بأقلامهم (حول منجزه)

أحببت ان أدلي بدلوي بشأن منبع الانسان الرفيع الشأن مصلحنا الغالي الصديق العزيز والمفكر المصلح استاذنا ماجد الغرباوي أبي حيدر وأقول له مهنئا بعيده السبعين ومتمنيا له مديد العمر ووفير العافية والمثابرة في جهده الاصلاحي الذي يشغل كل اهتماماته ومساعيه الحثيثة من اجل رقيّ وسطنا الاجتماعي المليء بالكثير من الغثاثة والسوءات الفكرية الضارة بقيمنا واخلاقنا وتعاملنا

كل ذلك من اجل ان ترتيب اوضاعنا الفكرية والسلوكية نحو الاحسن والافضل لنكون بمصاف المجتمعات الناهضة التي ترقى وتحافظ على قيمها النبيلة وخصائصها ونزع الملوثات التي علقت بها ومتمنيا لصحيفة المثقف ورعاتها وكتّابها وقرّائها الثبات على مواقفها النبيلة التي عهدناها في مضامينها

لا اريد ان أطيل اكثر فما كتبه الزملاء والاصدقاء بشأن مفكرنا ماجد الغرباوي وخططه الاصلاحية المدروسة بعناية عقله الراجح وهدفه النبيل السامي يفي بالغرض، اقبل مني تلويحة محبة واعتزاز من بغدادك التي تحبها مع اني اعرف مدى حزنك على ما آلت اليه اوضاعنا المزرية يا ابا حيدر وعهدي بك ان مشروعك الاصلاحي سينهض حتما ولو طال الزمن  يا صديقي الاحبّ

***

جواد غلوم

.....................

* مشاركة (53) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قراءة في فكر الأستاذ ماجد الغرباوي

ماجد الغرباوي، كما هو مثبت في سيرته في صحيفة المثقف وويكيبيديا: باحث بالفكر الديني. يسعى من خلال مشروعه الى: تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. في ضوء هذا التعريف سأتناول رؤيته بقضايا المرأة المسلمة. أي المرأة التي تستمد من الدين رؤيتها، ومن الشريعة الإسلامية أحكامها.

الفلسفة النسوية

اهتمت الفلسفة النسوية بمبدأين، أولهما نقد التحيّز الذكوري حيثما وجد. والثاني تطوير أخلاق غير متحيزة ذكوريًا. علما أن الإشكاليات التي واجهت ذلك التطوير أغلبها مرتبط بمسألة الدين والشريعة. وهذا يتطلب العودة الى جذرها الديني والأخلاقي أولا لمعرفة حقيقة تلك لاشكاليات في ضوء النصوص المقدسة، وليس التراث الذي هو رأي بشري غير مقدس. وهذا ما فعله المفكر التنويري ماج الغرباوي في كتابَي: "الفلسفة النسوية[1]" وكتاب "المرأة والقرآن[2]". حيث تصدى لزعزعة تلك الإشكاليات بعد نقده للفهم المتداول لقضايا المرأة عامة والنسوية خاص، عندما سلط الضوء على منظومة القيم التي تحكمها، ومدى مطابقتها للقيم الإنسانية والدينية، لتحاشي الاتجاهات الرادكالية المتطرفة التي انجرفت بعيدا عن الأخلاق والقيم الأخلاقية فضلا عن القيم الدينية.

إن أهم محاور كتابَي "الفلسفة النسوية" و"المرأة والقرآن"، هي: الأسطورة ومحددات الوعي. سطوة الفقه، علاقة المرأة بالدين، فهم النص الديني وأثره في النظرة المتداولة حول المرأة وحقوقها ودائرة حريتها وغيرها من قضايا تمس انسانيتها وحقوقها ومكانتها، كموضوع: النسوية ما بعد الكولونيالية، قهر المرأة، الوعي النسوي، النظام الأبوي، العلاقة بين الجنسين، أشكال التحيز والتمييز، قاضيا المرأة في ضوء الشريعة، كالتعدد والحجاب والنشوزر. وغير ذلك كثير ومفصل.

وقد تناول الباحث الغرباوي قضايا المرأة تارة في ضوء النص المقدس، خصوص القرآن الكريم. وتارة في ضوء التراث الذي هو فهم بشري للنص الديني، تتحكم به ايديولوجية القارئ وثقافته وآرائه الفلسفية والفكرية وعقيدته وعلاقته بالسياسية وأشياء غيرها. وهذه قضية مهمة يجب الانتباه لها، فليس كل ما يقوله التراث عن المرأة يمثل رأي الدين بالضرورة، مهما كان مصدره لانه رأي بشري قد يصيب وقد يخطئ، وعلينا الرجوع للقرآن المصدر التشريعي الاول لمعرفة الحقيقية والأخذ بها: (فالقياس - كما يقول الغرباوي - هو القرآن وليس قول المفسر او الفقيه، ومتى ما انتابنا الشك في اقوالهم نعود للقرآن نستنطقه كي نتعرّف على الحقيقة)[3].

يعتقد الباحث أن قضية المرأة قضية عالمية، بمختلف اشكالياتها، وإن كانت بنسب متفاوتة لكن القضايا الرئيسيية واحدة[4]: اضطهاد المرأة، الذكورية، ضياع الحقوق، قمع الحريات، تهميش المرأة، كمال عقلها، قدراتها الادارية، وغير ذلك. فالمفاهيم واحدة مهما تعددت بيئاتها الثقافية والاجتماعية. لكن هناك إشكاليات مرتبطة بالأديان عام والدين الاسلامي خاصة، تولّدت عن آراء فقهية ووجهات نظر اجتهادية تتأثر لا محال بقبليات الفقيه، فجعل الرأي الفقهي من المرأة (جاريةً أو أمَةً)، مسلوبة الحقوق والإرادة، وسلط عليها الذكر كما يمليه عليه فهمه لقضايا المرأة ودورها في المجتمع، فسلبها انسانيتها ذلك الحق الإلهي الذي منحه لها، وجعل منها شريكة لخليفة السماء في الأرض أي الإنسان الذكر، فعهد الله الخلافة لهما وليس للذكر خاصة دونها، لكن رغم ذلك كله حط رجل الدين من قيمتها الانسانية. يقول الباحث: (الرؤية الفقهية المتداولة تستمد شرعيتها من آيات يبدو ظاهرها مع تكريس عبودية الإنسان عامة، وانتقاص المرأة خاصة. أي نظرية العبودية تبرر النظرة الذكورية، والنظرة الدونية للمرأة، ولديها ما تستدل به من أحكام الشريعة. بينما تنقلب النتيجة مع منطق الخلافة، وأن الإنسان أساس الخلق. وما الأحكام إلا لترشيده مرحليا، وفق ملاكات الأحكام، وليست لاستعباده تحت أي مسمى كان)[5]. لقد تعرضت المرأة الى ظلم عظيم في حياتها، ولقد كان ظلم المجتمع للمرأة أهون من ظلم الفقهاء والفلاسفة. بل أن الكثير من الفلاسفة كان أكثر قساوة في أحكامهم على المرأة من الفقهاء[6].

المنطق العبودي

في التفاتة جعلت المفكر الغرباوي يحذو حذو التنويري محمد شحرور فيما سماه: المنطق العبودي حين وصف علاقة الناس بخالقهم، بأنهم: عباد لا عبيد. فهم عباد الله، كما تصرح الآيات بذلك. علاقة الانسان العابد بخالقه علاقة واعية تنطلق من عقلية حرة مميزة. بينما يُقاد العبيد بسلاسل مكتوبة، متوارثة من كتب التراث الإسلامي، الذي دفع المجتمعات الإسلامية والعربية بشكل خاص إلى التمرد التام، ولا سيما المرأة التي ثارت على تلك المقدسات البشرية التي سجنتها عقودا طويلة. كتب موروثة عن التراث اليهودي والمسيحي، طالما عاشت أوربا والغرب في ظلها بظلام كبير، انعكس على وعي المرأة ونظرتها لذاتها وللآخر.

سعى المفكر الغرباوي الى حل إشكالية "عبودية المرأة" من خلال وعيها. وعيها لذاتها وللآخر الزوج / الابن / الاب، باعتبار الوعي لدى الباحث قضية مركزية يعول عليه لتسوية إشكاليات المرأة، وعنده (أن مشكلة التخلف مشكلة وعي قبل كل شيء. والعلاقات غير المتوازنة بين الرجل والمرأة، سببها رثاثة الوعي المشرعن)[7]. أولها اسطورية البنية المعرفية لها، التي احتلت فيها الخرافة واللامعقول مساحة واسعة، وجعلتها تنظر لنفسها نظرة دونية. لا شك، كما يؤكد الباحث أن علاقة المرأة بالأساطير والفلسفة القديمة، محكومة بنظرية العبودية، التي تكرّس عبودية الإله / السيد / الملك / الطاغية. وتسلب الفرد إنسانيته، بعد تكرّيس "تشيئته"، ليكون مستلبا، تابعا. فقيمة الشخص، ذكر أو أنثى، قيمة اعتبارية تسبغها عليه الإلهة / الملوك / السادة / الطغاة. وليس لهم وجود مستقل[8]. هذا ما يفعله المنطق العبودي والذي يحذر منه الاتجاه التنويري دائما، ويؤكد عليه كثيرا الباحث الغرباوي في كتابَي: الفلسفة النسوية وكتاب المرأة والقرآن. كما أنه يرفض تحميل المرأة خطيئة البشرية، تلك الاسطورة التي تتناقلها الاساطير القديمة والكتب التراثية. المرأة تعرضت لمختلف أنواع الاضطهاد، أحدها شيطنتها وتحميلها مسؤولية الخطئية الاولى، فالرجل بطبيعته معصوم لولا غواية المرأة التي أوقعته في الخطئية!!!.

لا شك أن علاقة الرجل بالمرأة أو الذكر بالأنثى مرة بمراحل مختلفة خلال تاريخهما المشترك، ففي العصر الأمومي كانت المرأة تتمتع بمكانة رفيعة حتى صارت آلهة تعبد، وصارت الأنوثة رمزا للخصب والحياة في الأساطير القديمة[9]. ثم خضعت الى سلطة الذكر، وراح يتحكم بها وبمقدراتها. الى درجة بات وعي المرأة مرتهنا لوعي الرجل، ضمن أطر البيئة الثقافية، والنظم الأخلاقية التي قامت على مركزية الذكر ذلك ماذكره الأستاذ الغرباوي وهو يناقش الوضع تاريخيا[10].

وقد سعى في كتاب النسوية الى تصحيح المفاهيم فان معنى كون المرأة آلهة، يقول: (فكونها - أي المرأة في العصر الأمومي - مصدرا للحياة كان سببا لعبادتها، وقدسيتها. كما هو الحال بالنسبة لعبادة البقر باعتبارها مصدرا للخير والعطاء. فألوهية المرأة تكمن في عطائها لا في إنسانيتها، وقدراتها العقلية، وعبادتها لا تعني الاعتراف بإنسانيتها بل لأنها مصدر للحياة، مثلها مثل البقرة. يتضح هذا جليلا من خلال الملاحم والرموز الأسطورية)[11]. ويضيف: (بل أن إنسانية المرأة غير مطروح أساسا، وتبعيتها للذكر أمر مفروغ منه، ضمن ثقافة العبودية، التي كانت سائدة آنذاك، والتي كانت تعيد انتاجها باستمرار، وهي ثقافة لا إنسانية تصادر المرء حريته واستقلاليته، وتجعل منه عبدا مملوكا لسيده)[12].

التأويلات الخاطئة للنصوص الدينية

تكلم الباحث الغرباوي في كتاب المرأة والقرآن[13] عن  التأويلات الخاطئة لنصوص القرآن الكريم الخاصة بالمرأة، وكيف أنها عكست صورة سلبية عنها، من وحي تلك التأويلات. فعندما نعود للكتاب الكريم نجده يتحدث عن المرأة الإنسانة، على خلاف ما هو متداول في مجتمعاتنا. فهي انسان اولا وقبل كل شيء. يجب التعامل معها على هذا الأساس. هي شريك الرجل، ورديفه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[14]، فهما على مسافة واحدة بالنسبة للآية الكريمة، خاطبهما معا مادام أحدهما يكمّل الآخر. وقد ذكر الكتاب أمثلة عديدة عن مكانة المرأة في الإسلام. منها: (خاطب القرآن المرأة كانسان في: جميع الآيات التي خاطبت الانسان بما هو انسان فتشمل باطلاقها الرجل والمرأة، ولا تخصيص له دونها، وهي الآيات التي تتحدث عن الانسان بما هو انسان. وكذلك الآيات التي تخاطب الناس، وليس الناس سوى الرجال والنساء، بدليل الآية المتقدمة، انا جعلناكم شعوبا وقبائل. وكل الآيات التي تنص عليها كمؤمنة)[15].  فاستصغار شأنها ونزع إنسانيتها ليس مصدره النصوص القرآنية وإنما رؤية بشرية تتحكم بها عادات وتقاليد بعيدة عن روح الانسانية. مصدرها الرجل وإن كان مفسرا. رجل ينطلق من رؤية ذكورية للمرأة في تحديد حقوقها ومسؤولياتها.

كما لفت الكتاب نظر القارئ إلى وحدة الخطاب القرآني للرجل والمرأة بشكل متساوٍ في النصوصه. جميعها يتحدث عن إنسانيتهما ودورهما في بناء المجتمع[16]. وأرجع أسباب النظرة الدونية ونقصان عقل المرأة في المجتمع إلى التراث الذي نسب للنبي والصحابة روايات تنقص من إنسانيتها. غير أني أرى أن نسبتها للنبي والصحابة ليست صحيحه. لأن ما يخالف النصوص القرآنية لا يؤخذ به. القرآن أعاد للمرأة حياتها وحرم الوأد. وفرض لها نسبة من الميراث. ومنحها حق اختيار الزوج، وغير ذلك من حقوق حصلت عليها بعد نزول الرسالة المحمدية.

المرأة والوعي

ما زالت المرأة العربية بحاجة إلى ثورة تخرجها من سلطة الرجل والفقهاء ومقدساتهم. وأن تعي ذاتها وإنسانيتها قبل أن يعي المجتمع أهميتها. فهي بحاجة مستمرة الى ثقافة تنويرية تستعيد بها وعيها ودوها الانساني الذي خًلقت من أجله. فالوعي بالنسبة لفسلفة ماجد الغرباوي أمر مركزي، يعوّل عليه كثيرا، حتى ضمنه في مفهوم الفلسفة النسوية. ففلسفته قائمة على الوعي أولاً، لذا يقول في تعريفه لمفهوم النسوية والمهام التي تقوم بها: (تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: أنها فلسفة تهذف إلى (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله)[17].

ان مسألة وعي المرأة بذاتها كما يرها هي الركيزة الأهم في تصحيح النظرة إليها ووضعها في مكانها الصحيح ومكانتها كإنسان كامل، لا يعاني من نقص العقل الذكوري، فهي الإنسان الواعي الذي يسعى لبناء مجتمع إنساني سليم التفكير لا يستطيع الفقهاء والحكام التسلط عليه وغبن حقه. ولا نغالي إذ قلنا أن ثورة تشرين عام 2019 كانت صورة واضحة لوعي المرأة العراقية لمكانتها، وخروجها من سجون الفقهاء كان نتاج ذلك الفكر التنويري الذي يملكه وينشره التنويري السيد ماجد الغرباوي. لكن للأسف رأينا كيف عاد العراق إلى النظام الديني المتطرف الذي أعاد المرأة العراقية إلى الهاوية بعد أن كانت قد حازت الصفوف المتقدمة في الفكر والريادة في المحافل الدولية العلمية والسياسية.

هذا التراجع سببه العودة إلى (النظام الأبوي) الذي تتبناه الحركات الدينية. والتي تجعل من المرأة كائن يثري البشرية بالنوع الإنساني فقط من خلال وظيفتها الإنجاب مما يجعلها بحاجة إلى قوامة الرجل أو التسلط عليها بحسب المفهوم الخاطئ للنصوص الدينية التي جعلتها إنسان شأنها شأن الرجل (وفضل بعضهم على بعض) كل باجتهاده.

يختم الأستاذ ماجد كتابه من خلال تساؤل المحاور عن رأيه في حجاب المرأة، كانت التفاتة جميلة أنه وصف الزي والملبس بقوله (يشكّل الزي مائزا يفترق به الإنسان بمعية العقل والإدراك عن الحيوان)[18].  إذ لم يشأ آدم وحواء أن يكونا عراة كالحيوانات وذلك كما يرى بداية الإدراك العقلي للبشر بعد خروجهم من الجنة، ففي سورة طه: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[19]. ثم يعود إلى غطاء الرأس ليبين أنه يمثل هوية لمن ترتديه. على اعتبار أن الأزياء تمثل هوية الإنسان كفرد إذ أن الأزياء عند الشعوب لا تتشابه بل يتمايز الناس في أزيائهم، وكون الحجاب زي يمثل المرأة المتدينة سواء أكانت يهودية أو مسيحية أو مسلمة، فتعاليم الدين تدعو إلى حجاب المرأة. فانتقل في الإسلام من مجرد كونه يدعو إلى الاحتشام إلى شعيرة دينية غالبا يفرضها رجال الدين والقبيلة بالقوة مما يجعلها تشعر بالتكبيل والقيود والنفور منه، اذ نقل الفقهاء قضية الحجاب من مجرد زي إلى علامة انتماء سياسي أو ديني أو مناطقي، وتبقى مسألة التمسك بالحجاب من عدمه يعود إلى وعي المرأة بالزي الذي ترتديه.

رأيت في فكر التنويري الغرباوي في كتابه المرأة والقرآن نظرة، دبلوماسية، نحو تعدد الزوجات الذي رفضه الكثير من التنويريين، فإن صلاح المجتمع ونظافته من الفساد أكثر صلاحا حين يسمح بتعدد الزوجات . إلا أنه أطلق حكما قاسيا جدا على الرجال ومن يسمح بتزويج المرأة غصبا فاعتبره من الزنا، وأنا أرى أن ذلك صحيح جدا ونحن نرى الآن كيف انتشر تزويج القاصرات غصبا لأسباب اقتصادية والمتاجرة بجسد القاصرة لا يمكن أن يعد إلا من باب الزنا.

الإسلام ثورة، هذا التوصيف أطلقه الكثير من المفكرين من أطلق عليهم صفة علماني أو تنويري، إلا أنني لا أرى أن الإسلام ثورة كون الثورات تتآكل نتائجها بانتهاء رجالها وأثارها لتأتي بعدها ثورات أخرى تصحح المسار، بينما لا يكون ذلك في الدين الإسلامي لأسباب عدة ربما يكون لي شرف مناقشتها مع الأستاذ الغرباوي.

لقد لفت المفكر الغرباوي الأنظار الى مسألة قدسية النصوص القرآنية، وما يترتب على من يؤمن أو لا يؤمن بقدسيته، وكيف تتبدل زاوية النظر: (ثمة من يعتقد بمرجعية وقداسة القرآن مطلقا، في قبال من ينفي عنه ذلك. وبالتالي فزاوية النظر تؤثر في فهم النص بين التأويل والنقد. لكن الجميع يعتقد ان القرآن نص متعال في نسقه الكلي، بلاغيا او في بنائه النصي، او من خلال وسطيته وعقلائيته، او اخباراته التاريخية والعلمية، غرائبيته وتشريعاته، وأشياء اخرى كثيرة. وهذا ليس رأيا شخصيا. وعليه نحن نتعامل مع النص بما هو نص تاريخي، دون انحياز لأي من زاويتي النظر، سواء كان وحيا او تأليفا .. فهذا لا يهمنا حاليا، الا في سياق الأسئلة)[20].

يبقى هدف المرأة الواعية أن تعيش إنسانة حرة، لايقمع أحد شعورها الإنساني ولا يعيدها إلى مفهوم (العبودية)  وإنما هي (خليفة الله في أرضه) شأنها شأن الرجل.

إن قضية التنوير التي يتبناها الأستاذ الغرباوي لا تعني عداءه للدين أو رفضه التام لما ورد فيه، بحسب مايظنه المتشددون أو( الراديكاليون المتطرفون) من أن التنوير يدفع نحو إنكار ما جاءت به الأديان. وأهم ماحث عليه أن التنويري عندما يتصدى لقضية نقد القضايا التي تمس مقدسات الناس لابد وأن يكون ملما إلماما تامة بما يقرأ ولديه كل وسائل النقد وآلياته.

***

د. تماضر آل جعفر

بغداد 18/رمضان/ 1445هـ

 .........................

[1] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار الوفاء، الاسندرية – مصر، 2021م

[2] - المرأة والقرآن.. حوار في اشكاليات التشريع، حوار د. ماجدة غضبان مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت لبنان، 2015.

[3] - المصدر نفسه، ص 16.

[4] - الفلسفة النسوية، مصدر سابق، ص 15.

[5] - المصدر نفسه، ص 16.

[6] - المصدر نفسه، ص 152.

[7] - المصدر نفسه، ص 27.

[8] - المصدر نفسه، ص 17.

[9] - المصدر نفسه، ص 20.

[10] - المصدر نفسه، ص 21.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه.

[13] - المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع، حوار د. ماجدة غضبان مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2015م.

[14] - سورة الحجرات، الآية: 13.

[15] - المرأة والقرآن، مصدر سابق، ص 13.

[16] - المصدر نفسه، ص 12 – 13.

[17] - الفلسفة النسوية، مصدر سابق، ص 9.

[18] - المصدر نفسه، ص 206.

[19] - سورة طه، الآية: 121.

[20] - المرأة والقرآن، مصدر سابق، ص 9.

....................

* مشاركة (52) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

ما قدَّمهُ المفكّر المستنير الأستاذ ماجد الغرباوي للثقافة العربيَّة الفاعلة من إضاءات ، وللمثقفين الحقيقيين من رعاية عجزت عنه مؤسسات حكوميَّة كبرى، فقد جعل من صحيفة المثقَّف التي يرأس تحريرها منبراً للوعي الفكري، وللثقافة الإنسانية المحصَّنة، سواء أكان ذلك في الشعر، أم النقد، أم في التشكيل الفنّي، أم في السرد الباهر، أم في غير ذلك.

وفضلاً عمَّا كتب من أسفار مهمّة في الفقه، والعقائد، وما إليهما من مقاصد إسلاميّة، فقد اضطلع بإعداد كتبٍ تكريميّة تناولت حيوات، وأثار العديد من المبدعين العراقيين ممّن كانت لهم بصماتهم في الحراك الثقافي الموضوعي .

ولأنني في وضع صحّي مُتعِبٍ جدّاً، فأرجو عفوه، وعفو القراء الكرام عن تقصيري في هذه  الأسطر عن ردِّ بعض جميله، فقد رعاني خير رعاية، واحتضن مقالاتي النقديّة، بأن نشرها بإخراجٍ جميل، وحروف ملوَّنة، فإليه أحني هامتي عرفاناً، وتقديراً، ومحبَّةً .

***

د. عيد الرضـا عليّ

كاردِف – بريطانيا

.....................

* مشاركة (51) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

مقدمة: من نافل القول ان نعرّف الأستاذ ماجد الغرباوي لقارئ المقال، فهو غني عن التعريف لمن قرأ له كتابا من كتبه العديدة، سواء المطبوعة أو المتاحة على الإنترنيت. ولكن للضرورة التي يقتضيها موضوع المقال أبحنا لأنفسنا ذلك.

الأستاذ ماجد الغرباوي؛ باحث مثابر دأب الحفر في طبقات التراث الإسلامي، التي ران عليها التحجر والجمود، في عملية شاقة، بحثا عن حقيقتها ومدى صدقيتها، وفق منطق العقل والعقلانية، وهي عملية نقدية تتطلب خبرة في التراث وطرق تناوله. لهذا يقول وهو يستعرض صعوبة تحدي التراث الفقهي باعتباره جزءا من التراث بشكل عام، لقوة رسوخه وتداخله مع إشكاليات أخرى: "... التراث الفقهي جزء من إشكالية أوسع، تخص الموقف من التراث بشكل عام، وهي أشكالية ملتبسة جداً، وقد دار حولها جدل واسع، واختلف الموقف منها. فالتراث يمثل جزءاً اساسيا من هوية الامة، لا يمكنها التخلي عنه، بل ولا إتخاذ موقف محايد منه، لأننا أمة تراثية، لا تعيش خارج التراث"[1]. وهو هنا يقصد التراث الفقهي على وجه خاص، وليس عمومه. ولا شك أنه جهد كبير، فالتراث الفقهي تراث واسع ومتشعب يحتاج الى كفاءة لنقده وتمحيصه. التراث له أدواته القوية التي يستخدمها، لكبح حركة المجتمع وتعطيل طاقته وقدرته وشلّ وعيه، فيتطلب نقده أدوات أقوى وأقدر على بيان حقيقته. لهذا يخلص للقول بجرأة وشجاعة، خالية من التحدي الكبير، بل كما عرفناه باحثا عقلانيا في رؤيته للواقع، يقول "فنحن بحاجة إذاً إلى إعادة تنظيم علاقتنا بالتراث واتخاذ موقف واضح منه، يحررنا من سلطته واستبداده وسطوته، ويحفظ له مكانته التاريخية"[2].

يثير هذا الطرح سؤالين، الأول: هل هناك تداخل بين التراثين، الفقهي، والثقافي والإجتماعي، بحيث من الصعب الفصل بينهما؟ أم هناك ما يميز كل واحد من هذه الأقسام؟.

والسؤال الثاني: كيف يمكننا الحد من استبداد التراث مع الحفاظ على مكانته التاريخية في آن واحد؟ (سواء كان التراث الفقهي أو الثقافي الإجتماعي)؟. وأسئلة كثيرة تفترع على هذين السؤالين.

يذكرني وضعنا في هذه الإشكالية، بكهف إفلاطون، حيث يختبئ أناس في ظلام الكهف، وعندما يرون الشمس خارج الكهف، يحسبونها ناراً متقدة تحرقهم، إذا حاولوا الخروج والإقتراب. ولذلك قلنا ان الأستاذ الغرباوي باحث في التراث بوعي معاصر، تدور كتاباته حول الوعي، يؤكد ويراهن عليه دائما.

ظهرت كلمة الوعي في تعريفها البسيط عند جون لوك: "بأنه الإحساس بما يمر بعقل الإنسان". وأما الوعي في نظر ماجد الغرباوي الذي يعول عليه في آرائه التنويرية فهو يعني: (إدراك الحقيقة، وتشخيص الواقع، وتحديد الأولويات، وتمييز الالتباس واكتشاف التزوير. فالشعوب الواعية شعوب يقظة متبصرة.. والإنسان الواعي لا يتهيب الممنوع، وإنما يتوغل في الشك حتى يفهم الواقع ولا تضلله الشعارات، ولا يستغل، وإنما هو إنسان مرهف الحس، قلق، متوثب، يصغي ليدرك ويناقش ليفهم، ولايتحرك إلا عن قناعة ورؤية واضحة[3]. ويقول في موضع آخر: (والوعي يعني إدراك الواقع وفقه ملابساته وتشخيص أخطائه بعد تفكيك مكوناته ومحاكمة أنساقه. والشخص الواعي مرهف الحس، شديد الحساسية أزاء التزوير والمغالطات، فلا يتكيف مع الواقع المزوّر، بل يعيش في حالة من الغليان والثورة الداخلية ضد القيم المصطنعة، ويتطلع باستمرار إلى التجديد والإصلاح. أو يعيش حالة إغتراب داخلي، تعيق حركته)[4]. بل أنه يرتهن النهضة بالوعي، حينما يقول: (عندما ننقب في ماضي الحضارات المتطورة بحثا عن عومل نهوضها سيتمثل أمامنا الوعي في صناعة نهضتها، كما سيتضح أن التطور الحضاري يبدأ دائما من أول بوادر الوعي، بل إن صدقية التطور على أرض الواقع، إنما يتحقق إذا أتيح للوعي أن يسود المفاصل الحياتية في المجتمع)[5].

من جانب آخر، ينظر الفلاسفة، وعلماء النفس، وعلماء الأحياء، أو علماء الإجتماع الى الوعي بطرائق متمايزة، وكذلك تفعل العامة الذين يسمعون ليلاً ونهاراً أن بعض المسائل فشلت أو أنها تفشل في دخول "وعيهم"، ولابد من أنهم يتساءلون فيما إذا كان الوعي هي التسمية النخوبة المثقفة، التي تدل على حالة "اليقضة " أو الإنتباه أو ببساطة على وجود عقل"[6].

إخفاقات الوعي

في كتاب (إخفاق الوعي الديني، حوار تداعيات النكوص الحضاري)[7]، الذي هو كتاب حواري، يتكلم عن الوعي ودوره في النهضة المرتقبة، وينسب للوعي تقدم ونكوص الأمة بالدرجة الأولى ثم تأتي العوامل الأخرى. بدءا هناك ملاحظة هامة جدا، وأنا أتناول في هذه الفقرة طريقته في الحوار، حيث يسمي أسئلة المناقشة الحوارية بـ (بَوصلة المتحدث) وهذا التعريف العلمي يحسب له. فأسئلة المحاور تعتبر بوصلة تكشف عن مستواه العلمي والثقافي، وقدرته على الحوار وطرح الأسئلة. يقول وهو يرد على أحد الأسئلة: (تبقى الأسئلة بوصلة المتحدث)[8]. فالغرباوي بامكانه اكتشاف محاوره من خلال اسئلته التي تكشف عن مدى وعيه للسؤال.

في القسم الأول من كتاب إخفاقات الوعي الديني، طرح الأستاذ سلام البهية السماوي، اسئلة في غاية الأهمية، غطت جوانب فكرية متنوعة، مثل: التفاعل الحضاري، الفلسفة الأسلامية، العلاقة مع الغرب (صراع أم حوار)، التطرف الديني، القرآن والتطور الحضاري، التخلف الحضاري واسبابه، النهوض الحضاري، إشكالية الفكر التكفيري، اليقين السلبي، التجديد ضرورة حضارية، من أين يبدأ التجديد، وغير ذلك. ومن كل سؤال تفرعت اسئلة، ذات صلة به لإغناء الحوار. وهنا استشهد ببعض الأسئلة، ورد الغرباوي عليها، لعلاقتها بموضوع الوعي، عنوان هذا المقال:

- لنأخذ موضوع الفوارق الحضارية بين الغرب والعالم الإسلامي: يسأل السائل: في رأيك، هل تعتبر الحضارة الإسلامية نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها؟ ولماذا؟. فجاء جواب الغرباوي واقعيا وموضوعيا، حينما قال: (النديّة تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين. أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما. فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟)[9]. والجواب يكفي شاهدا على وعي المتحدث للفارق الحضاري بيننا وبين الغرب، ويدرك جيدا هناك شروط للتكافؤ غير متوفرا حاليا في حضارتنا، لذا يقول: (لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم)[10].

- وللنتقل الى سؤال آخر، يطلب السائل فيه تعريف مفهوم (اليقين السلبي)، الذي طرحه الباحث الغرباوي في كتابه إشكاليات التجديد وأشار له في هذا الكتاب. نرى الغرباوي يبدأ أولا بتعريف مفردة اليقين فيقول هو نوع من الإيمان، ثم يتوسع في الجواب، ويضرب أمثلة لتوضيحه، فيقول في تعريفه: (اليقين السلبي، هو حزمة جزميات وقناعات راسخة ؛ توجه وعي الإنسان وتضبط سلوكه وحركاته ومشاعره)[11]. ويضرب أمثلة على ذلك كايمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العلمية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح[12]. فتكون النتيجة أن "الفرد يتقاعس عن العمل وطلب الرزق؛ بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرض، وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء. وسلسلة اليقينيات، كما يقول تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، (ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان انه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا. وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتكفير الآخر، وربما استباحة دمه كما يفعل المتطرفون الاسلاميون، من اتباع الحركات التكفيرية)[13].

وبعد أن عرّف الأستاذ ماجد الغرباوي اليقين السلبي؛ راح يبين ضده، أي اليقين الإيجابي، فيقول: (اقصد باليقين السلبي: "ما يعيق الفعل الحضاري من جزميات وقناعات راسخة". ويقع على الضد من اليقين الإيجابي. فايمان الفرد بوجود خالق ويوم حساب بعد الموت يعد يقينا ايجابيا لانه يعزز التقوى ويعضّد وازع الخوف، ويحول دون ارتكاب المحرمات والموبقات)[14].

ودائما تجد الوعي حاضرا في ردوده وأجوبته فهو عندما يفسر ظاهرة اليقين السلبي ومخاطرها يربط ذلك بالوعي الذي هو محور كتاب إخفاقات الوعي الديني، فالمهم لديه عدم تضرر وعي الإنسان كي لا ينزلق الى متاهات الظلام الطقوسي، يقول: (لقد افرز لنا اليقين السلبي نمطا من السلوك، ارهق وعي الفرد والمجتمع، وصادر حريته وارادته، وسخر كل امكانياته، من أجل طقوس وتقاليد ما انزل الله بها من سلطان. بل تمادى الخطاب الطقوسي القائم على اليقين السلبي، ففضل الطقوس على العمل الصالح)[15]. ويضيف: (ولعل من اسباب هذه اليقينيات... سذاجة الوعي)[16].

وهنا نقطة جديرة بالانتباه أن الأستاذ الغرباوي لا يفرق بين شخص وآخر في حوارته، سواء من اتفق مع رأيه أو خالفه. كلاهما على قدم المساواة، بغض النظر عن علمه او مستواه الثقافي، وهذه صفة العالم المتواضع. اضرب أمثلة على ذلك من حواراته على منصة التواصل الإجتماعي (الفيس بوك) والتي دارت بينه وبين المعلقين على منشوراته. أقتبس مقتطفات منها بدون ذكر الأسماء كشاهد على جديته وتواضعه، ومدى اهتمامه بمسألة الوعي بالذات. المنشور: (قداسة الرموز الدينية، تدفع بإتجاه أسطرتهم والإرتفاع بهم فوق البشر ودون الإله). بتاريخ 6-9-23.

فكتب أحد المعلقين: التقديس يتناسب طرديا مع الجهل.

- رد عليه الغرباوي: معادلة صحيحة ولكن ليس مطلقا، وأحيانا لا فرق بين الإنسان الجاهل العادي مع غيره من ذوي الألقاب العلمية والفلسفية الكبيرة، المسألة مسألة وعي ومسألة تحرر داخلي. فهو يدور حول الوعي دائما.

- فيرد المعلق: نعم أستاذي.. لم أقصد الجهل وعكسه صاحب الشهادة، القصد الجاهل الذي لا يملك وعيا ويسير مع الراي الجمعي بغض النظر عن مدى تعليمه.

- يرد عليه: " نعم يا صديقي أوافقك الرأي "

لاحظ كيف أوصل الأستاذ ماجد الغرباوي فكرته للمعلق وأقنعه ان الوعي هو المعوّل عليه في الفهم الصحيح والتحرر من الجهل.

- ومعلق آخر كتب: أعتقد أن رجال الدين هم السبب المباشر في التقديس الذي يصل حد المغالاة.

- ورد عليه: نعم يتحملون القسط الأكبر، لكن تعطيل العقل بحجة القداسة سبب رئيس هنا.

هنا ركز الأستاذ ماجد الغرباوي بشكل اساسي على تعطيل العقل، وللإمام علي عليه السلام، قول في هذا الموضوع مذكور في نهج البلاغة: "أعوذ بالله من سبات العقل" فتعطيل العقل او استقالته هو سبات، يفقد معه العقل قدرته وفاعليته.

وأطرف تعليق قرأته يأتي في بدايته على شكل عتاب مازح:

- استاذ أبو حيدر على كيفك ويانه.. ثم يسترسل في نص أدبي طويل، عن الجذر الإنساني في الحالة الحسينية.

فيرد عليه الاستاذ الغرباوي بادب وكياسة، فيقول:

- لم يشر المنشور الى اي مصداق، لماذا افتهمت هذا منه، لا أدري.

وعندما يستمر المعلق بإسلوب إنشائي عاطفي.. لا يرد عليه، حرصا ألا يخرج الحوار عن صلب الموضوع، ويتحول الى سجال أدبي، أو جدل سوفسطائي عقيم، وهذا ما لا يريده الأستاذ الغرباوي.

أو مثلا يطرح أحد المعلقين سؤالا على الأستاذ الغرباوي، ليس له صلة بموضوع المنشور ويطلب منه جوابا عليه، فيقول:

- لو طُلِبَ منك أن تصف الحسين بن علي عليهما السلام، كيف تُقدمه لقرائِك الذين ينعتونك بالتنويري.

يجيبه بأدب جم، ولا يلتفت لكلمة ينعتونك.

- أجيبُك لو كنتُ ذكرته بالمنشور، تحياتي.

التسامح والوعي

قرأت (رسالة في التسامح) لـ جون لوك، ترجمها عن اللاتينية الدكتور عبد الرحمن بدوي، مركز دراسات فلسفة الدين. وللأستاذ ماجد الغرباوي قرأت كتاب (التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات). والكتابان يبحثان في نفس الموضوع، مع اختلاف الفترة الزمنية، فبينما يقتصر التسامح لدى لوك على الديني، نرى الغرباوي يوسع دائرته لتشمل السياسي والاجتماعي والقومي، والإتني. ليكون بذلك تسامحا انسانياً. وقد استشهد بحديث نبوي شريف "كلكم من آدم وآدم من تراب" وآيات قرآنية ليؤكد وحدة العنصر البشري في الخلق[17].

الحديث عن جون لوك وتحوله من اللاتسامح الى مبدأ التسامح، كان هو الدافع الذي حدا بي لكتابة هذه الفقرة. إذ نجد لوك يتحول من النقيض الى النقيض في هذه المسألة، ذلك أنه كتب في عامي 1661 -1662 رسالتين عن التسامح اكتشفتا ضمن مجموع مخطوطاته، وخلاصة رأي لوك في هاتين الرسالتين هي أن كل الأفعال المستوية، مهما كان نوعها، تقع تحت سلطة من وُكِّل اليه التصرف في حرية وحياة كل فرد من أفراد الرعية، اي الحاكم المدني فله سلطة مطلقة على كل أفعال الناس في المجتمع، وعليهم ان يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى ولو كانت خاطئة. يرى لوك في هاتين الرسالتين ان التسامح هو مجرد اسم آخر للعصيان والفوضى. وهنا يعطي لوك الحق المطلق للحاكم على الرعية، ربما كان ذلك بسبب الصراع بين السطلتين الدينة المتمثلة بالبابا، والسلطة الدنيوية المتملثة بالملك. لكن جون لوك لم يستمر على هذا الموقف طويلا، بل نجده في سنة 1667 يكتب (بحثاً في التسامح) لم ينشره في حياته، ونُشر البحث في مجلدين سنة 1876 بدأ يميل الى التسامح، فيقول "ينبغي للحاكم المدني ان يتدخل في ما يؤمن السلام المدني وممتلكات رعيته" ثم يخطو خطوة أبعد انه ليس للحاكم المدني اي سلطة على الرعية فيما يتصل بالدين، لأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط[18]. وبهذه الفقرة عن مبدأ التسامح عند جون لوك، في كتابه (رسالة في التسامح)، نكتفي لنتابع موضوع التسامح مع ماجد الغرباوي في كتابه: التسامح ومنابع اللاتسامح.

يعتقد الغرباوي أن روح التسامح تتضمنها جوهر الأديان، وإنْ لم تنص على المفهوم، لكن روحه تؤكده نصوص الكتب المقدسة، فـ(اننا امام مفاهيم "كالتسامح والتعددية" ليست غريبة في روحها عن اصول ديننا وعقيدتنا، وانما اقصتها القراءات الاحادية والفهم المتحيز للدين)[19]. إما اللاتسامح فإنه بعيد عن روح الأديان المتسامحة، باستثناء بعض الحالات التي لها تفسيرها الموضوعي، غير المخل بقيم التسامح التي تدعو لها الاديان بصيغ مختلفة، لكن من أين جاءت قيم اللاتسامح؟ ما هي مناشؤها؟. وهذا ما قام به الأستاذ الغرباوي؛ حيث تقصى منابع اللاتسامح، ودعا الى تجنيها ومكافحتها تمهيدا لقيم التسامح: منطق العنف، الولاء القبلي (العصبية)، سلطة القيم، الأستبداد السياسي والتطرف الديني.

منظومة القيم تتقاسمها العشيرة والدين والموروثات الشعبية، وكل قيمة أخلاقية تنتمي في مرجعيتها الى واحدة أو أكثر من المصادر المذكورة، فهي اما ذات مرجعية دينية أو وضعية سياسية أو اجتماعية معينة أو موروثات شعبية متراكمة، وهذه تنتج مقاسات للتفاضل وأسس التعامل مع الآخرين، كالتسامح والتعصب، ورفض الآخر وتهميشه هو جوهر الأستبداد السياسي. يقول الباحث في هذا الصدد: (التسامح نسق قيمي واخلاقي يراد احلاله محل النسق القيمي والاخلاقي الذي ما زال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، وهو نسق وليد منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. وطبيعة هذه القيم انها تتقاطع مع قيم التسامح، لانها تكرس صفة العصبية والرفض والاقصاء. فلا يمكن للتسامح ان يكون فاعلا مؤثرا في مجتمع ما زال يتعهد تلك القيم الموروثة ويلتزم بها. أي ما زال يتمثلها قيما اخلاقية يستمد منها وجوده ومكانته داخل الوسط الذي يعيش فيه. ولا يمكنه التخلي عنها او التنكر لها، لان في ذلك – كما يعتقد - مصادرة لموقعه وقيمته التي هي رأس ماله الاجتماعي، وعلى اساسها يقيم علاقاته ويتخذ مواقفه من جميع القضايا، بل ويعتقد انها اساس وجوده)[20]. ويضيف: (وتتعدد منابع اللاتسامح تبعا لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وايضا تبعا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية. لكن ثمة منابع تعد الاهم بينها، وهي المنابع التي تفضي الى التعصب الديني والقبلي والسياسي، وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم)[21].

وقد استشهد الأستاذ الغرباوي بآيات كثيرة من القرآن الكريم، لتأصيل مبدأ التسامح، بعد أن تكلم تفصيلا عن منابع اللاتسامح واحدة بعد أخرى، كشف عن جذورها، وبيّن أبعادها ومخاطرها وتداعياته. أما قيم التسامح فهي قيم انسانية، نابعة من الرحمة الإلهية. وأما ما يُنعت به الاسلام من تطرف وإرهاب فهي آراء شابها الكثير من التحامل، على الاسلام وطمس مقاصده الإنسانية، نتيجة لتاريخه الذي طغى عليه العنف وسفك الدماء، وهو تاريخ السلطة التي تمادت في سفك الدماء باسم الدين لكن للاسف الشديد حُسبت على الاسلام. وإلا فآيات التسامح التي أدرجها في الكتاب أكثر من 60 آية، غيبها النسخ، وعطل فاعليتها. جميعا آيات رحمة وتود ومغفرة وتسامح مع الآخر، كما يقول الباحث الغرباوي في كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح[22].

السياسة والوعي

ظل الباحث ماجد الغرباوي، يتابع مسألة الوعي، تارة يراهن على الوعي وأخرى ينسب المظاهر السلبية والنكسات الحضارية الى رثاثة الوعي، فهو يتوجس كثيرا من الوعي السلبي، ففي كتابه: (جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق)[23]، راح يستعرض مشاهد السلطة في العراق، من خلال تتبع وعي الشعب عبر مواقفه من المواطنة، الاستعمار، المليشات، القيادة، الاحزاب السياسية، المرجعية الدينية وغير ذلك. وقد عقد المحور الثالث لموضوع: أزمة الوعي السياسي، كما خصص المحور السابع إلى: الوعي الحضاري. فالكتاب يدور حول الوعي السياسي بالدرجة الأولى.

ولنأخذ مشكلة المحاصصة الطائفية، التي نختتم بها المقال، وتلك ابرز مشكلة ما يزال يعاني منها الشعب العراقي، ترقى للمعضلة او المرض العضال، يتعمق الأستاذ ماجد الغرباوي في الحفر ليصل لجذورها الضاربة في عمق التاريخ، فهو لا يعتقد أنها حدثا وقتيا طارئاً، أوأنها ستزول بمجرد اتفاق بين الكتل السياسية، التي تتصارع على الحكم، وعلى اساس هذا التحليل العلمي لا يصدر حلولا استهلاكية جاهزة للتطبيق، لا تلامس الواقع المتأزم في العراق، والتحولات السياسية التي ساهمت في خلقه في مرحلة من أصعب واخطر المراحل التي يمر بها العراق، منذ عام 2003 وحتى الآن، وإنما يرى (أن ظهور الطائفية في زمن الحرية يفضح عمقها وتجذرها، ويكشف عن وجود عوامل خفية كانت تعمل على تغذيتها وكبتها في آن واحد، وما لم نقف على تلك الأسباب لا نستطيع فهم الظاهرة وكيفية معالجتها والتخلص منها)[24]. وهذا ليس مجرد رأي شخصي، وإنما استقراء واستنتاج، طريقة علمية، هي أحد طرق البحث في علم الإجتماع، عند دراسة مشكلة اجتماعية ما.

ويستنتج الباحث "أن العراق برع في قدرته على التعايش السلمي بين المذاهب والأديان المختلفة، إلا ان ألإستبداد السياسي كان السبب الأساس في تسرب شحنات سالبة الى الشخصية العراقية، وكان المصدر في تغذية الحس الطائفي"[25].

بينما يجعل الوردي من البداوة المؤثر الأهم في إزدواج الشخصية العراقية[26]، يقول "ان العصبية المحلية تنمو في نفس الطفل، فيتعصب لأبناء محلته، وقد تتحول هذه العصبية المحلية الى عصبية عشائرية او طائفية او دينية، أو ما اشبه، وهكذا ينشأ العراقي وهو شديد التعصب لدينه وطائفته، بينما هو لا يعرف من واجبات الدين شيئاً"[27].

وبعد كل هذا التحليل والاستنتاج العلمي يقترح الغرباوي؛ الحل المناسب لمشكلة الطائفية، التي انتجت الفساد المالي والإداري، وبددت ثروات طائلة كان العراق بأمس الحاجة اليها للإعمار، يقول الأستاذ الغرباوي في معرض اقتراحه لحل عملي واقعي ما يلي:

(.... ليس في الكلام تحريض، او تكريس للخطاب الطائفي وإنما هي قراءة موضوية للمسألة الطائفية وفهم لها في ضوء خلفيتها التاريخية، واسباب تبلورها وتشكلها، من أجل الوصول الى تسوية ناجحة، مادامت لم تخرج عن السيطرة، وما زالت تتحرك على مستوى حقوق تاريخية مهضومة)[28]. ويضيف:  يمكن التخلص من الطائفية كمعوق من خلال الإستجابة لها وإشباعها (تحليل نفسي) وأول خطوة على الطريق الصحيح هو وعي الواقع. والقبول بالحققية، (لم يقل قبول الواقع) والإستجابة للتنوع الموجود على الساحة العراقية، كي يشارك الجميع في رسم مستقبل بلادهم[29].

هذا ملخص مبتسر لا يغني عن قراءة الكتاب، للتوسع في الوقوف على طروحات الأستاذ الغرباوي التي اشاد العديد من الكتاب الأكاديميين في هذا الحقل المعرفي، أعني دراسة التراث وتداعيات تأثيره على تاريخنا المعاصر.

وبذلك قدم لنا تحليلا سياسيا تاريخيا، وليس براغماتيا نفعيا، يصب في مصلحة جهة معينة. الغرباوي ينأى بنفسه ان يحابي أو يصطف مع جهة معينه.

عن الإمام علي بن ابي طالب (ع):

"لا يقيم أمر الله سبحانه وتعالى إلا من لا يصانع؛ ولا يضارع؛ ولا يتبع المطامع"

***

صالح البياتي – أديب وكاتب / أستراليا

......................

[1] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بغداد – العراق، 2008م، ص 25.

[2] - المصدر نفسه.

[3]- - الغرباوي، ماجد: إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، ط3، 2017م، ص 35.

[4] - الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 89.

[5]- المصدر نفسه.

[6] - الإحساس والمعرفة والوعي، كيف تصبح العقول واعية ص 107 - 108، أنطونيو داماسيو ، ترجمة د. عامر شيخوني ، الدار العربية للعلوم ناشرون ط / الأولى 2022.

[7] - إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري، حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2016م.

[8] - المصدر نفسه، ص 78.

[9] - المصدر نفسه، ص 18.

[10] - المصدر نفسه.

[11] - المصدر نفسه، ص 59.

[12] - المصدر نفسه.

[13] - المصدر نفسه، ص 60.

[14] - المصدر نفسه، ص59.

[15] - المصدر نفسه، ص 61.

[16] - المصدر نفسه.

[17] - التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 119.

[18] - جول لوك، رسالة في التسامح، ترجمها عن اللاتينية الدكتور عبد الرحمن بدوي، اصدار مركز دراسات فلسفة الدين، ص 41-44 .

[19] - أنظر كتاب: الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 22.

[20] - المصدر نفسه، ص 25.

[21] - المصدر نفسه.

[22] - المصدر نفسه، ص 143-149.

[23] - صدر عام 2016م، عن المركز العلمي العراق – بغداد.

[24] - المصدر نفسه، ص 163.

[25] - المصدر نفسه.

[26] - مقاربة في تحليل الشخصية العراقية بين الغرباوي وأستاذي الدكتور علي الوردي، والفرق بينهما ان الوردي يركز على الموثر القبلي في الصراع بين البداوة والتحضر، في كتابه (شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الإجتماع الحديث)، بينما يرى الغرباوي للمؤثر السياسي التأثير الأكثر.

منشورات دار ليلى – لندن، الطبعة الثانية 2001

[27] - المصدر نفسه، ص 50.

[28] - المصدر نفسه، ص 166.

[29] - المصدر نفسه، ص 164- 166.

........................

* مشاركة (50) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لست مبالغا بالقول، ان الاستاذ ماجد الغرباوي  موسوعة ممتعة تشرح الأفكار الفلسفية بصورة غاية في البساطة، وأكثر ما يميزها هو الاستخدام المبدع للأشكال الفلسفية  وشرح مفاهيمها الملتصقة بالحياة،  وبذلك جذب القارئ  له، بأسلوبيته الممتعة، وشخصيا، اثق بقدرته الشخصية على التفكير الفلسفي بعقلانية، مؤكدا قول أبي الفلسفة الفرنسية رينيه ديكارت (1596 – 1650) " أنا أفكر، إذن أنا موجود"  فالشك  الوجودي، ينطلق من الشك نفسه، المبني على النهج الفلسفي القادر على محاكاة الاشياء، والتفكير في سيرورتها، وبذلك نصل الى الجواب المنطقي، وهو ان الشخص الذي يفكر يجب أن يكون موجوداً، وهذا ما يشير اليه  دوما الاستاذ الغرباوي في كتبه ومقالاته.. حيث يوضح فيها أهمية الفلسفة وحاجتنا إليها..

قراءاته في الفلسفة، وفي العطاء  الثر الذي يتمثل في موقعه الاعلامي الرصين "المثقف"  يؤكد ان له قابلية حياة دائمة، وهو يسكن ذاكرته بشكل عجيب، ينضح ويتصفى ويشف كقطرات الماء الصافي، وبذلك  نعرف بأن  لولا الذاكرة لأنتفت القدرة على بناء الحضارة الانسانية، فالذاكرة هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن الانسان من خزن تجاربه وخبراته وخيراته المكتسبة في سباق نشاطه اليوم .

والمطلع على افكاره، يلمس عمقها في تناولها  لموضوعات قريبة من الواقع، بعيدة عن الرؤى الضبابية، مثل الحرّية والمسؤولية والعدالة الاجتماعية، ضمن مفاهيم  الفلسفة النقدية وفلسفة التاريخ، ويبتعد عن التنظير الذي ينفر منه القارئ، فإيمانه متجذر في ان متابعه وقارئه يهمهم معرفة معنى وجودهم، ويستجلوا غاية المتغيرات المجتمعية والكونية، لذلك أراه دائم التأكيد على إيمانه المطلق بالعقل الإنساني ما يشيئ الى نظرته الحياتية، المفعمة بالفلسفة، فالعقل عنده، عدو الوهم والانخداع والتعصب، لأنه لا يفتأ يجوب الآفاق سعياً وراء المجهول، حتى يكشف عنه ويجلوه للعيان .. والعقل بطبيعته منتظم وناظم، يربط حلقات المعرفة بعضها ببعض ..

في كتابات الاستاذ ماجد ، يحس القارئ، ان الكلمة فيها  تنطلق الى الاخرى بثقة عالية، ومن اللفظ الى معانيه، وهو لا يحدق في ما وراء الكلمات والالفاظ، هو يكتب وفق منظوره الخاص، معبرا عن دواخل ما يريد بيسر اخاذ، دون ان يتقيد بهواجس الاصداء التي ربما يطلقها من يريد المناكدة والنقد، واظن ان وراء تلك الثقة بالنفس التي يمتلكها الاستاذ ابا حيدر، شعور مبن على قناعة بأن كل مبدع حقيقي، هو شجرة شامخة، باسقة، ويرى في نفسه إنها تلك . .. الشجرة .

وهو ايضا  يؤمن أن الحياة شاسعة، والحقيقة ليست مجرد ادراك ذهني بحت، وقد دفعه حبه للحياة بما فيها من ثراء الى السفر في عالم الابداع وهو عالم واسع جداً، واثمر هذا السفر عطاءً ثرا في مجال الكتابة الفكرية، الى جانب الصحافة الثقافية الالكترونية التي قدم فيها اسماء عديدة هي الان في صدارة المشهد الثقافي العراقي والعربي ..

سبق أن كتبت عن ثلاثة كتب من كتبه، سنة: 2010م، هي: (التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات. وكتاب تحديات العنف، وكتاب الضد النوعي للاستبداد. تساؤلات عن جدوى المشروع السياسي الديني) بعنوان: كتب الغرباوي تدخل دائرة المحظور من باب النقاش.. تساؤلات عن الضد النوعي للاستبداد. أشرت في مقدمة المقال أنه يقدم أفكارا لم يسلط عليها الضوء احد كونها أفكارا من العيار الثقيل، التي يخشي الخوض في تلابيبها الكثرة الكاثرة من كتاب الفكرة الجاهزة والمطروقة.

تقبل مودتي ابا حيدر الحبيب ... ان السعادة تكمن في متعة الإنجاز ونشوة المجهود المبدع..

***

زيد الحلي – كاتب وصحفي عراقي

...................................... 

* مشاركة (49) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تشكل تجربة الخطاب الديني احد الوجوه الاشكالية، ويصعب تفسير المواقف والامور بدقة مضمونة، حيث موضوعة الدين اصبحت نتيجة للتفسيرات التاريخية متعددة الوجوه، ودخلت في أفق دائري، منع عنها أن تقرأ بيسر واستدلال مباشر، وصعوبة وانعدام القراءة الموازية. نشير هنا إلى احد الاسباب الاشكالية في فرض القراءة من الداخل، والتي نسميها بقراءة الانتماء، فتلك القراءة تمتلك الاعتقاد الجازم، والتي تتعارض مع اغلب من ما ينجم من قراءة خارجية، وتعتقد تلك القراءة أنها المسؤولة الاساس عن قضية الدين ومحتواه، ومن تلك القراءة تولدت قراءات أخرى تختلف وتتفق فيما بينها. والاختلاف له وجوه مثلما الاتفاق له وجوه. وذلك وجه موقف ايديولوجي كما نرى في تحليلنا للخطاب. وتطورت تلك المسؤولية وتعقدت إلى حد قد اصبحت ظاهرة اشكالية، وعلى وجه الخصوص مع العقل المثالي والحر، ومن الطبيعي القراءة الفكرية السليمة ستبتعد كثيرا عن الافق العام للمجتمع، والذي تتسيد فيها تلك القراءة الداخلية ذات الانتماء الجازم، والتي لم تفرض ذلك الموقف المطلق فقط، بل منعت أي تعرض لذلك الموقف، وبطريقة غير مباشرة اقتربت من الافق العام للمجتمع، وجبهة الفطرة والسذاجة والجهل، وتمكنت من صنع جبهة انتماء عاطفية تحتمي خلفها، لكن ذلك لم يمنع من وجود خطاب يمتلك التدبير اللازم والمنحى الفكري البليغ، وهو ينتمي روحيا للموضوعة الدينية، وذلك الانتماء الروحي اهم من تلك العاطفة الزائفة، وقدم لنا المفكر ماجد الغرباوي احد الامثلة النوعية المهمة .

تشغل الطروحات الفكرية عند ماجد الغرباوي على تحليل بنية النص الديني من خلال المناطق التي تخص من جهة المنطق الجوهري للدين، والذي يرتبط مباشرة بالعامل الإنساني مباشرة، ومن الجهة الثانية يرتبط بالفكر العالي، وليس بالفكر الادنى، حيث الادنى يكون واجهة للموقف الايديولوجي. أما العالي فيوازي العرفان، بالرغم من عدم تداخله. والخطاب والنتاج عند ماجد الغرباوي يتجاوز الايديولوجيا الدينة المغلقة، ويرى الغرباوي للنص الديني هناك هيمنة معرفية[1]. وتلك المعرفة تجعل حقيقة النص متحركة وليس ثابتة، وهذا ما يعني بتخفيف البعد الايديولوجي للنص الادنى وليس الاعلى، فإن النص الاعلى خالي تماما من البعد الايديولوجي، وأما النص الادنى الذي دخل في القداسة، فهو يعتبر مغلقا على نفسه تماما. وتقابل ذلك النص المغلق واجهة العاطفة، ورغم ذلك اتجه ماجد العرباوي إلى تفسير موضوعي لفكرة الغلق، وكذلك التعامل مع الفكرة بالتحرير لها وليس بالتعامل مع القداسة، والتي هي صناعة بلا مهارة جاءت من انتاج تلك الواجهة للعاطفة، وهناك من يشترك من جهة القداسة أيضا، من خلال ما يسمى اوهام النخبة. وتلك النخبة هي عضوية وداخل الزمن البشري، لكن التفكير لديها يكون عاموديا، وقد يوازي النص الاعلى، باعتباره نتاجا النص الاعلى. أو الترجمة من خلال النخب على مستوى البساطة، لكن تجد هناك تعقيدات كثيرة، ويرى الغرباوي بأن ذلك النص – يفرض أرادته ومحدداته[2]، لتعارض الطبيعة المثالية للعقل وتتجاوز لها .

تشكل مناحي التفكير المعرفة ليس نمط قراءة وتفسير وتحليل بتحديد المنهج الاحادي، وذلك من الممكن في دور الحداثة، وفي ما بعد الحداثة تغيرت المناحي بالتطور، لكن لا تلغي المنهج، بل تطور المنهج في القراءة ليكون بتعدد، وهذا ما اهتم به دور ماجد الغرباوي، وجعل القراءة في مثلث يبدأ من المنهج بالتفسير، ومن ثم يتجه نحو التحليل المعرفي، وبعد ذلك يكون ليس فقط امام النتائج، بل يجد امامه افكارا جديدة، وهذا ما يقارب منهج دريدا في تحليل النص. وفعلا المعنى للنص لا يستعاد، بل ينتج من جديد، حيث يرى ماجد الغرباوي النص الادنى قد استهلكت المعنى من أجل تثبيت القداسة، وتثبيت وحدة الزمن، ويعتقد أنه يجب (نقد مصادر المعرفة، وتحديد قيمتها المعرفية، والارتكاز للعقل في تفكيكها)[3]. والتحليل الموضوعي يتفق مع فكرة الاهتمام بالمعرفة المتعددة التوجهات، حيث الاتجاه الاحادي يوازي مسؤولية النص الادنى، ويتوافق مع التفسير المباشر أيضا، ونظرية القراءة تحتاج إلى تطوير أفقها للتتعدد ولكي نواجه النص بشكل متعدد وليس من جهة واحدة، فقد تجاوزنا القراءة الافقية التي فقط تهتم بسياق النتائج. ويعتمد الغرباوي القراءة المتعددة الافاق، كي نواجه عدة ابعاد للنص. والنص الاعلى يستقبل تلك القراءة النشطة في المنظور الديالكتي، وفي ذلك يكون النص دائرة معرفية أمام القراءة المتعددة، وهي قراءة معرفة وفهم وذوق ايضا.

يرى ماجد الفرباوي على العقل أن يتميز معرفيا بالتعدد امام النص، وكذلك عليه فعلا أن يميز حتى في التخصيص اللساني، وليس فقط في القبول والمعارضة، ومهمة العقل الحضاري ليست تتجه نحو النتيجة، بل تهتم بالتطور المعرفي للوصول إلى اعمق نقطة للنص التي تجاوزت القراءة الافقية لها، ويهتم العقل عند ما جد الغرباوي في معارضة تحديد حقيقة النص بشكل احادي، حيث يعارض العقل الموضوعي الخطاب الذي (يتصور أن ما يؤمن به يعكس تمام الحقيقة)[4]. فالحقيقة في القراءة ليست أفقا واحدا في ذاته. القراءة دائما أمام وجهات نظر متعددة، وهنا يكمن الاشكال، فهناك وجهات نظر احادية، وعلى وجه التحديد في السياقات المذهبية، والتي تعتقد بأن نظرية الدين تنطلق من ذلك البعد الذي بناه الخطاب، وتلك اشكالية تاريخية كما يرى الغرباوي. وليست فقط معاصرة. فصيرورة الدين توالت عليها الصدمات، حتى انحرفت السيرورة تماما عن السبيل الاساس لها، وأصبحت تحتمل مسارات جيدة بديلة لذلك السبيل. والسبيل هو سبيل الحكمة، فيما المسارات هي نتاج العقل البشري الاحادي، والذي يهتم بالتفسير الذي ينتجه خطابه فقط، ويعارض اي خطاب آخر، بل يمتلك استعدادا لهدم أي خطاب آخر يواجهه. وفعلا العقل الموضوعي في تلك المعرفة الديناميكية أصبح أمام جبه العاطفة وليس أمام الخطاب الاحادي الدور والموقف.

يهتم خطاب ماجد الغرباوي بالجانب الاساس على مستويات المعرفة والفكر طاقة العقل في التحليل الموضوعي، ويتجنب التفسيرات العامة، بل يمتلك الخطاب لقراءة ثانية ما بعد القراءة الأولى، والتي لا تكون معالجة بل تحليلا لاكثر من جانب احادي. وصراحة يدرك ماجد الغرباوي أهمية التاريخ، بالرغم من وجود اشكالات إزاء الاضافات البشرية، والتي تتنافس بالسيرورة من خلال عاطفة القداسة الواهمة، والتي تتبع بشرا كليا وتؤمن بالله. والخطاب تعامل مع تلك الاشكالية اكثر من موقف للخطاب. ويؤمن الغرباوي بأن النص يؤمن حقيقته بنفسه، وأما ما يضاف يسعى لكسب الموقف لنفسه، وتلك الاشكاليات المعقدة وقف امامها الخطاب الفكري بطروحات معرفية موضوعية، ولا يميل الخطاب نحو جبهة معينة، بل يضع الخطاب الجبهات والتاريخ امامه، ويتعامل مع التاريخ كما يتعامل مع خطابات الجبهات الدينية. ويؤمن خطاب الغرباوي بأن الحقيقة المفردة في النص العلوي، فيما النصوص الادنى تحتاج إلى قراءة مضافة، وهي ايضا تحتمل حتى التأويل المضاد، بالرغم من ان خطاب ماجد الغرباوي لا يهتم بالتأويل المضاد، فهو معادل للنص البشري من الجهة المقابلة. أما المعرفة في الدايلكتيك هي انتاج ما بعد القراءة الافقية للنص. والمعرفة تعيد قراءة النص العلوي من اجل الفائدة، وما يستجد من أفكار معاصرة جيدة لم تستغل وتكرس من خلال النص الادنى، ولم تصل لها عاطفة التقديس، لذلك يمكن للخطاب أن يستمد تلك الافكاروينظم لها ويعيد انتاجها .

تقدم المعرفة في السعة الفكرية من الافكار عادة غير مكرسة، ولا بد من العقل ما فوق البشري، وليس العقل العلمي أو العقل الديني، ولا العقل السياسي، بل العقل الحر في التفكير، والذي يملك حرية الموقف، وقد اتجه ما جد الغرباوي نحو تلك الحرية التي هي انتاج وليس كسب من المجتمع السياسي أو الديني، وقد طرح لنا في خطابه بكتاب – اشكاليات التجديد – ذلك الموقف، وقد اكتسب الخطاب قيمة انتاج الحرية، فهناك فارق كبير ما بين العقل الحر والعقل المقيد، لذا يسعى خطاب ماجد الغرباوي إلى كشوف تعالج الاشكالات تعيد تفسير الافكار التي قيدت من خلال السلطة الدينية، والكشف أيضا يظهر دور السلطة السياسية، والتي هي تحتمي في ظروف داخل السلطة الدينية وتختمي بها، وفي ظروف معاكسة تجعل السلطة الدينية خلفها، وخصوصا في المكاسب المادية، لذلك يجد ماجد الغرباوي من المهم أن (ينعم الفرد بحريات تتيح له المشاركة والمراقبة والمطالبة بحقوقه)، وكما جاء في الصفحة 12 من كتاب أشكاليات التجديد[5] كدليل معرفي على أهمية حرية الانتاج، ويعتقد ماجد الغرباوي الحرية الاجتماعية في محنة. فالمقدس يمتلك قيود، والسياسي أيضا يتملك تلك القيود، والقبيلة والاسرة كذلك تمتلك قيود، وتلك القيود قد وقف ازاءها ماجد الغرباوي في كتاب – أشكاليات التجديد – على وجه الخصوص، وفي نفسه أيضا يقر بأن الحرية في محنة، وذلك منذ أن ذبح سيد الحرية من أجل السلطة السياسية .

إذا كانت الحقيقة الفكرية لا تحتاج إلى أقنعة أو تحسين كما يرى ماجد الغرباوي، فلماذا كل تلك الأقنعة التاريخية، والتحسين المرتجى الذي قلبه الصولجان الدين على قفاه، وتلك التحسينات التي ذهبت لصالح السلطة الدينية أو الدنيوية السياسية أو مركز القداسة، قد فصلت النظرية عن الواقع البشري لها، وكما استبدلت قيم الصلاح الإنساني إلى التزامات بالعبادات، على اعتبار عالم العبادة هو عالم الزهد، والعالم العملي للدين عالم الانجذاب للدنيا، وهذا ما أنتج مجتمعات للدين في خمول تام، فالواقع العملي للدين هو الرهان، لكن عالم قداسة الفقاهة وعسس الدين حولوا المسار، ونستذكر هنا عندما بنى إبراهيم بيوتا لله، سأله الرب كمْ من الجياع أشبعت، وهذا ما يعني دور العبادة للخمول الديني وللزهاد، فيما الواقع العملي لخلق قوانين صارمة للتعامل البشري، وصراحة السلطة الدينية هنا قد تجاوزت عقبة عصيبة، فلن يكون هناك إلا ذلك الالتزام العبادي، والذي قد أنتج له ذلك الكم من الأحاديث والروايات، والصلاة في الجامع أصبحت البديلة لصكوك الغفران، وأصبحت النص الديني الذي تستقبله السماء مباشرة، وتلك الشكليات استهلكت أوقات الأفراد، وتقريبا فأنعدم الاستعداد إلى الواقع العملي، وانعدمت الإرادة والحرية نتيجة لوجود آلية حكمت الحياة البشرية، ويرى انجلس من الواجب أن يكون النظر للعالم ليس ككيان من أشياء جاهزة، بل ككيان من عمليات، وهذا الرأي اعتقد يضعنا في مواجهة حتمية مع الدين الجاهز الذي انتقده موضوعيا ماجد الغرباوي، الذي هو وثيقة وليس بنص، وتطرفها هذا استوجب الرفض والاعتراض والاحتجاج والنهضة، والعقل ليس تلك الخطابات الجاهزة، بل العقل الحقيقي هو ذلك الضمير الحيوي والفاعل كما عند خطاب ماجد الغرباوي، والخطابات نتاج وعي ونفس بشرية، وتختلف فيها وجهات النظر، وهذا هو جانب الاصالة الموضوعية.

