نصوص أدبية

نصوص أدبية

عـــادَ الـمـغـولُ إلـيـك يـا بـغدادُ

بـكـتِ الـعـيونُ وذابــتِ الأكـبادُ

*

يــومٌ عـلى كـلِّ الـكرامِ مـزلزلٌ

فـرحَ الـحثالةُ وانـتشى الأوغادُ

*

والـعـلقميُّ تـوسَّـعتْ أشـداقُه

كُـشِـفَ الـلثامُ لـتظهرَ الأحـقادُ

*

صُـفْرُ الـوجوهِ قـديمةٌ أحقادُهم

فـالحقدُ قـد أوصـى به الأجدادُ

*

و الغدرُ شيمتُهم وليس بعارضٍ

هــذا هــو الـتـاريخُ حـيثُ يـعادُ

*

لـكـنّ هــارونَ الـرشـيد مـكـابرٌ

مـافادَ فـي بـعضِ الأمـورِ عـنادُ

*

هل يُرتجى عندَ اللئامِ سماحةٌ

فـالـجمرُ جـمـرٌ لــو عـلاه رمـادُ

*

إنْ غـرَّكم جـلدُ الأفـاعي ناعماً

فـالـسّـمُ فـــي أنـيـابِـها وقّــادُ

*

لا ضـيرَ أنْ تـرقى الـثعالبُ مرّةً

والـلـيثُ تُـثْـقلُ كـفَّـهُ الأصـفـادُ

*

ولـربّـما  فــرحَ الـحمارُ بـسرجِه

مـاخافَ مـن سرجِ الحمارِ جيادُ

*

هـو لـعنةٌ كـانت على أصحابِها

يــومُ الـوغـى تـتـقابلُ الأضـدادُ

*

والـفـوزُ فـيـها لـلـذينَ حـيـاتُهم

لـن تـنتهي إذ تنتهي الأجسادُ

*

قـومٌ تـسامى للشّهادةِ جلُّهم

إنَّ الـشـهـادةَ مـنـهـجٌ وجـهـادُ

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

كانت هناك سعادة غامرة  انطبعت بشكل مذهل على ملامح الخفافيش والبوم؛ سعادة قد لاتقدر بأيّ وصف.

إذ حالما تلاشت  الشمس بكسوف كلّيّ توقعه الفلكيون منذ زمن حتى عدّلت الخفافيش من وضعها المقلوب الذي اعتادت عليه في النهار وحلقت بشكل مفاجيء في المدن التي شملها الكسوف أما طيور البوم فقد توسعت عيونها وهي تستوعب الظلام وتنطلق في جميع الاتجاهات  ...

فئران

وحشرات تزحف أو تطير

جنادب وصراصر تغرّد في الحدائق العامة وبين ثقوب الجدران

أصبحت الخفافيش والبوم تملأ أجواء المدن المصابة بداء الكسوف.

في حين أوت عامة الحيوانات من طيور وقطط الى أعشاشها وجحورها كي تتمتع باسترخاء لذيذ من دون ان يهمهما أن تعرف لماذا قدم الليل مبكرا قبل موعده بساعات طويلة.

توقفت السيارات على جوانب الطرقات.

وبدأ الركّاب وروّاد المقاهي والحانات يتمتعون بالسماء الغارقة بالخفافيش والبوم.

أغلق الموظفون نوافذ مكاتبهم خوفا من ان تتسلل النسور والخفافيش الى داخل غرفهم. كانوا يراقبون المشهد المثير من أماكنهم المحصّنة البعيدة وهم مبهورون بالحرب الدائرة  بين الخفافيش والحشرات والبوم والقوارض التي اندفعت من جحورها.

كلٌّ يبتلع

وكلٌّ يفترس

قالت أم لابنتها الصبيّة التي وقفت عند النافذة تراقب  باهتمام:

لا تنظري من دون النظارة القاتمة باتجاه الشمس وإن تلاشت تماما كي لا تصابي بالعمى.

ردت الصبيّة بذهن شارد:

لا تهمني الشمس لقد حل ظلام دامس لكن ما أجمل المشهد.. في السماء آلاف الخفافيش مثل أسراب السنونو تحلق أظنها تنقض على ذباب وبعوض  يطير.

أووه مهما يكن استمتعي ولا تنظري لمكان الشمس من دون نظّارة.

وفي إحدى الدوائر قالت موظفة في الثلاثين من عمرها وقفت تتطلع إلى الرصيف من نافذة المكتب:

كم هو مثير للاشمئزاز أن تنقض بوم على فئر مسكين

همس الشاب الثلاثيني في أذنها:

هناك مشاهد أجمل

وامتدت يده تمسح على ساعدها.

ارتسمت  الدهشة على الوجوه من دون أن يعوا أنّ هذا المشهد يحدث كلّ  ليلة حالما تغيب الشمس لكنّهم لم يعوه لأنهم في ذلك الوقت يكونون قد غطّوا بنوم عميق  لا يمارسون فيه إلا بعض الأحلام.

***

قصة لمحة

قصي الشيخ عسكر

في مغامرات طفولتي المزهرة، كنت أزرع في قلبي بذور التذمر، مراقبًا كيف تتفجر الشرارات لتقزم لعبي وتمسخ أفكاري، كمن يرسم بالفحم على جدران ذاكرتي. كنت كبرعم غير متفتح بعد، يتساءل في جدية كوميدية: "هل أنا من كوكب آخر؟"، غير قادر على تحديد موطني في هذا الكون المترامي الأطراف. أذكر كيف كانت ضحكاتي تنطلق، لا من الفرح، بل من روح تستهزئ بكل شيء، من الأفق اللا متناهي إلى السماوات الشاسعة، متمردًا على النسيم، محتجًا على الدموع الغادرة التي تسرق الفرح من عيني. كانت أفكاري المشتتة - من الأحكام إلى القيم والمبادئ - تبدو كقيود تثقل كاهلي، تخنق براعم الحرية لدي وتكبل أجنحة الإبداع. كثيرًا ما كنت أتساءل، في لحظات فكاهية ذاتية، لماذا أنا، من بين كل الناس، أرى ما لا يرون وأشعر بما لا يحسون؟ هل لأنني مخلوق فضائي، أم لأن هذا الأنف الكبير الذي كان مصدر تسلية أخي قد منحني هذه القدرة الخارقة؟ وبفضل تفكيري العميق، أهداني القدر صلعًا مبكرًا، تاركًا لي خصلات قليلة يتيمة، تحاول بشجاعة أن تضيء ظلمة الليل كنجوم قليلة وخجولة. في أحضان أسلو، تلك المدينة اللطيفة التي لم تكن قط في قائمة أمنياتي السياحية، وجدت نفسي ضائعًا في كوميديا الأخطاء، حيث الثلوج تتنافس على منح أفضل عرض للجمهور والليالي طويلة كمسلسلات الدراما التركية. بدأت هنا مغامرة لم أسجل لها في دورات التدريب، فصل جديد يضع "المغامر" بدلاً من "النبي المزيف" على بطاقة تعريفي. أهلًا بك في النرويج، حيث الأحلام تتخذ شكل فطائر الوافل والحياة ملونة ككرات الديسكو. في أيامي الأولى، كان كل شيء يبدو كأنني انقلبت من كوكب آخر، من السكان الشقر إلى الطبيعة التي يمكن أن تكون بطاقة بريدية. وأنا أتجول في أسلو، تلك المدينة العريقة بمبانيها التي قد تعتبر معالم تاريخية أو مجرد مراكز تسوق قديمة، كنت أحاول استيعاب هذا الكوكب الجديد. من الأضواء التي تزين المدينة كأنها تحتفل بعيد ميلادها كل ليلة، إلى الناس الذين يحملون قصصًا قد تصلح لمسلسل أو فيلم وثائقي عن "سكان الشمال. وأنا، ذلك الغريب الذي يبدو كشخصية من كتاب طبخ عالمي، تعلمت لغتهم، وغصت في ثلوجهم، وحاولت أن أفهم إذا ما كانوا يضعون الكريمة على كل شيء كما يفعلون مع القهوة. وفي أعماقي، كان هناك هذا النقاش الداخلي الطريف: هل أنا هنا للبقاء أم مجرد زائر يتساءل عن مكان البيتزا الجيد؟ في الليل، بينما أتأمل الأضواء الشمالية التي تبدو كحفلة ليزر فاخرة، كنت أجد نفسي محاطًا بالغربة، تلك الغربة التي تجعلك تتساءل: هل كل هؤلاء الناس يشعرون بالبرودة مثلي أم أن لديهم جينات مضادة للثلج؟ في نهاية المطاف، بينما كنت أقارن بين النرويج وبلادي، بدا لي أن الحياة هنا تمزج بين الحفلات والاحتفالات بالنهار القصير والليالي الطويلة التي تعطي فرصة لمشاهدة المزيد من الأفلام. وأدركت أنني، على الرغم من كل شيء، قد وجدت في هذه الأرض مكانًا يمكن أن أسميه منزلاً، حتى لو كان الجيران لا يفهمون مزاحي دائمًا.

في بلد الثلوج والحكايات المسحورة، حيث السماء تعانق الأرض كأنها تشارك في برنامج تلفزيوني للأزواج، وجدت نفسي غارقًا مرة أخرى في محيط الحب، متزوجًا من (بريت)، الجميلة التي تجمع بين الأنوثة وذكاء أينشتاين. تمتلك جاذبية قوية بما يكفي لتجعل الثلوج تتحول إلى ماء من الخجل، وروحها المتوهجة تنافس الشمس نفسها على دفء البهجة. (بريت)، بمهارات التضحية التي قد تجعلها بطلة في مسلسل الأم المثالية، تحمل مزيجًا من القوة والنعومة. تنجز الأعمال بكفاءة تستحق الجوائز داخل وخارج المنزل، محولة يومياتنا إلى ملحمة تفوق أفلام الأكشن بروعتها. أرى فيها انعكاسًا لسحر النرويج الأخاذ، كأنها تمثال نحت بعناية ليجسد الكمال الإنساني. أيامنا كانت مزيجًا من المرح والسعادة، أنا القبطان الشجاع وهي الربان الأمين. إعجاب الناس بها كان يوقظ غيرتي، لكنها، بنبرة تفيض بالحكمة والسكينة، كانت تعيد ترتيب أوراق الثقة. "لماذا الهلع؟" كانت تقول، وكأنها تقرأ أفكاري، "ألست أنت أيضًا نجم الحفلة؟" وبهذه الكلمات، كانت تطفئ نيران الغيرة بماء العقلانية. لم يخطر ببالي أبدًا التفكير في أخرى، فمع (بريت) وجدت كنزي الثمين، حب لا يحتاج إلى تأكيدات أو بدائل. في حضورها، كنت أجد نفسي مكتملًا، مرتويًا بحبها وفهمها. تعلمت بجانبها أن الحب ليس مجرد كلمة، بل رحلة مشتركة نحو الفهم والتقدير المتبادل. كل يوم معها كان يزيدني يقينًا بأني وجدت الشريكة المثالية، التي تشاركني الأفكار والأحلام، فتاة تحمل شغف العمل والمعرفة، تتحدى الروتين بروحها الجذابة. مع (بريت)، تحولت النرويج ليس فقط إلى ملاذ، بل إلى وطن يحتضن قصة حبنا، حيث كل زاوية تروي جزءًا من ملحمتنا الرومانسية، حيث يمكن لقلبي العثور على الدفء في ليل النرويج الطويل وبردها القارس.

الاحترام! هذه الكلمة صداها في الهواء كان أشبه بطبل في حفلة صاخبة، محاولة يائسة مني لأبدو كالمخرج في مسرحية حياتنا الزوجية. أما ضحكتها، يا لها من مزيج متفجر بين السخرية والتحدي، كانت بمثابة الضربة القاضية لكبريائي، الذي كان يتآكل أسرع من السكر في فنجان قهوة. طلاقنا؟ أوه، كان بمثابة شهادة وفاة لكل تلك الأحلام الوردية، إقرار بالهزيمة في مباراة لم أعلم حتى أنني كنت ألعبها. في الديار البعيدة، حيث يفترض أن الرجال كالصقور، كنت أتوقع أن تكون النساء كالحمائم، لكن يبدو أنني نسيت أن الحمائم يمكن أن تكون شرسة أيضًا. وها هنا، في أرض الخيالات والثلوج، حيث كنت أظن أن السماء تلمس الأرض، اكتشفت أن الصقور قد تحتاج إلى تعلم الرقص من الغزلان. في تلك اللحظة المليئة باليأس، كنت أتساءل، هل كنت أبحث عن ملاك في عالم لا يؤمن حتى بوجود الجنيات؟ أدركت أن ما كنت أطارده لم يكن إلا وهما، صورة غير حقيقية للحب والشراكة، شيء لا يمكنه التنفس أو البقاء حيًا في عالمنا هذا.

تأملت في (زهورة)، ابنة عمي، تلك البطلة من نوع خاص تمزج بين قوة البغال ونعومة الغزلان، بإخلاص كلب وطاعة... حسنًا، ربما ليست طاعة الكلاب تمامًا. (زهورة)، ذلك الكائن الذي ترعرع في نفس الأرض الطيبة التي نبتنا فيها، لكن يبدو أنها استحوذت على كل الأسمدة الجيدة! كانت عيناها دائمًا تبرق بشيء مختلف، شيء يشبه الأمل أو ربما مجرد عدم الرغبة في الاستماع لنصائح الكبار. فكرت، هل يمكن أن تكون زهورة هي الجواب لألغاز حياتي المحيرة؟ هل يمكن أن تكون هي الملاذ الآمن الذي كنت أبحث عنه، أو هي مجرد فصل جديد في كتاب مغامراتي المليء بالتوقعات الخاطئة؟ في تلك اللحظات العميقة من التأمل، وسط الأوراق المبعثرة وذكرياتي العشوائية، أدركت أن مسيرتي في مطاردة السراب قد وصلت إلى نهايتها. الآن، كل ما أردته هو قليل من الصدق مع نفسي وبعض اللقاءات الروحية التي كنت أهرب منها. وها هي زهورة، تلك الفصول الجديدة المحتملة، تنظر إليّ بنظرات قد تغرق سفينة بكبريائها وعنادها. في تلك اللحظة، شعرت بالهوة الواسعة التي صنعتها الأيام بيننا، وتساءلت، هل كنت أنا الجسر الذي لم يكتمل أم كانت هي النهر الذي لا يمكن عبوره؟

زهورة، هذه البطلة غير المتوقعة في ملحمتي، وصلت كنسمة عليلة قد تحمل الشفاء، لكن سرعان ما تحولت إلى كتاب معقد بلغات لم أتقنها بعد! شهر العسل اختفى كأنه خدعة سحرية لم تكتمل، تاركًا خلفه قصة درامية مليئة بالمشاهد الحوارية الحادة والمواقف التي تستحق البكاء عليها... أو ربما الضحك، اعتمادًا على المزاج. فجأة، بدأت زهورة تعزف لحن استقلاليتها، تخلت عن دور "الزوجة التقليدية" وقررت أن تصبح بطلة قصتها، تاركة إياي في دور الكومبارس المشوش. كل نقاش بيننا تحول إلى مبارزة فكرية، مناقشة الأخبار، تقلبات الطقس، أو حتى نوعية الهواء كان يمكن أن تنتهي بتبادل النظرات القوية والأفكار المتطايرة. وفي تلك الليلة، بينما كنت أحاول مد جسور التفاهم عبر هوة سوء الفهم اللامتناهية، أدركت أن كل قوانيني ومعتقداتي حول الحياة الزوجية كانت تتهاوى كبيت من الورق. القمع؟ العنف؟ لا، لم يكن ذلك أسلوبي. كنت أسعى للإصلاح بالحوار، ولكن كيف تحاور من يتقن فن التحاور أفضل منك؟ كان السؤال الكبير: هل يمكن للكلمات أن ترمم ما أفسدته الأيام، أم أن الصمت أحيانًا يكون أبلغ من كل حوار؟

أمسكت بيدها، كشخص يحاول إنقاذ ذرة من الملح من الذوبان في بحر، متأملاً في إيجاد شرارة من الود قد تضيء لنا طريقاً في ظلمات خلافاتنا. في ذلك الصمت العميق، كنت أتساءل بيني وبين نفسي: هل يمكن لبذرة الحب أن تنبت مجدداً في هذه التربة المتجمدة بيننا؟ هل يمكن للمسة أن تذيب جبال الجليد التي تكونت بيننا عبر السنين؟ وفي ذلك اللقاء، كنت أدرك أن الزمن والواقع قد غيرا زهورة، لم تعد تلك الفتاة التي تنحني كالأغصان في الريح، بل أصبحت كالشجرة الرواسخ التي تعانق السماء بثقة. لقد كانت تلك الزهورة الجديدة تبحث عن ضوءها الخاص، ترفض أن تكون مجرد ظل لي. كان حبي بنظرها كالماء الملوث الذي يروي لكنه يسمم في الآن ذاته. أيها المفكر العظيم، يا من تتوهم أنك بحر من الحكمة، هل فكرت يوماً ما الذي يجعل اثنين يقرران مشاركة حياتهما معاً؟ هل للتسلط مكان في عالم القلوب، أم أنها ميادين للتفاهم والاحترام المتبادل؟ بلغة العقل والمنطق التي تعشقها، ألم تتساءل لماذا يطلب الإنسان الشراكة والصحبة في هذا الوجود الواسع، إن لم يكن بحثاً عن معنى أعمق يسكن في تبادل الفهم والاحترام، بعيداً عن أي قيود أو سطوة؟ أرغب بالتحليق، لا بأن أظل طيفاً يتبعك حيثما ذهبت. أريد أن أكون زهورة التي لها إرادتها واختيارها، لا مجرد شريكة تنحصر في دور مساند. إن كانت الحرية التي اكتسبتها من هذه الأرض تعني شيئاً، فأنا بالفعل أعتز بها. أشعر بالفخر لأنني بت قادرة على قول 'لا' بصوت مرتفع وواضح. 'لا' لحياة تراني فيها مجرد إلحاق أو ظل. أريد أن أعيش كزهورة ذات كيان مستقل، ليست فقط صدى لوجودك. وفي ذلك الزمان الحاسم، وسط ضجيج الشوارع المليئة بالحياة، والأصوات المتداخلة التي ترسم صورة معقدة، شعر هو، المفكر، بأنه تحول إلى جزيرة معزولة وسط بحر عاتِ. النساء اللواتي يمررن بجانبه، كل واحدة منهن تحمل عالمها الخاص، قصتها الفريدة، تحصيناتها التي لا يمكن للفلسفة وحدها اختراقها. وها هو يراقبهن، كمشاهد ينظر إلى مسرحية في عالم بديل، عالم لم يعد يعتبره موطنه. كل امرأة تمر بجانبه تصبح مرآة تعكس فشله، تذكيرًا بعجزه عن استيعاب الآخر، عن إقامة صلة حقيقية مع الإنسانية التي يشاركونها. وسط الحياة المزدحمة التي لم تعد تحتويه، قرر هذا المفكر أن ينظر إلى الداخل، أن يعيد ترتيب أفكاره، ساعيًا لاستخلاص بعض الحكمة من مرارة ما عاش. زهورة، في خطوة تمرد، تركت العش الزوجي خلفها، وأصبح هو بمفرده، مذهولًا، كأن فمه مفتوح على مصراعيه ليبتلع العالم. والآن، يتجول في شوارع أسلو، يتابع بنظراته كل امرأة تمر، كل واحدة تحمل قصتها، ثقافتها، هويتها. يملأ اليأس عينيه، كأنه يحمل كيسًا متخمًا بالخيبات والمرارات. يتحدث إلى نفسه، يبحث بين الوجوه، يصرخ في صمته وهو يواجه أوهامه المتهاوية. الزواج، بالنسبة له، أصبح كالأرض الخرافية التي لا يمكن بلوغها، قد يكون قرر التحول إلى فيلسوف العزوبية، يستخدم ذكاءه لفك شفرات خيبته، لعله يجد في تأملاته نوعًا من السلوى أو حتى الإلهام لنقد لاذع يرسم به ملامح عالم النساء، ذلك العالم الذي بات له بمثابة لغز مستعصٍ على الفهم.

***

زكية خيرهم

 

الهرير..

لمي سواد الليل حولي

ودعي الضوء يجاري

نسمة الصبح ،

على اطرافها ،

زمي لهاتيك زما..

وتسللي من كل زاوية الهرير

ترينه ، همساً ولثما..

**

وإبقني أرتع بالغيم

مبتلاً بقطرات المطر..

ودعيني أعبر القارات

في ضوء القمر..

واملئيني في كؤوس الحب

خمرا

انتشيً

رشفاً وضما..

**

واهمسي

قولي، هنا مثواك

لا تصرخُ  بعد الآن

من صمت الدهور..

انه هول الصدور

يتمايلن في سهد

على رمل السواحل..

**

وإتركيني

في صحارى الكون أحدو..

ودعيني في بحار الكون أشدو

وجهك الحنطي يدنو

صوب وجهي

**

جمعيني كلمات من ذكرياتي

في دجا الليل سراباً كالبحور..

كفكفي دمعك عن وجهي

ولميني

ولا تبكين في هجري وبعدي..

ولا تشكين في صمتي وسهدي..

طوفيني في رحاب الكون أعمى

واتركيني في مهب الريح أهوى

وجهك الحنطي في عيني

نبيذا وضراما..

**

هو ذا البرق إذا ساد

على الحقل تجلى

في جمال الوجه والهدب

والعينيين

لهيباً وغراما..

**

كل يوم  زاخر

في غفوتي

أمشي ولا أدري طريقي

ودليلي ، ذلك الحقل الذي افزعني

( زيغٌ )،

يملؤ الاكوان

شؤما  وزعيقاً..

**

أهو الشؤوم

أره ، حلماً

وخيالات

ترائت عند صحوي؟

وتلاشت في دروب التيه

لا تلوي على شيء

عدى وجهٌ طفوليٌ نحيف

ينشر البسمة كالعطر الرهيف

في ليالي الحلم ،

والحلم تجلى

في رحاب الغيب ،

والغيب سراباً أو نحيب..

***

(2)

الإنتظار..

قلتُ ، ستأتي

لكنكَ لمْ تأتِ..

وأتى الحزن بديلاً

والمعنى ،

حاصرني الهم طويلا..

هل تذكر

إنك أقسمت

بأن لا تبرح وجهي

وأنا أيقنت ، ستأتي

فتلاشى قيظ الحر

وجاء هرير البرد

وتناثر جمع الثلج

لكنكَ ، لمْ تأتِ ..

حاصرني الصمت كبحر الظلمات

حتى كدت أسمع صخب الصرخات

وحين احدق من نافذتي

لم أر غير الثلج تلالاً

أفتح مزلاج الباب

فتصقع وجهي ريح مثلوجة

في الخارج اشباح

شجيرات الصفصاف

شاخصة

وأظل احدق عليَ

ارمق شبحاً يأتيني

من خلف الغاب الابيض

لكنك، لم تأت..

واجدني متيبسة مثلوجة

أسمع صرخات

لن يأتي

لكني اظن

بأنك تأتي

وأنا أنتظر الآتي

من بين ركام الثلج

على الطرقات،

الغارق في اللامعنى..!!

***

د. جودت العاني

08/04/2024

.............................

