت قديم شيده الحاج حسن قبل سنين بعيدة.

على مقربة من الطابور، تجلس سيدة مع ابنتها ذات العشرين عاماً. كانت الأم تبحث عن قليل من الماء لتشرع بعجن الحناء، فمرادها قد تحقق، وعليها الإيفاء بنذرها. هذا هو العرف السائد، أن تعود حين تنال أمنيتك لتكرم شجرة السدر بأن تضع الحناء على حيطان الدار. هرول بائع ماء حصل على رزق غير متوقع، مقدماً للسيدة قنينة ماء مجاناً، وأرشدها إلى زاوية من جدار بيت السيدة عالية لم تطلَ بعد بالحناء. كان بائع الماء الفقير يكرر ما سبق أن فعله مرات عديدة. شكرته السيدة بابتسامة امتنان، وذهنها موزع بين شجرة السدر، وابنتها الشابة التي لم تعد قادرة على النطق منذ أن فقدت زوجها في إحدى المعارك. يكفي أنها بدأت بتناول الطعام، فهذه بحسابات الأم إحدى علامات تحقق المراد.

في هذه الأثناء اقترب طفل صغير، وأخذ يرسم بما تبقى من صبغة الحناء بالوانات تحمل حمائم، وأقفاص طيور. كان فيما رسمته أنامله جمال فطري أخَّاذ، لكنه لم يرضِ أصابع والدته الحانقة، تلك التي بدت كالكماشة وهي تشدَّ بعنف أذن الصغير. قدمت الأم من أقصى الحي راجية أن تهب شجرة السدر للرسام الصغير معرفة تمكنه من النجاح في مادة الرياضيات التي أخفق فيها.

في داخل الدار تجلس السيدة عالية، وهي تحلم بنهاية مناسبة بلا متاعب، مثل سقوط ورقة من شجرة ما مع أوائل الخريف، أو كشمعة أوقدها أحدهم في دير، وخرج تاركاً إياها لتذوب برفق. تلك نهايتها المبتغاة، هادئة، ومطمئنة. كانت هي البنت الصغرى لعائلة ضمت خمس بنات. عالية، العجوز التي ناهزت الستين عاماً، هي فقط من بقي منهن على قيد الحياة. باعت المساحة الأكبر من البيت، واكتفت منه بجزء صغير مع الحديقة التي تشمخ فيها شجرة السدر بجانب بئر قديمة، وأمام فسحة اتخذتها مطبخاً لإعداد الشاي فقط. الطعام الذي يجلبه لها الناس يزيد عن حاجتها، فراحت تتقاسمه مع متسولين استقروا على الرصيف المقابل. كانت عالية قد جلبت شجرة السدر وهي نبتة صغيرة من حدائق قصر الحاكم، بعد سقوطه المدوي. لم تفكر بأخذ أي شيء ثمين. مجرد انتقام معنوي، لا أكثر.

 في مساء اليوم السابق، وقبل أن تأوي عالية إلى فراشها أخرجت صندوقاً من تحت سريرها. كانت تريد العثور على بعض المستندات التي طلبها مسؤول الأوقاف لإثبات ملكية الدار. حين فتحت الصندوق انهمرت فجأة ذكريات منسية يزيد عمرها على أربعين عاماً. ها هي صورتها وهي طالبة جامعية أنيقة، تقف بشعرها الفاحم الطويل بشموخ، وزهو حقيقيين. تطوي ألبوم الصور على عجل، لتجد تحته بضعة كتب، وروايات. لمحت بينها رواية زوربا اليوناني. فكرت في السبب الذي منعها من إتمام قراءة هذا النص الجميل. استوقفتها الفاصلة التي وضعتها بين الصفحات قبل سنين بعيدة. كانت الفاصلة موضوعة بشكل أفقي، تحت سطر يتضمن حواراً بين زوربا وصديقه. كان زوربا قد قطع إصبعه لأنه يعيق عمله! وصديقه يسأل: "هل آلمك؟". يجيب زوربا: "نعم آلمني. وهل أنا شجرة؟!"

فجأة. قفزت عالية من سريرها بكل ما تبقى لها من قوة، سارت بثبات نحو الشجرة، متسلحة بروح زوربا، وبفأس يعود لوالدها ظل معلقاً على أحد الجدران سنوات طويلة. رفعت الفأس بحماس، مطلقة ما يشبه صرخة حرب مرعبة. ستقطع الشجرة، لتنهي وهماً عشعش في عقول الناس. كانت متأكدة من أنها تسدد بإحكام وقوة، لكن كيف ابتلعت البئر الفأس ولم يمس جذع الشجرة بخدش؟

 أفاقت عالية بعد دقائق. كان الظلام يحيط بها، وعلى مقربة منها حشد من غريبي الاطوار، من فلاسفة، وشعراء، وعلماء يجرون آلات غريبة، يقودهم الزهاوي وبصحبته المعري. كان الشاعران يحيطان بمارلين مونرو، شغلوا بها عن أمر ما. ثورتهم التي أقاموها في الجحيم لم تكتمل، فقد دب الفساد مرة أخرى بعد انقلاب الشياطين عليهم. لمحت عالية خلف الحشود والدها الحاج حسن وهو يصارع كائناً ذا جناحيين عظيمين. كان يبدو للوهلة الأولى كأنه الحاكم.

في الأثناء التي تخف فيها حدة ذلك الصراع كان الحاج حسن يسأل ابنته عن حياة عائلته بعد رحيله. ولما تمكن التعب من الكائن ذي الجناحين التفتَ إلى عالية قائلاً بضجر: "سيدتي إن كان هذا كابوساً فهو الأسوء، وإن كان واقعاً فأهلا بك في الجحيم. خذي هذا الكهل، واجلسي هنالك عند الزاوية، حيث الرسام بوتيتشيلي يعدل لوحته (الجحيم) بمنظور مقلوب، المكان الأكثر حلكة للأعلى قرب سطح الأرض، أما فوقها فهو الجحيم بعينه". تراخت يدا الأب، وركض صوب ابنته، احتضنها، فبكت بين يديه كطفلة. كانت قد بقيت لفترة طويلة تجهل أن والدها فلاح القصر مات مقتولاً لسبب غريب. ذات يوم، كان العمل الشاق قد أنهك جسد العجوز، فنسي كل شيء، وسمح لنفسه أن تغفو تحت ظل شجرة سدر في قصر الحاكم.

***

ياسر هادي - كاتب من العراق

الطبيعة بيد الساحرة.

العميان يقصفون المارة بقش اليوطوبيا.

بحبال مخيلتي أشنق كلمات القس.

أسحب الوضوح إلى الهاوية .

بالموسيقى شممت رائحة الله.

الله الذي أطلقوا عليه النار

المشاؤون الجدد.

الله الذي إختفى في رؤوس الجبال.

حاملا نعش العالم على كتفيه.

هاجمني مصطلح ضرير بالحجارة.

هاجمني اللاوعي بمسدس أشيب.

هاجمني ناس مظلمون في مفترق قوس قزح.

ينابيعي ملطخة بالدم والفضيحة.

في بئري تطفو جثة يوسف.

تعبت من صفير مؤخرة الموت.

تعبت من ميتافيزيقا الفيروسات.

أنا مطوق بزنار من البديهيات العطنة.

بكفن أسود من العذاب اليومي.

عضني أيها الخفاش

إقطع تفاحة سهوي إلى شطرين.

عضني أيها الذئب القابع في قاع الكلمات.

عضني أيها الفراغ الذي تلمع عيناه

المتلعثمتان.

سأحتمي بالفلسفة من نباح جارنا اللاهوتي.

سأحطم مزهريات اليقين.

أبايع عاصفة الأسئلة.

لا يهم موتي العبثي على قارعة اللاجدوى.

***

فتحي مهذب

ما زالَ للشَّمسِ مهدٌ في رُوحِي

سَأستَرجِعُ ذاتِي

كَي يُعرِّشَ الآس

دَالياتُ الحبِ في قَلبِي

النَّدى يَقطرُ مِنْها

لا ترحَليْ أيَّتُها العَصافير

لنُكمل ترنيمةَ الصَّباحِ

الحُلمُ يُؤَرِّقني

رُويداً شَقائِقَ النُّعمان..

مَهلاً ياسمينَ الشَّام

مازال للحبِّ بقيَّــة

ما زال للأملِ بريقه

للفرحِ أُنشودته

للبحرِ نوارسُهُ

سيبرق السُنونو رسائلَه

وينتفضُ السَّوسَن

ما زِلتُ على نافذَةِ الليْلَكِ

أَنتَظِرُ..

ولادة اليَمامَة

أتطرَّزُ جَناحَ حُلمٍ

فتتبعني الفراشات

***

سلوى فرح - كندا

هي باقةُ الودِّ... وعِطْر الماضي

وأناقةٌ مشوقة الألفـــــــاظِ

*

ورسولها عَبق المتون ِ وعزفها

عذْبٌ بأوتار الهوى الفضفاض ِ

*

لها نكهةٌ الله مَيَّزها بها

تُنبيك عن روح الملاك الواضي

*

لا تلتفتْ للعاذلين ببابها

ويموتُ غيظاً مُدَّع ٍ (عَ الفاضي)!

*

إلا (يَرَاعي) أبْحَرَتْ بجوادِه ِ

لم تكترثْ للريح... والأغلاظ ِ

*

وصَلَتْ إلى بَرّ الأمان وآمنَتْ

بي... مثلما قد آمنتْ بــ (عكاظ ِ)!

*

أنا عائدٌ لأُطيل عُمْرك ِ يا التي

هي مُلهمي.. وسُلافتي.. ولِحَاظي

*

فلْتَدْخُلِيها بسلام ٍ جنتي

ما شِئْتِ من درجاتها.. أنا راضٍ!