يشكل الخطاب الفكري عند ماجد الغرباوي ليس في توجه مسار احادي، وأستبدل كلمة – مسار – فهي لا تتوافق مع بنية الخطاب، وكما أعتقد بأن كلمة – سبيل – اكثر ملائمة مع بنية الخطاب في الجانب الموضوعي، والذي يعتمد عليه الخطاب بشكل اساس، فالخطاب يسعى إلى موازاة مفهوم كلمة سبيل، أي أتخاذ المعرفة الخالصة ذلك المبدأ لتفسير القضايا والافكار والمواقف، فالمعرفة في السبيل يعني الحكمة وليس المسار، فالمسار يأخذ ويلتزم بعد الايديولوجيا مباشرة، وتلك المباشرة بدورها ستخلق ذلك الرد فعل المعاكس، فيما الحكمة تختلف فتجعل رد الفعل يتخلى وينتمي لها. وصراحة لقد التزم ماجد الغرباوي في خطابه بالحكمة كمنطق جوهري، والتي هي مدعومة بالمعرفة الحقة، وكما مثل الخطاب الفكري حالة وسطية ما بين التشدد والتراخي، وبالرغم من وجود فطرة  للدين في نفس ماجد الغرباوي، لكن تلك الفطرة الاصيلة بحالة امتياز من النقاء النفسي،  وكما إن الجدارة الموضوعية لم تكن قد تخلت عن قيمة واصالة سبيل الحكمة، بل كانت في التحليل الفلسفي للخطاب قد لامست اعمق مناطق التفكير بتجرد تام، فالفطرة هنا هي اطار شخصي يقف بنقاء خلف حرية الخطاب ويتوازى مع تلك الحرية والخطاب أيضا، ووحدة العامل الموضوعي كانت هي النفس الاساس للخطاب عند ماجد الغرباوي، ونحن هنا لسنا ازاء تضامن شخصي، بل نحن إزاء فهم موضوعي وفلسفة حرية نقرأ ميزات ذلك الخطاب من جميع الوجوه، ولم نغفل الجانب اللساني، فوحدات الخطاب الاساس هي الجمل، وتلك الجمل تحتاج إلى تصنيف لساني، ونحن مع فصل الفكر عن اللغة، والنظر للغة هل هي مشبعة بحس شخصي أم حس موضوعي، وقد لمسنما في التصنيف اللساني اللغة متخلية تماما عن الحس الشخصي، والعمق الموضوعي لم يقف عند حد كما فسر لنا المستوى الفكري، وركن المعرفة يتجاوز ما قد بلغ تحليله إلى ما يحتاج إلى تحليل له من المناطق المجهولة، والغة أكدت هيب في سياق الفكر والتجربة والوعي المنصف .

من الطبيعي هناك فارق ما بين الاسلوب الفكري المعرفي وما بين الاسلوب المنهجي المحدد، فالمنهج يعتمد على المسلمات، ويجد تلك المسلمات حقيقة راسخة، ومن هنا قد يدخل المنهج في باب التقديس بالرغم من المعيار العلمي، وهذا ما يخالف التفكير المعرفي، والذي يجد تلك الحقائق ليست مطلقة، والمعرفة هنا تشير مباشرة إلى الخطاب البشري وليس إلى النص العلوي، فالخطاب البشري ليس بحقيقة تلزم الجميع كما يرى ماجد الغرباوي، وقد تطرق في كتابه – النص وسؤال الحقيقة – والتي نجد تلك الاشارة التي تبدأ من العنونة هي واضحة وصريحة ومباشرة، فماجد الغرباوي يرى كل خطاب هو وجهة نظر لايمكن لنا بالتسليم المطلق تماما، فنحن حيال فكرة مهمة يتبناها ماجد الغرباوي في خطابه، ووليم جيمس يرى بأن الحقيقة لا تستخرج من الواقع، بل هي امر يجب التعرف عليه، وأما مارتن هيدغر يرى تلك الكلمة النبيلة لقد استهلكت تماما حتى افرغت من أي معنى لها، وفعلا التصريح بالحقيقة الجازمة الذي يعارضه خطاب ماجد الغرباوي هو اعتقاد للحقيقة وليس الحقيقة نفسها، ومن الطبيعي الاعتقاد بفكرة من الطبيعي لا يعني الحقيقة نفسها، والاعتقاد هو تصور عن الحقيقة، لكن هو يزعم أنه مصداق للحقيقة، فيرى الغرباوي بأن القراءة المتحيزة فهي ستهمل الاسباب الموضوعية. وستفرض تلك القراءة ما تتبنى على المتن النصي، وتلك اشكالية تاريخية كما يرى ماجد العرباوي، حيث ستقوم بتشويه النص وتحتل مضمونه، وتلك القراءة لقد حكمت المضمون الديني بقيود العصبية والتطرف، وهنا لا تتجلى حقيقة النص، بل تصور تلك القراءة، والتي بنت على فهمها فقط .

***

محمد يونس محمد – ناقد وباحث فلسفي

.........................

[1] الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا. 2018م. ص 14.

[2] المصدر نفسه.

[3] الغرباوي، ماجد، مواربات النص، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2020م، ص 20.

[4] المصدر نفسه، ص 99.

[5] الغرباوي، ماجد، اشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا والعارف للمطبوعات، 2017م.

 ............................. 

* مشاركة (48) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لطالما كانت الفجوة بين التراث الديني والتقدّم الحضاري موضع جدل ونقاش مستمر في أوساط المثقفين على اختلاف أطيافهم. ففي كتابه "إشكاليات التجديد"، قدّم المفكر ماجد الغرباوي مقاربة وطرحاً حاول فيه معالجة هذا الموضوع، وكيف ينبغي علينا (كأمّة إسلاميّة) التعامل مع الواقع المعاش المتغيّر بشكل مستمر وبسرعة صاروخية، وبين هويّتنا الأصيلة ومكوّناتنا الثقافية ومفاهيمنا المُستلّة من قراءتنا لديننا والتي كثيراً ما تصطدم مع المدّ الحضاري العارم. يطرح الكتاب[1] آلية التوافق الوحيدة (من وجهة نظره) التي ستدفع بالأمّة تجاه مواكبة التطوّر الحضاري دون أن تهجر وتقطع مكوّناتها الأصيلة الفريدة. هذه الآلية هي "التجديد"، الشيء الذي يصفه الكاتب بأنّه "ضرورة حضارية" كونها حركة إنسانية مستمرّة تدفع باتجاه التطوّر وباتجاه طرح ما هو أفضل. يقول الكاتب :"فالتجديد ضرورة منبثقة عن حركة الأشياء، من أجل مواكبة حاجات الإنسان، والاستجابة لتطلعاته. إلا أن الدعوة له دعوة استفزازية، تثير حفيظة رجال الدين، وربما اشمئزازهم، لأنها تنطوي على اتهام مؤسساتهم، وانتقاد فكرهم، ودعوة صريحة لتمحيص التراث ومراجعة الثوابت، بل جميع المقولات العقائدية"[2].

يستعرض الكاتب حال الأمة وكيف تبلورت فيها ثلاث اتجاهات رئيسية إزاء الصدمة الحضارية التي أعقبت الانفتاح على الغرب المتطوّر علميّاً وتقنيّاً، بين "رجعية" ترفض كلّ ما يأتي من الخارج ولو كان علماً نافعاً، وبين "نبذية" ترى بأنّ هجران الأصل والقطيعة مع الماضي ومكوّناتنا الثقافية (كالدين) هو الحلّ، وبين "توافقية" ترى أنّه من الواجب الاستفادة من التجارب الإنسانية النافعة من كلّ الثقافات، وفي المقابل يجب أيضاً ممارسة النقد المستمر إزاء التراث كحركة دافعة لتصحيح الأخطاء بشكلٍ متواصل. العائق الأكبر، أمام هذه الحركة، هم رجال الدين الذين يرون في مثل هذا الحراك اتهاماً مباشراً لهم ولسلطتهم.

محاور الكتاب

يعالج الكاتب في "إشكاليات التجديد" ثلاثة محاور رئيسية. في المحور الأول، يتناول فيه وبشكل مفصّل الوضع الراهن، مقدّماً تحليلاً شاملاً إزاء الحال كما هو. ويؤكّد الكاتب، ضرورة الارتقاء بالوعي في الإنسان، وكيف تمّ تزييفه في الدول التي قامت (بعد الخلفاء الراشدين) لتحقيق مصالح وأجندات تخدم الغرض المخطّط له. ولن يتطوّر الوعي في المجتمع دون وجود مرجعيات تجدّد فهمها للنصّ الديني باستمرار بما يتناسب مع القرآن والسُنّة الصحيحة. يقول الكاتب: "الأمة بحاجة أولا إلى وعي رسالي، تتجاوز به أزمتها، حتى تستطيع تحدي الممنوع، ولا يتحقق لها ذلك، إلا بإعادة تشكيل وعيها داخل فضاء معرفي، يستظل بمرجعيات تجدد بإستمرار فهمها للنص الديني، في ظل المستجدات الحياتية المتأثرة بالظروف الزمانية والمكانية."[3] كما نبّه أنّه من الضروري ألا نسلك مسلك قوم عيسى حينما اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأن نميّز بشكل واضح بين الإلهي والبشري والمقدّس وغير المقدّس.

ولكنّ الارتقاء بالوعي ليست مسؤولية محصورة بالمرجعيّات الدينية المثاليّة المتصوّرة في الكتاب (المجدّدة لفهمها الديني باستمرار)، بل يشمل دائرة المثقفين وصنّاع الثقافة ومحركاتها (كالإعلام). فالثقافة هي المحدّدة للاتجاه العام لوعي الأمّة. ولذلك من الضروري أن يكون المُجدّد مثقفاً، وأن يمتلك العناصر الثلاث التي فصّلها الكاتب في الفصل الأول؛ المعرفة بالتراث وحيازة مكنة البحث والتفكير، والوعي بالواقع وإدراكه بشكل دقيق، والتشاعر معه لئلا يعيش المُثقف منفصلاً عن واقعه وواقع أمّته، واتخاذ الموقف الواضح الجريء والشجاع لخلق النموذج التضحوي الوقّاد لجذوة صحوة الأمة.

في أثناء تحليل الكاتب للوضع الراهن، استعرض بشكلٍ وافٍ مسار العقيدة الإسلامية منذ نشوئها وحتى الآن، وكيف كانت في نشأتها أنموذجاً عقائدياً فكرياً وهّاجاً، قضى على الوثنيّة وانسجم بشكل سلس مع الفطرة الإنسانية، وصار قلباً حيّاً نابضاً في أوساط الحياة الاجتماعية للناس آنذاك. يقول الكاتب: "تمتاز العقيدة الإسلامية بقدرتها على تجديد عقل الإنسان وانتزاعه من عالمه (الوثني، الطقوسي، القلق) إلى أفق رحب تتفاعل فيه العقيدة مع الحياة، ليفرز ذلك التفاعل مجتمعاً يتمثل القيم الإسلامية ويعيشها ممارسة يومية"[4]. بعد ذلك تطوّر البناء الفكري المحيط بالعقيدة حتى تشكّل ما يُسمى بعلم الكلام نتيجة المُطارحات العقدية بين الأطراف المختلفة (سواء المختلفة في الدين أو في المذهب نفسه). فمن وجهة نظر الكاتب، بالرغم من المساهمات الفكرية لعلم الكلام إلا أنّه كان أساساً في "موت الإيمان الحقيقي" حسب تعبيره وإبعاد العقيدة عن الممارسة الحياتية. كما قاد إلى تعطيل المنهج القرآني الواقعي والداعي دوماً إلى العمل الصالح بدل الجدل العقائدي. والمفارقة بعد هذا كلّه، هو أنّ علم الكلام، الناشئ من أجل استبقاء "العقيدة الصحيحة" ونبذ الأوهام الفكرية، انتهى إلى نشر أفكار مدمّرة كالجبر والإرجاء وتبرير أفعال السلطان، ومن ثمّ إطفاء فاعلية العقيدة في الحياة، وتأصيل الفِرَقية (مذهبية وغيرها) وتعميق خلافاتها وهجران الحوار مع الآخر إلى إقصائه، وبالتالي سقط الإنسان كإنسان وأصبح مجرّد أداة أو رقمٍ ممّثلٍ لهذه الفئة أو تلك.

في ضوء هذا، يرى الكاتب أنّ الأمة في حاجة إلى إنشاء وتطوير "علم كلام جديد" تتمّ فيه مجاوزة أخطاء علم الكلام السابق. وهذا لا يتأتى إلا بـ: إعادة النظر في القضايا الجدليّة ومعالجتها، واعتماد المنهج القرآني الموافق للعقل والفطرة، ونبذ الجدل والتكفير والإقصاء وانتهاج منهج الحوار العقلاني، والاعتناء بالإنسان كإنسان له كامل الكرامة والحقوق، وإعادة زرع العقيدة الحيّة في الناس المحرّكة لوجدانهم والفاعلة في حياتهم، وتقديم أجوبة مستمرّة للتحدّيات المتجدّدة النابعة من التغيّرات المتسارعة في العصر الحالي، وترك الجمود على أفهام السلف وتشجيع الاجتهاد في الأمور الفكرية والعقدية. فالكاتب يسعى، من خلال هذا الطرح ومن خلال علم الكلام الجديد، أن يعاكس التأثير السلبي الذي أحدثه علم الكلام القديم، والسير إلى مآل أفضل حالاً يرعى الإنسان ويوحّد الأمة ويعمل باتجاه التطوّر والرُقي.

وهذا لن يحدث (من وجهة نظر الكاتب) من دون تفعيل حقيقي لآلية الحوار مع الآخر المختلف. في بداية بزوغ شمس الإسلام، يرى الكاتب أنّ الحوار مع الآخر لم يكن مشكلة، بل كانوا سبّاقين للتعاطي مع الاتجاهات المختلفة. يقول الكاتب: "ولم يتخل المسلمون عن شروط الحوار مع الآخر، رغم تماديه وإصراره على التمسك بموروثه الثقافي المثقل بحمولته الفكرية اللادينية، واللاحضارية في أحيان كثيرة"[5]. واستطاع المسلمون، نتيجة انسجام عقيدتهم مع العقل والفطرة، أن يحسموا معظم المعارك الكلامية والفكرية في حواراتهم مع المختلفين آنذاك. ولكن هذا الانفتاح الفكري تقهقر مع الزمن عند نشوء الفِرَق الكلامية المتناحرة والمُكفّرة لبعضها البعض، حتى خنقت البيئة الفكرية الحاضنة للحوار مع الآخر. ونحن في حاجة ماسّة للعودة لشيء من ذلك الانفتاح لبدء حركة التدافع الفكري المنتجة والفعّالة. يرى الكاتب أنّ الانغلاق الفكري المعاش اليوم يتناقض بشكلٍ صريحٍ مع منهج القرآن الداعي باستمرار للحوار وبناء الجسور مع الآخر من خلال "كلمة سواء" و"التعاون على البر والتقوى".

والحوار المطلوب هنا ليس مقتصراً على أوساط الأمة فقط، بل يتعدّاه للحوار مع الآخر المختلف حضارياً، ومثاله الصارخ في واقعنا الحالي هو الغرب المتفوّق تقنياً وحضارياً. فقد أصبح الغرب، بحكم هيمنته الحضارية والعلميّة والتكنولوجية، مركز العالم، وبذلك غدت الحاجة ملحّة لتطوير الحوار معه عبر فهم منطلقاته وأدوات التواصل معه (كاللغة والبنية الثقافية والمرتكزات الفكرية وغيرها). يُبيّن الكاتب هنا أنّ المشكلة الحالية متواجدة في الطرفين، فالغرب أيضاً متراجع أخلاقياً تجاه الآخر، وكثيراً ما يتصرّف حيال الآخر بالطريقة التي نظر لها هنتنغتون في "صراع الحضارات"، وفوكوياما في "نهاية التاريخ"، كحضارة مهيمنة على الآخر ولكن منغلقة على ذاتها في التعاطي معه. فهناك ضرورة ملحّة لتطوير الحوار والتعاطي مع الآخر الحضاري من جميع الأطراف.

ويواصل الكاتب في تبيان أنّ البيئة الحاضنة للحوار بين المكونات المختلفة للأمّة ستخلق الجو المناسب لتشكيل ما يسمى اليوم بـ"المجتمع المدني"، فيتناول خواص ومميزات المجتمع المدني، بأنّه يتمتّع بشخصية مستقلة، ويزخر بالمؤسّسات المختلفة المحافظة على حقوق أفراده، ويسمح لأفراده بمساحة واسعة من الحريّة خصوصاً الفكرية والعقدية بما يعطيهم مرونة في الحراك الفكري الاجتماعي وبالتالي تكون انتماءات الجميع طوعية، ويؤسّس لنظرة وفلسفة للكون والحياة تسع الجميع، ويضع حقوق الإنسان كإطار شامل لجميع أفراده. يرى الكاتب أنّه من الجيد "تبيئة" هذا المفهوم، وأنّه مماثل لحدٍ كبير لمجتمع الرسول الذي أسّسه في المدينة (مع فروقات الزمن والتطور الإنساني والتقني)، وبالتالي لا بأس من استعارته وتبنيه. ولكن من الجدير بالذكر أنّ الكاتب يرى أنّه يجب "تبيئة" هذا المفهوم و"أسلمته" أيضاً، ذاكراً هنا كلمة السيد محمد خاتمي الذي ذكر مفهوم "المجتمع المدني الإسلامي" المختلف عن نظيره الغربي، حيث أنّه يجب "استبعاد أسس الغرب الفلسفية ونظرته الخاطئة للكون والحياة"[6] على حد تعبيره. ثم يذكر خواص المجتمع المدني كما ذكرها السيد خاتمي، في خلوه من الاستبداد بكل أشكاله، وتكريس كرامة الإنسان فيه، وتأصيل حق تقرير المصير ومحاسبة المسؤولين، وأنّ الحكومة خادمة للشعب. كلّ هذا ناشئ ونابع من مدينة النبي، كما يرى السيد خاتمي.

كما يطرح الكاتب رؤيته في التعاطي مع تفسير النصّ القرآني، حيث يرى وضوح رهان القرآن على عقل الإنسان، وبالتالي فالعقل يستطيع التعاطي مع النصّ القرآني بغية تفسيره، ولكن بقيود ضابطة (حسب وجهة نظر الكاتب). فالكاتب يوافق رؤية الشهيد محمد باقر الصدر، القائل بأنّ التفسير يجب أن يكون "حواراً متجدّداً مع القرآن والواقع" لحمايته من الجمود وتكلّسات فهم السالفين. كما يطرح الكاتب مقاربة أوّلية لكيفيّة التعامل مع المرويّات إزاء تفسير النصّ القرآني، مفصّلاً ومبيّناً طرق التعاطي المختلفة بناء على نوعيّة الروايات. فمن وجهة نظر الكاتب، يرى أنّ التعامل مع روايات الأحكام ليس ذاته مع روايات مصاديق الآيات، وأنّ بعض الروايات مرفوضة لمخالفتها القرآن والعقل، والبعض أتى ليخاطب الناس على قدر عقولها وبالإمكان تجاوزها لما هو أكثر تطوّراً ومناسبة للعصر الحالي. بالإمكان القول أنّ الكاتب، ولو لم يصرّح بهذا الشيء علناً في الكتاب، أنّه ضدّ تقييد القرآن بقيود المرويات، وأنّه مع محاولة فهم القرآن بالتماشي مع الروايات الصحيحة (دون التفصيل الدقيق في النقاش في دائرة الصحة أين تقع). والكاتب يعاتب كيف تحوّلت كتب التفسير إلى خطوط حمراء تقمع كلّ محاولة للخروج بفهم جديد، وهذه أيضاً إشارة لمظهر آخر للشيء العضال الذي أعاق فكر الأمة، ألا وهو الخلط بين الرسالة الأصيلة (الإلهية) والنتاج البشري (كالتفسير وآراء الرجال مثلاً).

التعددية

يختم الكاتب استقراءه لوضع الأمّة الراهن عبر معالجته لمفهومين معاصرين تداولُهما شائع في أوساط النقاشات الاجتماعية والسياسية، وهما مسألتا "التعدّدية الدينية" و"الولاء". فمن وجهة نظر الكاتب، فكرة التعدّدية الدينية الناشئة من عصر النهضة والمضادّة للمنظومة الكنسيّة ثبتت شياع الحقّ عند الجميع وكلّ الأديان، وهذا شيء لا يناسب بُنية الإسلام لأنّ هذه الفكرة تفرّغ الدين من محتواه الحياتي. هذه الفكرة تختزل الدين لتجربة روحيّة باطنية بعيدة عن الشعائر وأحكام الشريعة[7]، وهذا -في نظر الكاتب- يزيح الإسلام من فاعليته الحياتية. ولكن بالرغم من هذا فالكاتب لا يرى انحصار الحقيقة عند جهة أو دين واحد، وفي ذات الوقت لا يرى الجميع على حقّ، ولكن يرى بأنّ كلّ الناس لديها منهاجها التعبّدي أو العقائدي به تعرف الحقّ، وأن كل جماعة، أو فرد، تحكمه ظروف فريدة تجعله يتبع منهاجاً معيناً. وكأنّ الكاتب هنا "يعذر" الجميع ويعتبر الكلّ عيال الله، ولكن من دون الاعتراف أنّ الجميع على حقّ على نسق فكرة التعدّدية الدينية.

الولاء

أما بخصوص الولاء، فقد استعرض الكاتب كيفيّة تغلّب الرسول (ص) على هذه المسألة بحكمة وحنكة بالغة؛ بأن وحّد بطون وأفخاذ القبائل المُتفرّقة تحت لواء واحد وهو الولاء لله عز وجل. أمّا بعد ذلك فالمسألة تفرّقت وعادت للولاءات التحزبيّة والقبليّة وغيرها، وأصبح الولاء للأفراد مفضّلاً على الكفاءة والنزاهة حتى في المؤسّسات الدينية نفسها. وهذا الأمر معاكس للنهج القرآني، وينتج بيئة من الولاءات المتناحرة على شكل إقطاعات تعيش تحت كنف دولة واحدة ولكن ما من أحد يدين لها بالولاء، بل كلٌّ له ولاؤه. فالبعض ولاؤه مذهبي، والآخر قومي، وغيره عشائري، والخ من هذه التحزّبات الطاغيّة على اللواء الأكبر. يشير الكاتب إلى أهمية معالجة هذه المعضلة والعودة إلى ولاء واحد يتوحّد فيه الجميع وتزول فيه الجدر الفاصلة بين الناس.

مشاريع التجديد

ينتقل بعد ذلك الكاتب إلى استعراض نماذج من التاريخ الحديث التي كانت منارة تجديدية (من وجهة نظر الكاتب) أحيت الفكر الديني بعد ركوده. فاستعرض سيرة ونهج جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد باقر الصدر، والإمام الخميني. وبيّن أهم مرتكزات حركة ونهضة كلّ شخصية من هذه الشخصيات العملاقة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. فالأفغاني مثلاً عمل على محاربة الاستعمار، ومناهضة الاستبداد بأنواعه. كما ركّز بشكل واضح على توعية الناس، وتنقية الفكر الإسلامي من الشوائب المخلّة به، وأطلق مشروع الجامعة الإسلامية المعروف.

أمّا الإمام محمد باقر الصدر فقد أحدث موجة فكريّة عارمة في مجالات المنطق والفقه والفلسفة والتفسير وحتى الاقتصاد. فقد اشتغل بنقد التراث دون قيود التزمتّات الدينيّة والخطوط الحمراء، وعمل على دراسة نظريّات الآخرين من خارج الدائرة الإسلامية، وعمد إلى تقديم رؤى إسلامية جديدة في مختلف الميادين. وكذلك ركّز على الارتقاء بمستوى الوعي عند الناس، وكذلك نظّر لأطروحة "المرجعية الصالحة أو الرشيدة"[8].

في المقابل، عمل الإمام الخميني على مشروع إصلاحي-إحيائي، يتصدّى فيه الفقيه لقيادة الأمة سياسياً بالإضافة إلى مرجعيته الدينية. فكان مشروعه مرتكزاً على عدّة أبعاد، منها مناهضة الاستبداد، وتأكيد دور العلماء الحقيقيين وتحجيم فقهاء السلطان، وقطع التبعيّة للدول الاستعمارية، وإقامة الدولة الإسلامية وتأكيد دور الأمة.

ونرى هنا نمطاً متكرّراً في أوساط هؤلاء المجدّدين، وهو نزعتهم لمقاومة الاستبداد بشتّى صوره.

الاستبداد وتداعياته

في الفصل الأخير من الكتاب، ركّز الكاتب على منظومة الاستبداد بوصفها أكثر ما كبّل الإنسان وأكثر ما حجب المجتمعات عن تطوّرها وترقّيها، مستشهداً بآراء النائيني والكواكبي حيال هذه المنظومة القامعة للإنسان وحراكه الفكري والثقافي. كما يبيّن الكاتب من أين وكيف بدأ الاستبداد، بعد العصر الأول وتحديداً بعد الخلفاء الراشدين. ثم يبيّن بوضوح المنهج المناسب لمحاربة الاستبداد، ألا وهو فضح الممارسات الاستبداديّة بكل أنواعها (سياسية كانت أم دينية أم غيرها)، وتبنّي الشورى والديمقراطية وضمّ جميع أطياف المجتمع، والانضواء تحت سياسة القانون وإرساء العدل للجميع. يقول الكاتب: "لا شك أن الشورى والديموقراطية هما طرفا النقيض للاستبداد، فإذا انتعشتا في بلد جفت منابع الاستبداد وأثمرت حياة حرة كريمة، وإذا ذوتا استفحل الاستبداد، وعاش الشعب ظلمة الكبت والحرمان"[9]. ثم يعرّج الكاتب بشكل مختصر على نموذج ولاية الفقيه والشورى كمنظومة قد تكون صالحة في ظلّ صلاحيات محدودة للفقيه (المرشد الأعلى)، لا صلاحيات استبداديّة تسمح له بتجاوز مبادئ العدل والشورى وحكم القانون.

الكتاب يتناول موضوعاً لا زالت الأمّة في أمسّ الحاجة إليه، ألا وهو نبذ الجمود الفكري والانطلاق نحو التجديد الفكري الثقافي على مختلف الأصعدة، فقدّم نظرة دقيقة فاحصة في تشخيص الوضع الراهن، ولم ينزلق كعادة بعض المثقفين إلى الاصطفاف في إحدى الضفتين؛ إما الدفاع بشراسة عن التراث بكل ما فيه أو مهاجمته والاستنقاص منه والتنكّر له، بل نحا المنحى العقلاني الذي يوازن بين الأصالة والمعاصرة. فلا كلّ التراث سيء، ولا كلّه جيد، ويحتاج لعملية تنقية ونقد وتجديد باستمرار لئلا نتكلّس ونجمد، فالتجديد سنّة الحياة كما يقول الكاتب. ولا بأس لديه في التعاطي مع المنتجات الثقافية والعلمية من الحضارات الأخرى بوصفها -على حدّ تعبيره- "نتاجا إنسانيا" يمكن الأخذ به أو ردّه على حسب فائدته. هذه النظرة المتوازنة توحي بكمّ من الانفتاح والاعتزاز في آنٍ واحد، وتسلك باتجاهٍ قلّما تكثر أنصاره لكثرة المنزلقين لإحدى الضفتين المذكورتين.

وعمد الكتاب بشكل جميل إلى تثبيت أسسٍ رصينة بالإمكان البناء عليها، كإرساء ثقافة الحوار ومناهضة الاستبداد بأنواعه. وكانت له ملاحظة ذكية جداً على "علم الكلام" القديم الذي طالما تغنّى به المفكرون الإسلاميون كعلامة تفوّق فلسفي على الآخر، بينما لاحظ الكتاب كيف درج علم الكلام هذا في نهاية المطاف إلى إطفاء جذوة الإيمان الفاعلة وتأصيل الِفرَقية بأشكالها وزرع العقائد المغلوطة والمدمّرة وتعطيل المنهج القرآني الأصيل وغرس ثقافة الإقصاء، وبالتالي سقط الإنسان كلّه. وعالج مشكلة مُعقّدة أخرى (ولو بشكل مختصر) ألا وهي مشكلة الولاءات المتفرّقة الغير متوحّدة. وثبّت دور المثقّف في التجديد، ورسم له نموذجاً نأمل أن نراه في الواقع، وهو أن يجمع المثقّف بين المعرفة العميقة، والوعي المشتبك بالواقع، والموقف الشجاع والاستعداد للتضحية.

وأحد أكبر نقاط القوة في الكتاب هو نزعته للتعاضد مع النهج القرآني بصراحة تامة، فالكاتب يشرّف القرآن بتبيان أنّ القرآن يراهن على العقل، وداعية إلى الحوار مع كلّ الأطراف، ومضاد إلى كلّ أنواع الاستبداد. كما يشدّد على الحاجة إلى تجديد التفسير للنصّ القرآني، وينتقد كيف أصبحت كتب التفسير خطوطا حمراء وآلية قمع للاجتهادات الجديدة، ويفرّق في أكثر من مرة بين الإلهي والبشري. ولكن ربما لم يتم استيفاء هذا الموضوع فهو شائك وطويل وبحاجة إلى تبيان منهج واضح مع أمثلة صريحة في كيفية التعامل مع الآيات الشائكة في القرآن أو التي قد تحسب ضدّ القرآن. فبعض التنظيرات العامة جميلة ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل، فما الآلية المناسبة لتطوير عملية التفسير، وهل ستظل حكّراً على بعض العلماء والفقهاء ومحرّمة على المثقفين مثلاً (كما هو الحال الآن)؟ بل حتى علم الكلام وتجديده، فلن يثمر شيئا ما لم يتم تجديد قضايا الكلام نفسها وتجاوز قضايا السابقين التي كانت معاول هدم ومصانع طحن أنتجت التكفير والتفرٌّق في الدين في مسائل عقدية ما أنزل الله بها من سلطان لا تثمر شيئا ولا تمس حاجة الإنسان والمجتمع ولا فلسفته في الحياة الموجّهة لأدواره البنّاءة.

قد يُعذر القارئ إن ظنّ أنّ الكاتب يناقض نفسه حينما تناول الكتاب قضية التعدّدية الدينية في بعض ما قاله آنفاً. فقد قارب ما حدث في عصر النهضة مع العالم الإسلامي وخلص إلى أنّ الإسلام لا يوجد به "إكليروس"[10] ولا تكفير، مع أنّ الشواهد تشير إلى أنّ كثيراً من المرجعيات بفئوياتها الضيّقة هي نوع من الإكليروس وتمارس التكفير لمن خالف ثوابتها أو نظرياتها (وقد ذكر الكاتب قبل ذلك شياع الفكر التكفيري كمظهر للتخلّف الحضاري). تجد في الكتاب عدم ارتياح في التعاطي مع فكرة التعدّدية الدينية بحجّة أنّها مفرّغة للدين من محتواه الحياتي، ولكن يبقى السؤال ماذا عن الأطياف المختلفة (حتى في الدين نفسه) التي لا تتّفق في ثوابت الشريعة مع الآخر وتمارس دينها بأسلوب قد يعتبره الآخر "تجربة روحية باطنية"، فهل يناقض ذلك وحدة الأمة أم يمزّق بين طوائفها؟

الكتاب صدر في سنة 2000 فهذه الآراء هي جزء من مسيرة الكاتب الفكرية ومن المستحيل أنّها لم تتطوّر أو حتى تتغيّر فتلك عادة المثقفين الحقيقيين. في الحقيقة الكتاب سابق لزمانه والقضايا الموجودة فيه ما زالت بذات الأهمية القصوى اليوم في هذه الظروف التي تعيشها الأمة. أنصح الجميع بالاطلاع عليه والاستفادة منه. فنحن بحاجة لمثل هذه النتاجات والتوجهات الدافعة لعجلة التجديد الفكري فقد تأخرنا كثيراً. أما كتبه الآخيرة فقد اشتملت آراء جديدة، بعضها قد تجاوز ما جاء في كتاب اشكاليات التجديد.

***

ابراهيم جلال القصاب - البحرين

....................

[1] الغرباوي، ماجد، إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2017

[2] المصدر نفسه ،ص23

[3] المصدر نفسه، ص38

[4] المصدر نفسه، ص58

[5] المصدر نفسه، ص70

[6] المصدر نفسه، ص87

[7] المصدر نفسه، ص127

[8] المصدر نفسه، ص181

[9] المصدر نفسه، ص232

[10] المصدر نفسه، ص126

 .............................

* مشاركة (47) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لقد بات مصطلح التنوير ومن يشتغلون عليه، أو ينتمون إليه إدراكا ووعيا موضع تساؤل وشك، واتهام من جهات معينة. وكأني بها تحرص على أن يظل "ما وجدنا عليه آباءنا" حاضرا وفاعلا ومحركا، ومثبطا للعقل، أو لأية محاولة لإيقاظه، أو حتى دغدغته!

ولكن للحياة دورتها، وللزمن ساعته، فإثر اكتظاظ الساحات بالمعوّقات الفكرية، والتدمير الإنساني بحجة الدفاع عن الدين، أو تطبيق شريعة الله، كان لا بد من أن ينهض بعض العاقلين، والحكماء، وينهض المثقفون لمن فضل السيف والقذف سلاحا  للتحاور، يعظم عندهم ليصبح تحليل الدم بالقتل أمرا مباحا، حيث جعل الاجتهاد حكرا على فئة وأسماء لمّعت لغاية، أو أخرى عبر تسلسل لا يقبل خدشا، أو استبدالا، وكأني بالعقول التي خصنا بها الله حجة للوصول المتيقن ممنوع عليها أن تتأمل، أو أن تفكر، تتلقى فقط.. رغم أن القرآن الكريم ثري بالخطاب الإلهي الذي يحض على التدبر والتأمل، والتفكر.

وفي غمار هذا وذاك، كان لا بد أن يظهر الأستاذ ماجد الغرباوي، وأمثاله من الغيورين على الدين، وعلى الطائفة المسلمة ليعيدوا غربلة ما طفا فوق السطح، وتقويم ما اعوجّ بما أوتي من الثقافة، والدأب والعمل، وأن يجتهد لإعادة الأمور إلى رصانتها المنشودة، فيشعر من أوتي جانبا من الحكمة بالاطمئنان إلى ما يتلقاه منه مادة، وشروحا.

ومن الجوانب التي آثر الأستاذ ماجد الغرباوي أن يوليه موضعا كبيرا، وقيّما في قراءاته المستجدة للتراث ولما نسب إلى الشريعة على لسان المتقولين، هي المرأة... المرأة التي شغلت للأسف مساحة وارفة من فكر أصحاب الرأي والاجتهاد، والشيوخ ذوي الاستنساخات المشوهة حتى ليوشك أن ينسب انهيار المجتمعات الإنسانية إليها، وتفوق التفكير في شأنها على ما عداه مما تحتاجه المجتمعات الإسلامية من الدعامات والأسس التي تقيم أودها وتصلح شأنها، ولا ضير إن اعترفنا ببساطة وصراحة أننا أمة مأسوف عليها فيما وصلت إليه من التردي، والتخلف والانقسام الطائفي، والانحطاط الفكري، إلا من رحم ربي وتنبّه إلى المستنقع الذي طال قدميه، فانتشل ذاته منه، ونتجت إثر ذلك حركات فردية ما تزال تنشر فكرها وتساهم في إضاءة العقول والنفوس على استحياء، ومن تجرأ بإعلاء صوته منها، يرى الكثير من الألسنة تمتد لتعمل فيه إساءة، وتكفيرا، ولن نهمل أن هناك من آثر الانفراد بما قد استنار به لنفسه بعيدا عن حروب من حملوا لواء التكفير والشجب، ليحشرونا في خاناتهم التي هي ليست إلا إثراء لسطوتهم، وجشعهم، وانحرافهم الضليل!

في اطلاع لي على كتاب "الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي"1الفكري التنويري الإصلاحي إن صح التعبير، تلمست رؤيته للمرأة ودفاعه عنها ضمن تسلسل تاريخي نابها فيه ما نابها من الاضطهاد والإسفاف، والالتفاف حول الشريعة ومعطياتها في ما يخص المرأة.

أقتبس هنا بعض ما ورد في الكتاب ضمن محاورة جديرة بالاهتمام والتقدير:

مقارنته وضع الرجل المركزي بشكل عام في كل زمن، قابله تهميش للمرأة ضمن قيم تنتمي إلى العبودية، ولم تغادر تلك الرؤية في العصر القبلي، ولا حتى في العصر الإسلامي، وقد تسربت تلك القيم رغم ما طرأ على المرأة بعد نزل الوحي من تطور على مستوى الحقوق والواجبات: (إن مركزية الرجل وهامشية المرأة، تنتمي لقيم العبودية، ولم تغادر المجتمع في العصر القَبلي، بل وحتى في العصر الإسلامي، تسربت تلك القيم، رغم ما طرأ على المرأة بعد نزول الوحي من تطور على مستوى الحقوق والواجبات)2.

إن الشاهد على تكريس دونية المرأة نصوص / روايات تنسب إلى عصر الخلفاء. وبعضها يروى عن النبي نفسه، وبعضها سلوك شخصي أو اجتماعي متعارف عليه "ناقصات العقول، كن من خيرهن على حذر، شاوروهن وخالفوهن" وغير ذلك من النصوص التي تمثل فجيعة العقل التراثي، وغربة المرأة داخله.يقول:(والشاهد أن أغلب النصوص التي تكرّس دونية المرأة تنتسب لعصر الخلفاء، بعضها يروى عن النبي وبعضها سلوك شخصي أو اجتماعي متعارف "ناقصات العقول، كن من خيرهن على حذر، شاوروهن وخالفوهن" وغير ذلك من النصوص التي تمثل فجيعة العقل التراثي، وغربة المرأة في داخله)3.

إنه من المأسوف عليه حقا أن تتداول مجتمعاتنا تلك النظرة التي لا بد أن لها أسبابها لو قورنت بالعصر الذي سيقت فيه، والتي لا بد أنها ارتبطت -إن صدق نقلها وتوارثها- برؤية ومصالح فرضها بعضهم في زمن معين لغايات والتماسات معينة، ولكن ماذا في العقول الذكرية والتي بعضها قد يفترض به ارتقاء سلالم الوعي والثقافة، والمكانة الاجتماعية، وهم ما يزالون يرونها الرؤية الصادقة ويربطونها بالشريعة، ومبادئها؟!

ويأتي الرد من الأستاذ الغرباوي معقبا ومحاججا بأن القرآن الكريم لم ينص على دونية المرأة، ولم يتحدث عن ثنائية النوع الإنساني إلا من خلال الجانب الوظيفي4، وأن في النصوص القرآنية إشارات وقرائن يهملها المفسر/ الفقيه كما في الآية الكريمة " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" والتي ما تزال تثير إشكاليات كثيرة، ورفضا واحتجاجا إيجابيا وسلبيا من جهة المرأة والرجل، إذ أن المفسر/ الفقيه يتكئ على بداية الآية، ويهمل الشروط التي قامت عليها.

ثم إن الغرباوي يسبر أكثر من آية كريمة فيها الإيحاء غير المباشر على المساواة بين الذكر والأنثى ويطيل الشروح المقرونة بالدلائل على معانيها، وعلى أن انتراع بعض المعاني وشرحها بعيدا عن السياق والإيحاء يعتبر جورا وظلما، ويخلص الأستاذ الغرباوي إلى أن مرجعيات الحركات الإسلامية سواء التراث، أو النص الديني هي وراء منطق تكريس دونية المرأة ومعاداة النسوية الداعية إلى تحرير وعي المرأة، واستعادة حيثيتها الإنسانية كي تواصل حياتها مستقلة بعيدا عن عقد المظلومية والانكسار5.

سنتحتاج وقتا طويلا، وأكثر من ثورة إنسانية فكرية لنتقبل الجديد، فكما قيل كل نبي غريب في أرضه، فإن إكرام متنور، أو مصلح اجتماعي لن يكون سريعا، إكرامه الذي أقصده، وعي ما قدمه ويقدمه لنا من فكر، وإدراك ما تحمله ثناياه جيدا من التحريض على إيقاظ العقل، وتحليل المعطيات لنتخلص من سلطة مفسر/ فقيه جعل من نفسه سيد العقلاء حين دفعته ذكورته التي ينتمي إليها إلى أن الرجل سيد المجتمع، وأنه الأفضل، والمتفضل، وهذا يقتضي أن تكون المرأة جزءا من متاعه خاضعا لإرادته يسوقه بعصاه كما يسوق أغنامه، فمن ذاك الذي يقبل بفقه فقيه يشرع وينسب إلى الإسلام ما لا يقبله عقل أو منطق، كتفخيذ الرضيعة، أو إرضاع الكبير لجواز الاختلاط مثلا" كما يذكر الأستاذ الغرباوي؟!"6.

قد ينبري أحدهم متهما أن الأستاذ الغرباوي ينبش في ذيول السلوكيات، ويحتج بها مما ذكرته أعلاه، لكن من يستطيع أن يغمض عينيه عن ممارسات القمع التي ما يزال يغص بها زمننا وحاضرنا من قهر للمرأة، وتعنيفها في أغلب بلداننا العربية، وهل السوشيال ميديا إلا السافر المسفر الذي لا نستطيع صده، وهويعرض علينا في كل حين مشاهد قتل وسحل للمرأة بمختلف الطرق، حين ترفض الزواج من أحدهم، فينحرها، وحين تغتصب طفلة من أقرب المقربين إليها، وتسكت أمها على الأمر خوفا من ذوي الشأن من الذكور في أسرتها، وضحايا الحروب والمعتقلات، والأطفال الذين ولدوا في السجون ثمار اغتصاب.... ماذا بشأنهم؟!

هو غيض من فيض فلسفه مشروع الأستاذ الغرباوي مشكورا في معرض لكشف الأستار، وإضاءة الأنوار حول وضع المرأة التي هي رحمنا الأول.. الأم قبل أن تكون الحبيبة، أو الزوجة وتتسلسل إلى ابنة وحفيدة، وسيدة مجتمع وكيانا قائما بذاته..

***

أمان السيد– أديبة وكاتبة

سيدني - أستراليا

.........................

هوامش

1- محمد علي، ا. د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي النسوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار الوفاء الاسكندرية، 2021م.

2 - المصدر نفسه، ص 56.

3 - المصدر نفسه.

4 - المصدر نفسه، ص 57.

5 - المصدر نفسه، ص 60.

6 - المصدر نفسه، ص 78.

 ...........................

* مشاركة (46) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

استطاع الاخ العزيز والصديق الوفي ماجد الغرباوي أن يوجد لنفسه موطيء قدم في ساحة الثقافة والفكر العراقية والعربية. ومن خلال قراءتي لبعض ما أنجز في سياق مشروعه التنويري، ومتابعة ما كتب عنه وعن منجزه في الساحة العربية الثقافية والفكرية أستطيع القول أنه من أولائك القلائل الذين مزقوا الشرنقة التي عجز الكثيرون من التخلص من خيوطها التي كبلت العقول من الانطلاق في آفاق التفكير الحر بعيدا عن القول «إنا وجدنا آباءنا على ....».

لا أعتقد أن أحدا منصفا يجادل في أن هذا الرجل المغترب عن أهله ووطنه كان عصامياً بكل ما للكلمة من معنى ودلالة، ولعل الالتفات إلى البيئة المتواضعة التي نشأ فيها وانطلق منها، والظروف غير المستقرة التي عاشها معاناةً في كل مراحلها وتقلباتها تؤكد بكل وضوح ما ندعيه لهذا المثقف المثابر من إصرار وعزم على بلوغ ما يصبو إليه من إيصال ما يعتقده من آراء ومتبنيات، بغض النظر عن كوننا نتفق معه في بعض ما يطرح أو لا نتفق.

لا أريد في هذه الكلمة القصيرة أن أقوّم مشروع الغرباوي، ولا أن أشير إلى نقاط قوته وضعفه بحسب رأيي المتواضع جداً، لأنني وجدت عددا لا بأس به من ذوي الاختصاص والرأي قد فعلوا ذلك، والسعيد من اكتفى بغيره كما يقال، ولذلك سوف أقتصر على إيجاز ما يتعلق بالأخ والزميل ماجد الغرباوي في الأيام التي كنا فيها زميلين في مدرسة علمية واحدة، وفي صف دراسي واحد يوم عصفت بنا أيام الهجرة والغربة لتلقي بنا في طرق ومواقع ليس لنا في اختيارها أو اختيار بعض تفاصيلها وجزئياتها إلا هامش ضيق من الحرية.

وبعيداً عن المقدمات وجدت نفسي ذات يوم في مدرسة دينية في مدينة تعد من المدن العلمية المعروفة باعتبارها حاضنة لأحدى الحوزات العلمية الدينية، وذلك في السنوات الأولى من عقد ثمانينات القرن الماضي، ومن الطبيعي في وسط علمي كهذا يكون المرء فيه أشد انتباهاً لما حوله فيما يتعلق بمحيطه العلمي والدراسي، على صعيد المواد الدراسية، والأساتذة المعتمدين، وكذلك الطلبة وزملاء الدراسة من عدة نواح وزوايا.

وقد لفت نظري ـ وبشدة ـ أحد الطلبة الذين تجمعوا في هذه المدرسة المتواضعة من محافظات عراقية عديدية، ولكنهم أمة واحدة من حيث الإيمان والأهداف والمتبنيات على الرغم من تباين وجهات نظرهم في ما اختار كل واحد منهم من أساليب العمل لأداء ما يراه واجبا مناطا به في تلك الحقبة الزمنية المليئة بالأزمات، وعنفوان الشباب المتفجر.

وبلا مجاملة ولا مواربة أستطيع القول أن صاحبنا آتاه الله بسطة في الجسم والعلم، كان «أبو صادق» الذي لا نعرف عنه إلا كنيته ـ في تلك الحقبة التي كانت فيها الأسماء الصريحة من أشد المحرمات ـ شابا جميلاً يتميز عن الجميع تقريباً بقامته وبياض وجهه المشرب بالحمرة وشعره المائل إلى الشقرة، ولا أتذكر الآن إن كان لقب الغرباوي شائعاً يوم ذاك أم كان الاقتصار على الكنية وحسب.

وأنا على يقين أن العقود الأربعة التي تصرمت لتكون فاصلاً بين ذلك التاريخ ويومنا هذا أنستني الكثير من التفاصيل والانطباعات التي كانت حاضرة يوم كنت ألتقي «أبا صادق» في أروقة المدرسة ومحيطها، وبين جدران صفوفها، ولكن ما أستطيع أن أجزم به الآن يتمثل في امرين أعتبرهما من أهم ما استقر في ذاكرتي فيما يخص الأخ العزيز ماجد الغرباوي.

الأول أنه كان من الطلبة المتفوقين في جميع مراحل الدراسة، وفي كافة مواد المنهج ومقرراته، ولعلي غير مبالغ إذا قلت أنني كنت أعده ممن أخشاه في حلبة التنافس العلمي حينما تعلن نتائج الامتحانات الفصلية والنهاية، لما يتمتع به من ذكاء، وجدية ومثابرة، ولست بحاجة إلى أن أستحضر ما يدل على ذلك، فمؤلفات الغرباوي وآراؤه دليل واضح وجلي على استيعابه وقوة إدراكه وإحاطته العلمية والثقافية.

الأمر الآخر الذي يعد من مميزات هذا الرجل وبشكل واضح كل الوضوح في ذاكرتي هو ما كان عليه من جدية وثقة بالنفس واعتزاز بآرائه ومتبنياته منذ أيام شبابه، وقد تجلى ذلك بأنصع صوره فيما كان يدور في أوساط الطلبة والمحيط خارج هذا الإطار من نقاشات ومداولات تتسع لأكثر من جانب على الصعيد العلمي والاجتماعي وحتى السياسي في تلك الحقبة الملتهبة بسني الحرب وأيام الأزمات.

لا شك أن البرهة الزمنية التي لا تتجاوز العامين أو الثلاثة التي زاملت فيها أخي ماجد الغرباوي لا تكفي لمعرفة جميع جوانب حياته المليئة بالعطاء والانجازات والمواقف، ولكن ما لا يرقى إليه الشك هو أن الرجل بنى مجده بيديه، ولم يتكئ إلا على إصراره وعزمه وجده وحزمه، وشعورية بالمسؤولية الملقاة على عاتق أصحاب الوعي والعلم والثقافة في وضع العلامات المضيئة لعلها تكشف جانباً من طريق الحياة الذي تسيطر العتمة على أكثر زواياه ومنعطفاته.

وإذا أردنا أن نختار سمة مناسبة لنعت هذا الرجل الجدير بالتقدير والاحترام لا نتجاوز مفهوم «العصامية» التي قيل فيها:

نفسُ عصامٍ سودت عصاما

وعلمته الكرَّ والإقداما

وصيرته فارساً هماما

عذرا أبا صادق فليس هذا القليل يفي بحقك، ولكنك كريم تقبل العذر، ولا يسعني في الختام إلا أن أفتخر بك رفيق درب وأخا صادقا ووفياً، ومثقفا رائداً نفض ركام المحنة والغربة والتشرد، وتجاوز الصعاب والآلام ليشيد مجداً وإن كان بعيداً عن مسقط رأسه ومرابع صباه، فهو ليس كما قال الشاعر:

وشيدت مجدي بين أهلي فلم أقل

إلا ليت قومي يعلمون صنيعي

كنا نتمنى أن يكون الغرباوي بلحمه ودمه بين أهله يكلمهم وجها لوجه، ويستمعون إليه بكل حواسهم ومشاعرهم، ولكن حسبك أبا صادق أنك من أؤلئك الرجال الذين قال فيهم القائل:

وكن رجلاً إن أتوا بعده

يقولون مرَّ وهذا الأثر

***

طاهر أبو آلاء – كاتب وباحث

 ......................................... 

* مشاركة (45) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قرأت له منذ سنين خلت من خلال صحيفة المثقف والتي  تكون تحت اشرافه.. يسير على مبدأ واحد ولا يمتلك محاباة برأيه ولا يميل لجهة معينة دون أخرى.. يمتلك مهارة  في انتقاء افكاره.. عرفناه مفكرا اسلاميا متنور الرؤى عميق التحليل جلي الأفكار بأسلوب رصين ...راقي اللغة رفيع المعاني ولا يهدف من ورائها منصبا أو مصلحة خاصة بقدر ما يهمه انتشال القارئ من ضجيج المفسرين وتنوع مشاربهم وتفسيراتهم التي لا توضح الفكرة انما تعقدها وتسحب القارئ الى مجاهل غريبة بعيدا عن الفكرة الرئيسية..

يمتلك شجاعة في قول الحق ولا يهاب لومة لائم ولا يجانب مهما كانت الظروف المحيطة به.. يعتمد على الاستنتاج العقلي والمفهوم المتحضر بروح انسانية عالية.

يبحث عن  الحقيقة لينير العقول التي باتت مشتتة بين هذا وذاك.. رجل ملتزم بقضيته متنور في زمن تتكالب فيه الناس على حطام الدنيا ويجافون الحقائق للمتاجرة بما يطرحونه من أفكار سطحية عقيمة لا تخدم مصلحة الناس  بقدر ما تخدم مصالحهم الخاصة.. مسك معوله بثبات وعزم وأخذ يحطم أسوار جهلهم وخرافاتهم التي عشعشت في عقول الكثير من الناس حتى كأنها غدت من الأمور المسلم بها.

لقد أسس بجهود  مضنية مفاهيما جديدة  راسخة لفهم  الدين بصورته الجليلة  الراقية كما أراد لها الله سبحانه وتعالى وبذلك دك معاقل التابوهات.. وسيكون لأطروحاته  أثر كبير في تحويل اسلوب الدراسة الى المنهج الحديث بعيدا عن المواعظ المكررة والساذجة التي  أرادها  الظلاميون ان تكون طريقهم لارتقاء سلم  مجدهم المزيف عن طريق الترهيب والترغيب والاسطورة والخرافة والتجهيل المتعمد.

وما أظن اني  بحاجة لإيراد الأمثلة على ذلك انما أيسر  الاطلاع  على مؤلفاته توضح ما ذكرته جليا.

قرأ  الغرباوي الدين الاسلامي قراءة منصفة مشذبة من  العوالق التي الصقت به فقدمه للقارئ  في كل كتاباته كونه  دين التسامح والرحمة والمحبة واحترام الانسان وان يأخذ كل ذي حق حقه.

لقد قدم للمكتبة العراقية والعربية ثراء فكريا جديدا بمؤلفاته القيمة.. وسيهتم الدارسون بهذه الأفكار النيرة التي طرحها وهي جديرة ان تدرس دراسة مستفيضة لما تحمله من أفكار ناضجة وأودع فيها المؤلف زبدة حكمته وأراءه والتي عالج من خلالها أسباب التخلف والجهل في مجتمعاتنا ...

يقول عبد الرحمن الكواكبي: لماذا يضعف المسلمون؟  يضعفون لانهم اهملوا آداب الدين التي نهضوا بها في صدر الاسلام.. ثم يتساءل: ولماذا أهملوا آداب الدين..؟ لأنهم جهلوا لبابه وأخذوا منه بالقشور.. ولأنهم فقدوا الهمة وقنعوا بالضعة واستكانوا الى الخور والتسليم.

***

سنية عبد عون رشو

.....................

* مشاركة (44) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

الأستاذ ماجد الغرباوي، مُفكّر تنويري يتميّز بقُدرته على النقد ومُساءلة القضايا والإشكالات القلِقة التي تُعدّ جوهرية تتطلّب المباحثة في سياق البناء الحضاري للإنسان. لديه حِسّ فلسفي نقدي تحليلي، يبتغي دومًا استحضار الإنسان والتأكيد عليه، في تفكّراته وتأمّلاته واستنتاجاته المعرفية والمنهجية بعيدًا عن أشكال الاستبداد خاصّة الديني، وعن الفكر المتزّمت، تأسيسًا لخِطاب ديني مُنفتِح وَسمته بأنه سمعٌ مُثمر وعقلٌ مُنتج في تكامُلية حيّة وتوليفة حرارية بين النقل والعقل.

على مُستوى علاقتي به، فإنّني أكنّ له كلّ المحبة والاحترام، إنسان عزيز، كريم الأصل ومُتواضع يسأل عن الحال ويتمنّى أفضله. فَتَح لي باب الكتابة والنشر في صحيفة المثقف القيّمة التي تضمّ مُختلف التخصّصات في تنوّع ماتِع ونافِع، كمَا يفتح المجال لجميع من يكتُب بجدّية، ولا يقتصِر الأمر على فئة مُعيّنة بدرجة عِلمية مُحدّدة.

في الأخير، أتمنّى له كلّ الخيرات والنجاحات، في انتظار مُستمر لكتاباته التي تستحِق النِقاش بالحُجّة، فمن بعث على ذلك كان حقًّا رَصين المبنى والمعنى.

***

الباحثة: شهرزاد حمدي – طالبة دكتوراه

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

تخصّص فلسفة عامة

.................

* مشاركة (43) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تجلّيات التنوّع في التّأويلية الهرمونيطيقية

إن قيمة أيّة مشروع فكري تنويري تتمثّل في نوعيّة هذا المشروع من حيث الأصالة والابتكار، هل يقدّم حلولاً جديدة، هل يعالج المشكلات بطرق مبتكرة، نتاج هذا المشروع وقابلية التطبيق هل تتميّز بالاستدامة، أخيرًا وهل يستطيع أن يحدث فرقًا إيجابيًا واضحًا في المتلقي والمجتمع على حد سواء؟

كما أن كلّ كتاب نتطلّع إلى قراءته لابد من عنوان مهم له يشدنا نحوه، أما قراءة فكر الغرباوي، فهي قراءة مثمرة بقدر ما تفتح الأعين على رؤى عميقة ومنهج تحليلي متفرد في معالجة الإشكالات والقضايا الإنسانية.

عُرف ماجد الغرباوي بأنه مفكر وباحث عراقي له مساهماته في الفكر الإسلامي المعاصر، فكيف يمكن تحليل ونقد الطرح الذي قدّمه في سياق الهرمونيطيقية وما الآثار النظرية والعملية المترتبة على هذا الطرح، والذي يسهم في تأدية دورًا مهمّا في فهم النّصوص بطريقة عميقة بين النص والقارئ، حيث يؤثر كل منهما في الآخر.

بداية تظهر إصداراته كمحطات يتأصّل فيها منهج هذا المفكر الذي عرفنا على التغيرات والتحديات التي لا تنفصل في رؤيتها عن منهجه المعرفي والمحاور الرئيسية في مشروعه الإصلاحي، حينما اتّخذ موقفا جريئًا ثابتًا ممن يُؤلّهون الأوثان البشرية، فقال: " يكمن خطر التراث في قدرته على تأليه أوثان صنعها بيده"، هذه المقولة إصلاحية بقدر ما يتم تفسيرها على أنها دعوة إلى إعادة النظر في بعض جوانب التراث، التي يمكن أن تعيق التقدم، أو تسهم في ترسيخ مفاهيم خاطئة، حيث الفكر الإصلاحي يسعى لتحديث الممارسات والأفكار دون التخلي عن الجوهر أو الهويّة الثقافية، ونستطيع القول أنها تنويرية بقدر ما تعزّز المشاعر الإنسانية التي تتّخذ طابع التّجديد لولادة فكر موضوعي يركز على العقلانية، والعلم، ويدعو إلى التحرر من كل أشكال السلطة التي لا تستند إلى العقل والمنطق، بما في ذلك سلطة التقاليد والتراث، وكلا الحركتين الإصلاح والتنوير تدعوان إلى ضرورة التفكير النقدي الذي يتزامن مع عاصفة من التناقضات الاجتماعية الراهنة، حاو من خلالها الغرباوي أن يؤسس قاعدة ثابتة، يتحرّر فيها من عقدة النّموذج، ومن حتميّات الدّلالة.

يعتمد المشروع الإصلاحي لدى ماجد الغرباوي على السياق التاريخي والثقافي للموضوعات التي أراد لها النور، فبدأ من الإصلاح الداخلي، إصلاح الأوضاع الدينية والاجتماعية إلى السياسية أحيانا داخل المجتمع، سعيًا إلى تطويرها من الداخل وفقًا مبادئه الأساسية.

حرص الغرباوي على احترام التقاليد والقيم الراسخة في المجتمع في مشروعه الإصلاحي ساعيا إلى العثور على نقاط مشتركة بين الثقافات لأهميتها التي تسهم في مد جسور التواصل، ويرى في الإصلاح طريقة لإعادة إحياء هذه التقاليد بما يتكيف مع العصر الحالي لرأب الصدع الحاصل بين الدين والأخلاق.

كما ويسعى إلى التغيير التدريجي، كسيرورة في التقدم المستمر، بشكل يتساوق مع بناء الوعي المعرفي، وإن كان مشروعه يبدو بأنه يحمل اللافتة التنويرية ويتّخذ منهج الإصلاحيين.

فقد طرح سؤالات كبيرة في كتابه" المقدس ورهانات الأخلاق " كدعوة لإيجاد إجابات تحطم أطر التراث التي تستغرق الذاكرة، بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، فالنهضة وفق منظوره يعرضها كأطروحة ثابتة، في إحياء الدين دون انحرافات، وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني، وربط العقيدة بالنظام السياسي والاجتماعي.

وقد استعرض د. صالح الرزوق - وهو مفكر وكاتب سوري له العديد من المقالات والكتب النقدية التي تناولت قضايا مختلفة كالدين والثقافة والسياسة - في كتابه " جدلية العنف والتسامح" فكر ماجد الغرباوي وتناول موضوع النّهضة والتجديد في الفكر الديني والفلسفي، فتقاطعت أفكارهما في الرؤية التي عدّها محاولة للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبأنه إصلاحي ينتمي لمعنى اليقظة الاجتماعية، واليقظة حسب الرزوق انتباه نفسي وثقافي يفترض امتلاك أدوات سياسية يمكن أن نعتمد عليها في حوارنا مع الاخر. كما بيّن كيف يمكن للتسامح أن يلعب دورًا في تخفيف التوترات والصراعات التي تنشأ من العنف المستند على التفسيرات الدينية أو الأيديولوجية. وناقش كيف يمكن للتسامح أن يسهم في إحياء فكرة النهضة من خلال تشجيع الحوار والانفتاح على الآراء المختلفة.

دعا الغرباوي إلى خلق قطيعة إبستمولوجية مع الخرافة لصالح المعرفة، وفهم النص الديني ضمن سياقه التاريخي بعيدا عن تقديس التأويل، لإعادة تشكيل الوعي.

نتبين في قراءتنا أنّ موقفه ثابت نحو الاجتهاد الفكري المبدع الذي يجب أن يتواءم مع الحريات الإنسانية ونهضة المجتمعات الحديثة وفقا للظروف المعاصرة، فهو يناقش النهضة الإسلامية من منظور يجمع بين الدين والسياسة، ويبين دور النهضة كما حدده الرزوق " في تنقية الدين من انحرافات التأويل" وتجديد الفكر الديني بما يوافق متطلبات العصر، مع الاحتفاظ بقيم التسامح والحرية.

الإصلاح في مشروعه الفكري ظاهرة ملموسة ذات أهمية أسمى تتجاوز النّظريات المجردة، وترتبط ارتباطا وثيقًا بروح التجديد عبر الإشادة بضرورة العلم ونشر الوعي، ومحاربة الجهل والخرافات حسب ما ذكر في كتابه " المرأة والقرآن " بأنّ الانطلاق من داخل النص إلى خارج النّص هو الأمر الذي يتناسب مع القراءة عندما يشتبك مع عوامله الخارجية، فالقراءة التي تنبع من داخل النص وحدها إنما هي ضيقة الأفق والمدى، بينما تلك التي تتم من خارج النص إلى داخله تُظهر سلطة المعرفة، والاعتقاد في إطار استراتيجيات توجد الخطاب نحو الحقيقة. يقول محمد عابد الجابري: " مالم نمارس العقلانية في تراثنا، ومالم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية، كفاعلين لا مجرد منفعلين".

في محطة/ المرأة والقرآن

حوار في إشكاليات التّشريع مع د ماجدة الغضبان

بدأ الحوار عن قضايا المرأة في إطار يتحرّى الموضوعيّة، ومدى صلاحيّة النص، لينظر في شأن المُطلق من الأحكام، كما وأنّ الهيئة الحواريّة للكتاب تزيح الملل عن القارئ، ومن خلال جرأة د. الغضبان في طرح الأسئلة جاءت الإجابات بعقلانية لافتة من الغرباوي، خلص فيها إلى أن القرآن الكريم لم يُنقص من شأن المرأة بينما الحكايات والأساطير والمرويّات التراثيّة فعلت ذلك استنادًا إلى نصوص دينية منحولة.

فيقول الغرباوي إن القرآن خاطب المرأة خطابات ثابتة ومدوّنة، بما يخصّها من التّشريعات، فجعل لها من الثواب والعقاب ما للرّجل على حدّ السّواء، التّساوي الذي يشملهما في الأوامر والنّواهي الإلهية، بينما التّفسير الخاضع لفهم المفسّر يعيقه الجمود على حرفيّة النّص والارتهان للتّراث، وهو يختلف من زمان إلى زمان آخر، يكون حسب الاسقاطات النّفسيّة والاجتماعية، حيث كشف عن الإشكاليّة القاصرة عن الإدراك، بسبب عدم مراعاة الواقع فتعكس صورة مشوّهة للنّص.

محطة" الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي

ماجد الغرباوي كمفكر تنويري يتخذ موقفًا يتّسم بالتوازن تجاه قضايا الجندر والحركة النّسوية، يؤيد فيه الحاجة إلى تحليل ونقد الأنظمة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤدي إلى الفوارق بين الجنسين، والتي غالبًا ما تعزّز الهيمنة الأبويّة التي نشأت في المجتمعات الغربية وتحصر دور المرأة في دور الأمومة والمسؤوليات المنزلية.

يعتقد الغرباوي أن الجغرافيا النسويّة ليست مجرّد دراسة لمظاهر الأرض " اللاند سكيب" بل هي تقصّي لكيفية تأثير الجندر والحمولات الثقافيّة والاجتماعيّة في تشكيل هذه المظاهر، ويرى أن الفروق الاجتماعية بين الجنسين لم تتكون بشكل طبيعي، ولكن صممت لترسيخ سلطة معينة.

فيسعى لإرساء الوجه الحقيقي للمرأة عبر مشروعه الفكري لمواجهة المفاهيم التي تتبنّاها الحركة النسويّة، وتوضيح دور المرأة في المجتمع وأهميتها ومكانتها كما يتوافق مع الأطر الدينية للمجتمع العربي والإسلامي، بعيدا عن الرؤية التي لازمت كلمة الجندر حينما ظهرت في كتابات سيمون دوبوفوار كنوع اجتماعي أرادوا جعله المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها.

كما يوضح موقفه من الأفكار الراديكالية باعتماده على البحث عن توازن ونقد النهج الذي يدعو إلى الإجهاض، أو العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج، أو حقوق المثليّات. في الوقت نفسه يشجع على ثورة فكريّة ثقافيّة تسمح بالتبادل الفكري الحر والمشروع، رافضًا ثقافة التنافس التي تتسم بالعداء.

لقد أولى العديد من المفكرين والمتخصصين في المجال الفلسفي اهتمامًا بالغا في فكر ماجد الغرباوي، ومنهم الدكتور محمود محمد علي الذي قام بتحليل مشروع الغرباوي فعرض تقييما للقضايا الشّائكة التي تثير النقاش حول آرائه التي تتعلق بالفلسفة النسوية، حيث بين في كتاب" الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي" كيف دعا الغرباوي إلى إصلاح الفكر السّائد وإعادة بناء الوعي بما يتماشى مع الفطرة السليمة والقيم الإنسانية، مؤكدًا على موضوع النظر إلى المرأة بأنها كيان إنساني كامل له حق التعامل معه بعدالة، وأن الدور البيولوجي للمرأة هو السبب لخضوعها للتصنيفات، حيث تم تقييمها من قبل الرجل باعتبارها مجرد جسد خاضع لقوته وإرادته، بينما النهج النسوي المتوازن يعترف بالفروق الجنسية ولكن يسعى في الوقت ذاته إلى إعادة تقييمها وتعريفها بما يتناسب مع النهضة في المجتمعات الحديثة، بطرق تمكن المرأة، وتعزز المساواة بين الجنسين دون إلغاء الفروق الثقافية والاجتماعية التي تضفي على المجتمع تنوعًا وتماسكًا.

ثم يعود في كتابه " التّسامح ومنابع اللاتسامح " ليسلط الضوء على فرص التعايش بين الأديان والثقافات، من خلال ربطه بين مفهوم التسامح والإصلاح مؤكدا على أن التسامح ليس مجرد قيمة أخلاقية بل هو عقيدة وطنية، يجب أن تعزز في المجتمع، والحرية في نظره شرط لا غنى عنه لتحقيق التسامح.

ويخرج من كتابه "إخفاقات الوعي الديني" وتداعيات النكوص الحضاري في حواره مع سلام البهية السماوي إلى كتاب آخر بعنوان "إشكاليات التجديد " ليحدد الأسباب التي دفعت العرب المسلمين للتأخر وتوقف المد الحضاري، حصرها في عدة اتجاهات:

- اتجاه أول: شعور الانبهار بالغرب وحضارته حدّ الاستلاب والدونية، ورفض الآخر.

- اتجاه ثاني: انكفاء وسط شريحة واسعة مشوهة بسلوكيات ماضوية تتمسك بظاهر الدين.

- اتجاه ثالث: يتقدّمه رواد الإصلاح الذين درسوا حقيقتي الازدهار والانحطاط بحثًا عن الحقيقة. والتي انتهت بضرورة التشبث بالجانب المعنوي لتسديد الأخلاق.

كما أوضح أن الإجابة هي موضوع اشتغال المفكرين والباحثين على جميع المستويات، حيث المشكلة في الأساسية هي في بنية العقل والنظام المعرفي لشعوب المنطقة كونها القاعدة الأولى التي ترتكز إليها النهضة.

وقد سنّ أطروحته بشكل أكمل حول المنهج الجديد في تشريع الأحكام، عبر كتابه" مقتضيات الحكمة في التشريع"، فنرى أن رسالة الكتاب تدور حول أهمية فهم مقتضيات التشريع وهي الظروف والأحكام التي تقتضي صدور حكم شرعي معين، وكيف يمكن لهذا الفهم أن يؤثر في تطبيق الشريعة وتكييفها مع الواقع المعاصر، كالتغيرات الاجتماعية، والتطورات التكنولوجية، والأوضاع الاقتصادية في ظل الأزمات، تحت ما يعرف بتغيير الأحكام وفق الزمان والمكان، ويتطلب ذلك دراية بأصول الفقه، كمبدأ في تجديد الخطاب الفقهي وجعله متوافقًا مع الواقع ومتطلبات العصر، والحفاظ على الثوابت، ومراعاة المقاصد الشرعية، من خلال فهم عميق لأصول الفقه وقواعده.