(حين يتحول الأمل إلى اللامعنى، حيث أسر الوجود... نص من وحي فلسفة ألبير كامو)

رمْتَ المعالي فالتحفْـتَ ســـــناها

وأنـسْتَ مُرتَــشِـفا  رضابَ لماهـا

*

تـعـدو إليــك، وأنـت تعـلـمُ أنّـــها

لاتبْـتـغي مـَن لا يــَفـي بمُـنـاهـــا

*

غـازلْـتَهـــا فـتجاوبَـتْ فـكأنــــها

لمْـيـاءُ باكـرَها الـهـوى فـشــفاها

*

تـعْدو وتـعلـمُ أنّ جــسمَـك ناحـلٌ

لكنّ نفْــسـك يا (عَديّ) ســـماهـا

*

تعطيك مِن طرف اللسان صبابةً

حتى إذا عشـِقتْ غنمْتَ رُباهـــا

*

تجلو عوارضَها ابتسامـةُ صادقٍ

لامـَن إذا ابتـسمتْ تلوكُ شـفاهـا

*

إن شـئتَ تُبْحرُ بالعيون، فعـينها

تـهِبُ الأمانَ لِمن يـخافُ مَداهـا

*

حـدِّقْ بمقلتها ، فـسبحان الــــذي

مِـن كل شــائنة الغرام بَـراهـــا

*

في (نون والقلم) الإله مُــباركـا

فــي أصلها وأصولها وخًـطاها

*

لاتحْـذرَنَّ غـرامَـهــا ،فـهواهــا

مِن أقدس الحبّ الأصيل هواها

***

(من الكامل)

شعرعدنان عبد النبي البلداوي

 

من أَيْنَ يأتي المطرْ؟

الى بلادِنا اليابسةْ

وكيفَ يسقي الندى

قلوبَنا البائسة

من فرْطِ ضيمِ الحروب

مسدساتِ الطُغاةْ

مخالبِ القُساةْ

وجحيمِ الغزاةْ

والطائفيينَ والطائفياتْ

وأَنينِ المقابرِ الجماعية

وكوابيسِ العشائريينَ والمُعممينَ

والنرجسيينَ والبعثيينَ والداعشيينْ

وذوي القلوبِ السودِ والظلاميينْ

ومشعلي الفتنِ وصانعي المجاعاتِ

والحصاراتِ والاوبئةِ السود؟؟؟

والقادمُ هوَ الاخطرْ

*

من أَينَ يجيءُ الماءُ إلَيْنا؟

بعدَ أَنْ أَعتقلَ {العثمانيونْ)

كلَّ السواقي والعيونْ،

والينابيعُ غيَّبوها

في سدودِهم القاسية

وفي قلوبِهم العطشى

للدمِ والماءِ

والوحلِ الخانق؟

*

من أَيْنَ يأتينا

مطرُ الله؟

بعدَ أن باعَ الجنرالاتُ

والقتلةُ والخونةُ

والرعاع ُوالمرتزقة

واللصوصُ المرتشونْ

باعوا زرعَ وضرعَ الارض

وأَقفلوا ضرعَها الحنونْ

حتى نعيشَ نحنُ

جوعى وعطاشى

ونموتُ فقراً وقهراً وجنون؟

*

* من أَينَ ياالهي

يأتي إِلَيْنا المطرْ؟

مادُمْتَ لستَ راضياً

عن هذهِ البشرْ؟

*

* ياربُّ هَلْ يُرضيكْ

هذا العطش؟

والماءُ نبعُ الرافدين؟

ياربي باللهِ عليكْ

اخبرني ... قُلْ ليْ

أينَ أَمطارُكَ أينْ؟

ماالذي يحدثُ الآن

ماالذي يحصلُ

ويدورُ كلَّ حينْ؟

في أرضِنا الثكلى

وفي حياتْنا الهَشَّة

وفي عالمِنا الحزينْ؟

***

سعد جاسم

أعترف بأنني لم أكن فتاة هادئة مطيعة سهلة المعشر من ذلك النوع الذي يتمناه أي والدين،و أتصور أن تنشئتي وصقل جميع المزايا التي حظيت بها لاحقاً كانت مرهقة لهما لهذا لم أتوقف يوماً عن الإمتنان الكبير لهما وفداؤهما بروحي، كنت حادة المزاج، طويلة اللسان، عنيدة، متفوقة جداً دراسياً وقائدة بالفطرة لدي تأثير كبير ومدمر في حياة البنات للحد الذي كثيراً ما دفع الأمهات إلى إبعاد بناتهن عني لإعتقادهن أني أفسد شخصياتهن بالتمرد على العادات والتقاليد والعصيان للأوامر وعلى الرغم من ذلك العذاب وجدت الكثير من الحب والقبول والصبر من والدي وأفراد أسرتي الصغيرة المحبة الدافئة.

إحدى طباعي السيئة الكثيرة التي إمتلكتها حتى وصلت سن السادسة عشرة هي تأليف قصص وأحداث من الخيال، كنت عندما أتعرف على أصدقاء جدد أو أصادف أي شخص غريب ويسألني عن إسمي أشعر برغبة ملحة في عدم الافصاح عن إسمي الحقيقي أتنقل بين أسماء حركية عديدة مثل "فاطمة خميّس، نوال، روان، رقية، نسيبة، داليا، هناء، هنية، فاتن"

وأتماهى مع العوالم الموازية لكل إسم فتارة أدعي أن والدي صاحب بقالة الحي وأنا الإبنة الوحيدة ناسفة حضور جميع إخوتي وأخواتي من حياتي وعلي ترك المدرسة لمساعدته ماديا، وتارة أجعله ضابط في الشرطة ولدي أربعة إخوة غلاظ شداد يرعبون الجن والإنس معاً، أو أنتظر أن أنهي دراستي الثانوية بأسرع وقت ليرسلني والدي "وكيل ساعات رولكس في المملكة" لدراسة فنون وقواعد الإتيكيت بجنيف.. وهكذا

كنت أكتب ملامح الشخصية التي أقرر أن أتقمصها بحياتها وظروفها ويومياتها وحرصت على عدم إختلاط العالمين ببعضها مطلقاً لاسيما أني وفي مواضع عديدة لم أستطع ممارسة تلك الهواية عند معارف العائلة أو صديقات المدرسة وعندما كانت الظروف لاتسعني بتقمص إحدى أسمائي الحركية كنت أكذب بالتفاصيل الأخرى، وصلت  من الإحتراف والدقة للحد الذي يصعب فيه إكتشاف كذباتي البيضاء، كنت أراها مجرد كذبات بيضاء أستخدمها للمتعة وللإبحار بالخيال وإضفاء بعض المغامرة إلى حياتي الرتيبة المنغلقة وعلى الرغم من ذلك كنت أشعر أن صديقاتي بالمدرسة ينتابهن الشك في أحاديثي والميل إلى عدم تصديق معظم الحكايات لكنهن لم يكشفن عن شكوكهن وفضلن الإستمتاع في السرد القصصي والحكايات الساخنة الخيالية على إكتشاف الحقيقة بل حتى أنني تعرفت على صديقة جديدة تفوقت علي بمراحل بالكذب والغريب أني كنت أعلم أنها تكذب وهي تعلم أني أكذب لكنا كنا نعيش كذباتنا على بعضنا.

في عطلة نهاية الأسبوع كنا نسافر لزيارة أقاربنا في مدينة أخرى تبعد عنا قرابة ال ١٨٠/كلم لأن قضاء العطلة في مدينتي المنعزلة كان أشبه بالعذاب لا يوجد مرافق ترفيهية كثيرة في ذلك الوقت عدا عن الأسواق والمهرجانات الشعبية، ذهبنا إلى منزل خالتي لحضور إحدى العزائم حيث جمعت قرابة الاربعين سيدة ولأن  ذلك الأسبوع صادف فترة الإمتحانات النصفية في المدرسة بالإضافة إلى أن البنات الصغيرات لم يكن مرحب بهن بين الضيوف صعدنا أنا وقريبتي إلى الطابق الثاني للمذاكرة إستعداداً لامتحانات يوم السبت، وأثناء الدراسة شعرت بالملل وتعكر المزاج يعصف بالأجواء توجهت إلى الغرفة المجاورة وسحبت التلفون ورحت أتصل على أرقام عشوائية علنا نجد من نثرثر معه وبعد عدة محاولات مملة فاشلة ردت علينا إمرأة كبيرة في السن سألتها:

- هذا منزل أريح؟

ردت:

-لايوجد لدينا أي بنت بإسم أريج فقط أنا خالتك وداد وعمك عبدالله نأكل مكسرات ونشرب الشاي من أنتِ؟

شعرت أني وجدت ضالتي، عجوز ثرثارة هذا كل ما أبحث عنه لذبح الملل، مباشرة قلت لها: إسمي رقية..

سألتني عن إسم عائلتي فإخترت لقب إحدى العوائل العريقة في المملكة التي تنتمي إليها إحدى صديقات والدتي وخالتي، أبهرها اللقب وراحت تسألني بفضول عن حياتي ويومياتي وعدد الخدم والحشم والغرف التي نمتلك ببيتنا أو قصرنا، ولأجل إضفاء المزيد من التراجيديا قلت لها: لحظة يا خالة صحيح أني أنتمي إلى هذه العائلة لكن وضعي ليس بالجيد كما تعتقدين والدي تزوج والدتي من طبقة فقيرة وكانت ثمرة ذلك الزواج الغير مرغوب إبنة "أنا" لهذا منحت اللقب لكني لم أمنح الميزات كحال شقيقاتي من والدي عشت منبوذة بينهم وأشعر دوماً باللإنتماء كبرت على الحسرة لكني لم أطلب منهم أي شيء لأني عزيزة نفس لهذا قررت أن أجتهد بدراستي وأنجح نجاحاً يخجل أهل والدي حتى من الإقتراب مني"

يبدو أن الخالة وداد إنبهرت بالشخصية بشكل فظيع فتاة في المرحلة الثانوية عاشت كل تلك الظروف الصعبة لديها هدف وصلابة نفسية وأخذت تتفاعل معي وحكيت لها عن مواقف حينما شعرت بالإهانه من قبل زوجة والدي وبناتها وبكيت وحزنت لأجلي وطلبت مني أن أعتبرها صديقتي وأتصل عليها كلما سنحت الفرصة وفي أثناء المحادثة المشحونة بالعاطفة رفعت السماعة إبنة خالتي وقالت: "لمى حبيبتي إغلقي الخط أحتاج إستخدام الهاتف ضروري"..

ولسواد حظي الأعظم ومساويء الصدف لك الليلة أن خالة وداد لديها كاشف وعرفت رقم الهاتف وأعادت الإتصال وهي تزبد وترعد وتشتاط غضباً وتصرخ"ياكذابة تكذبي علي؟ أنا تكذبي علي" وإبنة خالتي تحاول تهدئتها ثم كلمتها خالتي لتفهم الموضوع فأخبرتها مافعلت..

ليصدف أن وداد هذه مالكة لمجموعة مدارس والتي تعمل خالتي في إحداها كمديرة.

صديقة وداد المقربة كانت إحدى المعازيم.

صديقة والدتي التي انتحلت لقب عائلتها كانت موجودة كذلك

ولإنقاذ الموقف صعدت خالتي للطابق الثاني وجرتني من كتفي وانا أرتدي البجامة بشعري الأشعث أمام أربعين سيدة يتفرجن علي أنزل الدرج أبكي كمجرم يساق من حبسه الإنفرادي إلى قاعة المحكمة لأتصل على خالة وداد وأعتذر للجميع على الكذب الذي كذبته.

كنت أردد بيني وبين نفسي: أنا لا أكشف ولا أستحق أن أتعرض لهذا الموقف المهين لكن خير يا وداد سوف أريك النجوم في عز الظهر.

يتبع الجزء الثاني من المصائب

***

لمى ابوالنجا

 

— مِمَّ تشكو اليوم ياعِيدُ؟

أتشكو تَنْفِيسٌ...؟

أم تشكو تَسْيسٌ...؟

أم تشكو إفلاسٌ..وتَنْهِيدُ؟

*

— لاطالَ في ذاكَ المُنَى...

أو خَفْ عن شعبي العَنا...

أوجَدَّ تَجديدُ !

*

مافرحتي

إنْ جِئْتُ مُبْتَسِمَ الهوى

والوضعُ تنكيدُ !

والحالُ مَصْرُوفٌ دَواعيها

إلى حالٍ...هي البيدُ  !

*

لا معنى إنْ عَنَّتْ -قيامتها- عُروبتكمْ

أبداً سَتَخْذُلكمْ بـ(عرقوبٍ)

وتَقْنِعَكُمْ بأنَّ الحل...

إنْ الحل تَصْعِيدُ

وبأنَّ (غزة)

في صيامِ اللهِ مازالتْ

نزيفٌ الرحمةِ الأبرار تغشاها

وتَحْفَلُها الأغاريدُ

حوراء تَلبسُ بهجةً خضراء...

تغزلها التراجِيدُ  !

*

رُوسُوخي..أنني لم أزلْ

باقٍ على (أقصى) الأملْ

ماحَادَ بي عَـرَبٌ...ولا

حَالَتْ مواثيقٌ...وتَهويدُ !

*

أعيادكم  لكُمُ

ياأيها (الصِّيْدُ) المناكِيدُ !

وَليْ أنا عيدُ

حَتْمَاً سآتيكم بِهِ (نَصْراً) سَرَى

والله تأييدُ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

إبريل ٢٠٢٤ م

 

يَستغرقُ الوقتُ

حَنيناً

يُلامسُ شِغاف

قلبي

أحتاجُ عُمراً أخر

يَتسعُ لكُلِ هذا

الحُب

الذي فَاضت به رُوحي

حتى غرقت في

عَذابها

كم يؤلمُني بل يُضنيني

أن أحيا في هذا

الغَرق

***

أريج الزوي

وقعت احداث هذه القصة بعد حرب الايام الستة عام 67. وكانت بدايتها بعد ان انفصل ابو النور الاصغر، عن والده ابي النور الاكبر فاتح الاقفال المشهور في حارة السوق، ليفتتح حانوتا اخر لفتح الاقفال، في فم السوق، تلك كانت منطقة مركزية يمر بالقرب منها كل عابر، وهي بهذا تعتبر باب رزق واسعا، يمكنه استقبال الكثيرين. ومثلما فعل ابو النور الاكبر، حرص الاصغر على الا يُشغّل احدًا في حانوته خشية ان يسرق الصنعة، فيشيع سرها ويقل بالتالي المتعاملون معها، وقد كان بإمكانك ملاحظة هذه السرّية التي عمل ابو النور ضمن حدودها، جاعلا اياها واحدا من اسرار شبابه التي يحرص عليها حرصه على براعة يديه الموروثة ونور عينيه الموهوبة. هكذا تحصن ابو النور الاصغر وراء مفاتيحة واقفاله العصية على الانفتاح، مع معرفته التامة بنقطة ضعفه وهي الجميلات اللواتي يعبرن طوال الوقت تقريبا بالقرب من حانوته. اما اذا كانت احداهن تدخل الى حانوته للبحث عن بديل لمفتاح ضائع او قفل مكسور، فقد كانت تعلق في سين وجيم اضافة الى اسئلة لها علاقة حينا.. وليس لها علاقة احيانا.

وقع في احد ايام ايار الساخنة اللاهبة، حدث لم ينتبه اليه ابو النور جيدا، واخذ يكبر رويدا رويدا، حتى كاد يملا دكانه ويستحوذ على كل اهتمامه. كان ذلك عندما دخلت دكانه امرأه ذات ملامح جذابة، يزيد في جاذبيتها انها كانت سمراء، الا انها لم تكن على قسط كبير من الجمال. اتخذت تلك المرأة مجلسها على المقعد المخصص لزوار الدكان ورواده، وهي تعلن عن تعبها من طول الطريق وضيقها الشمس اللاهبة. قدم لها ابو النور الماء البارد.. وتابع عمله. لقد فهم انها مجرد زائرة تريد ان ترتاح فترة قصيرة من الوقت.. بعدها تنصرف، غير ان جلوس تلك المرأة على مقعدها ذاك طال قليلا، فما كان من ابي النور الا ان توجه اليها قائلا: ان مشهد الشارع المحاذي لدكانه يغري بالجلوس، فردت عليه المرأة السمراء بسرعة من اعد الجواب وحفظ الدرس قائلة، انها قعدة لا تعوض، وانها مرتاحة جدا في جلستها تلك، ولما كان العمل قليلا في تلك الفترة بسبب " الميتون"، والبطالة التي عمت البلاد جراء الحرب. فقد انس ابو النور لتلك المرأة وراح يمارس عمله في اصلاح الاقفال واعداد المفاتيح مستعرضا كل ما ورثه من مهارة عن والده ابي النور الاكبر، وراحت المرأة تسترق النظر اليه موحية له بعدم اهتمامها بما يفعله، الامر الذي شجعه على العمل اكثر واكثر.

بعد قرابة الساعة استأذنت المرأة السمراء في الذهاب، فاخبرها ابو النور انه بإمكانها ان تبقى فترة اطول اذا راقت لها اجواء السوق، قالت المرأة ان هناك مشاغل تنتظرها في بيتها القريب، فرد عليها صاحب الدكان قائلا: ما دمت جارتنا بإمكانك ان تزورينا في اي وقت تشائين.

ابتسمت المرأة ومضت في طريقها خارجة من فم السوق.

في اليوم التالي اقبلت المرة على دكان ابي النور وكان منهمكا في اصلاح قفل استعصى عليه اصلاحه، فملأ وجهه العرق وعلت وجنتيه حمرة طارئة خشية ان يفشل في اصلاحه، ارسلت المرأة نظرة باسمة نحو ابي النور، واردفت قائلة إن جارها سبقها الى المحل وان اصلاح ذلك القفل استعصى فعلا على التصليح. ادرك ابو النور ان المرأة هي من ارسل اليه صاحب القفل فابتسم وتابع عمله وهو يفكر في تلك الرزقة التي هبطت عليه من السماء القريبة.

اتخذت المرأة مجلسها ذاته وراحت ترسل نظرة الى الشارع المحاذي العامر بالمارة، وعشرا الى ابي النور، شعر ابو النور بما تقوم به تلك المرأة فقام بمفاجأتها بنظرة معاكسة، خجلت المرأة واخفضت عينيها، خفرا وحياء. سر ابو النور لتلك النظرة ورأى فيها بادرة خير ارسلها اليه الله ويسّرها رضا الوالدين. تحدث الاثنان، صاحب الدكان وزائرته، عن الاوضاع الصعبة التي خلفتها تلك الحرب المفاجئة القذرة المدمرة، وتوصل الاثنان بيسر وسهولة الى اتفاق قضى بان تجلب له تلك المرأة اصحاب الاقفال المستعصية وان تأخذ عمولتها اولا بأول.

في اليوم الثالث ابتدأ العمل بالتحرك وشهد ازدهارا مفاجئا وغير متوقع، الامر الذي جعل الابتسامة ضيفة دائمة الحضور على وجه ابي النور، ومنح تلك المرأة الشعور الطيب بالانتماء الى ذلك الدكان، فطالت جلساتها ساعة اثر ساعة ويوما اثر يوم، وقد الهت كثرة العمل ابي النور، فكاد ينسى وجودها في الدكان، واقبل على عمله منتشيًا ، مبتسمًا وفرحًا، في حين تابعت سمراء السوق كل حركة ونأمة يقوم بها ابي النور في اصلاح الاقفال، والعثور على المفاتيح الملائمة التي يمكنها ان تفتح مغاليقها فتجعلها سهلة الفتح.

مضت الايام وباتت تلك المرأة واحدا من مشاهد دكان الاقفال المألوفة المعهودة، لدى السوق واهله، وكانت تلك المرأة، اذا ما غابت وقتا ما لهذا السبب او ذاك، شعر صاحب الدكان بغيابها، وانهال عليها حين حضورها بالسؤال تلو السؤال عن سبب غيابها، الامر الذي جعلها تشعر بأهمية وجودها.. وهل يطلب الواحد منا، اكثر من ان يكون له وجود لدى اهله والمحيطين به؟

هكذا شهد عمل دكان أقفال ابي النور ازدهارا فاق كل تصور، وتمكن، بفضل تلك الزائرة من التغلب على ما خلفته الحرب من بطالة وصياعة، بل ان اعمال الدكان اخذت بالتوسع، فراح صاحبه يفكر فيمن يساعده فيه، وهنا وقعت المفاجأة التي سيكون لها ما بعدها. قالت المرأة ولماذا تبحث عن مساعد لك وانا موجودة هنا قريبة منك، واعرف كل صغيرة وكبيرة في هذا المحل العزيز الغالي؟.. فوجئ صاحب الدكان مما قالته فسألها عما اذا كانت تعني ما تقوله، فأكدت له انها تعلمت المهنة وان معرفتها فيها لا تقل، بعد كل ذلك الوقت، عن معرفته هو ذاته.. بها وبأسرارها. ارسل ابو النور نحو المرأة ابتسامة ساخرة، مرفقًا إياها بغمزة من طرف عينه، وتناول قفلا بدا انه وضعه قريبا منه لوقت الحاجة، وأهاب بها قائلا: "فرجينا شطارتك". تناولت المرأة القفل، واعملت يدها به فاتحة اياه بسرعة الرغبة، ومعدلة ما اختلط من اعضائه وقطعه الدقيقة، وقدمته الى صاحب الدكان مفاجئة اياه بما لم يكن يتوقعه في اكبر تخيلاته.

في تلك اللحظة ابتدأت فترة جديدة في حياة دكان ابي النور للاقفال، وبات بإمكانه ان يوسع عمله اكثر واكثر، وكثيرا ما كان، في الفترة التالية، يترك سمراء لاستقبال زبائن الدكان وتصليح ما احضروه من اقفال معطلة، بل انه كثيرا ما كان يرسلها لإصلاح اقفال سيارات تعطلت اقفالها تاركة اصحابها في الخلاء.. خارجها.

مضى عمل الدكان على هذه الحال.. من تطور الى آخر، الى ان التفت صاحبه ان الناس يطلبون ان تصلح لهم سمراء اقفالهم، مؤكدين براعتها في التصليح وسرعتها في العمل، وقد دفع هذا كله صاحب الدكان للتفكير بما نزلت عليه به الدنيا من اوضاع مركبة.. معقدة، فاخذ يفكر اناء الليل واطراف النهار في تلك الجنية التي سرقت منه الصنعة وبرعت في معرفة اسرارها دون ان يدري، وبقي مفكرا ينام مفتوح العينين، الى ان خطرت له في احدى الليالي خاطرة، لخصها في السؤال الحاد التالي: ترى ماذا سيحل به اذا تركته سمراء وافتتحت محلا آخر لفتح الاقفال؟ وسرعان ما جاءته الاجابة.. ما ان بزغ فجر اليوم التالي حتى فتح دكانه مبكرًا مبكرًا .. وضع غلاية القهوة على الببور الساكت.. وجلس هذه المرة ينتظر سمراء.. ليعرض عليها.. الزواج منها

***

قصة: ناجي ظاهر

عذراً فيروز، عذراً للرحابنة، وعذراً لك يازهرة المدائن.

***

لأجلكِ يا مدينة الدماءِ

سأبكي

*

لأجلكِ ياغزيرة المدامعْ

ياموطن المواجعْ

يا قدسُ يامدينة الدماءِ

سأبكي

*

شعوبنا تغطُّ في سُباتِها و النومْ

كأنها حبيسةُ المراقدْ

ولَمْ تعدْ في أرضنا كنيسةْ

أو مسجدًا يُرى به مجاهدْ

*

ياليلة الإسراءْ

ياليلة أتى بها الأعداءْ

فدمرّوا وقتّلوا وهجرّوا

وأمّتي تفلسفُ الفناءْ

لا تكترثْ بما جرى

ترى ولكن لا ترى

وتحسَبُ الهوان في حياتها بقاءْ

*

الطفلُ في مجاعةْ

وأمّهُ مراعةْ

في البؤس غارقانْ

غارقانْ

كلاهما ينامُ في العراءِ

في البرد تحت رحمة الصقيعِ

وهجمة ِالشتاءِ

وفي شهر الصيام كلّ يومٍ يُذبحان

*

الغضبُ حديثٌ بائدْ

ولّى نحوَ النسيانْ

والدَمُ بعروقي جامدْ

فأنا جُثّةُ إنسان

عن كلّ قتالٍ  نائمْ

وبكلّ نضالٍ ناقمْ

وكوجهِ جبانٍ خانعْ

وجهي مسوَدٌّ قاتمْ

***

أحمد راضي

 

هَذا العيدُ .. ليسَ عِيدِي

بَعْد أنْ ذَبُلَتْ ثِمَارٌ وذَوَى سِحْرُ الوُرُودِ

زَلزَلَ الرُكنَ الرّحيلُ والغِيابُ ..

ألقت الأيّامُ في مبْرَاتِها حَبَّةَ القَلْبِ العَمِيدِ ..