***

محمد ثابت السمي - اليمن / تعز

ثمة جنرال عجوز عنجهي

يستعين ببندقية صيد

لمطاردة الذباب

من مؤخرته المتآكلة

وهو يردد:

لن نتخلى عن فلسطين

لن نتخلى عن المسجد الاقصى

والقدس الحبيبة

والقول ليس كالفعل

فهو دوما يسلح مليشيات ارهابية

رابضة في صحرائه القاحلة

ولا يقدر ارسال

رصاصة واحدة

الى ابطال القدس الميامين

*

فلسطين مشتتة

سوريا مخربة

عراق محطم

قطيع بلا رعاة

وجامعة عربية خرساء

وعلى فوهات بركان

الخيانات العربية تتراكم

*

وفي المحافل يجتمعون

وعلى المنابر ينعقون

ويقولون ما لا يفعلون

في احلامهم

يلمون الشمل

وفي يقظتهم

يفرقون الجمع والصفوف

ويشتتون

*

اهو عواء الذئاب

ام رقصة في قن الدجاج؟

ام سخافات بدائية

ام كلاب سائبة

تسرح وتعوي بلا هوادة

*

عمامات سوداء

كأعشاش اللقالق

عالقة على صوامع

خربتها الحروب غير الشرعية

ثمة ضمير عالمي صهيوني

مشلول اليدين

مثقوب الاذنين

مفقأ العينين

لا يتحرك ساكنا

أمام جرائم وانتهاكات

لدويلة حقيرة ارهابية

دوخت الملايين

***

بن يونس ماجن

أهلي أحبائي. أبناء عشيرتي في سوريا، لبنان، الأردن ومصر. أريد أن أخبركم بهذا أنني فقدت يوم أمس ابني.. بكري بعد أن ربّيته ورعيته بنور عيني حوالي نصف القرن. ابني حبيبي نور عيني. رأيته يكبر يومًا بعد يوم.. شهرًا .. وسنة في أعقاب سنة. يا الله ما أصعب ساعة الفراق. قلبي يتمزّق. الآن بعد أن جاء الرجال وآوه في مرقده الأخير لم يعد أمامي من همّ سوى أن أرسل إليكم، أن أقول لكم إننا خسرنا زينة الشباب وضوّ البيت. مات هكذا بسرعة دون أن أفرح به، دون أن يخلّف أولادًا وبناتٍ يحملون اسمه ويحيون ذكره. ألا قولوا لي ألم يخبركم أخي الكاتب.. كاتب القصص ما غيره، بوفاة ابني المفاجئة القاصمة للظهر والقلب؟.. لقد طلبت منه أن يخبركم فاذا فعل كان ذلك لُطفًا منه.. وإذا لم يفعل ها أنا ذي أقوم بالمهمة، يهمني جدًا أن تعرفوا أن عائلتنا المعروفة برجالاتها وأبطالها الميامين نقصت أمس صخرًا آخر، لا يقل شجاعة وفروسية عن شقيق الخنساء. الشاعرة الجاهلية ما غيرها.

ابني صخر، هو إبني البكر، وقد أعددته كما توقعتم طوال الأيام والليالي لأن يليق بأن يكون واحدًا من عائلة الابطال، وكنت أشجعه وأرسله مثل رمح عربيّ أصيل، إلى كلّ مَن يتوجّع أو يطلق أنينًا من أبناء أسرتنا الصغيرة الباقية في أرض الوطن، بعد أن اضطررتم أنتم جميعًا الى مغادرتها مكرهين. اسالوا أخي الكاتب الهُمام، اسألوه كيف كان صخري، صخركم، ما أن يستمع إلى مَن ضايق إحدى بناته، حتى يلفّ كوفيته الفلسطينية .. كوفية إخوانه الملثمين، يلفها على رأسه وينطلق إلى هناك حيث مكامن الالم والتوّجع، وكيف كان يرفع من تسبّب لبنات اخي من قبّة قميصه، ويهتف به، بأي حق تدوس في أرضنا يا عدو الله. اسألوه كيف استمع ذات يوم إلى صرخة إحدى نساء العائلة، في بلدتها البعيدة، وكيف ما لبث أن اعتمر كوفيته وانطلق إلى هناك في تلك البلدة البعيدة، مغيثًا إياها ومستجيبًا لطلبها نجدته. سائرًا على طريق الخليفة العربي المعتصم صاحب السيف الصادق. يومها أغار على مَن تسبّب بإيلام قريبته مذكرًّا بحرب المعتصم ذاته في منطقة الاناضول. ومثيرًا الغبار بحوافر حصانه كما فعل ابطالنا العرب القدماء.

ابني زينة شباب المدينة، حاراتها وضواحيها، ابتدأ بطولاته بالسؤال عنكم، كان ذلك عندما سألني عن قِلّة أقربائنا في البلاد، " لماذا لا يوجد لدينا أقارب يا أمي مثل أصدقائي أبناء العائلات الكبيرة"، يومها حكيت له اننا من عائلة شريفة النسب طيبة المحتدّ، وأخبرته بكلّ ما أعرفه عنكم، وعن أبنائكم ممّن ضحوا بالغالي والرخيص ذودًا عن حياض الوطن.. حدّثته عن رجالاتنا الشرفاء، وعن مآثرهم التي تغنت بها الحوادي والركبان، وسردت عليه العديد من قصص أولئك الابطال. يومها قال لي" كفى يا أمي.. عرفت مَن أنا"، كنت أشعر أنني لست من ضيعة قليلة الشأن وها أنت ذي تؤكدين ما شعرت به طوال الوقت دون أن أجد له تفسيرًا مقنعًا. حكاياتي مع ابني بكري صخري.. لم تنته بانتهاء تلك الجلسة وإنما تواصلت، فترة طويلة من الزمن، وكنت أرى إليه كيف يكبر يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، بل إنني عرفت فيما بعد، أنه أخذ يُعدّ نفسه إعدادًا مُنظّمًا لأن يكون أحد ابطال العائلة وصناديدها المُجلّين. وكان أن جرى بيني وبينه نقاش لن أنساه ما حييت وما تنفست هواء بلادي.

أنا: لماذا تُرهق نفسك كلّ هذا الارهاق؟

هو(مقطبًا): أريد لكلّ أبناء عائلتي هنا في البلاد وهناك خارجها أن يرفعوا رؤوسهم.. لا أريد أن أرى مَن يخفض راسه أمام مفتئت أو ظالم.

يومها ربتّت على كتفه طالبة من المولى أن يوفّقه لما فيه خيرنا جميعًا، فأرسل نظرة تُشبه نظرة صقر.. تذكّر أمرًا كاد أن ينساه.. وقال لي هناك الكثير مما أريد أن أفعله. وصمت. منصرفًا إلى شأنه حتى لا أبالغ في سؤالٍ.. لا يريد أن يقدّم له جوابًا.

لم يكن صخر يعتدي على أحد كان إنسانًا مُسالمًا، لكن الويل لأي كان إذا ما داس على طرفه، أقول هذا وأنا أتذكّر تلك الحكايات التي أمست بين ليلة وضحاها حكايات يرويها الناس، من أهل بلدنا، في ليالي سهرهم وأوقات توتراتهم، وما زلت أتذكر قصة وقعت له أيام كان يعمل في إحدى البلدات اليهودية. لقد روى لي هذه القصة شهود عيان كانوا على مقربة منه.. هذه القصة تتلخّص في أن أحد أبناء عمومتنا شتمه بكلة "عرفي ملوخلاخ"- عربي قذر، فما كان منه إلا أن رفعه من قبّة قميصه عاليًا وعاليًا، هاتفًا به:" مي هملوخلاخ يا ملوخلاخ"، -مَن القذر أيها القذر. وضرب به الأرض فاهتزّت. أما ذاك المعتدي فقد زحف على الأرض القريبة وأطلق ساقيه للريح.

حكايات ابني صخر دخلت دفتر الصحافة العربية خاصة في البلاد، وكان ما يرفع الراس، ارفعوا رؤوسكم عاليًا، أنه لم يكن معتديًا في كلّ جولاته وصولاته، وإنما كان مدافعًا عن شرفه وشرف أهله. لهذا اعتقد أن الصحافة رأت فيه بطلًا ورجلًا شُجاعًا، يُعلي من شأن أهله ومجتمعه ويرفع راية القيم العالية والمبادئ السامية. وأذكر في رسالتي هذه إليكم بكلّ اعتزاز، أن روائيًا من بلادنا استمد من حياته وبطولاته شخصية روائية.. سمعت أن هناك مَن يفكر في تحويلها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني.. لا أدري.. لكن بإمكانكم أن تتوقّعوا مُشاهدة هذا العمل الفني.. القريب منكم ذات يوم.

شجاعة ابني صخر وبطولاته هذه، ذاعت وانتشرت في طول البلاد وعرضها، وأدخلته في علاقات.. رفض مُعظمها، وكان أن ارتبط في أخريات أيامه بصبية تبيّن له بعد أن نشأت بينهما علاقة محبة، أنها مِن البلدة اليهودية المجاورة. بلدة ذاك النذل الملوخلاخ/ القذر، وربّما كانت أخته. هذه الصبية تمكّنت من دسّ السم له في طعامه، ليتناوله، ولتبدأ رحلته الأخيرة.. وقد أوصاني في لحظاته الأخيرة أن أكتب لكم وأن أخبركم بأنه حاول كلّ ما أمكنه أن يرفع راسكم.. بل أن يعمل من أجل عودتكم إلى البلاد.. وشدّ على يدي في ساعته الأخيرة قائلًا أكتبي إليهم.. قولي لهم إن البلاد تنتظرهم منذ سبعين عامًا ونيف.. أما أنا فإنني عائد يا أمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

................

*اللوحة: مصطفى الحلاج التغريبة الفلسطينية جوهرا للإبداع.

رِحْـلَــةُ الـمَـجْـدِ، عِــزّةٌ وخُــلـودٌ

فــإذا زانَـهـــا العَــفـافُ، بَـهــاءُ

*

يَـرتـقـي سُــلَّـمَ الـنّــجـومِ، كَـفُـوءٌ

فـي خُطاه، الأخلاقُ نَهْـجٌ مُضاءُ

*

مَن تساوى يــوماه قـد نالَ غُبْــناً

حِــكمَـةُ، صاغَ تِـبْـرَها الـبُـلَغـاءُ

*

إنّ مَــن يَـعـشـقُ الجَـمالَ بِـنُـبْـلٍ

يَـتــولّـى أهــدافَــه، الارتـــقـاءُ

*

هَـمْـسَةُ الحُـبّ اِنْ تَـجـلّتْ بصدقٍ

يَـشهَـدُ الصبحُ عَـزفَـهـا والمـساءُ

*

لــيس كــلّ الألفاظِ، تَـبْلغُ قَـصْداً

رُبَّ لـفـظٍ، فــيه الـمعاني تُـسـاءُ

*

وإذا المَـرْءُ، مَكّــنَ الضّعفَ منه

يــحـتـويــه الأُفـُـولُ، والإعـيـاءُ

*

(مـن يَهُـن يَسْهلُ الهَوانُ عليه)

رُبَّ يـأسٍ، يـَـشيـخُ فــيـه الــدّاءُ

*

(وإذا كــانــت النـفــوسُ كبارا)