تعكس تجربة الغرباوي تجربة شخصية عميقة مع قضايا الاستبداد، سواء السياسي أو الديني، فهي تجربة تنقل بصدق وحساسية معاناة الأفراد الذين يعيشون تحت نير الأنظمة القمعية، هذه المشاركة تضيف الشّرعية لحديثه عن الاستبداد. فتظهر جرأته في طرح الآثار السلبية لاستغلال الدين في فرض سلطة البعض وتقييد الحريات.

في النهاية لا يسعني القول إلا أن سلسلة متاهات الحقيقة بدأت من النقطة الأهم وهي الهويّة كمجموعة من القيم والخصائص والمعتقدات التي تحدد شخصية الفرد ومكانته في المجتمع، وأهميتها الكبرى في رحلة البحث عن المعنى لوجوده، وعامل رئيسي لتشكيل الوعي، تمد الفرد ثقته بنفسه، وتعزز الانتماء الذي يمنح الأمان النفسي، ويمد أيدي التواصل لتبادل الأفكار والخبرات التي في رحلة البحث عن المعنى عبر دوره الاجتماعي، فالهوية إطار يمكن من خلاله التنقيب والتفكير في الأسئلة الأساسية حول معاني الوجود.

ولم تنتهِ مجموعة كتبه في متاهات الحقيقة ذات الرؤية الواسعة للتاريخ مشيرا عبرها إلى أن الاستبداد العابر للحضارات والثقافات، كان ومازال عقبة رئيسية أمام التقدّم والتطور الحضاري، وهذا يعكس فهمًا للتاريخ يركز على الصراع من أجل الحرية كقوة دافعة للتقدم الإنساني.

في رحلة عميقة نحو إيجاد معنى وجودي وفي سياق الإصلاح لدى الغرباوي ضمن إطار فكره الإصلاحي، يمكن أن تتضح مظاهر التنوّع بالنّقاط التالية:

1- التّأويل المنفتح: بمعنى إعادة تأويل النصوص الدينية والثّقافيّة بطريقة تعكس التنوع والسياقات المعاصرة، وتدعو إلى التعددية داخل المجتمعات، فيظهر الباحث الغرباوي اهتمامًا بتأويلات تتسم بالانفتاح على أفكار جديدة ومختلفة تحترم التنوع الفكري والديني.

2- النّقد الذاتي: يشجع النّقد الذّاتي وإعادة النّظر في التّقاليد الثّقافية والدينية بهدف تحديثها وجعلها أكثر ملائمة للعصر الحديث وقيم التنوير وحقوق الإنسان.

3- التفاعل الثقافي: التّأكيد على أهمية التفاعل والتعايش بين الثقافات المختلفة مع الحفاظ على الهويّة الثقافية والدينية.

4- التّعددية الفكرية: الدفاع عن التعددية وحرية الفكر والتعبير، ورفض الفكر الأحادي والتسلطي.

5- إعادة تقييم السلطة الدينية: دعا الغرباوي لإعادة تقييم السلطة الدينية وأسس التفويض والتأويل، بحيث يمكن الأفراد من فهم النصوص بشكل مباشر.

6- الإصلاح اللغوي: الاهتمام بلغة التواصل والتعبير عن الأفكار الإصلاحية، بطريقة مفهومة ومقبولة للجماهير مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والفكري.

***

ريما آل كلزلي – أديبة وناقدة سعودية

.....................

* مشاركة (42) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

إنه لمن دواعي سروري، وصميم قلبي، كما يشرفني أن أتقدم الى الكاتب الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي بمناسبة بلوغه السبعين من عمره الحافل بالعطاء الزاخر، والمواقف النبيلة، داعياً الله أن يُطيل في عمره ويمده بالصحة ويحفظه بالسلامة. الكلمات قد تعجز بالتعبير عن ما قدمه الأستاذ الغرباوي من منجز فكري كبير، وهو صاحب اليراع الذهبي المعطاء، ولكن لابد من أن نسجل شهادتنا للتاريخ عن فارس الكلمة، والمفكر المبدع، والمجدد الألمعي الأستاذ الغرباوي، الذي قدم من خلال مشروعه الفكري، فكراً نيراً أغنى من خلاله مكتبتنا العربية والإسلامية، فقد كان ذو تجربة فريدة في نقد الموروث الديني، ذلك التراث الذي أثقل مسيرة الأمة في تقدمها للأمام، بل كان السبب في الكثير من تعثراتها، فكان الأستاذ الغرباوي من القلائل الذين شمروا عن سواعدهم للكشف عن ألغام هذا التراث، فقد أشر على الكثير من إشكالاته مفسراً وموضحاً ومحذراً عما يتضمنه من هنات ومخاطر .

لا يمكن لجهودك أستاذ ماجد أن تُنسى، فقد أوفيت بالغرض و وبذلت الكثير فأنرت لمتعطشي المعرفة طرق المعرفة بضياء معارفك الوفيرة التي سطرتها مؤلفاتك الكثيرة، والتي هي محل فخر واحترام كل المنصفين من العلماء والمثقفين في الساحة العربية والأسلامية. لك مني كل الثناء والتقدير بعدد حبات المطر، وألوان الزهر على جهودك الثمينة والقيمة والتي هي محل افتخارنا والتي فجرت ثورة فكرية في عالم نقد التراث، فقد كنت غاية في الجرئة والشجاعة، فقد اقتحمت ساحات أحجم عنها الكثيرون تردداً وخوفاً، فكنت فيها فارساً مغواراً مقتحماً ساحات الوغى الفكرية بعقل مفتوح، وروح مقدامة، وعزيمة راسخة، أنتج من خلالها قلمك أروع المؤلفات وأجمل الدراسات التي أثارت أعجاب كل من أطَلعَ عليها، وغرف من معين معارفها، واستنشق من شذى علومها، وتنسم من عبير نتاجها المعرفي. لقد كنت أنا شخصياً ولازلت من المتابعين لثراء كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي، فهي جزء لا يتجزء من مائدة زادي الفكري، التي لها الفضل في تشكيل خزيننا المعرفي، وبناء فضائنا الثقافي، وأنا كواحد من قراءه لا يسعني إلا أن أسجل وافر شكري وامتناني على ما قدم من جهد استثنائي في بناء هذا الصرح الفكري، فقد كان كريم في عطائه، وجميل في عرفانه، فشكري لن يوفيكم حقكم يأستاذ ماجد لما سعيتم من مساعي مشكورة، وأن جف حبري عن التعبير عن شكركم، فقلبي يبقى يحمل مشاعر الحب والتقدير لشخصكم الكريم، ولمزيد من التوفيق والنجاح لأكمال مشروعك الذي لم تدخر جهداً لإنجازه.

المشروع النقدي لماجد الغرباوي

لا شك إن الكتابة عن الأستاذ ماجد الغرباوي، ليس كتابة عن كاتب عادي، لأن الغرباوي عبارة عن مشروع ثقافي كبير. هذا المشروع ساحته التراث، والخوض في عالم التراث كالخائض في بحر مائج يتسم بالمدى البعيد، والأعماق السحيقة، وهذا يتطلب لمن يمخر به أن يجيد العوم، الذي يتمثل بدرجة عالية من الكفاءة والحرفية، وكثير من الصبر لكي يتجنب أمواجه العاتية التي لا ترحم من لايجيد فن أتقاء عواصفها المجونة .

الغرباوي يعتبر واحد من الباحثين القلائل الذين أقتحموا ساحة النقد العقلي للتراث، وهي ساحة تتطلب من مقتحمها الكثير من الجرأة والشجاعة المنقطعة النظير، لأنها ساحة غاية في الحساسية، وفيها من المصدات والعوائق والمصاعب ما لا يقتحمها الا ذوي البأس الشديد، والماشي بها كالماشي في أرض مزروعة بالألغام، ومن لا يحسن المسير بها، ويتقي عثراتها، يكون مصيره الفناء، كما حصل لفرج فودة، أو التسقيط  والتشويه، كما حصل للدكتور نصر حامد أبو زيد، ولكن الأستاذ الغرباوي بخبرته واتقاد ذكائه نجح في تجنب سقوطه في حقل ألغام ساحة التراث، وتمكن من نزع فتيل قنابله الموقوته، لأنه يعرف خرائطه ومتمكن بالمسير في ممراته الآمنه، وهذا لم يأتِ من فراغ بل نتيجة لباعه الطويل بتضاريس ساحة الموروث الفكري والديني، واشتغاله الطويل بين ثناياه، والعارف بمحتواه وأنساقه المعرفية.

الأستاذ الغرباوي تابعته منذ بداياته في مشروعه النقدي، وكدت أتحسس خطواته وكأن الرجل أحسبه يسير بطريق الانتحار المعنوي، وكمن وَطنَ نفسه للشهادة على مذبح تحرير الوعي النقدي، ويذكرني ببعض رجال المعتزلة الذين اشتغلوا على مشروع حركة الوعي النقد ي فتعرضوا الى محنة قاسية قادت بعضهم للقتل الجسدي وآخرين للقتل المعنوي، وآخرين أنزوا في بيوتهم آثرين السلامة، وقد ذكر أبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ ان أحد رؤساء المعتزلة لزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج من بيته خوفا من عامة الناس، ولكن الأستاذ ماجد الغرباوي بحنكته وحذاقته الفكرية وتمكنه الأداتي العقلي تجاوز ما وقع به غيره، وتعثر آخرون .

أن المهمة الكبيرة التي أضطلع بها الأستاذ ماجد الغرباوي كانت مهمة صعبة، ولكنها عظيمة النتائج، وأهم حصاد هذه المهمة، هو الفصل مابين النص المقدس، وبين تفسير النص وتأويله، الذي هو نتاج بشري، وهذا في حد ذاته انجاز في غاية الأهمية، حيث رفع وشاح القداسة من الفكر الديني المتمثل بالتفسيرات والتأويلات للنص المقدس، ففصل بينهما، ورسم برزخاً بينهما لكي لا يتحول كل ما أنتجه الإنسان من نتاج فقهي إنساني الى موروث مقدس عابر للزمن. إن رفع الغرباوي للغطاء المقدس للفكر الديني و جعل منه مادة قابلة للحوار والمناقشة والنقد فتح عظيم في عالم النقد والاصلاح الديني. فالغرباوي قد حرث أرض الموروث الفكري والفقهي مُخَلصاً أياها من كل مايُصَحرِها، ويجعل منها أرض بوار لا تصلح لأنبات كل ما يخضرر أرض الفكر، ويعالج قضايا الإنسان . فقد أدخل الغرباوي أدوات النقد العقلي كأداة ينخل بها هذا التراث ليفصل منه الغث من السمين، ويحوله من مادة كابحة لحركة التاريخ الى مادة دافعة للأمام في صيرورة تصاعدية. ومن تجليات مشروع الغرباوي، هو إزالة مشاعر الخوف والتردد في اقتحام هذا الحقل، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، حتى أصبح ذلك الجدار الذي صد كل محاولات النهضة لهذه الأمة، فمشروع الغرباوي، هو بالحقيقة مشروع نهضوي لأنه حرك المياه الراكة في حركة النقد، وتحرير العقل من أوهام وأساطير تسللت الى سرديات النص الديني، وهي سرديات منها ما هو دخيل، ومنها ما هو نتاج ظروفه وبيئته الزمكانية. الأستاذ ماجد الغرباوي بالحقيقة حمل على عاتقه تحقيق منجز فكري كبير، تمخض عن رؤية نقدية جعلت من العقل دوراً فاعلاً في الحكم على الموروث المعرفي، كما جعل من الفكر التراثي فكراً تاريخياً مؤطر بظرفه الزمني، ومنوطاً بأدواته المعرفية، ومعطياته البيئية، ولايمكن أن يكون خارج حدود الزمن، وأنه محكوم بنسبيته المعرفية البعيدة عن أطلاقية النص المقدس.

بخلاصة القول أن الغرباوي قد ساهم بتأسيس مشروع نهضوي غايته تحرير العقل، والتأصيل لفهم يكون للعقل فيه الدور الأكبر بعيداً عن الأوهام والأسطرة، كما دعا للتسامح في تحليل ونقد التراث، وهو ما يذكرني بنظرية العنبري المعتزلي المعرفية التي تدعو الى التسامح في عدم تكفير أحد من المتأولين لأنه يرى أن كل مجتهد مصيب . إن مشروع الغرباوي يدعو للتسامح في تقيم الأفكار بعيداً عن الإطلاقية المتزمته في الحكم على الأفكار باعتبار أن المعرفة تبقى نسبية ومتعلقة بظروفها ومعطياتها التاريخانية وأن معرفة الإنسان معرفة تراكمية لا يمكن أن تتطابق مع الحقيقة الكلية والمطلقة. إن الغرباوي بلغته السهلة وبيانه الواضح، وابتعاده عن الغموض في شروحاته جعل من منتوجه الثقافي يتسرب الى أكبر عدد من القراء، حتى يمكن القول بأن مؤلفاته أصبحت في متناول أكبر عدد من الجمهور، حتى دخلت ضمن الثقافة الشعبية، وهذا بحد ذاته انجاز كبير، بعد ماكان هذا اللون من المعرفة محصوراً على النخبة من القراء.

***

أياد الزهيري – كاتب وباحث

.............................................

* مشاركة (41) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قِراءةٌ نقديَّةٌ في تجلِّياتِ نُصوصهِ الأدبيَّة

تَقديمُ الذاتِ الأدبيَّةِ: حين يتناهى إلى أسماعنا في الوسط الثقافي العربي عامَةً والعراقي على وجه الخصوص ذِكرُ اسم ماجد الغرباوي، الباحث والمُفكِّر الإسلامي، نستحضر بجلاءٍ وإجلالٍ وتقديرٍ تلك الشخصية العراقيَّة النضالية الثقافية ذات الفكر الديني التنويري والوعي التَّحرُّري الإسلامي المعتدل، وصاحبة المشروع السياسي الفكري التضادي المناهض لديستوبيا الظلم والاستبداد. هذه القامة الشاخصيَّة الواثبة التي هَجَرَتْ بلدها العراق عُنوةً إلى أستراليا إبَّانَ حكم نظام البعث العراقي البائد الأسبق، وفيها أسسَ الغرباوي مثابته الإعلامية الأولى وضالته صحيفة (المُثقَّف). وبذلك يعدُّ ماجد الغرباوي رُبَّان مؤسسة المثقف الإعلامي وسادنها الرُّوحي والفكري، وحارسها الأوحد الأمين بمدينة سدني.

ولكنَّ الذي لا بُدَّ من الإضاءة إلية - تنويهاً وتعريفاً - والذي لا يعرفه الكثيرُ من الكُتَّاب والقُرَّاء ومحبِّي ومتابعي وجمهور ومتلقِّي صحيفة المثقَّف الغرَّاء، ويعرفه ثلةٌ قليلةُ من الأصدقاء والمقرَّبين من أنَّ ماجدَ الغرباوي، فضلاً عن كونه عُرِفَ كاتباً إسلامياً تنويرياً متخصِّصاً طوَّع نفسه الأمَّارة بهذا الشأن. هو في الحقيقة المغيَّبة يعدُّ أديباً ومفكِّراً جاداً وشاعراً نصوصياً مرهفَ الحسِّ، وذا قلبٍ نابضٍ بالجمال الرُّوحي ومفعمٍ بالأحاسيس الشاعرية الجيَّاشة، والمشاعر الإنسانية الشفيفة الفيَّاضة.

حتَّى تجده في أدبياته يكتب قصيدة النثر الشعرية الحديثة ذات النصوص الشعرية التأملية المتعدِّدة الثيم والوحدات الموضوعية الفكرية والجمالية، والمعبِّرة بصدقٍ وجلاءٍ عن نوازع فلسفته الذاتية النفسية، والكاشفة لتجارب أناه الشاعرية الفردية مع وقائع محيطه الجمعي الخارجي المائر بالأسى. والتي هي في واقع الأمر مناط رغبته في تأثيث أثير مجساته الشعرية، وبثِّ صور مرآته الفكرية في إنتاج وتصدير التقاطاته العينية لرهان عقابيل الواقع العراقي في مختلف تعدُّد الأُطر (السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والفكري، والثقافي) المتهالك فلسفياً ووضعياً وإنسانياً.

وماجدُ الغرباوي الإنسان والأديب يستمع في نثريات شعره - بتأمُّلٍ وصبرٍ - إلى صوت ذاته العقلية الداخلية المتداعية، فتحوِّلهُ مخايله الذهنية الشاعرية إلى دفقاتٍ شعوريةٍ ووحداتِ حدثٍ موضوعيةٍ شعريةٍ تلامس في واقعيتها نياط القلب، وتجذب إليه في مسامعها نظر المتلقِّي الواعي بتجلٍّ واضحٍ.

فَمثلُ هذا التحوِّل الثقافي المتراتب وعياً وفلسفةً وسلوكاً كان تصميمه المعماري المُهَندَسُ على أساس مستوى التجنيس الشعري لقصيدة النثر الحداثوية.أمَّا على مستوى التجنيس السردي في فنيَّة الكتابة النثرية، فقد مالَ الغرباويّ في كتاباته الإبداعية إلى النصوص النثرية التسريدية القريبة في مثاباتها الفكرية وثيمها الموضوعية وقواعدها وأحكامها واشتراطاتها ومتبنياتها الأدبية السردية من إشكاليات القصة القصيرة. وذلك كونها تجمع في خطِّ بنائها التركيبي الفنِّي بين جدليَّة التخاطر الشعوري الفكري المُسترسَلِ البوحِ نَصيَّاً، والبناءِ القصصي الحكائي المتوالد الأفكار والحكايات.

ومن مُسلَّمات النقدية المهمَّة في السَّرديات أنَّ الحدث السردي بتعاظم صراعاته وعقده، يعدُّ من أهمِّ عناصر فنِّ السرد القصصي الذي هو أصعب فنون السرد، فلو كانت تقانات وآليات الحدث السردي القصصي متكاملةً ومبنيةً بناءً فنياً مُنتظماً ومُحكماً وفق قواعد مسار السردية المعروفة التي هي بالضرورة إدراك عناصر القصة القصيرة الأساسية مثل، (التكثيف، والقصر، والاقتصاد اللُّغوي، والإيحاء، والترميز الفنِّي الحكائي، والأحداث الحاسمة المتَّصلة في صراعها الممتد بصلب الحكاية، وعنصر الإثارة والتشويق في حِبكتها، والهِزة الصادمة في كسر توقُّع مألوف خاتمتها).

وعلى وفق ذلكَ، وفضلاً عن هذا الإلزام كلِّه أنَّ القصة موجَّهة بشخوصها للقارئ الذي يمتلك تجارب معرفية مُسبقة بها. حتَّى إنَّ الرجل الغرباوي قد جمع إنتاج نصوصه الشعرية المُنثالة ووضعها بملفٍّ خاصٍ بعد نشرها فُرادى في الصحف، وأطلق عليه عنواناَ باسم، (نصوصٌ أدبيةٌ) كعتبة عنوانية خارجية رئيسة من عتبات النصِّ الموازية التي أكِّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت.

ولم يَقُلْ الغرباويً عنها تحديداً نصوصَاً شعريةً أو نصوصاً قصصيَّةً. كونه يُدركُ جيداً مالها ويعي ما عليها من أحكامٍ وضوابطَ فنيةٍ وجماليةٍ وموضوعيةٍ خاصةً بها لابدَّ من أخذ الاعتبار بها إبداعياً وفنياً في عملية التخليق الإنتاجي للمتلقِّي النوعي وغير النوعي البسيط. وترك مهمة الأمر في تدوينها ومعاينتها لذي الشأن من النقَّاد والباحثين، من هم أصحاب الاختصاص والرأي النقدي.

والحقيقة أنَّ نصوص ماجد الغرباوي، هي نصوص أدبية فكرية ناضجة موضوعياً وفلسفياً، وفي غاية الأهمية الفكرية والجمالية؛ كونها تحمل أبعاداً إنسانية تأملية وصوراً تنويرية، وإضاءاتٍ اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية واقتصادية في جوهر مضامينها ورؤاها وتقاطعاتها ومدخلاتها ومخرجاتها، وتناصاتها الموضوعية، ولا سِيَّما تلك التاريخية والتراثية والدينية والرمزية والأدبية. وذلك، لأنَّها ناتجة عن أبعاد فلسفته الشخصية، وظلال أفياء مشروعه الفكري التنويري الوارف.

ومثل هذه المزايا والخصال الفنيَّة والأدبيَّة تشي بأنَّ الغرباوي في توصيفه الثقافي يُعدُّ صاحب مشروع فكري إسلامي ديني، ونهج ثقافي أدبي تنويري إبستمولوجي معرفي تحرُّري تأصيلي في يوتوبيا طروحات مدينته الفكرية والأدبية الفاضلة، وفي نهج تقاطعها المتضاد مع ديستوبيا الفوضى وانساق الاستبداد والانحراف القمعي والتضليل المعرفي والفكري الآخر الذي يُمارس صوب وعي المُثقف شَرعنةً وقانوناً وفلسفةً من قبل سلطة الاستبداد السياسي المهيمن على الوجود الزمكاني.

إنَّ الذي يميِّز إنتاجيَّة ماجد الغرباوي في إسلوبيته الأدبيَّة، سواءٌ أكانت شعريةً أمْ نثريةً سرديَّةً، هو رصانة تفوّق لغته الأدبية العالية المكينة، وجماليات حُسن اختياره لمفرداته وألفاظه الدلالية، ودقة انتقائه لعباراته الإنشائية، وجُمَلِهِ التركيبية المنتظمة حبكاً لغوياً، وسبكاً دلالياً، وتماسكاً نصيَّاً في آليات فنيَّة التعبير عن رؤى تشعيراته الشعورية وفلسفة تسريداته الأدبية المتتابعة نصيَّاً في تعدُّد وحداتها الموضوعية والفكرية والمعرفية.

وتحتاج نصوص الغرباوي برغم بساطتها التركيبية في الكثير من سياقاتها اللُّغوية والدلالية إلى متلقٍ مكينٍ واعٍ وقارئٍ فذٍّ حصيفٍ يسبر عمق أغوارها الدلالية، ويُدركُ فهم مكنوناتها ومعمياتها الخفيَّة، ويستجلي بوعي خبايا مكتنهاتها الفلسفية والجمالية المتراصَّة، ويكشف بأناةٍ جدل سياقاتها الثقافية القريبة والبعيدة. ورُبَّما تحتاج بعض نصوصه الشعرية والسردية إلى قراءة فاحصةٍ ووعي نافذ حصيف، وتمكين نقدي في سونار تحليلها وتأويلها الإجرائي، وتتطلب أيضاً فهماً وتفكيكاً لشفراتها اللغوية، وبيان مرموزاتها الخفية وموحياتها السيميائية والإشارية الأيقونية النصيَّة.

وكلُّ هذا التمايز الأسلوبي ناتج عن مقدرة الأديب الغرباوي وموهبته الفكرية وذائقته المعرفية واستعداده الفطري، وميله المعرفي المكتسب لثقافة التلقِّي القرائي، ولنظريات المعرفة الإنسانية في كلِّ أبحاثه ودراساته ونتاجاته، وفي بوصلة توجُّهه الآيدلوجي الذي انماز به فكرياً وثقافياً وإعلامياً.

فالمعرفة الابستمولوجية الدينية والسوسيو ثقافية هي أداة الغرباوي الفكرية التنظيرية والإجرائية التطبيقية، واللُّغة التوصيلية، هي وسيلته المرئية وغير المرئية الهادفة في إرسال وبعث محمولاته الصوتية والحركية والسمعية التعبيرية الراسخة في تصميم ورسم لوحاته الواقعية تجريداً وتجريباً.

ظِلَالُ المُدوَّنةِ الشِّعرِيَّةِ

لقد تضمَّنت مدونة ماجد الغرباوي (نصوصٌ أدبيةٌ) ثمانية عشر نصَّاً إبداعياً، منها (7) نصوصٍ شعريَّةً، و (11) نصَّاً سرديَّاً قصيَّاً، تمكَّنَ من خلالها الغرباوي أن يُصدِّرَ أفكاره لمتلقيه كَعتباتٍ فرعيةٍ داخليةٍ تمزجُ في ثناياها الموضوعية بين رؤية فنِّ المحسوس البصري المرئي، ورؤيا المدروس المخيالي اللَّامرئي الفكري الذي يتماهى فيه مع وقائع الأحداث والتمظهرات الوجودية التي فرضت نفسها على خطى ذائقة أسلوبيته الأدبية في كسر جدر الواقع المرتهن وتحطيمه فنياً. ولعلَّ أولِ هذه النصوص الشعرية التي نستحضرها نقدياً في قراءتنا نصَّه الشعري (تَسمَّرَ الضوءُ) :

شَاهِقَاً كَانَ المَدَى

يَتَوَسَّدُ نَاِصيَةَ السَّمَاءِ

غَارِقَاً فِي هَذَيَانَاتِهِ

يَتَصَفَّحُ جُرْحَاً

تَقَرَّحَتْ زَفَرَاتُهُ العَاتِيَةُ

(نُصوصٌ أدبيةٌ، ص14)

هذه الدفقة الشعورية هي المقطع الأول الذي افتتح به الغرباوي قصيدته ذات المقاطع الخمسة الدالة لغويَّاً على مضمون عتبتها الفنيَّة المؤنسنة انزياحياً. فالغرباوي يمنح بميله اللُّغوي فضاءه الزمكاني (المدى) صورةً حاليةً مكانيةً دالةً على صفات الرفعة والسمو والتطاول والثبات والرسوخ العالي. وفي الوقت ذاته يؤنسنه بصورة نومٍ حركيةٍ آدميةٍ إنسانيَّةٍ أخرى تتوسَّد أعالي السماء. ثُمَّ يضفي عليه صورةً صوتيةً سمعيةً تظهر أضغاث هذياناته الحُلمية العميقة، وكأنَّ ضوءَه المُنساب إنسانٌ ينظر مُتأمِّلاً إلى عمق جراحاته وصور كلومه التي تقرَّحت دماً بزفراته النفسية العاتية.

ويتواصل ماجد الغرباوي مُفتتحاً انثيالات المقطع الثاني من القصيدة ذاتها بعبارةٍ تساؤليةٍ ذهنيةٍ عن أثر الذهول الذي انتاب شجرة الغواية، تلك الرمزية التي تَأسرُ نسغ الأرواح بعطرها المنبعث من أزهارها الرقيقة وروعة سحرها العابق. وقد ترك للقارئ النابه، أو المتلقي الناقد مسافةً فراغية لسطرين متتاليين كتتماتٍ إحاليةٍ فكرية؛ لمعرفة أو لتذكُّر قصة الشجرة الرمزية المعروفة. ليبني تراكيب جمله الانزياحية بذلك السراب البعيد الذي كأنه حلم ارتدى متاهاتٍ بعيدةً:

أيُّ ذُهولٍ يَنتَابُ شَجَرَةَ الغُوَايَةِ... ؟

سَرَابَاً اِرتَدَى

حُلُمَ المَتَاهَاتِ القَصِيَّةِ

وَرَاحَ يَتلُو سُورَةَ المِاءِ

وَشَيئَاً مِنْ آيَاتِ الحُطَامِ

يَستَعِيدُ بَقَايَا مُوبِقَاتٍ وَثَرثَرَاتٍ

(نصوصٌ أدبيةٌ، ص 14)

ما هذا السراب المائي الذي استوى فيضه حُلُماً في أرض المسافات المستوية القصيَّة! والذي يظنُّه الظمآن سوراً من ماءٍ خير، أو يحسبهُ بعضاً من آيات العذاب والحطام التي تذكِّره بموبقات المهالك وثرثرة الهذيانات. وكأنِّي بالغرباوي استمدَّ مضامين هذه الدفقة الشعورية وألفاظها القرآنية من نصِّ الآية (39) من (سورة النور) في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحسُبُهُ الظَّمآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَ لَمْ يَجِدْهُ شَيئَاً وَوَجَدَ اللهُ عِندَهُ فَوَفَاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ). ويتواصل الغرباوي مع مقاطع القصيدة الأخرى معتمداً على تناصاته التاريخية الدينية والتراثية.

والمتأمِّل بعيداً في نصوص ماجد الغرباوي الشعرية سيقرأ - حقَّاً - أنَّ الغرباوي في هوسه الروحي الجمالي الصوفي مُتعلقٌ جدَّاً بموجودات الطبيعة الكونية الثابتة منها والمتحركة. فـ (الريحُ والماءُ والمطرُ والنارُ والشجرُ والبحرُ والصخرُ والأرضُ والسماءُ والشمسُ والبرقُ والنيازكُ والضوءُ واللَّيلُ والصبحُ والزنابقُ والعصافيرُ والمَها والسَّنا)، جميعها ألفاظ مثابات لتمظهرات تلك الطبيعة التي وظَّفها الغرباوي توظيفاً تأمليَّاً روحيَّاً صادقاً متماهياً ومتحاكياً معها في ثنايا نصوص قصائده:

تَعَالَتْ صَفِيرَاً

سَنَا البَرقِ لَونُهَا

تَسَرْبَلَتْ نَارَاً حَمِئَةً

تَتَهَادَى

تَهِبُ اللَّيلَ حِلكَة

شَوْهَاءُ تَلتَهِمُ الرَّدَى...

شَاحِبٌ صَدَى أَنِينِهَا

يَتَنَاسَلُ دَمًا يَلْتَهِمُ البَرَاءَةَ

(نصوصٌ أدبيةٌ، ص 19)

مثلما كان لعناصر الطبيعة المتحركة أثر نفسي كبير عند ماجد الغرباوي، فإنَّ لدلالة (الريح) في قصيدته (تبتكرُني الريحُ) الدالة على وقع معانيها الكونية صدىً نفسياً محكياً بالغ الأثر وعظيم التأثر. وكأن لسان حال الغرباوي يلهج بساعة البعث أو الحساب أو العذاب بالنار في يوم القيامة الموعود. فـ (الصَّفيرُ، والبرقُ، والنارُ، والحِلكةُ، والرَّدى، والشُّحوبُ، والأنينُ)، تمظهرات لونية وصوتية وحركية صورية وألفاظ مرعبةٌ دالتها الإشارية اللغوية وعلامتها الأيقونية على مظاهر الخوف.

فما هذه الريح التي تُطلق صفيراً مُرعباً، وتصدرُ ضوءاً مُخيفاً، وتَتسربل ناراً من طين حمئةٍ، وتُحيل اللَّيل الأليلَ سواداً مظلماً حالكاً؟ وما هذه الريح الشوهاء التي تَلتهمُ الموت كالنار الهشيم التهاماً؟ هذه الصورة الصوتية واللَّونيَّة المُرعبة لدالة الريح التي رسمتها لوحة الشاعر التجريبية وانزاحت بها مخيلته الذهنية. وكأنَّ الريح التي وظَّفها الغرباوي في قصيدته، وجادت بها روحه الوجلة الخاشعة بريح صرصر عاتية، (وَأمَّا عَادٌ فَأُهْلِكٌوا بِرِيحِ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، (الحاقَّة، الآية: 6).

أما الصورة السمعية لهذه الدفقة المقطعية (شَاحبٌ صَدَى أنينِها)، فتكاد تكون مخيفة لهول وشدِّة أثرها الصوري الفعلي على النفس. فألفاظ مثل، (صفيراً، وبرقاً، وناراً، وحِلكَةً، وَرَدىً، وصدىً، وأنيناً، وتناسلاً)، ما هي إلا تردُّدات قرآنية مرعبة لعذابات نار جهنم التي وُعِدَ بها الكافرون في سور وآيات القرآن الكريم. وقد أخذت صداها التكويني الفاعل الكبير في بنائه الشعري الروحي.

ومثل هذا الإجراء التوظيفي (اللَّفظي والفعلي) الشعري المتوالي الذي سيطر على وعي ومشاعر الشاعر يدلِّلُ كلَّ التدليل على ثقافة الغرباوي الدينية الراسخة وتأثُّره بآيات وسور القرآن وتدبُره لمعانيها التي انعكست مرايا صداها الدينية على وقع جمله الشعرية التأمليَّة التي زخرت بها سطور هذه الدفقة الشعرية المُلتهبة.

أمَّا الأفعال الحالية: (تعالتْ، تسربلتْ، تتهادى، تهبُ، تلتهمُ، يتناسلُ، يلتهمُ) والدالة على المشاركة الفعلية للحدث الريحي قد أسهمت كثيراً في تصاعد حدَّة الصورة الهلعية لبوابات الريح المهلكة.

من أُتون الريح المهلكة ومشاهد عذاباتها إلى تجلِّيات العشق الروحي الصوفية وأجوائها الماتعة التي وهبها الغرباوي لِأُنثاه المرأة الرمز المعشوقة، فمنحها أجمل ما يحبُّ محبوبٌ من عناقيد العشق المتدلية الأصيلة لمعشوقته.حيث مشاعر الحبِّ والإحساس بعذوبة صوتها الطربي وشهقتها:

لَهَا...

تَتَدَلَّى عَطَايَاكِ

عَنَاقِيدُ عِشْقٍ مُعَتَّقٍ

يَأخُذُنِي إِلَى حَيثُ

صَوتُكِ حِينَمَا يَطرُبُنِي

يَا أَنْتِ كَمْ شَهقَةِ حُبُّ

تُؤَجِّجُ نَارَ الشَّوقِ

تَحرُقُنِي فَأَتُوقُ إِلَى رُؤيَاكِ

سُنْبُلَةً عَطشَى تُرَاودُهَا الأَحْلَامُ

فَتَرتَوِي ظَمَأً

(نصوص أدبية، ص 48)

من التقنيات الفنيِّة التي اعتمدها الغرباوي في مفتتح قصيدته (عناقيدُ عشقٍ) الدالة على محتواها الجمالي العشقي تقنية الحذف التنقيطي التي أهداها عناقيده المتدلية بالضمير (لها...)، أي لفلانة دون التصريح باسمها الشخصي، وفضَّلَ أنْ يترك ذلك للقارئ للتفكير بها، والاستمتاع بمن تكون هذه المعشوقة التي حَزَبَتْ نفسَه المستهامة بهذه الصور البيانية البليغة والجمل الإنشائية الصريحة. وقد زاد على ذلك جمالاً حين خاطبها بضمير المُخاطب المؤنث قائلاً: (يا أنتِ...)، فكأنَّه حدَّدها بالإشارة دون التعريض بعلميتها. أما نصوص المصفوفة الأخرى فكانت تسري بهذه الروح النقيَّة.

تجلِّياتُ المَدَوَّنَةُ السَّردِيَّةُ

والمتتبع لنصوص ماجد الغرباوي السردية سيقرأ أنَّ معظم نصوصه الأدبية القصصية القصيرة أو الطويلة إنْ لم أَقل جميعها يغلب عليها في أسلوبيتها الفنيَّة المزج بين الواقعي الحياتي اليومي، والمخيالي الأسطوري الذي يمنحها بلاغة الفنِّ القصصي وروح تقاناته الموضوعية في جماليات التلقِّي المعرفي، وإن كانت الغلبة فيها لنصوص إطلاق العنان للمخيَّلة الفكرية أنْ تأخذ دورها الحكائي في واقعة الحدث الزمكانية.فهيَ شيء جميل أنْ يُمارس القاصُّ وظيفته الأدبية للفنِّ بِحُريَّةٍ.

وفضلاً عن هذا كلِّه رغبة الكاتب التعبيرية المُلِحّة في معجمه اللُّغوي السردي في أنْ يسلك مسلكاً عدولياً يميل فيه إلى الخروج عن المألوف الاعتباري وكسر آفاق أنساقه السياقية المعجمية السردية الأنية بلغة انزياحية بلاغية جماليَّة محببَّة إلى القارئ تستهوي نفسه وتجذبه إليها؛ كونها تعبيراً غير مباشر بعيداً عن خطاب التقريرية الفجَّة ولُغة المُباشرة البليدة التي تنفر منها النفوس؛ بسبب ألفتها الممقوتة وركودها الممل الذي لا يأتي بجديد في بنية القص الحكائي، بل يضعف من قوَّته المعنوية. ومن نماذج تلك الأسلوبية نصُّ الغرباوي القصصي الدالُ على فكرة الموضوع (ذُهُولٌ).

"أَدمنتُ قَارعةَ الطَّريقِ، أَتصفحُ وُجُوهاً كَالِحةً، تَرمَقُ السَّماءَ تَارَةً، وَأُخرَى تَنظرُ مُنكَسِرةً، حَتَّى إِذَا هَبَطَ اللَّيلُ أَو يَكادُ، رَأيتُ مَذهُولَاً يُسابِقُ النَّاسَ، كَمجنُونٍ يَستفزِّهُم بِهذيانِهِ، اِستهوتنِي مُتابعتُهُ، فَرُحتُ أعدُو خَلفهُ، كَانَ يُباعدُ بَينَ خُطواتِهِ، يَتَلَفَتُ مَرعُوبَاً.. خِفتُ أنْ يَسلُكَ طُرُقَاً وَعرَةً أو مَجهولَةَ لَا أَعرفُهَا، فَقَرَّرتُ العَودةَ، وَجَدتُ نَفسِي مَشدُودَاً إِليهِ، كَانَ غَرِيبَاً فِي أَطوارِهِ، حَركاتِهِ، نَظرَاتِهَ. كَادَ لِشِدَّةِ ذُهُولِهِ أنْ يَرتَطِمَ بِجِدارٍ فَصَرَختُ فِي جَوفِي لُولَا أنْ يَفيقَ فَيَتَحَاشَى صَدمَةً عَنِيفَةً"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ذهولٌ، ص 9). فضلاً عن المشاهد الأخرى التي توالت في سطور القصة لاحقاً.

وكأنَّ الغرباوي بهذا التسريد الإنساني المتسارع الأحداث المُذهلة يصف مشهداً قصصياً حقيقياً واقعياً لشخصيةٍ دراميةٍ مُدهشةٍ مُريبةً عابرة في الطريق؛ لكنَّها لافتةً للنظر في كلِّ تصرفاتها الشخصية البصرية المحسوسة، وصور حركاتها ونظراتها وأفعالها الحدثية المتسارعة الخطى. ويُواصل الكاتب - حثيثاً - سرده لنسيج الحكاية بهذا الإيقاع الأسلوبي القصَّي الجمالي في توصيف شخصيته القصصية الفاعلية توصيفاً انطباعياً مؤثِّراً ومثيراً للجدل في موضوعيته وكنهه.

فتراه تارةً يميل حداثياً في لغته التعبيرية إلى التناصِّ القرآني التحوِّلي عندما يقول سارداً: "لَو أنَّ بِي قُوةً فَآوِي إِلَى كَهفٍ، أو أَعُودُ إلى أدرَاجِي"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ص10)، متناصَّاً مع قوله تعالى من (سورة هود الآية: 43): (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ اليَومَ مِنْ أَمرِ اِللهِ إلَّا مَنْ رَّحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ). 

فماجد الغرباوي في نصِّه القصصي هذا يُعيدنا في تماهيه الفكري إلى قوم نوحٍ وقصة الطُوفان التي كان من بين ضحاياها ابنه الذي صار في عِداد المُغرَقين ممن كان على شاكلته من الكافرين. فالخيبةُ والخُسرانُ هُما الرابطُ الأوحد بينَ النَّصينِ القرآني الأصلي القديم، والنص الشعري الجديد الذي تعالق معه الغرباوي نصيَّاً في الفكرة وانزاح عنه متحولاً في تسريده القصصي المتأثِّر فكرةً.

وكما هو الحال في توصيفه الدقيق لذاته السردية العَلِيمَة "أو خَالَطَنِي مّسٌّ مِنَ الجُنُونِ..." (نصوصٌ أدبيةٌ، ص10)، متناصَّاً بتقصيصه الإيقاعي مع قوله تعالى: (إلَّا كَمِا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ)، (البقرة،. الآية: 175). وتارةً أخرى يعود إلى أدراجه في تعبيره إلى (المخيالي الواقعي) الذي فيه نسبة كبيرة من تجليات الواقع الحياتي الراهن الذي تنطبق أحداثه وصوره الانطباعية على واقع شخصياته الفواعلية المؤثِّرة التي وجدت لها مسلكاً في ثنايا قصصه الجمعية.

فضلاً عن ذلك أنَّ الكاتب كونه الرائيَ العليمَ لقصصه يتكلَّم عن شخصية بطله السارد بلغة المتكلم بتاء الفاعلية المُتَّصلة بالأفعال الماضية التي تدلِّلُ على لغة خطابه السردي، مثل تلك الأفعال الزمانية الماضية التي وردت في مطلع القصة، (أدمنتُ، رأيتً، فَرِحْتُ، خفتُ، قررتُ، وجدتُ، صرختُ). أو بلغة ضمير الفاعلية المستتر (نا)، أو ياء المتكلم بالفعل المضارع الدالة عليه.

ثمَّة أمر آخر لافت للنظر في كثير من قصص ماجد الغرباوي ونصوصه بوجهٍ عامٍ، وفي قصَّته (ذُهولٌ) التي نحن بصدد قراءتها بشكل خاصٍّ أنَّ الخواتيم لم تكن في أسلوبيتها التعبيرية صادمةً مُثيرةً في وقع هِزَّتها مقارنةً بمستوى المطالع والمفتتحات الشائقة في قوَّة إمتاعها ومؤانستها. فَلنَنصتْ بِتجلٍّ في خاتمه قصته التي يقول ففيها: "فِقْتُ صَبَاحَاً تَذَكَّرتُ مَا جَرَى، عَاوَدَنِي الحُزنُ، وَفَغَرتُ فَمِي عِندَمَا عَرَفتُ:أنَّ المُرَمَّلَ كَانَ قَلبِيَ"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ص11). فالخاتمة أحسَّ بدهشتها بطلُ القصَّةِ نفسُهُ الذي شعر بترمِّل قلبه لا المتلقِّي لها يشعر بأنها صادمة مثيرةً للفعل السردي.

ولنذهب إلى نموذج إجرائي آخر من نماذج تسريده القصصي التأمُّلي البعيد في فكرة فلسفته الموضوعية حكاية قصة (حُطامُ المسافاتٍ) المتوالدة الأفكار والحكايات في وحداتها الزمكانية. والتي أختار الرائي لها شخصية (ميامي) بطلتها الأُنثى الرئيسة الحالمة بالآمال والتطلُّعات الحياتية التي تسعى إلى تحقيقها ذاتياً كونها إنساناً له تمنيات وحقوق ومآلات وعليها واجبات والتزامات كثيرة.

" مَيَامِي الَّتِي أَلَفَتْ لَوحَتَهَا الجَميلَةَ، أَصبحَتْ تَنقلُ نَظَرَهَا الَّذاوِي بَينَهَا وَبَينَ الشَّجَرَةِ، تَمَنَّتْ لَو تَحَدِّثُهَا عَنْ بُعدٍ وَلَو هَمسَاً، أَو تَصُغَي لِآهاتِهَا. شَعَرَتْ بِاِنجِذَابٍ شَديدٍ وَغَرِيبٍ نَحوَهَا، جَرَّبَتْ أنْ تَتَشَاغَلَ عَنهَا، أَو تَغِيبَ يَومَاً أو أكثر... أَفقَدَ الفُرَاقُ صَوَابَهَا...أَرسَلَتْ حَفنَةَ أَشوَاقٍ مُعَتَّقةٍ. أَجَابتهُ الشَّجرَةُ بِبَاقةِ آهَاتٍ حَالمِةٍ، اِنتَشَرَتْ كَفَرَاشَاتٍ مُلوَّنَةٍ عَلَى سَطحِ اللَّوحةِ الهَامِدَةِ فِي زَاوِيَةِ الغُرفَةِ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 23).

والملاحظ على تركيب هذه الحكاية أن بطلتها (ميامي)، هي إحدى الشخصيات الفنيَّة النسوية، وليست الذكورية بدلالة ذكر الاسمية الصريحة لها وتردُّدات التاء التأنيثية الساكنة التي اتصلت بجملة من الأفعال الماضية (أَلَفَتْ، أصبحتْ، تمنَّتْ، شَعرتْ، جرَّبتْ، أرسلتْ) المُحرِّكة لفعلية الحدث الدرامي القصصي الهادئ بأجوائه المكانية والزمانية الصورية والحركية التي أضفت عليه نوعاً من الألفة والسكينة بين ذاتين كونيين شريكين في الوجود الحياتي ماءً وهواءً وعيشاً وموتاً، أي بين البطلة الساردة الإنسان ميامي صاحبة اللَّوحة الجميلة والشجرة الرمز الجماد التي تماثلها معاً.

فعلى الرغم من موت المؤلِّف (الكاتب) في هذا النصِّ كشخصيةٍ رائيةٍ غيرَ أنَّنا نشعر بأثر وجودها الحقيقي من خلال هذه الأنسنة الجمادية لدالة الشجرة حين بعث فيها الحياة كإنسان يتحدَّث ويهمس بصوته، ويُصغي صوبَ الآخر المماثل في فواعله وفعلياته الزمكانية بلغةٍ بَصَرِيَّةٍ ونفسيةٍ وحركيةٍ (صوتيةٍ وسمعيةٍ) مُتراتبة الحدث، وبمشاعر حقيقيةٍ مُفعمةٍ بالمحبَّة تبعث رسائل حوارية من المتعة والإدهاش والجمال في توليفتها التعبيرية المتجدِّدة عبر هذا التراسل القصصي السردي الإنساني.

الحدث بتجلياته الصراعية الهرمونية التصاعدية أو التنازلية المختلفة يعدُّ واحداً من أهمِّ عناصر وأركان القصة أو الرواية الأساسية البنائية الأربعة: (الحدث، الشخصيات، المكان، الزمان)، فضلاً عن القدة والصراع ومكملات السرد الأخرى. وكلَّما كان الحدث منضبطاً بمستويات رِتم إيقاعه الأسلوبي الفنِّي، وغير خارج عن مساراته الحقيقية المرسومة لوحدة الموضوع الفنيَّة، كان الأثر واضحاً في تفعيل حركة قواعد فنّ السَّرد القصصي القصير بأدواته التمكينية. والحدث عند الغرباوي يسير بإيقاعٍ خفيٍّ هادئ لا تحسُّ بوجوده العُقَدِي ظاهرياً، وإنما بإنسابيةٍ مسكوت عنها.

وعلى وفق ذلك التمايز الحدثي، فإنَّ أهم ما يميِّز الحدث في سرديات ماجد الغرباوي وفي هذه القصة بالذات هو ذلك التماهي الروحي الموحَّد الذي يخلقه الكاتب لبطله مع نظائره الأخرى في تشكُّل وقائع الحدث تشكُّلاً إنسانياً وحياتياً وفي ظلٍّ سقفٍ زماني ومكاني ما تحدَّده واقعة الحدث وتطوراتها التجددية. وبلغة أنيقةٍ رشيقةٍ وبإحساس ذاتي كبير يتغلَّب على صوت الحدث، حتَّى يتناهى إلى ظنِّكَ كثيراً التأكيد بأنَّ اللُّغة بهذه النصوص القصصصية الرتائبية، هي الشاخص الأوحد المحكي بمجسَّاتها الأثيرية، وأنَّ الحدث مجرد وسيلةٍ أو صدىً عن بلاغة تلك اللَّغة العالية التحكُّم.

فعلى طول مجريات الحدث يأخذك الكاتب في تسريده القصصي إلى تلك العلاقة الحميمية بين بطله وبين الشجرة، ويشعرك بسعادة غامرةٍ أو حزنٍ أسيفٍ مع صورتها الكليَّة الحالية.وكأنَّها كائن بشري يمتلك من المشاعر والأحاسيس الرفيعة، لها من المكانة والمحبَّة والوفاء التي تجعلها ابنةً أو صديقةً مُقرَّبةً لا يمكن التفريط بها لتلك العلاقة الجوهرية بينهما. حتَّى يتراءى إليك أنَّ القاصً قد صيَّرها إنساناً عزيزاً، له أعضاء (أغصان) تمنحه جدلية الحياة أو الموت وقوة الانتشاء أو النكوص.

"ذَاتَ يَومٍ جَالَتْ بِبَصَرِهَا... حَدَّدَتْ مُوقِعَ الشَّجَرَةِ بِدِقَّةٍ، تَفَقَّدَتٍ غُصُونَهَا، وَاحِدَاً وَاحِدَاً، هَالَهَا ذَلِكَ الغُصنَ اللَّعِينَ، رَاحَ يَتَدَلَّى مُودِّعَاً أَنفَاسَهُ. هَل سَتَمُوتُ الشَّجَرَةُ بِمُوتِهِ؟ بَكَتْ... شَعَرَتْ أنَّ، جُزْءَاً مِنهَا سَتَفقُدُهُ إِلى الأَبَدِ، رَاحَ الإِحبَاطُ يُبَدِّدُ آمَالَهَا، عَادَتْ تَجُرُّ أَذيَالَ الخَيبةِ، تَسمَعُ نَشِيجَ وِحدَتِها. رَكَّزتْ نَظَرَهَا عَلَى تَقَاطُعَاتِ لَوحَتِهَا، جَالَتْ بِبَصَرِها فِي زَوَايَاهَا الأَر بَعَةِ، بَدَأتْ حَنَايَاهَا تَتَمَاوَجُ...مَنْظرٌ غَرَيبٌ...بَحَيرَةٌ جَمِيلَةٌ...". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 24).

فالمشاعر الفياضة تغلَّبت على أُس الحدث، وكلُّ العبارات التي نطقت بها البطلة ميامي عن تلك الشجرة وما تحمله من مشاعر إنسانية كبيرة تشي بأنَّها روح كائن متجدد رغم جماديتها الصورية.

ويمضي الغرباوي قُدُمَاً باستكمال قصته الطويلة بهذا النسغ الروحي الرتائبي الخافت لواقعة الحدث المتصاعد بتمظهرات جماليات بلاغة بيان لغته القصصية المتعالية على حساب وقع الحدث. وحين تُجِيلُ النظر تأمُّلاً في قراءة خواتيمه القصصية، ستلحظ أنها على الرغم من كونها نهايات درامية تمزج بين تقنيات المَحسوس البصري وغير المحسوس المعنوي، فإنها تعدُّ نهاياتٍ مفتوحةً للقارئ يتوقَّعها كيفما يشاءُ فهمُهُ القرائيّ لها، وليس فيها من صدمة المفاجأة والإدهاش الذي يكسر أفق توقُّع المتلقِّي بفكرة خاتمة الأفكار التي هي حسن تَخَلُّصِ الحدث الحكائي للفكرة.

"ِالتِفِتِتْ إِلَى الشَّجَرَةِ، اَرهَقَتهَا حَنَايَا أَغصَانِهَا.عَادَتْ لِتَصحَبَهُ، اِمتَلَأَتْ قَبضَتُها شَوكَاً!". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 28). فعلى الرغم من الأنسنة والانزياحية اللُّغوية الصورية، فإنَّ هناك غياباً تامَّا لأثر الخاتمة.

ومن بين قصص هذه المصفوفة الأدبية قصة (اللَّاعبُ المُخادِعُ)، وهي من القصص البوليفونية المتعدِّدة الأصوات في بنائها التركيبي الحدثي، تعتمد على فكرةٍ جميلةٍ تقوم بتبادل الأدوار بين مُعلِّمٍ موسيقي مبدئيّ، وتلميذ هاوٍ مُبتدئ معجب بمعلِّمه عازف الموسيقى. ولكن سياقات العمل بينها تنحرف عن مسارها الأخلاقي المبدئي؛ وفقاً لما تقتضيه المصالح والمُتبنيات والمطامح الشخيصة لبطل القصة الذي يفاجئ تلميذة البارّ الذي يرى فيه صورةً قدسيةً لجلالة المُعلِّمِ الناهضِ بالأجيال.

"وَذَاتَ يَومٍ قَرَّرَ المُعلِّم فَجأَةً أنْ يَكونَ لَاعِبَ سَيركٍ مُعتَمِدَاً عَلَى لَياقتِهِ الجَسَديَّةِ، وَخِفَّةِ حَرَكَاتِهِ. وَعِندَمَا فَاتَحَ عَلِيَّاً [التلميذَ] بِالأمرِ اِستغرَبَ مِنْ قَرَارِ مُعَلِّمهِ، وَانْدَهَشَ مِمَا زَادَ فِي حَيرَتِهِ، فَمَا عَلاقَةُ السَّيركِ بِالمُوسِيقَى؟ غَيرَ أنَّ المُعَلِّمِ وَمَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ لَبَاقَةٍ أقنعَ عَلِيَّاً بِالفِكرَةِ، عَلَى أنْ يَعمَلَا مَعَاً، يَقُومُ المُعلِّمُ بِدَورِ لَاعبِ سَيركٍ، وَعَلَيٌّ يَعزِفُ أَلحَانَاً مُوسِيقِيةً تَتَناسبُ مَعَ حَرَكاَتِ اللَّاعبِ، كَي يَشدَّ اِنتباهَ الجُمهورَ، وَيُمكُنُ اللَّاعبُ مِنْ تَمرِيرِ حَرَكَاتِهِ البَهلَوانيَّةِ بِبَرَاعَةٍ" (نصوصٌ أدبيةٌ، ص38). ومن هنا تبداً (المُخَادَعَةُ) بؤرة الحدث المركزية بين الشخصيتين المتصارعتين.

"يَا وَلَدِي السَيركُ كَالسِّيَاسَةِ، يَعتَمِدُ عَلَى الخُدَاعِ وَالتَشويشِ عَلَى تَفكيرِ النَّاسِ، وَسَرِقَةِ إِعجابِهم، وَاسْتِغلَالِ مَشَاعِرِهُم. - وَمَاذَا عَنْ القِيمَ الإِنسانيةِ؟ وَمَاذَا عَنِ الأَخلَاقِ؟ هَكَذَا سَأَلَ عَلِيٌّ بِبَرَاءَة - أَجَابَ المُعَلِّمُ سَتَعَلِّمُكَ التَّجَارِبُ أنَّ هُنَاكَ مَصَالِحَ تَعلو عَلَى المَبَادِئ وَالأخلَاقِ، فَلَا تَكُنْ سَاذِجَاً. وَأَنَّ مَا نجُنيهِ مِنْ رَيعِ عَمَلِنَا سَنَخدِمُ بِهِ شَرِيحَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ البُؤسَاءِ وَالمُعدَمِينَ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 39). فإذا كانت رسالة السيرك تعتمد على خداع الناس، فإنَّ رسالة العلم والتعلُّم تعتمد على فضيلة الأخلاق وعلى تبني حقائق التنوير والأخذ بها لا على ديستوبيا الفوضى والتشويش والقهر التي لا تخدم شريحة المهمشين والمغيبين والبؤساء والمُعدَمين من السواد الأعظم من فقراء الناس.

وعلى وفق ذلك التوجَّه والمغايرة الفكرية قرَّرَ التلميذ عليٌّ مقاطعة عمل أستاذه المُعّلِّم، وإنْ كانت به خصاصة له ورغبة عارمة معه. فإيثاره وموقفه الأخلاقي كان سبب تركه العزف مع مُعلِّمه الذي كان يرى فيه صورة المُعلِّم صاحب الرسالة والأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية الثرة.

"قَرَّرَ عَلِيّ فّورّاً مّقاطَعَةَ العَمَلِ، والاِنْصِرَافَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَمِنْ دُونَ اِستئذَانٍ اِنسَحَبَ مِنْ سَاحةَ العَرضِ، ورَاحَ مِنْ سَاعتِهِ يَبحثُ عَنْ عَمَلٍ يَسِدُّ نَفَقَاتِهِ الحَياتِيَّةِ. فَعَمِلَ عَاملَ اِستنساخٍ فِي أَحَدِ المَكَاتِبِ بِرَاتِبٍ بَسِيطٍ بِالكَادِ يُغَطِّي نَفَقَاتِهِ اليَوميَّةِ، لَكنَّهُ كَانَ يَشعرُ بِسِعَادةٍ عَارِمَةٍ؛ لأنَّ مَوقفَهُ كَانَ مَبدَئِيَّاً وَمُنسَجِمَاً مَعَ قِيَمِهِ". (نصوص أدبية، ص 39).

وفي هذه الدفقة التسريدية رسالة إنسانية أخرى يبعثها ماجد لمُتلقيهِ من خلال شخصية البطل عليٍّ التلميذ الذي فقد عمله وضحَّى به، واشتغل عامل استنساخٍ بسيطٍ، مَفادها أنَّ الأعمال البسيطة المتدنية التي يلجأ إليها الفقراء من عامة الناس والمعدمين مجتمعياً لا تُقلِّلُ من هيبتهم الإنسانية ومستواهم المعيشي بخلاف الأعمال الدونية غير الشريفة والتي تحطَّ من قدر صاحبها وَتُسِيءُ له.

وكأنَّ لسان حال ماجد الغرباوي يتمثَّل بدلالة قوله تعالى: (وَيُؤثِرُون عَلَى أَنفسِهُم وَلَو كَانَ بِهُم خَصَاصَةٌ)، ويبعث في الوقت نفسه برسالة اهتزازية لمتلقيه مفادها أنَّ المعلِّم وإن كان ذا رسالةٍ إنسانية كبيرةٍ قد يحمل تحت معطفها المقدِّس انحرافاً أخلاقياً مُشيناً يعكس طبيعة ذاته الأمَّارة بالسوء لا صفتها الاعتبارية التي كسر أفق توقعها بعقابيل حدث الراهن لشخصية البطل المنحرف.

إذن الصراع القائم بين الرجلين بطلي الحكاية، صراعُ قِيمٍ لا صراعُ وَجاهةٍ أو خلافٌ ماديّ. وقد انعكست صورة هذا الصراع المستديم وتجلياته الفعلية على ابن المُعلِّم الذي كان يستخفُ بعليٍّ ومن عمله الجديد. حتَّى وصل الأمر إلى خاتمة القصة التي تؤكِّد أن الحكاية تسبق الفكرة؛ وبالتالي يعطيك ازدراء الابن نسخةً طبقَ الأصل عن أبيه.وكأنَّ العمل بشرفٍ وعفةٍ يُعدُّ عاراً على صاحبه.

"فبَدَّدَ اِبنُ المُعلِّمِ الصَمْتَ، وَسَأَلَ عَليَّاً: - مَاذَا تَعملُ يَا عَلِيُّ؟ - عَامِلَ اِستنسَاخٍ وَالحَمدُ للهِ - فاطلق ِابنُ المُعَلِّمِ ضِحَكَةً مُدَويَّةً، بِاستخفَافٍ كَبيرٍ، و قَالَ: مُبارَكٌ لَكَ عَمَلُكَ الجَدِيدُ! ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 40).

كل الدلائل الأسلوبية للسارد الكاتب أو الرائي المحكي الداخلي تشي بأنَّ الغرباوي كان يتذوَّق نصوصه السردية تذوِّقاً فنيَّاً وجماليَّاً ويستشعر أثر قيمة موضوعيتها الفكرية وتأثير وقعها الساحر على فهم القارئ العادي والمتلقِّي الواعي النموذجي الذي يعيش أجواءها الحالية من ألِفها إلى يائها.

والأمثلة السَّردية على ذلك التلقِي المعرفي كثيرة نذكر منها قصة: (هاتفُ الفجرِ، ذُهولٌ، تَمرُّدٌ، حُطامُ المسافاتِ، مِرايا الحُروفِ، وَاِنشقَ القمرِ، حَافاتٌ قَلقةٌ، قَرارٌ ارتجاليّ، اللَّاعبُ المُخادعُ، كِذبَةٌ مُتوهجةٌ، أُمنياتٌ مُتلاشيةٌ).وغيرها من النصوص الشعرية الأخرى لقصائده النثرية في المدونة (يَتهادَى حُلُمَاً، هَمساتٌ لَاهثةٌ، تَسَمَّرَ الضَوءُ، تَبتكرنِي الرِّيحُ، مَدياتُ حُلُمٍ، كَلمَةٌ هِيَ، عَناقيدُ شِعرٍ).

وحين نُجيلّ النظر متأمِّلين بتؤدةٍ وصبرٍ كبيرينِ نصوص ماجد الغرباوي الأدبيَّة، سواءٌ أكانت الشعرية منها أم القصصية التأمُّلية الفكرية، نجدُ أنَّ ماجداً الإنسانُ الماجدُ قبل أن يكون الغرباويّ المفكِّر الكاتب الواعد. وهذه صفة مهمَّة من صفاته الإنسانية ومزاياه الإبداعية التي تميِّزه عن مُجايليه أقرانه من كتَّاب الفكر التنويري والأدبي في عالمنا العربي المعاصر والحديث.

هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى بوصفه إعلامياً، أديباً وكاتباً تنويراً مهمَّاً في ناصية الثقافة العربية عموماً والدينية الإسلامية خصوصاً، فإنَّ أسلوبيته المُعجمية تُشير بوضوحٍ إلى أنَّ ماجداً ابن ثقافةٍ بيئيةٍ تراثيةٍ عربيةٍ خالصةٍ طبعت أثرها الروحي بنفسه طبعَاً وأخذت مكانها منه مكاناً قارَّاً.

حتَّى تأكد لنا أنَّ نتاج ماجد الغرباوي وتنظيراته الفكرية المُتأثِّرة بفلسفة التراث العربي الإسلامي الضاربة أنساغ جذوره روحه العميقة بأطناب التاريخ، هو نتاج ثقافي بروحٍ فلسفيةٍ وعلميةٍ جديدةٍ وسطيةٍ متحرِّرة الجوهر، وإن كان شكله الظاهري قرآني بحت الفهم والمعنى؛ لكن أساسات المبنى هي من تضعه في خانة التمَّيز المعرفي الذي من خلاله أن نُقيِّمَ ماجداً ونحكم عليه قيمةً علميةً وعمليةً ثرةً لا نبخس ميزانها الشيئي عدلاً وانصافاً وإحقاقاً.

إنَّ ما يهمنا في هذه الدراسة النقدية المتواضعة هو رمزية ماجد الغرباوي بوصفه الأديبَ الشاعرَ، أو القاصَّ الناثرَ. تلك النقطة الضوئية التبئيريَّة اللَّافتة التي من خلالها أن نفهم بجلاءٍ أسلوبية الغرباويّ الفكرية والأدبية، وأنْ نعيَ جيِّداً أنَّ كل ما يقوم به ماجد الغرباوي المفكِّر الإسلامي الديني المُتنوِّر في آثاره الفلسفية من تنظيرات فكريةٍ وإجرائية تطبيقية، نجدها بحقٍّ ترجمةً حقيقيةً لمعاني آثارها الفكرية واضحة في مناهل وأبجديات صفحاته الأدبية الإبداعية الثرَّة.

وهذا يلفت النظر إلى أنَّ كلَّ ما يعكس فلسفته الفكرية تجده واثباً حاضراً عملياً وعلمياً في ثنايا نصوصه الأدبية الشعرية والقصصية السرديَّة على حدٍّ سواءٍ. وأنَّ محمولات التأثُّر الفكري جليةٌ في بناء آثاره العملية، ولاسِيَّما تناصاته الفكرية القرآنية: (التحوِّلية والإيقاعية والتركيبية) التي وشمت نصوصه الأدبية من حيث الألفاظ والمعاني والانزياحات اللُّغوية البلاغية الأسلوبية الواضحة.

وإنَّ مثل هذا الفعل الكتابي قد سبقه به أدونيس علي أحمد سعيد، المفكِّر والشاعر والناقد العربي السوري في نتاجه (الثابت والمتحوِّل)، وفي كُتبه وتنظيراته الفكرية الأخرى، وفي رمزياته الصوفية وأسلوبيته الشعرية، وفي موقفه الآيدلوجي الفكري الثابت من العقيدة والدين. مع فارق الاختلاف والتشابه الجوهري بين المفكِّرين وتباين الفكر الفلسفي لكلٍّ منهما في البدائل الثقافية والمتبنيات الفلسفية المهمَّة التي هي محطُّ اهتمام نظريهما الفكري. ونشهد لماجد الغرباوي سمته الأدبية التي تُضاف رافداً لمثابة تحوَّلاته الفكرية الراسخة في مكتبة الثقافة العربيَّة عامةً والعراقية خاصَّةً.

***

د. جبّاَر ماجد البهادليَ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقي

.......................................... 

* مشاركة (40) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

سؤال يتبادر إلى الذهن ونحن نقف مع قامة فكرية في الساحة العربية، مثل ماجد الغرباوي. أين نصنف الفكر الغرباوي؟ هل نصنفه ضمن قائمة المفكرين المشهورين سواء كانوا عرب أم أجانب. وهل وصل ماجد الغرباوي بفكره الشمولي أو الكوني الى العالمية القائمة على الأسس العقلية؟، وهل سيلقى فكره قَبُولا لدى الآخر (الفكر الغربي) في حالة ما إن ترجمت أعماله الى لغات أجنبية، فماجد الغرباوي من خلال بحوثه عرف بانفتاحه على العالم، من خلال دعوته الى التجديد وإخراج الأمة العربية والإسلامية من مستوى الانحطاط الذي بلغته في مرحلة ما.

استطاع ماجد الغرباوي بفكره أن يشغل مساحة واسعة لنشر أفكاره. والمتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي، مُنَظِّرًا وناقدًا ومجددًا، حيث تدور ابحاثه حول الخطاب الديني وتحرير العقل البشري من بنيته الاسطورية، مسلطا الضوء على كثير من المشكلات التي حظيت بنقاشات واسعة لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر والاستبصار. كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني ولماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، وما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساسي لأيّ بناء حضاري، ويمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه وأبحاثه متتبعا الواقع الراهن وهو يرد على سؤال النهضة.

في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" وما قدمته من أفكار ورؤى حول الإنسان في تقدمه تارة وتأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية والفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي وما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية والسياسية والثقافية. فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري وتحريره من القيود والتبعية السياسية والإقتصادية وحتى الفكرية عن طريق الحوار مع الآخر وممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي والرأي المخالف/ المختلف، وبالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي. ومن جهة أخرى حول مسألة الطائفية. ففي كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا والآخر، الثابت والمتغير، المقدس والمدنس، يراجع فيها المفاهيم والأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ ويُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت وقوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة، في ظل نزاعات حزبية وسياسية معينة ومواقع إيديولوجية أثرت بالطبع على مضامينها وجديّة تمثيلها لموقف من المواقف، خاصة وأن المحدثين الأوائل كانوا فئات متفاوتة المشارب والثقافة والقدرة على الاستيعاب، فكان الغرباوي شديد الحذر إزاء النصوص.

وقد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكاديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ورغم أن أسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه يبتعد أحيانا عن الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين. فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره ورؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" والتحدي من أجل كشف الحقيقة ورفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الارتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتابه الذي ناقش فيه "إشكاليات التجديد"[1]، وكتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح"[2]، خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، وفي كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون وينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، وقد يتأخر لظروف اجتماعية تؤثر عليه ومحيطه والبيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي وما تحويه نظرياته من أطروحات، وأن نتأمل نصوصه في سياق الموقف الإجتماعي والسياسي السائد في الوقت الراهن.

التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟

فكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن أسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي أسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين والمفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع وأبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بإنجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، لدرجة أن الكتاب طبع ثلاث مرات، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، والثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، والطبعة الثالثة، صدرت عام 2017م، مع مقدمة بعنوان: التجديد والفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي والفكري. إذ يرى ماجد الغرباوي أن التبعية إحدى مظاهر التخلف، لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة، ومكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية[3]. ويمكننا هنا أن نقارن بين فكر الغرباوي ومالك بن نبي في مسالة التبعية فهما يتقاسمان الفكرة لكن لكل منها طريقته الخاصة، بحيث سماها مالك بن نبي بـ: "القابلية للاستعمار"، وهو يطرح سؤال النهضة ليجد علاجا للمشكلات الحضارية وسلوكات المجتمع التي ادت إلى اتساع الهوة بين الإنسان وواقعه الذي تحكمه ظروف تاريخية، وجد نسه عاجزا عن التوفيق بين حاضرة وماضيه الحضاري.