هَا أنَّنِي صَافَحتُ العِيدَ بَاكِرًا في صَحْوَتِي

و بَحثتُ في الطبَقِ

عَن قِطعَةِ حَلوَى تَسُرّنِي

فما وَجَدتُ غَيْرَ زَفْرةٍ حَرَّى.. وتَنهِيدٍ..

في مَا مَضَى.. كانَ عِيدِي

حِين كنتُ ارقُمُ ثَوْبَ الأمَانِي لِدُميَتِي..

البَسُ بُرْدَ الحَياةِ تحتَ فُستَانِي الجَديدِ..

كَانَ عِيدِي.. بَيْن أفنَانِي وجِذعِي

فِي رُبَى البَيتِ السّعِيدِ ..

كان ضاجًّا.. بِقهقَهاتِ الصَّبَايَا..

بِتَضَاوِيعِ البُخُورِ مِن كَانِونِ جَدّتِي

وهي تُزفّ الدّعَاءَ والتّهَانِي..

تُدَنْدِنُ وَصلةً مِمّا تُحِبُّهُ مِن أغَانِي :

"ريم الفيّالة يا خاوية العبّون.."

و" يا سعد سعودي يازين الوشمة على زنودي"

كَان عِيدِي.. وأُمّي بِدَلالِها تَستَعِدُّ لَهُ

تُسدِلُ زُهْرَ السّتَائِرِ والمَفَارِشِ..

تَنقُشُ الكَعكَ نُجومًا وقُلوبًا..

تُضمِّخُ بالحِنّاءِ أكُفّنَا

وبألوانِ الطّلَاءِ أطرَافَ الأصابِعِ..

كانت أمّي أنِيقَةَ الغَنَجِ

في فِتنَةِ الثّوْبِ المُطَرَّزِ ..

في عِبْقِ عِطرِهَا المَخصُوصِ حِينَ تَرُشُّهُ

تحتَ قُرطِهَا الذّهَبِيِّ وعلي مَرْمَرِ الجِيدِ ..

كانَ عِيدِي.. وأبي يُنَادِي عَليْنَا فَردًا فَردًا

مِثلَ نِسْرٍ يَتَفَقّدُ أفْرَاخَ عُشَّهِ

يَخْشَى عَلَيهِم هَزّةَ الرِّيحِ الشّدِيدِ ..

كانَتْ خُطَى عَينَيْهِ تَتَعَقّبُ حُسنَنَا نَحْنُ وأمِّي

تَكْشِفُ مَا خَبّأتْهُ مِن حَنَانٍ هَيْبَةُ الرَّجُلِ الشّدِيدِ ..

كَم كان عَذبًا لَحْنُ إسمِي فِي صَوتِ أبِي

كَمْ كانَ يأسِرُنِي الأمَانُ تحتَ جَناحِ بُرنُسِهِ

بَعدَهُ أمحَلَتْ دَوحِي .. جَفَّ فَوقَ الجِذعِ عُودِي ..

هَذا العيدُ .. لَيس عِيدِي ..

مُنذُ حَاصَرَنِي اغتِرَابِي .. فَوْقَ أرضِي ..

بَيْنَ مَن كُنتُ اظنُّهُم أهلي وأحبَابِي ..

إنّمَا عِيدُ الذين سَرَقُوا مِنّي سَلامِي وأمَانِي

أطفَأُوا مِصبَاحَ قلْبِي وقد أنَرْتُ دُنَاهُم

و رَفَعتُهُم فَوْقَ عَرْشِ العُمْرِ ثَمْلَى بِهَوَاهُم

كَافَأونِي بِجُحُودٍ.. اخْرَسُوا فِيَّ نَشِيدِي

لَيسَ عِيدِي .. إنّما عِيدُ الذين

بَدّلُوا رَوْنَقَ المَرْجِ ووَجْهِي

بِتَجَاعِيدِ الشُّحُوبِ ..

خَطَفُوا النُّورَ الذي ألقَاهُ اللهُ في صَدْرِ بِلَادِي

قطعوا رَيَّا الرّبيعِ عَن عَرائشِ نبتِنَا

خَنَقُوا ماءً زُلَالًا كانَ يَسٰرِي فِي الوَرِيدِ ..

هذا العيدُ .. لَيسَ عِيدِي..

ربما يُطِلُّ عِيدِي .. ذَاتَ  هِلَالٍ سَعِيدِ

رُبّمَا يُقْمِرُ الفَرَحَ المُرَجَّى فِي سَمَائِي

يُلبِسُ بَلدِي الجَرِيحَ ثَوْبَ بُرْءٍ وفَخَارٍ

يَغمِس حَلْوَى بِشَهدٍ لِلصِّغَارِ

يُوقِظُ عَزمَ المَحَارِيث عَسَاهَا

تُقَلّبُ وَجْهَ الأدِيمِ مِنْ جَدِيدٍ ..

رُبَّما....

***

كوثر بلعابي (تونس)

 

الذي يسافرُ في كلماته المعنى

الذي يحرثُ الجمالَ

ويجذبُ النور إليه

كان يقدّمُ الماءَ لفمِ العطَشِ نهرا

الذي نقشَ في كلِّ زاويةٍ من زواياها أثرًا

كان إزميله يرتلّ البصيرة

في السكونِ والضجيجِ

في الظُّلماتِ والضياءِ

أحالَ النجومَ كلماتٍ ذات بريق

هو البحرُ والمراكب و الموجُ والإبحارُ

هو السماءُ ذات البناء والمثالية التي تبنيها الأحلام

هو المُطلَق والرحلة إلى عوالمه

وهنا  السؤالُ والإجابةُ والأسرارُ؟

تركَ الضوءَ يُهتدى بهِ

وانصرف بالألغاز

صقلَ بريقَ الحقيقة

وأشار لما وراء الغموض

فمن يرد على ندائِهِ بقلمٍ

يستسقي الغيم في غبش البلاغة

هو صانع الأجنحة التي طالت عمقَ الأرومة

هو الذي تأمل في الغيب، ودعا للتأمل

هو الذي أرخى رباط سفنه

وغاب في أطراف الأفق

لهُ في الأقاصي كالشمسِ مكانا.

أمام عينيه، الزمرد والياقوت ينحني،

يلتمس منه، بريقاً يستحق الأبدية،

صقلٌ هنا، تهذيبٌ هناك، ودوران حذر،

في رقصة دائرية،

يُزهر بها المعدن

هو الحارس لجمالٍ انبثقَ

من رحم الأرض، فجسّدَ النور.

وحينما يسترخي النهار

يتأمل صنع يديه،

الجوهر يسرد له قصص النجوم،

وهو يسرد قصة الإنسان، الذي جعله يحيا.

***

ريما آل كلزلي

 

طُوبى لكُلِّ الأشْجارِ

رُغمَ أنْفِ الحَطَّابِ

طُوبى لمن أعطى ويعطي

من غير أن يطمعَ

في الشُّكرِ أو الثَّناءِ

طُوبى لمن ارتضى

أن يكونَ حَطباً يُدفئُ

النُّفوسَ والأرواح

حتَّى وإن حَزَّت مناشيرُهُم

جذوعَها أبداً لا تموتُ

أبداً لا تَفنى

تُرمى بأحجارٍ فتُلقي لَهُم

بأطايبِ الثِّمارِ

طُوبى لوطني

وطُوبى لأَرضي

رُغمَ جَبروتِ الحَطَّابِ

طُوبَى للسَّنابلِ اليانعاتِ

بخِفةٍ تتمايل غير هَيَّابةٍ

جنونَ الزَّوابعِ والإِعصارِ

طُوبى لِسيفِ جَدي الُمعلَّقِ

فوق الجدارِ

وطُوبى للكُوفيةِ والعِقالِ

طُوبى لعينيِّ أُمِّي المَغرَورقتينِ

بقَداسةِ الدَّمعِ

ولمنديلِها المُضَمَّخِ

بعطرِ الرَّيحانِ

طُوبى لساعدي أبي

المعرَّقتينِ

بملوحةِ الكَدحِ ومرارةِ الأيَّام

طُوبى لبيتي العَتيقِ

شامِخاً كالطَّودِ

مُنتظراً وجوهَ الأَحبابِ

مِثلَ وشمٍ في الرُّوحِ

عصيُّ الاقتلاعِ

يشيخُ ولا يموتُ

مثل خَمرةٍ من كُرومِ

سُفُوحِ الجِّبالِ

مثل غيمةٍ حُبلى بأريجِ المَطرِ

مثل ترانيمٍ قُدسيةٍ

في امتداداتِ المَدى

مثل بوحِ السَّنابلِ

للنسائمِ العابرةِ

ومثل حبَّات الرُّمانِ

الناضجة في حديقتِنا

تنتظرُ مناقيرَ العَصافيرِ

مهما كَبِرتُ وأكبرُ

يبقى في شِغافِ الفؤادِ

ذلك التَّوقُ إلى رجعِ الصَدى

المنبعثِ من بَوَّاباتِ السَّماءِ

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

 

شُعلةُ الصّبِّ تاهت

في لهيب البٍعادٍ

*

قطرةٓ من حنينٍ

ضٓوّعَتً في الوِهادِ

*

والقطوفُ الدّواني

طيبُها في اعتدادِ

*

رانياتٌ لوعدٍ

قد مضى في عنادِ

*

حاملاتٌ بشهدٍ

حُلمها في ازديادِ

*

سائلاتٌ حيارىَ

في انتظار المرادِ

*

أين منًي نديمِي

شِيعتي واعتمادي

*

هلٌ لِعهدي وفاءٌ

يا عزيز الفؤادِ

*

أم تُراه سرابٌ

في غُمار السّهادِ

***

زهرة الحواشي

........................

في بحر الزهراء

فاعل فاعلاتن  فاعلن فاعلاتن

من مجموعة: وميض الماء

 

جيفةٌ:

هي للكلابِ وليمةْ

وللنسورِ

دعوةٌ... وحَميمةْ

*

وللِضَّــــــوَاري

ضَرورةٌ مُلِحَّةٌ تتوجَّبُ

تُبيحُ نَهْش الكافِراتِ

الكاسياتِ

العارضاتِ

مَفاتِناً...وأثيمةْ !

بل واقتحام حُصُونَهنَّ تَقَرُّبَاً

هو أوجبُ

مِن ألفِ ألفِ شَتِيمَةٍ

وشتيمةْ

واهلَهُنَّ ومالَهُنَّ...

سَبيِّةً.. وغنيمةْ !

*

وللعِقَــــالِ

مراسِمٌ... ووَذِيمَةْ*

لـ(ولاةِ عَهدٍ)

بِمَقَاساتِ القديَمةْ

ومَراقِصٌ

لفخامةِ الأمراءِ تسليةً

ومَرْجَلَةً... عديمةْ!

وكَيَانُ آلاتٍ

تُكِنّهُ في عُرُوقِها..إنها

نَقَضَتْ عُرُوبَتِها

بـ(صَفْقَةِ خَيْبَرٍ)

وبغاراتٍ...

وأوزارٍ جَسيمةْ

طُبِعَتْ على التطويعِ...

منذُ نعومةِ النفِطِ المُباركِ ضَخَّهُ

في جيبِ شيطانٍ..وسيِّدَةٍ رَجيمةْ !

*

وللرِّخَـــــــاصِ ــ جميعهمْ ــ

قِممٌ تفوحُ نتانةً.. وهزيمةْ

وخِرْقَةٌ عربيةٌ مبلولةٌ

بدماءِ (غزة هاشمٍ)...

لِمَسْح  آلات الجُنَاةِ

ومَحْو آثار الجريمةْ !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

إبريل ٢٠٢٤م

.................

* وذِيمَة: قلادة توضع في عنق الكلب

 

(لَمَحات)

هذَيان

بسبب بطنهِ الخاوية

تضرع الى الله

يطلبُ الغداء لمَن حَوله

نسيَ أن الموتىٰ

لا يأكلون

**

نقيض

ليسَ للأبرياءِ ملائكةٌ تحرسُهم

كما اعتقَدنا

الذينَ بيدهم السلاح

يقتلون الملائكة

**

فرْض

إعتلىٰ المئذنةَ الشامخة

بين الخراب

ينادي

لا أحدَ يأتي

الأحجارُ لا تُصلّي

**

لقية

صخرةٌ ليّنة

يكسوها غُبار

تكاد تفتحُ للعالمِ فماً

لمّا أزالوا التراب

كان وجهَ طفل

يبحثُ عن هواء

**

همجية

هناك ...

ليس للسماءِ لونٌ واحد

كلُّ لونٍ غريب

يُرسلُ موتاً جديداً

للموتىٰ

**

هباء

حتى الخُبز

يُسقِطونهُ من السماء

الى مَن يصل؟

الجياعُ بلا أرجل

**

نهاية

في شوارع غزّة

ليس لعزرائيلَ وظيفة

يطرقُ الموتُ بلا عنوان

**

يأس

يحملونَ أرواحَهم

في سلالهمِ الفارغة

يبحثون عن طعام

بين جولةِ موتٍ ...  وأخرى

**

موت

تلكَ المدينة

بلونٍ واحد

كأنما اصاب الجميعَ

عمى الألوان

**

جُبن

أولئك المعتمرون نجمةَ داود

تخيفهم في الجهةِ الأخرى

شهقةُ طفل

**

انتظار

عندما اعتلتِ الدباباتُ أشجارَ الزيتون

صار الجمالُ عاقراً

لم يبرحوا

كلّ مافي الأمر

أرجأَ الموتُ رحيلَهم

ليلةً أخرى

**

عراء

لم يعُد للبيوتِ أبواب

أو سطوح

الأجسادُ بين الأنقاض

لا يعرفُها البرد

**

مَكْر

انتصَرتُ للأبرياء

بالحديث

ليسَ أكثر

قالوا.. أنتَ تكرهُ سام

**

صمود

حَمَلتْ رضيعَها المقتول

بين ذراعَيها

استلزمَ الكثيرَ من الحُزن

كي لا تموت

**

نكبة

يفترشونَ أنقاضَ بيوتِهم

يتوَسّدونَ الشَظايا

وحينَ غادروا

مشوا بلا قلوب

***

عادل الحنظل

 

كُلما مَررتُ ناحية

الوهمِ

أضيقُ ذَرعاً

وأتمايلُ علَى حافة

النهاية

أغيبُ عن قلبي

ولا أشعرُ بي

لقد استنزف هذا الوغدُ

مَا يسري في روحي

من حياة

فهل أقبل العيش به؟

أم أُفلتُ يدي منهُ

وأركضُ للنهاية؟

بَلا

سأختارُ الصراع للأبد

والبقاءَ

رُغم أنف المُستحيل

***

أريج الزوي

 

الافكار التي

تجافي الحقيقة

تحترق بنيران

الرغبة العمياء

بالالحاح المفرط

تحترق بدخان

اسود كسواد

مغارة تسكنها

بنات اوى

وثعالب لكن

اجنحة الرؤى

المضيئة اراها

تاتلق في مدارات

الاحلام والرؤى

والامنيات

فلا لا  تعكس

اجنحة الافكار

المجافية للحقيقة

على مرايا قلبك

ورؤاك انما

ارسم على جدار

الحق نرجسة

بنفسجة

واقحوانة

وعصافيرا

تزقزق فوق

عشب ندي

باجنحتها

المضييئة

***

سالم الياس مدالو

 

حجرٌ بمياهٍ راكدةٍ

ألقاهُ ومالَ إلى الظلِ

هل تأتي على استحياءٍ

كي تنقذهُ من هذي الوحشةِ

ويظلُ بعيدا لعشرٍ أو أكثر

يسقي الماءَ

ويرعى ما يمتلكُ السلطان!

هل كانَ الظلُ رحيمًا

في كلِ مكان

بعضُ الظلِ سيرديك يتيمًا

كالنسيانِ

وبعضٌ أخرٌ قد أغلقَ كلَ الأبوابِ

كي يروي ظمأ الحرمان

وبعضُ يتوزعُ ما بينَ الرائحِ

وألآتي

يستبطن ُحتى الأحلامِ

وبعضٌ ممنوعٌ محجورٌ

يتململُ ما بينَ الجدران

فانفذ إن استطعتَ

لا تنفذ (إلا بسلطان)

أو فاخرج للشمسِ ولا تعبأ

ان الشمسَ أمان

أن الشمسَ أمان!!!

***

عبد الهادي الشاوي

عذرا غزة

خوفا من ازعاج احلامه العملاقة

لم نستطيع ايقاظ

الزعيم الأوحد

الحاكم الأوحد

البطل الاوحد

وقائد القوات المسلحة عديمة الفائدة

*

عذرا غزة

ساعة الزعيم  الأوحد معطلة

ولنعاسه طقوس غريبة

ويرتدي  سترة واقية

مطرزة بنياشين ذهبية

*

عذرا غزة

في جامعة الدول شبه العربية

ناقش الزعماء الابطال

قضية تصنيف

الطاغبة

والضحية

والمتفرج

عذرا غزة

ما أسوأ قسوة "الاخوة"

فلقد انطمست اعينهم و قلوبهم

اما غيابهم

فتخاذل

وتواطىء

وخيانة

*

عذرا غزة

عرب الامس

كانوا اهل نخوة

اما عرب اليوم

فهم كقطعة نرد خاسرة

*

عذرا غزة

سنضحك معا

يوما ما

وسنحتفل بعرس النصر

في ميدان التحرير

ونزف القدس الى اهلها

ونصلي في مسجد الاقصى

*

عذرا غزة

الانظمة العربية المطبعة

في اجازة طويلة المدى

وجيوشها ما تزال ترمم

اطرافها المبتورة

*

عذرا غزة

لا تبتئسي

انهم عمل غير صالح

انهم دوما خونة

يترنحون

وفي كل مزبلة سيدفنون

***

بن يونس ماجن

 

احد الراسين

تعبت.. تعبت.. تعبت.. اضطررت لمرافقته خمسين الف سنة. شاخ امامي، كل حركة منه تتعبني. لا اريد ان اراه. ختيار كحتوت.. بخيل.. يحسب حسابا لكل شيء حتى للبصلة. كل فجر لازم اتصبح فيه. لازم اقله صباح الخير، وانا اعرف انه لا يتمنى لي.. لا الخير و.. لا غيره. في الامس قضى على كل شيء جميل بيننا. كان ذلك عندما جمعتنا جلسة مسائية.

هو: اشم رائحة شيء يحترق.

انا: حقا ما تقوله؟

هو: الا تشم؟ هل فقدت حاسة الشم؟

انا: هلا كففت عن هذه اللهجة الاتهامية؟

هو: انا لا أتهم.. بقدر ما اتساءل.

هكذا تواصل النقاش بيننا، لا انا آخذ حقًا معه و.. لا هو يعطي حقا. لهجته المقنعة تجاهي.. هذه اللهجة المبطنة بأطنان مطنّنة من الكراهية، تزعجني ولا تدعني اغمض عيني.. انها تضغط علي حتى انني انام مفتح العينين. منذ التقينا، قبل ما اعرفه ولا اتذكره من السنوات، منذ اتفقنا على ان نقيم معا ونعيش جنبا الى جنب في شقة الشقية نمرة 7 وانا اشعر انه لا يحبني وان ادعى على الطالع والنازل انه مغرم بي، ويحب رسوماتي، ( نسيت أن اقول لكم انني انا رسام. وهو كاتب.. اسم الله عليه)، هناك موقف.. لا يمكنني ان انساه. وقف ذات يوم قبالة رسمة ابرزت فيها محبتي للقط الاسمر ابن الحلال عاشق درجات بيتنا، فقام بامتداحي قائلا انه لا احد في العالم يُدرك مثل تلك المحبة الكامنة في عينيه (القط)، مثلما ادرك انا. وعندما عرضت تلك الرسمة على اصدقاء واخذت اشرح، احلّل واعلّل، انتظر حتى انهي كلماتي.. وأفرغ كل ما بداخلي من قوة، ونزل علي نزول صاعقة مباغتة. ما أقساه. عندما انفض السامر وبقينا، هو وانا وحيدين، ارسلت نظرة عاتبة اليه، فأكد لي ان دافعه الاول والاخير لما قاله، انما هو المحبة المعمرة.. الراسخة بيننا منذ دهور ودهور.

اما قصة تلك الرائحة فقد تكررت في العديد من الاماسي. "لقد عافت نفسي هذه الرائحة اللعينة"، قال بنوع من التأفف، فرددت عليه:" هل تعتقد انها تأتي من ناحيتي؟"، لحظتها صمت وغرق في ضباب الصمت، ربما ليؤكد لي ان تلك الرائحة القاتلة انما تأتي من تحت رجلي، غير انه لوى عنق جواد كلامه، واكد لي انني اخ لم تلده امه، وان ما بيننا من تلال المحبة وجبالها.. يشفع له.. ارسلت نظرة اليه.. واضمرت ان اضع حدا لما اعيش فيه من الام وعذابات.. سببها هو وليس.. اي انسان اخر.

الراس الاخر

عجيب امر صديقي. شريكي في الشقة. طوال الوقت يُوجه الي الاتهامات.. تهمة بقفا اختها. تعبت منه. هو دائم الاتهام لي. فاذا ما انبعثت رائحة من الشقة، وجّه الي الاتهام، مشيرا الى قدمي ومتهما اياهما بانهما هما اساس.. أساس.. الرائحة الكريهة.. رائحة الاحتراق.. واذا ما لمته.. قام بإعلان محبته اللدود. في الصباح أطلعته، وليتني لم اطلعه، على قصة كتبتها عن صديقين يقيمان في شقة واحدة، ولا يتحمل أحدهما الآخر، فما كان منه الا ان قال لي بلغة حافلة بالتهديد والوعيد. لو كنت مكانه لغادرت الشقة الى لا عودة. استفزني اقتراحه الجنوني هذا، فحاولت ان أنتهره. ان اقول له. لماذا لا يرحل هو؟ قصدت الآخر.. غير انني ابتلعت الكلام. وفضلت البقاء في بيت الصمت وبين جدرانه. اما في المساء فقد فاجأني بقصة كتبها، (تصوروا هو يريد ان يكون كاتبا ايضا)، عن صديقين لا يتحمل أحدهما الآخر، صديقين يتبادلان اتهامات في مركزها رائحة الاحتراق في الظاهر، والرائحة الكريهة في الباطن. وعندما نبهته الى انه انما يلعب بالنار، أرسل ابتسامة ذات ألف معنى، وهو يتشدق بالكلام:

هو: هل يوجد سبب وراء كتابتك هذه القصة؟

انا: لماذا كتبتها؟

هو: اردت التعبير عن امر في خاطري.

انا: هل تعتقد انه بإمكان كل انسان ان يكتب القصص؟

هو(بصلف): وهل تشك في هذا؟ كل الناس اصبحوا كتاب قصص هذه الفترة.

انغرس خنجر كلامه عميقا، عميقا، في صدر احلامي، واردت ان اساله عما اذا كان يعتقد ان ما اقوم به من كتابة القصص يغيظه، وبما انني كنت اعرف اجابته مسبقا وانه سيجدد استخفافه المبطن بكتابة القصص، فقد فضلت الصمت. في كل الاحوال كان ذلك الموقف سدّادة لزجاجة عمر من الصبر ومعايشة الضبع في قفص واحد. لقد تأكدت بما لا يقبل الشك، انه لا بُدّ لرحلة العذاب هذه ان تنتهي.. واضمرت امرا.. الشقة لم تعد تتسع لاثنين.