يـَحتوي الأفـقُ سـَعْيـَها والعَـلاءُ

*

تَـتَـوارى خـلف العيونِ حُـروفٌ

يـَجْـرَؤ الصدقُ كـشفـها والوَفـاءُ

*

إنّ فــي الاختبار، تَشخيصَ طبْعٍ

يتلاشى فـــي ضوئـــه الافــتراء

*

ليـس كـلّ ابـتسامةٍ، عـن سُــرورٍ

رُب خَـلْـفَ الـسِــتارِ يَجْـثو البُكاءُ

*

لاتَـدَعْ فــي الـغـرور، نَسْمَةَ فَخْـرٍ

ليــس يـخـفـى الغـرورُ والإيـمـاءُ

*

يأنــسُ الــقـلـبُ لـلـمَـودّةِ طـوْعــاً

إنْ حَــبَـاهـا مــع الصّفاءِ، نَــقــاء

*

فـــي التـأني قِيـلَ: السّـلامـة أوْلى

وسُــلوكٌ بـــدونِ صبْـــرٍ، عَــنـاءُ

*

قـارِبُ العِـشقِ إنْ عَــداهُ الـتـوَقّـي

يُـغْـرِقُ الـمَـوجُ مَـهْـدَه، والـهـواءُ

*

ليس حَتْماً، مَنْ غاصَ يَغْـنَـمُ دُرّاً

فالمِـراسُ الحَصيفُ، نِـعْـمَ الأداءُ

***

(من الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

ويــصرخٌ بــالدجاجِ لهُ (يكشُّ)

ويَــعْرفُ أنَّــهُ كــذبٌ وغِــشُّ

*

أَيَــرْتَدِعُ الــمُغِيرُ بغيرِ ضَرْبٍ

ويُــثْخِنُ وَجْــهَهُ لــطمٌ وخمشُ

*

وَتُــكْسَرُ سَــاقَهُ خَــمْسِينَ كَسْرا

فــتــصبحُ كــالهَشِيمِ إذا يُــحَشُّ

*

ومَــا نَــفْعُ الــسلاحِ لدى جبانٍ

إذا مــا صــانَهُ عــزمٌ وجــأشُ

*

ومــا نــفعُ الأمــينِ على بيوتٍ

إذا كــلُّ الــلصوصِ بها تَخشُّ

*

ومــا نــفعُ العصا في كفِّ راعٍ

إذا مـــا لــلــقطيعِ بــها يــهشُّ

*

ويَــرْكُلُهُ الــجميعُ مــتى أرادوا

فــيــبقى كــالــنعامةِ لا يــنــشُّ

*

كــأنُّــهُ نــعجةٌ تــخشى نِــطاحاً

وأنَّ غَــرِيمَها في النطحِ كَبشُ

*

كــديــكِ فــوقَ مَــزبَلةِ يــنادي

أنــا الصنديدُ في الهيجاءِ دَغْشُ

*

أنــا الــموتُ الزؤامُ لِمَنْ أتاني

ســيحملُهُ إلــى الأرماسِ نَعْشُ

*

أنــا فــحلُ الــدجاجِ بــكلِّ فخرٍ

أنـــا الــهوجاءُ والــباقونَ قَــشُّ

*

يــبــاهى بــالفحولةِ كــلَّ فــحلِ

وحــتى خــانَهُ الصوتُ الأجشُّ

*

يــفــتلُّ لــلــشواربِ مِــثلَ هــرٍَ

يــظنُّ بــأنَّهُ في الحربِ وحشُ

*

ومــا أنْ جــاءَهُ ديــكٌ غــريبٌ

غــدا كــحمامةٍ يَــحمِيها عِــشُّ

*

كــأنَّ جُــفونَها اِلــتَحَمَتْ تماماً

ولمْ يَرْمُشْ لها في الحالِ رِمشُ

*

فَــمَــنْ يــمــلأْ بــقربتِهِ هــواءً

ســيَندَمْ حــيثما راحــتْ تَــفُشُّ

***

عــبــد الناصر عــليوي الــعبيدي

نَسِيتُكِ مِثْلَ عَذَابِ السِّنِينْ

وَقَلْبِي كَوَاهُ الْأَسَى وَالْأَنِينْ

*

نَسِيتُكِ حُبًّا يُنِيرُ حَيَاتِي

فَوَاهاً لِعَهْدِ الْهَوَى وَالْحَنِينْ

**

فَكُنْتِ كَشَمْسٍ بِدِفْءٍ وَضَوْءٍ

لِتُدْفِئَ صَرْحَ الْهَوَى وَالْبَنِينْ

*

عَهِدْتُكِ بَدْراً بِأَحْلَى اللَّيَالِي

فَنَلْهُو وَنَمْرَحُ نَنْسَى الشُّجُونْ

*

وَجَدْتُكِ طَيْفاً جَمِيلَ الْمُحَيَّا

يَعُودُ الْفُؤَادَ مَعَ الْعَائِدِينْ

**

أَلَسْتِ الْحَبِيبَةَ يَا لَحْنَ عُمْرِي؟!!!

أَلَسْتِ الْجَمَالَ بِهِ تُبْدِعِينْ؟!!!

*

فَهَلْ كَانَ حُبُّكِ وَهْماً جَمِيلاً؟!!!

بِرَبِّكِ قُولِي أَلاَ تَسْمَعِينْ؟!!!

**

وَكَيْفَ يَضِيعُ الْهَوَى مِثْلَمَا

يَضِيعُ الْغَرِيبُ مَعَ التَّائِهِينْ؟!!!

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

هو النور الذي اتبعوه وصفا

رجال حوله ما غضوا طرفا

*

وما نشدوا الخلاص على حسامٍ

وقد عقدوا عليه بما يُوفَّى

*

رجالٌ خلدوا التاريخ ذكراً

وتتويجاً وتدويناً وإلْفَا

*

فَحُقَّ لهم يسودوا الأرض يوماً

ويقتلعوا جذور الشرك جرفا

*

وحُقَّ لنا نماثلهم خصالاً

ونَتَّبِع الذي آتَّبعوهُ صفَّا

*

ألم يَتْرَعْ حياتنا باجتلاء ٍ

ويشفي لُبَّنا... ونَصِحُّ حَرْفا

*

ويَخْرِطنا بنهجٍ مستقيم ٍ

ليخشانا العِدا ويموتُ خوفا

*

هو النور الذي لن يطفئوهُ

وإن جاؤوا بملءِ الأرض عصفا

*

مطايا اليوم يركبها عُلوجٌ

وينتهكون إن شاؤوها حِلْفا

*

رسول الله نحن في اغترابٍ

عن الدين ِ... وما للدين منفى

*

سوى أن الغُلاة على هواهم

أحلوا حَرَامَهُ وازدادوا عُنفا

*

ونزَّتْ تحت أيديهم رؤوسٌ

وأخرى ما بِفتواهم... وأخفى

*

رسول الله لبيناك ذكراً

وأشعلنا المنابر والمقفى

*

وبايعناك قبل مَغِيب عُمْرٍ

وما زلنا أولي عهدٍ وأوفى

*

رِجالٌ لا تلين لنا قناةٌ

وأشقينا الملوك فهانوا ضعفا

*

فهل يدري الأمامُ أكان خلفٌ

أو انتصرتْ بحلف السين سوفَ؟!

*

وهل أخطأنا حقاً إذْ أقمنا

لميلاد الحبيب صدىً وعَزفا؟!

*

رسول الله عفوك إن أساؤوا

وإن خلطوا الأمور ببعض رَجْفا

*

(هُم الطلقاء) قبل الآن ثم

(هم الطلقاء) بعد الآن عطفا

*

لأن مقامك الأسمى سلامٌ

يَعُمُّ الأرض أجمعها مُصفَّى!

***

محمد ثابت السميعي

داخل السيارة السوداء الفخمة؛ يُجْري "توفيق" مُكالَمة سريعة، ثمّ لا يلبث أن يأمُرَ السّائق بتغيير الوِجْهة..

في إحدى غُرف المستشفى الخاصّ؛ يرفع الغطاء الأبيض عنْ وجْهِ زوْجته.. يتأمّلُها، العينان مُغْمضتان.. يُخيَّلُ إليْه أنّها تبتسم.. ! يطولُ تأمّلُه، يتقاطر عرقُه وقد اختلط بدمعه، يستشعِرُ وخزا في صدره، ينحني؛ يُقبّلُ جبينها البارد قبلة الوداع الأخير.. يُعيد الغطاء الأبيض كما كان.. يُغادر الغرفة بعد أن تحوّلتْ أنْوارُها إلى هجْمةٍ مِنْ سواد؛ يُبَطِّنُ عيْنيْهِ ويُعَثِّرُ خطواته.. فقدَ توازُنَهُ قرْبَ المصعد، جرى مُرافقه مُحاولاً إسناده.. غير أنّهُ عاد فتماسك، وطلب منه تجهيز مراسيم الجنازة وإجراءات الدّفن.

الفراق صعْب.. ! كلمتان كافيتان.. تنْخُران الأعْماق، تحْفِرَان خنْدَقاً في الوجدان، يتهاوى الجِسر.. يتشبّثُ الحزين بخيْطٍ من خيوط العنكبوت والصرخة المكتومة يُردّدُ صداها عمْقُ الخندق: ما أوْجعَ الفراق.. !

واقفٌ أمام قبْرها بعد ثلاثة أيامٍ مِنْ دفْنها، ينظر إلى التّراب.. يغرق في ذكرياته.. ينحني، يأخذ حفنة من التراب، يُقرِّبُها مِنْ أنْفِه، يشمُّها ويقول شيئاً لا يفهمه إلا هو.. ! يصحو فجأة على صوت درويش وهو يُردّد: " مِنَ التّراب.. إلى التُّراب.. !"

كمْ هو كبيرٌ هذا التُّراب.. ! يشْعُرُ بقشْعَريرَة برْدٍ مُفاجئة؛ تخْترِقُ جسدَه منَ الرّأس إلى القدَميْن.. يدَعُ التّراب ينْسابُ من بيْن فُرُوج أصابعِه، يتحامل على نفسه؛ يُغادر المكان والدرويش ماضٍ في مُغازلة التراب..

حين يُصَفِّقُ الرّبيع..

بقايا عطور.. حقائب يدٍ صغيرة.. دبابيس الشعر.. نظارات شمسية وأخرى للقراءة.. قلادة من العاج الصافي.. ساعة فضية جميلة.. أقراطٌ بأشكالٍ هندسية دقيقة.. دفتر ذكرياتٍ داخل علبة نُحاسية لامعة.. كتاب بدأتْهُ ولمْ تُكْمِلْه.. كلُّها أشياؤُها.. أشياء تمنح المكان روحاً تُحلِّقُ في الزوايا.. الأشياءُ؛ تَبْكيها.. الأحلام؛ تَبْكيها.. هو؛ يَبْكيها كلما أبْحَر في أزمنة قديمة؛ ألْغَتْها أزمنة جديدة.. عجيبٌ هذا الكون.. ! أيّهُما؛ إليْهِ الملاذ.. ؟ السّماءُ أمِ الأرض.. ؟! الصّمتُ فلسفة الجواب..