فنحن نقرأ بحوث الغرباوي خاصة ما تعلق بالتراث والحداثة، وكأننا نقف على متطلبات حوار الحضارات وضمان استمراريته (اي الحوار) وفعاليته، الأمر طبعا وكما يقول مفكرون يقتضي الإيمان بالحوار، والتقيد بتقنياته وأساليبه والإتفاق على مرجعيته المتمثلة في العقل أو المنطق، كنهج أساسي في العلاقة مع الآخر، أي توجيهه الوجهة الصحيحة في حسم الخلافات والنزاعات، وهذا يطرح تساؤلا هو كيف يمكن التوفيق بين خطاب العقل وخطاب العاطفة (العاطفة الدينية) وكيف يمكن ربط العقل بالمفاهيم المتناسقة (الوعي، الفكر، الثقافة والتراث) وإن كان بالإمكان الوصول إلى قناعة ترضي الطرفين وتخدم الجميع، خاصة في مجال إعمال العقل في النص الديني وإعطائه صبغة "القداسة"، كونه ينظم كل مناحي الحياة،

ويشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الاستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي وقمع المعارضة وتلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الاعتقالات، فتجده دوما يبحث عن المخرج من أجل وحدة الأمة التي تعتبر جزءًا من الدين، وهي قضية الإسلام ولا يمكن أن تنفك أو تنفصل عنه.، ويربط ماجد الغرباوي الاستبداد الديني في العالم العربي والإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة وهذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن وتأويلاته والفتاوي التي أباحت قتل الآخر، وهتك عرضه وحرمته، ومما زاد في تفاقم الحالة تعدد الخطابات، بين الدينية، الطائفية والقومية، هذه الخطابات أزهقت الحق بدلا من أن تزهق الباطل، فماجد الغرباوي في هذه المسائل يحاول إحقاق الحق، وهو في هذه الحالة يسير على نهج بعض المفكرين، من بينهم واصل بن عطاء الذي يعتبر أول من قال أن الحق يُعْرَفُ من وجوهٍ أربعة: "كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه وحجّة عقل (القياس) وإجماع"[4].

ولذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء[5]. الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف والاتهام والطعن في الأعراض، والتجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعاده ووضع آخر في مكانه، وإنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين ومقاصده وغاياته ..الخ[6]، في ضوء تكون وعي الإنسان، وهذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت والفكر والثقافة، رفع الجمود على النص وتقليد السلف، والانتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات تمتص طاقتنا ولا تساهم في إثراء النهضة.

و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، وقارن بين الثقافة المنغلقة والثقافة النقدية الجادة (المنفتحة)، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، وينتقد ماجد الغرباوي ممارسات تزييف الوعي، ويؤكد نحن بحاجة إلى وعي رسالي[7] في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث والدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب، حيث تبنى ثقافة التغريب، وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث ولا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، والثالث عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في أعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي[8]. ولذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع وتشخيص أخطائه[9]، وإعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا وفي تجديد هويته الثقافية، حيث يدعو الى منهجة الثقافة والمعرفة، وترك عملية الدفع الإجتماعي تأخذ مجراها، في إطار ديناميكية التناسق أو التضامن طالما في المجتمع البشري فئات مختلفة.

تحديات العنف والتطرف عند الغرباوي

وتشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، ولا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال إرهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا[10]. ما يلاحظ أن ما جاء في هذا الكتاب قد اشتمل على تقرير، تحدث فيه ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.

فماجد الغرباوي يطرح مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور والتفاقم؟ وهل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة[11]، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة والإنتروبولوجيين، خاصة إذا كانت السلطة تسعى لتأسيس دولة تنضبط داخلها الأمور كلها، ونجد هنا أن الغرباوي قد استعان بحوار الإنتروبولوجي المغربي عبد الله حمودي[12]، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك وحضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال ومن ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث عن حادثة ابني آدم (قابيل وهابيل)[13] التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، وهذا يعني كما يقول هو أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، مقدما في ذلك صورة واضحة لفكرة "الجهاد"،إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية بأسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال وحشية لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية[14].

يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها والتنقيب عنها في أعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، إذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين، يكون ذلك عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة "الإرهاب" المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الأخيرة مرجعية يرتكز إليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، لدرجة أنه ظهر الخلط في تحديد المفاهيم، فلا يوجد تعريف متفق عليه بخصوص مفهوم الإرهاب، ففيما يعتبره البعض عنفا واطرفا يراه البعض على أنه إقدام وشجاعة من أجل استرجاع حق مغتصب[15]. في كل هذا وذاك يقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها، بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ ويرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها وتدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.

جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي

هل الغرباوي رجل إصلاح؟ ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحديد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري وله قيمة فوق تجريدية وهو مرتبط بالتجديد[16]. حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا وأردفه بالتجديد وفي جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح والعكس، كما أن جل رجال الإصلاح في المشرق العربي والمغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد والإصلاح والتسامح والتعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات والتهم، وهذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، ولذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني[17]. إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي وكان مجددا رغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين[18].

أما مسألة النهضة، فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء وبعث الدين بلا انحرافات، والثانية ربط السياسة والأفكار بالعقائد، مقدما في ذلك شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني منظر الحركة الدستورية "نموذجا"، لاسيما والشيخ النائيني وبغض النظر عن مذهبه، فهو يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الاستراتيجية، وقد واجه نقاشات وجدالات وتساؤلات ومعارك فكرية متعارضة، ويبدو أن الغرباوي من بين المتأثرين بفكر محمد حسن النائيني بحكم نظرته الخاصة للإنسان وكيف يمكن أن يعيش، أكونه دقيق النظر في المسائل المعقدة والمستعصية حلها لاسيما في الجانب العقدي دون أن يهمل الجانب الذي يعتبر الأساس في دعوته كتهذيب الأخلاق والمعاملات من أجل تحقيق الفضيلة[19]. فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، المسالة هنا هي مسالة موازنة بين الدعوة والدولة والإسلام هو الفكرة السائدة في هذه الموازنة، ما دفع المفكرين للتساؤل عن من يملك الاستقلالية المطلقة الدين أم الدولة؟ وربما ماجد الغرباوي واحدا منهم، بدعوته إلى استخدام العقل في القضايا المصيرية والتعقل في كل المسائل التي تتعلق بالإنسان كجوهر.

موقف ماجد الغرباوي من المدارس النسوية

لا ينفك ماجد الغرباوي أن يقحم المرأة في أطروحاته، ففي كتابه "إشكالية التجديد" اعتبر المرأة مقياسا لتطور المجتمع، وقمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق والواجبات[20].

وقد كانت هناك قراءات حول رؤية الغرباوي لقضية المرأة، منها القراءة التي أجراها الدكتور محمود محمد علي في كتاب: "الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري"[21]، فالمدارس النسوية بتعدد أفكارها وإيديولوجياتها تسعى لإعطاء وجها جديدا للمرأة في إطار التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، وتحديد العلاقات بين الجنسين، وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وقد انقسمت المدارس النسوية في خطاباتها بين خطاب معتدل وسطي وخطاب متشدد متطرف وتولد عن هذين الخطابين العداء والصراع بين الجنسين.

لقد مرت المدرسة النسوية بعدة مراحل وموجات من أجل تمكين المرأة في المجالات المختلفة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، معتمدة في ذلك على عدد من المفاهيم الرئيسية خلال مراحلها المختلفة من أجل تفسير الواقع السياسي، فنجد من هذه المفاهيم كلمة "الجندر" (Gender) الذي ظهر مع كتابات سيمون دو بوفوار، وهو يعني النوع الإجتماعي الذي يمكن القول أنه أصبح المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها، وقد واجهت المدرسة النسوية بكافة مراحلها موجة انتقادية وهجومات واتهامات كذلك، بحجة أن هذه المدرسة تأسست لضرب الأسرة وتدميرها كمؤسسة أولى في التنشئة الإجتماعية، خاصة ما تعلق بـ: "الجندر" نظرا لكون هذا المفهوم يخرج عن الإطار المجتمعي والثقافي، كما يتعارض بشكل صريح مع الأطر الدينية التي تتبناها المجتمعات العربية والإسلامية.

في معرض رده على سؤال الدكتور محمود محمد علي حول الأطر الثلاثة للنسوية: (النظرة النسوية الإصلاحية، النظرة النسوية المقاومة والنظرة النسوية المتمردة) حيث تسعى الأولى إلى تحسين ظروف المرأة والارتقاء بأوضاعها الإجتماعية، والثانية تركز على العنف والقهر الجنسي الموجه ضد المرأة، يقول الأستاذ ماجد الغرباوي: (إن قضايا المرأة متشعبة ومركبة، وتسويتها تقتضي تفكيك أنساقها، والبحث عن جذر القهر والاضطهاد)[22]، ويرى أن هدف النظرية الإصلاحية إصلاح أحوال المرأة المعيشية والإقتصادية فيكون الإستغلال وجهتها (وهذا النوع من التشخيص لا يمس جذر المشكلة، ويعالج قضايا فوقية، رغم الأهمية الاقتصادية)[23]، دون التعمق في القضايا الجوهرية العميقة التي تواجهها، وهنا يتساءل الغرباوي إن كانت المشاكل الإقتصادية بديل عن الوعي ودوره في تعزيز القيم الإنسانية. الملاحظة التي سجلها ماجد الغرباوي ان مشكلة المرأة هي ثقافية عامة يشترك فيها الفرد والمجتمع، فلا هي مشكلة أنثوية ولا هي ذكورية، فماجد الغرباوي تناول بالنقد والمراجعة المدارس النسوية، وبيّن موقفه منها، كالمدرسة النسوية الاصلاحية، الاشتراكية، الماركسية، الراديكالية والراديكالية المتطرفة، كما قارب مسألة النسوية العربية أو كما سمّاها العرْبُ إسلامية، وبيّن خصائص البيئة والثقافة، وضرورة أخذهما بعين الاعتبار حين عالج قضايا المرأة، وهناك تفصيلات كثيرة يمكن مراجعتها ضمن صفحات الكتاب.

ويوضح الغرباوي كيف كان ينظر الرجل للمرأة في القرون التي خلت، بحيث كان ينظر إليها نظرة مقدسة بل يضعها في مرتبة الآلهة، بخلاف اليوم أسقطت منها صفة القدسية وأصبح ينظر إليها نظرة دونية، ويرجع الغرباوي هذه الأحكام إلى الفارق البيولوجي أو الجنسي للمرأة والرجل، أما موقفه من "الجندر" عندما تحدث عن أساسيات الجغرافية النسوية وقال أن دراسة الجندر ومظهر الأرض أو كما يسمى بـ: "اللاندسكيب" وتقصي أثر النوع والخلفية الثقافية والإجتماعية للإنسان في تشكيل هذا المفهوم، إلا أنه يوضح أكثر، أن مهمة الجندر نقد وتحليل النظرية التي تعتقد أن الفوارق الإجتماعية بينهما تم تزويرها لتعزيز السلطة الأبوية، وخلق قناعة لدى المرأة بأن مهمتها محصورة بالأمومة والمنزل[24].

ودعا الغرباوي إلى إعادة تشكيل الوعي من خلال تفكيك الأنساق الثقافية والمهيمن الفكري، وتشكيله على أسس إنسانية[25]، حيث ينظر للمرأة نظرة إنسانية عادلة، وذلك عندما تحدث عن الوظيفة البيولوجية للمرأة، إذ يرى أن هذه الوظيفة كانت وراء تصنيفها، فهي بالنسبة للرجل جسد، مرتهنة لقوته وإرادته جنسيا. يقول: (لا يخفى أن الوظيفة البيولوجية للمرأة كانت وراء تصنيفها. فهي بالنسبة للرجل جسد وطبيعة بيولوجية مغايرة)[26].

من هذا المنطلق يبدو أن المفكر التنويري ماجد الغرباوي يؤيد الثورة النسوية المتوازنة ودورها في بناء الوعي في رده على الراديكالية المتطرفة التي تبيح الإجهاض وإقامة العلاقات الجنسية الغير شرعية، وحق المرأة في ممارسة السحاق، وما شابه ذلك وهو بذلك يتحيز إلى ثورة فكرية ثقافية يكون التنافس الفكري فيها مسموحا ومشروعا، أي دون هيمنة فكرية أو تعصب فكري وبعيدا عن ثقافة "الندّية"، وكان الأستاذ ماجد الغرباوي قد ناقش مثل هذه القضايا في كتابه: " المرأة والقرآن" وأعطاها أبعادها الفكرية والإجتماعية والدينية، لاسيما قضية حجاب المرأة، وعاد به إلى زمن الرسالة المحمدية، حيث ربطه بالحياء والاحتشام، ونقف هنا مع موقف الغرباوي عندما قال: "هناك من ترتدي الحجاب عن قناعة باعتباره شعيرة دينية، وهناك حجاب تفرضه العادات والتقاليد، وثمّة حجاب يخفي تمردا أنثويا"[27]، وممّا تقدم، يطالب الغرباوي بإعادة قراءة حكم الحجاب في الشريعة ودعوات خلعه وحالات التمرد عليه من باب نظرية العبودية.

قراءات للفكر الغرباوي

ما وقفنا عليه من أعمال الغرباوي يعتبر شيئا قليلا، لأن نصوصه تحتاج إلى قراءات وتحليل، كانت هناك قراءات أجرها كثير من المفكرين، فقد حظي فكر ماجد الغرباوي باهتمام كثير من الباحثين الأكاديميين والمختصين في الفلسفة ومنهم الدكتور محمود محمد علي، الذي قدّم لمشروع الغرباوي قراءات فلسفية متعددة، عرض فيها أفكاره وموقفه من القضايا المطروحة لاسيما التي تلقى جدلا بين الباحثين والمفكرين. خصوصا في كتاب الفلسفة النسوية.

كذلك نقف مع القراءة التي أجراها الدكتور قادة جليد أستاذ الفلسفة بجامعة وهران غرب الجزائر، حيث اعتبر الغرباوي ظاهرة فكرية وثقافية في العالم العربي الإسلامي لأنه مثقف نقدي يبحث في المعنى وعن فهم جديد للقضايا الفكرية التراثية والإنسانية، ومثقف عضوي لأنه منخرط في عملية التغيير الإجتماعي وهذا ما يجعله مختلفا عن المفكرين الآخرين، خاصة في مسألة التراث، فالغرباوي يعتقد أن الفهم الذي نعنيه اليوم بالتراث غير مطابق لحقيقة التراث وبالتالي هذا الفهم الخاطئ وتقديسه هو عائق أمام التطور، فهو يرى أن الغرباوي شخصية علمية عصامية، ملتزم بما يؤمن به وملتزم بقضايا المجتمع وطموحه إلى التغيير دفعه لذلك، والالتزام عند المثقف العربي هو أن يكون مثقفا عضويا بلغة غرامشي، بمعنى يكون منخرطا في القضايا العامة التي تواجه المجتمع كتحديات، وهذا ما يقوم به ماجد الغرباوي، خاصة من مؤسسته " المثقف" من أجل التنوير والتغيير، ومن هنا جاء التفلسف أو التفكير بالمطرقة، فقليل جدا من المفكرين والكتاب يقول قادة جليد من يكون مستعدا لدفع الثمن، ولكن أغلبهم يطرحون الأسئلة الفاخرة، أما المثقف الحقيقي والصادق يطرح اسئلة الناقوس والغرباوي من الذين يطرحون أسئلة الناقوس أي أسئلة الخطر ويجيب عليها وأسئلة الناقوس لها ثمن[28].

أمّا الدكتور صالح الزروق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح والإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين ومنهم باقر الصدر وروح الله الخميني وأفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا[29]، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، ولذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الاجتهاد حتى في الثوابت، ومن هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي وعقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية، فهو يرى الحرية مطلب ديني وحاجة غريزية، خلاصة القول يلاحظ أن ماجد الغرباوي التنويري يسير على نهج الكثير من التنويريين، إذ يطل على منطقة الفكر على أساس أنها ساحة معرفية مشتركة تقع على خطوط التماس مع الدّين والفلسفة والسياسة لإرواء عطشه الفلسفي[30].

***

قراءة علجية عيش

.............................

[1] - الغرباي، ماجد، إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2017م.

[2] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008.

[3] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 11.

[4] - علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص395.

[5] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 23.

[6] - المصدر نفسه، ص 24.

[7] - المصدر نفسه، ص 24.

[8] - المصدر نفسه، ص 47.

[9] - المصدر نفسه، ص 54.

[10] - الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2009، ص 95.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه، ص 96.

[13] - المصدر نفسه، ص 32.

[14] - المصدر نفسه، ص 20.

[15] - المصدر نفسه، ص 21.

[16] - الرزوق، د. صالح، جدلية العنف والتسامح.. قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، دار نينوى، دمشق – سوريا، 2016م، ص 42

[17] - المصدر نفسه، ص 46.

[18] - المصدر نفسه، ص 25.

[19] - المصدر نفسه، ص 30.

[20] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 30.

[21] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2021م.

[22] - المصدر نفسه، ص 157.

[23] - المصدر نفسه.

[24] - المصدر نفسه، ص 142.

[25] - المصدر نفسه، ص 159.

[26] - المصدر نفسه، ص 136.

[27] - المصدر نفسه، ص 217.

[28] المنجز الفكري لماجد الغرباوي ضمن ندوة: الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة في الجزائر، تقرير علجية عيش، أنظر، صحيفة المثقف 12 كانون2/ يناير 2023.

[29] - جدلية العنف والتسامح، مصدر سابق، ص 37.

[30] - المصدر نفسه.

.....................

* مشاركة (39) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

طالما قرأت الكثير من إنتاجاتكم الرصينة.. واكثر ما شدني هو إقدامكم الشجاع على إقتحام فلسفة التنوير في إطارها الآيديولوجي وفلسفة التحرير في إطارها السياسي.. وهي ساحات لم تكن سهلة، ومع ذلك فقد كان إقتحامكم لهذه الساحات (السياسة والدين) له مغزاه ومدلولاته في مجال الإدراك العقلي وليس فقط في الفكر المحض.. وكنتم دائماً تريدون ان تضعوا أسساً للتنوير وأسساً لإصلاح العقول في واقع يشترط إزاحة المستبد في العقل عن طريق التنوير الذي يستمر الى نهاية التاريخ الذي لن ينتهي هو الآخر.

كنتم ولا زلتم قامة رائدة في هذا المضمار الشائك والمعقد، وإن إقتحامكم كان شجاعاً حتى اذا استمر البحث من اجل إيجاد مقاربات بين السياسة والدين وبين منطق العقل الحسي ومنطق العقل المجرد، عقود من السنين. وتلمست من خلال أطروحاتكم الرصينة تساؤلات تحتاج الى التوسع وإظهار الفرق بين التنوير في الواقع  وبين الثورة على الواقع (وأيهما الأولي..؟).. فالكثير من العقول وأنماط التفكير تستخدم في بعض المفاصل الثانوية.. والقليل من العقول تجرؤ على الاستخدام الاساسي وألأمثل الذي يعالج وجود الانسان العقلي، وصديقي العزيز أحدهم بإعتزاز.

الواقع مشحون كما تعلمون بالتناقضات والمشكلات والإشكاليات، وما يهمنا في هذا المجال هو كيف يتخلص العقل من (نفاياته) كما يشير اليه "كولن ويلسون" التي تعمل على التشويش الذهني؟ ومن هذه ما يترسب من إقحام السياسة بالدين وإقحام الدين بالسياسة.

فعندما يستخدم الانسان نسبة عالية من قدرات العقل في مساءل (ثاوية) يستهلك طاقته العقلية دون ان يقدم حلولا لها.. وما يقوله إيمانؤيل كنت (تجرؤا على استخدام عقولكم).!! وأنتم تدخلون هذا المدخل بجدارة وثقة، كما أرى واتابع ما تكتبون، وخاصة وانتم تشخصون خطر الوصاية على العقول وتشخصون الاوهام والخرافات القديمة وهي مكبوت ايديولوجي يتعارض مع المنطق العقلي، وتدعون إلى الخلاص والتنوير، أي التحول من حالة عدم استخدام العقل الى التجرؤ باستخدامة بعد التخلص من تلك النفايات.

***

د. جودت صالح

17/03/2024

....................

* مشاركة (38) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

(نحن بحاجة إلى وعي يمزّق جدار الصمت، يفضح الكذب والتزوير، ويقول الحقيقة بصوت مرتفع).. الباحث ماجد الغرباوي

***

الباحث والمفكر الديني ماجد الغرباوي، شخصية فكرية معروفة. اصدر عددا من المؤلفات، تناول فيها قضايا فلسفية وفكرية وعقدية، ساعيا بمشروعه الى تحرير العقل من بنيته الأسطورية، وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. كما جاء في سيرته. وأيضا يسعى جادا إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي. ويؤكد (ان فهم قضايا العصرمرتهنة بتجليات العقل الواعي). والغرباوي هو مؤسس مؤسسة وصحيف المثقف والمشرف عليهما. كتب عن منجزة عدد كبير من الكتاب، نشرت في المثقف وفي مواقع أخرى.

يسعى المفكر الإسلامي دائما الى تقديم اجابات، عن أسئلة تراودنا، حول قضايا عقائدية وميتافيزيقية. عن الحياة والموت وما بعد الموت، وعلاقة كل هذا ببعثة الرسل والأنبياء. أو ما يراودنا من شكوك حول وجود الله تعالى، وحقيقة اليوم الآخر. وكذلك اسئلة عن العدل الإلهي، ومعنى العذاب والخلود في النار. اضافة الى قضايا تخص حياتنا حول التسامح مع الآخرين، واحترام خصوصياتهم وعقائدهم. وما هو السبيل للعيش بسلام مهما اختلفت الاديان والقوميات.

نجد أجوبة الباحث الغرباوي على أسئلتنا وشكوكنا، واضحة وجلية، تزيل هاجس الحيرة وتداعيات الشك، فهو مفكر اتسمت كتاباته بالشفافية والوضوح، وأسلوب رائق بانسياب سلس وبسيط .

تناول الغرباوي قضايا مهمة كثيرة، وكانت له آراء يتفرد بها ربما حول تلك القضايا. كل ذلك ضمن مشروعه التنويري، فهو عندما يدعو لمراجعة التراث ونقد النصوص، لمواكبة الحاضر، يبرر ذلك بقوله: (إن نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه إحدى مهام الكتاب[1] وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثا عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي وإعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفة وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها إنسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيدا عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية)[2]. فالغرباوي في مراجعاته النقدية للتراث لا يتوانى عن الغوص عميقا من أجل الوصول الى الحقيقة، والكشف عن الزيف في قضايا نعتبرها مسلمات، ولكنها ليست ذلك بعد البحث والتنقيب كما يفيد كلام الغرباوي:  لست مع متاهات التفكيك، غير أني أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة، ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب[3].

ولم تقتصر آراء الغرباوي على التراث ومراجعاته النقدية بل أن كتاباته حول قضايا أخرى كالمرأة والتجديد والتنوير كثيرة ومتعددة، وله حول التسامح كتاب مشهور بعنوان: التسامح ومنابع اللاتسامج... فرص التعايش بين الأديان والثقافات، كُتبت عنه مراجعات كثيرة. وهو من دعاة التسامح، يرفض كل قيم اللاتسامح والعداء والكراهية ونبذ الآخر، ويعتز بالتسامح أنه قيمة إنسانية ودينية نحن بحاجة ماسة له، خاصة الدولة المتعددة دينيا وثقافيا وقوميا. يؤكد في كلامه: (رغم ان التسامح مفهوم اسلامي غني في دلالاته غير ان القراءات المبتسرة للدين ونصوص الذكر الحكيم صورّت التسامح مخلوقا لا اسلاميا، او مفهوما مستوردا للاطاحة بقيم الدين الحنيف. وهي قراءات تشبث بها دعاة العنف والاحتراب، ممن اختزلوا القرآن في بضع آيات نزلت في ظل ظرف خاص، بينما أهملوا مصفوفات قرآنية كثيرة تدعو الى المحبة والوئام ونبذ العنف والدعوة الى الاسلام بالحكمة والموعظة الحسنة)[4].

- لم يكتف الغرباوي بموضوع التسامح، بل تناول منابع اللاتسامح في كتاب التسامح، وأيضا سلط الضوء، تحليلا ونقدا، على التطرف الديني وتوظيف الدين لمصالح أيديولوجية وسياسية وحزبية وحتى شخصية. والتطرف معضلة فكرية، جاءت نتيجة تراكمات الغلو العقائدي والفكري، والتعصب المقيت، تحت عناوين دينية، ما هي سوى مغالطات وقراءات خاطئة للنصوص الدينية. وهيمنة العقل التراثي، بمفاهيمه وتفسيراته للنصوص المقدسة وفق ولاءات عقدية. وقبليات طائفية. لذلك طالما حذر الغرباوي من القراءة الايديولوجية للتراث، وطالب بقراءات عقلانية موضوعية: (القراءة الأحادية للتراث، ضرب من الخداع، حينما تزور الحقائق، وتشوه الواقع، وتعكس لك صورة مثالية عن تاريخك ومقدساتك..هدم أسوار القداسة ونقد الموروث أول خطوات النهوض الحضاري وأثبات عدم تسويفها لمصالح فكرية أخرى). فهناك ضرورة لتقديم قراءات جديدة للتراث والعقل التراثي، ونقدهما لاكتشاف الحقيقة، وبيان ما هو زمني محدد بحدوده الزكانية وما هو مطلف، والتمييز بين ما هو بشري وما هو إلهي، كي لا تلبس الامور ويختلط المقدس بغيره، فهناك نظرة مقدسة للتراث لا تسمح بمراجعته فضلا عن نقده. خاصة القضايا العقائدية التي يبدي فيها الغرباوي حساسية فائقة، لخطورة ما يترتب عليها من التزامات دينية، ووعود أخروية، تغري المتلقي، فيندفع في تبني كل شيء، لا فرق عنده بين الصحيح والمزور، لا عمدا بل لأنه يثق برجل الدين، على صعيد الايمان يقول: (الإيمان يتأثر بمناشئه وصدقية العقيدة ترتهن لأدلتها وبراهينها، وبينهما بون كبير، فربما مناشئه مجرد أوهام الحقيقة أو مصفوفة خرافات لا دليل عليها سوى الوهم بتأثيره النفسي، وهذا مبرر موضوعي يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثرات الآيديولوجية والطائفية في صياغتها فيُخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطورها وتاريخيتها)[5]. فهو يعالج في نقده للتراث قضايا ساهمت في انحراف العقيدة، وشكلت خطرا على مستقبل الدين والمسلمين، عندما استباحوا قتل الآخر، وسفك دماء الناس الابرياء. وساهموا في زرع الفرقة والتنابذ. والأعتداء على رموز ومقدسات الآخرين، والتجاوز أللا أخلاقي على حياتهم وخصوصياتهم، مما زرع الكراهية والضغينة بين الشعوب، خاصة بين المذاهب والطوائف الدينية في البلدان العربية، وهذا ما حدث في الفترة الأخيرة من اغتصاب قرى ومدن وتدمير معالم تاريخية تراثية، وقتل الأبرياء، والعُزل وسبي العوائل الآمنة في شمال العراق. لهذا يؤكد في كتاباته على نقد النص لاكتشاف حقيقته: (المطلوب فهم النص / الحكم، ضمن سياقه التاريخي، بعيداً عن التقديس. أو افتراض وجود ميتافيزيقي للحكم يحول دون إدارك ملاكاته. فربَ ظرف ما وراء صدوره، يمنع إطلاقه أو تعميمه. أو كان ثمة سبب لصدوره وقد انتفى موضوعه، فيفقد النص / الحكم فعليته. وما لم يؤخذ السياق في فهم النص تتغير جملة من الأحكام كالموقف الشرعي من الآخر وفقاً لفتاوى الفقهاء. والكلام عن النص الديني وخصوص النصوص التشريعية)[6].

ويراهن الغرباوي كثيرا على الوعي وسيلة لفهم الواقع، وتشخيص الأخطاء، دون خوف أو تردد، من اجل اكتشاف الحقيقة، وتشخيص الزيف والعودة الى قيم الدين والقيم الانسانية، وعليه نحن (بحاجة الى وعي يمزق جدار الصمت ويفضح الكتب والتزويرويقول الحقيقة بصوت مرتفع).

متمنية لكم الاستاذ القدير ماجد الغرباوي استمرار النجاح والتألق الفكري.

***

إنعام كمونة

......................

[1] - يقصد الباحث كتابه: النص وسؤال الحقيقة.

[2] - الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات الفكر الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2018م، ص 9.

[3] - المصدر نفسه

[4] - أنظر مقدمة الطبعة الأولى من كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش ين الأديان والثقافات، مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، 2006م، ص 5.

[5] - مدارات عقائدية ساخنة، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، ط2، 20019، ص 22.

[6] - الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في الترشيع.. نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م، ص 309.

 .......................................

* مشاركة (37) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

كاتب ومفكر تخطى الأسيجة الدوغمائية، فهو من الكتاب المجددين للفكر؛ إذ طالما كانت كتاباتهُ تحرّض القارئ على التحرر من قيود التراث، وفهم النص الديني بما ينسجم مع العقل، وحركة العصر، وما فيه من متغيرات حضارية.

الكاتب ماجد الغرباوي لم يكن كاتبا طارئا، بل يمتلك مشروعا ثقافيا تنويريا، يهدف إلى توعية المجتمعات، وإخراجها من ظلمات التشدّد والسطحية التي طالما كانت تعصف بها؛ لأنّها منغلقة على مفاهيم الماضي، دون مواكبة الحاضر.

من يقرأ للغرباوي يدرك أن الرجل يقف على أرض صلبة؛ نتيجة اطلاعه على التاريخ الإنساني، وثقافات الشعوب، وعقائدها، وأساطيرها، وما مرّت به من تحولات تاريخية. هذا الاطلاع، والجذوة الفكرية؛  شكلا نقطة القوة في كتاباته التي تتميز بالرصانة، والمتانة، وجمال الفكرة، ومنهجية الاستقراء. إذ تشكل مؤلفاته إضافة حقيقية للمكتبة العربية والإنسانية، متمنيا له المزيد من العطاء ومواصلة هذا المشروع  الثقافي الكبير.

***

الشاعر والكاتب أحمد مانع الركابي

....................................................... 

* مشاركة (36) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

                

منذ ان بزغ النور في سماء الانسان وهو يبحث عن مرجع معتمد يجيب عن أسئلته حول الوجود والحياة والموت، وسبب وجوده، وما هو أصله، وكيف سيكون مصيره. فكان الدين دون مرجعية الانسان المؤمن لمعرفة تلك الحقائق، فراح يهتدي بهديه، ويتمسك بشرائعه، ويتحلى باخلاقه، وتطمئن به نفسه، ويتخذ من القرآن مصدرا لمعرفة كل القضايا التي تهمه، مادام الدين وحيا منزلا من عند الله تعالى. أنزله على صدر نبينا محمد (ص) لهدايتنا، فالدين مرجعية صائبة بالنسبة للمؤمنين، وهذا سبب تعلقهم بدينهم والافتخار بالانتساب له، والدفاع عنه. وقد دعا الله جل وعلا إلى تدبر آيات القرآن، في أكثر من آية، رغم أنه كتاب مقدس. فالتدبر يفتح للقارئ معاني جديدة لا تظهر بالقراءة العادية له. والاية تخاطب الانسان الذي جعله الله خليفة في ارضه، مهمته عمارة الارض، قد أوكلها الله له، فعليه أن يكون كفؤا لهذه المهمة. وهي مهمة صعبة تحتاج للدراسة والتحليل والتطبيق والغوص في غمار التفاصيل التي تتناسب مع حياته في ظل التقدم الذي يُليقي بظلاله على كل امور الحياة. وقد وضع القرآن العقل معيارا لفهم تأويلات الكتاب، وهذا يؤكد أهمية العقل واحترام الاديان له: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[1] والالباب هي العقول واللب هو جوهر العقل، وكون الانسان مخيرا وليس مسيرا فلابد أن يتمتع بمساحة من الحرية لاختيار طريقة تفكيره على الأقل، لذا بات جليا أن تقاس جودة الاشياء بمدى تطابقها مع الواقع الحياتي للانسان الذي يستوفي شروط ديمومته من القيم العليا المتمثلة بآيات الله جل وعلا. غير أن مجتمعاتنا هجرت العقول وتمسكت بالأساطير حتى سادت فيها ضروب الخرافة والتسلط وانعدام الحريات وانتهاك الحقوق، والتمسك بالطقوس والشعارات بدلا من التخلق باخلاق الدين وتمثل قيمه الانسانية. والسبب ليس المجتمع وحده بل الخطاب الدين الذي لم ينجح في مواكبة العصر، ولم يلبِ طموحات الانسان الروحية والحياتية، لذا لابد ان من خطاب ديني جديد، وفهم ديني جديد يعيدان للناس ثقتهم بأنفسهم وعقولهم ودينهم. وقد تصدى عدد من العلماء والمفكري للتجديد الديني من خلال تقديم آراء دينية تنسجم مع القيم الاخلاقية والحضارية الانسانية، وعدو للتسامح والمحبة واحترام الآخر، منهم: الباحث والمفكر الاستاذ ماجد الغرباوي.

ماجد الغرباوي

ماجد الغرباوي كاتب وباحث بالفكر الديني، واجه خلال حياته ظروفا مختلفة، وهاجر الى أكثر من دولة، لكنه ظل وفيا لمبادئه وقيمه التي آمن بها. وحمل على عاتقه مشروعا دينيا وإنسانيا ينتمي للعقل والعقلانية، ويتخذ من الاخلاق ركيزة اساسية له. بعد أن مضى بدراسة وتدريس العلوم الدينية والعقلية المرتبطة به، سنين طويلة كما أشار الى ذلك في سيرته. إمتاز بدماثة الخلق وسرعة البديهية وقدرة على طرح الأفكار وشرحها وبيانها بكل سلاسة ووضوح ورحابة صدر منقطعة النظير. نشأ في أسرة متسامحة، ابتداء من رأس الهرم والده الذي أخذ منه كل القيم النبيلة ومبادئ الفضيلة، ووالدته التي كانت ينبوعًا أغدق عليه العاطفة والنبل والتسامح وحب الاخر. وزرعت في نفسه احترام الاخرين بعيدا عن أي اعتبار، وهذا ما انعكس على شخصيته فيما بعد (فالجذور الطيبة ثمارها طيبة). محاور من الطراز الأول، ينطلق من ثقافة ومعرفة واسعتين، أهلتاه ليكون قبسا يستضاء بعلمه وأدبه. يعتمد على الدليل والبرهان والعقل في آرائه فهو لا يطلقها جزافا او بدوافع عاطفية. هدؤه ينبع من منبته الطيب ودراسته العميقة وخبرته الحياتية وخلقه الكريم. يدعو في كتاباته الى التسامح واحترام الاخر. والدين برأيه معاملة حسنة، وأسلوب حياة، وليس طقسا يُردد دونما أدنى وعي. والايمان إيمان عقلي نقي، وليس أوهاما وخرافات. تعددت أعماله حتى بلغت أكثر من 30 عملا، تأليفا، وترجمة، وتحقيقا، وحوارا واعداد، وكتب حول منجزه كثيرون. كل هذا وغيره ذكره في سيرته، المنشورة في المثقف.

القارئ لمؤلفات الغرباوي يجد تأكيده الدائم على الانسان، باعتباره سيد المخلوقات. يتناول في بحوثه كلا بعديه المادي والروحي، دون تفريط. كما يدعو الى اصلاح الذات سبيلا لاصلاح المجتمع، ودعا الى التسامح لتدارك اخلاق الكراهية والعدوان المستشري بسبب الحروب والصراعات السياسية على السلطة. التسامح حاجة ملحّة لمجتمعات تفتقر له اساسا، مجتمعات سادها العنف والتعصب الاعمى والعنصرية المقيتة. بسبب الاستبداد وروح العبودية، لذا تعني الحرية عنده، حرية الرأي والتفكير الحر، والاعتقاد السليم دون مغالاة. ويمكن أن اضرب مثلا بالعراق لحالة التشرذم والصراعات الطائفية والسياسية وانعكاساتها على المجتمع. العراق بلد تتعدد فيه الاعراق والطوائف. وكان شعبه الى حد قريب يتمتع بالاخاء والمحبة والتسامح، ففي الحي الواحد تجد المسلم والمسيحي والازيدي والصابئي والعربي والكردي والتركماني يتشاركون الشمس نفسها والنهر نفسه والارض ذاتها تحتضن خطواتهم وتباركها بعيدا عن أي أي اعتبار، لكن هذا المفهوم تشرذم عندما تسيست أهدافه مما أدى إلى تنافر أقطابه وبالتالي حلت الكارثة!. لذا نجد الغرباوي يؤكد على التسامح وقد اتخذ من العراق بلده حينما ألف كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح: (ولعل مشاهد العنف في العراق ستبقى ماثلة في ذاكرة الاجيال. هذا البلد الذي عرف بتنوعه الديني والمذهبي والقومي منذ قديم الزمان، غير انه تعرض لتحديات خطيرة في مصداقية وحدته، وتحولت خطوط التماس الى خطوط نار محفوفة بدماء الابرياء من الاطفال والنساء والشيوخ، وظلت تراكمات الخراب المدني وكل ما هو جميل في الحياة شاهدة على عمق الازمة الثاوية في لا وعي الشعب المتنوع، والتي انفجرت عندما استنشقت جرعة قوية من الحرية)[2].

من جانب آخر، أكد على الحرية كقيمة أساسية عنده، يرفض التفريط بها أو التنازل عنها، ويؤكد على حرية الفكر والرأي وحق التعبير، دون تعسف، مادم الانسان يلتزم بقوانين المنطق والعقل3. ويكون جداله بالتي هي أحسن ومن خلال الأدلة والبراهين. بينما القمع وتكميم الافواه سياسة سائدة في بلداننا، بحكم الاستبدادين الديني والسياسي. لهذا يقف الغرباوي بشدة بوطه الاستبداد، مهما كانت سلطته[3]. فالانسان كائن محترم يجب ان يتمتع بحرية كافية حدودها حرية الآخرين، والأنظمة والقوانين التي تشرع للصالح العام. حتى التقليد الفقهي يرفضه الغرباوي ما لم يكن عن بينة، يستوفي شروطه الموضوعية. ويدعو الى منهج جديد لاستنباط الاحكام الشرعية، يحفظ كرامة الانسان وفق ضوابط علمية وعلى اساس القيمة الاخلاقية الاصيلة، كالعدل والمساواة.

وقد نظر الغرباوي للمرأة باعتبارها قيمة انسانية أولا وقبل كل شيء،[4] بل أنها أعلى قيمة يستمد منها المجتمع طاقته وديمومته، وهي ليست مجرد رقم أوحاجة بل إنها الانسان الذي خلقه الله بأجمل تقويم وعليه يُعوّل بناء الانسان والحياة والمجتمع والحضارة، فهي تهب الانسانية سبل ديمومتها وحضورها ومعنى وجودها. وعلى اختلاف العصور كان لها دور قيادي وريادي واضح في مجمل ميادين الحياة العامة والخاصة ، فهي نصف المجتمع وتربي نصفه الاخر، وقد اثبتت حضورها كجوهر وغاية وليس مجرد وسيلة للتلاعب بمقدراتها، وقد استلهم الغرباوي آراءه وأحكامه بالنسبة للمرأة من بديع الايات القرآنية التي كرّمت المرأة وأنصفتها ورفعت مكانتها ووهبتها الحقوق التي حُرمت منها في العصور الغابرة، ومع اختلاف الدور البايولوجي للمرأة لكنها أخذت مكانتها بموثق من الله وإن أغفله الفرد المتسلط أو البيئة المتعصبة (يأيها الناسُ اتَّقوا ربكمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زَوجها وبثَّ منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام)[5].

في الختام، هذه شهادة عبرت فيها عن وجهة نظري الخاص، اسال الله العلي القدير ان يبارك في مسيرة الاستاذ ماجد الغرباوي

***

مريم لطفي - أديبة وكاتبة

..........................

[1] - سورة الرعد، الآية 19.

[2] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008، ص 12.

[3] - أنظر موقف ماجد الغرباوي من الاستبدادين الديني والسياسي في كتاب اشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، ص 209. وكتاب: الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2010م.

[4] - هناك كتابان يشتملان على رأي الغرباوي في المرأة وحقوقها. الأول حوار د. ماجد غضبان مع ماجد الغرباوي في كتاب المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2015م. وكتاب: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، للدكتور محمود محمد علي، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2021م.

[5] - سورة النساء، الآية: 1.

........................................ 

* مشاركة (35) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

 

مقدمة: أشتمل التراث العربي الإسلامي على مجموعة علوم، منها: علم الكلام، علم الفقه، علوم القرآن، علم الحديث، الفلسفة، التاريخ، الأدب. وفي كل فرع من هذه الفروع ترك لنا السلف ثروة تراثية، يشيد بها الباحثون، فمثلا على صعيد الأدب والشعر، احتفظ لنا التراث بقصائد أشهر الشعراء والفحول العرب، التي مازالت خالدة، تتناقلها الألسن، يحفظونها ويستشهدون بها، منها المعلقات السبعة. وقد جسدت قصائد الشعراء الروح الابداعية للعرب، ونجحت في نقل مشاعرهم ومواقفهم وخصائصهم وما يتميزون به من عادات وتقاليد وأعراف، كما حكى لنا الشعراء عن حروب ومغامرات وغزوات العرب. وعلى صعيد الفلسفة والعلوم، فقد تفاعل العرب والمسملون معهما، وأسهموا بشكل كبير في تطويرهما، وهناك علماء أفذاذ يشهد لهم التاريخ والتراث. وقد أضاف الفلاسفة العرب والمسلمين آراء فلسفية اتسمت بالدقة والعمق في بحوث الوجود والماهية والميتافيزيقا والأخلاق. فتركوا لنا تراثا قيما، لكبار الفلاسفة والعلماء، أمثال: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن مسكويه، وابن الهيثم، وإخوان الصفا، والغزالي، في المشرق، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وابن عربي، وابن خلدون في المغرب وأخرين. وقد تناولوا مختلف المواضيع الفلسفية من الوجود الى اللاهوت، مرورا بمفاهيم كثيرة. كما حظيت الفنون والعمارة خاصة الزخرفة الاسلامية بمكانة كبيرة، وتطورت بشكل ملحوظ في العصور الوسطى. لا يمكننا تجاهل الجمال والتفاصيل الدقيقة في العمارة الإسلامية التي غلفت مساجدها المذهلة وقصورها الفخمة. وكل هذا مشهود له، ويبقى التراث العربي – الإسلامي في هذه المجالات موضع احترام وتقدير.

التراث الديني

يقصد بالتراث الديني كل ما تركه العلماء والفقهاء والمتكلمون من كتابات ومدونات تدور حول الدين أو ما يتفرع عليه، سواء الكتاب الكريم أو سيرة النبي محمد (ص). وهو تراث عزير ومتنوع، يتعهدونه ويحافظون عليه، ويعودون له لفهم الاسلام وتشريعاته وكل ما يرتبط بحياتهم اليومية. ومحور هذا التراث على صعيد علم الكلام القديم، هو العقيدة الاسلامية، التوحيد ونفي الشرك بالله تعالى. أي الإيمان بوحدانية الله تعالى لا شريك ولا ند له. وأنه الخالق والمدبر للكون بأكمله، ثم الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، مع التركيز على الرسالة المحمدية باعتبارها الرسالة الخاتمة. ومحوره على صعيد الفقه، سلوك الانسان، وكيفية تطابقه مع الشريعة الاسلامية وأحكامها. فمهمة الفقه، استنباط الاحكام الشرعية في جميع المسائل التي يحتاجها الانسان في حياته، كالعبادات والمعاملات، كـالصلاة والصوم والحج والزكاة، والعقود والبيع والشراء. وكل ما يتصل بها من تفصيلات وتعاليم، سواء كانت شرحا وتفسيرا ورواية ونقلا للآراء، أو قضايا اجتهادية استنباطية. كما لا يمكن تجاهل اهتمام التراث بالأخلاق وإن كانت كتب الأخلاق قليلة في هذا المجال، إلا ان الاخلاق من الدين وقد أكد عليها الكتاب الكريم، فاهتم بها المسلمون، مادامت تلامس مشاعرهم وسلوكهم. وكان علم الكلام القديم قد تصدى لبعض جوانب الموضوعات الاخلاقية، كتعريف الحُسن والقُبح، وهل هما عقليان أم شرعيان. وعليه يمثل التراث إرثا عظيما، يعزز الانتماء والهوية، ويساهم في تشكيل وعينا واعتقاداتنا حول العالم ووجودنا كأفراد ومجتمعان. بالتالي، يجب علينا الاعتناء به، وتقديمه كتجارب مهمة يمكن الاستفادة منها.

لكن هل ثراء التراث وشموله يعني كماله، وأنه صالح لكل زمان ومكان أم أنه صالح لذلك الوقت؟ وما علاقتنا به حينئذٍ. هل علينا تقديس التراث وحرمة نقده ومراجعته؟ أم علينا اتخاذ موقف منه، وما هو؟ هذا هو مشروع ماجد الغرباوي.

مشروع ماجد الغرباوي الفكري

يرفض ماجد الغرباوي في مشروعه الفكري هيمنة التراث والعقل التراثي، ويطلب بمراجعته مراجعة نقدية، للحفاظ على عناصر القوة فيه والاستفادة منها، يقول: ينبغي (قراءة التراث ضمن سياقه التاريخي، فهناك منجزات علمية على صعيد الفلسفة وعلم الكلام والفقه وعلوم القرآن والحديث والدراية، تجاوز بعضه الزمن، ومازال بعضها الآخر يفرض حضوره العلمي والمعرفي. دراسته ضمن سياقه التاريخي تسمح بنقده وتعريته والكشف عن القيمة المعرفية لمبادئة ومقولاته الأولية، فمهما بالغوا بقدسية التراث يبقى منجزاً بشرياً في إطار ظرفه الزماني والمكاني، يحتفظ بتاريخيته، وعدم تعاليه على النقد. ويبقى مرتهناً في إطلاقه وتأثيره لمتانة مبانيه ومبادئه وأسسه، بما في ذلك الفقه الإسلامي الذي يشتغل على نصوص الكتاب والسنة)1. فرؤيته واضحة تجاه التراث، وما هو الموقف الصحيح منه. فمشروعه تميز بقدرته على تقديم رؤية جديدة للتراث باستخدام مناهج نقدية حديثة، من أجل فهمٍ أعمق لعلاقة الماضي بالحاضر والمستقبل، بعد تشخيص سلبيات التراث من جهة، وبيان ما تعانيه الحضارة الغربية المادية من جهة أخرى. فالغرباوي يسعى في مشروعه النقدي للتراث وخصوص الفقه، الى تقديم رؤية جديدة لهما، تبتني على العقل والعقلانية في إطار القيم الأخلاقية، بشكل تتقدم فيه الأخلاق على كل شيء. ويسعى المشروع تجاوز أمراض التراث وأمراض الحضارة المادية. ويقدم صورة جديد لمجتمع يتبنى قيم الفضيلة، ويواكب قيم الحضارة الجديدة بعقلانية والاستفادة من تجارب الآخرين. لهذا  يؤكد دائما على النقد والمراجعة النقدية، من أجل فهم أعمق للدين، وتبني قيم الحرية والتسامح والعدالة وقيم المجتمع المبنى، كي ترقى مجمعاتنا الى مستوى المجتمعات الحديدة

بشكل عام جاء مشروع الأستاذ ماجد الغرباوي الفكري لتحرير العقل من خرافاته واساطيره، كي يمكنه مواكبة العصر. من خلال التركيز على العقل والعقلانية في فهم التراث والعقل التراثي. كما أن مشروعه يهدف إلى تجاوز الدوغمائية القاتلة، والتعصب العنصري، التي تعترض تفكير فقهائنا التقليديين، وتدمر عقولنا.

أضف الى ذلك يسعى مشروع الغرباوي أيضًا إلى التخلص من الأمراض الطائفية والعنصرية والتعصب، وتحطيم المعتقدات الخرافية والأساطير التي تحاصر العقل والعقلانية منذ العصور الوسطى، ويدعو مشروعه إلى نقد النص الديني وتجديد فهمنا له في ضوء معايير القيم الانسانية والحضارية.

وهناك مشكلة جوهرية لم يتطرق لها او يفكر بها إلا القليل من المفكرين، ومن ضمن الذين تطرقوا لها هو الأستاذ الغرباوي. وهي مشكلة الهوية فالكثير من الدول الاسلامية تركز على هويتها القومية وليست الدينية او الطائفية مثل ايران وتركيا فهما يركزان على هويتهما القومية وليست هويتهما الدينية أو الطائفية، رغم تبجحهما في وسائل الاعلام بانهما دول اسلامية كبرى وريثة حكم المعصومين والتابعين الأوائل، والسلف الصالح.

يقول المفكر المصري الكبير(حسن حنفي 1935-2021)" لن يتقدم المسلمون أذا كان القرآن سقف لأفكارهم ". وهذا ما يؤكده الأستاذ ماجد الغرباوي، يؤكد على الانتفاح الحضاري، والاستفادة من تجارب الآخرين لتطوير أنفسنا والاستفادة من علومهم وانجازاتهم، دون المغامرة بأصالتنا.

أتمنى للأستاذ ماجد الغرباوي طول العمر بخير وعافية.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

..................

1 - الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحنو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م، ص 319.

...................

* مشاركة (34) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

مقدمة: مازال الإنسان منذ القدم، يسعى إلى تحقيق المساواة، وبناء مجتمع يسوده العدل، وينعم فيه بحقوقه المشروعة، غير أن الانظمة الوضعية التي بُنيت على أنقاض البسطاء والكادحين، قد فشلت في ذلك. لتصبح الحركات الإسلامية الأمل الوحيد أمام المحرومين لنشر العدل وبسط الأمن والرفاهية والاستقرار، بعد التحرر من ظلمات الأنظمة الحاكمة ونير الاستبداد. وقد تمكنت هذه الحركات من خداع البسطاء عبر وعود كاذبة تبشّر بالعدل والمساواة. وقد رفعت في حينها شعارات براقة، كـ"الإسلام هو الحل" أو "القرآن هو الحل"، أي لا حل إلا ما تطرحه الشريعة الإسلامية. وبالفعل نجحت هذه الحركات في إعداد قاعدة شبابية متدينة، كوّنت فيما بعد ظاهرة اجتماعية واسعة[1].

مما لا شك فيه ان الحركات الإسلامية، قبل الدخول في السياسة، كانت أحد مصادر الوعي الديني، إضافة إلى دورها الهام في مواجهه الاستعمار والاستبداد، خاصة استبداد الحكّام الظالمين. (وقد تعاطفت الجماهير المسلمة مع التيارات الدينية، بعد فشل الأنظمة الوضعية، في تحقيق الحد الأدنى من الرفاه والحرية، خاصة وأن الحركات الإسلامية كانت وما زالت ترفع شعارات إسلامية، بقيت أملاً في نفوس الناس، ثم راح الخطاب الإسلامي يتمادى في تغذية المخيال الشعبي من خلال رسم صور حالمة عن نظام الحكم الديني، وحجم الرفاه والسعادة في ظل اقتصاد إسلامي، ينعم بالمساواة والعدل، ينعدم فيه الفقير والمحتاج، لا فرق فيه بين الحاكم والشعب في تطبيق الأنظمة والقوانين، فضلا عن ثواب الآخرة جزاء لصبر الانسان وثباته في تطبيق شريعة الله على يد الدعاة الميامين)[2].

لكن الحال قد تغيرت بعد دخولها عالم السياسة، ليصبح هدفها الرئيس قيام دولة إسلامية، فاتخذت، وهي تسعى لتحقيق هدفها، منحنى بعيداً عن الدين. وأصبحت السلطة هدفها ولو بالقوة. فكانت خطوتها الأولى التشبث بالعنف والإرهاب. فانعكس سلوكها المتطرف سلباً على الإسلام والمسلمين. ثم توالى نشوء حركات وفصائل إسلامية هدفها السلطة فاشتد الصراع بينها حدَ الاقتتال، جميعها يقاتل تحت راية الإسلام. وبهذه المناسبة سنتخذ من الله مثلا للدولة التي ابتلت بانتشار الحركات المتطرفة. كما أن تجربة الحكم كشفت الوجه الحقيقي للحركات الإسلامية التي ارتكبت أخطاء جسيمة، واشتد في ظلها صراع السلطة وتفشي الفساد المالي والإداري.46 majedalgharbawi500

كتاب الحركات الإسلامية

"الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي"، كتاب نقدي للأستاذ ماجد الغرباوي، صدر سنة 2015م، عن مؤسسة المثقف والعارف للمطبوعات، يقع في 160 صفحة، حجم متوسط، تناول فيه نقد الحركات الإسلامية بحثا عن حقيقتها، يقول المؤلف عن كتابه: (تعود كتابة هذه الأوراق لسنين 2004- 2006 ، فهي شهادات حية تراوحت بين استدعاء الذاكرة خلال فترة ثلاثين عاما أو يزيد في صفوف المعارضة ، وبين معاصرة لسلوك الإسلاميين في السطلة "العراق تحديدا"، فتمخضت عن رؤية نقدية لتجليات وعي الحركات الإسلامية المختلفة)[3]. مما أعطى الكتاب صفة تنظيرية – نقدية. فالكتاب يعبر عن تجربة شخصية ورصدا لسلوك الحركات الإسلامية في المعارضة والسلطة. من هنا تأتي أهميته، مما دعاني لتقديم قراءة عنه، عسى أن تكون بمستوى العمق الذي يتمتع به الكتاب، وتكون سببا للتنبيه حول أهميته لكل سياسي وكاتب يروم الكتابة عن هذه الحركات.

إشكاليات الوعي الحركي

تعانى الحركات الإسلامية مشكلة وعي، على صعيدي الذات والآخر، خاصة الآخر المختلف، دينياً وعقدياً وسياسياً. كما أنها تعاني أزمة وعي الذات وأسباب تخلفها وإخفاقاتها، دون أن تدرك ذلك. والغريب أنها لا تعي حجم التخلف ودرجة خطورته. ومازالت تعيش أوهام التفوق المعرفي والفكري والسياسي، وقد أحاطت نفسها ومنظومتها الفكرية والعقائدية بسور قدسي حرّم النقد والمراجعة. وحبست نفسها داخل أيدولوجيتها الفكرية والسياسية القديمة دون الانفتاح على الآخر، وعدم قبول أفكاره وآرائه وديانته[4]. فهذه الخطوة كانت كفيلة بظهور حركات أشد تطرفاً، لجأت إلى العنف لتحقيق أهدافها السياسية، مع رفض الآخر، ونعته بالكفر والشرك والانحراف لمجرد تعرضها للنقد من قبله.

تمثلت الحركات الإسلامية حديثاً بالتنظيمات الحزبية، التي تعد بمثابة اجواء روحية وتفاعلات وجدانية تمارس تغييب الوعي لتربح فردا مطيعاً مستسلماً، يتفاعل لا إراديا مع اهدافها وتنفيذ اوامرها دون نقاش. بل يعتبر النقد بمثابة عصيان أو سوء عاقبة تحول دون وصوله الى درجة اليقين[5].

لقد أثبت التاريخ ان بداية التقدم تكمن في التحرر من أسر الحركات الدينية المتطرفة، كما حصل في أوربا عندما رفض الشعب سلطة رجال الدين. لكنها لم تتحول إلى شعوب ملحدة عندما رفضت سلطة الكنيسة. وكل ما فعلته، حدت من سطوتها وتحكمها برقاب الشعب. وأعادت للدين دوره الإنساني، ولم تسمح لأحد بتوظيفه لمصالح سياسية، أو غيرها[6]. ومن يرد التقدم فليتحرر أولا من سلطة فكر الحركات الاسلامية.

الصنمية وأزمة الوعي

الوعى يعني مقاومة التزييف والمغالطات، وفضح الكذب والخداع. لذلك يعتبر الوعى شرطا لتصحيح مسار الحركات والاحزاب السياسية. أو تنهار بخموله ثم تموت. وكانت من جملة الآفات التي ابتلت بها الحركات الإسلامية على صعيد الوعي، ظاهرة الصنمية. وهي (شعور سلبي يهيمن على مشاعر الفرد حدَ الانبهار والقداسة المتعالىية على النقد)[7]. تشبيها بعبادة الأصنام (وثنية أو بشرية). وهي حالة قد يصاب بها أي إنسان بمعزل عن تربيته وثقافته ووعيه، وبعيدا عن مكانته العلمية أو الدينية أو الاجتماعية. (إذا فخطورة الصنمية تكمن في خسران "الوعي" الذي تتوقف عليه مسيرة الحركة، كما أنها تفضي إلى استبداد القيادة ودكتاتوريتها، عبر فرض قراراتها على القاعدة، مهما كان حجم خطورتها وتقاطعها مع الأهداف والمبادئ التي آمنت بها)[8]. الصنمية ظاهرة خطيرة لا تقتصر على الاحزاب والحركات السياسية فقط انما تتوغل داخل الاوساط الثقافية الفكرية والدينية والقيادية مادامت تحقق مصالح شخصية وحزبية. تتجلى الصنمية عندما يدافع القطيع بقوة عن اخطاء قياداته، تقديسا لهم، مهما ارتكبوا من أخطاء، ومهما انغمسوا بالفساد المالي والسياسي. وهذا هو الخطر عنما يتحول القيادي الى شخصية مقدسة بفعل الصنمية، تدافع القواعد الحزبية عن أخطائه، مهما تفاقمت. وهنا يجب علينا كشف المستور من خلال ثقافة نقدية شجاعة، تكشف للناس حقيقة هؤلاء.

الحركات الإسلامية والصنمية

يعود اتساع ظاهرة الصنمية لدى الحركات الإسلامية إلى عدة أسباب منها:

أولاً: حرمة النقد الذي تفرضه هذه الحركات على قواعدها، فتمهّد لا شعورياً لظاهرة الصنمية، وهذا هو تزييف الوعي، الذي تظهر تداعياته حينما يتعرّض الحزب لهزات داخلية، أو انشطارات هرمية. أو عندما تفيق قواعده على سذاجة الوعي، ضعف المواقف، تخلّف الثقافة، هشاشة الفكر، استغلال القيادة وحجم الفساد[9]. تحريم النقد يعني استمرار الأخطاء وتفاقهمها دون معالجة جذرية تعيد للحركة توازنها. كما أن حرمة النقد تحجب الحقيقية عن الآخرين، فيتمادون في تقديس القيادات، تقديسا زائفا. والتقديس مظهر من مظاهر الصنمية.

ثانياً: المبالغة في تقديس القيادات العليا رغم بشريتها. وينسى هؤلاء ان القيادي مهما كان يبقى انسانا قد يُخطئ ويسرق ويساوم من آجل مصلحته الخاصة. لكنهم ينسون هذه الحقيقة، فيصابون بصدمة عنيفة، عندما يكتشفون حقيقتهم ويقفون على أخطائهم وربما جرائمهم. ومثال ذلك اسلاميو السلطة في العراق، فلم يمض وقت طويل حتى انكشفت حقيقته، عندما انقلبوا إلى احزاب سياسية يبحثون عن مصالحهم الخاصة. فكان سلوكهم صدمة لبقية الإسلاميين.

ثالثا: الخطاب الديني بشكل عام، والحركي بشكل خاص يبالغ في تفسيراته الغيبية لسلوك قياداته، فيعتبرها لطفا وتسديدا وعناية من الله تعالى، وهذه التفسيرات تمهّد لتكريس ظاهرة الصنمية، وتساهم لا شعوريا في ترسيخها[10].

رابعاً: الفقر الفكري والثقافي كان أحد أسباب ظاهرة الصنمية داخل الحركات الاسلامية. حتى تمكّن الخطاب الحركي من تحريك قوافل الشباب باتجاه الموت معبأين بإيمان أسطوري، فيفجّرون أنفسهم، يقتلون النساء والأطفال قربة لله تعالى، وينتحرون على أمل لقاء الله ورسوله بوجوه بيض، وسبب هذه الظاهرة، صنمية الفكر والشخصيات الحركية البارة[11].

الوعى وظاهرة الصنمية

يبقى تخلف الوعي سببا رئيسيا وراء المظاهر المختلفة للصنمية، ولولا رثاثة الوعي لما استطاع أحد التلاعب بمشاعر الآخرين، وما تقوم به داعش اليوم يعتبر (تجسيدا لصنمية أفكار تمّ صياغتها وفقا لتفسيرات وتأويلات شخصية، أو في ظلّ ثقافة، لا تفهم سوى تمجيد الموت، ونبذ الحياة، فاستطاعت من أجل تمرير أفكارها تقديم قراءات للنص الديني بعيدة عن الواقع، وها هي الىوم تلتهم كل جميل في الحياة، وتتركنا نهبا لليأس والموت البطيء)[12].

من جانب آخر هناك صنمية الأفكار التي هي اكثر فتكا، حينما تقدس الحركات الاسلامية افكارها وتحرم نقدها وتقويمها. صنمية الأفكار مارد يحطّم كل أواصر المحبة والإخاء، ويقضي على كل آمالنا ومستقبلنا، حينما ينجرف دعاة الفكرة، يقتحمون الموت، ويقاتلون من أجل الدفاع عن أفكارهم، بغض النظر عن رصيدها التاريخي والعلمي، وأكثر تجليا هي عقائد الفرق والمذاهب، التي تبدأ صغيرة ثم تنمو للتحوّل إلى تيار جارف أحيانا[13].

شرعية النقد

ان هدف نقد الحركات الإسلامية ليس زعزعتها والقضاء عليها كما يعتقد البعض. إنما يسعى النقد إلى تأهيلها، سياسياً وفكرياً وعقائدية لتستطيع مواكبة الواقع، وتسهم فعلياً في تغيره، بداية من احترام الآخر وتنوعه الفكري والديني والسياسي. فالهدف الحقيقي من النقد وفقا لماجد الغرباوي، هو (إعادة تأهيل الحركات الإسلامية سياسيا وفكريا وعقيديا كي تكون قادرة على مواكبة المتغيرات الزمكانية، والعودة للمجتمع بقيم تساهم في تعزيز وحدته وانسجامه، وتحترم تنوعه واتجاهاته، وليس الهدف الإطاحة بها أو تحجيمها)[14]. لذلك يجب على الناقد الكشف عن حقيقتها، وبيان ايجابياتها وسلبياتها بشكل واضح. ويبقى الخيار للشعب في قبولها أو رفضها. هذا هو واجبنا تجاه الحقيقة، أما مع صمت الجميع لأي سبب كان، فسيكون سببا لاضمحلال مجتمعنا العربي. فالوعي وبيان الحقائق مسؤولية الجميع.

إن مشكلة عدم تحقق استجابة مثالىة للنقد بين قواعد الحركات الإسلامية، أن أفرادها لا يقرأون عادة، ولا يتابعون النتاج الثقافي. وأدمنوا التلقين واعتادوا الإصغاء بدلا من التعقّل والإدراك والقراءة والمتابعة. وتقتصر مسؤولية الفرد داخل الحركة السمع والطاعة وعدم العصيان، فهو وفقا لهذه النظرية مكلف شرعا بطاعة مسؤوله، ولا يحق له التمرّد عليه، لأنه تمرّد على الولي، وهو حدّ التمرّد على الله[15].

يمكن للحركات الاسلامية مع رفض النقد والتقويم أن (تمارس سياستها بعيداً عن توظيف الدين لصالح ايديولوجيتها الحزبية)[16]. أو سيكون مصير الإسلام والمسلمين، مع استمرار توالد الحركات الإسلامية المتطرفة في خطر. ففي كل يوم تزداد الحركات الدينية تطرفاً، وتكون سببا لرمي الإسلام بسهام الجهل والتخلف، مما يعكس صورة شوهاء لا تمت إلى الدين بصلة. مثال على ذلك حكم الإسلاميين في أفغانستان، والأذى الذي طال الإسلام نتيجة للجهل بحقيقة الإسلام، وما تفعله ألاعيب السياسية. (كما أن بعض الحركات الإسلامية من خلال ممارساتها المتطرّفة تواظب، من حيث تشعر أو لا تشعر على قذف الإسلام بسهام الجهل والتخلّف بشكل مكثّف، لدرجة أن الخطاب التبريري ما عاد يكفي لردّ كل الشبهات والتوجسات من تصرفات التيارات الإسلامية المتطرفة)[17].

ان كثيرا من المسلمين ما زالوا تحت سياط الشرعية التي لم يفقهوا آلياتها، ما أدى إلى تضليل الوعى وعدم معرفة الحقيقة، لذلك يعتقدون أن ممارسات الحركات الإسلامية المتطرفة تمثل موقف الدين الإسلامي الصحيح. هنا تكمن الكارثة. هؤلاء الاشخاص هم الأداة التي تستخدمها الحركات المتطرفة لاتساع قاعدتها، مما يؤدي إلى ترسيخ الظواهر المتطرفة باسم الدين واتساع فاعليتها السياسية والاجتماعية، لذلك لابد من ممارسة النقد من آجل اظهار الحقيقة امام هؤلاء الناس لإنقاذهم من الوهم...

شرعية النقد.. التأصيل

إن أكثر ما يثير قلق الحركات المتطرفة هو الإنسان الواعي الذي يتصف بشدة الحساسية ازاء التزوير والمغالطات ولا يتكيف مع الواقع أنما يعيش حالة من الثورة الداخلية ضد القيم المصطنعة لذلك يقف بوجه الخداع باسم الدين والإسلام وعدم الرضا باغتيال الحقيقة.

لذلك يجب نقد الحركات الاسلامية نقدا موضوعيا، للأسباب التالية:

أولاً: تاريخية الحركات الإسلامية

ان أول مبررات نقد الحركات الإسلامية هو تاريخيتها، و(يقصد بتاريخية الحركة الاسلامية خضوعها لقوانين التاريخ، فهي كأي كائن تولد، وتنمو، وتكبر، وتشيب، وتستنفد أغراضها، وتسقط، وتتأثر بالمؤثرات الزمانية والمكانية، ويصدق في حقها الخطأ والصواب، وتحتاج إلى إصلاح وتجديد ونقد ومراجعة، وقد تتماهى مع الزمان، أو لا تصلح له، فتنهار وتسقط. أي لها بداية ونهاية، وتصاب بالتلوث والشيخوخة والتشوه)[18].

فهي تخضع لقوانين التاريخ مثلها مثل أي كائن حي. لكن قادة الحركات الإسلامية يتنكرون لهذه الحقيقة، ومازال بعضها يمارس لعبة السياسة اعتمادا على رصيدها الديني، رغم استنفاد هدف وجوده، وباتت بحكم الميتة، لا تجد سوى العنف والارهاب وألاعيب السياسة مبررا لوجودها. أو تحصن نفسها بأسماء دينية لتكتسب شرعية عالية، وتحقق رصيدا جماهيرا اكبر. يقول الباحث ماجد الغرباوي: (... ليس هناك أشد مراوغة ولعبا من العناوين والأسماء الدينية، ولا أظن ثمّة أسماء تنطلي على الناس الطيبين كما تنطلي الأسماء الإسلامية التي ترفعها تلك الحركات، لذا تراها تتحصن خلف أسماء شديدة في إيقاعها ودلالاتها لتُكسبها شرعية عالىة تسمح لها باتخاذ مواقف أو ممارسة سلوك بدعم أسطوري من تلك الأسماء، أو تمنحها تلك الأسماء شهادة حسن سلوك لا تُسأل بسببها عما تفعل، وكيف تشرعن القتل والتنابذ والاحتراب. فتجد مثلا (حزب الله) حركة تتكرر في عدد من البلدان الإسلامية، أو (أنصار الإسلام) أو (أنصار السنّة) أو (جيش محمد) وغير ذلك)[19]. هذه الاسماء تمنح الفرد قناعة اكبر حول شرعية حركته ووجوب الدفاع عنها، ضد خصومها السياسيين، وقد يتعدى الأمر ليصفهم بالكفر والالحاد. وهذا هو الشطط، أليس جميع الحركات تجتمع تحت راية الاسلام، فكيف يحرض بعضهم ضد الاخر؟.

وما يؤكد بشرية هذه الحركات دراسة تاريخها، كيف تكوّنت، والأموار التي تفد عليها. خذ مثالا حركة طلبان التي تاسست بأموال ودعم الولايات المتحدة الامريكية. وهناك حركات استعانت فيما بعد بمساعدات وأموال دول لأجل استمرارها. كما أنها حركات قد ارتكبت جرائم القتل، فضلا عن ممارسة العنف والتنابذ، حتى باتت خطرا يهدد الإسلام. ولعل ما حدث في العراق أفضل مثال على ذلك[20]. الحركات الإسلامية تتحرك باسم الدين والإسلام، وتطمح تحت عباءة الشرعية للوصول إلى السلطة، وحينئذ سوف تملي علينا قوانين وأنظمة باسم الإسلام، وتمارس معنا شتى الممارسات باسم الدين وهي لا تعدو كونها اجتهادات شخصية[21]. ويمكننا الاستشهاد بممارسات إيران الإسلامية التي قامت باسم الشريعة والدين بكبت الحريات، حتى أنها اغلقت صحفا إسلامية كانت تتبنى آراء معارضة[22]. بالإضافة إلى حركة طالبان في أفغانستان والحروب الطويلة بينها وبين فصائل المقاومة الإسلامية الافغانية التي راح ضحيتها عدد كبير من المقاتلين. وفي الدول العربية، قد ارتكب العديد من الحركات الدينية جرائم مختلفة: التنابذ الطائفي، التشبث بالعنف والإرهاب، التمثيل بالموتى. وقاموا بتفجيرات قتلت الابرياء، كل ذلك تحت مسمى الإسلام.