رئيس لجنة العمارة

اشتكي لي امس ساكن شقة نمرة 3 من رائحة تنبعث من الشقة نمرة 7. لم اعبأ بشكواه هذه، سكان العمارة  يكثرون من الشكوى، لهذا انا لا اعول على ما يقولونه ولا اصدقهم. ساكنا الشقة 7، رجلان فاضلان، أحدهما رسام يحميه الله، والاخر كاتب قصص اسم الله... فما سبب انبعاث تلك الرائحة من شقتهما؟ ساكن الشقة نمرة 6 يقول ان الرائحة المنبعثة من هناك باتت همًّا يلاحقه ويلاحق ابناء اسرته ليل نهار، بل ان ساكن الشقة 5 غادر شقته ليقوم في فندق بعيد ريثما نجد حلا لمشكلة الرائحة الكريهة. لا اخفي انني انا ابتدأت اشعر بالاختناق كلما اقتربت من عمارتنا المحروسة. لهذا كان لا بد من ان اتوجه الى كل من اصادفه من سكان العمارة بالسؤال عن المرة الاخيرة التي رأى فيها ساكنيّ الشقة نمرة 7، او أحدهما على الاقل. كل من سألته اخبرني انه لم ير احدًا من ساكني تلك الشقة منذ فترة ليست قصيرة. لم يكن امامي والحالة هذه الا ان اعقد اجتماعا للجنة العمارة، وقر راينا في نهاية الاجتماع، ان نتوجه الى الشرطة، لعلنا نجد عندها الحل لتلك الرائحة الخانقة، ما  ان اتصلنا بالشرطة واخبرناها بالأمر حتى اشتكت هذه من انها كانت تبحث عن سبب تلك الرائحة التي زكمت انوف رجالها ومستخدميها، ربما لهذا ما ان بادرنا للاتصال بها حتى امتلأت حارتنا بسيارات الشرطة والى جانبها سيارات الاطفاء وسيارات الاسعاف الاولي. تراكض افراد هذه المجموعات باتجاه الشقة نمرة 7، وكانوا، كما علمنا فيما بعد، كلما اقتربوا من تلك الشقة تفاقمت شدة تلك الرائحة. عندما وصلوا الى باب الشقة. لم يكن امهم سوى ان يضعوا الكمامات الواقية من الكيماوي على وجوههم، وان يخترقوا باب الشقة. ليس ليدركوا سر تلك الرائحة وانما لإخراجها من محبسها. وقد نقلت وسائل الاعلام المسائية عن متحدث باسم الشرطة قوله ان منظر جثتي الرسام والكاتب ساكني الشقة نمرة 7، كانت عندما دخلت الشرطة ومرافقوها من رجال الاطفاء والاسعاف الاولي، قد تحللت نهائيا وان الدود كان قد خرج من الجثتين، وتسلق الجدران.. واعتلى سقف الشقة.. مؤكدين ان عدم وجود متنفس في الشقة.. كان السبب نمرة واحد في.. كل ما حدث.

***

قصة: ناجي ظاهر

الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ

فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ

*

وتــبيعُ  نــفسَك بــالرَّخيصِ كــسلعةٍ

هـــلْ  فــادكَ الــخلَّانُ والأصــحابُ

*

إن  لــمْ تــقلْ خــيراً فصمتُكَ واجبٌ

فالصمتُ في عُرفِ الضّعيفِ جوابٌ

*

والــزَمْ حــدودَكَ حينَ تختلطُ الرؤى

فــالــمرءُ إنْ لـــزِمَ الــحدودَ يُــهابُ

*

إنَّ  الــحــقيقةَ  مـــرّةٌ فـــي طــعِمها

والــمرُّ  قــد تــشفى بــهِ الأوصــابُ

*

قُـــلْ  لــلــذينَ خــســيسةٌ أفــعــالهمْ

لا  الــمــالُ يــرفعُهمْ ولا الأحــسابُ

*

شــيخُ  الــثعالبِ كــانَ يَــخطِبُ مرَّةً

والــفــخرُ مـــن كــلــماتِهِ يــنــسابُ

*

نَــصَتَ الــجميعُ إلــى كلامِ زعيمِهمْ

عَــنَــتِ  الــوجوهُ ومــالتِ الأذنــابُ

*

غَــنّى لــهُ الــشعراءُ ألــفَ قــصيدةٍ

وتــــفــنَّــنَ  الأدبــــاءُ  والــكــتــابُ

*

فــتــوهَّمَ الــمــسكينُ أنّـــهُ ضَــيــغمُ

أو  أنّــــهُ  نَــــمِــرٌ  لــــهُ أنــــيــابُ

*

فــغــزا عــلى قــومٍ بــعُقْرِ ديــارِهمْ

فـــي  الــحيِّ يــوجدُ فــتيةٌ وكــلابُ

*

هــرعَتْ كــلابُ الحيِّ تركضُ خلفَهُ

وتَــنــالُ مــنــهُ حــجــارةٌ وحــرابُ

*

ضــاقتْ بــهِ الأرضُ الــفسيحةُ كلُّها

وأمــامَــهُ  قـــد  سُـــدَّتِ  الأبـــوابُ

*

وغــدا صــريــعاً في العـراءِ ممزقاً

دودٌ  تـــربَّـــع  فــــوقَــهُ  وذبــــابُ

*

هـــذا  الــجزاءُ لــمنْ تــغيّبَ عــقلُهُ

او  كــانَ في مرضِ الفصامِ مُصابُ

***

عــبــد الناصر عــلــيوي الــعــبيدي

ومضى في عشقه الأبدي

ومضيتُ وحيدةً

لستُ وحدي

في عتمةِ الاغتراب

أحملُني بين جوانحي أسافرُ

على وترِ الفجرِ تعزفُ روحي نُشورا

تمتزجُ الأصداءُ فيّ فتولدُ

أوطانٌ من ضوءٍ في عمقِ العتمةِ

والمسافةُ صوتٌ مؤجّلٌ في صمتِ الوجودِ

كظلٍّ يمرُّ على الدروب، بلا رفيقه

وها أنا أصيرُ شجرةً صامتةً

تهزّ الوحدةُ أغصانَها

فتذرفُ قصيدةً لا تُقرأ

تنحتُها الذّكرياتُ في جذع ِالزّمنِ

وحينما تنخرُها السؤالاتُ

لا تعبَأ بالأين والمتى

ثمّة يقينٌ راسخٌ يتبعُها ولا تدركُهُ

أشفُّ من الحزنِ في قلبِ نهرٍ يعانقُهُ الهدوءُ

أنقى من قلبِ وليدٍ

فأهتفُ يا أناي

يا رسولَ الحزنِ

وحارسَ الألمِ

ها هُنا كفيّ تعصرُ اليومَ برعمَكَ المخمليَّ المُندّى

وكلّ يومٍ يزدادُ الوجعُ عمقاً

أرقُبُ الأملَ وإن كان مُرتحِلاً

أدثّرهُ صبراً.. صبراً

وأهمسُ لروحي: اثبتي أكثر

علّ الزمانَ يأتينا هرولة

ثابتةٌ خطايَ كما تعرفها

غافيةٌ في أمسي جروحهم

يذرونها حكايةَ ألمٍ تنشرُ الرّيحُ أصداءها

فأراك تودعهم، ذراً فذرا

الوقتُ يدعوني للمضي قُدماً

يهمس: "لنخيط الندوبَ بصمتٍ"

أُعيد رسم ذكرياتي، أغوص في بحر اللحظاتِ الدافئةِ

أمضي إلى المشيئة لستُ وحدي

وهو يمضي وحيدا

يحملُ كتاباتٍ

صفحاتها النقية في قبضتيّ

بيده الحبرُ

وفي قلبي العطر.

***

ريما الكلزلي

 

يلقبه أصحابه بالكوديو، رجل عسكري منذ نعومة أظافره، ذو بنية جسدية صلبة، معجب كثيرا بفرانكو، بحنكته وصلابته. إنه جدي عبد السلام أو الكوديو كما يلقبونه. كان عمي عمر يقوم ببحث عن حروب اسبانيا، فسجل أشرطة مسموعة ومرئية متعددة مع جدي، حوار لعدة ساعات. كانت معلومات جدي مهمة حول الحرب الأهلية بإسبانيا، لكن التاريخ عند الكوديو ذاتي جدا، يتداخل فيه الأسطوري مع الواقعي والشخصي مع العام.

  أول حكاية نقلها عنه أولاده وكبار العائلة هي:  حكاية زواجه من جدتي ماريسول الأندلسية الإسبانية:عينان خضراوان وشعر أشقر،متوسطة القامة.  تعرف عليها أيام خدمته بالجيش الإسباني تحت قيادة فرانكو الذي جند المغاربة وحارب بهم التمرد في اسبانيا. كان يطلق عليه (الكراندو كوديو)، جدي من مواليد بداية القرن العشرين، حين تجاوز العشرين بقليل ، أصبح جنديا جيد التدريب كما يقول قادته، في تلك الليلة كان يحتفل بترقيه لرتبة جديدة- رغم تعويضها الهزيل- بحانة الأندلس العليا، حيث شرب ما يمكن أن ينوم فيلا كهلا، لكنه ظل منتعشا ومنشرح الروح. وهو يغادر الحانة ،لاحظ أن فتاة لم تبلغ العشرين بعد (سيعرف لاحقا أنها في سن السادس عشرة) تتعرض للتحرش من طرف شخص عملاق قوي البنية، وخشن الملامح، أشقر، يعرف هناك بالروبيو، وهو بحار وخمار  وكثير الشجار يتلذذ بإيذاء الناس، وينشر الرعب حيث حل ووجد. الكوديو لم تكن له معلومات كافية عن الروبيو، ولكنه لاحظ أن الوحش يكاد يحشر الفتاة في ركن بزاوية الزقاق وهي مرعوبة. فكر جدي في إنقاذ الفتاة، وكان يعرف أن المواجهة مع الوحش قريبة، وهو مستعد لها يساعده في ذلك طول قامته وأيضا صلابة عضلاته رغم صغر سنه مقارنة بالروبيو. التعادل قائم ، كلا منهما كان مخمورا. اقترب الكوديو من الروبيو وكلمه بهدوء: أترك الفتاة تذهب لحال سبيلها. التفت الروبيو والغيض يتطاير من نظراته.  توقف مبرزا صدره المفتول مفكرا: من هذا المتطفل الذي يتجرأ على الروبيو؟

-  ماذا قلت أيها الأحمق. قال مخاطبا جدي.

وهجم، لكن التدريب الجيد لجدي على الرياضات الدفاعية مكنه من تفادي لكمة من الروبيو، وتراجع قليلا مشيرا إلى جدتي (أو التي ستصبح جدتي) بالهروب، وهو ما فعلته، ثم دخل في  اشتباك بالأيدي والأرجل، وتبادل بضع لكمات مع الروبيو، وفي لحظة خاطفة انقض برأسه على رأس الروبيو (اطاااق) سمع دوي اصطدام الرأسين في سكون الليل، وسرعان ما هوى الروبيو كحائط هرم.  و تعالت تصفيقات الحاضرين مشجعة جدي الفائز بالمباراة (الكوديو.. الكوديو...). أما جدتي فكانت تراقب المشهد من بعيد منتظرة النتيجة. ظل الروبيو غارقا في سباته وقد سال من جبهته الدم، أما جدي فقد ظهرت كدمة على أنفه مع بعض الدم.

تفرق الناس، وانسحب جدي يجر جسده المرهق، وظل الروبيو مسجى على الأرض، مشى جدي  بضعة أمتار وإذ به يسمع صوتا رقيقا: الكديو.. الكوديو.. التفت وإذا بماريسول تتجه نحوه. صافحته وشكرته على نبله. أحس بطراوة يدها في يده الخشنة  فسألها: أين تسكنين؟ في الحي الجنوبي  قالت. وما الذي تفعلينه هنا؟ قال. كنت أساعد خالتي في تنظيف البيت. أجابته.               - كوني حذرة من مثل هذه الأماكن. ورافقها في نفس الطريق ،لأنه كان يسكن بنفس الحي.

وتعلق بها كما تعلقت به، وتابع التواصل واللقاء وكبر حبهما إلى أن وقعت حادثة عكرت صفو الود بينهما وغيرت جدي. كان معجبا بالزعيم الأكبر فرانكو، وحين بدأت الحرب الأهلية انظم إلى صف فرانكو وأصحابه  فقد صور إليه أن الوطنيين مجرد خونة ومجرمين وأعداء للوطن، وساهم في قتالهم والاستيلاء على مدنهم. وجاء يوم إعدام رجل من غرناطة وصف بأنه عدو خطير، وطلب من عشرة جنود تنفيذ الإعدام في تل من تلال غرناطة كان هذا الشخص هو الشاعر لوركا المنحاز للوطنيين. جدي ساهم في إطلاق عشرات الرصاصات على جسد الشاعر، ولم ينفع مع هؤلاء الجنود الأغبياء قراءته لقصيدة حب.

حين عاد جدي حكى لحبيبته ما وقع، فانهارت وفقدت وعيها، صدم جدي:ماذا يقع؟ ما الأمر؟ أسعفها حتى استيقظت، فشتمته هو و عصابة فرانكو وطردته. لكنه أصر على معرفة الحقيقة، اضطرت جدتي لشرح الأمور السياسية التي كانت غائبة عن جدي، ومنذ ذلك اليوم وهو يكره فرانكو رغم انه لا يصرح بذلك. كان يردد مع جدتي دائما:

وعرفت أنني قتلت

وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن

سرقوا ثلاث جثثٍ

ونزعوا أسنانها الذهبية

ولكنهم لم يجدوني قط..

***

قصة: عبد الجليل لعميري - المغرب

............................

* إلكوديو: لفظة اسبانية تعني الزعيم.

الجمال المتنكر بزي رجل

تبديه أنوثته

بتناسقٍ منقطع النظير !

*

يُغرقني البحر بكَرَمِه ِ

يترحَّم عليَّ

ويقرأ الفــــــــــــــاتحة

على روح (حــــــــاتم) !

*

عيناكِ

تأشيرة عبوري إلى عـالَمَـكِ

بتقنية (HB) !

*

ليــــــــــــــــــــــــــــــــكن

دورك ِ : التشويق والإثارة

ودوري: الكيــنج كونج!

*

أرأيت ِحبيبتي:

(الحب عذاب) بالألِف ِ

وبدونها (عذْب)!

*

أصبح الآن بمقدوري

أن أغرق البحر بنجمة!

*

وراء كل رَجُلٍ عقيم ٍ

امرأةٌ تُنْجِبْ!

*

المرأة وظيفة

والرجل يحب

(تعدد) الوظائف!

*

لا أمتلِكُ فلساً واحداً

يَسْتُر عورة جيبي

ومع ذلك ـ ما أزالُ ـ

أمنح التَّرَف للأخرين مجاناً !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

في الظل!

قدماي تشهدُ أنها مرتْ هناك

في الجرفِ بعضٌ من نتوأت

وبعضٌ من أحاديث

وبعضُ من شباك

وبها على أملٍ رايتُكَ ساهما

كالرملِ في يومٍ عصيبٍ

قد رماك

وكذا السواقي ان مررت بها

زادتك وجدا وارتباك

تمشي يحفك ظلها.

والزهر مشتبك ودان

وهناك

سرحت الاغاني

ورسمت

في كل انحناءات الطريق

بعض من الحلم

وخارطة الأماني

وبحثت عن اعشاشها حذرا

تراني

وسالت عن تاريخها

قالوا: عداك

فخشيت ان زحزحت يوما

عن مكاني

ان فز من افيائها طير

دهاني

أو مر مدٌّ من خلال النبت

والطينِ المملحِ قد سقاني

أو جالَ في انحائها غصنٌ

أتتهُ الريحُ

تعوي فاستجار بذي وذاك

لا نفع من هذا وذاك

ان جاسَ في أرجائها زمنُ الهلاك!!!

***

محمد محضار

أتقَنتُ الرَّقصَ على اشْلائي

قبل وِلادَتِي وبعدَ الفِراق

السُّفنُ راحِلةٌ

لا تطلبُ مِنِّي التَعلُّقَ بمياهِ البَحْر

مالِحةٌ جداً

بينَ طيَّاتِها المحُ اسْراراً تَتَهادَى

مَطرٌ صامتٌ

يَهمسُ مِنَ الصَّدى

أبقَى هُناكَ طِفلةٌ قُربَ الشَّاطِئ

مُدلَلَةُ المَوجْ

تُطعِمُ فَراشاتِها المُلَونَةِ

تُعانقُ الخَيالَ في كُوخِها الرَّملِي

والرِّيحُ تنسِجُ المُستَحيلَ

مَلائكةُ الحَقِ نَثرَتنِي

لُؤلُؤةً على نَحرِ القَمر

الفراشاتُ لا تُؤذي الأثير

ملاكُ الحَقِ حَوَّلنِي

نَسمَةً وضُوءٍ

ألمِس نَبضِيَ

فيه أسرارُ الشَّغفِ

ماذا  لَو لَم تُشرقُ الشَّمس؟

كُنْ فصلاً  سَرمَدياً ، وليسَ كُلَ الفُصول..

كُنْ مَطراً صَامِتاً

***

سلوى فرح - كندا

في اليد سبحة

والنظرات تُعَانق الأفق البعيد

ضَمير الغائب يبتسم "شوقا"

يسألني في هدوء "طفل"

أما يزال قلبك يخفق أيها الضارب

في السنين؟

أما تزال جوانحك تُسبح بتراتيل

الهوى؟

أما تزال تمارس شَغَبَ العِشق العَصِيّ

في حضرة الفراغ المريب؟

اليوم بين الفسحة واللّسْعة

أقيس خطوي

وأجترُّ دينار الوقار واشتعال الفُودين يباضا

وأرقام العمر تَلْبسُ أسداسا دون أخماس

الزّمن مَارَسَ غِشّه المقيت

وأنا في سهوتي

أعُدّ متواليات هزيمتي

نقطة البوح في سطر عموديّ

تلقي ظلالا فستقية على الرابية

تنتفض الكلمات في رنين خافت

تنشر أغنية جديدة للشوق العابر بصدري

تطلّ أم البنات بجلباب الكشمير

وفُولَارَ  الحرير

مبتسمة تسألني:

-أما اكتفيت من ترميم عَبَث السنين؟

أما اكتفيت من تراتيل الوجع والأَنِين؟

لا اكتفاء يا أم البنات

فثمّة ضروب من الجفاف والشقاء

تجوب عَرصات قلبي

وثمة تصدعات وضِيّاع طريق

وفَوضَى تشُجّ رَأسي

لا اِكتفاء يا أم البنات

الحياة سعالُ أيّام و خَدشُ ساعات

وأحاديث غامضة تحتاج لتفسير

الأمر كلّه أُحْجِيّة تستفز الدماغ

ونقطة استفهام وإبهام

يزأر الشّوق بين جوانحي

فأعبر إلى زمن الدفء

ونَشْوة الانبلاج

أرقص بخفة الصِّغار

في باحة بيتنا الرحبة

مُنُتَشِيّاً تملأ عيني

زخرفة الزليج الفاسي

ونقش الجبس البلديّ

الحُلْو المَلْمس

يا أمّ البنات

أنا في حضرة أمي

أتَهَجّى حروفي الأولى

وذاك أبي خاشع

في صلاته الوسطى

سألت عن إخوتي

عن جدتي

عن قططي وسلحفاتي

عن أشيائي الجميلة

عن لعبي الأثيرة

ردّت علي جدران البيت الباردة

"يا قادما من خلف السحاب

يا تائها يلهثُ وراء لغة الغياب

لم يبق من الماضي إلا عَبيرَ الذّكرى

وشجرة نوايا حَسنة

وتفاصيل صغيرة تحتاج لتفسير عميق

فتريث ،وعُدْ إلى أحضان الوعي الشقيّ

قبّلْ جبين أمّ البنات وقل لها:

"أنت عتبة العبور إلى الأمل والفرح

يداك غطاء لغدي

عيناك مرآة لحقيقتي

وجهك سراج لحياتي"

أعود على أعقابي

تحملني أجنحة الشوق

إلى أحضان زمني الورديّ

ترقص روحي مُنْتشِيّة

يتلألأ على محياي وهج التجلي

تحُلّ بِي رغبة الوجد والانعتاق

أعصر نشوة سكرتي نبيذا بطعم الفجر

أمسك قَلْبَ الحبّ، وأطلق صَرخةَ

خلاصي

أهمس لأمّ البنات:

"أنت الحياةُ سُندُسيّة

والصغيرات هِبَة الرّبِّ

وكلمة الله ويَقينه الجليِّ

سلمى شَلال نور

ايمان يَمُّ عطر

وفاطم بسمة زهر"

لن أنتظر الوقت الضائع

يا أم البنات

سأغتسل من أدران الأيام الشاحبة

سأنتفض في وجه ظلال الكآبة

وأعيد ترتيب صفحات دفاتري

ثم أدثر كلماتي بإيهاب أرجواني

وأجدد وضُوءَ حروفي

***

محمد محضار

الدارالبيضاء1أبريل 24

قصة: لازلو دارفاسي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

اقتحم الباب وهو يشتم، حاملاً الكلب في حجره. كان يسير ذهابًا وإيابًا ثم هدأ أخيرًا ووضع الكلب في مكانه بجوار مكتب الكتابة. سكب الماء في الوعاء الصغير، ونشر الطعام الجاف في الوعاء الآخر، وانحنى ليفحص إصابته بشكل أفضل. قام هذا الوحش اللعين بتقطيع الفراء المخملي الأسود في عدة أماكن. كان الكلب ممزقًا من جنبه، وانكشفت أحشاؤه، ولمعت عيناه بحزن شديد كما لو أن الألم والإذلال أعاداه إلى الحياة.

قال وهو يربت على رأسه:

- لا تحزن  سأخيطك وستكونن أجمل من أي وقت مضى، هل تسمعنى؟ لكن ليس الآن، بل غدًا فقط. بعد أن أحصل على الخيط والإبرة.

عندها فقط أدرك أنه لم يعد لديه شقة.

استقام، واستدار بتردد، وارتدى معطف العمل البني، وأخيرًا أخرج الشاش من حقيبة الإسعافات الأولية بالمكتب. لقد لبس الكلب جيدًا. في الوقت الحالي هذا سيفي بالغرض. جلس إلى الطاولة، وحدق في أرفف الكتب التي تبدو وكأنها لثة بلا أسنان، وتفحص صفوفها، ولم يستطع أن يتذكر آخر مرة قام فيها بإعادة ترتيبها. منذ انتقاله إلى هنا، واجه مشكلة في صيانة نظام الكتالوج.

لقد ضاعت الشقة، وهو يعيش هنا منذ ذلك الحين.

الآن، صار هذا المكان منزله.

لقد بدأ الأمر منذ بضعة أشهر، أو قبل عام على الأكثر. الراتب لم يصل . انتظر بصبر لمدة أسبوعين آخرين، وأخيراً توجه إلى المركز، حيث قيل له إنه يبدو أن خطأ إدارياً قد حدث وسيتم تصحيحه في أقرب وقت ممكن بالطبع. ليس لديه ما يدعو للقلق، سيتم إصلاحه. هذا بالضبط ما قالوا. وبينما كان ينزل ببطء على درجات المركز الرخامية، حاول أن يتخيل كيف يمكن أن يحدث مثل هذا الخطأ الإداري.

هل نسي شخص ما نقل مستند من غرفة إلى أخرى؟

أم أنهم نسوا الضغط على زر معين؟

أم أنهم لم يوقعوا على إحدى الأوراق؟

انتظر أسبوعًا آخر، ولكن نظرًا لعدم وجود أي علامة على راتبه في حسابه، عاد إلى المقر الرئيسي، حيث أخبروه هذه المرة أن الأمر لم يكن مجرد خطأ إداري.

لقد فكر بالفعل في الأمر وأومأ برأسه.

وأضاف أنه لم ير ميزانية صيانة المكتبة على حسابه أيضًا، ولا يقتصر الأمر على عدم قدرته على شراء المزيد من الكتب، بل إن الأموال اللازمة لتغطية التدفئة أو التنظيف أو أي شيء آخر آخر يتعلق بالصيانة الأساسية للمكتبة.

وأخبروه أن هناك عملية إعادة هيكلة قائمة، وعلى كل المستويات، وليس أقل من ذلك.

تساءل بصوت عال:

- أي نوع من إعادة الهيكلة، وماذا تقصدين بالمستويات؟ لأنه كان يعتقد أنه يمكنك إعادة هيكلة مستوى بعد مستوى، لكن إعادة هيكلة كل مستوى في وقت واحد بدت مستحيلة بالنسبة له. ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفوضى والعجز. وبينما كان يحدق في وجه المرأة البيروقراطية أمامه، أخبرته أنه من الآن فصاعدا سيعمل النظام وفقا لقواعد جديدة. سأل:

- وهل سيحصل على راتب أيضاً بموجب الطريقة الجديدة؟

بدت المرأة وكأنها شخص يتوقع المزيد من التفهم، في ظل هذه الظروف، ثم أجابت أنه سيتعين عليه انتظار دوره، لأن العديد من الزملاء الآخرين كانوا في ظروف مؤسفة مماثلة؛ أنه كان أمرًا لا مفر منه مع إدخال نظام جديد، لكن لم يتأوه الجميع كثيرًا، ولم يأت الجميع إلى مكتبها متوقعين الشفقة أو محاولة خوض معركة.