عاش مع "بهيجة" أجمل السنوات.. التقيا في أحد المستشفيات حين كان يخضع للعلاج الطويل بعد تعرّضه لِحادِثِ مُرورٍ خطير؛ نجا منه بأعجوبة.. تولدُ علاقة كلها أرْيَحِية بين المريض ومُمَرِّضتِه؛ يُتوِّجُها بعْد خُرُوجه من المُستشفى؛ بطلب الزّواج مِن "بهيجة"، يتقدّم إلى أهلها.. تتفتّح الورود في مزهرية الزّمن الجميل.. تصفو المَرايا وقد تلألأتِ الوُجوهُ بطعْم الحياة الجديدة.. يُسافران في موسِمِهِما الأوّل؛ ودفق المحبّة يملأ جِرار الكون من حواليْهما، يُؤلّفانِ موسيقى الاحلام ويُخلّدان سِحْر اللحظة؛ على أوراق الشجر، على تموّجات النّهر، يتراقص العُشْبُ تحت وَقْع أقْدامِهِما وهُما يسيران إلى ما لا نِهاية..  "بهيجة" من أسرة متوسطة الحال، تربّتْ وسط ثلاثة إخوةٍ ذُكور؛ يكبُرونها بسنوات.. كانوا يزاولون ِمهَناً حُرّة؛ تُدِرُّ عليهمْ أرْباحاً مُعْتبَرة. أما هيَ فعشقت مهْنة التّمْريض واعتبرتها أنْبَلَ المِهن، فشقَّتْ درْبها بحماسٍ وكفاءةٍ؛ جعَلاها ذائِعة الصّيت في المصالح الطبية التي عملتْ بها.

لحْنُ الحدوات..

"سعيد"، "عبد السلام"، "عبد الحقّ"، شكّلوا ذلك الثلاثي المرح.. فوْرةُ الشباب، تصاعُدُ الحماس، جذوة الطموح، تُسَرْبِلُ حياة البيْت بحيوية دافقة.. وتسيرُ خُيولُ الزّمن بحدوات تعزف على الأرض لحْنَها المُنْتظِم.. يُقْبِلون على الحياة أوْ تُقْبِلُ الحياة عليْهم.. لا يهُمّ.. النتيجة؛ إحساسٌ بِالسّلام.. يتزوجون واحدا بعد الآخر؛ يُغادِرون البيْت الكبير؛ وقد فضّل كل واحد منهم الطّراز الذي يناسبه في حياته الجديدة؛ مع الوَافِدَة الجديدة..

يدخل "سعيد" عالمَ أصْهارِه.. بمُرور الوقت؛ يكْتشفُ المخبوءَ بالصّدفة. فقد سمع ذات مرّة ودون قصد؛ مُكالَمَة هاتفية بين الأخ الأكبر لزوجته "سُكيْنة" مع أحَدِهِمْ.. فهِمَ أنّ الصّهر "فيْصل"؛ يتساءلُ من خلال المكالمَة - وبإصْرارٍ كبير- عن سبب تأخر البضاعة. ترْتفعُ النّبْرة وتحْتدُّ وتتحول المكالمَة إلى تحذير أخير؛ يتلوه رَمْيُ الهاتف على الأريكة الرمادية. يتراجع "سعيد" إلى الوراء؛ مُحاوِلا المُغادَرة.. يرنّ الهاتف مرة أخرى، يتسمّر "سعيد" في مكانه.. المُكالمة هذه المَرّة؛ كلها ألغاز وأرْقام.. يتوارى "سعيد" بهدوء مُفضّلاً عدم التّصنّت.. فهو جاء في زيارة خاطفة لجلْبِ أغراضٍ خاصّة بزوْجته "سُكيْنة"؛ كانت قدْ نَسِيَتْها هناك؛ في بيْت العائلة منْذ أسْبوع.

"سعيد"؛ جالس في البهْو الكبير؛ يحْتسِي الشاي بقلقٍ؛ بعْد أنْ ألحّتْ عليْه سيّدة البيت "ابتسام" وهي تُسلّمُهُ الأغراض. ينْتظر انْتهاءَ "فيْصل" من المكالمة؛ ليُسلّم عليه قبل أنْ يُغادر. لحظاتٌ؛ ويُقْبِلُ "فيْصل" مُرَحِّباً مُهَلِّلاً مُعْتذراً.. يتصافحان، وعند الباب؛ يدعوه لحضور مأدبة عشاء عائلي في آخر الأسبوع القادم؛ راجيا منه الموافقة.

كان العشاء.. وكان معه بِداية النّغص.. ! انقلب لحْنُ الحدوات في حياة "سعيد" إلى مخاض عسير؛ ارتجّتْ له حنايا تلك النفس الهادئة.. تقاذفتْهُ الظنون في مستودعٍ تحت الأرض لتسويق المخدرات داخل ألعابٍ طفولية.. ! تساءل بمرارة: " هل لدى "سُكينة" زوجتي؛ دراية بمُسْتنْقعاتِ أخيها "فيصل".. !" ها هو يعرض عليْهِ بعد تمهيد طويل؛ وبكل وقاحة؛ الانضمامَ إلى فريقه.. ها هو يعِدُه برئاسة الفريق عمّا قريب.. وكأنه واثقٌ من أنّ "سعيد" سيُوافقُ لا محالة.. !!

قصة زواجه من "سُكيْنة"؛ تعود إلى تجوّلها بين المحلات التجارية الخاصة ببَيْعِ حقائب اليد النسائية؛ دخلت إلى محلّه الذي كان من أفخم المحلات، وعندما لمستْ جودة المعروضات؛ أصبحتْ زبونة دائمة للمحلّ، بلْ وأكثر من ذلك؛ جلبتْ صديقاتها ومعارفها للاقتناء من هذا المكان.. مع مرور الأيام؛ بدأ "سعيد" يُفكّر في الزواج منها بعد أن سأل عنها وارتاح لِما سمِع منْ طيب أخلاقها ونقاءِ سُمْعتِها.. بسبب الإنجاب؛ توقّفتْ عن ممارسة وظيفتها في إحدى مؤسّسات الاتصال وكرّستْ وقتها لِابْنيْها التوأم ولزوْجِها.. نعِمتِ الأسرة الصغيرة بسعادة حقيقية تحت سقفٍ من التّفاهم والاستقرار..

يُغادِرُ "سعيد" المستودع وقد شوّش العَرْضُ عقله وقلبه.. اهتزّتْ ثقته في كل أفراد عائلة زوجته.. يسير من شارع إلى شارع، يُبحْلِق في المارّة وكأنّه يرَاهُمْ لأوّل مرّة.. وكأنّه يبْحث عنْ شيء لا يفقهه.. يُخيّلُ إليْه أنّ الأقنِعة تزداد سُمْكاً.. يتحامل على نفسه بعد أن أجهدتْه الشوارع، يدخل أحد المقاهي العتيقة، يجلس في زاوية بعيدا عن ضوضاء المُرْتادين، يتأمّلُ الوجوه.. يُتابع الحركات.. يلتقط الأصوات المتصاعدة بين كؤوس الشاي وفناجين القهوة، المقهى عالَمٌ آخر.. مع كل رشفة حكاية.. ومع كل حكاية؛ تمرّ اللحظات المسروقة من أزْمِنَة الأعمار.. الوقت يذوب في جلسات مُتكرِّرة تستبيح الحديث عنْ كلِّ شيء.. تمْسح وقائع كلّ المواسم في تعليقات ساخنة أحياناً؛ وساخرة في أغلب الأحايين.. يُخمّنُ "سعيد".. لوْ يتصلُ بأخيه "عبد السلام" ويُطْلِعُه على حقيقة هذا الصّهر الذي خدع الجميع ببراءة المظهر وكثرة أفعال الخير في عديد المناسبات.. يزور الأيتام، يزور المسنّين، يوزّعُ بعضا من أضاحي العيد على ثلّة من المعوزين؛ عملا بوصية والده المرحوم الحاج "علّال" الذي كان قد رسّخ هذا الفِعْل في الأسرة؛ منذ زمن طويل حين استجاب الله دُعاءَهُ؛ فرزقه بالذكور بعد سبْع بنات من الزوجة الأولى المتوفّاة.. تُقام الأفراح في بيْت الحاج "علال" وهو يسمع زغاريد النّسوة وتِرْدادِهنّ: " صبِيّ.. ! صبِيّ.. !"

في المساء يلتقي الأخوان.. يتحدّثان.. يتشاوران.. يتعجّبُ "عبدالسلام" منْ خُبْثِ هذا الصّهر.. يسأل أخاهُ في حيرة: " كيْفَ وَثِق فيكَ هكذا؛ فجْأة؟! ولِمَ أطلَعَك على جرِيمتِه؟!" يزداد استياء "سعيد".. يصرخ في وجه أخيه "عبد السلام": " وكيف لي أن أعرف.. ؟!" صمْتٌ طويل.. ظنونٌ قاتلة.. تأفّف مُتلاحِق.. يتبادلان نظراتٍ فارغة من أيّ معنى.. يطلب "عبد السلام" من أخيه "سعيد" أن يتجنّبَ لقاء "فيصل" على الأقلّ؛ هذا الأسبوع ريْثما يُسْعِفُهُما التّفكير؛ فيَهْتَدِيانِ إلى حَلّ.. يصِلانِ نهايةَ الشارع الطويل، يُودّعُ "عبد السلام" أخاهُ بعد أنْ أطْلَعَه على ضرورة سفره إلى إحدى المدن الكبرى من أجل جلب الموادّ التي يستعملها في مهنته؛ فالورْشةُ تكادُ تخْلو من أنْوَاعِ أصْبِغة النّسِيج ولا بدَّ من الإسراع من أجلِ تلبية طلبات السّوق..

في المدينة الكبيرة؛ يقصد "عبد السلام" محلات أصبغة النّسيج، يقتني المطلوب، يُنْهي إجراءات عملية الشّحْن التي ستنْطلقُ في الغد نحْوَ ورْشتِه.. يُفضّلُ أن يقضي بقية اليوم في المدينة؛ بعد أنِ اتّصل بأحد أصدقائه القُدامى.