ثانياً: تعدد الحركات الإسلامية

المبرر الثاني لنقد الحركات الإسلامية هو تعددها مما يوضح لنا وجود اختلاف في القراءة والتأويل والفهم. ومن أسباب التعدد هو الانشقاق والتوليد حيث تتولد من الحركة الإسلامية عدد من الحركات الجديدة. فـ(الانشطار والتوالد أحد أبرز خصائص الحركات الإسلامية، فعن الإخوان المسلمين "الجانب السنّي" انشقت أو تولـّدت حركات إسلامية متعددة، والأمر ذاته بالنسبة لحزب الدعوة الإسلامية "الجانب الشيعي. فما من حركة إلا وتجد جذورها في إحدى هاتين الحركتين، أو وُلدت في أجوائهما وتأثّرت بهما بشكل وآخر)[23].

وللانشقاق عدد من الأسباب منها:

- الاختلاف تجاه قضية معينه أو صراع حول الشرعية قد يكون سببا للانشاق. كل شخص يسعى لتقوية شرعيته، والحصول على أكبر عدد من الانصار. لذلك يصبح الفصيل الجديد في عيون الحركة القديمة، خائنا للوطن وللقضية وعميلا، رغم ان معظم الحركات الإسلامية هي أدوات بيد دول أخرى، تعبث بالوقع من أجل مصالحها. بينما القراءات الموضوعية تفسر القضايا والاحداث وفقاً لمنطق الإنسان فتري الاختلاف والتعدد ظاهرة طبيعية تعكس وجهات النظر القائمة على تعدد الفهم للأحداث والقضايا كما أنها تنظر للإنسان في نوازعه البشرية وليس هناك إنسان معصوم من الاخطاء كي نستثنى الحركات السياسية إذا الانشقاق أمر طبيعي ليس من الضروري من يكون له أسباب ذات عمق.

- وأحيانا يتجلى الانشقاق والتوليد عبر التراجع الفكري. ليتحول إلى تطرف كما حصل لبعض الحركات المنشقة عن الإخوان المسلمين مثل التكفير والجهاد في مصر كأنها دولة ليست مسلمة فهذه الحركات مارست التطرف حتى مع الآخر المختلف مذهبياً معها واقترفت أعمالاً شنيعة مثل القتل وتخريب دور العبادة والتفجير...

- وأيضا يحدث الانشقاق والتوليد نتيجة الصراع على المواقع الحزبية حيث تبدأ كل حركة بعرض مساوئ قاداتها السابقين والمتاجرة بدماء الشهداء من أجل الحصول علي الشرعية.

نؤكد، كما يقول الغرباوي: ان كون الإنسان متدينا لا يعني بالضرورة صحة وصدقية جميع أعماله وتصرفاته، أي أن تدينه لا يبرر ممارساته ما لم تكن متفقة مع الدين. غير أن الوعي الأيديولوجي يتخذ من تدين الإنسان قاعدة لتصحيح جميع أفعاله ومواقفه بل وتحليلاته السياسة وآرائه الفكرية وعلاقاته ومؤامراته، وكل شيء يغدو صحيحا شرعيا وفقا لضوابطه التبسيطية[24]. فلا غرابة حينئذٍ، كما يقول الأستاذ الغرباوي: أن لا تُصدر الحركات الإسلامية إلا أعمالا ثقافية وفكرية مكرورة ومستنسخه، تنفع في أحسن الأحوال للاستهلاك وتربية جيل متدن في وعيه وثقافته وفكره[25].

ثالثاً: نسبية المعرفة الدينية

فثمّة فارق جوهري بين النص كموضوع للقراءة والفهم من جهة. والفكر والمعرفة الدينية التي هي اشتغال على النص ونتاج بشري من جهة ثانية[26]. هذا ما ذكره الأستاذ ماجد الغرباوي نصاً للتمييز بين الدين والمعرفة الدينية. يضيف: (وإنما قلنا المعرفة الدينية لاستثناء النص (القرآن والصحيح من السنّة)، باعتباره مطلقا لا تشمله أحكام المعرفة الدينية التي هي قراءة وفهم له وليست هي النص ذاته)[27]. فنفهم من كلامه أن المعرفة الدينية نتاج بشري يتأثر بجميع العوامل الثقافية والعقدية والأيديولوجية، كما يتأثر بالعادات والتقاليد. إضافة إلى تأثره بميول المتلقي سواء كان فيلسوفا او مفكرا أو مفسرا. فلا توجد معرفة لا تحتمل الصواب والخطأ ما دامت نتاجا بشريا. وكدليل على تأثر الفهم البشري بقبلياته الثقافية، نظرب مثلا بتفاسير القرآن الكريم التي اختلفت رغم وحدة النص / آيات الكتاب. فإذا كان المفسر لغويا أنتج لنا تفسيرا لغويا وركز على بلاغة النص، وإذا كان فيلسوفا نراه يؤول الآيات تأويلا فلسفيا ويستخدم في كلامه مصطلحات الفلاسفة وأدواتهم كالوجود والعدم والماهية والقديم والحادث، وإذا كان يهوى العلوم الطبيعية يلوي عنق النص ليتطابق مع المكتشفات الحديثة[28].

حتى الاجتهادات الفقهية تتأثر أيضا بالظروف الزمانية والمكانية وبالمستوي الفكري والثقافي للفقيه، وهذا سبب اختلاف الفتوي من فقيه إلى آخر. والاختلاف لا يقتصر على الخلفية المذهبية وإنما يتعداه إلى اختلاف الثقافات والفكر والثقافة. فطبيعة البشر الاختلاف[29].

إذاً ليست المشكلة في أصل الاختلاف والتباين وإنما المشكلة الأساسية ثمّة من لا يعتقد بنسبية المعرفة الدينية، وإنما يتعامل معها بقدسية بالغة، ويصر على جزميتها ونهائيتها، ويرتب عليها آثارا كبيرة. يرفض التشكيك بها أو التقليل من قيمتها المعرفية[30]. يتخذها أساس لعدم احترام الآخر وتكفيره وتحليل قتلة ومحاربته من هنا نشأت الخلافات المذهبية.

وعليه ليست هناك معرفة دينية ثابتة أو مطلقة ما دامت تتأثر بانتماء الفقيه والمفكر والمثقف، وتتأثر بالظروف الزمانية والمكانية[31]. إن أحد أسباب تخلف الفكر الديني وعجزه عن مواكبة مستجدات الحاضر، هو تمسكنا بآراء صاغها أسلافنا وفقاً لظروفهم ومستوي ثقافتهم وأفكارهم. بينما للحاضر متطلباته التي تقضتي آراء جديدا تواكب تطورات الواقع. إذا نسبية المعرفة الدينية تعد عاملا أساسيا في نقد الحركات الإسلامية، فهي مجرد اجتهادات شخصية تحولت إلى آراء مقدسة، وظفت لتكفير الآخر ورميه بالكفر والضلال. بما فيها المجتمعات الإسلامية التي تختلف معها في الرأي، وسمحت بقتل الناس الأبرياء[32].

رابعاً: النصوص الدينية

النصوص الدينية هي المبرر الأخير لنقد الحركات الإسلامية. وربما هو الأهم بين المبررات السابقة، لقوة فاعليته وتأثيره لدى شريحة واسعة من الناس. (ويدخل النص بقوة في تشكيل الوعي وصياغة الحقائق. وأيضا يلعب دورا خطيرا في شرعنة الاستبداد السياسي، وتمرير القرارات الجائرة. ومازال النص مصدر الاحتراب والتنابذ والتكفير، وأساسا لقتل الآخرين، ونسف جسور المودة والوئام، وتحطيم القيم الحضارية والإنسانية. بالنص تآمروا على الحقيقة، وبه زوّروا التاريخ، وحولوا الدين إلى وسيلة للخداع والتضليل. فما من مؤامرة إلا وبجانبها نص يشرعنها ويوجه حركتها، ويدافع عنها، ويكذّب أعداءها)[33].لذلك سعى الأستاذ ماجد الغرباوي إلى نقد الحركات الإسلامية من خلال النص، لاسيما النصوص التي اشتغلت على الآيات والروايات فأنتجت نصوصا لا زالت مقدسة في نظر الكثيرين. لذلك النقد هو السبيل الوحيد لمراجعة التراث، من أجل قراءة وفهم جديدين للآيات والروايات لفضح التأويل البشري لها.

قداسة النص

المقصود بقداسة النص، كما يرى الغرباوي، هو مرجعيته، وصدقيته، ومصداقيته، فلا يتسرب الشك إلى صحة صدوره، لأنه قطعي الصدور كما يعبّرون، غني في دلالاته، متعدد في معانيه، إلهي في مصدره، لا يجوز تكذيبه، أو الطعن في صحة معانيه، صالح لكل زمان، شامل في مورده، كامل في مضمونه، ليس فيه زيادة أو نقصان، لا ترقى له النصوص، وتبقى فيه مساحات مبهمة لا يدركها العقل البشري[34]. بينما تعني القداسة عند المؤسسات الدينية ورجالها الاقتصار على نمط معين من التفسير، وهي التفاسير الرسمية، التي تكرّس مصالحها وتضمن استمرار سلطتها. فهناك فرق واضح في معنى الداسة، بين ما يطرحه كتاب الحركات الإسلامية، وما يتبناه الاتجاه التراثي التقليدي. والقرآن هو مصداق النص المقدس، فيمكننا وفق مفهو القداسة الذي طرحه الكتاب، تقديم أكثر من قراءة لنصوص الكتاب بما يخدم مصالح المسلمين. في ضوء المنطق الداخلي له، ومددات التأويل.

شرعية النقد في ضوء النص

مارس القرآن الكريم النقد من خلال تقويمه لعمل الانبياء والمرسلين، النموذج الإنساني الأول، رغم المستوى الأخلاقي الرفيع والقرب الأكيد من الله تعالى، فسجل على مسار المهام الموكلة لهم ملاحظات تقويمية لتسديد مسيرتهم، وبهذا يضع القرآن الكريم أساسا متينا لشرعية النقد[35]. بينما تجد كثيرا من الأوساط السياسية والدينية تبتعد عن المنطق العام للقرآن وترتكب موبقات وجرائم باسم الدين لا تنسجم مع قيمه ومبادئه. وقد عزز المؤلف كلامه عن شرعية النقد بمجموعة آيات وأحاديث نبوية[36]. فالحركات الإسلامية أولى بالنقد من غيرها، لانتسابها للدين، فيكون واجبا علينا نقدهم وتستديدهم، وهذا ما يؤكد الحديث الشريف: (المؤمن مرآة أخية المؤمن). فالمؤمن بمثابة مرآة الآخر، تعكس جميع تصرفاته وأفكاره وتضعه في مواجهه أخطائه مباشرة.

المرأة.. التحدي الاصعب

سلبت الحركات الاسلامية المرأة حقوقها التي منحها الإسلام لها، واتهمت الحضارة المادية أنها السبب في اغواء المرأة ماديا وجسدياً حتى فقدت كرامتها وباتت في نظهرم خطرا يهدد البشرية. وكل ذلك بمنآى عن النص الديني. (ولا غرابة في ذلك فقراءة النص وفهمه وتفسيره يختلف من فقيه إلى آخر ومن مفكر إلى مفكر. وكل قراءة تختلف في نتائجها عن الأخرى، لأن القراءة "أي قراءة" تتأثر بقبليات المجتهد أو المفكر أو المثقف، كما تتأثر بمكوناته المعرفية وخلفياته الفكرية والعقيدية والأيديولوجية. إضافة إلى ضرورات المنطق الداخلي للنص الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد المعنى)[37].

لقد وضعت الحركات الإسلامية، بعد أن رفعت شعار التجديد والإصلاح، المرأة ضمن أولوياتها، ورسمت لها وظيفة جديدة بعيدا عن حضارة القرن الحادي والعشرين، وقيمها التي تأثرت بها المرأة المسلمة. بل وراحت المرأة المسلمة تندد بقيم الحضارة المادية البعيدة عن أحكام الشريعة وتعاليم الدين الحنيف. وأصبحت داعية تبشر بالأفكار الجديدة، دون تمييز بين القيم الأخلاقية والحضارية.

لم تتطور المرأة مطلقاً في ظل حكم الحركات الإسلامية كما حدث في أفغانستان وإيران والعديد من الدول الإسلامية التي صارت تهدر حقوق المرأة. ورغم حركات التحرر النسوية العالمية التي تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة ...الخ. ما زالت المرأة المسلمة غارقة في ظل العادات والتقاليد، تأنس كونها نصف إنسان، عورة، شيطاناً مغرياً، لا يسمح لها بمجالسة الناس لأنه خلافاً للأعراف، ودائما عليها أن تثبت نقاءها وعذريتها، لا ثقة بها في أداء عمل سوى عمل البيت، تتعهد بتربية الاطفال لا يحق لها الخروج إلا بأذن زوجها. إي ان المرأة ليس لها إلا بيتها ثم قبرها، تلك هي المرأة نسبة للأوساط الشعبية. يقول الغرباوي: (إن وضع المرأة المسلمة ما زال كما هو قبل وبعد ظهور الحركات الإسلامية، ولم يطرأ على تفكيرها ما يؤكد مصداقيتها. فلا تغيير ملموس في وضعها الفكري والثقافي والإنساني، بل انكفأت المرأة تساعد الرجل على تحجيمها، وتبديد حقوقها، بعد انقلاب تذمرها إلى قناعة راسخة تتعالى على التمرد والرفض. فلا نخطئ إذا قلنا إن الفكر الحركي كان بالنسبة للمرأة أفيونا حقيقيا فاقم مشاعر النقص والتضاؤل أمام سلطة الرجل)[38].

ورغم وعود الحركات الإسلامية للمرأة بمستقبل أفضل تحت ظل الشريعة، إلا أننا لا نجد أمراه قد تولت منصبا قيادياً داخل الحركات الإسلامية، وانما تحولت تلك الحركات الى عبء على المرأة وحياتها ومستقبلها. بل الغريب ان بعض الحركات الإسلامية السلفية لا تعترف بإنسانية المرأة. ويبقى همهما الوحيد حجاب المرأة، وكيفية الحفاظ عليه، وكأنه ليس للمرأة مشاكل أخرى تعاني منها.

حقوق المرأة.. مقاربة أولية

يري الأستاذ ماجد الغرباوي: إن مسألة حقوق المرأة تتوقف على الاعتراف بإنسانيتها أولا وقبل كل شيء، ومن ثم الاعتراف بحقوقها السياسية والاجتماعية في موازاة حقوق الرجل... فثمّة رؤية ثقافية حجّمت سلطتها واختزلت إنسانيتها... لذا يجب تمكين المرأة من نفسها، وإعادة ثقتها بإنسانيتها، بقدرتها على منافسة الرجل. كما يجب أيضا ضخ المجتمع بخطاب ثقافي يطيح بمنظومة التصورات الخاطئة عن المرأة وضعفها، كي يتجاوز الرجل تصوراته الخاطئة عنها ويرقى إلى مستوى الشعور بالمسؤولية تجاه حقوقها الأساسية.[39].

لقد منح الإسلام المرأة حقوقها العادلة، لكن هناك من لا يراعي العدالة، حتى في استنباط الاحكام وتفسير الآيات. فتجد بعض الفقهاء يحرمون المرأة حقها في الانتخابات والترشيح. رغم ان النساء بايعن النبي صلي الله علية وسلم، وقد ذكر القرآن ذلك صريحا. وهنا آيات كثيرة تشرع لحقوق المرأة، لكن الحركات الاسلامية فسرت آيات الكتاب، كما يحلو لها ويتناسب مع أهدافها، فنظرت المجتمع للمرأة ليس وليد الحاضر، بل ترسخت منذ قرون. (إذًا ليست مسألة حقوق المرأة منحصرة في الحجاب، وليس هناك من يدعوها إلى التنازل عن عفتها وكرامتها أو التساهل في حجابها، وليس هناك من يدعو إلى إهدار مكانتها، أو يطالبها بمغادرة بيتها، المسألة قبل كل شيء ثقافية تتعلق برؤية المرأة لنفسها، ورؤية المجتمع لها)[40].

الحركات الاسلامية والولاء الوطني

إن ولاء الحركات الاسلامية للوطن أمر يثير الريبة في النفوس. وثمّة شكوك تعصف بمصداقية ولائها الوطني، شكوك مبررة[41]. وأدبياتها تؤكد على تهمش الوطن وتسمح باستباحة مقدساته وتدمير هويته. وكأن مفهوم الولاء عندها، يختلف عن مفهومه لدى جميع الاتجاهات الفكرية والأيديولودية. ويظهر ان الحركات الإسلامية ليس لديها أسس فكرية ترتكز اليها في صياغة الولاء الوطني. لهذا لا تزرع حب الوطن في نفوس أتباعها. الوطن في مفهومها عموم الوطن الإسلامي وليس البقعة الجغرافية التي يسكنها الإنسان، بيهم روابط مشتركة تخص بهم دون غيرهم. فوطن الحركات الاسلامية، وطن لا تحده حدود. وإذا كانت هناك مفردة أو اثنتان للوطن في أدبياتها فتقصد به الوطن الإسلامي كما يرسمه المخيال الحركي. وهو باختصار (وطن لا تحده حدود، وإنما يمتد بامتداد الإسلام في كل مكان، ويعلو سلطته خليفة الله، ويمثل فيه أفراد الحركات الإسلامية جند الله الأمناء في أرضه. ففكرة الوطن فكرة خيالىة لا تساهم في تشكيل هدف واضح تتحرك على هديه الحركات الإسلامية)[42]. إنها فكرة خيالية ونتاج ثقافة ماتت منذ قرون ظلت في طئ النسيان. ان ولاء الحركات الإسلامية يستبيح الاوطان ويسمح بقتل الأبرياء. فالولاء الديني عندهم لا يضاهيهه الولاء الوطني. الأول مقدم على الثاني دائما. وهذا النوع من الولاء لم يأمرنا الإسلام به، ولا يعد ولاء لله ولرسوله. وليس الولاء الذي استطاع النبي والصحابة من خلاله نشر الإسلام. بهذا تبدو الآن واضحة أسباب تطرف الحركات الإسلامية، وأسباب تشبثها بالعنف ولماذا لجأت للارهاب واستباحت اراقة الدماء ونهب الثروات. فالحركات الإسلامية تعتبر عبئا على الإسلام والمسلمين.

انهيار مفهوم الولاء الوطني

إن الولاء لله وللرسول والذين آمنوا لا يستلزم خيانة الوطن أو الاستهانة بمقدراته بحجة الولاء وإنما حب الوطن من الإيمان. ولا يستلزم اضمحلال الولاء الوطني بهذه الدرجة المفجعة[43]. والأنكى من ذلك إنها لا تعي ما تأخذ من التراث، ففكرة أرض الإسلام وأرض الكفر، التي كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء تلاشي الولاء الوطني هي فكرة سلطانية، بلورها فقهاء السلطة لأهداف سياسية تخدم الخليفة الإسلامي وتهيئ له مبررات غزو البلاد الأخرى والتحريض ضدها. وليس لهذه الفكرة بهذا القدر من الأحكام المترتبة عليها جذر ديني (آية أو رواية) يمكن ان يكون دليلا شرعيا لها[44]. هذا ما أكده الأستاذ ماجد الغرباوي وهو يتحدث عن انهيار الولاء الوطني.

إن هذه الحركات مازالت تقدّس التاريخ ولم تفكر باختلاف الظروف الزمانية والمكانية. فمثلاً، لم تقم الدولة الإسلامية عبر التاريخ امتثالا لأوامر إلهية، بل كان وراء قيامها أسباب وظروف خاصة، في مقدمتها السياسية. فهي نتاج ظرف تاريخي، وليس تجسيدا لحكم شرعي، فما الداعي لإحيانها في ظل ظروف مختلفة؟. فإنها سوف تواجه مشاكل كثيرة، كيف نقيم دولة ضم جميع المسلمين، مع اتساع أوطانهم وانتشارهم في جميع انحاء العالم؟ هل نخضع جميع الدول لسلطة الدولة الاسلامية، التي يحكمها خليفة المسلمين؟. يبدو لي ان هذه الحركات لا تعيش على أرض الواقع. كيف نحكم شعوبا بعادات وتقاليد ولغات ولهجات وثقافات مختلفة تحت راية حكومة واحدة. وكيف يحكم خليفة المسلمين شعوبا لا يفهم لغتها؟. (لقد أفضى هذا اللون من التفكير إلى تهميش الولاء الوطني، ووضعه في مرتبة متأخرة عن الولاء الديني. ولم تتراجع عنه إلا بعض الحركات الإسلامية تحت ضغط الواقع كما حصل بالنسبة للحركات الإسلامية العراقية التي عاشت ربع قرن في كنف الدولة الإسلامية / ايران)[45].

الحركات الاسلامية والارهاب

ان وصف الحركات الاسلامية المتطرفة بأنها حركات ارهابية بات أمرا لا شك فيه، بعد أن تمادت هذه الحركات في استخدام العنف والاسراف بالقتل، وتدمير الحياة المدنية. وقد بات الإرهاب باسم الدين والإسلام خطرا حقيقيا يهدد أمن العالم وسلامة الأمم، وباتت الحركات الإسلامية المتطرفة عبئا أثقل كاهل العاملين والمصلحين. فـ(في كل يوم تفيق الشعوب على جريمة نكراء، يذهب ضحيتها النساء والرجال والأطفال. وكلما حاولت الذاكرة نسيان الماضي أيقظها انفجار هنا أو جريمة هناك. وكلما ارتكز الإنسان الغربي إلى التسامح في التعامل معنا جرّته دماء الأبرياء إلى التعصب والانكماش والرفض، وكلما اعتذر المسلمون عن جريمة أفسدتها جريمة أكبر)[46]. إن ما تقوم به الحركات الإسلامية المتطرفة يتطلب مراجعة أسسها الفكرية والعقدية التي يصدر عنها العمل الإرهابي، فهناك سبب أعمق يدفع الفرد للانتحار والتصحية بنفسه. صحح ان هناك أسبابا نفسية وسياسية وربما اقتصادية وراء التصحية بالنفس، لكن وراء سلوك افراد هذ الحركات دوافع دينية، وليست ايديولوجية أو سياسية خالصة.

لقد ارتكبت الحركات الاسلامة أعمالها باسم الدين، جهلا منهم بحقيقة الفكر الاسلامي الأصيل لقائم على التسامح والمحبة. وقد استغلوا النصوص الدينية لنشر أفكارهم التكفيرية، فلا سلطة كسلطة الدين قادرة على اقناع الناس. الاسلام يدعو إلى: إعمار الأرض، احترام الآخر، تمثل الاخلاق والتمسك بالقيم الانسانية والدينية السمحاء، وعدم الاستهانة بحياة الناس، وحرمة قتل النفس المحترمة. بينما التفجيرات الانتحارية، قتلت النساء والأطفال، وكل من يختلف معهم دينياً. إن منفذي التفجيرات الانتحارية يعتقدون ان الله يريد منهم ذلك وقد اصطفاهم على غيرهم. فهم أيضا ضحايا نقص الوعي الديني، وعدم تمييز الصواب عن الخطأ، حتى لو اجمع كل الدعاة الإسلاميين على حرمة هذا العمل، فلا يغير قناعتهم، لأنهم لا يؤمنون إلا بما تقوله الحركات الإسلامية المتطرفة التي رسخت في أذهانهم أنها تقدم لهم الشهادة على طبق من ذهب. (وبعبارة أوضح، إن الخطاب الديني أعاد تشكيل العقل الحركي على أساس هجاء الحياة وعشق الموت، كراهية الآخر وتمجيد الذات، إهمال الدنيا وتعمير الآخرة، كسب رضا الله تعالى بالتضحية والفداء لأي سبب كان. فلم يثقف الخطاب الديني قواعد الحركات الإسلامية على تبني العفو والرحمة والتسامح والمغفرة مع الآخر، وإنما تثقف على كره الآخر، والتخطيط لقتله واستئصاله. ولم يتثقف الفرد على سعة رحمة الله ومغفرته، وإنما تثقف على أن الله جبار السماوات والأرض، لا يمكن إدراك رحمته بالإيمان والعمل الصالح، وإنما بالتضحية والشهادة في سبيله)[47].

الوعى المبتور أساس العنف

تعد العراق من الدول العربية التي تعرضت للعنف والدمار على يد الحركات المتطرفة مثل ما يعرف بتنظيم الجهاد، تنظيم القاعدة والعديد من الحركات التي استخدمت العنف سلاح للنشر الفوضى والعدوان باسم الدين مما جعل العراق في حالة من الاضطراب مع كل تلك الحركات التي تقاتل بعضها البعض مستخدمة اسم الدين كتبرير لأفعالها، حتى وصل بهم الأمر الى اصدار فتاوى تكفريه وتفعيل أحكام الجهاد، فقطعت رؤوس الأسرى، وقتلت الابرياء وهدمت دور العبادة، وحاربت كل من ينتمى إلى مذهب إسلامي مخالف لمجرد الاختلاف في الآراء، بالإضافة الى تضليل الشباب الذي لم يكتمل وعيهم الديني واقناعهم بالشهادة في سبيل الله. كل هذا قبل ظهور داعش، التي ارتكبت أعمالا فظيعة، يندى لها جبين الانسانية.

لقد تكدست الحركات الاسلامية المتطرفة حتى أضحت دماراً وخراباً، لدرجة ان ضحاياً العنف من المدنيين الأبرياء وصل مئة الف مواطن (آنذاك) كما كشف مركز الابحاث والدراسات الاستراتيجية، أليس هؤلاء المئة الف مواطن مسلمين أيضا؟ والغريب أن هذه الحركات لم ينصرها الله تعالى على الكفار والمشركين، ولم تحقّق شيئا من أهدافها المعلنة في محاربة الأمريكان، أو الغزاة (حسب قولهم) وإنما زادتهم إصرارا وتعنتا، وبرّرت اجتياح المدن وقتل الأبرياء والعزل، كما في عدد من المدن العراقية[48]. ويتساءل الاستاذ ماجد الغرباوي في هامش الصفحة 137: (السؤال المحيّر، لماذا لم تتعبأ هذه الحركات ضد إسرائيل وهي تمتلك من القوة والمال والسلاح ما يفوق التوقع؟؟ أليىست إسرائيل هي العدو الأول، وهي مغتصبة معتدية، وما تفعله بالفلسطينيين يوميا يندى له الجبين؟. هذا السؤال يضع الحركات الإسلامية المتطرفة في دائرة الشك بل الخيانة، والإنخراط في مشاريع تصب في صالح إسرائيل والقوى الإستكبارية العالمية، وضد مصلحة المسلمين والعرب).

لذلك وعي الحركات المتطرفة وعي ناقص مبتور، لا يمت للدين بصلة وإن كانت تلك الحركات المتطرفة تعمل لصالح أوطانها حقا، أليس الأفضل الجهاد ضد المحتل الغاشم الذي يستولي على عدد من مناطق العالم العربي بدل من قتل بعضنا البعض؟. أما لماذا لم يتطرق الكتاب لداعش بالذات، فقد بات واضحا من خلال مقدمة الكتاب أن مقالاته قد كتبت بين 2004 و2006.

الإسلاميون والسلطة

لقد خص الكاتب الفصل الأخير من الكتاب للحديث عن الحركات الإسلامية في العراق، باعتبارها أكثر البلدان العربية التي عانت وما زالت تعاني من ارهاب الحركات المتطرفة. وقد بدأ حديثه عن خصائص الحركات الإسلامية، واتخذ من حزب الدعوة الاسلامية مثالا، للحركات الاسلامية السياسية. يقول:

امتازت الحركة الإسلامية في العراق، سيما الشيعية وخصوصا حزب الدعوة الإسلامية، على غيرها من الحركات بعمق التجربة وعراقتها وتنوعها. فالحركة الإسلامية عاشت مرحلة التأسيس التي تمخضت عن نظرية في العمل السياسي وكم من الآراء والأفكار السياسية، سبقتها إرهاصات وعي مبكر لدى طيف من النخبة المثقفة[49]. وهذا يكسبها خبرة كبيرة، ويضيف الاستاذ الغرباوي: ثم انتقلت الحركة إلى مرحلة العمل الدعوي والتبليغي، الذي قطعت فيه، خلال عشرين عاما، شوطا كبيرا على صعيد بلورة وعي جديد في مقابل الوعي القومي والاشتراكي (إن صح التعبير)، فتوغلت في عمق المجتمع العراقي وامتدت إلى كافة المؤسسات التعليمية والمهنية. وانتهى بها المطاف إلى مرحلة العمل السياسي داخل العراق وخارجه، فاكتسبت تجربة هائلة في العمل السياسي وفن الحوار، والتحالفات، وخلط الأوراق، وسرعة الحركة والاختفاء[50]. فهو يتحدث عن تاريخ مفصل عن حزب الدعوة، من موقع الاطلاع والخبرة السياسية في مسارها التاريخي، لذا يضيف: وتعرضت إلى الانشطار والاختزال والتآمر والاحتواء، لكنها نجحت رغم كل المحن والأحداث والرهانات على إسقاطها. وبعد مرور عشرين عاما كانت الحركة الإسلامية على رأس السلطة في العراق. وهذا واقع يشهد له كل من عاصرها، عبر المراحل المتقدمة. وهذا الأمر يؤهلها لمواصلة المسيرة ويكسبها قدرة على الانسجام مع المرحلة التي هي فيها، إذا ما أرادت ذلك، وقررت من وحي مسؤوليتها اتخاذ خطوات عملية على هذا الصعيد. لكن قبل ذلك ينبغي أن تعي ما هو المطلوب منها راهنا، وتعي الىة التغيير وفقا لمستجدات الوضع[51].

إن المسيرة الطويلة، كمسيرة حزب الدعوة في العمل السياسية، تكسب اصحابها خبرة كبيرة، يمكنهم توظيفها لصالح مشاريعهم السياسية، متى ما تم استغلالها بطريقة صحيحة. لكن الحركات الإسلامية العراقية وقعت في مرحلة السلطة بأخطاء قاتلة. فمثلا ما زالوا يمارسون السياسة بعقل مرحلة المعارضة، علما أن لكل مرحلة اسلوبها وظرفها ومنهجها وسياسيتها. مرحلة السلطة تختلف عن مرحلة العمل في صفوف المعارضة السياسية، (ومن لا يعي الواقع لا يستطيع الانسجام معه، ومن لا ينسجم معه يتحوّل إلى عثرة في طريق الآخرين. وليس هناك فكر معصوم، أو أحكام نهائية، أو قناعات جزمية. وأيضا لا مجال لفرض الآراء، والتفرد والاستبداد، والتسلط. ويجب عليهم التخلي عن منطق الولاية، ومنطق الاستبداد المبطن، ومنطق الدولة الدينية، ومنطق الحمائم والصقور، ومنطق الحرس القديم، ومنطق الولاءات، ومنطق احتكار السلطة)[52].

إذاً يجب على الحركات العراقية إعادة صياغة ثوابتها الفكرية والسياسية لتكون أكثر انفتاحاً على الآخر. بينما باتت الدولة والسلطة أهدافا اساسية للأحزاب السياسية. وهذا يعني ضرورة التشبث بمنطق الدولة والسلطة، واستخدام نفس الأدوات السياسية التي يستخدمها الخصم، بلا حاجة إلى غطاء الدين وقباء الولي الفقيه، كما يصرح الغرباوي بذلك[53].

آفاق التجديد

يجب على الحركات الإسلامية العراقية تطوير نظريتها السياسية وعملها الحزبي لترقي الى مستوى السلطة بمفهومها الجديد، فلم تعد تلك الأفكار التقليدية التي لا تمت للواقع بصلة، بسبب مثاليتها الوهمية، صالحة للحكم. العراق بات نسيجا من التنوع الديني والمذهبي والسياسي والفكري، ولا يحق لاحد الاستحواذ على السلطة أو السياسة بسبب هذا التنوع الذي لا يناسب أرض الواقع، لذلك نحن بحاجة الى تجديد يناسب المرحلة الحالية بداية من الاعتراف بالآخر وإمكانية التعايش مع التعايش معه، ثم الفصل بين السياسة والدين، فالحركات السياسية ليس دينية.

لأول مرة منذ زمن يتحدث قادة الحركيين في العراق عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر والتسامح ورفض الاستبداد الديني، تبدوا هذه خطوة جيدة من أجل دولة العراق الحديثة لكن يجب أن تكون هذه الأفكار صادرة عن قناعة فكرية وليس أمراً فرضته مرحلة السلطة. فالتقدم الحقيقي يكمن في أساليب عمل جديدة تتثقف عليها القواعد الحزبية بشكل يحقق نقلة نوعية لمواصلة العمل السياسي. أعتقد كما يصرح الغرباوي: أعتقد أن الحركة الإسلامية العراقية مؤهلة الآن لتحديث منظومتها الفكرية ونظريتها السياسية في ضوء انطباعاتها عن الدولة الدينية، التي عايشتها عن قرب وشاهدت إخفاقاتها. وأيضا في ضوء ما تختزن من تجربة ثرية اكتسبتها خلال المرحلة السياسية، وأخيرا اشتراكها في السلطة، وممارستها لنظام الحكم. وكل شيء بات مهيأ في ظلّ الإمكانيات المتاحة، وأجواء الحرية والانفتاح التي عمّت البلاد[54].

الحركة الإسلامية والديمقراطية

الديمقراطية التزام يتطلع كل حزب سياسي الى تجسيده والايمان به، وتكمن حقيقة الديمقراطية بهامش الحرية والاعتراف بالآخر وبحقوقه ورفض الاستبداد والتسلط وتبني حرية الرأي.. فهي ليست أراء نظرية مجردة، وانما ممارسة يومية. فهل مارست الحركات العراقية الديمقراطية؟

لا يبدو أنها مارست الديمقراطية حقيقة، كما يعتقد الغرباوي، بداية من استمرار القادة لأكثر من ربع قرن وتشبثها بالسلطة، وهذه أولى علامات الاستبداد السياسي[55]. ودليل واضح على احتكار السلطة، واعتبارها إرثا يتداوله أبناء القبيلة الواحدة.

كيف لهذه الحركات أن تتبنى مبادئ الديمقراطية وليس هناك تجديد على مستوى القيادة ولا الفكر، يبدو أن الحركات العراقية ستحكم على ذاتها بالموت الأكيد لأنها لا تلتزم بمبادئ الديمقراطية في أوساطها على الأقل. يجب معالجة تلك السلبيات، أو سيتداعى وضعها الداخلي. وليس أمام الحركات الإسلامية العراقية اليوم طريق سوى العودة إلى الذات، العودة إلى الداخل لبنائه بناء ديمقراطيا سليما، يتجسد من خلال التداول المستمر للمناصب القيادية، والتجديد المستمر للثقافة والفكر. وإلا فسيُحكم عليها بالموت الأكيد، أو العودة إلى المعارضة[56].

الحركة الإسلامية العراقية في مواجهه أبنائها

اتسمت بعض الحركات الإسلامية بكثافة النخب العلمية والثقافية. واستطاع الإسلاميون التوغل في الأوساط الجامعية والمنتديات العلمية بشكل لافت. حتى كادت الحركة الإسلامية العراقية تستأثر بعدد من المواقع العلمية والثقافية في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم[57]. لكنها لم تًحتضن بعد استلام السلطة في العراق، هذه الكفاءات. وقد عمدت الى تشويه سمعة عدد كبير من الشخصيات الاسلامية واتهامها بالتمرد والخيانة، خوفاً من منافستها، واحتلال مواقع مميزة داخل الحزب، لذلك ظلت تراوح في مكانها دون أي تقدم. لم تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وفضلت الولاء والطاعة على الكفاءة، لضمان السلطة.

شكر خاص

شكراً للأستاذ ماجد الغرباوي. كتاب ممتع، صحح لدي كثيرا من المفاهيم، وسلط الضوء على احداث سياسية تدور من حولنا، ونحن تائهين في دروب الحياة. نحتاج الى مثقف مثلك ليعيدنا الى الطريق الصحيح.

***

آية محيي الدين – ماجستير علوم سياسية

 .........................

[1] - الغرباوي، ماجد، الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية لتجليات الوعي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2015م، ص 8.

[2] - المصدر نفسه، ص 7.

[3] - المصدر نفسه، ص 12.

[4] - المصدر نفسه، ص 16.

[5] - المصدر نفسه، ص 20.

[6] - المصدر نفسه، ص 21.

[7] - المصدر نفسه، ص 23.

[8] - المصدر نفس، ص 25.

[9] - المصدر نفسه، ص 27.

[10] - المصدر نفسه ص 26.

[11] - المصدر نفسه، ص 28.

[12] - المصدر نفسه، ص 29 و30.

[13] - المصدر نفسه، ص 30.

[14] - المصدر نفسه، ص 42.

[15] - المصدر نفسه، ص 48.

[16] - المصدر نفسه، ص 52.

[17] - المصدر نفسه

[18] - المصدر نفسه، ص 60.

[19] - المصدر نفسه، ص 64.

[20] - المصدر نفسه، ص 65.

[21] - المصدر نفسه، ص 66.

[22] - المصدر نفسه، ص 67.

[23] - المصدر نفسه، ص 71.

[24] - المصدر نفسه، 83.

[25] - المصدر نفسه، ص 81.

[26] - المصدر نفسه، ص 85.

[27] - المصدر نفسه.

[28] - المصدر نفسه، ص 87.

[29] - المصدر نفسه.

[30] - المصدر نفسه، ص 91.

[31] - المصدر نفسه

.

[32] - المصدر نفسه، ص 93.

[33] - المصدر نفسه، ص 101 و102.

[34] - المصدر نفسه، ص 103 و104.

[35] - المصدر نفسه، ص 105.

[36] - أنظر: ص 105 و106.

[37] - المصدر نفسه، ص 105.

[38] - المصدر نفسه، ص 108.

[39] - المصدر نفسه، ص 113.

[40] - المصدر نفسه، ص 118.

[41] - المصدر نفسه.

[42] - المصدر نفسه، ص 119.

[43] - المصدر نفسه، ص 122.

[44] - المصدر نفسه، ص 123.

[45] - المصدر نفسه، ص 124.

[46] - المصدر نفسه، ص 124.

[47] - المصدر نفسه، ص 129.

[48] - المصدر نفسه، ص 137.

[49] - المصدر نفسه، ص 139.

[50] - المصدر نفسه.

[51] - المصدر نفسه.

[52] - المصدر نفسه، ص 141.

[53] - المصدر نفسه، ص 142.

[54] - المصدر نفسه، ص 145

[55] - المصدر نفسه، ص 146.

[56] - المصدر نفسه، ص 147.

[57] - المصدر نفسه، ص 148.

 

.......................................

* مشاركة (33) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

حينما نتحدث عن تجربة دينية أو فكرية أو سياسية، ونعمل على تظهير العناصر الايجابية ونقاط القوة فيها، هذا لا يعني خلو التجربة من مطبات أو عيوب أو نواقص، لأن هذه من طبائع الأمور. وفي إطار استفادة الأجيال اللاحقة من هذه التجارب، تتأكد الحاجة إلى تظهير عناصر القوة ومؤشرات التميز في هذه التجربة أو تلك. لأن هذا التظهير هو سبيل أخذ العبر والدروس من هذه التجارب في كل مراحلها وأطوارها. وهذا الكلام ينطبق على كل التجارب سواء كانت دينية أو ثقافية أو اجتماعية.وتنوع هذه التجارب لا يلغي حاجة المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إلى الانفتاح والتواصل مع هذه التجارب بصرف النظر عن مآلاتها ونتائجها المباشرة. ففي كل الأحوال تتأكد حاجة الأمة الدائمة لفحص وقراءة تجارب علماء الأمة ولا سيما من خاض غمار التحدي وتصدى لشؤون الأمة المختلفة في ظروف وأوضاع حساسة ودقيقة على المستويات الثقافية والسياسية والأمنية.

وفي سياق ضرورة الاهتمام بمعرفة تجارب الإصلاح في الأمة جدير بنا أن نتوقف عند النقاط التالية :

1- الأمم الحية هي التي تحتضن عظماءها وفعالياتها وزعاماتها، وتعمل على الاستفادة منهم إلى أقصى حدود. أما الأمم الميتة والخاضعة لتأثير ثقافات الجمود والاجترار، فهي تعمل على عرقلة مسيرة الإصلاح ومحاربة المصلحين، وإطلاق حروب الأوراق الصفراء ضدها، كوسيلة فعالة لمنع إتساع تأثير هذا المصلح سواء على الصعيد الشخصي المباشر أو على صعيد خياراته العامة وأفكاره وأطروحاته الفكرية والحضارية.

وأحسب أن ما تتعرض إليه مشروعات الإصلاح وشخصياته من حروب متعددة وتشويه متعمد تشترك فيه لاعتبارات عديدة جهات متنوعة، ساهم في منع بعض شرائح الأمة من الاستفادة من هذه التجارب والاستزادة من فكر وتوجيهات ودروس هذه التجارب .

وهذا يحمل شرائح الأمة المختلفة مسؤولية صياغة رؤية حضارية في التعامل مع علماءها ومصلحيها، بحيث لا يتم الاشتراك في تعويق عجلة الإصلاح في الأمة، تحت يافطات وعناوين ليست دقيقة وتساهم في عملية التسقيط المادي والمعنوي لكل راية وتجربة تحمل مشعل النور والتنوير في الأمة..

وتعلمنا مختلف التجارب أن الأمة بكل فعالياتها تتحمل مسؤولية دينية واجتماعية وأخلاقية للوقوف في وجه كل الأطراف التي تشن حروبا ظالمة على المصلحين في الأمة. فلا يجوز الصمت والتواري عن الأنظار في المرحلة التي تتجه فيها بعض الإرادات لاستهداف تجارب الإصلاح في الأمة. وأدنى ما يمكن أن تقوم به شرائح وفئات الأمة المختلفة هو عدم الاشتراك في مشروع الاغتيال المعنوي لأي شخصية تحمل هم الإصلاح وتعمل من أجله...

2- تجارب الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في الأمة، ليست تجارب نهائية ومقفلة، وإنما هي تجارب مفتوحة على كل العطاءات التي تساهم في إدامة واستمرار هذه التجارب من جهة، ومن جهة أخرى مفتوحة على الإضافة ومشروع التراكم المعرفي والفكري. لذلك ثمة ضرورة معرفية وتاريخية لتزخيم التجارب الإصلاحية في الأمة بعطاءات نوعية، متميزة، ترفد الساحة بالمزيد من الرؤى والأفكار التي تستهدف تحرير الأمة من ربقة التخلف والاستقالة من المسؤولية. وكما يقول احد المصلحين [فعندما نكون أمة العقل، لا أمة الانفعال، وأمة الإرادة لا أمة الاسترخاء، وامة اقتحام المستقبل، لا امة النوم في انتظار المستقبل، فإننا نستطيع أن نتقدم]..

3- ثمة ضرورات عديدة ذاتية وموضوعية، تؤكد أهمية أن يلتقي أهل النور والتنوير والتجديد في الأمة مع بعضهم البعض، لتبادل الآراء والخبرات، وتطوير نسق التعاون والوصول بمشروع الإصلاح والتجديد إلى مديات واسعة.. فما يطمح إليه أهل التجديد والإصلاح في الأمة، لا يمكن لأي طرف بوحده أن يفي بحاجاته ومتطلباته، ولا خيار أمام الجميع إلا العمل على بناء كتلة واسعة من الإصلاحيين تنسق مع بعضها البعض وتدعم وتسند بعضها البعض وتدافع عن بعضها البعض وتعمل بشكل مشترك لبناء مشروعات مشتركة تعزز من خيار الإصلاح والتجديد في الأمة.

و ذلك [لأن الانسان في المفهوم الإسلامي يمثل المخلوق الذي يتصل العمل بكل موقع من مواقع وجوده بحيث يمثل العمل مسؤولية كل طاقة من طاقاته، بحيث إنك ستسأل عما عملت في عمرك، وعما عملت في شبابك، وعما عملت في عملك، وعما عملت في مالك، وعما عملت في كل ما يحيط بك ليكون العمل هو حركة المسؤولية في كل حياة وهذا ما نؤكده فيما نستوحيه من التأكيد في القرآن الكريم على العمل كأساس لسلامة المصير إذا كان العمل إيجابيا وعلى العمل كأساس لابتعاد المصير عن خط السلامة إذا كان سلبيا. (فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ، وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ)

ولابد أن نتذكر جميعا : إن أمة لا تدافع عن مصلحيها لا تبلغ الرفعة والتمكين، وان امة لا تقرأ تجارب مصلحيها، ستصاب بالضمور والتآكل الداخلي.

من التاريخ الفكري:

تشدني فكريا ومعرفيا كل الكتابات المتعلقة بالسير الفكرية والتجارب الثقافية.. لأنني أعتقد أن هذه الكتابات، تحتضن الكثير من العبر والدروس، الذي يستفيد منها الإنسان بعمق وصدق في آن..

فالإنسان من الناحية البيولوجية لا يستطيع أن يعيش حياة الجميع، ولكنه بإمكانه أن يستفيد من تجاربهم وأطوار حياتهم الفكرية والمعرفية..

ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون الإطلاع على سيرهم الفكرية وتجاربهم الثقافية.. ولقد اعتنى العديد من المفكرين والمثقفين بكتابة بعض سيرتهم الفكرية.. فطه حسين دوّن بعض سيرته في أيامه، والدكتور سمير أمين كتب سيرة ذاتية فكرية وجلال أمين وأيمن صايغ وحازم صاغية وزكي نجيب محمود في حصاد السنين وعلي حرب في خطاب الهوية – سيرة فكرية وغيرهم من المفكرين والمثقفين الذي كتبوا سيرتهم الثقافية.. وجميع هذه السير مليئة بالمضامين المعرفية والإنسانية التي تستحق التأمل العميق فيها والاستفادة منها على المستويين الخاص والعام..

ويحاول الدكتور علي حرب في كتابه الموسوم بخطاب الهوية..سيرة فكرية، أن يوضع لقرائه جملة الأطوار النفسية والفكرية والفلسفية، التي مر بها في حياته العامة والعلمية.. وكتابه المذكور أعلاه، عبارة عن مسيرة فكرية، نضجت وتطورت، واتخذت أبعادا عديدة، وخيارات مختلفة، وهي ما زالت سيرة مفتوحة على كل الخيارات والقناعات والأفكار الكبرى..

لذلك يقول (حرب) في سيرته: وأيقن أن هويته هي كل هذا الاختلاف والتعدد، وكل ذلك التعارض والانفصام، وإنها أضيق ما تكون من وجه وأوسع ما تكون من وجه آخر.. فهي تضيق في حدها الأقصى لتقتصر على ما يخصه وحده وينحاز به عما سواه..

وإذ ذاك ينفرد بوجوده الخاص، ويتماهى مع حقيقته الذاتية فيبرأ من كل نسبة، ويعرى عن كل إضافة، غير مدرك سوى أحديته، وإنه هو لا يشبهه شيء.

ولكن هويته قد تتسع في حدها الآخر إلى درجة الذوبان والتلاشي في هذا العالم.. ويدون الدكتور سمير أمين في سيرته الفكرية هذه الحقيقة (لم تكن اهتماماتي الفكرية على الإطلاق اهتمامات جامعية بالمعنى الضيق للكلمة، بل اعتبرت نفسي دائما، بالأحرى، مناضلا لتحرر الشعوب، واضعا بخدمتها كل المعرفة التي استطيع الحصول عليها من خلال تكويني الفكري.. وكانت التحليلات التي اعتقدها صائبة تستوجب بالنسبة لي مواقف وخيارات سياسية.. وما زلت إلى الآن أحمل وجهة النظر الجوهرية هذه ذاتها.. فهناك إذن علاقة وثيقة بين هذه التحليلات واللحظة التاريخية والسياسية التي تقع ضمنها والخيارات العملية التي سلكتها)..

وتظهر هذه السير الفكرية، بمختلف أطوارها وأنماطها، أن الانحباس في نمط فكري، بلا قناعة عقلية وعلمية ثابتة، يؤدي إلى ممارسة الأعمال النقيضة لها على مستوى السلوك، لأنه لم يتسرب إلى دواخل النفس والوجدان..

كما أن القناعات الفكرية، ليست خيارات نهائية، ليس بمقدور الإنسان تطويرها وتغييرها.. وإنما هي مشروع مفتوح على الإضافة والتطوير والتغيير..

وبهذا يكون المثقف أو المفكر المحتفى به الأستاذ ماجد الغرباوي، إمكانية فعلية ودائمة للمراجعة والمفاكرة، والبحث عن الأفكار الكبرى في فكره، والتعامل معها وفق منهج نقدي، ينضجها على مستوى الذات، ويحدد معانيها ونواقصها، ويؤهل ذات المفكر إلى الإضافة النوعية والتجاوز المعرفي..

من هنا تنبع ضرورة اهتمام المفكرين العرب، أولا بتكريم مفكريها والسعي لتدوين سيرهم الفكرية، وأطوار نموهم العلمي والثقافي، حتى يتسنى للقارئ العربي، معرفة منطق التفكير لدى كل مفكر، والتاريخ الفكري الذي مر به المفكر..

ومن الأهمية بمكان في هذا الإطار، أن نفرق بين المذكرات اليومية، التي غالبا ما توضع وكأنه بطل على الدوام، وإن آراءه الفريدة سبقت عصره، وإنها كانت ملازمة لشخصه منذ بداية تكوينه العلمي.. وبين السيرة الفكرية، التي تجعل المفكر كتابا مفتوحا بأطواره الفكرية وقلقه المعرفي، وأخطائه السياسية، وتنقلاته المعرفية..

لهذا فإن المطلوب، ليس أن يكتب كل مفكر مذكراته، وإنما أن يكتب سيرته الفكرية وأطوارها ومراحلها..

وما نطالب به ليس جديدا، فقد كتب عميد الأدب العربي (الأيام) كسيرة فكرية ويومية، والدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتور حسن حنفي في (محاولة مبدئية لسيرة ذاتية) وهشام شرابي وأخيرا محمد عابد الجابري في (حفريات الذاكرة)، ولكن يؤخذ على بعض هذه الأعمال، أنها أقرب إلى المذكرات، منها إلى السير الفكرية..

وهناك جملة من المسوغات التي تدفع بهذا الاتجاه، وتجعل العناية بالسير الفكرية، ضرورة معرفية وثقافية أهمها ما يلي :

1-أن كتابة السيرة الفكرية، هو جزء من عملية توثيق المرحلة الزمنية، من زاوية فكرية – ثقافية.. ونحن في العالم العربي، أحوج ما نكون إلى عملية التوثيق الفكري والرؤية الثقافية، إلى جملة الأحداث الجسام التي مر بها عالمنا العربي..

وتتعمق هذه الحاجة، حينما تكون عملية التوثيق أو صناعة الرؤية الثقافية على منعطفات وأحداث تاريخنا القريب، من قبل المفكرين العرب، الذين يعتبرون جزءا أساسيا من قيادات الرأي في العالم العربي..

2-إن قناعات المفكر، وآراءه الثقافية والفكرية، ليست ثابتة أو جامدة، وإنما هي قابلة للتحول والتطور والتغيير، وإن كتابة السيرة الفكرية وبشكل موضوعي، تساهم بشكل كبير في تجديد قناعات المفكر الثقافية والفكرية.. ولا يجعل قراء هذا المفكر ومتابعيه ينظرون إلى آرائه وأفكاره، نظرة نمطية ثابتة..

وبهذا يكون التعامل مع المفكرين والمثقفين، تعاملا تفاعليا، يبتعد عن كل أشكال اليباس والنمطية، ويؤسس لنمط من العلاقات قائم على الحوار والمفاكرة والتفاعل..

3-إن هناك علاقة عميقة، تربط الإنتاج الفكري والثقافي لأي مفكر، والواقع الذي يعيشه محيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي.. لذلك من الصعب الفصل بين ما يكتبه المفكر، وما يتطلبه محيطه.. إلا أن النص الفكري الذي ينتجه المفكر، ليس صريحا في بيان خلفية المحيط وتداعياته وتأثيراته..

وكتابة السيرة الفكرية، تساهم بشكل قوي في بيان الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي أسهمت بشكل أو بآخر في القناعات التي بثها في نصوصه الثقافية والأدبية..

لهذا كله، نرى ضرورة أن يعتني المفكرون العرب، بتدوين وكتابة السيرة الفكرية، تساهم بشكل قوي في بيان الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي أسهمت بشكل أو بآخر في القناعات التي بثها في نصوصه الثقافية والأدبية.

لهذا كله، نرى ضرورة أن يعتني المفكرون العرب، بتدوين وكتابة مسيرتهم وسيرتهم الفكرية والثقافية بتحولاتها وانعطافاتها وصعوباتها وأسرارها، وعوامل التأثير الكبرى في مسارها.

لأن هذا التدوين، يساهم بشكل فعال، في إنضاج الحياة الثقافية، ويبعدها عن حالات الجفاء والتباعد، والقطيعة التي تعمل المنازعات والمنافسات السيئة.

إن السيرة الفكرية، لأي مفكر، هي عبارة عن تحولات عدة، وتفاعلات مختلفة، بحيث أنه نستطيع القول : أنه وليد التفاعل مع مختلف المدارس الثقافية والسياسية والفلسفية المتوفرة في الواقع العربي، وان كشف وبيان هذه المسألة يؤدي في تقديرنا إلى إغناء الحالة الحوارية في الحياة العربية.

وهذا مما يجعل سيرة المفكر ماجد الغرباوي الفكرية والثقافية، تكون رافدا من روافد تعزيز وإثراء الحياة الثقافية العربية..

بل تفتح سيرته الفكرية، مساحة للتفكير والتأمل، وحقلا من حقول البحث عن الخيارات المناسبة لفضائنا المعرفي والثقافي.

وصراحة المفكر في سيرته، ليست عيبا أو نقصا، وإنما هي إمكان وقوة.

أسوق كل الكلام أعلاه في سياق تكريم الأستاذ ماجد الغرباوي بمناسبة مرور سبعين سنة من عمره راجيا من العلي القدير أن يطيل عمره ويمتعه بصحة وعافية، ومتمنيا على الحالة الثقافية في العراق والعالم العربي أن يلتفتوا إلى عطاءات هذا المثقف ويتفاعلوا مع أطروحاته الثقافية والمعرفية الإستراتيجية في بناء الوعي السليم والمنهج الرصين.. كما أدعو الأستاذ ماجد الغرباوي الى كتابة سيرته الثقافية والمعرفية (الفكرية)، حتى تكون نبراسا صريحا على عطاءاته المتميزة لنا جميعا ولأجيال الأمة في المستقبل..

و الله من وراء القصد

***

محمد محفوظ - كاتب وباحث من السعودية

.....................

* مشاركة (32) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

هناك حقيقة واضحة معروفة، ليس إلى الاغفال عنها من سبيل، أن مؤلفاتكم المترفة، التي نتبادل فيها الرأي، وندير فيها الحديث، لا نستطيع أن ننكر منها شيئا، أو تضطرنا حتى للطواف حول مضامينها عدة مرات، لكي نستقصي مراميها، وأهدافها، فهي واضحة جلية، أقامها صاحبها على الخير المحض، وأقصاها عن الدنس المريب، لأجل ذلك طافت من بلد إلى بلد، ومن بيئة إلى بيئة، دون أن تعيقها عوائق، أو تتكلف عناء عظيما، لتحقق الغاية المنشودة منها، مضت مؤلفاتكم الجامعة لشتيت الفوائد، عالمنا الثبت "ماجد"، تطوف أقطار الأرض، لتدفع عن بابل، و مراكش، مصر، والسودان، الشر المستطير، ونحن إذ نظهر لها هذا الحب، ونخبرها أنها قد ملأت القلب فتونا،  لا لشيء إلا لأنها حاربت الجهل، وفضحت الزيف، وعالجت العلة، ولم تتورط في معرة الاستلاب لا عن عمد ولا عن غفلة، نظهر هذا الرضا، وهذا الإذعان لكتب أستاذنا "الغرباوي"، لأن صاحبها قد خاض في خطوب لست في حاجة إلى تفصيلها في هذا المقال، ولكني في حاجة لأن أعلم كيف احتمل هذه الخطوب؟ وكيف صبرها عليها؟ وكيف لم توهي صريمته مظاهر  الضعف والفتور، تلك الأسقام التي تعبث بنا نحن أصحاب الطموح الساذج؟.  لقد سارت كتب  "الغرباوي" في كل صقع وواد، لأنها  في الحق، تصور الوقائع للناس التي تألفها عقولهم، وتطمئن إليها أذواقهم، كما يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

لقد احتفظت حقاً مؤلفات المفكر "الغرباوي" بطهرها ونقائها، ولم تتورط في خطايا انفصام الوعي، أو محاربة الثوابت، أو تقديس الرمز، أو اهتبال الأفكار، تلك الأفكار التي تدعونا للأخذ بهذه الحرية المسرفة، والتحرر من قيود التراث في غير ابطاء، وواهماً من ظنّ أن الأستاذ "الغرباوي"، ساخطاً على التراث، ناقماً عليه، فهو يعي أن التراث ضرورة لا مرد لها، ولا منصرف عنها، فالتراث الذي تظله الفضيلة وتسيطر عليه، يذهب أستاذنا "ماجد" ما شاء من المذاهب في مناصرته ومعاضدته والهتاف له، ولكنه يتردد، ويحتاط، ويتحفظ، على ذلك الضرب من التراث، الذي يثير في دواخلنا الشك، ويدعونا إلى شيء قليل من الريبة، هذا التراث الذي يحمل عقولنا على أن تظل جامدة هامدة، تسعى أسفار "الغرباوي" إلى دحضه، لأنه اشتمل على الخمول والجمود، وبث في مجتمعاتنا العداوة والبغضاء، ومنعنا عن البحث والاستقصاء، وتراثنا الغث الضعيف هذا، موجود دائماً، ومتصل بعقول الناس، الذي يحرصون على تمجيده، ويكرهون تقييده، إن النتيجة  التي انتهينا إليها بفضل هذا التراث، هو انحراف أمتنا عن حقيقة الدين الصافي، الذي يؤمن بسلطان العلم وتفوقه، ديننا الذي يزداد قوة وانتشاراً غداة كل يوم، أضرّ به هذا التراث الذي يدعو إلى العنف المنكر، والتسلط الذي لا يطاق.

و"الغرباوي" يسعى في الكثير من مؤلفاته لتحرير العقل من آساره، وأن يحملنا على أن نسعى لأن نقدم للإنسانية مزاجاً معتدلاً من الرقي والتطور، فالإنسانية تظهر ضيقها، وسخطها، واشفاقها منا، لأننا ننأى بأنفسنا دائما عن الجهد والجد والعناء، ولأننا لا نتكلف التفكير، ولا ننظر إليه إلا على أساس أنه تاريخ ليس غير، فالحقيقة المرة القاسية، أننا أمسينا لا نسعى لاستلهام أي لوناً من ألوان الفكر التي كانت سائدة في مجتمعاتنا القديمة، والتي تأثرت بها الثقافات الأجنبية، وأظهرت لها هذا الود، وهذا التقدير، وقادهم هذا الود، وهذا التقدير لمناهج فكرنا، لأن ينعموا في نهاية  المطاف، بهذه الحياة الوادعة المطمئنة، ونشقى نحن بجهلنا وحياتنا الضئيلة التي كلها بؤس، وكلها شقاء، لقد استفاد الغرب الذي يسومنا الذل والهوان الآن، من التفاتات ذهننا، وبلغ من هذا كل ما يريد، ثم استأثر بالأمر كله، بعد أن بذل كل جهد، واحتمل كل عناء، حتى يقدم للناس، كل الناس، نهضتة المترفة، وتطوره الرائع.

وحضارة الغرب التي منها الملتوي، ومنها المستقيم، يحدثنا عنها الفيلسوف والمفكر" الغرباوي" حديثاً علمياً عميقا، تلك الحضارة التي لها حظ من أدب، ونصيب من خيال، خضعت لعقل "الغرباوي" الهادئ الرزين، والهدوء قد يكون من أهم  خصال "الغرباوي" وأوضحها، فهو يدنو من القضايا التي تؤرقه، وتشغل تفكيره في الكثير من الرزانة، ثم يلتمس مظاهر القوة والحياة فيها، ثم يتعمق في البحث عن الأشياء التي تبقي وتيرتها باقية متجددة، والموازين التي يتكئ عليها الأستاذ الغرباوي" في دراساته الضافية، ليس العقل وحده، بل نجد الحس والشعور، والاغراق في القياس والمقارنة، والاسراف في الشك في بعض الأحيان، والسمة البارزة في مؤلفات الغرباوي" كثرة الأسئلة" التي يطرحها بين ثنايا كتبه، "فالغرباوي" يستمع منك، ويتحدث إليك، في حوار طابعه الجد، كل الجد، حوار لا تكلف فيه ولا صنعة، كما لا يفسده الاطناب والتطويل، أو الامعان في التفصيل، وأنا هنا أريد أن أقدم أنموذجا لتلك الأسئلة التي يطرحها "الغرباوي" في عنف والحاح، ثم يتكفل بالرد عليها في هدوء وتؤدة، يقول الأستاذ" الغرباوي" في أحد مقالاته الرصينة، نجده يطرح فيها أسئلة عديدة، ثم يسلط عليها بوارقاً من الضياء، وهي أسئلة  بل شك تخدم غايته من طرحها، وهي مفيدة بأدق المعاني التي تحملها تلك الكلمة وأوسعها،  يقول الأستاذ الغرباوي:"

أسس القرآن الكريم منهجا، حالت رمزيته العالية دون ادراك أبعاده، وظل المسلم يعيد قراءة آياته، وهو لا يفقه من معانيه شيئا .

فتحدث القرآن عن حوار دار بين ابليس وبين البارئ - تعالى -، ليؤكد لنا ثمة اسئلة مشروعة، من اي جهة صدرت، يجب الاجابة عليها (ولو كان الرب جلّ وعلا). كما نقل لنا القرآن الكريم، حواراً دار بين الخالق وملائكته، وهم كائنات صالحة، دأبها الطاعة، لكن هواجس خلق الانسان استبدت بها، فكانت هناك اسئلة طرحها القرآن الكريم ورد عليها، دون اي قمع او اضطهاد او تهديد، كل ما في الأمر، أجّل الاجابة بالنسبة لسؤال الملائكة، لأن طبيعة الجواب تحتاج الى تجربة عملية . ثم طرح القرآن الكريم أخطر الشبهات التي تهدد رسالته، وهي التوحيد، دون اي اكتراث، ونقل لنا اسئلة المشككين، والكافرين والملحدين، والناكرين، وناقشها علنا. قال هكذا كانت اشكالاتهم، وهذه اجوبتنا . فهل هناك أخطر من مسألة وجود الله بالنسبة للأديان جميعا؟ وما قيمة ما عداها لو اهتز الايمان بوجود الله - سبحانه - أو توحيده؟ فلماذا لا يستفز الأنبياء من اسئلة المنكرين، والجاحدين؟ وكيف وضعهم القرآن وجهاً لوجه امام تلك التساؤلات؟ . لماذا لم يعترض النبي ويقول له يارب، لقد اخطأت التوقيت، انها ستضعف دعوتي، وأنا في بدايتها؟ لماذا تقبلها وأعلنها على الملأ بكل ثقة ومسؤولية، ورد عليها، وفند حججها . اذن المنهج القرآني يقوم على شرعية السؤال، وحق الرد، ومنهجه قائم على طرح الاسئلة بشكل شفاف علني، كي يتحمل المسلم مسؤوليته امام اي عمل يقوم به، ويكون مسؤولا تجاه اي رأي يطرحه، لاستحالة قمع الاسئلة، ولا بد من متنفس تطفو من خلاله بحثاً عن اجوبة مقنعة . ولولا السؤال لما تطورت الحضارة"1. انتهى.

هذا أنموذج من بعض النماذج التي ينثرها لنا عقل "الغروباي" في كتبه، ومثل هذه النماذج كما أسلفت، شائعة في أسفاره وكتبه شيوعاً شديدا، ومثل هذه العروض تقبل الأخذ والرد كما نعلم، هذا ارهاصاً يدل أن "الغرباوي" لا يجد مضاً ولا غضاضة، في المناقشة، وفي نقد ما أيقن بصحته، وتلك مظاهر تدل على صفاء الطبع، وكمال الثقة،  وحسن الاستعداد، خصال قلّ أن نجدها في ذهنيتنا العربية المعاصرة.

حفظ الله صاحب الوعي المتميز أستاذنا "ماجد الغرباوي"، حامل لواء الفكر الناهض، ومدّ في أجله، وأترف عليه من مننه، وعوارفه، وفضائله.

***

د. الطيب النقر - كاتب وباحث سوداني

....................

1  - من مقال بقلم: ماجد الغرباوي، بعنوان: المثقف وتحديات السؤال

 ........................

* مشاركة (31) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

ماجد الغرباوي مفكر عراقي متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية. كتب عن منجزه الفكري والثقافي والادبي عدد من النقاد الباحثين، عرب وأجانب، وفي هذه السياق تأتي دراسة تجديد الخطاب الديني في منجزه الفكري.

اتجاهات الإصلاح والموقف منها

يرى الغرباوي بأنهُ وعلى الرغم من الجهود الإصلاحية والتجديدية للفكر الديني منذ عصر النهضة. ظل هذا الفكر حبيس تراكمات (العقل التراثي) ومحدداته، فتسبب الانغلاق في عدم تشخيص الإشكالية فضلا عن زحزحتها. وبالتالي لا يمكن تسويتها، الا باستدعاء، النظام المعرفي أولا، ونقد ثوابته ثانيا. ويتم ذلك عبر قراءة معاصرة (للنص)، تجافي هيمنة التراث وسلطة السلف، وترتكز على العقل النقدي ومعطيات العلوم.(1)

ويرى أيضا: " أن الجهود الجبارة التي بذلها الاصلاحيون في عصر النهضة، ظلت أسيرة لرؤية نمطية للدين. بل كان أغلبه ردة فعل بعد لقاء الشرق بالغرب أو ما يعرف بالصدمة الحضارية، حيث كانت لحظة وعي الذات من خلال الاخر، لا من خلال مراجعة نقدية بمعزل عنه".(2)

وسؤال النهضة (لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟) قد افرز اتجاهين:

الأول: علماني، حمل الدين ورجاله مسؤولية انحطاط العرب والمسلمين، في موقف سلبي واضح منه. بعضهم كان متهاوناً عدَّ الدين شأناً شخصياً ويجب فصله عن السياسة واطلاق جميع الحريات. والقسم الاخر تمادى في موقفه من الدين، فطالب بقطيعة تامة مع التراث، والالتحاق بالغرب ثقافةً وفكراً.(3)

والآخر: إسلامي، تمسك بدينه وتراثه. فدأب منذ عصر اليقظة على تقديم الدين، ليس بوصفه علاقة روحية بين الانسان وربه، ولا لكونه نظاماً من القيم والمبادئ الإنسانية، يؤسس لقاعدة أخلاقية تضبط سلوك الفرد ومواقفه بل باعتباره نظاماً كاملاً شاملاً للحياة. يواكب تطور الفرد والمجتمع.(4)

ويتفرع من الاتجاه الثاني (الإسلامي)، اتجاهات عدة في تشخيص التخلف الحضاري وموقف الفكر الديني منه:(5)

اتجاه سلفي: وهو اتجاه، راهن على حرفية النص، وقدسية التراث فضل مرابطاً. داخل العصر الأول للبعثة، كما بالنسبة لرشيد رضا.

اتجاه إصلاحي: عاد لنقد التراث ومراجعة التراث لتفعيل عناصر القوة فيه، ودعا للاستفادة من معطيات العلوم الحديثة، بشرط عدم تقاطعه مع النص الديني، الذي يحتمي بإطلاقه الازماني والاحوالي. وفقاً للعقل التراثي. فطالب بإصلاح النظام التعليمي ومحاربة الاستعمار، ومكافحة الاستبداد، وتوظيف الدين لصالح السياسة. وهذا يتجلى في المشروع الإصلاحي لجمال الدين الافغاني.

اتجاه سياسي: يرتهن الإصلاح وتطبيق الشريعة بشكل سليم على وجود دولة دينية، كما بالنسبة لـ (سيد قطب*) ومن قبله المودودي**.