وقال وهو يحمر خجلا:

- أنا لا أحاول خوض معركة على الإطلاق .

هزت السيدة رأسها.:

- الحمد لله ، يبدو بالفعل أن هذا ما كنت ستفعله."

- هل يبدو؟

- نعم، ولكن هذا هو الواقع حقا. نحن نتفهم قلقك بطبيعة الحال.

لم يقل شيئا. من كان "نحن" هذا ؟ تساءل. ألم يكن هو واحداً منهم إذن؟

قالت المرأة وهي تغلق ملفها:

- سوف نخبرك .

- متى بالضبط  أتوقع راتبي؟

- هذا أيضا. والنظام الجديد كذلك. لا أستطيع أن أعد بالمزيد الآن.

- و...متى ستخبريني؟

- قريباً. شكرا لحضورك. أوه، وشيء آخر. هل تؤمن بالله؟

لقد كان مذهولًا تمامًا.

-  لا أفهم.

- نود أن نعرف.

- لكن لماذا؟

ابتسمت السيدة:

-  فقط أجب بهدوء." نعم أو لا؟

لقد غادر المركز دون أن ينبس ببنت شفة ولم يدخل مرة أخرى، وكان ظنه أن النظام لم يعد يساعده. ثم كان الأمر كما لو أنهم نسوا الأمر. لا تزال المكتبة مزودة بالكهرباء والتدفئة. عملت الصنابير، وتدفقت المياه. لم تصل الشيكات، ولم يكن عليه أن يدفع تكاليف مرافق المبنى. كان يجد في بعض الأحيان بعض الصحف أو المجلات في صندوق بريده، على الرغم من أنها كانت تأتي بشكل غريب إلى حد ما وكان من المستحيل معرفة أي منها يمكنه الاعتماد على تلقيها بانتظام. ولم يبق لديه ما يعيش منه. لقد استنفد مدخراته الضئيلة.

لقد باع بعض الأشياء من الشقة: الساعة، والملاط النحاسي الخاص بجدته الكبرى، ومقعدًا مطليًا عليه زهور التوليب، والأطباق، وأدوات المائدة التي لم يستخدموها من قبل، وملابس زوجته. لقد فكر أن يأخذ كتابًا أو كتابين لم يهتم بهما أبدًا على أية حال (اعتقد أنهما كانا مشهورين، وذلك عندما كان الناس لا يزالون يأتون لاستعارة الكتب منه) إلى متجر الكتب المستعملة المحلي الصغير. لكن الكتب التي كان يستطيع بيعها بسهولة نفدت سريعًا، ولم يكن لديه الرغبة في لمس الكلاسيكيات. وعلى أية حال، فإن تاجر الكتب المستعملة لم يكن يريدها على أي حال، حيث كان يجلس هناك يداعب سلاسل الطوابع الزرقاء الصغيرة في الكتب التي أحضرها له.قال له:

- نحن نتخلص من بعض الأشياء .

قال التاجر باستهزاء

-  أعتقد أنك فعلت ذلك بالفعل منذ بضعة أشهر.

- هل تريدهم أم لا؟

-   من الذي يجب أن أرسل الفاتورة إليه؟

- المكتبة بالطبع.

وبعد كل شيء، فكر أثناء عودته إلى منزله في أن هذا أيضاً يجب أن يكون جزءاً من النظام الجديد. لم يكن هو الشخص الوحيد الذي تم التخلص منه، ولم يكن لديه شك في ذلك؛ ويمكنه أن يريح نفسه بفكرة أنهم نسوا كل شيء عنه في هذه العملية، ربما إلى الأبد، وسيحصل أخيرًا على بعض السلام. سوف يُستغنى عنه بطريقة أو بأخرى في النهاية.

لقد باع شقته بنصف قيمتها، أو على الأقل بسعر رخيص جدًا، لكنه كان سوقًا للمشتري في ذلك الوقت، وعلى أية حال كان الأمر عاجلاً، كان يتضور جوعا تقريبًا، لقد أهدر الغرفتين ونصف الغرفة، الزاوية الصغيرة التي ماتت فيها زوجته، بنصف السعر. ولم يحتفظ إلا بالأريكة والتلفزيون والراديو، وجلبها إلى المكتبة، وعاش هنا منذ ذلك الحين.

عاش في المكتبة. ماذا يمكن أن يفعل؟ وكان كل ذلك جزءا من النظام الجديد.

لقد كان كل شيء هادئًا حتى اليوم. ولكن بعد ذلك حدث شيء فظيع.

في الأيام الممطرة، عندما كان لا يزال يمتلك الشقة، وعندما كانت الشوارع مغطاة بالطين، كان يحمل الكلب على ذراعه. لاحقًا، لم يعد مضطرًا إلى إحضاره على الإطلاق، لأنهما كانا يعيشان في المكتبة، وعلى الرغم من أن الكلب لم يكن على قيد الحياة في الواقع، فقد كان يعتني به بعناية شديدة ويحشوه بشكل جيد لدرجة أنه لم يكن بإمكانه حقًا أن يطلب المزيد.  في تلك الأيام، كان بعض القراء يأتون إلى المكتبة، أو يداعبون الكلب أو يخافون منه. كان يقول مبتسماً: ليس هناك ما يدعو للخوف، فالبركوش لا يؤذي حتى الذبابة. في بعض الأحيان كان يأخذ الكلب إلى الحديقة أمام المكتبة ويسنده بجوار شجيرة أو على العشب الأخضر الكثيف، تمامًا كما لو كان يأخذه في نزهة على الأقدام أو أثناء التبول. في بعض الأحيان، كان يضعه على العشب - كان بوركوس يتدحرج ويفرك ظهره على الأرض - كان بوركوس يقضي وقتًا ممتعًا. كان لديه كرة صغيرة، دحرجها إليه، ومشى إليها، ثم عاد إلى الخلف، وألقى الكرة مرة أخرى. هكذا لعبا. نعم، لأنه طالما كان على قيد الحياة، كان بوركوش يحب اللعب.

كان هذا بالضبط ما كان يفعله عندما حدث ذلك؛ لقد أعاد الكرة اللزجة من عشب الخريف إلى جيبه واستدار للحظة. لقد كانت لحظة طويلة جدًا. لقد جاء ذلك الوحش الأبيض الصغير وضرب بوركوس مباشرة. كان نصف حجمه فقط، لكنه كان يمزقه ويعضه بشكل محموم. وعلى مسافة قصيرة كانت هناك امرأة تحدق في المشهد. دون أن تبدى حراكا. كان لديها شعر رمادي طويل، ومعطف أبيض، وحذاء عالي برباط. كانت تمسك مقود الوحش الصغير في يدها. ثم فقد هو  صوابه  أيضًا، وركض نحو الكلب وركله بقوة حتى طار بعيدًا، مما أدى إلى شد المقود في يد المرأة. هبط الكلب بين الأوراق الميتة، وتلوى قليلًا، وظل ساكنًا. نظرت المرأة إلى كلبها واتجهت نحوه ببطء. ولم يكشف وجهها عن أي أثر للعاطفة. انحنى والتقط بوركوس وعاد مسرعاً إلى المكتبة. لم ينظر إلى الوراء. عند المدخل، كان غاضبا حقا. وعندما هدأ أخيرًا ووضع مجموعة الإسعافات الأولية جانبًا وفكر في حياته، سمع طرقًا.

وكانت المرأة واقفة على عتبة الباب، ممسكة بيدها الكلب الذي لطخ معطفها الأحمر بالدم. دخلت ردهة المكتبة بخطوات بطيئة وتوقفت أمام مكتبه. نظرت إلى بوركوش الذي كان ميتًا. وكان كلبها قد مات أيضًا.

وقالت بصوت أشيب مثل شعرها:

- بالمناسبة، لقد اتصلت بالشرطة بالفعل .

وظهر دم الكلب تحت أظافرها. ضباط الشرطة؟ ومن المثير للاهتمام للغاية، بقدر ما أتذكر، أنه لم يقم أي ضابط شرطة بزيارة المكتبة على الإطلاق. لقد مر هنا بالفعل رجال إطفاء مكابي والحرس المدني، بالزي الرسمي وفي الخدمة، بمجرد حضور ضابطين من الجيش، ولكن فقط عن طريق الخطأ. لقد كانا في حالة سكر لكن ودودين، لكن رجال الشرطة... لم يروا رجال الشرطة كتبهم بعد.

سألها وأحضر لها الكرسي:

- هل تريدين الجلوس؟

جلست المرأة. وعلى الفور سمع طرقًا على الباب، وقبل أن يتمكن من قول "نعم"، دخل شرطي إلى المكتبة.

قال الشرطي، وهو رجل أشقر طويل القامة، ووجهه مليء بالنمش الأحمر:

- هل اتصلت بالشرطة؟

قال كلاهما:

- اهلا وسهلا .

ساد الصمت، وفحصهما الشرطي دون أن يقول أي شيء. نظر إلى كلبه، المضمد، والكلب الملطخ بالدماء في حضن المرأة.

قالت المرأة بصوت ضعيف، وكأنها أشارت بصوتها الرمادي فقط إلى توقف المطر:

- لقد قُتل كلبي.

وأضافت:

- لقد كان دفاعاً عن النفس.

سأل الشرطي وهو ينظر إلى الكلب الميت بنظرة حيرة:

- هل هاجمك الكلب؟

- لقد هاجم  كلبي.  بلا سبب.

وأوضح أنه حتى كلبي مات بالفعل. فكر الشرطي، وذهب إلى رف الكتب، ومرر إصبعه على طول شوارعهم المتربة، مثلما يلعب الأطفال بالعصي الخشبية على أعمدة السياج أثناء سيرهم. انتشر تعبير الاشمئزاز على وجهه.

- إذا كان متخلفًا بالفعل... إذا كان ميتًا بالفعل، فكيف يمكنك ضرب كلب آخر حتى الموت دفاعًا عن النفس؟ وكلب أصغر؟

قال:

- لقد ركلت مرة واحدة فقط .

نظر الشرطي إلى المرأة:

- هل ركل مرة واحدة فقط؟

قالت المرأة:

- نعم، لقد سدد ركلة واحدة.  ولكنها قوية.

كانوا صامتين، سحبت المرأة أنفها. استمر كلبها في النزيف.

وقال:

- هذا الكلب، كلبي، جزء من عائلتي. أعني أنه كان جزءاً من عائلتي.

-  هذا ما تقوله دائما. لكن الكلب الميت يظل كلبًا ميتًا.

يمكنك أن ترى أن الشرطي لم يكن سعيدًا بالوضع الحالي، ولم يكن مهتمًا بالتعامل مع مثل هذه التفاهات.

لكنه غضب وبدأ يشرح بشغف لا يمكن إيقافه.

- كان اسمه بركوش، أي أنه ما زال يسمى بركوش. وكان معي أيضًا في ذلك اليوم عندما ماتت زوجتي. لقد حدث ذلك في المنزل فجأة. لم نكن نعرف أنها مريضة، ولم تكن هناك أية علامة على أنها مريضة، أو أن هناك خطأ ما. لقد كان انسدادًا، وكان من الممكن أن يحدث لأي شخص. لقد وجدتها عندما عدنا إلى المنزل في المساء. وكانت مستلقية على أرضية المطبخ. التهمت ست بيضات. ستة بالضبط. كان الموقد قيد التشغيل. آسف. هذه ليست النقطة حقا. لكن الكلب بركوش كان مضطربًا في ذلك اليوم، ولحظة وفاتها بدأ يعوي. بالكاد أستطيع حمله، واضطررت إلى ربطه في الفناء، لأنه في ذلك الوقت... كان لا يزال هناك أشخاص يأتون إلى المكتبة. عوى بوركوش في الفناء، وعرفت على الفور أن شيئًا ما قد حدث. ثم وجدت زوجتي، زوجتي، على أرضية المطبخ. ولكن هذا ليس ما أردت أن أقول. أردت أن أقول ماذا سيحدث لو أحببت زوجتي؟ إذا شعرت أنها الشريك الحقيقي لحياتي؟ لو لم أشعر بارتياح غريب لا إرادي عندما رأيتها ملتوية وملتوية على أرضية المطبخ بلا حياة؟

صمت ومسح جبهته بالمنديل. يا إلهي كم كان يتحدث.

- لم يكن لدينا وقتا طيبا. بطريقةٍ ما... لم نكن مناسبين لبعضنا البعض. لم نتقاتل، ولم نتجادل، لكننا لم نقض وقتًا ممتعًا. ولم تكن على ما يرام أيضًا. حاولت في الجنازة أن أتخيل كيف كان سيحدث كل هذا لو كنت أحبها، لو كنا طيبين. اعتقدت أنه حتى ذلك الحين كان بوركوش قد أشار لي. على الرغم من أنني كنت أحب زوجتي وأحزن عليها بحزن حقيقي وحارق، ولم أشعر بأي راحة، إلا أن بركوش كان يفرك كاحلي ليشير لي إلى أن هناك خطأ ما. لقد كنت ممتنًا لبوركوش. لقد كان كلبًا جيدًا ومستعدًا دائمًا لأي شيء. دائمًا ما يكون إيجابيًا، أتفهم ذلك. عندما مات، طلبت من أحد المحترفين من الدرجة الأولى، الذي اعتاد أن يأتي إلى هنا، أن يحنطه.

نهضت المرأة وجلست على الفور على كرسيها.

رفعت صوتها قليلا:

- هذا ليس سببا لقتل مخلوق آخر! أريد تقديم شكوى. بسبب القسوة على الحيوانات.  نظرت إلى الشرطي. هز الشرطي رأسه وأخرج دفترا. وطُلب منهما ذكر أسمائهما والإشارة إلى البيانات الأخرى الضرورية للبروتوكول. عندما عرّفت المرأة  بنفسها، بدا اسمها مألوفًا بالنسبة له، فانتقل إلى دفتر القروض، وبدأ يقلب فيه بحركات جامحة.

نظر إليها بنظرة ثاقبة:

- أنت مدينة لي بكتاب .

احمرت المرأة خجلاً وعادت إلى الحياة فجأة. حتى شعرها بدا وكأنه يحصل على اللون.

قالت بصوت ضعيف:

- أنت على حق يا سيدي .

- قد طلبت هذا الكتاب منذ عامين بالضبط. هذا الشهر بالضبط "نصيحة لأصحاب الكلاب"، كان هذا هو اسم الكتاب. ولم تقم بإعادته في نهاية فترة الإعارة البالغة أسبوعين. لقد أرسلت لك ثلاث رسائل تذكير، لكنها لم تؤثر فيك.

ولم يرفع صوته، فوجه الاتهامات بنبرة متوازنة، ومن دون استعجال.

- هل تعرفين ما هي الغرامة التي كان يجب أن أفرضها عليك؟ عشرات الآلاف من الفورنتات، بما في ذلك الفوائد .

توسلت المرأة قائلة:

- أنا... كنت سأعيدها .

نظر الشرطي إلى الاثنين بالتناوب، مفتوح الفم، مصدومًا، "اللعنة،" همس في نفسه.

- لكنك لم تعيديه.

- لا.

هذه المرة شعر بأنه أقوى، وكأنه استعاد ثقته بنفسه. يا له من عار أنه كان يرتدي معطف العمل البني اليوم. أم لا، في الواقع. بهذه الطريقة يبدو أكثر رسمية.

نظرت المرأة إلى الكلب الذي يرقد في حجرها:

- لأن... لأن... أكله فينشي. لقد أردت إعادته لفترة طويلة، لكنني نسيته بالصدفة على السجادة، و... ثم جاء بينشي.

فرك الشرطي عينيه وكأنه يستيقظ من كابوس مستحيل.

-   سيتعين عليك حل هذه المشكلة بنفسك.

هزت المرأة رأسها:

- سوف نحلها يا سيدي.

هز الشرطي رأسه وألقى نظرة أخيرة على المرأة:

- أنا ذاهب.

قالت المرأة:

- حسنا ، يمكنك المغادرة براحة البال .مع السلامة .

قال الشرطي وداعا.

ومكثا هناك مع الكلبين الميتين، وكان أحدهما لا يزال مغطى بالدماء، رغم أنه توقف عن النزيف بالفعل. كانت المرأة محرجة. على الرغم من أنها كانت هي التي عانت من أضرار لا يمكن إصلاحها، فقد تم وضعها أخيرًا على قفص الاتهام بنفسها.

فكر أمين المكتبة في الأمر.

- انظري يا سيدتي، أعلم أنني لا أستطيع تعويضك عن هذه الخسارة. انا اسف. بصراحة. أنا مستعد لإلغاء غرامة التأخير. سأتجاهل هذا الأمر على الأقل. لا يهم بعد الآن. نصيحتي، إرحلى من هنا... و اتركى بينكسي هنا؟ سوف أتأكد من أنهم  يحشونها. سوف يقومون بعمل جيد، وعندما ينتهون، يمكنك استعادتها. أو تركها هنا. ستنسجم جيدًا مع بوركوس، ويمكنك زيارتها وقتما تشاءين... لرؤيتها. أو تذكرها.

وقفت المرأة بتردد ووضعت بينكسي أمام بوركوس. يبدو أن بوركوس كان يحدق في الكلب الصغير.

قالت:

- جيد جدًا إذن .

- ماذا؟

- قم بحشوه، وسوف آتي من وقت لآخر.

لذلك قام أمين المكتبة بحشو بينسي، وكان نابضًا بالحياة مثل بوركوس. لقد جاءت بالفعل لرؤيته، وطرقت الباب مرة أخرى بعد بضعة أيام؛ وسرعان ما أصبح مجيئها عادة - فقد مكثت لفترة أطول وأطول. وأثناء وجودها هناك، كانت تسقي النباتات، وتنظف الكتب، وتنفض الغبار عنها، وتقدم بعض شطائر الكبد المقطعة التي أعدتها في المنزل. وفي أحد الأيام، بينما كانا ينظران إلى الكلبين ويتذكران، لمس أمين المكتبة كتف المرأة.

- بيرتا، بيرتا، ألام نتصرف وكأننا في مقبرة؟  دعينا نأخذهما في نزهة على الأقدام!

أخذا بوركوس وبينكسي إلى الحديقة المغطاة بالثلوج، بجوار الشجيرات، ووضعاهما في الثلج. وبينما كانت الحيوانات تُضبط وتُوضع، خرج قطيع من العصافير متوحشًا بين أوراق اللبلاب الدائم الخضرة. صرخ الأطفال وألقوا حفنة من الثلج. كانت كاسحة الثلج تتحرك بصخب ذهابًا وإيابًا أمام المكتبة، والآن رمى الكرة إلى بينكسي أيضًا.

- بينكسى .. بينكسى

- أنت جيدة، يا بينكسي!

ثم عادا مرة أخرى للإحماء.وضعت المرأة بعض الشاي وأوقفت الكلاب بجانب المبرد لتجفيف أرجلها. كانت معدة بينكسي مبللة.

جلسا ينظران إلى الكلبين ويتذكران. كان كل شيء لطيفًا جدًا. نمت بركة صغيرة تحت بطن بينكسي، واستحوذت على ضوء المصباح الكهربائي. وعندما أمسك بيد بيرثا، خطر لأمين المكتبات أنه كان سيأخذ دليل محبي الكلاب إلى تاجر الكتب المستعملة منذ فترة طويلة.

إنه  كتاب كان سيشتريه بالتأكيد.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: لازلو دارفاسي / László Darvasi مؤلف وشاعر وكاتب مسرحي ومعلم وصحفي ومحررمجري. ولد عام 1962 في Törökszentmiklós، ويعتبر أحد أكثر الكتاب المعاصرين تنوعًا وأحد أشهر مؤلفي جيله في بلاده. ألف عشرات الكتب والمسرحيات، خاصة القصص القصيرة، وحصل على أكثر من 20 جائزة أدبية، من بينها جائزة أتيلا جوزيف المرموقة عام 1998 وجائزة إكليل الغار المجري عام 2010. وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات.

عاشرتهم لسنين طويلة يا لهم من أوغاد ..

الفقراء أوغاد لا تتعجب ! تراهم من بعيد منكسرين، مطأطئي الرؤوس، مهما حاولت رؤية أعينهم فلن تراها أبدا ..

ينظرون إليك من طرف خفي، حتى إذا أتيحت لهم الفرصة أكلوا أمعاءك، ولن أبالغ إن قلت أنهم باستطاعتهم طحنك ورميك للكلاب الضالة..

أنت تظن أن الفقير مسكين ! لا لا لا..

هناك فرق شاسع بين الفقير والمسكين، أنا عشت معهم ولولا مشيئة الرب، لأصبحت الآن ذئبا مسعورا ..

ما يحز في قلبي، أنني كنت أحب ذلك العالم، تخيل معي وأنا طفل في السادسة من عمري كنت اصطاد الأفاعي والعقارب، بل وكنا نشوي بعض الكلاب وهي حية ..

لا تستغرب !

اقسم أنني مازلت أسمع صوت أنين الكلب وهو يحترق، ثم نعود الى منازلنا نقفز ونضحك دون أي ضمير ..

أعلم أنك لم تر عقربا في حياتك، إلا من خلال محطات عالم الحيوان ..

هل تذكر ذلك اليوم عندما أتى بي والدك إلى منزلكم الفخم، كنت انظر إليك بحقد وغل، رغم أني لا أعرفك ..

كنت ترتدي قميصا حريريا باللون الأزرق وبنطال جينز، وحذاء رياضيا أبيض ..

قلت في نفسي لحظتها، حتى لو كان أنيقا وثريا أستطيع هزيمته بلكمة واحدة على خده ..

وبدأت اردد وعيناي تنظران لحذائي البلاستيكي المتسخ: هيا واجهني أيها الوغد ..

في تلك الأثناء تقدمت نحوي وقلت بصوتك الناعم:

هل تلعب معي!

قلت في نفسي: العب لم لا ألعب، وإن صدر منه شيء ساقتله ..

كررت سؤالك وانا مازلت امطرك بالشتائم خفية ..

لا أدري لماذا أخبرك هذا الآن وقد مر وقت طويل، وأصبح لدينا عائلة وأطفال ..

لكن هناك شيء ما في داخلي مهما فعلت، وحاولت نسيان الماضي، يلاحقني ليرجعني إليه

ربما كما أقول لك دائما، الفقراء يظلون أوغادا..

ذلك الوغد في داخلي لم تستطع الحياة طمسه، ولا حتى الكتب التي كنت تعيرني إياها ..

فاغلبها كانت تحكي عني، وعن الفقراء بطريقة مخادعة..

من كان يحاول تلميع صورة الفقراء للأطفال، والكبار أيضا ..

ربما أولئك الكتاب كانوا أيضا فقراء وأوغاد..لكنهم أتيحت لهم الفرصة ليتعلموا، كما حصل معي ..

لكنني لن اشارك في هذه المهزلة..

كلما اقتربنا من الحضيض يا صديقي وأخي الذي لم تلده أمي، نتقترب دون وعي للبهيمية

كما أقول لك !

دون أي مبالغة ..

لقد أزعجتك اليوم كثيرا، بثرثراتي، ربما سأزورك غدا، لأبوح لك باحاسيسي الدفينة..

سأخبر الممرضة أن تغير لك غطاء الوسادة، فقد بللتها بلعابك ..

وانا أريد أن أراك دائما نظيفا كعادتك ..

سأمسح فمك الآن، كنت أرى أمي تمسح بعنف فم والدي وهو على فراش الموت ..

لكن لن أفعل ذلك بك !

سأخبرك شيئا أخيرا، أنا أحبك بكل صدق، ومن أعماقي شعوري، لكن! أتمنى أن تموت في أقرب وقت، لأخرج الوغد الذي في داخلي دون أي تأنيب ..

***

سلوى ادريسي والي

رأسي والصداع

هو رأسي الذي بدأ يتغيّر

رأسي ولا أيّ عضو من جسدي سواه.