 يلتقيان في المقهى الكبير الكائن بالشارع الرئيسي.. أحاديث عن الصّبا.. حكايات عن أيام الدراسة، قصص أحلام الشباب، أسماء غيّبَها الموت، أسماء طوّح بها الزمان في أماكن غير معروفة، وأسماء أخرى؛ لا تزالُ حاضرة بِصِيتِها إمّا في ميادين العِلم؛ وإمّا في نشاطات الحياة المختلفة.. يقودُهُما الحديث إلى تذكُّرِ صديق الطفولة "مُعاذ".. يتساءل "عبد السلام" بلهفة؛ "هلْ مِنْ أخبارٍ عنه؟ " يهزُّ "مصطفى" رأسه وهو يرتشف ما تبقّى في الفنجان..

لِلحِكاية.. سانحة..

يستمع "عبد السلام" إلى جليسه "مصطفى" وهو يروي باعتزاز؛ بعْضاً مما يعرفه عن "معاذ".. إنه رئيس ضُبّاطِ الأمن في هذه المدينة.. الوحيد من مجموع كل الأصدقاء؛ الذي أنْهى دراسته الجامعية بامتياز، ثم تحول إلى مدرسة الأمن؛ فكان التكوين المتين وكانت التربُّصات المكثفة؛ تبِعَها تقلّدُ المناصِب المُهمّة في السِّلك؛ وقد أبلى البلاء الحسن في مكافحة مُجْرِمِي المدينة ورَفْعِ الظلمِ عنْ مُسْتضْعَفيها.. فقهَرَ العِصابات وهَدَمَ أوْكارَها ولاحَقَ المُنْحَرِفين ولم يغفل عن أصْحاب السّوَابق المشْهورين في المدينة؛ كان يُدقّقُ في مِلفّاتهمْ ويبْعثُ سرّاً مَنْ يتفقّدُ أماكِنهمْ ويُراقبُ تحرّكاتِهمْ بمساعدة فريقه الخاصّ المُكوّن مِن أعْتى الرّجال. شعُرَتِ المدينة بالأمان، أصبح "مُعاذ" رأس حرْبَة في حناجِرِ المُعْتَدين..

فكّرَ "عبد السلام" أنْ يطرح قضية صِهْر أخيه في هذه الجلسة؛ على صديقه "مصطفى"؛ خمّن: بإمكان هذا الصديق أن يكون الخيْط الذي سيوصله إلى "مُعاذ".. قبل أن يستقرّ على رأي؛ انتفض الرجلان على صوت ارتطام قوي خارج المقهى.. سارعا إلى الخروج مع بقية المرتادين.. جثة فتاة ملقاة على الأرض. لم يهرب السائق، خرج من السيارة وظلّ يُبَحْلق في المرمية على الأرض؛ وهو يكرّر كلاما؛ فَهِمَ منْه المتجمْهرون أنّ الواقعة تتعلق بمسألة "شرَف".. اشتدّ فزعُهُمْ عندما أخْرجَ الرَّجُل سكّيناً من جيْب سترته وهمَّ بطعْن نفسه. جرى "مصطفى" نحوه؛ بِنِية نزْع السّكّين من بيْن يديْه، تبِعَه "عبد السّلام" مُحاوِلا المُساعدة؛ بحركة طائشة؛ غرزَ الرّجُلُ سِكّينَهُ في بَطنِ "عبْد السلام".. هلعٌ كبير.. سيارات الشرطة، أصواتُ الإسْعاف تشقُّ المكان، "عبد السلام" ينزف داخل سيارة الإسعاف وبجانبه "مصطفى" في حالٍ من الهستيريا.. الرّجل المتهوّر يُغافِلُ الجَمِيع ويذبَحُ نفسه من الوريد إلى الوريد..

 ثلاثة أيام بعد العملية الجراحية الحرِجَة؛ يستيْقِظ "عبْد السّلام".. تُهرْوِل الممرّضة لإبلاغ الأطبّاء.. يسمحون لزوجته برُؤيته.. بعد وقتٍ قصير؛ تخرج المرأة والدّهشة تكسو وَجْهَها.. تتجه نحو "مصطفى" وتخبره عن رغبة زوجها في التّحدُّث إليْه. يدخلُ عليه، يُمْسِك بيده وهو يُردّد: "الحمد لله، الحمد لله، على سلامتك صديقي".. يتعجّب "مصطفى" من شدة إلحاح "عبد السلام" على ضرورة اللقاء بـ: "معاذ" في أقرب وقت. يعِدُهُ بتلبية طلبه وهو في قرارة نفسه؛ يسْتصْعبُ حُصولَ اللقاء في آنِهِ. غير أنَّ الحدَث كان قدْ هزّ المدينة بكاملها، وليس من طبيعة "مُعاذ" غلق القضايا قبل المُرَاجَعات المُتعدّدة والتّحْقيقات المُكثّفة والخرجات الميْدانية. فرصة حظّ؛ تعفي "مصطفى" من محاولة الاتّصال بـ: "مُعاذ".. فقد كان على وشك المغادرة؛ عندما لمحه بين اثنيْن من رجاله في الرواق الطويل؛ يسير نحو غرفة "عبد السلام".. جرى نحوه وهو لا يُصدّق..

استمع "مُعاذ" للحكاية بعْدَ أن طلب مِنْ مُرَافِقيْه الانْتظار في الرّوَاق، وطلب من "عبد السلام" التّكتُّم عمّا يعْرِف؛ ضماناً لِسِرّية المِلفّ، ووَعدهُ باتّخاذ الإجْراءات اللازِمة بعْد التنْسيق مع أمْنِ المِنطقة البعيدة بعْض الشَّيء عن المدينة الكبيرة حيْثُ عملُهُ الرّسْمي.

دفَقُ الرّوح على جناح الحُروف..

تجتمع العائلة في بيت "عبد السلام" للتهنئة؛ بعد شهر وبضعة أيام؛ قضاها الرجل في المستشفى. يُداعب "عبد الحقّ" أخاه وهو يُشير إليْه بكتابٍ في شكل مُجَلّدٍ بصُفرَة الذّهب؛ ثمّ يضعه بجانب السّرير وهو يُردّد: " أهديك هذا الكتاب وأنا على ثقة من أنّك لن تقرأه.. ! ! " يضحك الجميع، تتناسل التعليقات، يعتدل "عبد السلام" في جلسته، يبتسم، يمد يده إلى الكتاب وبنبْرة كلها عناد؛ يُردّد: " سترى.. سأقرأ وسأدوّنُ لكَ مُلخّصاً عمّا قرَأت.. "

كلّهُمْ يعْلمون تعلّقَ "عبد الحق" بعالم الكتب منذ صغره.. وربّما لهذا السبب آثر تجارة الكتب؛ ففتح مكتبة كبيرة؛ حوتْ مُنوّعاتٍ من عدة معارِف وفنون، ثمّ جَهّزَ رُكناً منها لبيْع بعض المُسْتلزمات المدْرسية. لمَّا أنهى تعليمه الجامعي؛ انتظر كثيرا ليحصل على وظيفة، غير أنّ الانتظار لم يُسْعِفْهُ بشيء.. طلبَ مساعدة صهره؛ زوج "بهيجة" فاقترح عليْه عالم التجارة وقدّم له قَرْضاً مُغْرِيا سيرُدّهُ مع ُمرورِ الايام؛ شاكِرا مُمْتنّا. عشق "عبد الحقّ" كتب الأدب وراح ينهل من عيون الشعر والنثر ما يروي شغفه.. أحبّ المعلّقات وحرص على قراءة الشروحات، وعندما انتهى منها جميعاً، عكف على قراءة ما جاء بعدها؛ فإذا به يغرق في بساتين البلاغة العربية عبر العصور؛ يقطف منها ثِمارَ الذوْق الرّفيع ومباهج الألمعية الخالدة. أمسيات جميلة؛ تلك التي كان يقضيها في المكتبة؛ مع صديقه "نوري" وهُما يقرَآنِ ويتناقشان وقد يصطدمان في الحُكم على المقْرُوء فترْتفعُ أصواتُهما ولا ينتبهان إلى حالهما إلا على وقْعِ خطوات "ميمون" وصوتهِ وهو يُعلّق: " عجيب أمركما.. تتعاندان من أجل كلمات.. أصحابُها استراحوا في قبورهِم وأنتما في مُلاحقة الأموات.. !" يضع الشاي ثم ينصرف ولسان حاله يقول: " الجنون.. فنون.. !" يضحك الصديقان بملْءِ فِيهِمَا، يحتسيان الشاي، يتمازحان، يمدُّ "عبد الحق" يده إلى كتابٍ قريب، ينْظرُ إليْه والكلماتُ تتسابقُ مِنْ بيْن شفتيْه: " آه.. مَنْ قال إنّنا نقرَأ للأمْوات فقط؟" يبْتسِمُ "نورِي" وهو يأخذ الكتابَ مِنْ صديقه؛ يُعلّق: "عزيزُنا "ميمون" لا يُدْرِك أنّ الكلمات هي التي لا تموت.. !" يتصفّحُ الكتاب؛ وبالمصادفة يقرَأ شِعْراً بطلاقة متناهية؛ تعكسُ انسجامه التام مع ما يقرأ:

فطوفانُ نُوحٍ عند نوْحي كأدْمُعي  * وإيقادُ نارِ الخليلِ كلوْعَتي

فلولا زفْرَتي أغْرقتْني مدامِعــي  * وَلوْلَا دُمُوعي أحْرقتْني زفْرتي

يبتسم "عبد الحق" وهو يتأمّل وجه صاحبه؛ يُنْشد مِنْ محفوظاته القديمة:

أتتْني تُؤَنِّبُني بالبُكـــــا * فأهْلاً بها وبتأنيبِــــها

تقولُ وفي قولها حِشْمَــةٌ * أ تبْكي بعيْنٍ تراني بها

فقلتُ: إذا اسْتحْسَنَتْ غيْرَكم * أمرْتُ الدُّمُوعَ بِـتأديبِها

يُتابع "نوري" تقليب صفحات سلسلة المنوعات الشعرية والبهجة تغْمُره.. يقرأ مرة أخرى ولكن بنغمة مختلفة:

ولا تشَكَّ إلى خلْقٍ فتُشْمِتَـه * شكوى الجريحِ إلى الغِرْبان والرّخمِ

تتجدّدُ الأمْسيات كلما سمَحتْ ظروف "نوري" برُؤية صديقه "عبْد الحقّ". هذا الأخير؛ يعلم أنّ "نوري" كان من أهمّ رجال الاستخبارات، وأنّه مكلّفٌ بمُلاحَقة بَائِعي المُخدّرات.. السّرّ الذي احتفظ به "عبد الحقّ" منذ سنوات؛ وما يزال.. كِتمانُ السرّ؛ أحدُ معايير الرُّجُولة في عُرْفِ الصّداقَة الحقّة..