اتجاه تجديدي: يؤمن بوجود ثابت ومتغير في الدين بشكل يمكن الفقيه من ملء الفراغ التشريعي، من خلال اكتشاف مقاصد الشريعة واسلمة العلوم الغربية. وهذا يمثل الباحثين جميعهم.

اتجاه تنظيري: تمثل بجهود السيد (محمد باقر الصدر)، فكان مشروعه منعطفاً في وعي الإشكالية. وسبل معالجتها وقد استفاد من معطيات العلوم، واغلب المناهج والنظريات، خلال تنظيره لمختلف الحقول المعرفية، كالاقتصاد والفلسفة واصول الفقه واصول الدين والاسس المنطقية للاستقراء والمجتمع والتاريخ...الخ، فلم يعمد الى أسلمة العلوم بل سعى الى كشف النظرية الإسلامية في داخل النص والتراث، والتأسيس لمعارف إسلامية اصيلة تعبر عن ثقافة المسلمين وتراثهم ووعيهم.

ولهذه الاتجاهات الإسلامية، مشتركات عدة يصفها الغرباوي بالسلطة المهيمنة والمحددات التي توجه مسار التفكير الديني، والتي لا يمكن الخروج عليها او نقدها ومراجعتها، بوصفها قناعات إيمانية وعقدية نهائية وليدة تفاعلات نفسية وروحية، سواء طابقت طابقت الواقع او لم تطابقه، وهي بحسب وصفه ثوابت العقل الإسلامي:(6)

أولاً: حجية السنة النبوية مطلقاً.

ثانياً: إطلاق الأحكام الشرعية، أزمانياً واحوالياً، بغض النظر عن الواقع ومتطلباته.

ثالثا: شمول الشريعة الإسلامية لجميع مناحي الحياة.

رابعاً: عدم التخلي عن التراث.

خامساً: الايمان بوجوب الإمامة السياسية.(7)

اتجاه التأصيل العقلي

يدعو الغرباوي إلى مواصلة النقد لكل تأسيس تراثي، وطرح البديل وفقاً لمنهج التأصيل العقلي(8). والذي كما يعرفه أنه (منهج نقدي-برهاني).(9)

ومنهج التأصيل العقلي يسعى الى:(10)

تأصيل المقولات العقدية على أسس عقلية، برهانية (وما حكم به العقل حكم به الشرع).

التمييز بين (الدين/ المطلق) والمعرفة الدينية (النبي). وبناء معرفة بديلة ترتكز على النص المؤسس (القرآن)، وتستلهم معطيات العلوم الحديثة، بعد تجريدها من مقدماتها الأسطورية الاعم من الخرافة واليقين السلبي*.

تحري مقاصد الشريعة وغاياتها على أساس مركزية الانسان ومصالحه التي تمكنه من أداء دوره في خلافة الأرض واستخلافها والشريعة ولا سيما الاحكام الشرعية القرآنية. وما له جذر قرآني من بيان وتفصيل في السيرة النبوية، القائمة على فهم الواقع وضروراته.

ومن خصائص منهج التأصيل العقلي:(11)

انه منهج نقدي يتسلح لتحقيق هدفه المناهج النقدية والفلسفية كافة، ويدأب على تجديد اداوته المعرفية، لضمان موضوعيته وعدم تحيزه.

أن منهج التأصيل العقلي لا يتعارض مع التسليم والطاعة التي هي روح الدين وشرط فعليته. كما لا يتنافى مع شرط الايمان في القضايا الدينية النسبية التي لا سبيل للتحقق من مصداقيتها خارج النص وقبليات المتلقي.

منهج التأصيل العقلي يعمل على مستويين. الأول: تفكيك اللامعقول الديني الذي تقوم عليه المقولات العقدية والكلامية.والمستوى الآخر: بناء معرفة تتأسس على الدليل والبرهان ومرجعية العقل، والاخذ بنظر الاعتبار مركزية الانسان، ومقاصد التشريع وفهم مختلف للدين.

الموقف من مناهج التوثيق

ان دعوة الغرباوي، لتجديد مناهج التوثيق (مناهج علوم الحديث). تأتي في سياق دعوته لتجديد الخطاب الديني، لما للروايات من أهمية مركزية ومحورية في الثقافة الإسلامية، وهي مرجع من مرجعيات الخطاب الديني، والذي يسعى الغرباوي بالمساهمة في تنقية هذا الخطاب مما علق به من اساطير وخرافات.

يذكُر الغرباوي مَنّهجين في توثيق الروايات وهما: منهج الوثاقة، ومنهج التوثيق.

الأول: منهج الوثاقة: يشترط وثاقة جميع رجال سند الحديث في صحته. ثم ينتقل للمتن للتأكد من خلوه من الشذوذ والغرابة، ليكون حجة في مؤداه. وهذا الاتجاه يرى ان وثاقة الراوي نفسه هي موضوع لحُجية الخبر، او كما يعبرون " ان وثاقة الراوي أخذت بنحو الموضوعية".(12)

الثاني: منهج الوثوق: فلا يكتفي بوثاقة الراوي، بل يعقد القرآن في الجرح والتعديل، فالخبر الذي تدحضه قرائن دالة على ضعفه يحكم بضعفه مهما كانت وثاقة رواة السند مما يعني ان الوثاقة عنده أحد طرق وثاقة الراوي، وليست هي موضوعاً لحجته. وايضاً بإمكانه تصحيح الخبر الضعيف من خلال القرائن. فعمل المشهور يُعد قرينة دالة على صحته، ولو كان ضعيفاً وفقاً للمبنى الأول.(13)

الضرورات الموضوعية لتجديد مناهج التوثيق

يرى الغرباوي، بأن هناك ثمة ضرورات موضوعية، لتجديد مناهج التوثيق، وهذه الضرورات تفرضها نظرة مغايرة للدين، تجد من اطلاقات الاحكام، عندما ترتهن (فعلية الحكم) بـ (فعلية موضوعه) وهي كالاتي:

اولاً: يعتمد (الغرباوي)، منهجاً آخراً في توثيق الروايات يبدأ من المتن، عكساً لما هو متعارف من دراسة السند اولاً. فيطرح ما خالف كتاب الله (سبحانه وتعالى). ولا يعتني بحديث يخالف كلاً من (العقل-المنطق-القوانين الكونية-القيم الإنسانية).

ثانياً: ان فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه وما ترتبط به من قرائن وقيود. مما يعطيه قدرة على التحكم بفعلية الحكم مهما كان مصدره. وهذا مبدأ اصولي، يرتكز لفهم قرآني للأحكام الواردة في الكتاب الكريم، فنحتاج الى مناهج تساعد على دراسة موضوعات الاحكام دراسة تفصيلية، ضمن ظرفها الزماني والمكاني، للتأكد من فعليتها، وهذا ما تعجز عنه المناهج القديمة التي ينتهي دورها بتمييز الأحاديث من حيث صحتها او عدمها.

ثالثاً: ان حجية السنة، تقتصر على مالهُ جذر قرآني، وهذا يفترض توظيف مناهج لأمرين مهمين هما:

دراسة حيثيات الحكم الشرعي قرآنياً، ومن ثم تفكيك المنهج النبوي في التفصيل والبيان، لمعرفة خلفياته، ودوافعه والكشف عن بشريته.

لا يمكن اهمال ما زاد على الاحكام الشرعية النبوية ذات الجذر القرآني ولابد من دراسة دوافعها وضروراتها، كي يستفيد منها الفقيه، وهو يستنبط أحكاماً شرعية.(14)

رابعاً: إن فهم الدين يلعب دوراً كبيراً في تحديد مقاصد الشريعة وغاياتها، فيتأثر بها الحكم الشرعي، وفتوى الفقهاء، وهنا تلعب المناهج النقدية الحديثة دوراً مهماً جداً، للتعرف على مسار الأديان تاريخيا، وكشف تأريخية بعض الاحكام، في ضوء هدف الدين والغاية من وجود الانسان على الأرض.

خامساً: لا تخفى مكانة رجل الدين بشكل عام والفقيه بشكل خاص، ولا تخفى قدسية الفتوى دينياً واجتماعياً وسياسياً. وقد كُرست بعض الفتاوى لاذكاء مشاعر الطائفية والتكفير والتنابذ. لذلك فنحن بحاجة للكشف عن حقيقة الفتوى وفضح خلفية الفقيه وأهدافه وغاياته، وهذا ما يؤكد الحاجة الى النقد الحديث.

النص والخطاب

يميز الغرباوي بين (النص) و (الخطاب)، فالنص عنده: " ليس مصفوفة كلمات أو نسيجاً لغوياً، بل نصوصاً متداخلة معقدة، يرتهن تأثيره لثراء مداليله المضمرة وليس المفتوحه".(15) وفي عبارة اخرى قال ايضاً: " النص مغلق على منطوقه، مهما بلغ ثراء مداليله المضمرة لايتجاوزه ويبقى محاصراً بدواله، فيختلف من منطوقه باختلافها. لكن تبقى مداليله مفتوحة على جميع القراءات والتأويلات والاحتمالات".(16) اما الخطاب: " فمتحرر نسبياً بما تقتضيه تقنيته، لكنه مغلق على رسالته، لا يمكن التلاعب بها، بل تقتصر مهمته على اقناع المتلقي وترسيخ ايمانه".(17) وبكلام آخر (مهمة الخطاب) عند الغرباوي (مهمة رسالية) او (عقائدية)، بل وحتى (آيديولوجية)، وينبغي لمن يؤمن برسالية الفكرة تصديرها والدفاع عنها لا نقدها وتحليلها.(18) وبعبارة منطقية، ان المائز بين (النص والخطاب) هو من حيث الاشتغال (نسبة عموم وخصوص من وجه)، فالنص بحسب الغرباوي يُغرينا بدلالاته اما الخطاب فيشغلنا بمنطوقه.(19) والفارق الأساس بين النص والخطاب، كما يرى الغرباوي، هو من حيث المعنى اللغوي، فالنص يشترك مع مطلق الخطاب بمعناه اللغوي حينما يتبنى رسالة، ويسعى لإقناع المتلقي، بإمكانيات واسعة، ومؤثرة فمادة الخطاب نصوص، بعد تَشكيل انساقِها، ويستثمر خطاباتها، ويستشهد بها. اما مطلق الخطاب فيتطلب تفصيلاً واسعاً لأهمية دوره وخطورته، وتارة يختلف الامر ويتداخل بين خطاب النص ومطلق الخطاب اللغوي الذي هو بمعنى خطابه.(20)

ومما تجدر الإشارة اليه، أنَّ الغرباوي يتشارك او يلتقي مع (علي حرب) في تمييزه بين (النص والخطاب).(21) فقد ذهب علي حرب من قبل إلى ان النص: " لا يحمل في ذاته دلالة جاهزة ونهائية، بل هو فضاء دلالي، وإمكان تأويلي. ولذا فهو لا ينفصل عن قارئه ولا يتحقق دون مساهمة القارئ".(22)  ويقول ايضاً: " فالنص إذ ينص على المعنى الجوهري الأصلي، وإذا يدّعي قول الحقيقة المجردة، إنما يتناسى حقيقته هو، أي قسطه من انتاج الحقيقة، كما يتناسى اثر الرغبة في تشكيل المعنى".(23) اما الخطاب عنده فهو: (الخطاب حجاب)(24)، " لأن الخطاب يمارس بطبيعته حجباً للواقع".(25)

وتحدث الغرباوي عن علاقة السلطة بالنص، قائلاً: " أن سلطة النص تعني هيمنته معرفياً، وفرض إرادته، ومحدداته، حينما يحتكر الحقيقة أو جزءها، ضمن الية انتاج المعرفة، ومرجعيات التفكير سواء كان مضمون النص مطابقاً للواقع ونفس الامر ام لا".(26) اذن يقف الغرباوي بالضد من ان تكون هناك سلطة محددة للنص، يقول: " لا توجد سلطة للنص ومصدره خارج فعل القراءة والمتلقي هو الذي يخرجها من القوة إلى الفعل، من خلال منظومته المعرفية القابعة خلف قبلياته ويقينياته".(27)

ونجد الامر ذاته لدى (نصر حامد ابي زيد*) فيما يتعلق بسلطة النص_ إذ قال: " إنَّ النصوص في ذاتها لا تمتلك أي سلطة، اللهم إلا تلك السلطة المعرفية التي يحاول كل نص -بما هو نص- ممارستها في المجال المعرفي الذي ينتمي اليه".(28)

لذا نجد (ابا زيد) يرفض سؤال المدافعين عن سلطة (النصوص)، وهو سؤال يطرح عن طريقهم عادة. وصيغته: أليس هناك من سبيل لإبقاء العقل إلا برفض النصوص؟ وهو سؤال يصفه (نصر) بالماكر والخبيث، حيث يؤكد بأن الرفض لم يكن موجهاً إلى النصوص ذاتها، وإنما لسلطة النصوص، وهي سلطة مضفاة على النصوص من جانب أتباع (النقل). والحقيقة انه لايوجد هناك تصادم بين العقل والنص، لسبب بديهي وبسيط هو أن (العقل) هو الأداة الوحيدة الممكنة والفعالية الإنسانية التي لا فعالية سواها، لفهم النص وشرحه وتفسيره.(29)

آما عن النص ومؤلفه وقارئه، فيرى الغرباوي إمكانية: " تناول النص بمعزل عن مؤلفه*، لاكتشاف إيحاءاته ومضمراته، وما يبدي ويخفي من دلالات، وإحالات مرجعية، مهما تعالى. لكن لا يمكن تجاهله عندما يتعلق الامر بتحديد سلطة النص، لتوثيق حقيقتها وفعليتها على معرفة مصدره".(30)

وفيما يتعلق بموارد تجاهل مصدر النص وعدم تجاهله فيحددها الغرباوي بما يأتي:(31)

اولاً: لا يمكن تجاهل مصدر النص، حينما يترتب عليه حقوق وواجبات، بل النص في هذه الحالة يستمد سلطته من مصدره، فضلاً عن طريقة بنائه وتركيبه وادائه ودلالته اللغوية.

ثانياً: يمكن إهمال مصدر النص، عندما يؤسس لقيم أخلاقية، ما دامت قيم إنسانية. فالحكمة من أي شيء صدرت فهي حكمة.

ثالثاً: لا يمكن إهمال مصدر النص عندما يؤسس لأية سلطة، سياسية أو دينية أو اجتماعية أو معرفية. لأنه المعني حقيقة بتحديد مستواها. فيكون جزءاً من النص، وليس خارجاً عنه. أي يجب قراءة النص بما أنه كلام الله أو قول النبي ليستمد منهما حقيقته وسلطته.

التمييز بين (الدين) و(الخطاب الديني)

يميز الغرباوي بين (الإلهي) و(البشري) وبين الدين والخطاب الديني. إذ يقول ما نصه: (ثمة فارق بين الدين والشريعة قرآنياً، يُتيح لنا إمكانية فهم الأحكام الشرعية في ضوء الواقع وضروراته).(32) ويستدل على رأيه بآيات من القرآن الكريم قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (33) وهذه الآية الكريمة فيما يخص الدين.

اما الشريعة، فيستدل عليها بقولهِ تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.(34)

" فالدين في بُعده العقائدي ثابت، لا يتأثر بالواقع وضروراته، وهو الايمان بوحدانية الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وعدم التفريق بينهم".(35) في حين يفرض الواقع على (الشريعة)، ضروراته من خلال تغيير موضوعات الاحكام. وليس الواقع سوى حركة الانسان داخل محيطه الاجتماعي والبيئي والثقافي فكل مرحلة من مراحل النبوات تمثل واقعاً مختلفاً يقتضي شريعة تواكب تطور وعي الانسان وظرفه الاجتماعي والثقافي.(36)

وفي كتابه (النص وسؤال الحقيقة)، يؤكد الغرباوي ايضاً على هذا الفصل والتمييز بين الدين والخطاب الديني. إذ قال: " والمغالطة الأساس في الخطاب الديني، حينما يوائم بين الدين كنصوص مقدسة والفكر الديني كَفِكر بَشري. والحقيقة ان الفكر الديني قراءة للدين وفهم له، يختلف من شخص لآخر ومن فقيه لغيره، وليس هو ذات الدين، كما يحاول الخطاب الديني الآيديولوجي أن يوهم القارئ والمتلقي به، ليمنح اراءه قداسة تتعالى في شتى المجالات ضرورة من ضرورات الدين، لأنها مجرد اراء واجتهادات شخصية".(37)

إذاً الخطاب الديني عند (الغرباوي) ليس الدين، بل هو فهم الدين، كما يرى " عبد الكريم سروش*".(38) فالمشروع التجديدي لسروش، ينطلق من التمييز بين الدين وفهم الدين، بين الاسلام في حد ذاته من جهة والفكر الديني من جهة أخرى، والتأكيد على استحالة تطابق بينهما. في كتابه (القبض والبسط في الشريعة). يتماهى الدين مع الحقيقة المطلقة، التي تتمثل اولاً في مجموع النصوص المقدسة الثابتة تأريخياً، في حين ان الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم هذه النصوص.(39)

عن الدين والمعرفة الدينية، يقول: " الدين متميز من المعرفة الدينية، إن كل نظرية إبستيمولوجية واقعية تقول بالتمييز بين الشيء والعلم بالشيء".(40) ويعرف سروش المعرفة الدينية في ضوء مقام (يجب) وهو مقام التعريف، فيقول " كاملة وخالصة وصادقة، أي ما يجب ان تكون عليه".(41) ويعرفها في مقام (يوجد) وهو مقام التحقق فيقول: " هي ما انتجه العلماء واعلنوا عنه، وهي موضوع التعلم والتعليم، وهي ناقصة حتماً وكثيرة الأخطاء".(42)

بناءً على ذلك يخلص سروش إلى إن " المعرفة الدينية جهد إنساني لفهم الشريعة، مضبوط ومنهجي وجمعي متحرك، ودين كل واحد هو عين فهمه للشريعة، اما الشريعة الخالصة فلا وجود لها إلا لدى الشارع (عز وجل)".(43) ويؤكد على إن " الشريعة صامتة لا تتكلم إلا حين يوجه الناس إليها الاسئلة منتظرين الأجوبة، ولا تفهم إلا إذا أدخلوها في حنايا عقولهم وأسكنوها مع غيرها من الساكنين".(44)

ويلتقي الغرباوي في الموضوع ذاته مع مُفكرين آخرين كـ نصر حامد ابو زيد وعبد المجيد الشرفي.*

اما نصر حامد، فقد ميز بين الفكر الديني-الخطاب الديني والدين، ورفض التطابق بين المعنى الانساني الاجتهادي الفكري-الاني وبين النصوص الاصلية التي تنتمي من حيث لغُتها على الاقلِ إلى الماضيِ. وان الاعتقاد بتطابقهُما كما يرى هو (وَهّم) ويؤدي إلى مشكلات خطيرة على المستوى العقيدي، والتي لا ينتبه إليها الخطاب الديني. فإن التوحيد بين الفكر والدين، يؤدي إلى التوحيد بين (الانساني) و(الالهي)، واضفاء القداسة على الانساني والزماني، وهذا ما يفسر تردد الكثير من الكتاب في تخطئة كثير من علماء الدين.(45)

وكذلك نجد (عبد المجيد الشرفي) يُميز بين الفكر الاسلامي والاسلام. ففي كتابه (تحديث الفكر الاسلامي)، يميز تميزاً صارماً بين الفكر الاسلامي والاسلام، بمعنى بين (التدين) و(الدين). فيرى بأن الدين لا يمكن ان نُطالبه بأن يتطور او يتغير، ولكن فهمنا له، وتعاملنا معه، يتغير ويتطور. ويستعمل الشرفي عبارة (الفكر الاسلامي-الخطاب الديني)، كتعبير عن الفكر او الفهم الانساني للدين تمييزاً له عن الدين .(46)

وخلاصة القول فيما تقدم ذكره حول التمييز بين الدين والفكر الديني او الخطاب الديني او الدين والتدين، هو إن الدين بما هو دين منزل من السماء يمتاز بالثبات. اما الفهم الديني او القراءة الدينية، فهي التي يطرأ عليها التغيير والتطور بحسب ظروف العصر المعاش.

المقصد الخامس: الفرق بين الدين والعقيدة

يوجز الغرباوي اوجه الاختلاف بين الدين والعقيدة بالصور الاتية:(47)

العقيدة مفهوم كلي قائم بذاته إلا انها إحدى مكونات الدين ومقوماته الذاتية، من دون ان تتوقف مصداقيتها على وجوده خارجياً.

يكفي انعقاد القلب على مبدأ او فكرة ما حد اليقين الذي لا يساوره الشك في صدقية العقيدة بينما الطاعة والامتثال شرط في صدقية الدين.

يُقومَّ الدين بتعاليمه وطاعة اتباعه كما يتقوم بعقيدته والتعاليم هنا، هي الاعم من التشريعات العبادية والاخلاقية والسلوكية، فمكونات الدين (العقيدة، التعليمات، التسليم، الانقياد) بينما تقوم العقيدة بـ (معتقدها وقدرة الايمان على تحقيقها خارجاً).

تأسيساً على ما تقدم يُعرف الغرباوي الدين بأنه " منظومة فكرية ومفاهيمية، لها خطابها وأيديولوجيتها ولغتها ورمزيتها، تستمد وجودها من عقيدة تتصف بقدرتها على تفسير بعض الظواهر الحياتية والميتافيزيقية، كالموت وما بعد الموت ويترشح عنها نظام عبادي وأخلاقي وسلوكي يتقوم بالطاعة والتسليم".(48)

***

حسن علي كاطع - ماجستير فلسفة

باحث في وزارة العدل ـ دائرة الاصلاح العراقية

المقال جزء من اطروحة ماجستير

...............................................

(1) ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص55.

(2) يذهب (عبد الله العروي)، مستعيناً بفكرة (هيغلية)، إلى ان الاخر هو الذي يحدد الذات ويطرح على وعيها الذاتي سؤال الماهية، وهو نفسه يصوغ السؤال ويترك للعرب أن يفكروا داخل الحدود التي يرسمها. والحق أن سؤال الماضي (التراث) والكلام لعبد الاله بلقزيز، ما كان ليطفو فجأة على سطح الوعي العربي لو لم يكن ثمة من ايقظه أو وفرَ لإنبعاثه الأسباب. ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص55. وينظر: بلقزيز، عبد الاله: نقد التراث، مصدر سابق، ص26.

(3) ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص55.

(4) ينظر: المصدر نفسه، ص56.

(5) اعتمدت على إيراد الاتجاهات المذكورة على كتاب الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص57، 58، 59.

* في وقت مبكر من حياته، كان الغرباوي قد تأثر بكتاب (معالم في الطريق لسيد قطب) وهو الكتاب ذاته الذي نقده نقداً صارماً في كتابه تحديات العنف، إذ تطرق للحديث عن جاهلية المجتمع والحاكمية لكلٌّ من المودودي وسيد قطب. ينظر: الغرباوي، ماجد: الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص19. وللاطلاع بشكل مفصل عن موقفه من الحاكمية وجاهلية المجتمع. ينظر: الغرباوي، ماجد: تحديات العنف، العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط1، 2009، ص من 282 الى 292.

**(أبو الأعلى المودودي) (1903-1979): هو أبو الأعلى احمد حسن المودودي. ولد في مدينة اوزنك آباد إحدى مدن ولاية حيدر آباد الإسلامية في شبه القارة الهندية في العام 1903م. وبدأ بنشر دعوته عام 1933م. بتوليه إدارة محلية ترجمان القرآن الشهرية. وأسس الجماعة الإسلامية عام 1941. توفى في عام 1979م. من آثاره: طريق السلام، الدين القيم، الأسس الأخلاقية للحركة= =الإسلامية وكتب أخرى لمزيد ينظر: الترابي، اليف الدين: أبو الأعلى المودودي حياته ودعوته، دار القلم، الكويت، ط1، 1987، ص37، 116، 122، 137.

(6) ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص61.

(7) ينظر المصدر نفسه، ص61-62.

(8) المصدر السابق، ص111.

(9) المصدر نفسه، ص63.

(10) ينظر المصدر نفسه، ص63.

* اليقين السلبي: ويقصد به: (ما يعيق الفعل الحضاري من حزميات وقناعات راسخة، توجه وعي الانسان وتضبط سلوكه وحركاته ومشاعره، فتكرس حالة الانغلاق والتخلف والانكفاء المرير للماضي. ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص112.

(11) ينظر: المصدر نفسه، ص64و 65.

(12) ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص39.

(13) المصدر نفسه، ص39.

(14) ينظر: الغرباوي، ماجد: الفقه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص40- 42. وينظر ايضاً الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص289-291.

(15) الغرباوي، ماجد: مواربات النص، مصدر سابق، ص84.

(16) الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص24. وينظر ايضاً: الغرباوي، ماجد: مواربات النص، مصدر سابق، ص84 المؤدى نفسه.

(17) الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص24.

(18) ينظر: المرهج، علي عبد الهادي: النص وسؤال الحقيقة، قراءة في مؤلف ماجد الغرباوي، مصدر سابق.

(19) ينظر: الغرباوي، ماجد: مواربات النص، مصدر سابق، ص84.

(20) ينظر: المصدر نفسه، ص4-85.

(21) ينظر: المرهج، علي: النص وسؤال الحقيقة، قراءة في مؤلف ماجد الغرباوي، مصدر سابق.

(22) حرب، علي: النص والحقيقة (نقد الحقيقة، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1993، ص9.

(23) المصدر نفسه، ص24.

(24) أورده (علي المرهج) في مقاله: النص وسؤال الحقيقة، قراءة في مؤلف ماجد الغرباوي، مصدر سابق.

(25) أورده (علي المرهج) في المقال نفسه.

(26) ينظر: الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص21. وينظر ايضاً: الغرباوي، ماجد: مواربات النص، ص81 المؤدى نفسه.

(27) الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص19.

*(نصر حامد أبو زيد) (1943-2010): مفكر مصري متخصص في الدراسات الإسلامية عاش منفياً في (هولندا). اهم اعماله: النص السلطة الحقيقة، الاتجاه العقلي في التفسير، نقد الخطاب الديني، مفهوم النص). لمزيد ينظر: ولد اباه، السيد: اعلام الفكر العربي، مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2010م، ص177.

(28) يُعلق (عبد الاله بلقزيز) على النص المذكور لنصر، في كتابه (نقد التراث) فيقول: وإنما هذه (أي سلطة النص) تأتيها من سلطة سياسية تتبناها، وتختار فرضها بما هي النصوص/ الأفكار المقبولة. وإذا كتب لنصوصٍ بعينها، وأفكار وعقائد بعينها في تاريخ الإسلام بإن تنتصر، فما ذلك إلا لأنها حُملت على رضا السلطة وسنانها وهو ما لا ينبه إليه كثير ممن يدعون أن الأمة (أجمعت) على قضية كذا، ويضرب مثالاً على ذلك قضية (قدم القرآن). للمزيد: ينظر: أبو زيد، نصر حامد: الامام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية، مكتبة مدبولي، القاهرة، مصر، ط2، 1996، ص16. وينظر: بلقزيز، عبد الاله: نقد التراث، مصدر سابق، ص244.

(29) ينظر: أبو زيد، نصر حامد: الامام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، مصدر سابق، ص16.

** هنا نجد ان (الغرباوي) افاد او وظف مفهوم (موت المؤلف) لـ (رولان بارت) و(جاك دريدا). أراد رولان بارت (1915-1980) في مقولة موت المؤلف وميلاد القارئ أن يجعل النص فضاءً مفتوحاً= =لا نهاية لمدلوله، مسقطاً عنه الحدود، محرراً له من القيود، مضفياً عليه سيلان المعنى، وحسب عباراته: (أن يكون هناك مؤلف للنص يعني أن يضع حدوداً، وتفرض على النص مدلولاً نهائياً). ويقول: إن النص من الان فصاعداً على مستوياته كافة وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غياباً كاملاً. وكذا الحال مع (دريدا) (1930-2004)، إذ قال: (لا شيء خارج النص). لمزيد: ينظر: الميلاد، زكي: مقولة موت المؤلف، فحص وتحليل، مقال منشور على شبكة النبأ، a.org.cdn.an pprojuet.org.

(30) الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص15.

(31) ينظر: المصدر نفسه، ص15.

(32) الغرباوي، ماجد: الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص67.

(33) سورة الشورى: الآية 13.

(34) سورة المائدة: الآية 48.

(35) الغرباوي، ماجد: الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص67.

(36) ينظر: المصدر نفسه، ص67.

(37) الغرباوي، ماجد: النص وسؤال الحقيقة، مصدر سابق، ص42.

* (عبد الكريم سروش) (1945- ) ولد عبد الكريم سروش، واسمه الحقيقي حسين حاج فرج دباغ في عام 1945م بمدينة طهران. التحق بجامعة لندن فرع (الكيمياء التجريبي) وفي الوقت نفسه واصل دراسته الجامعية في (علم التاريخ وفلسفة العلوم) في الجامعة نفسها. مع انطلاقة الثورة في ايران عام 1979، عاد سروش إلى ايران ونشر كتابه (قيمة المعرفة). كما عين مديراً لمؤسسة الثقافة الإسلامية. لمزيد: ينظر: سروش، عبد الكريم: العقل والحرية، ترجمة احمد القبنجي، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، ط، 2009، ص756، 9، 11 من المقدمة. وينظر:phy: Aadol Karim-soroush, dr soroush.com  Biogra.

(38) ينظر: المرهج، علي: النص وسؤال الحقيقة، قراءة في مؤلف ماجد الغرباوي، مصدر سابق.

(39) ينظر: سعدي، رشيد: طبع النزعة الانسانية في فكر عبد الكريم سروش او الانسان كمدخل للأصلاح الديني في الاسلام، مقال منشور على شبكة الانترنت، مؤسسة مؤمنون بلاحدود، mominon.com، بتاريخ 4 يونيو، 2020.

(40) سروش، عبد الكريم: القبض والبسط في الشريعة، ترجمة د. ع، دار التجديد، بيروت، لبنان، ط2، 2010، ص29.

(41) سروش، عبد الكريم: القيض والبسط في الشريعة، مصدر سابق، ص29.

(42) المصدر نفسه، ص29.

(43) سروش، عبد الكريم: القبض والبسط في الشريعة، مصدر سابق، ص30.

(44) المصدر نفسه، ص32.

* (عبد المجيد الشرفي) (1942- ): مفكر تونسي. واستاذ الحضارة والاسلاميات في الجامعة التونسية. من كتبه: (الفكر الاسلامي في الرد على النصارى، لبنات، الاسلام والحداثة، تحديث الفكر الاسلامي، بين الرسالة والتاريخ). للمزيد: ينظر: ولداباه، السيد: اعلام الفكر العربي، مصدر سابق، ص104.

(45) ينظر: ابو زيد، نصر حامد: نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط3، 2007، ص54، 55.

(46) ينظر: الشرفي، عبد المجيد: تحديث الفكر الديني، دار المدار الاسلامي، بيروت، لبنان، ط2، 2009، ص11.

(47) الغرباوي، ماجد: الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص47.

(48) المصدر السابق، ص47.

..................

* مشاركة (30) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

مازلت شغوفة بمطالعة كتب الأستاذ ماجد الغرباوي والكتب التي صدرت عنه. وأنا كامرأة أعجبتُ كثيراً بكتاب (الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري)[1] للأستاذ الدكتور محمود محمد علي. كتاب رائع ومفيد، أتمنى أن تطلع عليه النساء. لا فقط المرأة العربية بل النساء بشكل عام. كتاب استعرض هموم المرأة وعلاقاتها المختلفة، خاصة في ظل النظام الأبوي الاستبدادي. وتابع جذور إشكالياتها، ليصل إلى نتائج جديدة، أبعد من إشكالية الأمومة والأدوار البويلوجية لها. جاء في مقدمة الكتاب: (ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي)[2]. حيث أرجع إشكالية المرأة لإشكالية الوعي قبل كل شيء، لذا عَرّفَ الأستاذ الغرباوي الفلسفة النسوية: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة)، ليكون موضوعها (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله)[3]. بهذا وضع يده على الجُرح من خلال الوقوف على أصل المشكلة. مشكلة الوعي أولاً وقبل كل شيء. فنحن نعاني دائما من رثاثة الوعي المُشرعن. وهو ينطلق في بحوثه في هذا الكتاب وغير من نظرية الإنسان، التي تتبنى مركزية الإنسان ودوره المحوري في الحياة. في مقابل  نظرية العبودية، التي تسلب الإنسان إنسانيته، وتصادر حقوق، وحقه في الحرية والاختلاف باسم الدين.

كما ركز الأستاذ ماجد على مفهوم الحرية، إضافة الى مفهوم الوعي، باعبترها إحدى مقومات وذاتيات الإنسان و(.. إذا لم تكن من ذاتيات الإنسان فهي من أخص خصائصه وأعراضه. وقد لا أجازف - والكلام للغرباوي - حينما أعتبرها فصلا في الحد المنطقي، لأنها ليست أقل خطورة من الناطقية)[4]. فالوعي لا يكفي ما لم تتمتع المرأة بمساحة كافية من الحرية التي تجسدت فيها إنسانيتها، وفرادتها. وبكل الأحوال النزوع للحرية هو نزوع إنساني. هذا ما أكده الأستاذ ماجد في رده على سؤال ورد في نفس كتاب الفلسفة النسوية: ومادامت كذلك فهي حق وجودي للإنسان. فللاستاذ الغرباوي آراءه الخاصة حول الإنسان والمرأة خاصة، على أساسها يقارب القضايا الإشكالية. فعندما سُئل عن موقفه من المدرسة النسوية (اللبيرالية) التي تراهن على الرأسمالية في استرداد المرأة حقوقها، كما يؤكد هذا الاتجاه النسوي الليبرالي، أجاب بشلك صريح وواضح: (تفترض هذه المدارس أن مشكلة النسوية مرتهنة لحلول البنى الفوقية بينما المشكلة الأساس في المقولات التأسيسية للوعي النسوي واهتزاز الثقة بالنفس)[5]. وهذا ما أكده عند تعريفه لمفهوم النسوية: (تحرير المرأة وإعادة تشكليه وفق رؤية إنسانية عادلة).  ونحن في العالمين العربي والإسلامي بل وحتى الدول المتطورة، مازالت المرأة تعاني من عقدة المظلومية واضطهاد الرجل لها، لكنها لا تسأل عن سبب مظلوميتها؟ وهل سببها الرجل فقط أم أعانته المرأة على ذلك؟![6]. وهنا إجابة دقيقة، تجعلنا نعيد حساباتنا ألف مرة. والاخذ بنظر الاعتبار أهمية فهم صلب الموضوع، ومعرفة الأسباب الحقيقية، من أجل الوصول إلى تسوية مناسبة للإشكالات المطروحة.

وأما عن اضطهاد المرأة والأسباب الحقيقية لهذا الظاهرة التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، خاصة مجتمعاتنا العربية، فهو يؤكد: لا شك أن ثقافة العبودية وقيمها الأخلاقية مازالت راسخة، ونحتاج لاستبدالها بالنظرية الإنسانية جهودا كبيرة، أهمهما معالجة الموروث الثقافي، وتحليل ونقد الخطاب التراثي الذي يؤصل لنقص المرأة وحاجتها المستمرة للوصايا، ويفرض عليها باسم الدين والقيم الأخلاقية الطاعة والانقياد وعدم معصية الرجل. واستبداله بخطاب إنساني، عقلاني، تنويري، يقوم على العدل والانصاف والرحمة والتراحم، وهي قيمنا التي حثت عليها النصوص المقدسة[7].

رموز الحركة النسوية

لا يمكن الاستهانة بالجهود التي بذلتها رموز الحركة النسوية في العالم منذُ القرن التاسع عشر ابتداءً من تمرد نساء نيويورك للمطالبة بتخفيض ساعات العمل وتحسين ظروفهن في المعامل، وهي جهود كبيرة حققت مكاسب أولية لصالح المرأة، ثم توالت تحركات النساء وقد شهدت أمريكا تحركاً جديداً سنة 1904م وسنة 1908وحتى أول مؤتمر سنة 1945. وفي موازاة هذه التظاهرات كانت هناك جهود ثقافية وفكرية تثري الحركة النسوية وتنظّر لها[8]. والإنصاف أن مشكلة المرأة مشكلة تاريخية يتمكن الباحث من رصدها خلال أحكام الشريعة التي تعكس وجود جدل محتدم حول المرأة ومكانتها وحقوقها، لأن آيات الكتاب كانت تتنزل استجابة للواقع، والحكم يكشف عن تناقضاته . بل بعضهم أدرج حتى نشاطات هيباتيا في القرن الخامس الميلادي ومن تلاها لجهود النسوية العالمية، بل يمكن إدراج جميع الجهود المبذولة في هذا الإتجاه فطالما كتبت النساء عن مظلوميتهن وحقوقهن المسلوبة[9]. وبهذا الصدد ذكر الأستاذ ماجد الغرباوي عددا من النساء التي ساهمت في الدفاع عن مظلومية المرأة، عربيات وعالميات وأشاد بها لأن المرأة أقدر على التعبير عن مظلوميتها. كما ذكر بعض الرجال المناصرين للمرأة.

المرأة والحركات الإسلامية

في الفصل الخامس من كتاب الفلسفة النسوية: الحركات الإسلامية والمرأة. أجاب الغرباوي إجابات تدل على مدى تفهمه لجميع المستويات الفكرية، فجعل أجوبته  واضحة لا غموض فيها. من يقرأها يشعر بالأمان والثقة بفكره، حيث أكد: أن الموقف يختلف من إمرأة إلى أخرى باختلاف زاوية النظر. وعندما (تنظّر الحركات الإسلامية والناشطات والداعيات الإسلاميات بوجه عام إلى مفهوم النسوية نظرة استهجان وازدراء)، فلأنها تستمد موقفها من مرجعيات تختزل المرأة وتصادر إنسانيتها وحقوقها، تحت شتى العناوين، أخطرها الدين وشريعة سيد المرسلين، وهي حدود أغلبها تنظيرات فقهية، وتأويلات ذكورية للنص الديني، غير أنها مقدسة بالنسبة للعقل التراثي[10] .

ما بعد الكولونيالية

أما الفصل السادس فقد استعرض الغرباوي المنطلقات الفكرية لنسوية المرأة ما بعد الكولونيالية. وهي تارة يراد بها مرحلة تاريخية تأتي بعد مرحلة الاستعمار فيشار لها بهذا الاعتبار. وأخرى يراد بها تقصي آثار وتداعيات الاستعمار على الثقافات والمجتمعات التي عانت من سطوة الحكم الكولونيالي[11]. وقد بينها بشيء من التوسع ووضع النقاط على الحروف فيما يخص تلك المرحلة التي تعتبر مرحلة منفتحة ذات نسبة كبيرة من الحرية. وقد تختلط فيها ثقافات قد تكون غريبة في فترة ما قبل الاستعمار لذلك تعد هذه المرحلة من أخطر المراحل التي يمر بها اي شعب من الشعوب . وأعود وأضيف تعريف آخر للأستاذ ماجد بهذا الخصوص وفي هذا الفصل ذاته حيث عرف تلك المرحلة بانها" نقد الهيمنة الامبريالية وتداعياتها على الوعي الثقافي والاجتماعي"[12] وأوضح أن كل ذلك يقع ضمن مسؤوليات النسوية. التي هي حركة وعي مجتمعي تفكك الخطاب الاستشراقي.

فصول الكتاب شيقة، لأن إجابات المفكر والباحث الغرباوي كانت ردا على أسئلة مهمة جدا، يمكن أن تطرح على مر الأزمان. وردوده مشوقة وموثوقة، تشجع على قراءتها ومتابعتها.

قهر المرأة

لقد خصص الكتاب فصلا عن قهر المرأة لأهميته البالغة، بل "يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا، فكيف تقهر المرأة من وجهة نظركم؟"[13]، هكذا سأل د. محمود محمد علي. فأجاب: يعني قهر المرأة اصطلاحا: "حالة نفسية سلبية تتعرض لها المرأة من جراء مواقفها أو مواقف ذكورية ظالمة"[14]. وأوضح: إن الحالة النفسية "ردة فعل لا شعورية، تخلق أجواء نفسية لدى المرأة من جراء مشاعر أو سلوك أو موقف يثير حالتها النفسية والعصبية"[15]. ثم استعرض خلال رده على السؤال، أسبابا موضوعية وراء قهر المرأة وشرحها بشيء من التفصيل بحيث عالج الكثير من الأسباب بطريقة سلسة، فكما نعلم أن معرفة الأسباب يعتبر جزءًا من حلها فكيف إذا وجد السبب والحل معاً وهذا ما ستجده أيها القارئ العزيز في هذا الفصل من هذا الكتاب الرائع.

مكونات الوعي النسوي

الفصل الثامن حمل عنوان: مكونات الوعي النسوي وارتهانات تشكيله. حيث دار الحديث فيه عن المساواة وما هو الأساس الذي تقوم عليه؟ هل هو بيولوجي أم يتعدها على ذات المعاني بل يتجاوز ذلك إلى المعاني ذات الصلة بعلاقات القوى بين الجنسين. وهل الاختلاف سواء كان بيولوجيا أم أوسع، موجب لقهر المرأة؟. ثم استعرض السائل مجموعة إشكاليات تخص المرأة، وذكرت أجوبة عدة من زوايا نظر مختلفة، وهنا علّق الأستاذ الغرباوي على ذلك بقوله "برأيي لا يمكن حسم الموضوع إلا من قبل المرأة نفسها، شريطة أن لا تنطلق من عقدة المظلومية والشعور بالنقص وتحدي الرجل وسلطته، ورغم مشروعية مطلبها، ورغم الاعتراف بما لحق بها من قهر وتنكيل، يجب عليها أولاً أن تعي ذاتها وانسانيتها واستقلاليتها، وتعي حدودها كي تتعاطى مع مطالبها تعاط موضوعي إنساني متوازن يأخذ بنظر الاعتبار خصائصها الوظيفية والنفسية والجسدية بحكم أنوثتها وتكوينها النفسي والفوارق البايولوجية"[16]. وأضاف "إن الفلسفة النسوية تقوم على وجود وجهة نظر خاصة بالمرأة، فهي تنظر إلى الإختلاف بين الجنسين، لا باعتباره اختلافا بيولوجيا فحسب بل يتجاوز ذلك الى المعاني ذات الصلة بعلاقات القوى بين الجنسين، والإختلاف من وجهة النظر النسوية لا يكون أبداً مبرراً للقهر) . كلام الأستاذ ماجد الغرباوي منطقي ومقبول ولا خلاف عليه فقد بين بشكل واضح ما للمرأة وما عليها وذلك لا غبار عليها .

المرأة والنظام الأبوي

يقصد بالنظام الأبوي اصطلاحا، كما جاء الفصل التاسع من الكتاب: نظاما اجتماعيا عموديا، يقوم على سلطة الأب ويتقوّم بالتبعية والانقياد واستعباد المرأة. ومازالت قيمه تسري، ضمن الأنظمة المتذبذبة بين الحداثة وقيم الآباء. والنظام الأبوي وليد شرعي لقيم العبودية، التي ارتهنت وعي البشرية ردحا طويلا من الزمن. لكن الأستاذ الغرباوي سجل عليه "عدم شموله لمصاديق أخرى للهيمنة، التي لها ذات السلطة الابوية فالتعريف ليس جامعاً مانعاً بالمفهوم المنطقي لذا أفضل تعريف له – والكلام للغرباوي - هو "النظام الابوي: "نظام الهيمنة الفوقية والانتقياد الطوعي"[17].

ثم جرى الحديث في نفس السياق حول نقطة مهمة تتعلق بالأصول الفلسفية للتبعية. يقول عنها الأستاذ ماجد الغرباوي: اختلفت الآراء حول الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام، وثمة تفسيرات لبدايتها، جميعها تكهنات، لعدم وجود حقائق تاريخية يمكن الاستناد لها، ولا يكفي ما كشفت عنه الآثار والأبحاث الأنثربولوجية وعلم الأجناس، وأغلبها قياس الماضي على النماذج البشرية البدائية في أستراليا والأمازون وغيرهما، فهي استنتاجات تخمينية واستقراءات ناقصة[18]. ثم استشهد بآراء أنجلس وفرويد وغيرهما، وناقشها نقاشا موضوعيا.

المرأة واللاندسكيب

خصص الكتاب فصلين لاستعراض مشاريع النسوية لدى اربعة شخصيات مهمة: رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، عبد الوهاب المسيري، ويمنى الخولي.

ثم انتقل الحوار في الفصل الثاني عشر الى موضوع المرأة واللاند سكب. إذ ابتدأه د. محمود محمد علي بقوله: (يري البعض أن دراسات الأنوثة تنطلق من الفرضية القائلة بأن المرأة عضو فاعل في المجتمع، غير أنها لا تحصل على حقوقها المفترضة، ولذا سعت المرأة بأن تقوم بتغيير مظهر سطح الأرض وتعديله "اللاندسكيب Landscape" بطريقة تختلف عن طريقة الرجل). فأجاب الأستاذ ماجد حول هذا الموضوع: يشتمل السؤال على مقدمات، ينبغي تحري صدقيتها، وأين نتفق أو نختلف معها، للتوفر على نتيجة موضوعية. المقدمة الأولى: (المرأة عضو فاعل في المجتمع)[19]. وهذا لا غبار عليه. ولا يمكن لأحد إنكاره إلا من كان ظالما لنفسه، معتدٍ أثيم. بل ليس في الكون سواهما. وهما يقتسمان مصيرا واحدا، وحياة مشتركة. أحدهما يكمّل الآخر، ولا يمكن الاستغناء عن بعضهما. ويكفي أدوار المرأة في الأمومة، وخدمة العائلة، ومشاركتها له في كثير من الأعمال. فضلا عن مسيرتها الحياتية في جميع المجالات. وتاريخها ومنجزاتها تشهد لمسيرتها. وهي مسيرة تاريخية. فالمرأة مضطهدة، مهضومة، وهذا معنى المقدمة الثاني: (غير أنها لا تحصل على حقوقها المفترضة). بفعل النظام الأبوي الذي يهمّش الأنوثة، ويمجّد الذكورة، بدوافع نرجسية واستعلاء جنسي. وقهر لتحديها الوجودي، المتمثل بتوقف وجوده على وجودها[20]. مما حدى بها بعد مسيرة طويلة من المعاناة، استعادة شخصيتها من خلال المطالبة بحقوقها وانتزاع اعتراف إنساني بها.

(ولذا سعت المرأة بأن تقوم بتغيير مظهر سطح الأرض وتعديله (اللاندسكيب Landscape بطريقة تختلف عن طريقة الرجل). وهي المقدمة الثالثة[21].

ثم تطرق الأستاذ ماجد الغرباوي في هذا الفصل إلى موضوع الجندر بطريقة تجعلك تفهم هذا المصطلح وارتباطه بالوضع الراهن الذي يعيشه العالم وخاصة فيما يتعلق بالمرأة.

الأبعاد السياسية في العلاقات بين الجنسين

الابعاد السياسية في العلاقات بين الجنسين عنوان لافت، تحدث فيه الباحث في الفصل الثالث عشر من الكتاب، عن مدى تأثير الدولة والسياسية على العلاقة بين الجنسين، وهل النسوية نظرية ذات بعد سياسي يؤكد على أن للدولة وللسياسات العامة وللمؤسسات تأثيرا على العلاقات بين الجنسين، وبالتالي هناك فارق بيولوجي طبيعي بين الجنسين؟. فتساءل الأستاذ ماجد: لكن هل يلزم من الفارق البيولوجي: تفاوت القدرات العقلية والقيمة الإنسانية حداً يقتضي مركزية الرجل ودونية المرأة، وهو ما تؤكده منظومة القيم الأبوية؟. أو هل يلزم من الفارق البيولوجي تبرير صلابة ورسوخ ثنائية الجنسين، وعدم هدرها. والتمركز حول الأنثى في مقابل التمركز حول الذكر، والسعي لإحلال الأنوثة محل الذكورة، وهو ما تتبناه النسوية الراديكالية المتطرفة؟[22].

فالنظرية المشار لها في السؤال وليدة النسوية الراديكالية المتطرفة، حيث تستدل لتأكيد رؤيتها، بتأثير الدولة ومؤسساتها وسياساتها على العلاقات بين الجنسين، حينما تتحيز للذكر دون الأنثى. ولا يخفى حجم التطرف في هذه النظرية وهي تصر على الفصل بين الجنسين، لكن لا ينكر دور الدولة وتحيزها للذكر دون الأنثى في دوائر القرار، وإدارة مؤسساتها.

الموقف من المدارس النسوية

في الفصل الرابع عشر بين الباحث الغرباوي موقفه من المدارس النسوية: النظرية النسوية  الاصلاحية، النظرية النسوية المقاومة، والنظرية النسوية المتمردة. وكانت ردوده وافية. واختتم حديثه بملاحظة، مفادها: أن مشكلة المرأة ليست مشكلة أنثوية خالصة، ولا ذكورية متسلطة، بل مشكلة ثقافية عامة، يشترك فيها الفرد والمجتمع. فلايكفي التركيز على حضور المرأة، رغم أنه شهادة عملية تعزز إنسانيتها، لكن ينبغي أيضا إعادة تشكيل الوعي من خلال تفكيك الأنساق الثقافية والمهيمن الفكري، وتشكيله على أسس إنسانية، ينظر للمرأة نظرة إنسانية عادلة، خالية من الدونية والنظرة السلبية. بعيدا عن خصوصياتها، التي تفرضها طبيعتها. لكن الخصوصية لا تعني الدونية بأي شكل من الأشكال. فهي ليست نقصا تكوينيا، بل كمالا ينسجم مع دورها الحياتي. فكما لا يكتمل الرجل إلا بخصوصياته، فكذا المرأة مع خصوصياتها[23].

الوظيفة البيولوجية للمرأة

هل هناك قيم ثقافية تم الصاقها بالمرأة بالاعتماد على هذا الفارق البيولوجي أو الجنسي؟. أي أن ثمة قيم مكتسبة تعتمد على الوظيفة البيولوجية للمرأة والوظيفة التشريحية التي خصتها بها الطبيعة وهي قدرتها على الحمل والانجاب؟. هذا السؤال طرحه الدكتور محمود محمد علي في الفصل الخامس عشر من كتاب النسوية. فأجاب الغرباوي: لا يخفى أن الوظيفة البيولوجية للمرأة كانت وراء تصنيفها[24]. فهي بالنسبة للرجل جسد وطبيعة بيولوجية مغايرة. وثمة اختلاف في تفصيلات جسديهما. المرأة تحمل وتلد وتحيض وتعترضها حالات نفسيه خلال حملها وولادتها. وينتابها ضعف وإرهاق. مشدودة للعواطف والرومانسية. كما يجدها مرتهنة لقوته وإرادته جنسيا، يمكنه قهرها أو تجاهلها. وهنا هو لا يفسر الاختلاف تفسيرا إنسانيا، أو تكامليا كما نفهمه بعد تطور مختلف العلوم، ولا يجد سوى الاختلاف البيولوجي علة لذلك. وتبقى المرأة بالنسبة له رَحَمَاً ومبيضين. فالدونية قدر طبيعي، وليس ظلما أو عدوانا ضدها. بل أن أنوثتها تقتضي اختصاص الرجل بتدبيرها، وتحديد وظيفتها[25].

وقد حمل الغرباوي الفهم الخاطئ للأديان والثقافات مسؤولية النظرة الدونية للمراة ودورها في المجتمع .

سوء فهم الخطاب الديني للمرأة

في الفصل السادس عشر تحدث د. محمود محمد علي عن سوء فهم الخطاب الديني للمرأة، حيث أكد أن النسوية الإسلامية كما يزعم أنصار النسوية الأوربية تعاني من مشكلة التمييز بين الرجل والمرأة، حيث يتصورون بأن الإسلام هو من أكد على أن الذكر هو من حدد ما يجب أن يمنح للمرأة[26]. وأضاف السائل أن مشكلة التمييز تظل مشكلة عالمية، كل النساء عانت منها. حتى تبلورت نظرة دونية للمرأة. وتم تنميط لدور المرأة داخل الزواج والأمومة، حيث توجد حالة من تنيمط الدور الأمومي والزواجي وحالة من الاقصاء والتهميش للمرأة؟. وهنا أجاب الأستاذ ماجد الغرباوي: وبالتالي لا خصوصية للإسلام، مادامت القضية عالمية تاريخيا... المنطق الذكوري هو المنطق الذي ساد الحياة البشرية، ولا قياس على الأمثلة النادرة. ولا أدري مدى صحة تفصيلات مرحلة الأمومة، ولو صحت فأيضا الذكر كان وراء تقديس المرأة، لأن بنية الوعي كانت وما زالت بنية ذكورية، مادامت المسألة أبعد من الجانب الوظيفي وأدوارهما في الحياة[27]. ويؤكد على أن الإسلام ينتمي كدين وثقافة وعقيدة وروابط اجتماعية لبيئته وثقافته هدفه مكافحة الشرك والتصدي للكفر وانتشال الوعي من لوثة عبادة الاوثان و الأصنام وسيادة العدل. وعندما تولى قضايا المرأة لم يقدم فهما للأنوثة يبتعد بها عن الوعي المألوف وادوارها المرسومة مسبقا "المنزل ورعاية الأطفال وخدمة الرجل" وانما طالب الرجل بالرفق والعدل والإنصاف ورعاية خصوصيتها في تعامله معها.

من خلال بيان الأستاذ ماجد الغرباوي لهذا الأمر اتضح مدى عمق دين الإسلام فيما يتعلق بالمرأة ككائن حساس رقيق وفند فكرة الغرب فيما يتعلق بهيمنة الرجل على المرأة في ديننا الإسلامي السمح.

النسوية الراديكالية المتطرفة

أكد المفكر العراقي ماجد الغرباوي: لست مع جميع مطالب النسوية خاصة ما تتبناه النسوية الراديكالية المتطرفة. وقصد بكلامه كما هو واضح في هذا الفصل أن يتعاطف  مع الثورة النسوية المتوازنة التي قامت ضد تداعيات التفوق الذكوري الذي افضى إلى تهميش الأنثى فهي دعوة لاستعادة إنسانية المرأة أساساً للمطالبة بحقوقها[28]. وهنا أتفق مع الأستاذ ماجد في هذا الخصوص فلو طالبت المرأة بفكرة التفوق الذكوري وبناء مجتمع البطريريكي الابوي إذاً بهذه الحالة ستنقلب الموازين وسيكون هناك ظلم ونعود إلى الوراء في هذه النقطة، فالمرأة يجب أن تكون منصفة في هذا الخصوص وتكون واقعية في تحديد مطالبها بشكل منطقي وعقلاني.

المرأة وقوانين الطبيعة

في الفصل الثامن عشرة بعنوان: المرأة وقوانين الطبيعة. طرح د. محمود محمد علي سؤالا، مفاده: ماذا نعني أن المرأة كوجود طبيعي أي مثلها مثل الرجل تخضع لقوانين الطبيعة. وما يميز المرأة عن الرجل أن الطبيعة خصتها ببنية تشريحية تسمح لها بالحمل والإنجاب، كما خصت الرجل ببنية تشريحية أخري تسمح له بالإخصاب هذا الفارق البيولوجي هو فارق طبيعي؟[29]. وهنا أجاب الغرباوي: ثمة قصدية وراء هذا الكلام مفادها إرتهان أدوار المرأة في حدود الأسرة والأمومة للفارق البيولوجي فتبدو الأنوثة حتمية بيولوجية مفروضة عليها ومسألة خارجة عن ارادتها، ولازمة نفي مسؤولية النظام الابوي والمنطق الذكوري والأمر يعود للطبيعة التي كيفتها مع مهام الأمومة بما يناسب انوثتها كما أن وظائف الرجل مرتهنة للعامل البيولوجي فكذلك المرأة[30].

إن فطنة وذكاء الأستاذ الغرباوي في اجابته على هذا التساؤل يجعل من المرأة سعيدة لأن من يحاول أن يقلل من شأنها ويقلل من موقعها قد فُندت من خلال هذه الإجابة الصارمة والواضحة لهذا وأنا كامرأة أرى إن الأستاذ ماجد الغرباوي منصف جداً في مناصرته لقضايا المرأة فهو غير منحاز في اجاباته حول كل التساؤلات السابقة.

التحيّز ضد المرأة

كان موقف الأستاذ ماجد في الفصل التاسع عشر، صارما من جميع أشكال التحيز والتمييز التي عانت منها المرأة. وكان في موقفه هذا بصدد الرد على سؤال السائل، الذي جاء فيه: (... فهل يعتقد الأستاذ أن النسوية - كإطار فكري وفلسفي وحركة سياسية - تمثل توجها يدافع عن حقوق المرأة، ووضع حد لأشكال التحيز والتمييز التي عانت منها المرأة على مدى التاريخ؟)[31]. يقول: لا شك أن الأطر الفكرية والفلسفية التي تم التنظير لها، ارتقت بالنسوية من مستوى حركة سياسية – اجتماعية ترفض الذكورية التي شكّلت وجودها القيمي، وتطالب بحقوق المرأة ومساواتها به إلى وضع أطر نظرية وفلسفية تتحرى الأسباب الحقيقية وراء دونية المرأة، ومعالجتها من خلال طرح بدائل فكرية وفلسفية، تسمح برؤية الهوية الحقيقية للمرأة، وأبعاد شخصيتها التي تستقل فيها عن الرجل، رغم اختلاف النتائج[32]. ونسب وعي المجتمع للمرأة ودونيتها لثقافة اجتماعية متأصلة، مصدرها فهم خاطئ للدين وقيمه، وقيم النظام الأبوي والاستبدادي والذكوري، وطالب بطرح بدائل للنظام الابوي والحتمية البيولوجية تستعيد المرأة كائنا انسانياً سحقته قيم العبودية . هذا الربط الرائع من قبل الأستاذ الغرباوي يجعلنا نعيد حساباتنا ألف مرة فمن خلال التشريعات السماوية ستجد المرأة حقوقها التي أخذت منها عنوة جراء الجهل والظلم الذي يبتعد عن كل تلك التشريعات وهذا ما أكد عليه.

حجاب المرأة

لقد كان موقف الأستاذ الغرباوي من الحجاب مفصلاً في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. حيث تناول موضوع حجاب المرأة من جوانب عديدة. منها باعتباره زياَ من الأزياء، يحدد انتماء المرأة لثقافة ما. وباعتباراه واجبا شرعيا تفرضه الأديان. وقد حذر من المغالاة واللامبالاة من حجاب المرأة فكلاهما موقف غير صحيح. مادام الحجاب يعبر عن قناعة، مهما كان مصدرها. ثم نبه الأستاذ الغرباوي إلى أنواع الحجاب من حيث دوافعه وغاياته، بما يلي[33]:

1- امرأة ترتدي الحجاب عن وعي، باعتباره شَعيرة دينية، تخص المرأة، وتجد فيه كرامتها وعدم ابتذالها.

2- حجاب تفرضه العادات والتقاليد. يكسب المرأة مكانة اجتماعية، سواء التزمت بتعاليم الدين أو لم تلتزم. أم كان التزامها شكليا، فجميعه لا يؤثر، المهم أنها تجد في الحجاب ذاتها وتؤكد وجودها وتكرّس انتماءها، فيكون الحجاب هوية ورصيدا رمزيا، يضمن لها مكانة اجتماعية متقدمة.

3- وثمة حجاب يخفي تحته تمردا أنثويا وصدى لشراسة القمع ومعاناة القلق المصيري ورثاثة القيم والتقاليد ومصادرة حقوق الحريات والمساواة.

4- امرأة تكره الحجاب لديها نزوع للتحرر الراديكالي المتطرف، قد يكون ردة فعل ضد ثقل الموروث الاجتماعي، فهي تبحث عن هامش من الحرية لتتمرد عليه، فيكون هدفها الأساس ممارسة حرية متطرفة.

5- امرأة تعتبر تبعا لتقاليد مجتمعها الحجاب مقياسا لشرفها، يرتفع طرديا بزيادة عدد قطع القماش التي تلتحف بها، وبقدرتها على التواري عن الرجال.

ويستنتج الأستاذ الغرباوي مما تقدم أن المطالبة بإعادة قراءة حكم الحجاب في الشريعة، ودعوات خلعه، وحالات التمرّد عليه، في مقابل دعوات التمسك به، تتقاسمها أسباب ذاتية وموضوعية. يمكن رصدها[34].

***

وصلنا للمحطة الأخيرة من هذا الكتاب القيم الذي يعتبر إضافة رائعة لكل قارئ. تضمن الكثير من الآراء والأبحاث للأستاذ ماجد الغرباوي حول مسائل كثيرة متشعبة حيث أماط اللثام عن أمور من صعب فهمها وشرحها إلا انه ذلل صعابها. فكان أسلوبه في هذا المجال ممتعا وشيقا، وشاملا لجميع موضوعات الفلسفة النسوية ..شكري وتقديري للمفكر والباحث الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي على إجاباته، وشكرا للدكتور محمود محمد علي على أسئلته القيمة التي كانت وراء هذا العرض المممتع لموضوع النسوية.

***

الكاتبة سراب سعدي

..........................

[1] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، در الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2020م.

[2] - المصدر نفسه، ص 7.

[3] - المصدر نفسه، ص 9.

[4] - المصدر نفسه، ص 28.

[5] - المصدر نفسه، ص 35.

[6] - المصدر نفسه.

[7] - المصدر نفسه، ص 39-40.

[8] - المصدر نفسهن ص 45.

[9] - المصدر نفسه.

[10] - المصدر نفسه، ص 53.

[11] - المصدر نفسه، ص 65.

[12] - المصدر نفسه.

[13] - المصدر نفسه، ص 79.

[14] - المصدر نفسه.

[15] - المصدر نفسه.

[16] - المصدر نفسه، ص 91.

[17] - المصدر نفسه، ص 99؟

[18] - المصدر نفسه، ص 101م.

[19] - المصدر نفسه، ص 137.

[20] - المصدر نفسه، ص 138.

[21] - المصدر نفسه

[22] - المصدر نفسه، ص 149.

[23] - المصدر نفسه، ص 160.

[24] - المصدر نفسه، ص 163.

[25] - المصدر نفسه.

[26] - المصدر نفسه، ص 175.

[27] - المصدر نفسه.

[28] - المصدر نفسه، ص 185.

[29] - المصدر نفسه، ص 193.

[30] - المصدر نفسه، ص 193.

[31] - المصدر نفسه، ص 199.

[32] - المصدر نفسه.

[33] - المصدر نفسه، ص 218 – 219.

[34] - المصدر نفسه، ص 219.

...................................... 

* مشاركة (29) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

 

إن سيمياء عنوان مدونتي عالم ماجد الغرباوي يشمل كل مفردات السيمياء التي هي أداة لقراءة السلوك البشري في مظاهره المختلفة، بدءا من الانفعالات مروراً بالطقوس الاجتماعية والسياسية والثقافية انتهاء عند الآيديولوجيات المفروضة على الواقع وكونه العلم العام والنشاط المعرفي المتعلق باللسانيات والفلسفة والمنطق وعلم النفس والأنثروبولوجيا، ولأن العنوان هو هوية المتحدث الرسمي عن سردية النص والمدخل الذي يحتاجه المتلقي.

الأستاذ ماجد الغرباوي يعد واحدا من أعلام العراق المعاصر، فهو أديب وكاتب موسوعي ومفكر عقلاني وسطي، وإن شهرتهُ الفقهية والفكرية العميقة لاقت قبولا واستحساناً واسعاً وكبيراً يشار أليه كمرجع وسطي، واستحضار هذا الرمز العلمي ما هو إلا إشارة في تقييم الكبار والاعتراف بأستحقاقاتهم لسيولة أقلامهم وأياديهم البيضاء وفضلهم على الأجيال المستقبلية القادمة المتلاحقة في رسم سيمياء اللغة والأدب (والخطاب الديني المعتدل). تعد دراستي النقدية للمفكر المبدع ماجد الغرباوي انعكاسا حقيقيا للواقع المر الماضي للمجتمع العراقي الذي رضخ تحت سياط نظام شمولي لخمس وثلاثين سنة، حيث الحروب العبثية والحصار الاقتصادي الظالم، كانت انعكاساتها الاحباط واليأس والقنوط والاتجاه نحو (الغيبيات). فكانت محاولة الغرباوي بلسما شافيا بتمسكهِ بمبدأ العقلانية ومحاولته الطموحة المقترنة بالسلم المجتمعي، حيث واكب بصمت حواري دؤوب معلناً خطابه الاصلاحي اللوثري برافعة الواقعية والتأمل بدل أحلام اليقضة الغيبية متمسكاً بأهل الأرض لتحسسه أوجاع الطبقات المستلبة حرية وخبزا، يبدو لي أن هناك غيمة ثرية تسير وتتسع لتنثر رذاذها زهرا وطيبا وقمرا على ربوع خضراء كوكبنا الجميل، وتوهج دلالات منجزاته المعرفية القيمية الموسوعية أيقونة مشعة توضأت في محراب مشروعه الفكري المتكامل من بنية هندسية معمارية مترعة بحب وسلام وتآخٍ للوصول إلى  (اليوتوبيا) وهو غاية وهدف الغرباوي الكبير الذي أستحق التماهي مع عظماء الكلمة الحرة مع أبطال خلدتهم أفكارهم الحرة كالحسين بن علي (ع) وأبو ذر الغفاري والحلاج ومحمود محمد طه السوداني. أبو حيدرهو ذلك المبدع في رمزية الإقناع الفكري الموثوق، ظهر مبكراً أديباً وخطيبا متدينا، ثم حقق حضوراً مميزاً بارزاً في هذا القرن متخصصاً بموضوع العقلانية الوسطية في الخطاب الديني لمعالجة ثقافة الغيبييات اللاعقلانية. لقد حرص المزج بين الواقعية الرمزية السحرية والواقع السوسيولوجي الجمعي للعالم الأسلامي، ولهُ القدرة الأسطورية الفذة والمطاولة الحوارية المعروضة على صفحات موقع المثقف وبشكل يومي. يغوص المفكر العقلاني البارع بكل ثقة في مجمل الدلالات والمعاني بلغة رصينة بعيدة عن المبالغة حيث يبدو لي أنا أمام شخصية فذة بأفكار تقدمية حرة وقارئا نهماً ومتطلعاً على ثقافات وحضارات العالم المتمدن، منجزاته الفكرية ترقى لرصيد فكري ثر وثري زينت أرشيف الذاكرة العراقية والعربية والعالمية بذخائر نفيسة موسومة ببصمات سومرية متصلة مشيميا بمقتربات جسور عالمية، والمعذرة لكوني لستُ روائيا لآرسم سيناريو ما سوف أقولهُ ككاتب: وجدتُ من الضرورة طرح هذا السؤال: في أية بقعة يقيم ماجد الغرباوي؟ ضمن جغرافية وتأريخ (ثيمة) الحوار الجريء في تحديث الدين؟!

متمنيا أن تكون أجابتي مرضية للجميع

1-أبو حيدرهويته وانتماؤه العراق الحبيب وهو يقترب من آهات وآلام شعبه في الصراع الطبقي فهو يمزج النشاط الأدبي والثقافي بالنشاط الوطني .

2- إن الأنسنة تؤطر نصوصه الحوارية اليومية، فهو نموذج إنساني للإنسان المثقف والمتوج بكاريزمية معطرة بهالة مهيبة من القدسية تجذب القراء بشكل غير مسبوق .

دراسة نقدية ممنهجة لحيثيات المشروع العقلاني للمفكر"ماجدالغريباوي"

-أقول بالبداية قراءتي لسرديات نصوصه الحوارية أنا أمام مفكر تنويري حواري مسالم مجتهد يمشي بثقة عالية في طريق الحق لتحديث الدين للوصول إلى (اليوتوبيا) تلك المدينة الفاضلة، وخلال قراءاتي لبعض من نتاجاته الزاخرة تجدني أمام طود فكري شامخ ومكتبة متنقلة وفيلسوف معتق من زمن المتنبي والجواهري ولوثر، وناشطا وطنيا يمتلك ذهنية متوقدة وشجاعة نادرة لا حدود لها في مواجهة المواقف الصعبة ويستعمل الخطوط الحمر يشدة في رفض المساومة على وطنه، فهو يسير في عالم العقلانية الواعي ولا يهمه لومة لائم في سلوك طريق الحق الموحش، وخلال قراءة منجز له أو الحوار معه تجد نفسك أمام مكتبة متحركة برجلين سريع البديهية عميق الثقافة خصوصا الفقهية منها، ليس هجوميا بل دمث خلوق هاديء الطبع هوايته المحببة الحوار ثم الحوار.