هكذا

من دون مقدمات هذه الأيّام أخذ يدخل مرحلة غريبة:صداع مفرط يتكاثف في منتصف الجبهة وفي بعض الحالات أشعر به ينحدر من تلك النقطة بشكل خيط حاد فظيع حتى يلامس أعلى أنفي ما بين الحاجبين.

الحقّ ظننته أوّل ما داهمني عابرا، مثلما يشكو الآخرون من من صداع يسببه الجهد أو الأرق، وحين تكرر وجدت عذرا آخر في جعبتي وجهت التهمة إلى المخترعات الحديثة فوضعت اللوم على التلفاز، والهاتف النقّال، والكومبيوتر أو الأجهزة الحديثة التي تكاد تطلّ علينا بملمسها الناعم كل بضعة أشهر.

أكتب الآن وأنا براحة تامة كوني هربت إلى مكان أشعر فيه بالأمان.

أوّل مرة فاجأني الصداع

تجاهلته

للمرة الأولى

والثانية أيضا

قلت مع نفسي لعله الفراغ الذي بدأ يدبّ في مفاصلي.. ربما عملي، فأنا ساعي بريد، أوصل الرسائل والرزم إلى البيوت والأسواق.. المدينة تعرف شغلتي الحيوية، جميعهم يبتسمون لي ويتطلعون لطلّتي اليومية:من يطالعه في المستقبل خبر سعيد أم من يتلقى أسوأ الأخبار.

بشتاقون إليّ..

منهم من يمنحني مكافأة.

لم أر أحدا قط يكلح بوجهي..

وليس هناك من يستعيذ من طلّتي عليه وإن كنت أسوق له أسوأ الأخبار. مع العلم إنّي أشعر أَنّي في بعض الحالات يمكن أن أكون مثل غراب نوح..

هذه حقيقة لا أنكرها

لكني لا أكره نفسي

ولا لأشعر بالذنب

ليعلّني أواسني نفسي حين أراني نافذة مدينتي التي تطل بها على نفسها عبر الدنيا.

لا أدّعي أني مثقّف لقد حزت على تعليم كاف جعلني أعيش حياة متوازنة. إذ حافظت على العلاقة بين الشّرف ومهنتي. أنقل الأخبار ولا أعرفها إلى الحدّ الذي جعلني أحتقر، ولا أغالي، الرقيب الذي يفتح الرسائل بطريقة لا تؤذي الرسالة أو الرزمة، فيعرف مافيها من دون أن يشعر بخجل.

أقول: قد يكون من أسباب الصداع الغريب الذي اجتاح رأسي الكسل.

نعم..

ربما أستبعد المفاجآت فلم أكن أعاني من أيّ مرض، ولا تشغلني كثير من الأحداث، أتفاعل وأنفعل بحدود المعقول كأيّ من مخلوقات الله.

واستبعدت أيضا أن يكون مرضا خطيرا

أخيرا اضطررت لعرض حالتي على طبيب. أكثر الأطباء شهرة في مدينتنا:

 - إذن وظيفتك ناقل أخبار

قال ذلك بعد أن تمعّن في معلومات دوّنتها قبل أن أدخل عليه.

- نعم ياسيدي.

- هل تعرف أخبارا تنقلها إلى الآخرين؟

أوحت إليّ قسماته الجادّة أن سؤاله استفزّني:

- لا أبدا (واعترضت) لكن لم هذا السؤال:

- يمكن أن يكون الصداع تأنيب ضمير (تطلّع في عيني):ألم تراودك رغبة في أن تطّلع على أحداها أو تتخلص من بعض مافي يدك قبل أن تسلّم الأمانة لأهلها؟

- (بغيظ) محال إنها قضيّة مبدأ وأخلاق.

هزّ رأسه:

- ذلك يعني أن ليس هناك من شئ ( وأضاف بثقة كأنّه يكتشف الحقيقة الخالصة ) إنّه وهم كل ماتشعر به وهم !

وانتقلت من طبيب إلى آخر وثان وثالث ورابع أدخل رُدَهَاً.. أقابل مديري مكاتب يدوِّنون معلومات عنّي قبل عرضها على الأطباء ثمّ أرافق ممرضات..

أشعة تتكرر..

تحاليل..

خروج..

دم..

اللعاب.. هل أتجزّأ أم أشطر نفسي لشظايا صغيرة كي أضع يدي على الداء، أدخل معهم في نقاشات عقيمة، كلّهم أكَّدوا أن رأسي سليم.. وهم.. نهاية كلّ لقاء مع طبيب.. لاشئ غير الوهم.. قد نتناسخ نحن البشر بأشكال نبات وحيوان، والوهم بالصداع.. صرفت مبالغ كثيرة وكدت اضطرّ للدين، دخلت أجهزة مختلفة بعضها قاس وبعضها ناعم، ولجأت إلى مسكِّنات لاتنفع في أن توقف وجع رأسي الذي انقلب إلى صداع فظيع فكأن الحبوب فأس واهٍ يطرق صخرة من مرمر قاس. هل أذهب إلى السحر والشعوذة بعد هذا كلّه؟

ربما دفعني الطب نفسه من حيث لا يقصد..

ساعدني بعد أدرك أنّ هناك حقائق قد يفسر غموضها الخيال أكثر من العلم.

كنت أسير في الطريق فداهمتني موجة صداع عنيفة، الوهم بصورة صداع، التجلّي الأخير للوهم، بحثت في جيوبي عن حبة أسبرين، فوجدتها فارغة تسللت من الشارع إلى أقرب صيدلية ثمّ غادرتها وصوت الصيدلاني يلاحقني بعد أن شاهدني أفرغ نصف العلبة في فمي:أنصحك ألا تلتهم أكثر من ثمان حبات في اليوم..

لا أبالي..

- ياسيدي الوهم يتقمص الصداع..

لا مرض خبيث يقولون.. لا شئ.. وهم.. وفي لحظة ما أشبه ماتكون هدنة بين جيوش تتقاتل، وسكون يعمّ وينتشر، وقعت عيناي على عيادة طبيب. خلته طبيبا جديدا فلم أتذكر أني رأيت العيادة من قبل.. فتشجعت ودخلت.. على أمل أن أجد مختصا يقول لي هناك شئ ما يداهم رأسي.

فايروس..

جرثومة

شئ محسوس

اكتشاف لايتهمّ الوهم.. أدركت أني قابلته من قبل بل تيقنت أنه أول طبيب عرضت حالتي عليه، الذي اكتشف تقمّص الوهم بالصداع فسار على خطوه الأطباء الذين ترددت على عياداتهم.. والذي سألني إن كنت خنت الأمانة أو اطلعت على ما في الأخبار لكنّه لم يعرفني.. العجب أنّي لم أمتعض حين كرّر عليّ السؤال ذاته الذي سألني إبه الأطباء الآخرون من قبل، ربما فقد عنصر المفاجأة أو فقدتها.. لكنّ ذاكرته استعصت:

- حالتك جيدة وأنا حديث عهد بالعيادة ومدينتكم هذه ولا أخفيك سرا أني أرغب في أن أجري لك فحصا عاما وأفتح لك مِلفَّاً جديدا.

إنكار

هل أنا في حلم أم هو؟

والصداع حين يراودني يمنعني من النوم بضع ليال:

- ياسيدي أنا متأكد من أن الملفَّ موجود عندك.

- يبدو أنك تفترض ماضيا لتعيش فيه.

صمتُّ.

لذت بالسكوت والذهول:

- كل مايهمّني الآن هو أن توقف الصداع.

- فإن لم يكن هناك من شئ بعد الفحوصات، وهو الاستنتاج الذي أتوقعه منذ هذه اللحظة، هل أدفعك إذن إلى طبيب نفساني.

- هل تظنني.. ؟

- لا تدن نفسك من دون أن تعلم أو تتعمّد.. فقد يكون تأنيب ضمير لقصور في العمل.

استغربت من طرحه المفاجئ وتساءلت بضيق:

-  مثل ماذا؟

فقال وهو يتطلّع في وجهي مثل المنوّم المغناطيسي:

مزّقت رسالة ما.. لم توصل رسالة.. كشفت سرّأ..

وأنا معه عضّ جبيني صداع ثقيل، ولم تكن ببالي سوى هذه اللحظة تلك الرسالة التي لاتخصّ أحدا ولعلها لي أو لغيري.. قد تكون ملكا مشاعا لاحجة لأحد فيه مادامت لا تحمل عنوانا معينا، أصررت على الرغم من الألم أني لم أنتهك شرف العمل:

لا ياسيدي هذا محال!

دورة جديدة

كلّ الأطباء الذين مررت بهم من قبل ادعوا أني أمرّ على عياداتهم للمرّة الأولى، وقد أوحت لي الحال أنّ العالم فقد ذاكرته، وإحساسه، وبقي الصداع يراودني حتى طلع علي ذات يوم وأنا أسير في وسط المدينة اسم طبيب جديد لم أمر عليه، فتساءلت بين الشك واليقين هل يعقل أني لم أزره من قبل ؟ماذا لو أنكرني وهو وجه أعرفه ثمّ تحاملت على آلام رأسي واقتحمت عليه عيادته..

فؤجت بوجه جديد

رجل في الخمسين.. أصلع قصير.. ذو بطن مددت يدي إليه مصافحا وأنا أعضّ على أسناني من الألم. فنظر إليّ بإشفاق وكان ينتظرني أبدأ الكلام قبله:

- دكتور يؤسفني أني لم ألتقك من قبل فلعلك تأتي إليّ بشئ جديد.

- أظنّك لففت على أطباء غيري وزرت مشافي ومختبرات وها أنت تعود إلي بعد تلك الرحلة الطّويلة.

- أبدا لا أظنني، وأكاد أجزم أني رأيتك.

فقهقه مشجعا وقال:

- لا يهم ذلك أنت ساعي البريدصاحب الصداع الدائم على الرغم من أني على ثقة أن ليس هناك من شئ.

- كلامك لا يختلف عنهم.

- بل هو لب الاختلاف لأني وجدت طريقة لعلاجك.

مازال ذهني ينزلق على الماضي لا أظنني زرته وهو يؤكد أنّه يعرفني ويصرّ على علاجي

- هل يمكنني أن أسألك لم انقطعت عني؟

- بصراحة انك تشتبه فأنا أدخل عيادتك المرة الأولى.

- بل قل إنك أردت أن تعثر على طبيب يؤكد لك شيئا ما فصرفت الجهد والمال.

قال عبارته متضايقا فاستدركت:

- أنا لا أشكك بعلم أيّ طبيب لكنني أحاول أن أرى استنتتاجاتهم وربما هي المرة الأولى التي أجدهم يتفقون على أن لا شئ مع العلم أنه هناك شيئا يؤذيني.

فراودته ابتسامة ماكرة

- لعلّهم خدعوك إذ هناك نقطة منتصف جبهتك نقطة مجهولة لا تتعلّق بالعلم ولا يجرؤ أي طبيب على أن يشير إليها.

أخذتني دهشة..

غفوة

شرود

- ماذا ياسيدي

- هل تؤمن بالخرافة ؟

وخزتني كلمته فانتفضت:

- أشك فيها لكني لا أشك في العلم، (أكّدت بحماس)أنا رجل متعلّم.

- هذا هو السر.

قال عبارته وسحب نفسا طويلا وأردف:

- العلم غزانا والألكترونات الخفية تداخلت في حياتنا دبّت فينا لأبعد الحدود فهجرنا الخرافة ليختل توازن عقولنا.

بين شاكٍّ ومضطربٍ ومصدّقٍ:

- ولِم َلم يشخّص الأطباء قبلك هذا العلاج.

فمط شفته السفلى شبه معترضٍ أو برمٍ:

- لأنهم يخجلون أن يتنازلوا ولو بنسبة واحد بالمائة!

كالطفل أسأل:

- مادام الأمر كذلك فبماذا تشير علي؟

لا شئ.. لن تخسر شيئاً جرّب الخرافة.

جرفني رأيه حدّ الدهشة لا سيما أنّه قالها بلا مبالاة لأنّه أتبعها بهزة من كتفيه فنهض كأنّه لم يعد لديه مايقوله، ومدّ اليّ يده، فمددت إليه يدي وأنا أقول:

- سأجرّب لن أخسر شيئاً

الخرافة

النبؤة الخيال

قصص الأطفال

المعجزات

كلّها تداعت في ذهني حالما خرجت من عيادته وفي قرارة نفسي ألا أدخل أيّة عيادة مرة أخرى.

(2)

رسالة

قبل توغّلي في عالم الخرافة..

 ألقيت عن صدري ذلك السرّ الآخر الذي لم يطّلع عليه أحد والذي لم أتذكّره وقتها وأنا أعرض حالتي على أوّل طبيب سألني عن تأنيب الضمير.

والحق

تلميح الطبيب الجديد يثير شيئا ما رأيته تافها فيذكّرتي

كنت أخالف المألوف، أكذب في هذا الموقف

سوى أنّي لا أجد تأنيب ضمير

قط

حدث ذلك منذ سنوات.

ومن نافلة القول أني أخفيت الأمر على السيد المدير. قد يبدو السبب تافها.. تافها جدا مع ذلك أظنه كمن إلى حدٍّ ما في أعماقي.

ذات يوم، رحت، قبل دخول إرادة النت ومشيئة الحاسوب، رحت أفرز الرسائل، أرتبها حسب العناوين التي ترتبت في ذهني، المدير نفسه لا يتدخّل في شؤوني، الفرّاش يتابع عمله بين الإدارة والمركزوموظف الرزم منصرف إلى ترتيب الأغلفة وتهيئة السيارة دون أن يفكر كلاهما أن يأتي يوم يحلّ فيه السيد الحاسوب محلهما.

فجأة

وقعت في يدي رسالة غريبة.. قد أبالغ إذا قلت فجأة ربما كلمة مثيرة هي الأصح والأصلح.. إلرسالة معنونة إلى مدينتا من دون أن يكون على الغلاف أيّ عنوان.. لااسم شارع ولا رقم بيت.. والمرسل إليه شخص يبعث الإثارة:

إلى من يهمه الأمر

أبقيت الرسالة في عهدتي.

خطر لي أن أخبر المدير وبلمح البصر غيّرت قصدي

لا قلت مع نفسي

وأضفت

هذه رسالة كأنّها تخصّني

من هو الذي يهمّه الأمر.. المدير.. السيد مدير البلديّة.. الكبير.. ذو الفخامة.. العظمة.. هناك أكثر من واحد يهمّه الأمر، ولا عنوان لمرسل على ظهر المظروف. مادام الأمر كذلك فيمكن أن أختار نفسي عنوانا رئيسيا قصده المرسل. هناك رسائل غير واضحة العنوان ترجعها إلى البريد المركزي، فتبقى برفّ الودائع سنوات، وقد وضعت في بالي ألّا يكون مصير هذه الرسالة على الرفّ ذاته، لن أخبر السيد المدير فأنا أحقّ بها.

مع ذلك عليّ أن أطوف بها خلال جولتي أمر على العناوين وحين وصلت إلى بيتي ألقيتها في صندوق الرسائل وعدت أواصل عملي ولا يشغل ذهني أيّ شئ.

أحاول أن أتجاهل تلك الرسالة

أحلم بشئ آخر

أتخيّل أنّي لا أنتظر شيئا

وفي ختام عملي تعمدت أن أكون على سجيتي كمن لا ينتظر شيئا، ذهبت إلى صندوق الرسائل، لأطّلع على مافيه، إلى من يهمه الأمر:

افترضت ثانية أني أنا

وليس هناك من تأنيب ضمير

بعض الحماس يدفعني لفضّها واللهفة:.

نصائح

حكم

أم

هذيان؟:

لاشئ حقّا

كانت الورقة بيضاء

بالضبط مثل الرسالة التي تلقاها المدير الذي سوف أحلّ محلّه وليس عليها من طابع فآمن بشرف المهنة ودفع، رسالتي لا ينقصها أي شئ سوى اسم المرسل إليه

لأفترض أنّي هو من يهمه الأمر.. ماذا بعد غير أن أرميها في سلّة المهملات؟

**

رسالة

 لم يعد الألم يهمني بقدر ما أحاول أن أعود إلى الطرق البدائيّة أصادقها من جديدٍ وأرافقها كما لو عدت طفلا. لا أخاف على حياتي فجميع الأطباء اتفقوا ألّا شئ، وهذا الطبيب الذي لم أزره من قبل ويؤكد النقيض حدثني عن الزاوية المجهولة في رأسي.

لابد أن يكون هناك تبادل بيت الخرافة والعلم.

في بالي أن أغيّر تمط حياتي..

منذ سنوات وأنا أنقل أخبارا وأسرارا لا أعرفها. ولا يهمني أمرها، ولا أحد ممن استقبلوها أخبرني عنها، كل جسدي يتحرك. يداي، رجلاي. أعبر بدراجتي الشوارع والأزقة، وحين أنتهي من الرسائل أعود إلى الشاحنة فأقودها وهي مليئة بالرزم.

لا أحد في المدينة يجهلني

ولا أظنّ أحدا يتشاءم منّي لخبر سوء أسلّمه إيّاه بيدي

تأكّدت من ذلك تماما

حتّى ذو العاهة الثلاثيّة المركبة يعرفني

ذات يوم هادئ

ركنت درّاجتي عند الرصيف ودخلت محلا يبيع الآيس كريم، هناك سلّمت رسالة وحالما خرجت وجدت ذا العاهات الثلاث يمسح براحة يده مقود الدراجة، ثمّ يمررها على حقيبة الرسائل يمسح على بعضها:

تركته لحظات

راقبته

ثمّ دنوت منه، وربت على كتفه عندئذٍ تشبّث بي بقوة، كان من عادته إذا اصطدم بأحدٍ أو اصطدم به أحد ما يتشبّت به ويطلق همهمة فيشفق الآخر عليه ويدسّ بيده بعض النقود، ثمّ ينصرف في طريقه يساعد أصحاب المحلات في تصفيف بعض الأرفف وترتيب زجاجات قناني البيبسي كولا والكوكا والفانتا الفارغة في صناديقها..

الناس يعدّونها معجزة عوّضه الله بها عن البصر والسمع والكلام.

أمّا أنا فالأمر اختلف معي تماما

في هذه اللحظة الحاسمة وضع يده على رسالة وسط الرزمة ثمّ مسح على عينيه فانقلبت قسمات وجهه إلى حزن مطبق، كان يبكي من دون دموع بعدها عبرت يده صفّ الرسائل إلى رسالة ما وفتح فمه واسعا. كان جبينه يتحرك بين الحزن والفرح.

ولم يكذّبني ذو العاهات الثلاث..

في اليوم الذي سلمت فيه الحزن

غطّت الشارع مراسيم حزن

سمعنا صراخا

رائحة موت

في الجانب الآخر كان هناك فرح ما

عرس أو مايشبه العرس..

نجاة من حادث جلل

فوز ببطاقة يانصيب

أيّ حزن

هي المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى أسرار خفيّة تتأرجح بين الشؤم والفأل الحسن وقد نبّهني إليها من لا يسمع ولا يرى ويبصر.

ومن قبل كنت أعتمد في تبيان العناوين والطرقات على ذاكرتي ثمّ جاءني صديق آخر.. الهاتف النقال.. والكومبيتر. ارتاح ذهني قليلا، وأكاد أقول بكلّ ثقة إنّني بمساعدة صديقيّ الجديدين أستطيع أن أقود سيارة الرزم والدراجة وأنا نائم.

مبالغة حلوة.

ارتحت كثيرا.

كنت أخرج الساعة التاسعة وأعود الواحدة، بيدي أسرار مدينة أجهلها، وفي هذه الأيام أقضي ساعتين في العمل ثمّ أعود لأقابل وجه السيد المدير الذي سوف يتقاعد بعد بضعة أيام، وقد أصبحت المرشّح الوحيد الذي يحل محله.

قال لي بكل ثقة:

- سأغادر العمل وأنا مرتاح.. أنت تحلّ مكاني..

- مادامت ستتركني فعليّ أن أعلن عن حاجة المؤسسة إلى ساعي بريد يوزع الرزم والرسائل.

- لا أعتقد.. تستطيع أن ترتب كلّ شئ بساعة أصبح الناس يعتمدون على الإيميل والرسائل النّصية والتوصيلة.

وجدته على حقّ. سيل الرسائل انحدر في مدينة كبيرة مثل مدينتي إلى أقلّ من عشرة باليوم، ثمّ قلّ إلى بضع رسائل.. وأهل المحلات التجاريّة فضّلوا التوصيلة، والتعامل مع الشركات السّريعة.. كنت أتذكر كيف بدأنا وزخم الرسائل والرزم الكبير وعدد الموظفين والعمّال الذين معنا، وشيئا فشيئا يبدأ العدد ينقص. ترتاح أجسادنا وتسترخي عضلاتنا، أصبح لي أصدقاء جدد.. كومبيوتر.. هاتف.. مرشد طريق.. لكننا نبدأ نشعر بالصداع والدوار.

ويبدو أن رأسي لا يريد أن يرتاح.

يغزوه الصّداع بقسوة. أدخل في موازنة جديدة: أذا تعب جسدي ارتاح عقلي ومن الممكن أن يتعب عقلي لراحة جسدي، قد أكون الوحيد في هذا العالم المفرد الذي لم يكتب أحد إليه رسالة، قد أتلقى مثل مديري رسالة تنبؤني بتقاعدي بعد سنوات، قلت له:

- هل فاجأتك الرسالة؟

أجاب بصمت وأراه لايبالغ:

- منذ اليوم الأوّل الذي باشرت فيه العمل توقّعتها!

كما لو أنّي في دوّامة:

بعد سنوات سوف تطالعني واحدة مثلها

فقهقه حتّى خلت جدران المؤسسة تهتز:

-  شغلتنا نوزع الفرح والحزن على الآخرين، أما أنا أو أنت نستلم رسالة فيها علامة حزن وفرح، حزن لأننا أصبحنا أقرب إلى النهاية، وفرح كوننا أصبحنا أحرارا في الحياة.. ننام.. نصحو وقتما نشاء!

أمّا أنا فعليّ أن أواسي نفسي قبل أن أصبح مديرا في هذه المؤسسة، لا أعرف على من أكون المدير ولا أحد معي، مثلما لاأفهم سبب صداعي، يحقّ لي في هذه الحالة أن أواسي نفسي قبل أن أتلقّى الرسالة الوحيدة التي تصل إليّ، رسالة التقاعد.

أحبّ أن أستقبل رسالة ما

من أيّ كان

فيها جانب واحد

فرح وحده

أوحزن وحده..

عصر اليوم نفسه، تناولت حفنة من الأسبرين خفَّفَتْ قليلا من موجة صداع، وخرجت إلى مدينة قريبة من مدينتنا. ثمانية أميال.. العدد لايهم. جلست في إحدى المقاهي، أمامي بضعة أوراق.

أتأمّل ماذا أكتب.

هل أبدؤ رسالتي بمقدمة تقليدية..

تحيتي واحترامي. شوقي وسلامي..

هل أكتب على المظروف شكرا لموزّع البريد..

رحت أتناول كأس الشاي على مهلٍ وأنتقي الكلمات:

السد المحترم..

لا أبدا لتكن من صديق أو قريب أفضل.. (السيد) لاتدلّ على علاقة حميمة.

صديقي العزيز..