سِباق السلاحف تحت ضوء النجوم..

 الشاحنة المطلية بألوان زاهية تُغادر المستودع في الساعات الأولى من الليل.. يتلقّى "معاذ" مكالمة هاتفية موجزة من طرف "سعيد".. طريقان؛ لا ثالث لهما؛ ستسلك الشاحنة أحَدَهما لا محالة، في عَرْضِ ليْلٍ غامض؛ لا يُعْرفُ أوّله من آخره.

كان "سعيد" قدْ قبِلَ الاشتغال مع "فيْصل" تحْت ضغْطِ أخيه "عبد السلام" الذي جمعه بالضابط "مُعاذ" حين رتّب اللقاء في مقبرة البلْدة.. وتمّتِ الموافقة على التّسلُّل إلى الدّاخل.. في ظرْف شهْريْن؛ تعلّم "سعيد" فنّ التّسويق المشبوه للألعاب الطفولية وأصبح الذّراع الأيمن لصهره "فيصل".. اِكتشف عالَماً آخر.. لُغةُ البَشرِ فيه: أمْوالٌ وَ.. أمْوات.. !

إشارة أخيرة ِمنْ "سعيد"؛ تُعْلِن اقتراب الشاحنة ذات الرسوم الجميلة مِنْ مُفْترق الطُّرُق.. اسْتِنْفارٌ أمْني مُكثّف على طولِ الطريقيْنِ. تقترب الشاحنة شيئا فشيئا.. يخرج "مُعاذ" إلى وسط الطريق، بإشارة من يده؛ يأمر السائق بالتوقّف.. يطلب الأوْراق الثبوتِية، يسْأل عن محْمول الشاحنة، يأتي الجواب بكل أرْيَحِية: "صناديقُ ألعابٍ للأطفال".. يتصفّحُ "مُعاذ" الوثائق، يتأمّلُ الباب الخلْفي للِشاحنة، يأمر السائق بفتْحه، ثمّ يُنادي عوْنَيْنِ لإخراج السّلْعة المُكدّسة. يفْتحان الصناديق المُزركشة بشتّى الألوان وتبدأ المُعايَنة.. !

يختار "معاذ" بعض الألعاب: سلاحف بأزرار دقيقة؛ ذهبية اللون. ينظر إلى السائق مُسْتفْسِراً.. يستأذنُ السائق ثمّ يرفع سلحفاة في الهواء ويُشغِّلُ أحد الأزرار.. يضعها على الأرض.. تجري السلحفاة بأقدام ملوّنة.. يضحك الجميع.. يُجرّبُ الأعوان باقي السلاحف؛ ينطلق السّباق لينتهي عند قدَمَيْ "نوري"؛ المتمرْكِز مع فرقته في نهاية الطريق.. وقدْ غطّى وجهه بينما عيناهُ الثاقبتان تُتابعان بقية الاسْتعراض. تُفْتح صناديق "الأرانب"، يتمُّ تشغيل الأزرار.. تُضيءُ أعيُنُ الأرانب، وتبدأ في القفز دون مغادرة أماكنِها وكأنّها تُقدّمُ رقصات خاصّة. يسألُ "معاذ" ساخراً: "هل كل الصناديق بنفس السلعة؟" يجيبُ السائق ببراءة واضحة: "هناكَ دِبَبَة أيْضا؛ غيْر أنّها قليلة.. !"

تُسْتخْرَجُ الدّببة.. يتمّ تشغيلُ الأزرار البنفسجية، تدور الدّببة حول نفسها وهي تدكّ الأرض بأقدامها القطنية ثمّ تستخدم أطرافها الأمامية فتنْبعِثُ تصْفيقات متناغمة وكأنّ الدّببة في حفلٍ صاخب مع الأرانب.. ! ينتهي الحفل بتفكيك الألعاب في إحدى غُرَفِ الأمْن.. يُغْمى على السائق وهو يرى تساقط حُبيْبات مُغلّفة فوق الطاولة المستطيلة..

في الوقت الذي كان "معاذ" ينتظر قدوم الشاحنة؛ أَمرَ فريقاً بمُراقبة بيْت "فيْصل" تحسُّباً لهُروبه. بكتْ "ابتسام" وهي تنْظر إلى الأصْفاد.. بِيدٍ مرتجفة وبنَفَسٍ مُتقطّع؛ أمسكت هاتفها.. حكتْ: " زوجي.. "فيصل".. أخوكِ.. يا "سُكيْنة".. و انْقطعَتِ المُكالمة.

أمُوتُ.. لتتوبَ أنْت.. !

توَسّطتِ الطائرة عرْض السّماء.. مِنْ مقْعَدهِ في الدّرجة الأولى، وعبْر النافذة الصّغيرة؛ يُتابِعُ "توفيق" تشكُّلاتِ سحابةٍ غاضبة.. يُخيّلُ إليْه أنها تُلاحقه.. أنها تتوَعّدُه.. ! يراها تتسع.. تنكمش.. تعلو.. تنزل.. يَسيحُ اللوْنُ الرّمادي مِن حوْلِها.. تغْطِسُ فيهِ؛ لتظهر بعد قليل على شكل كُرةٍ ضخْمة، قرْمُزِية اللوْن، تتأهّب للسقوط فوق رأسه.. يستشعر وخزا في صدره.. يفتح محفظته الصغيرة؛ يُخْرجُ دوَاءهُ، يبْتلعُه. وهو يُعيدُ الدّواءَ إلى المحفظة؛ تلمس يَدُهُ مُذكِّراتِ زوْجته المرْحومة "بهيجة".. كان قد تعوّد على أخذها معه دون أنْ يُفكّر في الاطّلاع عليْها.. اعتبرَها شيئاً مِنْ رَائحة المرْحومة، يَصْعُبُ التّفْريط فيها.

حتّى يتناسَى مَنْظرَ السّحابَة المُخيفة؛ ينْشغِلُ بِقراءة بعْض السّطور.. يُقلّبُ الصّفحات دونَ ترْكيز وعندما تقع عيناهُ على الصّفحة ما قبْلَ الأخيرة؛ يتجمّد الدّمُ في عُروقه، يُصْعق وهو يَقْرأ:  " أوْرَاقُ إدَانتِك.. كلّها تحْتَ سرِيرِ راحتك.. "

في يوم ما؛ وهي تتفقّدُ أدْراج مكتبه؛ عثرت "بهيجة" على أوراق كثيرة مُبَعْثَرة داخل الدُّرْج الأخير، نوَتْ ترْتيبَها وتنظيمها داخل حافظاتٍ بلاستيكية وجدتْها مع أغراض أخرى. وبدأتْ في عملية الفرْز بقراءة التّواريخ.. جرّها ذلك إلى قراءة ما بعد التّواريخ.. تسارَعَتْ دقّاتُ قلبها، جفَّ ريقُها وهي تكتشف: الأوراق كلُّها تُثْبتُ انْتماء زوْجها "توفيق" إلى "مافيا" عالمية لإنْتاج المُخَدّرات.. ! ساعَتَها فقط؛ عاشتْ عُمْقَ الخيْبة بكلِّ تَمَثُّلاتِها.. مَرَّرَتْ أنامِلها المُرْتعشة على بطنِها وكأنّها تسْتسْمِحُ جنينَها الأوّل..

 قبل أن تنتحر؛ كانت قدْ جمعتْ كل الحافظات البلاستيكية وثبّتَتْها تحْت السّرير العريض الفاخر.. ولسان حالها يقول: " أحْميكَ.. حتّى.. وأنا ميّتة.. "  

***

 شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر

موال حزين يشق الفضاء، نبراته تتلون بين الصلابة والبطء، وبين تلاوين الحدة والرخو، يشق صدرها شجنا من نار، ومن عيونها عبرات حارقات.. ثم اليها يعود الصدى، وقد هامت نفسها مع رجع رسالة الموال بين طيات ماض توهمته انفتاحا ووعيا كم فيه قد تخبطت بضنى، ومسارب آتيات لا تدري كيف تفتح لها عقدا..

قدرها أن تظل في رقعة أرض محكومة بالسير اليومي خلف حمار، يئن تحت حزمات الحطب والشوك كما تئن من حظ لها قد تنكر بصد وعناد:

ـ أرَّ، زِدْ، كلانا حذر، يصطبر، ومعا نصعد هذا الممر الجبلي الضيق، لنا قد تغرق قدم في تربة هشة قد لا ترحمنا من حتف..

عيون خلفها تتابعها، تسارقها النظر وفي قدها تتملى باختلاس..

عن العيون منشغلة بصوتها الشجي، وعن حسيس خطوات لها تقتفي اثر ا، هائمة مع ذكرياتها ودموع تخنقها والمدى الذي يتسع أمامها بشر.. فوقها سماء لا تصفو لها جهة حتى يصيب غيرها الكدر، وحولها جبال هشة كم أزهقت من روح وبين ثراها قد انطمرت من نفس.. أما تحتها فأرض كم مادت وفيها كم غاصت من قدم كما تغوص الكآبة في صدر أليم ثم تنسل بلاحذاء تتابع المسير مغبرة مجروحة بدم حذرة من ألا تصل الى النهاية..

عمل يومي تعودته داسين مذ توقفت عن الدراسة في حجرة لفرعية مدرسية بعيدة عن الدوار قلما كان يحضر معلمها المنسي من قبل إدارة المدرسة..

فرض أبو داسين على بنته الرحيل الى المدينة لتشتغل خادمة وقد أغراه أحد السماسرة بمبلغ مالي حرك شهيته..

كم بكت أمها وخاصمت أباها، أحتجت وعارضت..

ـ بنتي ذكية ومنظورة جمالها يثير رجال الدوار فأحرى رجال المدينة المتفسخين

ـ بنتك قد تحقق لنا ما يرفعنا عن تراب الأرض.

كان عمر داسين لا يتعدى الثانية عشرة وجه مليح، وشعر طويل مرفوع الى أعلى في ظفيرتين طويلتين، قد متناسق، على ساقين ممتلئتين مفتولتين، بها لم يطل زمن بالمدينة، ففي أقل من سنتين تعود الى مسقط راسها بعد أن عبث أبن مشغلتها بشرفها وأقسمت أن تقتله لولا مبادرة أمه باعادتها من حيث أتت..