- تؤكد نتاجاته الفكرية هواجس التصدي لعالم الجهل ورواد الغيبيات بالحوار السلمي مقابل خطاب إنساني معتدل موثق بالأنسنة والعقلانية الوسطية فهو (العزيز في زمن الجدب)، صاغ مفهوم الحداثة المعرفية والفقهية بآياتها الثابتة إلى مفاهيم عقلانية وسطية مبصومة برصانة أسلوبه السحري .

- إن عالم ماجد يضمُ بين جنباته عدة مدارس في آن واحد. فهو ينحو من الواقعية النقدية إلى الواقعية الموثوقة خالية من الغيبيات، لذا وجدتُ في نتاجاته الفقهية ألمامه الموسوعي بمذاهب ومناهج واتجاهات الأدب العربي أبتداءً من التأريخية وأنتهاءً بالبنيوية، فهو يقدّم مادة أطلقت عليها الحداثة الأدبية أسم نقد النقد أو ما بعد النقد .

- يعتبر ماجد الغرباوي من أبرز كتاب الواقعية السحرية المتمثلة بإيجابية صحة العقل في تفسير القوانين السوسيولوجية الجمعية السماوية في تفسير الظواهر الكونية، يبدو لي هنا إن ماجد الغرباوي فارس مقتحم الجغرافية والتأريخ بدون سلاح بل غاص في أعماق الذات البشرية بدون واقية غرق، فهو رجل علم  مسالم إيجابي منطقي محددا خلقيا ومطلع على مباديء روسو في الحرية والمساواة .

- الزمن في العراق بعد 2003 كان غارقاً في الأمية والجهل وفوبيا المجهول وتتابع حكومات اللادولة وغضب الطبيعة لذا دفع الناس إلى اللجوء للسحر والشعوذة وأعتاد الأتكالية الإستهلاكية الطفيلية، وأختلافات الحضارات بغرب متقدم وشرق غارق في دياجير الظلمة، صارت الثقافات الشرقية تعتمد الوسائل الروحية والغيبية في التحليل للظواهر الأجنماعية والطبيعية

- تأثرتُ بأشهر وأفضل مقولات ماجد الغريباوي: حين يقول: (نحن بحاجة لوعي يمزق جدار الصمت يفضح الكذب والتزوير وينطق بالحقيقة بصوت مرتفع (أنظر: كتاب مدارات عقائدية ساخنة.

***

عبد الجبار نوري - كاتب وناقد أدب مغترب

في آذار2024

...................

مصادر وهوامش

- كتاب: مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2017م

- كتاب: الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجليات الوعي، ماجد الغريباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا والعارف للمطبوعات، 2015م.

- جبران إبراهيم جبران، الأسطورة والرمز 1973 بغداد، سليمان الشطي، الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ- الكويت 1976.

- أحمد أبراهيم الهواري، مصادر نقد الرواية، القاهرة.

..................

* مشاركة (28) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

ما يجمعني بماجد الغرباوي ليس "موقع المثقف" الذي يشرف عليه وحسب، وليس عمق مؤلفاته وفكره التنويري، بل هي المسافة الملغاة بيني وبينه في النظرة الى الواقع والرأي بالموروث والجامد والمتحرك، بل لأن كوكب ماجد الغرباوي التنويري، جعلني أسبر خاصيّته التي تتجلّى فيها مضامين لم يطرقها سواه جرأةً وتحليلاً وتثقيفاً.

ولكم استوقفتني عناوينه: التجدّد، التسامح، والحركات الاسلامية، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو المتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية..

تعرّفت إلى ماجد الغرباوي الإنسان وتابعتُ أخباره  ككاتب، وكشاعر وباحث دؤوب؛ حيث يسعى من خلال مشروعه الى ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وتابعته قلماً لمّاحاً في إطلالاته عبر المواقع والصحف، وهامة عراقية تشي بنبل السعي ورفعة الصياغة، فوجته كشجرة الضوء توزّع ثمارَها هدايات، ويراعاً أثقل السطور رحابَ معرفة.

كيفما قلّبتَ كتابَ الحضور الثقافي الإغترابي تراه حاضراً: في المناسات الفكرية وفي الندوات وحفلات إطلاق الكتب، وكأنه سفير الحضور الإبداعي لبلاد ما بين النهرين..

 لم يتوقف الغرباوي عند إرث تاريخي يختزنه، بل أضاف إليه ما فيه الغنى والألق والإشراق.

وكم أسعدُ عندما يزفّ إليَّ ماجد الغرباوي وإلى الجالية العربية كتاباً جديداً أرى فيه نهراً موفورَ الضفاف في عُسْر نتاجنا الإغترابي.

ختاماً، شهادتي بماجد الغرباوي، هي أنني رفّة هزارٍ يزهو بعرش الأديم الى جانب النسور، حيّاه الله أديماً لكل طالب معرفة.

***

بقلم: الأستاذ أنطوان القزي 

كاتب وشاعر، رئيس تحرير جريدة "التلغراف" الأسترالية

........................... 

* مشاركة (27) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

تمهيد: ليس سهلا على الباحث أن يستقرئ تفاصيل الأحداث التي تحيط بحياة عالم ومجتهد كبير، ليضع معيارا دقيقا لتقييم المواقف بناء على تنافر، وتشابه الآراء بين شريحة مختلفة من العلماء، خاصة عندما ترتبط تلك المواقف بحياة الشعوب والمجتمعات.

والأصعب من ذلك أنه كيف لهذا الباحث أن يتجاوز التراكمات التي تتغلغل في العقل الباطن، تشغل حيزا منه، وتغذيه بفعل الدور الذي تلعبه المؤسسات الإعلامية والدينية التي تستغل الثوابت من المعتقدات لتسويق المفردات التي تغذي مصالحها. كيف للباحث قراءة مواقف الفقيه، والعالم بناء على حيثيات القضايا، ومتنوعات المسائل وعلى أساس صيرورة ما تكتنزه الأحداث والمشاهد التي يضخ بها الواقع المتناقض للسياسات المختلفة، وكيف للباحث أن يقول كلمته تحت مظلة التسلط الديني؟

في كتابه (الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية)[1] والذي هو عبارة عن 202 صفحة، بضمنها نبذة عن انجازات المؤلف، وسيرة حياته، وما تعرض له من استفزازات في ظل واقع ارتبطت لغة الاستبداد فيه بمصالح الحكومات المتعاقبة في عموم المنطقة، وتأثير ذلك على مستوى الحوزة في قم، وفي النجف، يسلط ماجد الغرباوي الضوء على حركة التفاعل بين سلطة الحاكم المستبد، وسلطة الفتوى، وانعكاس ذلك على طبيعة العلاقة التي ترتبط بإرادة المجتمعات بقيادة المجددين المجتهدين من العلماء من جانب، والسيف الذي يسلطه الحكام المتسلطين على عقولهم ورقابهم من جانب آخر. والأهم أنه كيف للباحث والمفكر أن يكون راصدا دقيقا لسلطة الاستبداد الديني التي ساعدت وتساعد على ولادة ونمو الاستبداد السياسي، والتي سار على نهجها واتبعها وللأسف بعض العلماء تحت عنوان الفتوى والمقدس الديني؟

ولذلك يعد المشروع الذي طرحه الشيخ النائيني إنموذجا حيا للتمييز بين سلطة الدين الحقيقي، وسلطة الاستبداد الديني، ما يفرض على المؤلف أن يكون أكثر حرصا لمتابعة الأحداث الخاصة بسيرة المجتهدين والعلماء وبحيادية تامة، ومنهم الشيخ النائيني وأستاذه الأخوند الخراساني، ومشروع الحركة الدستورية (المشروطة) والملابسات التي أحاطت بذلك المشروع وفقا لمساحة كبيرة من الانتشار.

هذه المساحة تحكي عن دور ومواقف الحوزة العلمية، والعلماء مع اختلاف آرائهم تجاه سلطة الاستبداد السياسي، وكيف أن هذه السلطة حاولت، ولا زالت تحاول تحييد العامل الديني من خلال تجنيد وتطويع سياسة الفتوى لخدمة مصالحها في الحكم.

وبذلك تتداخل لغة الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني، بل تتجذر من خلاله، وهذا ما تصدى له الكواكبي، وكما تطرق له المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني. وكتاب الشيخ النائيني يُعَدُ مقاربة تم تصنيفها في خطوط تماسها العريضة بحسب ما جاء في فصول الكتاب الأربعة والتي تتضمن الوعي في المنطقة الاسلامية ص 23-43، جذور الوعي والحركة الدستورية ص 44-93، المواقف السياسية 94-128، ومقومات المشروع الإصلاحي 128-187. تليهما صفحة خاصة برواد الاصلاح من 188-189 وهذه الصفحة تمثل مشروعا يدعو الباحثين للخوض في مسائل التجديد الديني الذي أسس له الشيخ النائيني وغيره من المجتهدين، ويسبق ذلك توطئة ص 6-17، وتقديم ص 18-22[2].

توطئة

يقول الأستاذ الغرباوي في مستهل كلامه: "لا خلاف أن التحيّز فخ يستدرج الباحث لمجافاة الحقيقة، وتزوير الواقع"[3]. وفي هذا القول يريد المؤلف أن يقدم بحثا سيكولوجيا عن طبيعة الإنسان، كونه يختزن مقدمات وأحكام أولية في عقله الباطن عن هذا المعتقد، أو ذاك، ما يفرض على العقل أن يحكم وفقا لآلية محكومة بهذه المقدمات. وحجة القول ترتكز على التغيرات التي حصلت مع العلماء، والنائيني واحد منهم في المواقف، كما هو وارد أدناه:

"وفي حياة الشيخ محمد حسين النائيني كثير من المواقف والظواهر المفتوحة على أكثر من تفسير ورأي، لكن تجد كل باحث يختص برؤية مستقلة. [....] اعتمدت كغيري من الباحثين على مصادر تاريخية، وما كتب عن ثورة المشروطة في إيران، وأحداث العراق وما رافقها من دخول الاستعمار وثورة العشرين، ودور علماء الدين فيهما"[4].

والمشروطة هنا إنما يشار بها إلى شروط اتباع الأحكام الشرعية، وما يفرضه الشارع المقدس في نظرية الحكم، بغية وضع العقل في محله الصحيح: " تتلخص فكرة مشروع رواد الإصلاح، في تلمس معالم المشروع الإصلاحي لكل رمز من الرموز للتواصل معه، والبحث عن نقاط الضعف لتداركها، وتأسيس وعي جديد، يرتكز إلى العقل، ضد الخرافة والقداسة، وضد الاستبداد بنوعيه السياسي والديني"[5].

وهذا يفرض اتجاهين داخلي، وخارجي. أما الاتجاه الداخلي فيفرض استنهاض العقل وتحريره من تبعية الجهل عن طريق الفتاوى، والاجتماعات، والمؤتمرات، والرسائل. وأما الاتجاه الخارجي فيقتضي نشر الوعي، والتثقيف بمبادئ مشروع الاصلاح من خلال توزيع الكتب والكتابة عنها يقول المؤلف: "ومن المخطط الكتابة عن كل المشاريع، بما فيها مشروع السيد جمال الدين الافغاني، وغيره من المصلحين"[6].

ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن مشروع الإصلاح هذا يقتضي الارتباط بثقافة إسلامية واعية، ومن ضمن هذه المبادئ أسس الإصلاح التي أراد لها الحسين بن علي أن تسود، وعليه يصبح من الضروري تثقيف المجتمعات بالمضامين الحقيقية للشعائر الحسينية، وعلاقتها بالوعي التنويري، وفي هذا الباب يتصدى المؤلف لأهمية تهذيب الشعائر الحسينية، كون ذلك لا ينفصل عن فكرة تحرير الوعي من الجهل، وهو من الأسس المهمة التي اعتمدها الشهيد شريعتي ضمن منهج الحركة الدستورية. ولكن الطريق إلى الإصلاح ليس سهلا، فهو يتطلب صبرا، ومثابرة، وعناء، ولهذا يتحدث المؤلف عن تجربة معاناته حيث يشير إلى حادثة تعرضه للاستجواب الأمني عندما نشر مقالاته في هذا الباب في مجلة التوحيد، من قبل شخص يعمل في الحكومة الإيرانية مستجوبا إياه عن رأيه في مشروع و"أفكار الدكتور علي شريعتي"، مع أسئلة تحقيقية أخرى، وذلك إشارة إلى أن عملية الصراع بين لغة التجديد، وقوالب التخلف الفكري، تفرض حواجز ليس من السهل اجتيازها، كونها تخضع لسلطة الاستبداد الديني[7]. وبذلك ومن خلال التوطئة التي قدمها المؤلف، أصبح واضحا، وكما هو معروف لدى الكثير حجم الاضطهاد، والتعتيم والمنع الذي تعرض، ويتعرض له المصلحين في كل زمان، ومكان.

وفي زاوية تقديم يتناول المؤلف أهم ما جاء به الشيخ محمد حسين النائيني للحركة الاصلاحية وهو رسالته " تنبيه الأمة وتنزيه الملة"[8] حيث يقول المؤلف عن مشروع الشيخ النائيني "فليس مشروع النائيني عقد مصالحة بين الحق والباطل أوصيغة للتعايش مع الطاغية، وإنما هو انتزاع الحقوق المغتصبة للأمة، وتقييد المستبد ليمارس سلطته في إطار القانون"[9]. وهذا يعني أن هنالك منهجا رادعا، يسعى لمعارضة استبداد الحاكم، والدفاع عن حقوق المستضعفين، وهذا هو منهج الإصلاح الذي أراد له الحسين بن علي في ثورته مع يزيد أن يسود. ولذلك يشعر المتتبع لفصول الكتاب، أن هنالك مرتكزات حقيقية تتكئ على التجربة التي مر بها الإسلام، ليتم اتباعها من قبل أنصار الحركة الدستورية، وهم قافلة من المراجع والعلماء الذين نذروا حياتهم من أجل ذلك[10].

الوعي في المنطقة الإسلامية

يتضمن هذا الفصل مجموعة من المحاور تندرج تحت عنوان الوعي في المنطقة الإسلامية وترتكز على عوامل النهضة الإسلامية الحديثة وهذه العوامل وبحسب التصنيف هي: علماء الدين، السيد جمال الدين الحسني (الأفغاني)، التحديات الخارجية، الرقي المتصاعد، الحالة الثقافية في إيران والعراق، والحركة الدستورية والوعي.

وفي هذا الفصل يسلط المؤلف الضوء على حالة التردي والتخلف الذي أصاب الامة الاسلامية بسبب التسلط الذي مارسه الأمويون والعباسيون بعد أن روجوا لسلطة الحاكم، واعتبارها ممثلا عن سلطة الدين، حتى صار التشريع موجها من قبل الحاكم بعيدا عن شريعة الدين، وانشغل الحاكم الاموي، ومثله الحاكم العباسي بمصالحه الشخصية، ما آل إلى ضعف سلطة القانون، وسلطة الدولة، وابتعد التشريع عن إرادة ومبادئ الدين والشارع المقدس، ما تسبب في عزوف الناس عن نصرة الحاكم المستبد والوقوف معه، حتى المرحلة التي تم فيها إحتلال بغداد من قبل هولاكو، وبعدها السيطرة على دمشق من قبل تيمورلنك، هذا إضافة إلى ما سببته الحروب الصليبية في بلاد الشام من خراب، وكذلك ما قامت به سلطة الحكم العثماني في استغلال الدين "[و] تكريس فقهاء السلطة، وبلورة الفقه السلطاني، المكلف بشرعنة ممارسات السلطان"[11]. وهذا معناه أن من حق السلطان أن يمارس القتل، والزنا، واستعباد الرعية، فهو الفرعون والرب الذي لا يحق للرعية مخالفة أوامره مهما كانت النتائج، وبهذا ليس للرعية الحق إلا إعلان حق الطاعة والولاء المطلق للسلطان. ولكن هذه التداعيات أدت إلى التمرد والثورة، وكانت الظروف القاسية التي مرت بها البلاد الإسلامية تأثيرا في بث الوعي والتصاق الناس بالعلماء، ولذلك فإن المرحلة الثانية من مراحل الصراع تحكي عن عوامل النهضة الإسلامية الحديثة، وهذه المرحلة تناقش تأثير حملة نابليون في مصر وعامل التحدي الحضاري بين الغرب والشرق، ومقابل ذلك، دور العلماء والمراجع الكبار الذين تصدوا للاستبداد وقيادة حركة الوعي، وظهور السيد جمال الدين الأفغاني مع الملامح الرئيسية لمشروعه الإصلاحي والذي يقوم على أساس محاربة الاستعمار، مناهضة الاستبداد، إشاعة وتركيز الوعي، تنقية الفكر الإسلامي من الشوائب، وتوحيد المسلمين في إطار الجامعة الإسلامية، وهذا  المشروع لا يمكن أن يمر بدون رد فعل، ولذلك أصبح لا بد من الصراع بين نقاط التماس بين الغرب الحضاري إن صح التعبير بمعنى الغرب الذي يتغذى على موائد الشرق الحضارية، أي العلوم المختلفة للعلماء المسلمين، والإسلام.  ويبدو هنا أن أساس التخلف الحضاري يعود إلى الاستبداد، ولهذا حرص الاستعمار على إدامة المصادر التي تغذي هذا الاستبداد، ومن هذه المصادر، أنصار الحركة المستبدة، ولهذا وبعد أن تكشفت الأبعاد الحقيقية للمصالح الاستعمارية، توجه المسلمين للبحث عن منابع العلم والتنوير بحثا عن طرق حضارية لمجابهة التخلف الذي يسعى الاستعمار فرضه وترويجه، وتم تتويج هذا التوجه بفتح مراكز علمية للدراسات في العراق وإيران وكان ذلك بجهود المراجع الكبار، ولذلك فإن الحركة الدستورية كانت قد فتحت الأبواب المغلقة لتتصدر المشهد السياسي والحضاري وفقا لرؤية واضحة، "وبهذا استطاع علماء الدين أن يثبتوا مصداقيتهم في قيادة التحرك الجماهيري"[12].

وهذا معناه أن هنالك مسارا متصلا مع البعد الحضاري المعرفي للدين الاسلامي سواء في الغرب، والشرق. ومن الضروري الاشارة هنا إلى أن المؤلف قد حلل عوامل الضعف والقوة على مستوى الديانات الأخرى حيث تجد أن سلاح الاستبداد كان قد شمل سلطة الكنيسة في الغرب أيضا، وأن الغاية منه هو استغلال الشعوب واضعافها. ولذلك فإن مشروع الإصلاح هو رد فعل يستمد نقاط قوته من الظروف التي تعصف بالبلاد.

جذور الوعي

يضم الفصل الثاني والذي عنوانه جذور الوعي والحركة الدستورية المحاور التالية: النشأة الأولى، في مدينة سامراء، في مدينة النجف، دوافع الحركة الدستورية، بداية التحرك، تفاقم الأزمة، المجلس النيابي، دور علماء النجف في الحركة الدستورية، النائيني والحركة الدستورية، الثورة مجددا، الاستعمار والحركة الدستورية، أخطاء الحركة الدستورية، الشيخ فضل الله النوري، اشعاعات الحركة الدستورية في العراق، إعلان الجهاد ضد الاستعمار وهو بفرعين هما: إعلان الجهاد ضد روسيا والانجليز، إعلان الجهاد ضد ايطاليا. 

يتناول موضوع النشأة الأولى أبرز المحطات في حياة الشيخ النائيني وهو عبارة عن سيرة تاريخية، ابتدأ نورها من مرحلة الولادة 1860 مـ في مدينة نائين المدينة التابعة إلى أصفهان، حيث بدايته الأولى على يد" شيخ الإسلام" وهو والده، ثم انتقاله إلى أصفهان ملتحقا بمدرسة علمية تابعة إلى الحوزة العلمية وبعمر 17 سنة، حيث إكماله لعدد من المناهج الدراسية التي تعتمدها الحوزة العلمية، وفي ذلك بعض الملاحظات الإشكالية حول الطريقة التي تأثر بها الشيخ النائيني بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتأثره بالمقالات التي كان يصدرها الأفغاني في جريدة العروة الوثقى. ويتناول المحور الثاني وهو بعنوان في مدينة سامراء انتقال الشيخ النائيني من النجف إلى سامراء وبداية نشاطه السياسي، حيث تتلمذ على يد الميرزا محمد حسن الشيرازي، وزيارة الأفغاني ولقائه به في مكان إقامته، وفي المحور الثالث يعود الشيخ النائيني إلى النجف "بعد وفاة السيد محمد حسن الشيرازي". وفي دوافع الحركة الدستورية يتحدث المؤلف عن الظروف التاريخية التي مرت بإيران حيث توالي عدد من  الملوك المستبدين من  الدولة القاجارية  على سدة الحكم، وتردي الوضع المعيشي للعامة حيث جاء ذلك متزامنا مع حالات التعسف والاضطهاد، حتى ظهرت بوادر الثورة على مستوى الشارع الإيراني. وبتظافر الجهود مع زعماء الإصلاح ومنهم السيد  الأفغاني، وتجلى الموقف ناصعا مع "ثورة التبغ التنباكو"[13]، ومع تفاقم الأزمة السياسية، والصراع بين أنصار المشروطة والسلطة المستبدة في إيران في ذلك التاريخ، تم  انتخاب أحد زعماء المشروطة في المجلس النيابي وذلك عام 1906، بعد إجبار مظفر الدين شاه لتلبية مطالب العامة وتعيين من يمثلهم من العلماء. وكان لعلماء النجف دور في المد الثوري ضد حكومة إيران، وفي ذلك التاريخ كان الآخوند الخراساني، والسيد اليزدي، وفي محور النائيني والحركة الدستورية، كان الشيخ النائيني مواكبا لأحداث الحركة الدستورية من مقر إقامته في النجف. وفي محور الثورة مجددا يتناول المؤلف كيف حصل اتساع رقعة المد الثوري ليستقطب مناطق جديدة في إيران ومنها تبريز.

 وفي محور الاستعمار والحركة الدستورية، يقف المؤلف على النهج الذي نهجه الاستعمار في سياسة الاختراق، حيث استطاع دس مجموعة من الشباب المغترب ومعه مجموعة ممن يحملون الأفكار العلمانية لشق صفوف الحركة الدستورية، وزج عدد من المتنفذين الإقطاع مما أدى إلى انحراف الحركة الدستورية، حيث تم انشغال البعض من المحسوبين على الحركة الدستورية بمصالحه الشخصية، وهذه الأسباب تضافرت لخلق حالات الانشقاق والفوضى، انتهت بمقتل الشيخ فضل الله النوري بسبب أخطاء وحماقات البعض من المتطرفين، ولكن رغم كل ما حصل من إخفاقات، وتداعيات سلبية، تصاعدت تأثيرات المد الثوري حيث انعقدت جلسات ومناقشات ومناظرات، للعلماء والطلبة والمثقفين، وولدت على أثر ذلك شخصيات وأفكار تشير إلى عمق في مستوى الوعي، وكان العراق بعلمائه من المصلحين لاعبا قويا في إعادة مسيرة المشروطة وحمايتها من المنحرفين المتطرفين وأصحاب الأفكار الغريبة، حيث استطاع أنصار المشروطة "وبعد انقلاب عام   1908 وإعلان الدستور في الاستانة" أن يحققوا قدرا من الحرية[14]. وصار "لعلماء الإمامية [دورا كبيرا] في محاربة الاستعمار ومقاومة الاعتداء ضد الدولة الإسلامية" وأعلن الجهاد ضد روسيا والانجليز، ثم تبعه الجهاد ضد إيطاليا عندما احتلت ليبيا[15].

وهذا يعني أن هنالك سلسلة مهمة من الاحداث المتتابعة ويقابلها دورا متصلا من المواقف الخاصة بالعلماء الذين أدوا دورهم الجهادي ضد مساحة منتشرة من الجغرافية سواء على مستوى الوطن العربي أو دول أوربا التي اتخذت من المحيط العربي مأربا لمصالحها السياسية والاقتصادية. ومن الضروري الاشارة إلى أن المؤلف أراد أن يقول أن سلسلة الاحتلال البريطاني والروسي والتركي والايطالي والفرنسي في مصر ساهمت بانتشار الثقافة الاسلامية على الرغم من المطبات التي آلت إلى نشر لغة الاستبداد السياسي متزامنة مع لغة الاستبداد الديني الذي تم تسويقه منذ العصر الأموي والعباسي وقبلهم عهد الخليفة الثالث الذي تأسس الاستبداد في فترة خلافته وكيف أن الثورات نشأت في هذا الامتداد الواسع على مستوى الجغرافية السياسية للأمة الاسلامية ولذلك كان للنائيني ومن حذا حذوه حيث سبقهم الآخوند الخراساني دورا بارزا في شحذ الوعي الجماهيري لمقارعة هذا الاستبداد بكل صنوفه، ولكن هذا لا يمنع أن هنالك اختلاف في المواقف بين العلماء صاحبتها خيبات أمل متكررة خاصة ابان الحرب العالمية الأولى وقضية الانتداب وتأسيس نظام الوصاية الانجليزية على العراق ذلك تابع ذلك في الفصل الذي يليه.

النشاط السياسي في العراق

يتضمن هذا الفصل والذي عنوانه المواقف السياسية: النشاط السياسي في العراق، النائيني والانتداب البريطاني، الاعتداء الوهابي على العراق، الموقف من المعاهدة العراقية البريطانية، تبعيد الشيخ النائيني وزملائه إلى إيران، الشيخ النائيني في إيران، النائيني في مدينة قم، مفاوضات العودة إلى العراق، النائيني وإعلان الجمهورية في إيران، الرمز العلمي، وفاة الشيخ النائيني، المحطات السياسية في حياة النائيني.

يتناول المحور الأول موقف الشيخ النائيني من الاستعمار إسوة بباقي العلماء الذين تصدوا لنظام "الوصاية البريطانية [...] الذي يمنح الوجود الأجنبي شرعية الاستمرار في احتلال العراق"[16].

يتحدث المحور الثاني عن الأحداث التي حلت "بعد وفاة شيخ الشريعة الأصفهاني، [وبروز الشيخ النائيني] لمؤامرة الانتداب البريطاني"[17]، وفي المحور الثالث الذي عنوانه الاعتداء الوهابي على العراق، يتناول المؤلف دور العلماء في "انعقاد مؤتمر كربلاء الذي كان مناسبة جيدة لتوحيد الموقف الشيعي تحت قيادة دينية واحدة"[18]، وتوحيد المواقف هنا جاء حلا لمشكلة الاختلافات التي حصلت وتحصل دائما بين العلماء والمجتهدين. ويناقش في موضوع الموقف من المعاهدة العراقية البريطانية كيف " بدأت فصول سياسية جديدة في العراق برز فيها العلماء قادة للمعارضة السياسية"[19]. وفي محور تبعيد الشيخ النائيني وزملائه إلى إيران، " [كيف أن] المعارضة اتخذت مواقف متباينة تجاه التحولات في سياسة الحكومة الجديدة، فلم تعر المعارضة زيادة اهتمام بعودة المبعدين السياسيين"[20]. وفي محور الشيخ النائيني في إيران "[كيف] استقبل أهالي كرمنشاه العلماء المبعدين من العراق" وتداعيات الأحداث والموقف المضاد من الملك فيصل[21]. وفي محور النائيني في مدينة قم يبحث المؤلف كيف أن استقرار الشيخ الخالصي في قم قاد إلى "التباين في وجهات النظر بينه وبين الآخرين حول مفاوضة الحكومة العراقية وشخص الملك فيصل بالذات من أجل العودة إلى العراق" وفي الموضوع تفاصيل في الرؤى والمواقف، حيث بعكسه بعث الشيخ الأصفهاني والشيخ النائيني "مبعوثين لمفاوضة الملك حول هذه القضية "[22]. وفي محور مفاوضات العودة إلى

العراق، يناقش المؤلف كيف أن " الملك... راسل العلماء في إيران من أجل احتوائهم"[23]. وفي محور النائيني وإعلان الجمهورية في إيران كيف أن الأحداث التاريخية لعبت الدور المؤثر في أن يتمتع الشيخ النائيني بمكانة علمية وقيادية مرموقة، إضافة إلى "[...] تمتعه بسمعة كبيرة لدى الشعب الإيراني"[24]. وفي محور الرمز العلمي، يناقش المؤلف كيف أن الشيخ النائيني "تفرد بمدرسة علمية لها آراؤها ومتبنياتها العلمية في الفقه وأصول الفقه"[25]. ص 120،

وتحت محور وفاة الشيخ النائيني، يناقش المؤلف المحطات السياسية في حياة النائيني والتي من أبرزها "مرحلة النضج الفكري وتكامل مكونات الوعي " وبهذا يسلط الأستاذ الغرباوي الضوء على أبرز محطة في تاريخ المرجعية[26].

وفي إشارة لمعنى الإصلاح كونه مشروع دائم، يقول المؤلف في نهاية الفصل " ثمة حقيقة أخرى هي ان الشيخ النائيني قد انطفأ وهجه الإصلاحي عند وفاة الآخوند الخراساني رغم مواقفه المشرفة في مقاومة الاستعمار. وحل به ما حل بمحمد عبده عند وفاة استاذه السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني. فكلا الرجلين نشعر عندما نقارب حياتهما انهما كانا يتحركان بحركة استاذيهما"[27].

مقومات المشروع الإصلاحي

ينطوي هذا الفصل، بعنوان: مقومات المشروع الإصلاحي. على مناقشة المحاور التالية: تنبيه الأمة وتنزيه الملة، الجذور الفكرية للكتاب، المشروع الإصلاحي، ويتضمن محاربة الاستعمار، مناهضة الاستبداد، تعريف الاستبداد، تاريخ الاستبداد، أسباب الاستبداد، آلية الاستبداد، شعب الاستبداد ويمثل الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني، قوى الاستبداد، الدولة الدستورية، ومحاورها استيلاء وغلبة، دولة دستورية. النظرية السياسية، مشروعية المجلس النيابي، شروط ووظائف أعضاء المجلس النيابي، مبادئ الحكم، ويتضمن موضوعها الحرية، والمساواة، المساواة في الحقوق، المساواة في الأحكام، المساواة في القصاص والعقوبات، الشورى، النائيني والمستبد العادل، رواد الإصلاح.

يعد كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة للشيخ النائيني ملخصا موجزا للمشروع الذي اشتغل عليه الشيخ النائيني، وهو قريب في مضامينه من كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، وبما أن الكتاب تمت طباعته في القاهرة عام 1905، فهذا يعبر وبحسب الأستاذ الغرباوي عن تجاذب في الآراء بين "الكواكبي والنائيني" بما يتعلق بمفهوم وحقيقة الاستبداد. وقد أشار المؤلف في هذا الباب إلى معنى الاستبداد من وجهة نظر الكاتب الإيطالي "فتوريو الفبري" الذي تم الإشارة إليه في كتاب الكواكب[28].

هنا وإشارة لحالات التشكيك التي حصلت من قبل عدد من المؤيدين للشيخ النائيني بسبب بعض المواقف، أسوة بغيره من المراجع، يقول المؤلف بهذا الصدد: "اتضح من خلال حياة الشيخ النائيني ومتابعة فصول الأحداث السياسية التي رافقته، فأثر بها أوتأثر بها، ان الرجل كان يتحرك ضمن مشروع سياسي يتسم بالوضوح والثبات في مقاومة الاستبداد ومحاربة الاستعمار، وظل وفيا لمبادئه حتى المراحل الأخيرة من عمره"[29].

والكتاب وباختصار شديد يعتبر رسالة علمية وعملية لأهم مبادئ الحكم التي جاء بها الشيخ النائيني ابتداء من القوانين المتعلقة بمشروعه الإصلاحي والتي ترتكز على محاربة الاستعمار، ومناهضة الاستبداد وفقا للتعاريف التي وضعت له من قبل كبار المفكرين، وتاريخه، وأسبابه التي تحدث فيها عن حقبة الحكم الفرعوني، وآلياته التي ترتبط ب"جهل الأمة"،  وشعبه، وأنواعه، وقواه التي منها الاستبداد الديني، والتزلف للسلطان، ثم موضوع بناء الدولة وفقا لنظرية دستورية، والتي ترتكز "على أساس مشاركة الشعب" ومشروعية المجلس النيابي في الحكم، وشروط ووظائف الأعضاء في المجلس النيابي والتي بضمنها الخبرة السياسية، ومبادئ الحكم في الحرية التي ورد في تعريفها اعلى أنها "تعني تحرير الأمة من ربقة الجائرين"، والمساواة، وتنص على مساواة الناس في الحقوق، والأحكام، وفي القصاص والعقوبات، ويضاف إلى ذلك الشورى باعتبارها " أحد أهم مبادئ الحكم في الإسلام"، وعن مفهوم المستبد العادل التي وردت في نهاية الفصل، يدعو الشيخ النائيني "إلى انتخاب مجلس برلماني ينهض بمهمة صياغة دستور يحد من سلطة المستبد ويخلق منه مستبدا عادلا يعمل بمبادئ الحكم الثلاثة الحرية، المساواة، الشورى"[30].

الخاتمة

وخلاصة ما تقدم، يرسم لنا الأستاذ الغرباوي في دراسته التحليلية الشاملة والدقيقة هذه، الظروف التاريخية االتي مر بها الشيخ النائيني، ليقدم لنا صورة تفصيلية عن المواقف السياسية والدينية لهذا المرجع الكبير، والظروف التي مرت بها البلاد في ظل العصر الذي أراد الاستعمار البريطاني وغيره فيه استخدام قدسية الدين لتمرير خططه الهادفة إلى تقزيم وتشويه المبادئ التي جاء بها الإسلام على أساس الفصل بين إنسانية الدين القائمة على أساس المساواة والعدل والحرية واحترام الحقوق العامة للشعوب، وسلطة الحاكم التي أريد لها تتجاوز جميع الخطوط تحت ما يسمى بقدسية السلطان، وبهذا تتحول قدسية الدين إلى قدسية الحاكم، ولذلك سعى الاستعمار إلى استخدام بعض الفتاوى لترويج مصالحه وتثبيتها في نفوس البسطاء من العامة.

وبناء على ذلك، تبرز لنا حقيقة الدور الذي اختطه الفقهاء من المجددين لممارسة دورهم الحقيقي لمقارعة الاستعمار وفضح سياسات الغزاة الذين يسعون لطمس حقيقة الدين.

ويعتبر الفصل الرابع خاتمة البحث، كونه يلخص وبالتفصيل الموجز الأسس والمبادئ العامة لمشروع الإصلاح الذي جاء به الشيخ النائيني في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة، وأعتقد أن عنوان الكتاب في دلالته الضمنية يشير إلى شروط إتباع الشارع المقدس من خلال تنوير وتثوير الوعي ضد سياسة الاستبداد التي استمدت جذورها من خنوع الشعوب لحكامها، ومن تجهيل الناس واستخدام سلاح الفتوى تحت عنوان المقدس الديني لخدمة مصالح السلطان. ويعد هذه الكتاب مقدمة لواجب أسمى يقع على عاتق المفكرين الأوفياء، وهو اتباع خطى من سبقهم من المصلحين.

***

قراءة عقيل العبود

 ......................... 

[1] - الغرباوي، ماجد، الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية، مؤسسة المثقف، سيدني – أسترليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2012م.

[2] - راجع محتويات الكتاب ص 195- 198.

[3] - المصدر نفس، ص 5.

[4] - المصدر نفسه، يتحدث المؤلف في هذا الباب عن جملة العقبات التي تعترض المهمة الإصلاحية، وعن تجربته تحديدا، راجع الصفحات 5ـ17.

[5] - المصدر نفسه، ص 9، المقطع الأخير السطر 1ـ4

[6] - المصدر نفسه، ص 9-10، السطر 6ـ8، والصفحات التي تليها لغاية ص 16.

[7] - المصدر نفسه، ص 11 – 16. في هذه الصفحات يتناول المؤلف تجربته مع مسؤولية الإصلاح وتداعيات الصراع التي لها علاقة كبيرة بلغة المفاهيم والمعتقدات.

[8] - المصدر نفسه، ص 17.

[9] - المصدر نفسه، ص 18.

[10] - راجع السطر 4 ص17، والمقطع الثاني ص18 السطر1-3. تتضمن حاشية الصفحة 19 تجربة الباحث الغرباوي في كتبه عن رواد الإصلاح، منها منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، وانتهاء بكتاب النائيني.

[11] - المصدر نفسه، ص 24.

[12] - المصدر نفسه، ص 41. راجع العوامل التي ساعدت على "اتساع رقعة الوعي" المقطع الأخير، ص 34.

[13] - المصدر نفسه، ص 54.

[14] - المصدر نفسه، ص 84.

[15] - المصدر نفسه، ص 46-91، وبحسب محاور الفصل حيث يشرح المؤلف تصاعد المد الثوري للحوزة العلمية في النجف " عبر الاجتماعات العامة والقاء الخطب مسيرة الأحداث التي ابتدأت بقتل الشيخ النوري.، راجع ص 81ـ82 يصف المؤلف فيه تنامي حركة الوعي وتمخض التناقضات في المواقف والصراعات عن تمسك الجماهير بمبادئ الحركة الدستورية "بعد إعلان الدستور في الاستانة في 23 /تموز/ .1908.

[16] - - المصدر نفسه، ص 94.

[17] - - المصدر نفسه، ص 96.

[18] - المصدر نفسه، ص 100.

[19] - المصدر نفسه، ص 105.

[20] - المصدر نفسه، ص 109.

[21] - المصدر نفسه، ص 111.

[22] - المصدر نفسه، ص 112.

[23] - المصدر نفسه، ص 114.

[24] - المصدر نفسه، ص 116.

[25] - المصدر نفسه، ص 120.

[26] - المصدر نفسه، ص 93ـ125.

[27] - المصدر نفسه، ص 127.

[28] - المصدر نفسه، راجع الجذور الفكرية للكتاب ص 133المقطع الثالث.

[29] - المصدر نفسه، ص 129 المقطع الأول السطر 1ـ5.

[30] - المصدر نفسه، راجع مبادئ الحكم، صفحة 173، السطر 1-2 المقطع، راجع جميع الصفحات الخاصة بالفصل الرابع مع الحواشي.

.................

* مشاركة (25) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

منذ أكثر من عشرية ونصف وقصائدي وغيرها من النّصوص منشورة بعناية كبيرة وحفاوة لطيفة ومتابعة دقيقة على موقع ـ صحيفة المثقف ـ فصار هذا المنبر منارة إشعاع لمختلف كتاباتي يصل مداها إلى الأقاصي نحو مشارق الأرض ومغاربها بالإضافة إلى أني كنت أقرأ على صفحات هذا المنير مقالات ذات فائدة جمّة في شتى المواضيع والشؤون والاختصاصات ناهيك عن الأشعار والقصص والمترجمات من اللغات الأخرى بالإضافة إلى تقديم الكتب الجديدة مع الحوارات والمطارحات النقدية والفلسفية والاجتماعية والنفسية والسياسية وغيرها بحيث أضحت ـ صحيفة المثقف ـ تمثّل دائرة معارف صغيرة أطلّ منها كل يوم على الدنيا وما فيها وبفضل التواصل مع كتّابها اِرتبطت بيني وبين الكثيرين منهم أواصر صداقة بفضل وشائج المودّة والمحبّة الخالصة التي نتقاسمها من معين الأدب والمعرفة فلا يسعني إلا أن أذكر من بينهم خاصة الأستاذ ماجد الغرباوي عميد هذا المنير وأُسِّه وراعيه فقد تابعت حواراته باِهتمام على مدى عديد السنوات وشدّني إليها جدية الأسئلة المطروحة والمنبثقة من اِهتمامات فكرية متنوعة فاِنبرى لها الأستاذ ماجد الغرباوي بإجابات ترشح من سعة اِطلاع على عيون تراثنا الزاخر وعلى قراءة عقلانية للقرآن الكريم وعلى روح من التسامح والأريحية تكتنفها فلاحت القدرة على اِستيعاب السابق من النصوص وإخراجها من التكلّس والجمود إلى فضاءات رحبة من عمق المعرفة وشمولية النظرة في روح تحررية تنثال في تباريح الصّفاء والمحبة الإنسانية.

إن تلك المحاورات العميقة هي مواصلة لمنهج البيان وإقامة البرهان الذي عرفته الثقافة العربية في عصورها الزاهرة حيث كان قائما على بسط المسائل وطرح مختلف الآراء فيها وقد تجلّى في ما قرأناه مثلا في أدب أبي حيان التوحيدي ضمن كتاب ـ الإمتاع والمؤانسة ـ ومثل ما نقله القاضي النعمان عمّا دار  بينه وبين الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في كتاب ـ المجالس والمسايرات ـ فمحاورات الأستاذ ماجد الغرباوي تُبرز شخصية مستوعبة للتراث العربي الإسلامي في بعده الإنساني من ناحية ومن ناحية أخرى تُعلن بوضوح القطيعة مع كان سائدا فيه من تقديس للمقولات الفقهية إلى حدّ التزمّت فهو يدعو إلى المراجعة الشاملة لما اِستقرّ في الأذهان عبر توالي العصور والأزمان بروح تحرّرية من أجل سعادة الإنسان لأنها هي الغاية من الشرائع والأديان .

هذه هي عين الحكمة والضالة المنشودة التي ما اِنفكّت تتردّد في كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي ومحاوراته على مدى سنوات عديدة...

فتحية تقدير وإكبار مفعمة بالمودّة والمحبة والاِمتنان أُرسلها إلى الأستاذ ماحد العرباوي بمناسبة بلوغة السبعين راجيا له الصحة والعافية وطول العمر مع المزيد من العطاء والتوفيق في إرساء مشروعه الفكري المتنوّر ليفتح آفاقا جديدة في الثقافة العربية وليُواصل الإشراف على منبر ـ صحيفة المثقف ـ هذا المنبر الذي أضحى ملتقى فكريا وإبداعيا للأدباء والمثقفين العرب ومن بينهم الأدباء التونسيون الذين وجدوا في رحابه العناية والرعاية لنصوصهم بل قد حظي البعض منهم بالتكريم في مناسبات سابقة وكان لي الشرف أن أكون من بينهم .

مسك ختام هذه التحية باقة ياسمين تونسية بسبعين وردة!

***

بقلم: سُوف عبيد

 ............................ 

* مشاركة (26) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

إذا أردت أن تعرف الرسالة الفلسفية للأستاذ ماجد الغرباوي فأقرأ له حواراته المفتوحة، والتي جسدها على منصة صحفية المثقف الزاهرة، وكذلك في كتاباته المتعددة بداية من الشيخ المفيد وعلوم الحديث، 1992، مرورا الشيخ بمحمد حسين النائيني.. منظّر الحركة الدستورية، 1999، ومنه إلى إشكاليات التجديد، 2000، والتسامح ومنابع اللاتسامح: فرص التعايش بين الأديان والثقافات، 2006، وتحديات العنف، 2009، والضد النوعي للاستبداد: استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010، والحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع 2015، وقراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016، ونقد مرجعية التفكير الديني، 2018، والهوية والفعل الحضاري، 2019، ومواربات النص، والفقيه والعقل التراثي، ومضمرات العقل الفقهي، 2020، وتحرير الوعي الديني، والمرأة وأفاق النسوية، وتراجيديا العقل التراثي، 2021.. وهلم جرا.

وقد جرى العرف في تاريخ الفلسفة أن يأتي في سياق مدارس فلسفية، ومن هنا يلزم إثارة هذا السؤال: هل في الإمكان العثور على مدارس فلسفية في كل ما كتبه الأستاذ الغرباوي؟، إذا كان الجواب بالسلب فبها ونعمت، أما إذا جاء الجواب بالإيجاب فيكون السؤال التالي على النحو الآتي: ولماذا هيمن فكر الإرهاب على الفكر العربي، وأسس مدرسة دينية واحدة هي مدرسة الأصوليات الدينية التي تكفر في الحد الأدنى وتقتل في الحد الأقصى؟

أما جواب الغرباوي فقد جاء مؤيدا لعدم وجود مدارس فلسفية حيث رأيناه يكتب مقالًا بعنوان " دعوة لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء"، وكذلك في حواراته المفتوحة حيث أعلن فكرنا العربي المعاصر لا يطلق على كيانا ثبت ومحدد بالفعل.

أما إذا أردت معرفة فكر ماجد الغرباوي الفلسفي فأقرأ هذا الكتاب التذكاري الذي كتب عنه، حيث تبدو فيه اهتمامات متعددة، ومع ذلك فهي تدور حول محور محدد وهو علاقة الأنا بالآخر، أو بالأدق علاقة العربي بالغربي، وتكون الغلبة للغربي على العربي، ومن شأن هذه الغلبة أن يمتنع إيقاظ العقل العربي من سباته الدوجماطيقي . وفي هذا السياق يمكن القول إن ماجد الغرباوي في إمكانه الكشف عن أسباب هذا السبات من أجل مدارس فلسفية جديرة، في نهاية المطاف، أن يقال عنها إنها تعبير عن فلسفات عربية – إسلامية معاصرة جديرة بهذه التسمية . وإذا أردت بعد ذلك أن تحدث توليفة بين رسالته الفلسفية وفكره الفلسفي، فأنت في هذه الحالة، نحصل على سيرته الذاتية .

وليس ثمة شك الأستاذ الغرباوي قد كرس مجهودا متواصلا للتعريف بالمواقف والمقاربات الفلسفية والنظرية الفكرية في ميادين عديدة تخص العقيدة، والدين، والمرأة، والتسامح، والعنق، والإرهاب .. إلخ . فالعدد الضخم من الكتب التي ألفها، والمقالات التي كتبها، والحوارات المفتوحة التي جسدها على منصة المثقف تشير بما لا يدعو للشك إلى سعة اطلاعه وإلمامه الشديد بكل ما يجد في الميادين الفلسفية والفكرية .

لقد حرص الأستاذ الغرباوي حرصا شديدا على ضرورة تأكيد ضرورة الاستفادة من الغير والانفتاح على الآخر على ضوء النظر بتمعن إلى تجربته، فلا ضير من الاستنارة بأنوار العقل ولا يهم مصدرا، كما أنه من المفيد جدا الاهتداء بهدي القيم العقلية الكونية ما دامت متناغمة مع تطلعات الإنسان وتواقة إلى الحرية والعدالة، وبناء على ذلك، من المشروع الاقتداء بتجربة الغربيين مادام التصور الذي يملكونه فيه غنمنا ولا يتعارض مع ما نحتاج إليه في مقاربة مشاغلنا ومشاكلنا، لكن لا يعني الاستغراق في الآخر واستنساخ تجاربه الفلسفية.

***

ا. د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط المصرية / مصر

.................

* مشاركة (24) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

بمناسبة مشروع تكريم الأستاذ ماجد الغرباوي لا يسعني غير الإشارة إلى أمرين اثنين:

الأول تفضله بحراسة وتمويل موقع المثقف. وهو مغامرة في عصر ما بعد الحداثة. وتأتي أهميته من الحدود التي يلتزم بها. وفي المقدمة الإسهام بتعويم معنى الإسلام العربي وليس الإسلام الأممي. ولا شك أن للعرب خصوصيتهم في عصر الفضاء المفتوح الذي تحول لأداة غزو ثقافي، أو ما اعتدنا أن نقول عنه الاستعمار الناعم. وأي عمل يتكفل بسلامة المحتوى العروبي - أو بلغة أبسط الهويات الوطنية هو عمل له أهمية وجودية، ويغني الثقافة من طرفين. في الداخل لأنه يساعد على خلق معنى نوعي intrinsic identity وفي الخارج لأنه يضيف تجربة خاصة لعالم متعدد وكثير المحاور والاهتمامات.

الأمر الثاني هو إلحاحه الدائم على موضوعة حل الخلافات سلميا. واللاعنف جزء من رسالة المثقف ومدير تحريرها الأستاذ ماجد الغرباوي، أبو حيدر كما اعتدنا أن نخاطبه.

وربما كانت هذه المهمة هي أكثر أدوار المثقف أهمية. ولكن مشروعه الفكري الذي بدأ بإشكاليات التجديد وتواصل حتى بلغ موسوعته التي صدر منها تسع أجزاء بعنوان "متاهات الحقيقة" هي أيضا إضافة هامة، ومن عدة وجوه، في نقد التشريعات السكونية، وفي إغناء العمل العقلي. و دائما كنت أقول إن ماجد الغرباوي شمعة مضيئة بين أفراد جيل التنوير الثالث. وهنا أود التذكير بملاحظة الدكتور محمد الطالبي عن جيل التنوير الأول. فهم،  بنصف راديكاليتهم وبحلولهم التوفيقية التي سمحت بها ظروف صعودهم،  تحولوا إلى عقبة أمام مزيد من تطوير التفكير العربي. ومشكلة العروبة أنها لا تستطيع التنكر لدور إسلامياتها. واللاهوت الإسلامي معروف أنه مادي - وأستعير هذا المصطلح من الشهيد حسين مروة. فكل الأديان سماوية وغير سماوية كانت دون دولة. ولا يوجد دين أسس لدولة مثل الإسلام، والإسلام تحديدا، لذلك يصعب جدا عزل ما لله وما لقيصر. وقد حاول الأستاذ أبو حيدر أن يحمل هذه المهمة. وهو يتابع دوره ويدحرج صخرة الفكر الإسلامي كأي سيزبف عربي.

ولذلك يجب أن نتوقع أن يدخل بمحاورات معقدة مع أعداء تطوير العقل وأساليب الإدراك. وفي الذهن الحوار المطول الذي دار بين أحد أساتذة الجيل السابق وهو محمد عابد الجابري، ورمز من رموز التنوير الوطني في سوريا، وهو المرحوم جورج طرابيشي.

من هذه النقطة أستطيع أن أتلمس معالم الدرب الشائك الذي يسير عليه مشروع أبو حيدر، والذي أصبح مشروعنا...

***

صالح الرزوق

ناقد وأديب وباحث – سوريا

- لابد من إضاءة:

أن تكتب عن مفكر عربي متميز في عطائه الفكري، وطموحه الإنساني في مشروعه التنويري، في عالم عربي وإسلامي مشبع في تكوينه الثقافي بفكر ديني تراثي يحمل الكثير من فجوات النقل والتفكير، وفي تكوينه الاجتماعي مطنب بالشعبوية السلبية، وفي تكوينه السلوكي بثقافة التقيد والاتباع والانقياد. قلت؛ أن تكتب عنه في البعد النقدي الذي شكل المعلم الأساس لمقاربته التراث الديني بكل قضاياه، تلك القضايا التي تحتضن بؤرة التوتر العالي بين التنوير والتضليل، خاصة تلك التي تتصل بقضايا عصرنا الحالي، والتي بحكم طبيعتها ليست هي ذاتها للماضين، فالمعطى التاريخي له حضور فيها كرهنا أم أحببنا. أن تكتب عن علم من أعلام التنوير الأستاذ الجليل ماجد الغرباوي لمجازفة ومخاطرة كبيرة، في ظل هذا السجال الحاد ولا أقول الحوار، لما يكتنف حوار التنوير مع التضليل من عنف لفظي ومادي جلي في ممارسات فكرية وسلوكية بلغت حد التكفير ومن ثمة التصفية الجسدية. مجازفة تحمل من الإكراهات الكثير من قبيل:

أ - ألا تفي الأستاذ الكريم ماجد الغرباوي حق الكتابة، التي تتساوق مع قامته الفكرية والعلمية. فترد مفردات الكتابة تفصيلا وتمفصلا قاصرة عن التعبير عن المعنى وظلال المعنى، بما يجلي البعد النقدي في فكره ومنجزه التنويري بصيغة الجمع المحمولة على منطوقات عناوين مؤلفاته المتميزة. فتصير إلى طمس معالم المثقف التنويري الحداثي الناقد والمبدع في نفس الآن، الذي أعمل ويعمل التفكير النقدي في التراث الديني منسحبا على قضايا العصر تساؤلا وفحصا وتدقيقا ومراجعة وتصحيحا؛ لأجل خلق تقارب أو توافق أو تطابق أو استظلال للثابت الصحيح من التراث الديني مع مجمل المشاكل والإشكاليات القائمة في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة، كيفما كانت طبيعتها وسياقها الزمني والمكاني والموضوعي والتاريخي. ذلك المفكر الذي تلمس من خلال كتابته وتأليفه استقلاله وحريته، وانعتاقه من سجن الصمت أمام الملتبس والمشوش من التراث الديني وحراسه. وانبعاج ثقافة التقليد والتبعية والتكرار والخضوع المطلق والإيمان الأعمى به؛ بمشرط مشروعه التنويري، والتقليص من محاصرة الفكر الناقد الحر المستقل الجريء، مقابل انكماش الفكر التبعي السكوني. فعصرنا في حقيقته وفق التطورات المتنوعة في مختلف المجالات؛ بما فيها التطور التكنولوجي والرقمي والذكاء الاصطناعي، هو عصر النقد بامتياز، الذي يجب أن نجريه ونفعله في وجه كل شيء، بما في ذلك التراث الديني ورجاله، الذين ينبغي أن لا يبقوا خارج النقد أو فوقه، مما يقوض العقل بما هو الأداة الفاعلة في كشف الحقائق، وفي إخضاع الأشياء لسلطانه وتوظيف القوانين الكونية لصالحه، وفي تذليل الصعوبات والتحديات لاستمرار سيرورة نجاحه، وفي تبديد الظلمات من حوله، ونشر النور من حوله باقتحام المجهول والغامض من العوالم المعتمة، ويقوض التفكير والإبداع لدى الأفراد والمجتمع معا، ويعرقل بشدة التقدم الإنساني ونواتجه الحضارية في المجتمع، ويحجب الحقيقة من التجلي أمام عيون وعقول الناس، ويسود التضليل والتعويق.

ب - في ظل مجال زمني محدود ومضغوط تصعب الكتابة عن منجز علم من أعلام الفكر الإسلامي التنويري بصيغة الجمع، فمهما بلغت ذروتها تجد نفسها عاجزة عن استقصاء التفاصيل أو استدراك المفاصل في مبسوط مؤلفاته القولي، خاصة أمام فكر مثقف موسوعي استحكم المشهد التراثي الديني بما اكتسب من فرشة نظرية متخصصة في المجال الإسلامي، متمكنة من آليات اشتغالها وأدواتها، ضابطة جهازها المفاهيمي استيعابا وتوظيفا واستثمارا، متحكمة في مناهج اشتغالها المعرفي، زادها التدريس والتعليم خبرة وتجربة وحنكة، والزمان غنى ونماء واتساعا. وأنت القارئ الباحث المبتدئ؛ لا تسعفك حصيلة دراستك الجامعية في ذات الشريعة الإسلامية أن تزعم مقاربة البعد النقدي في فكره - حفظه الله تعالى بما حفظ به الذكر الحكيم - بمنظار تعاقبي أو تزامني، يفضي إلى إبراز المشهد النقدي في كل مؤلفاته. فذلك؛ دونه خرط القتاد. لأن عوالم التراث الديني شاسعة ومتشعبة ومتداخلة ومتشابكة، رصيدها على مستوى مجالاتها وحقولها المعرفية كبير جدا وضخم في معطياته، لا يمكن رصده ولو بعدسة مجهرية لانفلات مكوناته من الإمساك. وهو رصيد تراثي ديني تعشش فيه كل الأفكار والآراء والاجتهادات والرؤى والأطروحات المتعددة والمتنوعة، راكمته ورصدته السنون والأجيال والحقب التاريخية، والذي طبعته بطابعها الخاص، وبسمته بخصوصياتها وتميزاتها ومميزاتها، التي تفيد أن قراءة البعد النقدي في فكر أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي لابد لها من استحضار البعد التاريخي لمنجزه الفكري بصيغة الجمع، لتمنح موجوداته الفكرية خصوصياتها ومعطياتها الواقعية آنذاك، وسياقها الواردة فيه، ومبررات استحضارها؛ مع العلم أن الراهنية التاريخية للواقع والأحداث هي التي تميز بين عصر وآخر، وتعطى دلالة الأشياء، وتحدد المفاهيم ومصطلحاتها وتخوم معارفها وعلومها ومواضيعها. فإن أقصينا البعد التاريخي من الحضور في المسألة المعرفية، نكون أسقطناها من فوق على المجال المعرفي دون أن نجد لها جذورا في تربته، ولا اتصالا بين محتوياته ومقاطعه، ولا منهجا لمقاربته، فيكون الاشتغال مبتور الأصل، مشتت الرؤى، متشظي المعرفة. ونكون أمام كل ذلك قد ألغينا من مدخل اشتغالنا معطيات شكلت الواقعة المعرفية في زمانها ومكانها. ومنه؛ لكي تجد هذه الورقة مبررها المنطقي في دائرة البحث والدراسة لفكر علمنا الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي، لابد من إلغاء قصر المسافة الزمنية من حسابها بتحويل موضوعها " البعد النقدي في فكر المفكر العربي ماجد الغرباوي " من شهادة إلى كتاب يشتغل على هذا البعد بخيط ناظم لأغلب أعماله هو التاريخ لرصد سيرورة التفكير النقدي عنده أولا في متن أعماله، ثم ثانيا سيرورة تطور منهجه النقدي كرونولوجيا وإوالياته وآلياته وأدواته. يغطيه المستقبل - إن شاء الله - بزمنية واسعة، تمنحه فرصة التعمق والإدراك. وحشر نفسها - أي الشهادة - في مبحث من مباحثه، لتتماشى مع الشهادات في حق أستاذنا الفاضل. لذا؛ ستبحث في عناوين ثلاثة من منجزه الفكري، أولها إصدار الأستاذ سلام البهية السماوي حوارا وإعدادا، الثاني والثالث إصدار الأستاذ الكبير ماجد الغرباوي تأليفا:

1 - إخفاقات الوعي الديني " 2016 "؛

2 - تحرير الوعي الديني " 2021 "؛

3 - مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام " 2024 ".

عناوين وأخرى داعمة لها تسمح للورقة بإدراج نفسها تحت عباءة الشهادة، لعلها تفي وعدها لأستاذها الجليل بالكتابة حول منجزه الفكري من منظورها الخاص، وبمنهجية القراءة التحليلية للسطح والعمق، لأوراق كتبت بنفس تنويري في عالم إسلامي مغلق على موروث فكري ديني تراثي مرجعي، يقاس عليه الحاضر، وينظر من خلاله إلى المستقبل. فيه مكابح عجلة التفكير بكل أنواعه، وتحجير على الحاضر والمستقبل، وإجهاض للنهوض من التخلف الجاثم على الأمة، وللشفاء من الإعاقة الذهنية والنفسية والسلوكية. منها مثالا لا حصرا قولهم: {ما ترك الأول للآخر شيئا} و{ليس بالإمكان أفضل مما كان} تعديلا لقول أبي حامد الغزالي: {ليس في الإمكان أبدع مما كان} تبريرا للعجز أو سدا للفعل أو حصرا للتميز أو طلبا للاحتكار والمنفعة.

ج - في ظل الكتابة عن أعمال الآخر، تنبعث من أعمال المشهد البحثي أصوات مبحوحة، تدعي من باب الظهور والتفرد وشد الانتباه، المجاملة في الكتابة عن الآخر، تقربا منه أو جلبا لمصلحة ما. ويشيعون في القوم ذلك، لغرض في نفس يعقوب يقضيه أو قضاه. خاصة في زماننا هذا الذي استوعب أصلاء المفكرين وأشباههم ومنتحلي صفاتهم، يسترزقون بأقلامهم لمن يدفع أكثر ... ومن باب الخروج من دائرة المجاملة؛ تعلن الورقة أن بسط الكلام هو حقيقة موضوعية وعينها، يتتبعها القارئ في عناوين الأعمال المذكورة ومتنها الفكري، ويرصدها بعين النقد، للتأكيد أو النفي. خاصة أن الورقة لم تكن إلا قارئة لمنجز أستاذها ماجد الغرباوي بمنظار نقد النقد، فوجدت أن منجزه الفكري بصيغة الجمع، وبحمولة وعيه للعصر ومتطلباته، وبمنهجه النقدي، الذي قلما يشرعه الباحثون والدارسون والمفكرون والمثقفون في وجه التراث الديني، في ظل معرفتهم اليقينية بردود فعل الخصوم بهم الشديدة والمؤذية. لكن؛ من يقرأ الرجل يجد - صراحة وبصدق - أن النقد يسيطر عليه لا لذاتيته، وإنما لغايته. تلك التي منحته فكرا مجددا، (يتبنى أفكارا تنويرية راسخة، تتطلع لفسحة نور لانتشال المجتمع الإسلامي من تخلفه، وتنقيته من الأفكار والعقائد الدخيلة. أفكار كانت وما زالت بعيدة عن الإسلام النقي، إسلام القرآن الكريم. وعقائد تسببت في تخلف شعوبها، وتحطيم فكرة البناء، غير أن عقائد راسخة في عقول الناس، ومن الصعب التحرش بها، أو نقدها، لهذا يحذر الكتاب الاقتراب خوفا من سخط الناس إلا الشجاع منهم، رغم أن الجميع لديه ملاحظات وأسئلة حول الواقع المزري)[1]. وبالتالي؛ تأخذ هذه الشهادة مصداقيتها من مطلبها " القراءة فوق القراءة "، ومن شهادات كبار مفكري العرب والمسلمين ومثقفيهم وأكاديمييهم. وتخرج من نطاق المجاملة أو التحيز.

د - هذه الورقة في رصدها البعد النقدي في فكر المفكر العربي ماجد الغرباوي، ستعتمد أساسا على منجزه بصيغة الجمع، بتردد ثلاثة عناوين ضمن انفتاحها على امتداد هذا الفكر التنويري عند مفكرين آخرين، لتقدم كثافة كتابية تتمركز حول متون منجزاته الفكرية، وأنساقها وتاريخها ولغتها ومضمونها عرضا لأفكاره ورؤاه وأطروحاته خاصة الاشتغال تحت سقف منظومة الأخلاق. التي تشكل العمود الفقري لطرحه في "مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام". وهو في طرحه على صواب لأن الأخلاق كقيم توجه الأفكار والأعمال معا إلى الانضباط للإحسان (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)[2]. ففي الأخلاق أمر بعدل وإحسان، ونهي عن فحشاء ومنكر وبغي. بمعنى قيام المسلم بما عليه من واجب بإتقان وجودة وحرص على الصدق فيه حتى لا تضيع حقوق من كلفه بذلك الواجب، وليصفي ذمته من تبعيات واجبه أمام الله أولا ثم أمام مكلفه ثانيا، ويقوم لطلب حقه بذات الأخلاق والقيم والرفق والرحمة. فالعامل وصاحب العمل في الأخلاق والقيم سيان، كل يجب الالتزام بها وتفعيلها في سلوكه العملي تجاه الآخر، لا يطغى أحدها على الآخر. فلهما الأجر عند رب العالمين إن فعّلا الأخلاق والقيم فيما بينهما. فهذا المنهج الذي يدعو إليه جدير بالمناقشة والتبني. فهو قمين بإبعاد مناطق الشر والسقوط الإنساني عن أفكارنا وأعمالنا والإضرار بالكون ومكوناته بما فيها الإنسان. فهو منهج (يكرس القيم الإنسانية والروحية. يحفظ حرية الإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية. لا يتجاهل النص ولا يلغي دور الزمان والمكان في فعليته، يأخذ بنظر الاعتبار هدفه وغاياته. وهذا منهج تشريعي جديد، ينتمي لفهم مغاير للدين ومقاصده. يعتمد معنى جديدا لمفهوم قداسة النص، يخرجه من دوغمائيته وجموده. غير أنه يتطلب: العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق، من التعبد إلى التعقل، والانتقال من ضيق الفقه وسجون النص إلى رحاب القيم الأخلاقية ... يأخذ فيها العقل دوره معيارا للتمييز بين الصواب والخطأ، والحسن والقبح)[3]. وسيقف القارئ على متسع من القول تبيانا وتوضيحا ودعما لما ورد عند أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي من أطروحات وشروح وتوضيحات وردود عن تعليقات وتعقيب توسعة للوعاء المعرفي بالتراث الديني الإسلامي. لهذا كان قبل الصدى صدى، وصدى الصدى ملامح نقد.

-   قبل الصدى صدى:

بمنطوق عناوين المنجز الفكري الجمعي للمفكر العربي ماجد الغرباوي وظلال دلالته، نستشف البعد النقدي للمعطى التراثي الديني في كتاباته بمشرط علم أحياء الحفريات وأدواته، وبمقص علم التشريح الإنساني وحقينته العلمية التي تصب فيها روافد أنهار علوم عدة " الاجتماع، التاريخ، الأخلاق، الإنسان، الشريعة، الفلسفة، الآثار، المعرفية/الإبستيمولوجيا، الأحياء، اللغة ... "، تتظافر في اشتغالها على المجال الديني عامة، والإسلامي خاصة، في سياق تجديد التراث الديني بمختلف حقوله المعرفية، وتطويره وتمهيره تكيفا واستجابة مع الواقع الراهن المعيش، المفارق للماضي ووقائعه وأحداثه ونوازله. الماضي الذي ما فتئ يستولي باسم التشريع وصلاحية منتوجه الحكمي لكل زمان ومكان على الحاضر والمستقبل بدعوى القدسية والقياس عليه. فنحن في تراثنا الديني وسياق حياتنا الطبيعية ومفرداتها اليومية (أمام ماض لا يمكن إلا أن يصبح حاضرا ولكنه لن يكون كذلك إذا غدا حضوره ثقيلا جاثما مكبلا لكل حركة، قاضيا على الزمان. وهي الحركة التي يناهضها الفكر الديني المتعصب بمذاهبه وتياراته الفكرية والعقائدية المختلفة، الذي يبقي التراث الديني ساكنا راقدا، محاطا بسياج قدسية العقيدة! فهو الهيكل الديني، الذي يحميه المجمع الفقهي بما يحوي من تراثيات وفقهاء وشيوخ وأهداف ومصالح، أغلبها تتماشى مع النفعية الفردية أو الجمعية أو السلطانية، وبما يضمن تحريم الاقتراب منه بأي نقد أو مساءلة، فبالأحرى منطق الشك المزروع في ذاتية الإنسان وطبيعته، المعبر عنه بمجموع علامات الاستفهام التي يطرحها على نفسه، وعلى الآخر، وعلى موضوعه. وهو منطق الوعي الإنساني الذي يفصله عن ذات غيره، ويوصله بذاته ذاتا بيولوجية وفيسيولوجية، ليشكل استقلاليته وحريته وفردانيته عن الآخر والأشياء، بما يؤصل وعيه بذاته وبوجوده، بمنطوق الذكر الحكيم: (ذرني ومن خلقت وحيدا)[4] و(كلهم آتيه يوم القيامة فردا)[5]. وبما يزيح شدة ضغط الماضي التراثي الديني عن مفاصل وتفاصيل حياته اليومية في عالمه المعاصر؛ (لتعزيز حالة الوعي، وتكريس منطق النقد والتفكير والتحليل، بعيدا عن العواطف والدوافع الأيديولوجية)[6]. وبما يسحبه من دائرة التقليد، وهي أشد الدوائر عبئا على عقل المسلم. تكبله؛ بإلغاء روح التفكير المستقلة والحرة من أجل استنساخ أخرى على المذهب الهندوسي، تتمثل في العالم والمفتي والفقيه والشيخ والمقَلّدَ من حراس العقيدة. فيعطل بإرادته تحت مسمى الفقه والمعرفة الشرعية والاختصاص والدراية والخبرة الدينية والتقليد المذهبي كل كفايات ومهارات وقدرات التفكير عنده، فيصير إلى التبعية والتفسخ العقلي والفكري في قطيع التوابع الإنسانية، التي ستسأل لوحدها عما صدر عنها بتكليف رباني لا قول فقهي بشري، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)[7].