تلقيت رسالتك باهتمام بالغ، وكم أزعجتني فيها قضيّة الصداع التي ترهقك، وسعدت كثيرا حين قرأت أن أكثر من طبيب أكّد لك أن لا شئ.. ضحكت كثيرا إذ قرأت أن الوهم يتقمّص الصداع والبشر الحيوان هل الوهم أكثر نقاء من الإنسان.. لا أخفيك أنّي ضحكت من اكتشافك الجديد.. لا بأس عليك ياصديقي العزيز.. اللاشئ في كثير من الأحيان يكون مزعجا ومؤلما، والطبّ في هذه الحالة لاينفع، اودّ أن ألفت نظرك بمثال غير معقّد أرأيت معظم الفنانات يقمن بعمليات تجميل إنهنّ يرغبن أن يهمِّشنَ الماضي يرجعن للوراء حتّى وإن لم يكن الماضي جميلا.. أرايت.. الصداع الذي يغزو رأسك لا علاج له إلّا إذا هربت إلى المستقبل.. اثقب الآتي لتعرف كلّ شئ

لقد قضيت سنوات تحمل أخبارا لاتعرفها

مع ذلك شكّ فيك الطبيب

لعلّ حكمي يبدو قاسيا لكن لا حلّ سواه

لأنّي لكي أكون منصفا

تتبعت الحقيقة وحدها

فوجدت

أنّك ولدت سعيدا فرح بك أبوك وأمّك وأختك التي تكبرك بثماني سنوات

ثمّ فقدت أبويك في حادث وأنت في الثالثة عشرة من عمرك

فعشت مع أختك وزوجها

بعدها

عملت في دائرة البريد فعشت وحدك

عليك ياصديقي ألّا تكتفي بالحقيقة وحدها ولا تعود إلى الماضي على وفق طريقة ممثلات السينما

ينقصك شئ من الخيال

فارحل إليه

مع أطيب تحياتي

المخلص

وضعت الرسالة في مظروف ثمّ كتبت عنواني، وقصدت بكلّ ثقة مكتب البريد، أودعتها هناك وعدت إلى مدينتي.

كنت على ثقة أنها أول رسالة تصل إليّ في حياتي بغض النظر عن الرسالة التي كانت معنونة إلى من يهمه الأمر.. ساعي البريد لا يحتاج إلى رسائل من آخرين، أما أنا فبأمس الحاجة إلى رسالة أجد فيها نصيحة تدلّني على علاج رأسي. انتظرت صباح اليوم التالي وصول الرسائل والرزم، كنت أحدّق في أيّ عنوان، وأظنّ صديقي الذي كتب العنوان بدقة ووضوح. على يقين من أنّه وضعها في البريد السريع.. دفع أجرا مضاعفا. لم يكن هناك من اضراب في بريد أيّة مدينة ولا تعطّل في العمل.

مع ذلك لم تصل الرسالة.

أحتاج لبعض الصبر.

وفي اليوم التالي حدث لي ماحدث في اليوم الأول.

ومر يوم وآخر.

لم أستطع صبرا، فتوجهت إلى السيد المدير الذي بدت علامات القنوط على وجهه.

سألته:

يمكن ألّا أضايقك بسؤال آخر.

عليك أن تقول كلّ ماعندك قبل أن أغادر.

قلت بفضول الملهوف:

أتتوقّع أن تأتيك رسائل بعد أن تغادر إلى منزلك؟

فأطلق هذه المرّة ضحكة فيها بعض المرارة والسّخرية:

- بالتأكيد سوف تصل إليّ رسالة من مؤسسة المدافن تخبرني كيف أشتري قبرا وفي أيّ مكان وبأيّ سعر ورسالة من نادي المتقاعدين فيها هويتي الجديدة والامتيازات التي تحقّ لي (التفت إليّ وبسمة باهتة على شفتيه) أريت كيف أصبحت عرّافا أعرف الأخبار عن بعد..

قلت ببعض المواساة:

-  لك طول العمر والصحّة والسلامة

وكنت أنتظره لأحلّ محلّه وأبحر باتجاه آخر أتحرّر به من صداع رأسي.، فأنا الساعي الوحيد الذي استولى على رسالة ليست له وليست لغيره، ولعلّه تأنيب الضمير.

(3)

ثانية ذو العاهات الثلاث

لكنّي لا أنطق عن نفسي

بل

عن خرافات كثيرة كنت قد نسيتها

هجرت العمل بعد أن غادر المدير، المكتب بقي قائما أما الناس فيظنوني حللت محله. لا أحد يرغب في الكتابة على الورق، وأرفض أن أحمل أخبارا لأ أعرفها، القانون نفسه يعدّني خليفة المدير، كنت أترك العمل

 وأغلق باب البناية. فلا يثير غيابي أيّة مشكلة، أرى مركبات الشركات تجوب الشارع في أي وقت توصل الرزم إلى أصحابها.

رسالتي التي كتبتها بيدي لم تصل.

ولا أظنّ أنّ هناك رسالة غيرها إليّ في الطريق

وقد أصبح الصداع يعشعش برأسي

لايفارقني قطّ

مطارقه تكاد تهشّم جمجمتي..

لا طبيب بذهني

حثثت خطاي إلى المجهول أفكّر بطريقة أتحرر بها من صداع يشطر رأسي

الخرافة نفسها

 بل ما أراه رأيته من قبل عن بعدٍ

 لمحته يدعوني

الشيخ الكبير تاريخ المدينة الأسطوري. هكذا سمّيناه، في الزقاق القديم اعتاد أن يفرش حصيرة على الأرض، يظل صامتا يرتّل بشئ ما، يتلو.. ويتلو. ولا يقف عن التلاوة إلاّ أن يقترب منه أحد ليجلس جنبه.. وحين يأتي من يجلس عنده يظلّ يثرثر على مسامعه بحكايات غريبة. منذ أن فتح الناس عيونهم على الدنيا يعرفونه، أما أنا فقد عرفته قبل عشر سنوات يوم تركت بيت أختي والتحقت بوظيفتي، جلست أمامه فحدثني ذات يوم عن البرازيل وبريطانيا، كان يحدّث عن كلّ الدول: الهند.. فيتنام. اليابان.. روسيا، لم تبق بقعة لم يتحدّث عنها من يسمعه يظنه بحارا رست سفينته في موانئ العالم التي لا تحصى.

لكنّه لم يغادر مكانه قط.

لا أحد يجرؤ على أن يصدِّقه

ولا أحد يكذِّبه

عندما انحرفت من زاوية الرصيف أبصرت ذا العاهات الثلاث يجلس جنبه، ينصت والشيخ المهاجر في كلّ الدنيا يقصّ عليه. لم أسمع حديثه، وعندما اقترب سلمت عليه. وبادرته بالسؤال من دون مقدمات:

- ياسيدي الشيخ أتيتك لا أحمل لك أي شئ..

- دع أخبارك للآخرين فلست بحاجة لها.

كان دو العاهات الثبلاث يعبث بالحصير ويتمتم بحشرجته المعهودة:

- ياشيخ هل تحدث من لا يسمع ولايبصر أو يرى؟

فقال ببرم وضيق:

هذا أمر لايخصّك فلا تتدخّل فيما لا بعنيك.

- بل جئتك ياسيدي طالبا بركتك (وأضفت)إني أعترف بخطأي كوني لم أتذكرك إلّا الآن.

- أنت لم تتذكرني لكنّهم ذكروك بي.

ملت برقبتي أمامه وتضرّعت:

- متى يغادر رأسي الصداع؟

مدّ يده إلى هامتي وقال:

- يذهب في الحال بشرط واحد لا يحقّ لك أن تسأل عنه.

عندئذ همهم ذو العاهات، فخفضت بصري، وأجبت قبل أن تنزل يد الشيخ عن هامتي:

- موافق على أيّ شرط كان.

عاد الرجل إلى صمته، والتفت فلم أجد ذا العاهات، كان قد غادر مابين التفاتتي إليه والتفاتتي نحو الأرض وأنا أطأطئ رأسي لأقبل بالشرط الذي لا أعرفه مقابل أن يزول صداع رأسي.

(4)

رأسي المعجزة

نهضت من النوم، وقد شعرت بثقل خفيف في رأسي.

مزاجي رائق وليس هناك من صداع..

ولم أعد بحاجة إلى أسراب حبوب البانوديل والأسبرين.

فرح

نشاط

رغبة

ودماء جديدة تسري في عروقي.

هناك فقط شئ ما في رأسي.. شئ لايؤذيني، ظننته من بقايا المرض السابق الذي تحدّى الطبّ وهُزم بمسحة من يد وليّ قديم يعيش بعيدا عن ضجّة الشّارع، ولا يفهم كيف يستخدم المخترعات الحديثة غير أنّه مع ذلك يتحدّث عن مدن أخرى لم يرها من قبل كأنّه عاش فيها وعاشر أهلها من دون أن يغادر مكانه.

في اليوم الذي هزمت الصداع بعودتي إلى الخرافة أدركت أن العلم لايمكن أن يسكن عقلي وحده وإلّا لتآكلتُ من الوجع، ولم أعد - إذ جلست على كرسيّ الإدارة- أفكّر برسالة تأتيني عن شراء مثوى في مقبرة، أو يهمّني ضياع رسالة كتبتها في حالة مرضي وهي الرسالة الوحيدة التي أعرف مافيها. لقد أدركت حقيقة جديدة هي أن رسالة من دائرة التقاعد سوف تأتيني بعد عقدين.

ترتيب آخر

وضع ثان

نهضت من مكاني.. قصدت، دورة المياة وحين لمحت وجهي في المرآة اكتشفت شيئا غريبا، بعض احمرار في جبيني، وقليل من الورم.

لا أراه ورما

لكنّ رأسي كبر قليلا

زاد حجما عن المألوف.

هل يعقل أن الصداع كان يقضم رأسي، وما أراه من تغيرواضح في حجمه يوحي أن يكون ردّة فعل لتآكل عانيت منه..

بعض القلق

ربما الريبة وليس الخوف..

ولا رغبة فيّ لزيارة أيّ طبيب

أغلقت باب البناية، وهرعت مشغوفا باكتشافي الجديد عن رأسي. كانت معي الدراجة الفارغة من أيّة رسالة كأنّي أودّ أن أظهر للعالم أنّي مازلت حيّا مادامت الدراجة ذات الحقيبة معي ولا أحد يعرف إن كانت فارغة أم مليئة بالرسائل. لمحت في طريقي ذا العاهات ينتظر عند إشارة المرور، واصلت سيري حتّى ارتقيت إلى مكان الشيخ. انحيت أمامه، قلت مشفوعا بالدهشة والمفاجأة:

- هل ترى يا سيدنا الشيخ

فابتسم بحنان مفرط وقال:

- هذا هو الشرط.

- أن يتغيّر رأسي؟!

- نعم كنت تجهل ما في أحمال تحملها تحمل فيراودك صداع يقضم جمجمتك أما الآن فترى كلّما عرفت شيئا جديدا كبر رأسك!

- يا مولانا الشيخ!

- لِم َتتعجّب!

- إذن ممكن أن أصحو فأجد رأسي كبيرا بحجم بطّيخة كبيرة أو قرعة ضخمة.

وسكتّ ألهث من الفزع، فواصل بدلا عنّي:

- أو بحجم أكبر رأسك يظلّ ينمو وينمو وستحمله رجلاك من دون أن تتعبا (سكت بينما بقيت صامتاً مأخوذا بالدهشة) لا تعجب من رأسك الذي يكبر كلَّما عرفت معلومة جديدة أنت شرطت على نفسك.

- وماذا تريدني أن أعرف؟

فابتسم وقال من دون أن يلتفت لي:

- ستعرف الأصيل من الغريب والقاتل والمقتول ولست بحاجة إلى أن تذيع سرّك فرأسك الكبير يكشف عنك.

عندئذ سمعت صوتا ًأشبه بالزئير فالتفت إلى الخلف، فوقع بصري على ذي العاهات الذي واصل حشرجته وهو يسير بخطىً بطيئةٍ باتجاه ٍمستقيم ٍكَالرّجلِ الآليِّ حتّى دنا من الشيخ وجلس جنبه عندئذ التفتَ إليه وقال:

- جاء دورك الآن

والتفت نحوي قائلا:

- اغرب عن وجهي فقد تحقق شرطي معك.

كنت بعد لقائي الشيخ أواجه مشكلة حقيقية

أجد رأسي يتضخّم كلما عرفت شيئا جديدا

قلق

من دون صداع يصبح أكبر

حيرة:

العالم كلّ دقيقة يمنحنا معرفةً جديدة.. إلى أيّ حدٍّ يصبح حجم رأسي؟

هل خدعني الشيخ أم خدعت نفسي؟

ومثلما كان الصداع خفيّا لايثير الناس من حولي أصبجت مثاراً للفضول

السيد مدير البريد برأس غير طبيعي.

هل هو مرض حميد؟

الكل يسألون ويجيبون أنفسهم.

من يعرفم ومن لا يعرفك.. الذين حملت إليهم البهجة والحزن. بعضه يشفق ومن لا يبالي.

هذه المرة أعرضت عن الأطباء تماما، لم أذهب إلى عملي، ثمّ ثارت ضجة من حولي لاسيما أن هناك ظاهرة غريبة بدأت تثور مع كبر رأسي ونموه المفرط.

وأنا أعلم وأعلم ورأسي يكبر

لقد بدأت هذه الأيام حملة اغتيالات في البلد.

فوضى في الليالي ثمّ امتدت جذورها إلى وضح النهار

وأنا أعرف عمّا يجري.. عن كلّ صغيرة وكبيرة ماعدا محاولات الاغتيالات تلك

عرفت..

عندئذ لفتٌّ نظر الجميع لاسيما أن الاغتيالات وبعض أعمال العنف زادت عما كانت عليه في السابق. يوم كنت ساعي بريد وراودني الصداع حدثت أعمال مريبة. حوادث متفرقة على فترات متباعدة، ويوم أصبحت مديرا واختفى الصداع بدأ رأسي يكبر، وازدادت تلك الحوادث.

أروح أفتتح المكتب

يائس من وصول أيّة رسالة. أتّصل بالدائرة العليا، فيجيبني الصوت الآلي، لا رسائل، مرّة واحدة أجابني صوت حيّ بالتفصيل:ربّما نستغني عن البريد ونضمّ العاملين إلى رقابة الإيميلات.

يشدني الحنين للدراجة، فأخرج بها أوهم الناس أنّي أمارس عملي

أذهب إلى البيت أفكر برأسي ومدى المساحة التي سوف يحتلها

وفيي صباح اليوم التالي أسمع أن في أحد البيوت قتيلا أو على الرصيف

أعرف الحوادث قبل وقوعها

قبل أن تسري بين الناس وفي وسائل التواصل الاجتماعي

كلّ شئ أعرفه

نزول البورصات وصعودها

الجديد في العلوم والابتكارات

مايمكن أن يكون

كأن نومي يجتذب أحلاما تتحق في النهار

يمكن أن أعرف كلّ شئ وأتوقع حوادث القتل لكني لا أعرف من القاتل

أو

من هم القتلة

حالة غريبة مثل حالتي

في البدء ظنّوا رأسي انتفخ ورما..

تحاشوا الاقتراب منّي

كلّ يوم يرونه يكبر

والحوادث لا تتوقف

هناك لغط.. حول رأسي، واهتديت إلى أن جميع القتلى من أفراد الحكومة ذوي الرتب العالية ومعاونيهم الغرباء.

في هذه الأثناء استدعاني كبير البلدية. طلب مني الحضور إلى مكتبه بعد أن اعتاد الناس على رأسي وراحوا يقتربون مني.

بعضهم وضع يده على هامتي.

آخرون وجدوني علامة شؤم.

ومجموعة رأتني علامة فأل

من هؤلاء المتفائلين برأسي الكبير، المجلس البلديّ ورئيسه. الذي ابتسم بوجهي وقال:

- نحن ندرك تماما وقائع الرعب والجرائم التي تحدث وأثرها في الناس ومادامت الرسائل قد انقطعت فيمكنك أن تسّري عن الناس لينسوا المأساة.

وأكّد نائبه:

- في الوقت نفسه يمكن أن تكون معلما سياحيا من معالم مدينتا.

قال المسؤول المالي:

- قد نفكر بنسبة من الربح لك.

سألت عن طيبة وقد استحسنت الفكرة:

- أين أقف؟

- ستكون في مركز البلد حيث تجري كثير من الفعاليات أيام العطل والأعياد.

لا أخفي أني رغبت في العرض ومردوده، هناك جانب مادي في حياتي ربّما أتجاهله ولا أنكره، لا أرى نفسي مثل قرد في حديقة الحيوانات داخل قفص يأكل الموز، وينطّ فيبهر الزائرين. كنت أقف في ساحة مفتوحة تحت حراسة، ورأسي يكبر أمام الناظرين

يظلّ يكبر

ويكبر

والناس من مختلف بقاع الدنيا يأتون ليروني،

ولا حديث لأحد إلا رأسي الذي يكبر

وفي المساء قبل أن يحلّ الظلام وتبدأ الاغتيالات، وتنعدم حركة الشارع، أسارع شأني شأن الكثيرين في حثّ الخطى إلى منزلي.

في ذلك المساء المضطرب عدت إلى البيت وفي رأسي تتلاعب أفكار جديدة، ماذا لو قابلت السيد كبير البلدية وشرحت له وضعي الجديد والتعب الذي أعانيه بوقفتي طول النهار. لم أشعر ببعض الخجل أو يراودني شعور بالمهانة من نظرات المتطفلين والسيّاح. فكرت بامتيازات أكثر، ومكاسب تريحني. يمكن أن أجلس، وأتمشى قليلا داخل الرقعة المخصصة لي وسط المدينة، ويمكن أن أطلب يوما أرتاح فيه كلّ أسبوع.

هكذا فكرت

وعندما دخلت الشارع، وقع بصري عن بعد على ذي العاهات الثلاث، راح يتلفت، ليتأكّد من خلوّ الطّريق.

شككت

وأخذتني دهشة شديدة

فنسيت نفسي

رحت أتبعه عن بعد. هو الوحيد الذي لا أعرف عنه شيئا. كان يمشي في الظلمة بخطوات سريعة. لم يكن إنسانا آليا.. مع ذلك حثثت خطاي خلفه حتى رأيته يقف أمام بيت كبير المدينة يتلفّت ويعود إلى مشيته الأولى.، وقف أمام البوابة وهو يفحّ فحيحه المألوف، وسمعت الحارس يقول:تعال هل تريد أن تموت ماالذي أخرجك في هذا الوقت ليتك تسمعني فتعرف مايدور في هذا الليل..

فجأة

تشبت بالحارس كنسرٍ أنشب مخالبه ببطن طائرٍ وديع.. ثمّ استلّ شيئاً ما حاداً من جيبه غرزه في ظهره وراح يسحل الرجل من قدميه إلى خلف البوابة.. بقيت متسمرا في مكاني مثل الصنم وبعد دقائق خرج ذو العاهات من البيت وآلته الحادّة تقطر دما

لا أنكر

أني رأيت كلّ شئ

فإذا برأسي يكبر

عرفت أن ذا العاهات الثلاث قتل كبير المدينة وحارسه. لقد مرّ بي وهو يفح، وقرأت على وجهه ابتسامة تشفٍّ وزهوٍ، وأسرع كالبرق..

من يصدّق أن من لايسمع ولايبصر ولايتكلم..

وعندما وصلت إلى المنزل، وأنا أتخبط بالظلام، أدرت المفتاح في القفل، ودفعت الباب.. حاولت أن أدخل لكنّ المفاجأة الأخرى أدخلتني في رعب حقيقيّ..

تساءلت ماذا لو كبر رأسي وأنا داخل المنزل من المحتمل أن يصبح بحجم لايطاق!

كيف أحرج إذن؟

سوف يسفر الصبح فيعرف الناس وذوو الشأن أني بقيت الليلة كلها خارج البيت.. هناك احتمالات كثيرة.. سوف أتهم ببالجريمة الجديدة وكلّ الجرائم من قبل..

ولا يصدقني أحد حين ألقي التهمة الأخيرة وتهم كثيرة قبلها على صاحب العاهات الثلاث!

لا أحد يصدّق

ولا أرغب في أسوأ الحالات أن أكون مخبرا لذوي الشأن

كانت آخر فرصة متاحة لي أن أهرب برأسي الكبير الذي فاق الحد إلى الصحراء وأظلّ أعترف أمام الفضاء الواسع المفتوح لعلّ رأسي الكبير يعود إلى حالته الأولى وإلا ستظلّ التهمة تلاحقني إلى الأبد.

***

قصة: قصي الشيخ عسكر

بغدادُ الآنَ

مطرٌ غزيرْ

و{حالوبٌ} أَشقر

ورياحٌ وزمهريرْ

و"ع الحواجبْ

يلعبْ الشَعْر الحريرْ"*

وأنا …

وبغدادُ المظلومةْ

وحبيبةُ روحي المجنونةْ

تحتَ الأمطارِ نسيرْ

وبمظلاتِ العشقِ البغداديِّ

الفاتنِ

سوفَ نطيـــــــــــــــرْ

*

وبغدادُ الآنَ

شوارعُ غارقةٌ

وقلوبٌ عاشقةٌ

تمشي تحتَ دموعِ اللهِ

ولا تخشى الأَطيانَ

ولا الطوفانَ

ولا أَيَّ بروقٍ وأَعاصيرْ

*

إلٰهي …

ياربَّ المطرِ الطُهْري

إغْسِلْ بغدادَ

من الأدرانِ

والأَطيانِ

والديدانِ

الـ تملأُ أَفئدةَ البشرِ الجوفِ

والحمقى والقتلَةْ

واللصوصٍ السَفِلةْ

وموتى الضمائرْ

وكلِّ الذينَ بلا أَحاسيسَ

ولا أرواحٍ صافيةٍ

وبلا دمٍ

ولا رؤىً

وحيثُ لا أَحدٌ يُطيقُ

رؤيةَ وجوهِهم الفاقعةْ

من هولِ السُمِّ الأَصفرِ

الناضحِ من أَلسنتِهمْ

وقلوبِهم المسعورةْ

وعيونِهم النابحةِ بالمكائدِ

والاكاذيبِ والأَقنعةِ

وجَمَراتِ الزمنِ الشرّيرْ

*

وها بغدادُ الليلةَ

يغسلُها مطرُ الرَبِّ

وندى الحُبِّ

ومياهِ الخلقِ الأُولى

وها بغدادُ الآنَ

ترقصُ حافيةً معَنا

أَنا والمعشوقةُ

والشعراءُ المسحورونْ

والعشّاقُ الصوفيّونْ

ثُمَّ مع الطيرِ

وعلى قلبِ الريح

نحنُ وبغدادُ الوردةُ

سوفَ نطيـــــــــــــرْ

***

سعد جاسم

أوتاوا في 25- 3 - 2024

........................................

* من أُغنية عراقية للفنان فاضل عوّاد

 

في كل وقتٍ يحط الحمامْ

أراه يفتش

عن خله أو بقايا طعامْ..

وعند تخوم السواحل

يمرح الحزن

في عيون النوارس

تشتكي من ضباب القلوب

وعمق الندوب

ومسخ الكلام..

**

وعند قدوم المراكب والسفن

بأشرعة

تئن أنين الصواري

تثير الشجن..

وتسلب مني عيوني المنام..!

**

فخذ ما شئت

أيها الطائر بين الغيوم

وفوق الصخور

ودعني أفتش عن مرتعٍ في الغمامْ..

**

يراودني العيش عندَ السواحلِ

أدفن وجهي بين القوافي

لتنعش روحي بمعنى السلام..

وصوت النوارس

وصمت الكلام..

**

أجدني،

أضاجع هذا المساء

بهمس الثواني..

أرى العاديات يزرن

جنون الغواني..

فيبزغ فجر هذا الصباحْ..

يُعطرُ قِبْلَةَ الوجد

وينثر عطرها المستباحْ..

**

تمر سريعاً أمامي

حزمة من ضياء

ونفحة عطر الياسمين

والشبابيك

عند المساءْ..

تشتهي

نسمة عابرة،

وخيال

تشتهيها القوافي إشتهاءْ..

**

ليس هذا نثيث الرؤى

في عيون المها

تتعاطى

رقصة القهر

والتعاسات في جوفها لا تنامْ..

**

يصطفي الغبش الملعون

فوق الربى

يترنح

يعلن ترحابه

قبيل نزيز السخامْ..!

**

عندها،

تخطت هواجس

هذا الزمان المريع

وتاهت فلول القطيع

تصول بعري الرؤوس السكارى..

وترغي

ولا تستفيق

على صرخات الجياع الحيارى..

وتذري بذاءاتها

على طول تلك التخوم..

من يداوي الكلوم..؟

من يراعي نجمة الصبح تبكي

صغار النجومْ..؟

**

يسود السكوت

سحاب الوجوم..

يجول بأقدامه العاثرات

دروب الجحود

دروب السجود

ولا من يداري رضيع الفطامْ..