تعود داسين الى المنطقة المنسية لا يشغلها غير حالها وماصارته والعار الذي تلبسته، خرجت من الجبل صبية طاهرة وعادت أنثى مدنسة وقد فقدت أغلى ما تعتز به بنت، وكان المستفيد الوحيد هو أبوها الذي حاز الثمن وانكتم على ما أصابها كما ينكتم من فقره وخوفه ومذلته بين الناس أكثر من صوت على رنة اغراء الدرهم..

كم حلمت داسين أن تتعلم وتنزل الى المدينة لتحصل على شهادة عليا ثم ترسم مخططا مدروسا لتصير سيدة أعمال، وكم داعب خيالها من شاب وسيم قد يعشقها ذواق غني يهفو للجمال البدوي بلاخلفيات استغلالية..

تقترب الخطوات من داسين واليها تنتبه، وبنصف التفاتة تعرف أن الذي وراءها شاب ما أن تبينت ملامحه حتى انخرست وقد ركبها فزع قوي..

مدت يدها داخل" الشواري" وأخرجت منجلا صغيرا تحش به النبات وضعته بين عيدان الحطب..

من أتى به الى هنا؟ ومن دله على طريقها ؟..

سمسار الخادمات اللعين ليس غيره.. هو من يستغل جمالا موهوبا لبنات الدوار، في منطقة جبلية منسية قلما تحظى بزائر، ليس بها طريق ولاماء ولا كهرباء، يعيش أهلها على ما يجود به السياح وما اقلهم !!.. او ما يبعثه الأبناء الذين غادروا الدوار كحرفيين، أو خدما في متاجر، أو بنات شغالات في البيوت، لان الطريق رملية هشة لا يحسن السير فيها الا من تعود عليها، وما عدا ذلك فالموت ما يهدد حاملا عند الوضع، ومريضا قد لفه برد، لم يفد فيه زعتر ولا زيت..

لا أحد غير هؤلاء يذكر القرية غير المنتخبين الذين يأتـون كل خمس سنوات يلقون خطابات الزيف والكذب يوزعون الفتات من أجل شراء الأصوات ثم تبلعهم الحياة الى أن يعاودوا الظهور في سيارات فخمة وألبسة عصرية بعد ان غادروا القرية حفاة عراة لا تسترهم غير خرق تركها السياح خلفهم..

حقد يقمط صدر داسين وعينان تقذفان كراهية في اعماقها تغلي..

داسين !!.. نداء يأتي من خلفها..

صوت تستبطنه في همس وجهر، عاشت معه تقلبات الرفض والعناد والكر والفر وهي خادمة عند أبويه، كم تحرش بها، كم حاصرها بين السلالم، وكم اندس في سريرها في ظلمة الليالي...

قاومت، صاحت واستنجدت بأمه لكن كانها كانت تنقش في ماء الى أن هجم عليها ذات ليلة وفي نومها قد غرقت، وضع لصاقا على فمها كبل يديها بحزام سرواله ثم نال منها ما أراد..

لم تخجل ولم تستحي وانما قصدت غرفة نوم ابويه بدمها بين فخديها، اطلقت صيحة مزقت بها السكون بفزع، قالت وقد استضاءت الغرفة بالنور:

ـ اقسم بالله أني لن اتركه يفلت الى أن اقتله ودمي هذا لن يذهب سدى..

خوفا على ابنهما، جمعت أم المجرم أغراض داسين وحملها الاب مرغمة في سيارته الى بيت أبويها ومعه صديق محامي.. بعد مفاوضات وإغراءات مادية فكر الاب ان يحوز ثمن شرف ابنته نقدا هو أحسن بكثير من شكاوي ومحاكم، كما أن بنته ليست هي الأولى ولن تكون الأخيرة التي نزلت الى المدينة كخادمة بكر وعادت بلابكارة أو أما عازبة بل منهن من فضلن الدعارة أو تورطن في جرائم قتل أرحامهن خوفا من الفضيحة فكان السجن لهن في انتظار..

مرة أخرى يصل داسين صوت مقتفيها، يتوقف الحمار والى مصدر الصوت تلتفت، يدها خلفها تمسك بالمنجل:

ـ نعم.. ماذا تريد ؟

بسمة خبث تتربع على وجهه:

ـ جئت أطلب سماحتك وعفوك !!..

ـ وكيف وصلت الى هنا ؟ ألم تخش رجال القبيلة ؟

يضحك في شماتة وثقة في النفس زائدة:

ـ رجال القبيلة تعودوا أخذ الثمن والصمت على المكاره، أقوام فقراء لا الدولة تعرفهم ولاهم يُّعرِّفون بأنفسهم، من أجل هذا جئت اليك متحملا هشاشة الطريق ووعورة المسالك وفقدان الأنيس..

تطيل داسين فيه النظر، أية مؤامرة يحيك ؟

ـ ماذا تريد ؟ تكلم:

ـ أنت جميلة، جسم متناسق وقد مياس، حبا فيك ورحمة بك، وحتى لا يضيع جمالك في هذا الخلاء البئيس، ويفنى عمرك بين الغربان.. مارأيك العودة الى المدينة والعمل في مكان مشهور، أعدك بسكن خاص بك، وأجرة أكثر من ثمن الشرف الذي أخذه أبوك ؟..

يغلى الدم في أوردة داسين، صدرها يصير كمنفاخ صاعد، نازل، أنفاسها تكاد تختنق، حيوان بلا كرامة أتى ليساومها على ما تبقى من شرفها، يريد أن يعتاش على جمالها، عاهرة منه قريبة، يجني على حساب عفتها غناه وثروته..

تشجعه على الاقتراب منها ببسمة زائفة ومن غروره يمد لها يده للسلام، تمسك يده ثم تدعُّه بقوة، تسحت قدماه فيسقط، وما أن يحاول النهوض وقبل أن تضربه داسين بالمنجل الذي في يدها تسيخ به كومة من طوب فيتدحرج عبر الجبل الى السفح، تعيد داسين المنجل الى مكانه وقد كفاها الله استعماله ثم تتابع الطريق الى كوخها الجبلي وقد أطلقت الصوت بموال جديد يشق الفضاء، هو مزيج من غصات حزن دفين ونغمات الخلاص، صداه يختلط بعجاج متطاير من جسد يتدحرج الى أن بلغ السفح..

لا أحد أتاه خبر أو أبلغ عن الحادثة، نزلت داسين أكثر من مرة الى السفح من نفس المسلك الذي تعودته، تحطب وتحش، تسقي ماء ثم تعود وهي تردد أنغامها.. ولا اثر..

بعد أسبوع أبلغ أحد السواح عن جثة رجل قد نهشتها الكلاب وفاحت روائحها تغطيها صخور السفح المتفتتة والهاوية من القمة..

تحرك رجال الدرك في المنطقة ونقلت الجثة الى مشرحة مستشفى المدينة لكنهم لم يصلوا الى دليل بان الرجل قد مات مقتولا..

كان تقرير البحث يقول:

حاول السير على جانب الجبل، ساخت قدمه على حافة هشة فهوى ونال حتفه، وأثر انزلاق حذائه على الأرض دليل، ولو دفعه أحد لما تمزقت ثيابه ووصل الى السفح وهو عار تماما، فقطع ثوبه قد ضلت عالقة على ارتفاع الجبل، جروح صدره كانت عميقة ومعناه انه كان يحاول التشبث بنتوءات الجبل فلم يستطع كما أن إليتيه كانتا مسحوقتين من جراء كدمات النتوءات التي اصطدم بها وهو يسحت على صدره..

لكن والداه لم يغب عنهما أنه ربما قصد داسين لانه كان مفتونا بجسدها فلقي حتفه قبل أن يصل اليها بدليل شهادتها انها لم تره مذ كانت خادمة عند والديه وانها لم تترك البيت الا بعد تحرشه بها متجنبة أن تعلن حقيقة ما وقع..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

حينَما الحِكْمةُ باتَتْ

في فِراشي ذاتَ لَيلَةْ

اَهرَقَتْ خُصلةَ ضَوءٍ

من يَواقيتِ الكَلامِ

فوقَ قلبي ولِساني

فَتَغَطّيتُ بِشَمسٍ

ظِلُّها أَحْلى الكَلامِ

*

2

حينما حاورني ديوان شعري

لعثمتني الكلمات

اذ تزاحمن ليستأنسن رأيِّ

فَتَرَوَّيتُ قَليلًا

غَيْرَ إني قبلَ اَن أَفتَحَ فاهي بالكَلامِ

قد تَعَرَّتْ جُملَةٌ فيهِ وقالت:

هيت لك

فَلْتَصِفْني

بِبَليغِ الكَلِماتِ

*

3

حينما خَضَّلنا الحُبُّ بِأسرارِ الكلام

صَيْرَتنا المُفرَداتُ عاشِقين

انتِ والحبُّ تأنٍّ في الكَلامِ

وانا

بَوصَلةِ الروحِ الشقيّة

لِكَلامٍ بَعثَرَتهُ

ضَحكَةُ الضَّمِ التقيَّةْ

*

4

حينما أضرَمَني يَومُ رحيلِكْ

احْتَضَنتُ زَهرَةَ الذكرى بِقلبي

قبلَ ان يَنزُفَ من جَرَّتِها

النبضُ

وريحان الكلام

*

5

حينما أدلَجَ لَيلٌ

وضَحَتْ رُؤيايَ فيكِ

كنتِ قِنديلَ النبوءاتِ البَريئَةْ

وانا..

فتنةً صِرتُ وزَهرًا للكلام

*

6

حينما يُسبِقَني الظِّلُ

أداري حَسَراتي

بين ظِلّي والكَلام

هُوَ لِلضَوءِ كَلامٌ

وانا لِلضَوءِ مِفتاحُ الكَلامِ

هو من رَشْقَةِ ضَوءٍ

وأنا كُلُّ الكلام

*

7

حينما اُنْهي الكلامْ

أتَأَمَّلْ

كُلَّ ما قُلتُ وما قيلَ وما لَمْ يُقَلِ

عَلَّني أخرِجُ من أروِقَةِ القَولِ

بِأَلماسِ الكلام

*

8

حينما دارَ الكَلامُ

حولَ أحداقِ الزمانِ

جَرَّدَتْني النائِباتُ من متاريس الأمانِ

وَنَمَتْ في نبضة الروح خَلايا

فَيْضُها غِيلانُ حَرْب الكُلِّ في كُلِّ مَكانٍ

هل طَغى السِّحْرُ على هذا الزمانِ!

ام تسربلنا عماء؟

لِنَكُنْ في اللّازَمانِ

***

طارق الحلفي

كتب لي ان أكون ممن يستيقظون هذا اليوم على سطح الكوكب... فماذا أفعل بعد هذا الإستيقاظ المهيب؟

قل لي من أين ابدأ نهاري الذي بسط ذراعه لي ثانياً؟

وكيف أغزل خيوط الشمس التي وصلت إلى مخدعي المظلم؟

إنني أتعجب من نفسي كيف تمضغ تلك الساعات الصباحية التي تمتد حتى آخر السطر دون أن تعرف كيف تجعلها تحت وطأت حرف ممتلئ بالأحلام؟!

هذا الصباح أتمسك بقلمي أعيد به رسم الأشياء المعتمة والمترهلة....

هذا الصباح أترقب تفتح زهرة دوار الشمس في التلة المجاورة لنافذتي....

لن أخدش الصبح بالأبجدية الباكية التي تذيب الفرح في داخلي وتجعل الحلم هزيلاً مصاب بسوء البهجة...

سوف أسير على طول محطة الحياة بخفي الكلمات المترفة....

سوف أعزف الدقائق التي تتفتح على ناصية الشروق بأغنية تعيد ترتيب الأمنيات المقلوبة ككراسي المقاهي عند البدايات المدهشة..

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان...

هذا ما جاء في رسالة وضعت في مظروف داكن السواد تحت باب احد المفجوعين بولده في صباح يوم لم تشرق فيه الشمس بعد.

يوم تشريني. الشفق الأحمر يغطي الأفق البعيد ودخان كثيف يلف المكان. حسب الإحصاء الرسمي وهو دائما ما يجانب الحقيقة ويخفي قدر المستطاع وقائع الأحداث ونتائجها، ولكن اليوم اضطرت السلطة في نشرة الأخبار المسائية، الإعلان وعلى لسان ناطقها الرسمي، عن عدد الشهداء الذين سماهم بثلاثة قتلى، وأكمل جملته الصماء اللئيمة بكلمة لا غير.

ولكن ما أعلن رسميا عنه، ما كان ليطابق إحصاء من وقف وشاهد الواقعة عند ذلك المساء الكالح. فجميع من حضر الواقعة تبادل الروايات مع البعض ودون في ذاكرته، خمسة شهداء دون نقصان. جميعهم كانوا يتحلقون حول عربة التك تك ذات اللون الأصفر البراق، وتدلت عند مقدمتها قطعة قماش بيضاء صغيرة كانت موضوعة تحت مصباح الإنارة، كتب عليها بخط مرتبك، أريد وطن.

***

كانوا يتراقصون جذلا ونشوة على أنغام موسيقى أغنية كاظم الساهر " وين أخذك وين أنهزم بيك.. بضلوعي لو بعيوني أخليك " فجأة باغتهم سيل رصاص وقنابل دخان. سقطوا جثثاً هامدة جوار عربة التك تك، كان ذلك في ساعة نحس عند نقطة قريبة من مفترق نفق ساحة التحرير الذاهب نحو شارع الجمهورية .

بقع الدم التي خلفتها أجسادهم الغضة إثر عربدة سيل رصاص ما سمي بالطرف الثالث، راحت تسيح فوق الأرض الإسمنتية . ما كان بمقدور احد أن يحدد اتجاهات انسيابها، ولكن الدم كان فواراً قانيا أحاط بعربة التك تك من جميع أطرافها، ثم أنحدر ليتجمع أمامها، فاختلط مع بعضه ليكون بقعة دم كبيرة قانية.

بين هؤلاء الشهداء من جاء العاصمة من قرية قريبة من بلدة الرفاعي في الجنوب، وهناك من أتى تاركاً وراءه محلة الطويسة في البصرة، وثمة آخر يسمي نفسه بالمعيدي كان قادما من مدينة الشعلة،وحده أبن الأعظمية كان الأنيق بين هؤلاء رغم اتساخ ملابسه خلال عشرة أيام مضت دون رغبة تساوره في الذهاب إلى أهله والاغتسال بحمام دافئ. بينهم من هو دون دالة أو هوية، ولكنه كان أكثرهم مرحا وإفراطاً بالهزل، وكان وفي كل مرة يروي شيئا عن قسوة ما كان يلقاه على يد صاحب العمل، ينهي حديثه بضحكة طويلة شبيه بكركرة طفل. أما ذاك الصغير المقصب الشعر صاحب البشرة الداكنة، الضاج بذكر مغامراته العاطفية، وما كان ليتوقف عن سردها حتى وإن تلقى تشويش واستهزاء رفيقه المسمى المعيدي. بينهم من يرفض اليقين بتاريخ ولادته المدونة في الهوية التي يحملها. صاحب الكنزة البنية يقول إن حياته تخلو من أي أهمية يود ذكرها لرفاقه، فقط الشيء المهم الذي ممكن أن يبعث في روحه الفرح هو منظر عربة التك تك التي يمرر عليها صباحا برقة متناهية قطعة القماش المبللة وهو يصفر لها بأغنيه كان يعشقها.

صباح الخير يا لوله.

لوله، اسمها الذي أطلقه عليها حين أبتاعها له خاله صاحب بسطة الملابس المستعملة. لم يكن يدري السبب الذي دفعه لإطلاق أسم لوله على عربة التك تك، ولكن الأغنية كانت تستهويه لذا علقت بذهنه ذلك الصباح البلوري المبهج، وحان لها أن تكون أسما لعربته، فاخذ يغني لها مزهوا.

يعز من يبات قانع من الرحمن يتطلب

يذل من يبات طامع يبات الليل يتقلب

على الجنبين يالوله ولا يرتاح يا لوله

صباح الخير يالوله صباح الخير.

ثم يروح بموجة من التصفيق والقفز راقصا حولها كالهنود الحمر، يشاطره فرحه بحمية وصخب بعض أصحابه.

***

حين أنبلج ضوء الصباح كان شاحبًا رجراجًا مغبرا، وثمة أصوات أنين وبكاء خافت تتسرب من جوف نفق التحرير. في البعيد تختلط نداءات تحذير وتحوط ترافق أصوات رشق رصاص وانفلاق قنابل الغاز. ثمة ضحكات صاخبة وضجيج مزاح يأتي من الطابق الثاني للمطعم التركي.

عند ذاك الفجر الندي، جلست خمس نسوه مصفوفات متراصات بسوادهن حول بقعة الدم، يحطنها مثل السِوار، نائحات مفجوعات، يغطينها بعباءاتهن الكالحة، كان دمعهن مدرارا يخالط بقعة الدم الخاثر الذي يلتصق بثيابهن فيأخذنه ويهيلنه فوق رؤوسهن. هكذا كان الحدث وسوف يتكرر.

لكم الصبر والسلوان ولأرواحهم السلام والذكر الخالد.

***

فرات المحسن

لا احد تعرفين هنا، حصلت على عنوان من ارتبطت به في ساعة ضعف، حدثك عن الحب والاخلاص وكيف يهوى الانسان بنتا من بنات حواء ويفضلها على النساء كلهن ولا يرى امرأة اخرى، مهما قابل من النساء، استقبلوك في هذا البلد فقد عرفت انهم قوم كرام يحتفون بضيوفهم، ما زالت كلماته تقرع شعورك:

- قتلتني هذه المراة!

تبحثين عن اسرته هنا هو مريض جدا بعد عشرة ثلاثين عاما وبالرغم من كل تضحياتك يهاجمك امام بني قومه، نساء ورجال يسهر معهم ويدافعون عنه ضدك انت التي حرمت نفسك من كل المباهج التي تتمتع بها المتزوجات، قرات عن كل هذه المتع واخبرتك صديقاتك المقربات انهن كثيرا ما عشن هذه المباهج ولكن لم تتوقفي يوما لتسألي نفسك:

- ولماذا انا محرومة من كل هذا النعيم؟

لم يخطر ببالك يوما انك سوف تزهقين من عشرته التي ارهقتك كثيرا وسلبت منك شبابك وجمالك، وصلت هنا لتجدي احدا من اسرته، فان الكلمات التي كانت لا ثير نقمتك اصبحت الان تسبب لك الما ممضا، لا احد هنا يمكن ان يساعدك، اخته التي كانت تستقبله وترحب بمجيئه اخبروك انها انتقلت الى الرفيق الاعلى، ولم يفكر يوما ان يصحبك معه لتسافرا الى بلده كما يفعل الرجال عادة، جاء الى بلدك ورحب به اهلك وعرفته على افراد اسرتك، اباك وامك واخاك الكبير واختك التي تكبرك بعامين، وكان يبيت في منزلك، ابوك وافرد اسرتك كلهم يعاملونه بحب وينظرون اليه كأحد ابنائهم، ورغم الكلمات المعسولة التي اسمعك اياها في بداية معرفتك به الا انه توقف عنها حينما استقر في منزل ابيك متمتعا بحقوق الابناء ولا يسأله احد عن الواجبات، وصلت هنا لتجدي من يساعدك، فمن ارتبطت به مريض انت تطعمينه وتلبسينه من عرقك وهو مريض ويعتبر كل الناس ان هذا واجبك، فأين حقوقك التي لا تعرفين عنها شيئا، وهو الان مريض، ولا تستطيعين ان تجدي الطبيب المداوي وقد صرفت على علاجه كل ما تملكين، وكلماته تقتلك:

- ماذا قدمت لي؟

طلبت منه مرارا ان يذهب كل منكما الى حال سبيله، وكل مرة يجابهك:

- لن اطلقك وليس لك حقوق عندي !

اصدقاؤه الذين قدموا الى بلادك واستقبلتوهم بترحاب كثيرا ما وقفوا ضدك في مناقشاتكما الكثيرة التي يحرص دائما ان تجري امام اصدقائه وصديقاته الذين يتجمعون في منزل ابيك كل ليلة حميس رجالا ونساء يضحكون ويمرحون ويغادرون دون ان يشكروك .وحين تستيقظين صباحا للذهاب الى دوامك تفاجئين بمائدة الطعام وقد ملئت بكؤوس المدام، شربوها في منزل ابيك وانت نائمة .

اصبحت حالته صعبة جدا لا تقدرين عليها وتريدين شخصا يقف بجانبك فقد تعبت دون جدوى، الاصدقاء الذين كانوا يزورنه تضاءل عددهم بمرور الايام، اخر صديق جاءه قبل اسبوع وفوجيء:

- من انت؟

ترتسم علامات الحيرة على محيا الصديق ويغادر دون ان يقول شيئا وانت قد تضاعف تعبك، يخاطبك وقد تناسى انه في بيت ابيك:

- من انت ايتها المرأة؟ وماذا تفعلين هنا؟

***

صبيحة شبر

3اب 2023

في نصوص اليوم