**

فكم حاصرته الكآبة

في مشوارها

وكم لآزمته المهابة

حتى يفك القيودْ..

**

الطريق إلى مدخل السور

رهن النهارات

يضيء بصمت الدروب

وصخب الحروب

وعبر المساءات

يموت الغروبْ..

فكيف يكف العزاء

ويمنع نيرانه

تحت وطئ الهشيم..؟

وتلك الرياح على حالها

تصفر

عبر الغصون اليابسات

لتلهب من تحتها

رغبة الصحو

فتغدو شواغلها عاصفات

بِهَمِ المتاع الحرامْ..

**

تموت النهارات

من فرط هذا العبوسْ..

وتلك النفوس التي شربت

ذلها بحرب البسوسْ..

**

من يداري سلام النفوس..؟

من يعيد الرؤوس إلى أعناقها

في مواخير المدام..؟

هل يمسح الليل أهدابه

كي يجاري الليالي القفار..؟

مستنيرًا بأحلامه

وبُعْد المسافات الطوال

يسترق السمع

كلما حاورته العصافير

والناس من حوله

يمتطون سويعات هذا النهار..

ويسكر بعضهم

دون خمرٍ

بل الحلم يبني الطريق

ولا يشتكي من سكاكينه

فهذا يدور بترحاله

وذاك يئن أنين الجريح..

" وذاك يدق بناقوسه

وذاك بمأذنة يصيح " ..

وبينهما يمرح الموت

سكرانًا

يحث الخطى

ويَعِدُ السهامْ..!

**

ولو حاول الموت

أن يستظيف النوارس

لغداء السواحل

مهرجانًا للسنانير

وللغربان

تقفل الحارات أبوابها

لم تعد تستقبل

الشمس

والهمس

وصوت العصافير

والريح يملؤها العفن

تجتاحها رغبة في البكاء..

على حفل ذاك الشواء

تنهض من نومها

تتحاشى عواء الذئابْ

في هزيع الظلام..

**

أراها تحدق في هوة

ليس فيها قرار

إلى أين يفضي الفرار..؟

فتلك إيقونتي

أرى فيها شهوة الأنتظار

لم تكن قد فارقت

شفتيها قهوة الصبح

حتى تلاشى الصمت في نغم الحوار..

**

من يدين لتلك

الرؤوس الفارغات

يرونها

محشوة بالقش

يساقط منها

في نوبة الصحوٍ

يحار الغضبْ..

فيا للعجبْ..؟

كيف تبقى الرؤوس

معبئة بالقش

تطوي حالها في نذور

الماكرين

القانطين

ومنهم من تولى ذرى الأنتقامْ..

أهو الغمام..؟

أم الحرام

أم المدام

في نوبةٍ الوهم صولاتها

فتاوى هذا الجذامْ..؟

**

يمضغون الوقت عند السواحل

في نوادي السجالاتِ

في مقاهي الفراغاتِ

حالهم

كالنرد

لا يبرح الرقمٍ

ولا يعتليه القدر

دعوه يرنو طويلاً

إلى ساحل البحر

يشكو عناء السهر..

لكي يبقى عصيًا

يقاوم محنةً لا تنامْ..

**

تقول له:

أوزعني أيها القلبُ نفحًا

لكي أبقى في عيونك أصلي..

**

آه من صمتها الراسخ

حين يدب

دبيب الخطايا

ويسأل .. أين نحن

من نهاراتنا العابقات

بشذى الأقحوان

وعبق النذور

فهل أقتفي ظلها

كلما لآح لي شبحًا في المنامْ..؟

**

أفتح في الغبش نافذتي

فيندلق الصمت سيلاً

والهواء الرطب

يحمل نسمة البحر

والفجر يمضي

ليسجد ركعتين

بينهما مرتعين

هما الدفء

لا غير في عالم الأشتهاء

سوى الصمت

وهذا نذير كلامْ..!!

***

د. جودت العاني

22- 01 - 2018

 

شـــــوق

أشتــــــــــاقُ فيخذلني صبري

وأسيــــــرُ إليــــــكِ ولا أدري

*

سيرَ المقرورِ إلـــى نـــــــــارٍ

سيــرَ الظمـــــآنِ إلـــــى نهـــرِ

*

قولي مـــــــا سرّكِ يا امرأةَ

هــــل أبرأُ مـــن هــذا السحْــرِ

*

يـــا نشوةَ نشـــواتي الكبرى

هـــل صحْـوٌ مــن بعــدِ السكرِ

*

يا أعذبَ ما غنيّتُ ويــــــــا

أحلى ما أشدو مـن شعـــــــرِ

*

أشواقـــي مثلُ فراشـــــاتٍ

لمْ تبرحْ تحلمُ بالزهْــــــــــــرِ

*

أتهرّبُ منـــــكِ علانيـــــــة ً

وأذوبُ هيــــــاما ً فــي السـرّ

*

فأنا فـــــــي حبّكِ منشطـــــرٌ

نصفيـنِ.. أعيدي لــي شطري

*

حاولـــــــتُ بأنْ أنســى فإذا

بخيـــالكِ يخطرُ فـي فكـــري

*

يغرينــــــي يملؤنـــي شغفا ً

ويؤجّجُ نــــــارا ً فـي صدْري

*

فأحسُّ بأنّكِ حاضـــــــــرةٌ

أنفاسكِ تلهثُ فــــي نحْـــري

*

والشعْــــرُ الأشقـرُ مُنســدلٌ

كسنابــــــلِ قمحٍ فـي الفجــــر

*

ترميهِ الريحُ على وجهــي

فتفـوحُ قواريـــرُ العطــــــــرِ

**

أهواكِ وزورقِ أحلامــــي

يستغــربُ مثلي من امـــــري

*

والريحُ تجنّ ومن حولــــي

تتلاطمُ أمــــــواجُ البحْـــــــــرِ

*

قلِــقٌ تتسـارعُ فــي صدري

دقّــــــاتُ القلبِ مــــن الذعْــرِ

*

فأنا لم أبحــرْ سيّـــــــــدتي

منْ قبلُ وأجهـــلُ مــــا يجري

*

سأعــــودُ وأنزلُ صاريتي

من حيثُ بدأتُ الـــى البــــــــرّ

*

وسأكتبُ بيتا ً مــــن شعري

وسأنقشــــــهُ فــوقَ الصخْــــرِ

*

كلّ الأحــــــلامِ إلى أجــــــلٍ

وتمـوتُ جميعــا ً فـــــي الفجْــرِ

***

خـــــــداع

لاشـئ سوى عيـــــنٍ تبكـــي

ويقيــــــن ٍ يُذبَــــــحُ بالشـــكِّ

*

ومشاعـــرصادقـــةٍ حيــرى

تتألــــمُ مِنْ وَخْــــزِ الإفــــكِ

*

وَجعـي قدْ زادَ على صبري

ماذا سأدوّنُ أوْ أحكــــــــــي

*

يا مــنْ فتنتنــــي طلعتهـــــا

وهــــواها أمسى كالنُسْـــــكِ

*

يا مَنْ في قلبـــــي معبدهـــا

بالطِيبِ تعطّرَ والمسْــــــــكِ

*

أخشــــى أنْ أصبحَ مُتّهمـــاً

بهواكِ وأوصَـــفُ بالشـرْكِ

*

قدْ كنتِ ملاكــا ً في نظـري

فرويتُ حكــــــاياتٍ عنــــكِ

*

أحسسـتُ بأنّــــكِ مملكتـــــي

بالحــبّ سمـــــا فيهــا مُلكـي

*

فإذا بالحــــــالِ قد انقلبـــــــتْ

واستُبدِلَ وردٌ بالشــــــــــوكِ

*

مـــا أنتِ ملاكــي اليومَ كمـا

بالأمــسِ ولســتُ أنــــا منكِ

*

تمثيــــــلٌ ، أدوارٌ شتّـــــــــى

شيــــــطانٌ أنـــــتِ بلا شـــكِّ

***

فــــــــراق

لا تغضبــي وتثوري مثلَ زوبعـــــةِ

فلنفتـــــــرِقْ بســـلامٍ يــا معذّبتـــي

*

سيـفٌ لســــانكِ كمْ أخفيتُ فـي كبدي

مِنْ طعْنـــــةٍ منْ كلامٍ منهُ مُنْفلـــتِ

*

كلُّ الدروبِ أراهـــا الآنَ موصـــــدة ً

فلا تسبّـــي فليسَ السبُّ من لغتــي

*

جرّبتُ قبلكِ طيْشَ البحــرِ مِنْ زمـــنٍ

صارعــــتُ أمواجهُ شوقا ً لأمنيتي

*

لكنّــهُ زادَ طيشـــــا ً والريــاحُ جرتْ

حولي بغيـرِ الذي تهـــواهُ أشرعتي

*

فعفتُـــهُ وسلكتُ البرَّ أهبــــط ُمِـــــنْ

عالـــي الجبــالِ الــى أعماقِ أوديةِ

*

هواكِ ذنــْبٌ أراهُ غيـــرَ مُغْتفـــــــــرٍ

ولا أظنُّ بأنْ يُمْحـــــى بأدعيتـــــي

*

هوَ الفراقُ ومـــــا غيـــرُ الفراقِ بــهِ

غـــدا ً أكفّـــرُ عنْ ذنبي ومعصيتي

*

غدا ً سأهجـــــرُ هذي الدار منطلقـا ً

كالطيـــرِ في سفـرٍ مِنْ غيرِ أمتعــة ِ

*

فلتأخذي كلَّ مــا فيها ولا تَدعـــــي

شيئا ً نفيســــا ً بما فـي ذاكَ مكتبتي

*

إنّي اشتريتُ خلاصي وهْوَ أثمنُ مِنْ

هـــذا المتــاع الذي يُغــريكِ سيّدتي

*

غـــــدا ً أكونُ طليقــــــا ً لا يرافقني

إلا الجوازُ وأشعــــــاري ومحفظتـي

***

جميل حسين الساعدي

كانت توزع المرايا على جميع جدران المنزل وفي كل زاوية من زواياه (تجر الحسرات)، وهي تنظر الى وجهها وتتحسسه بيدها كأعمى يتهجس بعصاه الطريق. تتوقف يدها فجأة حين تقترب وتلامس شفتها العليا وانفها الافطس.

كانت وصية جدهم الاكبر، هو عدم الزواج من الاغراب مهما كلف الأمر ومن يخالف ذلك يطرد ويحرم من الميراث.

لذلك حرص الجميع على أن يحترم وصيته، ويعمل بها وكأنه حاضر بينهم. لم يخرج الارث والمال خارج العائلة بل تضاعف كما و تضاعفت أعدادهم ايضا وازدادت كجحافل من النمل. الجميع سار على خطا الجد الأكبر وامتهن (الدلالية) وهي مهنة مربحة في بيع وشراء العقارات، وأخذوا يتبارون بمن يملك عقارا يفوق به الاخر، وكان عدوى قد سرت بينهم. وتم شراء جميع المنازل المجاورة لمنازلهم، وتعدى ذلك بأن يمتلكوا الشارع بطوله ثم الحي بأكمله، حتى تم أطلاق عليه تسمية حي (الارانب) تسمية غريبة بعد ان تعددت الزيجات داخل العائلة، تسبب بشذوذ في شكلهم وتغيره مع مرور الزمن وكأنهم من سلالة مختلفة، وصارت جميع نسائهم تلد أطفالا بشفاه أرنبيه، كانوا يتفاخرون بالمال والشكل الذي تميزوا به الا ان ذلك ترك اثرا كبيرا في نفس (خلود) وهي واحدة من سلالة (حي الارانب). كانت تشعر بالاختلال في شكلها وخصوصا حين تكون خارج حيها، بدأت تفقد شعور اللامبالاة وهي تطالع وجهها في كل مرة بالمرآة والشق الطولي يقسم شفتها العليا بل وتعدى ذلك بان يحدث شرخا كبيرا سرى الى كامل روحها وجسدها، كل كنوز الارض لم تخفف عنها هذا الشعور. حاولت الهروب من النظر الى وجهها بالمرأة لكن دون جدوى، ارتفع منسوب الكأبة لديها وصار التفكير يؤرق نومها (الشجاعة ليس أن يرضى عليك الاخرون بل أن تتخطاها وتجد نفسك). استمدت كل شيء من قرارة نفسها، كتعبير عن رباطة الجأش والثقة بالنفس. معللة ذلك محدثة نفسها: بأن نتائجه حتما ستنهي كل معاناتي وتقربني ممن أحب و كشف مشاعري نحوه. قررت القيام بإجراء عملية تجميل وردم ذلك الشق والى الأبد ومضت في قرارها دون النظر لمطبات الطريق الذي سارت فيه وتجهل وعورته، تخلصت من الشق الأرنبي اللعين بعد اجراء العملية والتي تكللت بالنجاح، أصبحت تتمتع بشفاه قرمزية كحبه كرز أضافت لشكلها جمال جعلها تتهادى ولأول مرة في مشيها كأنثى طاووس تتباهى بحسنها، أثار ذلك سخط جميع النساء في حيها وحتى بعضا من الصديقات المقربات اليها، أصبحن يرمقنها بنظرات تنم عن غيرة قاتلة بثت سمومها وفحيحها نحوها !! بدأت أصوات ضحكاتهن الساخرة تتعالى، بسبب شكلها الجديد الذي كان يمثل انتماءها لحي الارانب وصارت حديث الساعة، وما أشيع وتناقلته الألسن بأنها تخطط للهرب مع شاب غريب من خارج حيها، وقعت في حبه وقد تكون تحمل داخل أحشائها طفلا منه. وما أكد ذلك رفضها لكل من تقدم لخطبتها، تلك الإشاعات أيقظت داخلها جسامه الموقف وتغير الحال وأصبحت مغتربة بذاتها. أنتشر الخبر سريعا وتعالت الأصوات ضدها رافضين وجودها بينهم والتخلص منها وغسل عارها وصار الجميع يطلق عليها أسم (الزانية)، ربما يقوم حي الارانب بطردها او قد يقومون بقتلها او حرقها والتخلص منها !! هذا ما أخبرته بها والدتها بعد ان تصاعد قلقها وشعرت بالخطر الذي يهدد حياة ابنتها، حاولت أن تخبئها و تبقي عليها داخل المنزل وعدم خروجها مهما كلف الامر لان الوضع يزداد سوءا كل يوم أكثر من سابقه. وفجأة وفي احد الايام طرُق الباب في وقت متأخر من الليل، تناهى الى سمعها صوت والدتها وهي ترحب بهم، كان الصوت لأولاد عمومتها واحدهم  يسأل عنها.

قائلا: أين خلود؟

أجابت الأم: نائمة

أصابها الهلع وجلست منتصبة على سريرها جلوس المتهم، وهي ترتجف تضم ساقيها نحو صدرها بقوة، فتح باب غرفتها ودخل ثلاث من ابناء عمومتها أمسكوها من ذراعها محاولين اصطحابها معهم قائلين: لها لا تخافي فقط كوني مطيعة وأنهضي معنا دون أن تصدري صوتا سنعود بك بعد قليل كوني مطمئنة، نهضت معهم مستسلمة وقد تذكرت مشهدا لاحد الافلام حين اتهمت واحدة من نساء القرية بالزنا وتم رجمها بالحجارة حتى الموت، الفلم الذي الهم الكثيرين ممن يتمسكون بعادات عشائرية ومنها غسل العار، استمروا في سيرهم في ليله غاب فيها القمر بثلاث مركبات وسط صمت مطبق لا يسمع فيه سوى صوت ضربات قلبها، شعرت بأنها تسير في جنازتها بعد ان توقفت بهم السيارة خارج المدينة على رابية ترابية ثم قاموا بسحبها خارج السيارة توسلت اليهم ان يعودوا بها الى الدار

..لا مجيب لتوسلاتها كانوا صما كزبانية جهنم ربطوا يدها الى الخلف وعصبوا عينيها وطلبوا منها أن تستغفر الله على الذنب الذي اقترفته وان تنطق الشهادتين قبل ان تطيح برأسها اول رصاصة تطلق عليها، فقدت القدرة على الوقوف ولم تعد قدماها تحملنها نطقت الشهادتين وأهتز جسدها خوفا ويدها ترتعش وهي تبحث عن زر الكهرباء عسى للنور يهدىْ من روعها.

***

نضال البدري

 

قلبي ترنّم بالمحبّة والهوى

فأتيت طيبة زائرا متعبّدا

*

بي لهفة الوجد يدرك سرّها

تنمو وقد وسعت مداها سرمدا

*

أذكت تباريح الهوى بلواعجي

فتأججت نار الغرام توقّدا

*

حبّي لبيت الله حبّ طاهر

يسمولما فوق المعاني مقصدا

*

الحبّ حبّ الله شرّف حبّنا

والحبّ بعد الله شرّف أحمدا

*

جئت وقد لاذ الجوار بأنسكم

والأنس يبقى بالجوار مؤيدا

*

الله يعلم أنّ قلبي معلق

بالبيت والحرمين أشرف موردا

*

وبآل مكة والمدينة كلّهم

وبكلّ من تبع الرسول محمدا

*

أحببتهم والحبّ أسمى غايتي

ومقاصد الحبّ الشريف توددا

*

أحببتهم والحبّ عندي تقرّبا

لأنال من طاعات ربّي تقرّبا

***

شعر/ تواتيت نصرالدين

رمضان 1445هجرية

 

أُحِبّها ثلاثةٌ

وسبعة ٌ

وعشرةٌ... مؤكَّدةْ

وألفُ. .ألف ٍ

بالصلاة ع النبي تُعيذها

من شر خُوَّانِ البلاد المُجْهَدَةْ !

الشاذبونَ...

المرتخونَ

على التقحُّب ِ

والتقلُّب ِ... حسبما

تُمْلي عليهم

مَشْيَخات العَرْبَدَةْ !

*

فكل شيءٍ عندهُمْ مُتَاجَرَةْ

بالدِّينِ ...

والإنسانِ...

والمُـــؤَخِّرَةْ !

*

تأبى نِعالي

أن تَظلَّ قاعدةْ

دون أدنى فائدة

مالم تَدُسْ  أنوفهمْ

وتحني كل رَكْبِهِمْ

قُــوَّادُ (جاراتِ) الليالي السُّوءِ

والجرائم المعهودة الإطارِ

والمُهــَوَّدة !

*

هذا أنا

فلتشهدوا بسالتي

ومنتهى رسالتي:

عاشت بلادي حُرَّةٌ مُمَجَّدَةْ

عاشت( فلسطين) الجريحة حرةً

أبداً

بِذَرَّاتِ الدماء الرَّافِدةْ !

والموت لــ(التساخُف ِ) اللقيطِ

والعمائمِ المُجَنَّدةْ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

"الى صديقي أ. ماجد الغرباوي: تهنئة قلبية بمناسبة الإحتفاء به مفكرا إسلاميا تنويريا"

***

فـي حـفـل تـكـريـمِ الـمـفـكِّـرِ

أنـتـقـي مـن روضـةِ الأفـكـارِ

أشـذى  مـاتـضـوعُ بـهِ زهـورُ الأبـجـديـةِ  ..

أرتـدي أحـلـى تـسـابـيـحـي

فـأبـتـدئ ابـتـهـالاتـي بـآيـةِ " نـون .. "

و" الـقـلـمِ " الـذي بـدأتْ بـهِ سُـوَرُ الـكـتـابِ

بـنـورِ شـمـسِ " الـبـسـمـلـةْ "

*

وكـمـا بـأعـيـاد الـبـيـادرِ

يـسـتـعـيـدُ الـحـقـلُ فـضـلَ الـسـنـبـلـةْ:

*

شـقّـتْ صـخـورَ الـمـسـتـحـيـلِ

فـأنـجـبـتْ دُنـيًـا مـن الـواحـاتِ فـي صـحـرائـنـا

أشـجـارُهـا بـقـطـوفِ أثـمـارِ الـمـحـبَّـةِ

مُـثـقـلـةْ:

*

شــقَّ الـمـفـكِّـرُ نـهـرَهُ

لِـيُـزيـحَ مـن بُـسـتـانـنـا سَـبَـخَ الـدُّجـى

ويُـعـيـدَ تـشـكـيـلَ الـحـقـولِ الـمُـمْـحِـلـةْ (*)

*

هـذا أوانُ الـقـلـبِ يـشـهـرُ نـبـضـهُ

ضِـدَّ انـفـلاقِ الـقـنـبـلـةْ

*

ذودًا عـن الأطـفـالِ والـعـشــاقِ ..

والأشـجـارِ والأنـهـارِ ..

والـمُـدُنِ الـتـي أفـراحـهـا مـن ألف عـامٍ فـي الـعـراقِ

مُـؤجَّـلـةْ

*

شـكـرًا لـحـرفِـكَ  يـا صـديـقـي " مـاجـدُ / الـقـلـمُ "  الـمُـبَـشِّــرُ بـالـمـحـبـةِ  ..

دُمـتَ ضـوئـيَّ الـمـدادِ

ودُمـتَ مـن قـلـبـي بـأشـرفِ مـنـزلـةْ

*

أدنَـيـتَ مـن حَـرفـي مِـدادَ الأمـرِ بـالـمـعـروفِ

والـنـهـيِ الـمـقـدَّسِ عـن لـهـيـبِ الـحـقـدِ والـعَـنَـتِ الـذي يُـفـضـي

الـى بـئـرِ الـدُّجـى

والـمـقـصـلـةْ

***

يحيى السماوي

 

تغذ مع الذئاب

خذ لؤمك الوهاج بعيدا

عن رصيف الحلم العليل

وابك مع الراعي حال الرعية

اللافتات بما تحمل من ألوان صارخة

لا تعي هول الشارع

أوجاع الجسر الـ هدته الخطى

وما أعاق أجنة النشيد الوطني

فامتدت نحيبا في أروقة السماء

*

زانية أرضنا ...فارجموها بالجمر ..

قبل أن تنجب أحلاما لقيطة

لن نعثر لها في الدوائر الرسمية

عن انتساب مهما استعرنا من أسماء

من تواريخ .. خارجة عن مدارات الزمن

مريم لن تهز السعفة

فنحن خائنون ....خائنون

الأفلاك ترتعش بهدب العين

بالشعر تتناحر ...

وبالزيادة والنقصان ..تتقارب

ليورق الحبر غيضا يكوي الأكباد

يحملنا إلى كوكب .. يتسع فيه أفق النار

يرتل الوجود شعائره المفضوحة

آيات ...تفرغ الوعي من جموحه

تسكبه نارا للعاكفين

بين نقرات الأقلام ...ورجس الكهنة

*

كلما رمشت السماء غيومها السوداء

حلقت النوارس بعيدا .. عن أوطانها

عند أقدام قصيدة مستحيلة ...

تركع الأحلام

و الأبجدية عاجزة عن فك عقال الحكاية

فانزوت ...علها تغنم هدوءا يساعدها

على نسج الهموم رداء

لرعشة تنتاب الكون قسرا ..أو طوعا

بين الزمن الجدي ....وأوراق مهربة

يعوزها حبر حر لتصير دليلا

نحو نبع لم تلوث الغربان سيله

*

قاحلة أعيادنا ...متشحة بالأضاليل

وما سقط سهوا من كرامات الخطيب

الوصايا تعود مبتورة

يحملها المارقون ... دروعا وقائية

واحيانا عربون محبة لغروب قتل بـ :

التأجيل كلامه

بالتبجيل أحلامه

بالتحنيط تمرده

فنامت الصحراء على أشلائها

غرق البحر في حمرته الداكنة

أقام التاريخ نصبا

تذكارية لنكبات متتالية

و لمكائد الغدر ننظم قصائد مدح

تقينا هول   للعاصفة

*

مهزومون نحن ....

مذ مات المعنى غرقا

في النصف  الملآن من الكأس ...

سأنظر إلى الجزء الفارغ ...

لتجد الأجزاء الباقية متسعا ....

كي تتنفس الأنواء ...

لعلها تطرح عند آخر السراب ..

كائنا لا يعاني من عمى البصيرة

يتجرأ العودة إلى عمر خلّفه

عند سرة الخوف

يقطع حبلا سريا يربطه بالانهيار

استعدادا لنزوح عصي

نحو نيزك الإشراق !!

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

في نصوص اليوم