فقضية نقد التراث الديني عند أغلب حراس العقيدة قضية حساسة دونها التكفير وسفك الدم، لنكران ما يجب الاعتقاد به، ولو كان قول شيخ مفسر أو فقيه مجتهد، تحول من الاجتهاد إلى الاعتقاد. ذلك أن قوله يدخل في بنية المقدس المتعبد به؛ وهي القضية التي يجب الاشتغال عليها بفكر نقدي حجاجي وإبداعي في نفس الوقت فضلا عن كونه تفكيرا علميا، يقدم بين يديه الحجج والأدلة متجاوزا دوكسا الجمهور والتابعين والمريدين. بما يشكل طرحا فكريا يلعب فيه السؤال الدور المركزي لهدم قضية التراث الديني من جديد وإعادة بنائها على أسس منطقية وعقلانية وموضوعية وتاريخية حقيقية، تجعل السنة تتماشى مع القرآن الكريم، ولا تقضي عليه. فالقرآن الكريم هو المرجع الذي يجب الاحتكام إليه بمنطوق العديد من الآيات البينات، (إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)[8]، و(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا أن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)[9]، و(من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)[10]. ولا يضاهيه أي كتاب سواء صحيح البخاري أو غيره، فقول: " أصح الكتب بعد كتاب الله صحيحا البخاري ومسلم " يفيد تصريحا وضمنا أنهما لا يأتيهما الباطل من الجهات الست " فوق/تحت، يمين/يسار، أمام/خلف "، ويضفي عليهما القدسية كالتي للقرآن الكريم لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله كما تفيد ذلك أقوال علماء الحديث! وقد قيل فيهما الكثير منذ تأليفهما قبولا ونقدا واستدراكا؛ ما يعني أنهما لا يتمتعان بخاصية الصحة بعد كتاب الله تعالى، والقول بهذا يبين أن قائله لم يدرك قوله، ولم يستوعبه، ولم يمحصه قبل أن يلفظه. فالكتابان مؤلفان من البشر، والبشر مهما أوتوا من دقة وحنكة وكفاءة تبقى أعمالهم ناقصة. لذا؛ فإسنادهما للبشر يعني حتما النقصان؛ ومنه، لا يجوز بالمطلق القبول بهذا الحكم " وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز " لحمل دواعي النسف من داخل بنية الكلام نتيجة صدورهما عن البشر.

- صدى الصدى ملامح نقد:

وبظلال معاني عناوين المنجز الفكري الجمعي للمفكر العربي ماجد الغرباوي وإشراقات دلالاتها، نلمس وجود البعد النقدي للمعطى التراثي الديني في إصداراته؛ متنوعة الحقول المعرفية الراهنة، التي شدت وتشد إليها المفكرين والأبحاث والدراسات لتعلقها بحياة المسلم خاصة والإنسان عامة، لما لها من ارتباط وثيق بتفاصيل الحياة على مستوى المعتقد والسلوك، وما ينتج عنهما من أفعال وردود أفعال، هي في الأخير محصلة الإنسان التي يسأل عنها في الدنيا والآخرة انطلاقا من باب التكليف، بما يحمل من دلالة الإرادة والمسؤولية والاستقلالية والحرية، والتي تتنافى والتقليد والتبعية في التفكير والرؤية والمسلك بإلغاء الذات في الذات، وهو ما يسمى الاتصال بمفهومه العضوي أو بمفهومه المجازي، والذي يستوجب التمحيص العقلي بما يؤدي إلى الانفصال بمنحاه الفلسفي. وسأتحدث عن البعد النقدي لفكر الأستاذ ماجد الغرباوي ممارسة للانفصال عما في التراث الديني من اتصال، وعليه سأثني على مفهوم الانفصال، ذلك الذي أجراه مراجعة لبعض مناطق التراث الديني بطبيعة قولها البشري. وهو ما ذهب إليه؛ بما أنه يحمل مشروع تجديد التراث الديني من خلال هدفية (مشاريع التجديد، التي نادى بها المجددون، الارتقاء بالفقه إلى مستوى تحديات الواقع وأسئلته التي هي نتاج تطور المعرفة البشرية. سواء معطيات العلوم الإنسانية حول: مصادر المعرفة، طرق التفكير، اللغة، النص، التأويل. وسواء العلوم الطبيعية وما حققته من فتوحات علمية وتقنية، غادر معها الإنسان عالما كان يرتهن إرادته لرجل الدين. وبات منطق العلم وليس الخطاب الديني الذي هو السائد والموجه لإرادته. فالمعاملات البنكية الحديثة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وطرق التعاملات المالية عبر وسائل الاتصال الحديثة، التي لا تحقق شروط العقد الشرعي كالإيجاب والقبول وغيرهما، ما هي سوى أمثلة بسيطة من طيف أسئلة الواقع الجديد كالاستنساخ، زراعة الأعضاء، التبرع بالأعضاء، أطفال الأنابيب، المعاملات الربوية، الذكاء الاصطناعي، الريبوتات، هندسة الجينات، وغيرها كثير، يقف أمامها الفقه عاجزا ما لم يعتمد منهجا جديدا لملء الفراغ التشريعي، ويعيد النظر في مقدماته الكلامية والأصولية.  يتحرر من سجون النص وسلطة السلف، ويكف عن تهميش العقل والأخلاق. هكذا يكون التجديد منتجا، يخرج الفقه من حالة الانسداد التشريعي إلى أفق المرونة والانفتاح، عندما يعتمد العقل مصدرا تشريعيا في موازاة النص، وتكون الأخلاق حاكمة على الأدلة الأولية، تحول دون وقوع التعارض بينها وبين الأحكام، وتغدو أساسا لتحديد مستوى الإلزام فيها)[11].

في عناوين المنجز الفكري الجمعي للمفكر العربي ماجد الغرباوي نلمس بحس القراءة المتبصرة مناطق النقد ودلالة كلماته وألفاظه وأسلوبه، ومنبع التساؤل وهو أصل التفكير النقدي نواة تشكيل الرأي الآخر وتعدد الرؤى والاتجاهات بما يغني المشهد الفكري ويثريه. ومنه؛ تستدعي هذه القراءة المتبصرة من القارئ إطلالة وجيزة على معطى التفكير النقدي اتجاها فلسفيا واتجاها عمليا في كتب الاختصاص. الذي يعري على المستور، ويقتحم المجهول، ويحطم المقدس بالانتقال به؛ من العاطفة والحساسية إلى العقل، ومن غموض وتشويش اللفظ إلى وضوح المفهوم، ومن الملموس إلى المجرد المصورن. ويعيد ما هو منزه إلى ما هو عليه، وما هو غير منزه إلى ما هو عليه، بمعنى يعيد القول المقدس إلى قدسيته، والقول غير المقدس/البشري إلى بشريته، وينزع عليه تلك القداسة التي هالته، والحرمة التي أضفيت عليه لإزاحة الاقتراب منه بمشرط النقد.

- قراءة في عناوين الأعمال الثلاثة:

هذه قراءة تحليلية للسطح والعمق للعناوين المذكورة سابقا، للكشف عن البعد النقدي فيها من حيث التركيب والدلالة وفق ترتيب كرونولوجي، تعاقبي الزمن، كما يلي:

1 - إخفاقات الوعي الديني " 2016 ":

1.1. إخفاقات الوعي الديني على مستوى السطح:

يتجلى البعد النقدي على مستوى سطح التركيب في كلمة " إخفاقات "، وهي بالجمع وليس بالمفرد، ما يدل على تعدد الإخفاق وتنوعه، ومساحتها الشاسعة، ومجالاتها المتعددة. فالعنوان التمس لفظ الإخفاق ليخفف من حدة الفشل في وجه الوعي الإسلامي؛ لأن الإخفاق في اللغة من الدخلة المعجمية " خفق "[12]، ومن بين معانيها: الضرب الخفيف، والتصويت، والاضطراب والتحرك، والغياب، والخلو، والتخييب، والدهاء، والفشل. وهي من مزيد الفعل الثلاثي بهمزة للدلالة على تعدي الوعي الديني بمعنى اللاوعي الديني على المجال الديني وعلى المجتمع الإسلامي الذي كان متقدما عن الغرب في عصوره المظلمة، وتعدى بفعل الإخفاق بالهمزة إلى هذا المجتمع، فأدخله في ظلام دامس. فشده قبل كل شيء إلى الخلف والتخلف بعوامل عديدة من أفكار ورؤى وأفعال ومقولات خاطئة كالتقليد في المذاهب، والتقديس للأثر والتراث وحتى الأشخاص كما في الأشراف، فقد (ابتلي المسلمون والعرب خاصة بنزعة تقديسية باعدت بينهم وبين الحقائق، حتى استغرقت القداسة أتفه القضايا، وبحجة القداسة أحجمنا عن النقد، الذي هو أساس تطور الشعوب، وبقي كل شيء على ما هو عليه تقديسا للماضي والتراث وعادات وتقاليد الأجداد. أنا لست ضد كل هذه الأشياء لكن ضدها عندما تكون عائقا للوعي والتطور، حينئذ أرفضها، وأبالغ في نقدها كي تفسح المجال للعقل يمارس دوره ويتفتق إبداعه)[13]. وبما دس فيه من سم لأغراض سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تربوية أو ذاتية. ذلك؛ (المسلمون الآن لا يتمسكون بحبل القرآن بقدر تمسكهم بأهوائهم ومصالحهم الفئوية والطائفية والسياسية، حتى عمدوا إلى تفسير النصوص لصالحها. فأفرغت من محتواها وفاعليتها. وصارت تدعم هذا الطرف وتذم ذاك. وهذا حال المسلمين منذ وفاة الرسول وإلى يومنا هذا)[14]. ما عوق الإنسان المسلم ومجتمعه من الانطلاق إلى الحاضر والمستقبل بتقليد أعمى للذي مضى؛ إذ (التقليد صفة أخرى ابتلي بها المسلمون ... الحاضر يقلد الماضي في كل شيء، فخبا الإبداع، وقمعت القابليات. والتقليد وليد شرعي لثقافة التقديس ... تقديس الماضي، وتقديس السلف، فما زلنا بعد ألف وخمسمئة سنة نقلد السلف الصالح، ونستفتيهم بشؤوننا وحاجاتنا، وكأن الواقع لم يتغير. أنا لست ضد السلف الصالح، ولكن لهم حياتهم وحاجاتهم وتطلعاتهم، ولنا حاجاتنا وتطلعاتنا وظروفنا، وعلينا أن نجتهد من أجل بلورة أجوبة شافية لكل متجدد في حياتنا)[15]. وعوقه بفساد سياسي (حيث اصطف رجل الدين مع المستبد السياسي فراح يشرعن سياسته القمعية. ويمنحه شرعية في تصرفاته وسلوكه، فأصبح الظلم والاستبداد باسم الدين والتشريع، ولعل مثاله الواضح رجال الدين ممن اصطف مع خلفاء الدولة الأموية والعباسية، أو سلاطين الدولة العثمانية وشاهات الدولة الصفوية، وتأثيرهم السلبي على حركة التحرر، حتى بقت الشعوب ما يقارب 500 سنة تحت ربقة الاستبداد السياسي بفضل الاستبداد الديني، لأنه باسم الدين والإله، والناس تصدق ذلك بطيبتها وقلة وعيها. الاستبداد الديني يمنح قدسية للمستبد، ويحرم الخروج على سلطته فيساهم في ترسيخها على حساب الشعب وتطلعاته)[16]. وعوقه التفكير الصفري الماص نسبة للصفر في عملية ضرب الأعداد، حيث الجداء دائما يساوي الصفر. فالتفكير الصفري هو في عمقه صفر، ويحول جميع أنواع التفكير إلى الصفر بإلغائها من الوجود قمعا وعنفا وقتلا، فهو أخطر أنواع التفكير على العقل المسلم؛ إذ يعتقد بأنه الوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة، ودونه يجب على الآخر أن يعترف به ويعتنقه، وإلا محاكم التفتيش بالمرصاد له فتكا. فهو الفكر الوحيد الأوحد على الصواب لأنه على المنهاج النبوي وسنته عليه الصلاة والسلام وعلى آله الميامين الأماجد الأبرار. ومنه الفكر التكفيري الذي يعود (في جذوره إلى قراءات مبتسرة عن الدين، وتأويلات خاطئة للآيات والأحاديث الخاصة في مجالي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [ومجال مؤسسة الأسرة خاصة رؤيتهم للمرأة وموقعها من الوجود والعقل والفعل والتأثير والتأثر والحرب والسلم][17]. ثم عزز هذا اللون من الفكر فتاوى دينية استباحت قتل الآخر، وهتك حرمته. وهو نمط سلوك عدواني تسبب في تراجع الفعل الحضاري، وانتكاسة كل الجهود المكرسة له. حتى بات الغرب يساوي بين المسلم والإرهابي. وللأسف تفاقمت الحالة مع تراجع الوعي، وتوافر الدعم السخي من قبل جهات تسعى جاهدة لتفتيت لحمة الشعوب العربية والمسلمة وتمزيقها في ظل خطاب طائفي وآخر قومي أو ديني. حتى غدت تلك الصراعات سمة تميز منطقتنا، رغم ما تزخر به من ثروات وخيرات)[18].

وزيادة " خفق " بالهمزة تدل على إدخال الوعي الديني بمفهومه السابق المجتمع الإسلامي بما له من بعد فردي وبعد جماعي؛ بمعنى الأمة إلى زمن الانحطاط والتخلف الحضاري والانكسار والهوان، في جغرافية المكان بأطلسيته الترابية ودلالتها الفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتراثية والسياسية والإثنية والشعبوية الضيقة الإقليمية والمحلية. التي تضع الحدود والتخوم للبقع الترابية في المشهد العام للمجتمع الإسلامي تأثيرا وتأثرا. وترفع من شأنها أمام ما هو أعم وأوسع كالوطن والمواطنة وموجبات الدولة من مؤسسات وقوانين وفعاليات. ف- (مجتمعاتنا مجتمعات قبلية، تحكمها قيم العشيرة. فولاء الفرد دائما لقبيلته، سواء كانت على حق أم باطل)[19]. وبذلك، فالانحطاط والتخلف الحضاري أوسع، هو انحطاط الفكر وتخلف التفكير، وظهور الخرافات والهمروجات والخزعبلات والأساطير في مشاهد حياتية ووقائع معيشية حية في المجتمع كاستحضار الجن وتسخيره لقضاء الحوائج، وتقديم القرابين له تحت أنظار الدجالين والمعتوهين والمسطولين أو زيارة العرافين والشوافين لاستقاء المجهول والمستقبل بتكهناتهم وتوقعاتهم أو زيارة القبور والأولياء والصالحين وأضرحتهم، وقد صاروا إلى الموت لا يسمعون ولا يتكلمون، فكيف لهم بقضاء الحوائج والأغراض وهم أحوج إلى الدعاء بالرحمة والمغفرة؟ (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين)[20]و(ما يستوي الأحياء ولا الأموات، إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور)[21]. وتلك زيادة همزة في الإخفاق بإدخال العقل المسلم في (اليقين السلبي، [الذي هو] حزمة جزميات وقناعات راسخة، توجه وعي الإنسان وتضبط سلوكه وحركاته ومشاعره. ومثاله البسيط إيمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العملية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح، فيتقاعس عن العمل وطلب الرزق، بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرضى وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء وسلوك الطرق الطبيعية للتكسب. فهذا اللون من الإيمان واليقين يعيق تطور المجتمع. لذا تعشعش هذه الأفكار في المجتمعات المتخلفة والشعوب البدائية، وللأسف ما زال شطر كبير من شعوبنا يعتقد بكل هذه الخرافات والأساطير، بينما العالم الغربي يقفز خطوات كبير في عالم السعادة والرفاه. وسلسلة اليقينيات تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان أنه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا. وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتفكير الآخر، وربما استباحة دمه كما يفعل المتطرفون الإسلاميون، من اتباع الحركات التكفيرية)[22]، وباتت (حياتنا حقلا ملغما بيقينيات لا يسمح لك المجتمع بالتشكيك بها، بل ربما يعرضك الشك إلى القتل من قبل المتزمتين)[23].

كما أن هذه الزيادة الهمزية تسلب للوعي الديني وعيه؛ من حيث الوعي الواعي لا يهادن الضلالات الفكرية والعقدية المبنية على مجهول الأصل أو المتناقض مع المتن المقدس القرآن الكريم بصراحة ظاهرة وجلية وصريحة أو يقبل بملتبس الثبوت والدلالة. ولا يقبل كذلك الوعي الواعي بإزاحة العقل وهو مطلب إسلامي بصيغ التفكير والتفكر والتدبر والتعقل، واللب والبصر والبصيرة ...  ومبدأ النقد ومنطلق الشك أو الريبة على الأقل في مجال البحث مهما كان موضوعه وقضاياه ومشاكله وإشكالياته، لأن ذلك ضرورة لتعرية الأتربة والأوحال عن الكنوز الأصلية والأصيلة من تراثنا الديني، (والغريب [في هذا السلب] حتى الوقائع التاريخية لا يسمح لك عندنا مقاربتها والبحث عن حقيقتها، وإنما عليك التسليم والإيمان بها مطلقا وفقا لعقيدة العوام. وإلا ستكون خارجا على الدين والمذهب. من هنا تجدنا نتفاخر بأشياء لا نعرف ما هي حقيقتها، ونخشى مقاربتها خوفا من انكشاف زيفها)[24]، من قبيل: حكي عن أحد الصالحين أو العارفين بالله أو رأى في منامه فلانا يقول له أو جاءه في المنام حاملا ... وقارئا عليه السلام ... فتصير رؤيته عقيدة يتعبد بها ويعمل بها شريعة بالناس!؟ فهل الرؤيا المنامية تشكل عقيدة يتعبد بها؟ وتصبح من اليقينيات وتدخل في النص الديني المقدس من قرآن كريم وسنة صحيحة؟ في حين اللاوعي الديني ينكر على بعض الفرق القول والإيمان بالمنامات، ويوردها في سردياته هو باسم أهل السنة والجماعة أو الداعشية!؟ ولعله (من أسباب هذه اليقينيات، إضافة إلى سذاجة الوعي، وسوء الظروف المعاشية والاجتماعية، تراثنا المشحون بروايات عن السلف ترسخ تلك اليقينيات وتمنحها صفة شرعية، يصعب مناقشتها فيسلم لها ويتعبد بها كيقينيات غير قابلة للشك)[25]. وتلك آفة العقل والفكر الحر والناقد، ومكبح لانطلاقه في تفكر وتدبر وتبصر سنن الله التي أودعها في مخلوقاته، (فالبعد الفكري أساس في فكر المسلمين، من حيث وعيهم للحياة، ودورهم على الأرض. فقدم القرآن تصورات كافية، ورسم أهدافا مفتوحة، عززها بمحفزات مادية ومعنوية. فمثلا عندما يقول القرآن {قل سيروا في الأرض فانظروا ...}. والمسير في الأرض مع التفكر، يفتح آفاقا واسعة لحركة العلم والمعرفة. وأيضا الآيات المحفزة هي كثيرة: ألا يتفكرون، ألا يعقلون، ألا يتدبرون ... أو ما يعزز هذا المعنى حث الرسول [صلى الله عليه وآله وسلم] على طلب العلم: {اطلب العلم من المهد إلى اللحد} {اطلب العلم ولو كان في الصين} ... أو آيات العمل الصالح الملازم للإيمان فإنها كثيرة جدا، والعمل الصالح لا ينغلق على موضوع محدد، وإنما ينفتح على كل عمل فيه صلاح للإنسان).[26] فالفكر أساس كل شيء في فكر أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي وثقافته الدينية، ومرتكزه إلى المرور إلى تجديد التراث الديني، وإلى النهضة الإسلامية وما تعنيه من مسايرة معطى العصر الحضاري، وإلى التنمية البشرية والحجرية.

وهي الزيادة بالهمزة لخفق ردفا على ما سبق، تفيد في مقامنا هذا كثرة الإخفاق متعدد الوجوه مستخلصة من عنوان المنجز الفكري، والمسجلة في مجالات عديدة، رمزها المعبر عن مجملها عنوانان عريضان هما إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري؛ يتقاسمان السبب والنتيجة، بمفهوم المقدمة ونتيجتها؛ فإخفاقات الوعي الديني في المجتمع الإسلامي المرتكز على التراث الديني بحمولته الفكرية والمذهبية والطائفية بقوة، في وجوده ومناشط هذا الوجود، سبب حقيقي لكل الإخفاقات " الإخفاق الفكري، والعملي، والسياسي، والسلوكي، والأخلاقي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، والصناعي، والتكنولوجي، والبيئي، والعمراني، والتدبيري ... " لأنه ينزع من الإنسان وازعه وضميره الإنساني، وروحه السامقة بالقيم والأخلاق، فيستبيح كل المحرمات فضلا عن مكتسبات الحلال، بما يعني الذهاب إلى وجوده المادي بأبعد مدى، لا يهمه من وجوده سوى شيئيته وحاجاتها وحاجياتها ومطالبها الفيزيقية. فيغدو إلى نفي ما جاء من مساحة الوعي[27]، حيث الإخفاقات استطاعت أن تصنع إنسانا جاهلا لذاته ومسؤولياته ... لا يقبل بتداول السلطة سلميا، ولا يتعايش مع الآخر رغم تناظر أو تطابق الثقافات والديانات ... يجيد لغة الخلاف، ويتمتع بعبودية واسعة، في ظلها تنكمش وتضمر إبداعاته على جميع المستويات، ولا يمارس طقوسه الدينية بحرية في ظل عبودية دينية، ولا يعبر عن قناعاته بشفافية ضمن انحصار حرية الرأي والاعتقاد أو انعدامها. كما لا ينجح في استبعاد سلطة مؤسسة حراسة الدين الإسلامي عن ممارسة الوصاية على الأفراد والجماعات والمجتمع، والتحرر من ثقل التراث والماضي والعادات والتقاليد القبلية المكبلة، ويرتكز إلى الجهل والتضليل والشعوذة الفكرية. فتنتفي عنه صفة ومضمون ومفهوم ودلالة الوعي، بما صار إليه في الشرق، حيث نحن في المشرق العربي والإسلامي (ما زلنا نرفض الآخر ونصفه بالكافر و"النجس"، بما في ذلك الآخر الداخلي، أعني المسلم، الذي نختلف معه مذهبيا، فيجيز لنفسه ذبح أخيه، لا لشيء سوى هذا الاختلاف البسيط. وحتى لو اعترفنا بالآخر نعترف به منة وتفضلا، بينما الغرب يعتقد أن الآخر شريك في الحقيقة، فالاعتراف به حقيقي، كما هو الاعتراف بالذات)[28].

ويبقى لما تبقى من معاني زيادة الهمزة حضور في إخفاقات الوعي الديني، من التعريض، وصيرورة مؤسسة حراسة التراث الديني من مشتقات الإخفاق لأنها هي مصدره، وبلوغ الإخفاقات بهذا التخلف والنكوص الحضاري حدا لا يمكن القبول به، وبتنا معه (بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها. ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله. والعودة إلى مصادره وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره)[29].

- ما بين الإخفاق والوعي:

هذه المعاني التي أكسبتها زيادة الهمزة للمدخل المعجمي "خفق" على مستوى سطح تركيب العنوان، يزيدها سيميولوجيا تركيب متناقضين جمالا، ليوحي من خلال الأول نفي الثاني والعكس صحيح؛ ينفي الثاني الأول، وهما:

- إخفاقات؛

- الوعي الديني.

فالإخفاق لا يتماشى مع الوعي الديني، لأن هذا الأخير يرتبط بمفهوم الوعي بشكل عام، وبمفهوم الدين بشكل خاص. فالوعي الديني كاف للكشف عن الواقع الإسلامي المتخلف، من حيث العوامل، والأسباب، والمشاكل، ليقترح مشروع المقاربة والحلول والمعالجة والاستثمار ضمن مطالبها الموضوعية والأداتية عن رشد وبصيرة، وبعلمية ومنهجية منضبطة لأصول مناهج البحث واستراتيجياتها، يكون فيها العقل مدركا وفاهما للوقائع والمعطيات فهما سليما واضحا، ماسكا بها ومحللا لها، عاملا على التواصل المباشر معها. فهو يدركها ويستوعبها ويدرسها لأجل تفكيك إوالياتها، ومعرفة الأمور وحقائقها التي تجري عليها بالبراهين والأدلة والحجج، محاولا إيجاد الحلول المناسبة لها، مما يطور الأفكار ويرصد الحلول الناجحة. فالوعي الديني يمنح الفرد سمته العقلانية، والمجتمع تطوره وتقدمه. ويبني الفرد والمجتمع على أسس دينية صحيحة وعلمية ومعرفية متينة، وعلى أرض صلبة من الأدلة والحجج والوقائع الحقيقية والصحيحة، وعلى إيمان العقلي لا الوراثي. وهذا الوعي الديني بهذا المعطى يشكل ذاتا عارفة بحاثة تقف على دقائق الأمور وتفاصيلها وتسائلها بمبادئ العلم والعقل والخبرة والتجربة، ليكون اشتغالها عقلانيا منظما ومنضبطا لا عشوائيا ارتجاليا أو عاطفيا متسرعا. فتكون الحلول مناسبة للمشاكل والقضايا والإشكاليات المطروحة عليه. ولا يركن إلى الاستسلام للجاهز والمجتر والمتكرر برسم العادة والتقليد، وادعاء الجهل لتبرير الأخطاء على حساب الآخرين أو لقضاء المحرمات بمنطوق ألسنتهم وذمتهم. فذلك منهج المستسلمين والتابعين والمقلدين الذين لا يبذلون الجهد إلا اضطرارا، وإنما كسلهم عندهم أحلى من العسل، في مقابل ألسنتهم الحادة اتجاه نقادهم وخصومهم، برفع لغة تكمم أفواه ناقديهم، وتخنق أصوات المعترضين عليهم، المستنكرين لكسلهم وتعميتهم الحقيقة. خاصة منهم، من يسمون بالمصلحين والتنويريين، بما فيهم من قرآنيين وحداثيين؛ أولئك الذين لا يرومون سوى تجديد التراث الديني بفهوم ومناهج وأدوات ونماذج ومفاهيم جديدة، لتغطي الخطوط الحمر وأسلاك الحدود الشائكة وحراسها وجيوشها وخنادقها وأبراج مراقبتها. ف- (لا شك أن صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة كل ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا.   فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شيء. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات. وليس من المعقول أن نبقى متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتى الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم. وتحاصرنا الشبهات والتهم)[30]. فالوعي الديني المتمسك بالنظر العقلي بمعنى الفلسفة يدفع الإنسان إلى معرفة الحق والحقيقة بطرح سؤال معنى الحياة وحقيقتها ومآلها، وسبل عيشها في سلام وسعادة تحت النقاء الأخلاقي والإيمان الديني بالخالق جل وعلا، وبتوابع الإيمان، التي تسائل الوجود وأشياءه عن علتها ونتائجها، بما يفضي إلى الإيمان العقلي الراسخ في الروح والنفس والجسد، المتحرر من كوابح رفض الآخر، المتعطش للحوار والعيش المشترك ... وعي لا يذهب إلى تكريس التخلف والنكوص الحضاري في المجتمع، ولا يبرر الأخطاء وعوامل الانحطاط، وإنما يناهضها ويحاربها ويعري عليها، ويجدد الرؤى وفق معطيات العصر ومطالبه ومتطلباته، ويعمل على خلق عوامل القوة في الفرد والمجتمع، لا عوامل الاستكانة والبهدلة والدروشة وضعف الشخصية الفردية والجماعية للإنسان المسلم. بل؛ الوعي الديني الحي يحيي الناس والمجتمع ويقودهما إلى نهضة الضمير والإيمان والعمل بدثار القيم والأخلاق الإسلامية النبيلة، والتشريعات والقوانين الشرعية الصحيحة العادلة والبانية والمقتدرة على إحداث التغيير المجتمعي. وبناء عليه؛ وعلى واقعنا المر والهش والمريض بكل الأمراض، وعلى مختلف المستويات والمجالات، وما نحن عليه من وجود وسلوك معتل مختل؛ لا يمكن في هذا الواقع المر أن نسم معرفة مجموعة من الأطر الناظمة الإيمانية والاجتماعية والسياسية والسلوكية المحددة لسلوك الإنسان ومعتقداته في المجتمع الإسلامي، وإيمانه بخالقه وملائكته وكتبه واليوم الآخر بالوعي الديني، ما لم يحدث التغيير والتطور المنشود، ويناسب العصر ويتوافق معه، لأن كل ذلك مناقض لمضمون مفهوم الوعي الديني. وأقرب منه إلى اللاوعي الديني أو الوعي اللاديني، لكي يناسب الإخفاقات. وأما أن ننسب الإخفاق للوعي الديني فذلك خروج أحدهما عن سياق التخلف والانحطاط والنكوص الحضاري، لأن المناسب أن نسم الوعي الديني بالتعثر في مسيرة فهم الدين والواقع والعصر وبناء منظومة القيم والأخلاق والأحكام والقوانين والتشريعات الشرعية والنماذج الإسلامية المناسبة والمتساوقة مع المجتمع الإسلامي الحقيقي، لأن التعثر يقع في سيرورة حدثية عملية مستمرة لا منقطعة كما في الإخفاق. ذلك أن السير يكون قائما قبل العثرة، ثم يقف أثناء العثرة، ليستأنف السير من جديد. لكن في الإخفاق؛ فإننا نتوقف عن السير في نفس المسار، لنحوله إلى مسار آخر أو نعدله بشكل كبير. والمسار هنا لا يقف عند مفهومه المكاني وإنما يتجاوزه إلى دائرة سيميولوجية واسعة، من مسار فكري، ومنهجي، وموضوعي، ومجالي ... والإخفاق يستدعي مراجعة الاختيارات والنظريات والمناهج والأدوات. والإخفاق مدعاة الأمراض النفسية.

وأما الإخفاق بدلالة الكثرة والمبالغة، وبسيميولوجيا عدم قدرة الوعي الديني على استيعاب متغيرات العصر والتكيف معها وإيجاد الحلول والأطروحات المناسبة لها دينيا تأطيرا نظريا، وإجراء تطبيقيا، وحلا لقضاياه ومشاكله وإشكالاته وفق روح الدين الإسلامي. وعجر الفكر الإسلامي بصيغة الأصولية، والسلفية السنية التنظيرية، والإخوانية السياسية؛ المحتكرة للمجال الديني في العالم العربي والإسلامي، والمتحكمة في شعبويته السلبية بالتشريع والفتوى والتثقيف والدعوة وبالنصح والنصيحة ورفع الفضيحة بسيرة السلف الصالح، عن مواكبة معطى الحداثة وما نتج عنها من فكر حر عقلاني علمي، ونظريات مؤطرة ونماذج فكرية عملانية، ومن تحديات داخلية وخارجية في سيرورة تطور المجتمعات الإنسانية ونتائجها، التي غطت العالم كله بسبب التطور التكنولوجي والتقني والرقمي والافتراضي، والعوالم العلمية والإعلامية والبحثية، والوقائع الإجرائية الميدانية. فوقع هذا الفكر الإسلامي بهذه الصيغة في المأزق التاريخي الذي يعيشه المجتمع المسلم من إخفاقات ونكوص حضاري فضلا عن التخلف الفكري والعلمي والتنموي، الذي لم يعد يدري كيف يخرج منها تنظيرا وعمليا وإجرائيا. وهو مازال يروج للأفكار البالية التي غطت العصور الماضية، ومازال لم يمسك بعد بخطاب الحداثة، خطاب ثقافي وديني يربي على قيم الحرية، والديمقراطية، والمواطنة، والفكر العلمي الحر والمستقل، والحوار، وقبول المختلف والمتنوع، والتسامح، والتقاطع، والتكامل، والتعاون، والعيش المشترك، والشريك المختلف في الوطن، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، والنقد، والإبداع، والاستيعاب ... ويتمدرس عليها الطفل منذ نعومة أظافره حتى تسير من شخصيته الفردية طبعا أكثر من تطبع، ومن مجتمعه سمة وسلوكا جماعيا، واجتماعيا ثقافة وفكرا متداولا، وتسير إلى اللغة الأم المشبعة بحمولة الهوية، وإلى الخطاب اليومي كالغذاء والماء والهواء، مما يستوجب على خطابنا الثقافي والديني أن يستفيد من محصلة العلوم الأخرى، لكي يستطيع مسايرة العصر ومنتوجه الفكري ومنتجاته المادية والتكنولوجية. ولكي يجدد خطابه وفق لغة العصر، فيساهم في إصدار الأحكام بعقلانية، واتخاذ القرارات الناجحة دون الإخفاق في مواجهة متغيرات المجتمعات الإسلامية وضروراتها.

وبما أن الإخفاقات في العادة تتضمن على الغالب فرصا للنجاح إن استقينا معلومات عملية متعلقة بمكامن الإخفاق ودرسناها دراسة علمية ودقيقة ومفيدة، تصبح عامل نجاح وتجاوز الإخفاق بما تمنحه من معالجة للاختلالات والأخطاء والثغرات بشكل أكبر، فهي تساعد على تحسين وتجويد وتطوير الأداء بطريقة أفضل. والإخفاقات تشكل ضرورة وجودية لأهميتها في تعلم الإنسان لما تحمل من أخطاء في القرارات أو القرارات الخاطئة بذاتها أو من تشوش الرؤية والتقدير أو في المعلومة والإحاطة بالمشكل أو من التشخيص أو الأدوات والأطر التي نشتغل بها. وكذا؛ نظرتنا إلى الفشل أنه خطيئة أو بالقبح ... وعدم التعاطي معه من ضرورته الوجودية للتعليم والتعلم والتربية، فضلا عما يحمل من فرص النجاح إن أحسنا قراءته والتعامل مع بنيته ووظيفته في سياق وروده. ما يفقدنا مصدرا للتعلم من تجاربنا غير الناجحة بشكل كاف، ومن خبراتنا ومعرفتنا وإمكانياتنا بشكل واع ومسؤول. فنحن في العموم لا نتعلم من مثيلات إخفاقاتنا التي ارتكبها غيرنا من قبل ووقع فيها، ونحبذ عود على بدء. ولا نستنتج ونستخلص العبر والدروس من إخفاقاتنا وأخطائنا، ونتجاهل الإشارات التي تشير إلى بوادر أخطائنا، ولا نهتم بها، ولا نكلف أنفسنا جهد وعناء التعلم من دروسنا الناجحة، فتجدنا نكرر الإخفاقات؛ فلو لم نكررها لتقدمنا وتقدمت شعوبنا. والإنسان بطبيعته يكره الفشل وينظر إليه سلبيا، خاصة في هذا العصر الذي تعاني فيه الإنسانية من الفشل، في العديد من المستويات والمجالات والقطاعات، أبرزها المستوى الديني والأخلاقي والحقوقي، والعلاقات الاجتماعية البينية، سواء ما ارتبط منها بالعلاقة مع الأسرة أو العائلة أو المجتمع أو تلك المتعلقة ما بين الدول والشعوب والمؤسسات الدولية.

والإخفاق كمضمون سلبي مقابل الوعي الديني كمضمون إيجابي لا يجتمعان ولا ينسجمان إلا في سياق الفعل الإنساني، الذي من طبيعته النقصان، وحينئذ وارد الإخفاق ورودا طبيعيا، لا يمكن القدح به في وجه الوعي الديني. لكن عندما يرتبط الوعي بالدين؛ فهنا، نستحضر ذلك البعد العقلي والأخلاقي في مستوى التفكير والعمل، إذ المسلم المؤمن يتقن عمله؛ لأن الإتقان فريضة شرعية من فروض الكفاية كما جاء في الفقه الإسلامي، وحسب القرآن الكريم ومرويات السنة النبوية الشريفة، فقد قال الله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء)[31]، وهو الجلي تفصيلا للنظر والتفكر والتدبر في قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا)[32]، فتجلى بذلك صنع الله في كونه وإتقانه لصنعه، الذي أودع فيه كل القوانين الناظمة والحاكمة له وحركته، فأحسن سبحانه وجوده وأتقنه. كما السنة النبوية الشريفة دعت إلى الإتقان؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)[33]. والإتقان يفيد أن يؤدي العامل عمله دون إخلال به أو خلل فيه، وبجودة تلتزم بمطالبه ومتطلباته، بالتقيد بضوابطه وتقنياته ومنهجيته ومضمونه ومنظومة قيمه وأخلاقه. فقد ورد أن إتقان العمل عبادة، وقيل حكمة: " لا يكفي أن تصنع خبزا؛ فعليك أن تحسن صنعه ". وفي إتقان العمل نجاح المُجتمع الإسلامي على مختلف الأصعدة، وتعزيز قوته وتطوره ونمائه وتنميته، وضمان كفايته من حاجاته واحتياجاته، وارتقاء مستواه الاجتماعي والثقافي والعلمي والفكري والاقتصادي والتكنولوجي والرقمي ... واستمرار حيويته ونشاطه وحركته وأعماله. فالوعي الديني طبيعته الأدائية متقنة لاشتغالها على مجالها، من باب الإخلاص فيه لارتباطه بالضمير الفردي والوازع الديني والمراقبة الداخلية. فالإتقان قيمة من منظومة القيم الإسلامية التي تعتمد على البعدين: الدنيوي بطلب غرض أو تحقيق هدف نفعي دنيوي، والتعبدي بالتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى الذي سيسأل عنه يوم القيامة. وبما أن البعدين الدنيوي والتعبدي قائمان في الفرد والمجتمع، فإن جميع الأعمال والصنائع والحرف والوظائف تستوجب الإتقان، لكي نستغني بأنفسنا عن غيرنا في الاكتفاء الذاتي من المنتجات التي يحتاجها الفرد والمجتمع المسلم، تحقيقا للمصلحة الفردية والمصلحة العامة للجميع.

كما أن الوعي الديني يرفع عنا ترسبات التراث الديني التي حنطتنا في قوالب ماضوية، وحولتنا إلى أفراد ومجتمعات جامدة وساكنة تقتات على موائد ماضيها، حيث (إن تداعيات الجمود على النص، وتقليد السلف، واستفتاء الموتى، راكمت التخلف والانحطاط والتبعية، شعرنا بذلك أم لم نشعر. فعلينا بنهضة حقيقية تبدأ من المنهج في تلقي العلوم، وطرق تلقيها. من المدرسة وطرق التدريس، ننتقل من أسلوب التلقي والإصغاء والإملاء العقيم إلى أسلوب البحث والنقد ومحاكمة الأفكار ... نبدأ من المسجد عندما نجلس نصغي لرجل الدين مأخوذين بما يقوله، تهتز فرائصنا لحكايات لا نعرف عن حقيقتها شيء، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات، تمتص طاقاتنا وثرواتنا، ولا تساهم في إثراء نهضتنا، بل تتحول إلى تحديات، يختلط فيها الديني بالدنيوي، فيصعب معها التمييز، وهذا أحد مكامن الخطر. علينا أن نبدأ من البيت وكيف يتعامل بعضنا مع الأطفال، وأن نكف عن قمعهم بالضرب والصراخ، وأن نحترم إرادتهم، ونجيب على أسئلتهم، وننمي قابلياتهم، ونشجع إبداعاتهم. ونهيئ لهم كل وسائل وتقنيات العصر الحديث بما يناسب أعمارهم. وعلينا احترام الرأي الآخر وعدم مصادرة حقه، وبيان الأسباب الحقيقية وراء كل الظواهر، وأن لا نحيلهم على الغيب ومخلوقات أسطورية خارقة. لكي يتمرنوا على البحث والسؤال، ويلاحقوا الحقيقة أين ما كانت. وما لم تختف مطاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا الحضارية المرتقبة. لأنها مظاهر متجذرة، وتشكل عائقا حقيقيا. بل إن اختفاءها يعني بداية النهضة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح. وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطورا ملحوظا. وهذا يتطلب تحولا ثقافيا ومعرفيا، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع ... الفرد عندنا مشدود إلى الأمام. يتلفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام. بينما شروط الحياة تغيرت. ولكل عصر حاجاته ومتطلباته)[34].

- توقعات سطح العنوان:

من خلال سطح العنوان نتوقع أن مضامين تفصيله وتمفصلاته أن تحدد أسباب الإخفاقات وتداعياتها وانعكاساتها على الأفراد والجماعات والمجتمعات، وتطرح البدائل والحلول لمشاكلها وقضاياها وإشكالياتها وتحدياتها ومعيقاتها لتجاوزها بعقلانية وحكمة. وهذا ما جرى بين دفتي الكتاب، حيث أظهر أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي في أجوبته عن الأسئلة المطروحة، وهي 26 سؤالا أسباب إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري، والتخلف على أكثر من صعيد ومجال، وكيفية مقاربة نتائج تلك الأسباب وطرق معالجتها وتصحيحها. لكن الملاحظ أن تصحيح الفكر يتطلب السنين والعقود العديدة، والجهود الكثيرة، والتضحيات العظيمة والكبيرة؛ لأن تصحيح الفكر ليس كتصحيح الأوراق من حيث الشطب وإعادة الكتابة أو إعادة الرقن. بينما الفكر تبعا لتعدد العقول وطرق واستراتيجيات تفكيرها يصعب تصحيحها بعد تشكيلها. خاصة، والأمر يتعلق بالمسألة الدينية، التي ترتبط عقديا بالتعبد، وبالجزاء والعقاب. يذكيها رجال الدين بالنقل الذي يقدمونه على العقل، ما يجعل العقل أقل مرتبة من النقل، ومشكوك في نتائج اشتغاله؛ ولو كان هذا العقل مدخلا لتصحيح النقل، من حيث نقده والتساؤل عن مدى صحته وكيفية تصحيحه ثم المعالجة والتصحيح والتصويب. مما رهن الفكر للديني للنص التراثي فكانت الخطوط الحمر واللاءات ومحاكم التفتيش الجديدة؛ ذلك (إن ارتهان عقل المسلم للنص مهد لانتشار مختلف الروايات الدينية والتاريخية. وما تشاهده من خراب على مستوى العقيدة والفكر والثقافة والأخلاق سببه الذهنية التراثية التي تجعل النص فوق العقل. المسلم يقمع عقله بالنصوص، ويتخلى عن التفكير تحت وطأة التقديس، والخرافات، ووهم التفوق. فالقطيعة مع التراث شرط لتطور المجتمع حضاريا وفكريا أو يبقى أسير طقوس وأوهام تمتهن كرامته، حينما يلهث وراء الآخر، يحتمي به، ويستدر عواطفه، ويحسب أنه في ظل قوى غيبية تكفلت بحمايته. وبالتالي لا يمكن الاطمئنان لكتب السيرة والتاريخ مطلقا إلا وفق منهج علمي صارم، يعتمد القرائن، والعقل، ويجعل من القرآن شاخصا. فتبقى رواياتها محتملة يتعذر الجزم بصدورها وتطابقها مع الواقع)[35]. فالعقل الذي درج على ثقافة معينة من الصعب إخراجه من تلك الثقافة أو تصحيح هفواته وأخطائه. وأجد شخصيا أن العلاج السلوكي المعرفي" Cognitive Behavioral Therapy/ CBT" هو المناسب من العلاجات النفسية الممكنة لهذه العقلية الإسلامية المريضة، التي يجب عليها أن تدرك الصحيح الإيجابي والخاطئ السلبي من تفكيرها، للنظر إلى مضمون فكرها وناتجه العملي بوضوح، وتستجيب بفعالية لتصحيحه وتجاوز سلبياته. فالعلاج السلوكي المعرفي في هذه الحالة العقلية المرضية وسيلة مفيدة في علاج اضطراباتها وأعراضها المرضية من أجل عودة صحتها العقلية، لكي تتعلم كيفية التفكير والتدين الصحيح، وكيفية التعامل مع مواقف الحياة المختلفة، خاصة ما تعلق منها بمعنى الوجود الإنساني القائم على العقل والدين. فتدرك أفكارها وعواطفها ومشاعرها وأحاسيسها ومعتقداتها حول القضايا والإشكاليات والمشكلات والتحديات والأزمات التي تعيشها أو تعيش في سياقها. فتسلك لمقاربتها مسلك الدراسة والتحليل والمساءلة، والخروج منها ببعد الذات العارفة عن موضوعها، والتروي في شأن اتخاذ القرارات بخصوصها، وتفسير معناها وظلاله بعد تحديد المناطق السلبية في تفكيرها، لتعرف نمط التفكير ونوعه المناسب لها، والسلوك الملتمس لحلها ومعالجتها في ظل مساءلة الذات عن سند التفكير في القضايا والإشكاليات والمشكلات والتحديات والأزمات التي تعيشها، ما بين سند حقيقي مبني على أسس واقعية أو سند تصوري مبني على ارهاصات وتكهنات وتوقعات محتملة أو مبني على الوهم والخيال والأحلام.

فجاء الحوار متوافقا مع المتوقع من حيث رصد مكامن وأسباب إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري، وبحمولته الفكرية في مرحلة تاريخية عربية وإسلامية عصيبة وشديدة على الدول والشعوب من حيث برز الإسلام السياسي بشكل واضح وضاغط، احتضانا من الخارج أو من الداخل نتيجة الاستبداد السياسي ونتائجه السلبية على الأفراد والمجتمع. وظهور الجماعات المتطرفة في ساحة الأنظمة السياسية العربية والإسلامية المتخلفة بعنوان "الربيع العربي". خاصة منهم الإسلاميون الذين حشدوا في ربيعهم العربي فقهاء " الثورة " وشيوخ الصحاري والبراري والصبيان للإفتاء بالجهاد في بلاد العرب والمسلمين بدل بلاد الكفر وفق مصطلحاتهم التراثية، ولم يفتوا بجهاد الصهاينة الغاصبين في طوفان الأقصى، وأفتوا بالقتل والنهب والظلم لنظرائهم في الدين والوطن، ولكثرة الجرائم المرتكبة باسم الدين ومن باب الجهاد في حق الأبرياء، وفي حق المنتوج الحضاري العمراني والثقافي والاقتصادي والصناعي والتكنولوجي والتعليمي والتربوي من إبادة معالم التحضر الإنساني فيه، وهدم ما بناه الأجداد والآباء حتى بتنا نسكن الكهوف والمغارات والقبور، و(ما نشاهده اليوم من ممارسات على أيدي ما يسمون بالدولة الإسلامية أو داعش، من سبي النساء غير المسلمات، وقطع الرؤوس بما فيها الرؤوس المسلمة خير شاهد على ما نقول)[36]. ما دفع بالعقول النيرة والمتعقلة والمثقفة والحرة والمستقلة أن تتساءل عما يجري على مستوى الدين والسياسة والاجتماع والتربية والتعليم والثقافة والفكر ومظاهر الحضارة والعمران، وعلى مستوى التغيرات التي تجري في عالمنا العربي تحت اسم " الربيع العربي " الذي جاء حاملا طموحات كبيرة وواعدة وآمالا عديدة في المجال السياسي خصوصا، محمولا على أسلحة المخابرات الأجنبية والأعرابية وأوراقها الديبلوماسية ومساعداتها المادية ودعمها المعنوي والسياسي ومؤسساتها " الإنسانية " التي يقع قلبها على العرب والمسلمين حبا وتضامنا مع مأساتهم! ما ستر السم الذي دس فيها تحت مسميات هم بعيدون عنها كل البعد من الديمقراطية والمساواة والتداول على السلطة وحقوق الأفراد والجماعات تطبيقا في عالمنا العربي والإسلامي، وأقرب منها ثرثرة وخطابات فارغة المعنى والدلالة ... والتحضر الإنساني على الطريقة الغربية، التي دعمت واحتضنت في طوفان الأقصى إبادة الكيان الصهيوني النازي الفاشي الداعشي للفلسطينيين، ودعمت جرائمه بالسلاح والمال والمرتزقة، ودافعت عنه في المحافل الدولية، ومنعت وقف الإبادة والمحرقة الإنسانية في غزة العزة وسائر فلسطين التاريخية. فإذا بالربيع العربي تحول إلى " الصيف العربي " محرقة شمسه في سماء الأعراب الغربان العرب والمسلمين بفتاوي فقهاء البلاط والبنوك النفطية وسماسرة المخابرات، وبيد الجهال وقطاع الطرق الذي شيدوا " بتوبتهم " إلى الله حسب زعمهم دولة إسلامية على منهاج النبوة!؟ تبيد البشر والحجر وتستعبد الرجال وتسترق النساء. مما أثار ويثير مجموعة من علامات الاستفهام في كل الاتجاهات. وهو ما تطلب قراءة نقدية لهذا التراث الديني وخطابه وحمولته الثقافية التي لا محالة أنها تحمل بذور العنف تجاه الآخر نتيجة الفكر التكفيري. ذلك، أنه (اجتاحت العالم العربي والإسلامي في العقد الأخير موجة تكفير، قادتها حركات إسلامية متطرفة، تدعو لقتل الآخر المختلف دينيا ومذهبيا، في ظاهرة مفجعة، عكست انطباعا سلبيا عن الإسلام وتعاليمه)[37]. وهو ما لمسته الورقة في صريح فقرات الكتاب، حيث مثالا لا حصرا في قضية المرأة المسلمة؛ يقول أستاذنا الكبير ماجد الغرباوي توصيفا صريحا ونقدا تصحيحا لواقعها في التراث الديني: (المرأة مقياس تطور المجتمع، وقمعها أحد علامات تخلف المجتمع، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، تفرض عليها قيم بائسة، تحرمها أبسط حقوقها، وتقصي قدراتها الخلاقة، فتحرم المجتمع نصفه. [هذا الوضع ناتج عن تراث ديني يحاصر المرأة ويكبل كيانها وحريتها واستقلالها وعقلها وطموحاتها وعطاءها ... فهو منبث سبي النساء واسترقاقهن في سوق نخاسة داعش] بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في كل مرافئ الحياة، في الحقوق والواجبات. فالمطلوب تكريس ثقافة تعيد الثقة للمرأة كي تمارس دورها في المجتمع، وتمنحها الثقة لتواصل الحياة عضوا فاعلا ونشطا أسوة بالرجل. خاصة وللمرأة دورها البناء في تربية الجيل، وزرع الثقة فيه. وصدق الشاعر حافظ إبراهيم، حينما قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها **** أعددت شعبا طيب الأعراق)[38].

- من مميزات البعد النقدي على مستوى السطح:

ومن خلال السطح نستشف مهارات وقدرات وكفايات التفكير النقدي عند أستاذنا الفاضل ماجد الغرباوي، الذي انفتح على التراث الديني بقراءة نقدية تتميز بما يلي:

- تمييز الحقائق والوقائع التي يمكن إثباتها عمليا؛ "إخفاقات، تداعيات، رفض الآخر، الوصف بالكفر والنجاسة، ذبح الأخ، القهر، الكبت، الحرمان، التبرير، سيادة المنطق الأرسطي، تحويل الصراعات السياسية إلى صراعات دينية، اعتبار المعارضة خروجا عن الدين وسلطته الشرعية، الاستبداد السياسي، الاستبداد الديني، استبداد قيم العشيرة، انعدام الوعي، الاستعمار، التقديس، التقليد، قمع المرأة، فرض الشروط بالسيف والقوة، الاعتقاد بالخرافات والأساطير نتيجة العقل الخرافي، تشويه السمعة، صراع الطوائف الإسلامية، تحطيم أواصر الأمة الواحدة  ... ".

- تمييز المعلومات عن الادعاءات والمزاعم التي لا تقف أمام صرامة العقل؛ " المعلومات: الندية في تكافؤ في المقارنة بين وضعين، نحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل، شوهت الحركات الإسلامية المتطرفة سمعتنا وباتت تصدر للعالم أبشع أنواع القتل والإجرام باسم الدين والإسلام، بتنا عيالا مستعمرين من حيث نشعر أو لا نشعر، للغرب وحضارته ... المزاعم: المستشرقون عادة ينكرون ذلك [ تأثير الحضارة الإسلامية في نهضتهم ]، ويعتبرون جذورهم ضاربة في الفكر اليوناني، وما دور المسلمين إلا الوسيط في الترجمة، لكن ماذا ينفع هذا التفاخر [ بجذور الحضارة الغربية في تربة الحضارة الإسلامية ] والغرب الآن يمسك بقبضة التقدم ويتحكم بنا من خلال افتقارنا لأبسط منجزاته!، يستفزنا ويستنزف ثرواتنا ونحن لا حول لنا ولا قوة؟، فالحكم الشرعي بنظرهم يبقى فعليا رغم تبدل ظروف موضوعه والأسباب الموجبة له، الواقع أستاذ سلام يكذب هذا القول، ولديك متسع من الوقت لتجرد كل ما يدور حولك، فهل تجد سوى منجزات غربية أصيلة أو تقليدا لها؟ أعود وأكرر العامل الخارجي أحد الأسباب وليس السبب الوحيد ... ".

- تحديد دقة العبارة، وتعمدت إيرادها في سياق بعده النقدي؛ " فمنذ الصدمة الحضارية ومازلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، نحن بحاجة إلى نموذج حضاري في مقابل النموذج الغربي. نموذج يمثل هويتنا وينافس الآخر حضاريا على المستوى الفكري والثقافي والاقتصادي والعلمي والسياسي، وأساليب العيش، والفن إلى آخره، من يدعي شيئا نطالبه بالدليل كي لا يكذبه الواقع، لكن يجب أن نؤكد أن التأثير لا يعني أن الفكر الإسلامي نسخة طبق الأصل [للفكر اليوناني]، لكن فقهاء السلطة عبأوا الناس للجهاد إرضاء لهوى الخليفة والسلطان، المسلمون الآن لا يتمسكون بحبل القرآن بقدر تمسكهم بأهوائهم ومصالحهم الفئوية والطائفية والسياسية حتى عمدوا إلى تفسير النصوص لصالحها فأفرغت من محتواها وفاعليتها، إضافة إلى ما تقدم من مظاهر التخلف في مجتمعاتنا هناك: عدم الشعور بالمسؤولية، التمرد على القانون، الإسراف، قيم التفاضل في المجتمع القائمة على أسس غير إنسانية ... "[39].

وهناك مهارات وقدرات وكفايات أخرى متعلقة بالبعد النقدي في ثنايا الأجوبة عن الأسئلة المطروحة كتقديم المعلومات بناء على مصداقيتها وثبوتها بالدليل، فمثلا: الاستبداد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية يستقي مصداقيته من واقع حال الشعوب العربية والإسلامية ومظاهر حكامها ملوكا ورؤساء الاستبدادية " الأسلوب القمعي المتمثل في مصادرة الحريات وقمع المعارض، رفض المحاسبة، المالك الحقيقي، قمع المنافسين ... "[40]. وكمعرفته للمزاعم والحجج، في سياق بنية القضايا التي طرحتها الأسئلة، فهو ذهب إلى تحديد الفارق بين الواقع الحالي للحضارة الإسلامية وواقع الحضارة الغربية بناء على حجج ذكرت سابقا، فعيش الأستاذ المفكر العربي ماجد الغرباوي، ومحاوره الأستاذ سلام البهية السماوي في الغرب؛ قدمه حجة على كينونة الفرد في الغرب وكمال حقوقه وحرية ممارسته للطقوس والعادات والتقاليد، والتصريح بقناعاته، وحرية الفعل في حدود القانون وحرية الآخرين. مقابل حججه على معاناة الفرد العربي والمسلم من القهر والكبت والحرمان. وفند مزاعم الغرب بأن الحضارة الإسلامية في بعدها الفلسفي ما هي إلا نسخة يونانية، مقدما منجزات الفلاسفة الكندي وابن سينا وابن رشد الفلسفية حجة على تميز الفلسفة الإسلامية بطابعها الإسلامي الخالص. وهو بذلك وظف مهاراته النقدية في تحديد قوة برهانه وحجاجه تجاه هذا الزعم. فذكر الأعلام الفلاسفة السابقين برهانا قويا على تأثير الفلسفة الإسلامية في الغرب، فضلا عن قوة حجاجه بخصوص تميز الفلسفة الإسلامية عن اليونانية بطبيعتها وخصوصيتها الإسلامية. كما أنه استشف سبيل الحل لواقعنا الإسلامي الإشكالي من خلال أطروحاته المتعددة بوجوب نفي ما نعانيه من أزمات فكرية وعملية، من حيث (ما لم تختف مطاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا الحضارية المرتقبة)[41].

والبعد النقدي في هذا المنجز حوارا، تجلت بعض مميزات فكر مفكرنا التنويري ماجد الغرباوي بما فيه من نقد؛ في:

*متسع فكره الموسوعي وشموليته بتماس دائم بقضايا الأمة العربية والإسلامية بجناحيها المسيحي والإسلامي. ففي جناحيها يهتم بالعلاقة بينهما من حيث انعكاس الفكر الإسلامي خاصة منه التكفيري على المسيحي العربي وامتداده الأجنبي، وكيفية تحطيم تمثله وتصوره عن المسلم المتعصب والمتطرف الذي خلق في نفسيته فوبيا الإسلام، بما هو الإسلام دين ذبح وسلخ وتفجير وقتل وسبي وجرائم. وقد (عزز هذا اللون من الفكر فتاوى دينية استباحت قتل الآخر، وهتك حرمته. وهو نمط سلوك عدواني تسبب في تراجع الفعل الحضاري، وانتكاسة كل الجهود المكرسة له. حتى بات الغرب يساوي بين المسلم والإرهابي. وللأسف تفاقمت الحالة مع تراجع الوعي)[42] و(صيروا من الغرب عدوا عبأوا كل طاقاتهم لمحاربته، وبث الرعب في قلوب شعوبهم. فصار المسلم في نظرهم يساوي الإرهابي، والقاتل، والمعتدي، فانعكس سلبا على علاقتهم بنا، خاصة الجاليات المسلمة في الغرب. فضحينا بسمعتنا لصالح فهم مبتسر للدين ونصوصه المقدسة. فهم بات عبئا ثقيلا يتناسل بسرعة فائقة، رغم جهود حثيثة تبذل لتطويقه، وتفنيد أدلته)[43]. وهو من باب استخلاف الله تعالى الإنسان في الأرض يجد أن الدين الإسلامي هو للاستخلاف والإعمار، والاستخلاف يقتضي علاقة واعية ومتفهمة وسليمة مع مكونات الكون بما فيها من مخلوقات، وهي العلاقة التي حددها القرآن في أكثر من آية. والإعمار يقتضي تعمير الكون على أساس إيماني وأخلاقي حتى ينضبط العمل بما يحقق مصالح مكونات الكون. وقد دلت الآيات على ذلك (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)[44]. فيما ينفتح الاستخلاف والإعمار على (العمل الصالح الملازم للإيمان ... لا ينغلق على موضوع محدد، وإنما ينفتح على كل عمل فيه صلاح للإنسان)[45]؛ وبهذا يردم المسلم الهوة بينه وبين الآخر لأنه يستهدف منفعته، وهو نظيره في الدنيا.

وأما في الجناح الإسلامي فهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، مهتم بنقد الفكر الديني المنعكس بصيغته التقليدية وجموده النقلي ومسلكه التقليدي - نسبة إلى التقليد - سلبا على قضايا العصر من التسامح، والعنف، والحركات الإسلامية، والمرأة، والتنوير، والتقدم الحضاري وما يطرح من قضايا مستجدة كالتبرع بالأعضاء وزراعتها، والاستنساخ، وإعارة الرحم، والتلقيح الخارجي، وتعديل الجينات/الكروموسومات/الصبغيات، والهندسة الوراثية بصفة عامة، الذكاء الاصطناعي، الزواج الإلكتروني أو الرقمي، وأطفال الأنابيب ... يطرح رؤيته الواضحة والشفافة في الأسباب والمقاربة والتطبيق والممارسة تحت منطق التحليل العلمي وأدواته ومناهجه، (في سياق فهم جديد للدين يرتكز للعقل ومحورية الإنسان. والتأكيد على حريته وكرامته وقدرته على الاختيار وفق مقتضيات الحكمة. بعد بلورة معنى جديد للقداسة)[46].

*عمق تفكيره وفكره؛ حيث المطلع على هذا المنجز الحواري يقف على نظرته العميقة لما طرح عليه من أسئلة في مجالي إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري، بما يدل مرة أخرى على موسوعية ثقافته الدينية والفكرية، التي أسعفته في عرض الموضوعات بشكل مختصر ومركز ودال، وعميق يمس مركزية القضايا والمشاكل والإشكاليات المطروحة. ولا يلامسها سطحيا. وإنما يبئر عدسته الفكرية والنقدية المجهرية على نواة الموضوع، مقدما وصفا وتحليلا له مقابل ما يقتضي حاله من مقترحات المقاربة والمعالجة. ولتكن هذه الرؤية الثاقبة دليلنا الذي نقدمه بين أيدينا لما قلناه؛ فقد قال في سياق الرد عن سؤال في سياق الحديث عن التطرف الديني وبجرأة الناقد الذي لا يخاف لومة لائم في الله: " وهل يصدق هذا على الخلفاء الأربعة؟ وأنت تعلم جيدا مكانتهم وقربهم من الرسول؟ " ردفا على سؤاله السابق الموضح للمجهول الوارد في تابعه ولاحقه [هذا]: " هل هناك جذور لهذا الفهم المتطرف؟ ولماذا اعتاد بعض المسلمين على إشهار السيف بوجه معارضيه؟ "[47]: (أول خطأ ارتكبه الحاكم الإسلامي كان حروب الردة، بقيادة أبي بكر الصديق، حيث اعترض عليها عمر ابن الخطاب، وطالب بمعاقبة خالد بن الوليد. وشاح عنها وجه علي بن أبي طالب. والقوم لم يرتدوا، وإنما رفضوا خلافة أبي بكر التي لم تتم بطريقة سليمة، ولم يجمع عليها المسلمون، أو كما قال عمر: إنها فلتة، وخطأ حصل. فجمعوا زكاتهم ووزعوها على فقرائهم، ولم يسلموها للخليفة. فلم يرتدوا، ولم يتخلفوا عن إقامة الصلاة، وظلوا يشهدون أن لا إله إلا الله حتى حينما قاتلهم جيش الخليفة. وهذا أول تأسيس للعدوان بعد رسول الله، واستمر الخلفاء ومن جاء بعدهم، ثم السلاطين، يستبيحون كل شيء باسم الدين والإسلام. أما لماذا لم نفكر بحجم تداعيات ما يسمى بالفتوحات الإسلامية؟ لماذا لم نفكر بحجم ما اقترف الخلفاء والولاة باسم الشرعية الدينية؟ الحجاج يقتل 120 ألفا من العراقيين. والعباسيون يقتلون 50 ألفا من الشاميين، وماذا عن معاوية، ويزيد الذي تجرأ على قتل ابن بنت رسول الله، الحسين بن علي. تاريخنا مأساة لا مثيل لها لأنها جرت باسم العدالة والدين والتشريع. ومازال القتل يقطع رقابنا باسم الدين وتأسيا بسيرة الخلفاء والسلاطين للأسف الشديد)[48] و(اقترف الفقهاء جريمة كبرى عندما حولوا الصراعات السياسية إلى صراعات دينية، فبرروا قتل المعارضة باعتبارها خروجا على الدين وسلطته الشرعية)[49]. فقراءته التاريخية هذه لواقعة حروب الردة مثلا تتسم بالتحليل والتوليد في الآن ذاته، من حيث حلل الواقعة ليولد منها حكمه عليها بالخطأ. وهو في رأيي البسيط - أي تحول ما هو سياسي إلى ما هو ديني، وتحويل الاجتهاد إلى الاعتقاد - عين الخطأ ومنبع الصراع بين المسلمين إلى يومنا هذا، حين انتفى الإجماع عن خلافة أبي بكر الصديق، وحين تحول السياسي إلى الديني، وتحول الديني التراثي إلى الديني المقدس المتعبد به. فتلك أكبر مصيبة ابتلي بها المسلمون، تساعد كل من أراد شق صفوفهم من دول واستخباراتها، ومن فرق دينية وسياسية وثقافية، وأحزاب سياسية، وطبقات اجتماعية أو عرقية. يسهل مهامهم انعدام الوعي والجهل في عالمهم العربي والإسلامي.

والعمق في الرؤية والاشتغال هو ما تجده في منجزه الفكري الجمعي دون استثناء، في إطار التفكير النقدي، والقراءة المتبصرة التي تقف على مناطق النقد ودلالة كلماته وألفاظه وأسلوبه، ومنبع التساؤل أصل التفكير النقدي ونواة تشكيل الوعي والرأي الآخر وتعدد الرؤى والاتجاهات؛ بما يغني المشهد الفكري ويثريه لديه، ويدفع القارئ إلى الاسترسال في القراءة بمصاحبة قلم الرصاص لتدوين الملاحظة والخلاصات والاستنتاجات والتفردات الفكرية. ومنه؛ يستدعي عمق الرؤية إطلالة وجيزة على مقاربة التفكير النقدي فلسفيا وعمليا في الفكر الديني الإسلامي، النص والحواشي والشروح، بما يعري بأدوات الجراحة العقلية على المستور منه، المحرم والمقدس الذي لا يأتيه الباطل كأنه قرآن كريم. ففي معرض إجابته - حفظه الله تعالى - عن السؤال 25 من إخفاقات الوعي الديني: هل هناك جدوى من التجديد كشرط لنهوضنا الحضاري؟ ولماذا يستفز مفهوم التجديد رجل الدين بشكل خاص؟ نلمس عمق التحليل المفضي إلى الإقناع بجدوى التجديد الديني عبر المعطيات التالي:

- التجديد ضرورة في إطار تطور العالم ومكوناته ومتطلباتها وحاجياتها وحاجاتها؛

- التجديد مستفز لما يرمز إليه من نقد ومساءلة ومسؤولية؛

- التجديد مظنة اتهام مؤسسات رجال الدين وانتقاد فكرهم؛

- التجديد مدعاة تمحيص التراث ومراجعة الثوابت المقولات العقدية؛

- التجديد خطر داهم للمؤسسة الدينية ورجالها؛

- الانفتاح على حضارة الغرب من خلال وسائل الاتصال الحديث.

التي شكلت وأطروحاته الفكرية في مؤلفاته المختلفة - في رأيي المتواضع - الهيكل المقالي لإجابته، حيث أفاد أن (التجديد ضرورة منبثقة عن حركة الأشياء، من أجل مواكبة حاجات الإنسان، والاستجابة لتطلعاته. إلا أن الدعوة له دعوة استفزازية، تثير حفيظة رجال الدين، وربما اشمئزازهم، لأنها تنطوي على اتهام مؤسساتهم، وانتقاد فكرهم، ودعوة صريحة لتمحيص التراث ومراجعة الثوابت، بل جميع المقولات العقدية، وهو خطر فادح على مستقبل المؤسسة ورجالها، لذا تستميت في الدفاع عن قيمها، وتتصدى لكل دعوات التجديد. وتسعى لإحباط أي مشروح إصلاحي بكل الوسائل، وتشن هجوما كاسحا ضد المصلحين والمجددين، يصل حد القذف والاتهام والتحريض والتسقيط. لكن رغم كل الإجراءات التعسفية، تواصلت دعوات الإصلاح، ومازالت هناك أصوات عالية تدعو للتجديد، وتراهن على وعي الشعوب، خاصة جيل الشباب، الذي بدأ ينفتح عبر وسائل الاتصال الحديث على حضارة الغرب، ويرى مستوى التطور والتقدم، فيتشجع على المراجعة والسؤال وطرح الإشكالات والتشكيك بكل ما يحيط به. والتجديد الحقيقي سيقع على عاتق هؤلاء بعد أن يتطور وعيهم، وتتعمق رؤيتهم للكون والحياة، ويكتشفون بأنفسهم، مدى الفارق الحضاري بينهم وبين الآخر الذي كان يقتات يوما ما على منتجهم الفكري والثقافي والعلمي)[50]. وهو بذلك يدعو إلى تحطيم المقدس بالانتقال به؛ من العاطفة والحساسية إلى العقل، ومن غموض المرجعية وتشويش الرؤية إلى وضوح المفهوم والطريق والمنهج. ويعيد ما هو منزه إلى ما هو عليه بطبيعته، وما هو غير منزه إلى ما هو عليه بطبيعته الأصلية التي طرأ عليها التغير بتراكم رواسب التاريخ عليها. بمعنى آخر؛ يعيد القول المقدس إلى قدسيته، والقول غير المقدس/البشري إلى بشريته، وينزع عنه تلك القداسة التي هالته، والحرمة التي أضفيت عليه لإزاحة الاقتراب منه بمشرط النقد.

وفي إطار هذا العمق وموسوعية المعرفة نكتشف باقي مميزات بعده النقدي الذي يجتمع والبعد الأخلاقي والقيمي، فيضفي لصالحه مزيدا من النجاعة للوعي والتجديد والتغيير والتطور، وبناء المجتمع الإنساني بما فيه من أفراد وجماعات ومؤسسات على أسس دينية متينة وفاعلة. فنجد فيه - أي البعد النقدي - الوضوح من حيث تبيان مفكرنا حفظه رب العالمين لأفكاره ورؤاه ومسلكياته المنهجية والعملية بوضوح القادر على تقديمها بمنهجية منطقية، تعتمد على تحديد المقصود بها وتعيين الأهداف والمقاصد منها مع تقديم الأدلة والحجج كما مر معنا. التي يوفر لها دقة صدقها للتأكد منها صحة وزيفا. فهو هنا أقرب إلى المنهج الإحصائي والمنهج العلمي التجريبي. وهو بذلك يحكم معطياته بصرامة تحديد وتعيين المفاهيم والمصطلحات والتعريفات والوقائع والأحداث والسرديات والمعلومات والحقائق والآراء؛ مما يربط المعطى البحثي " إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري " بمغزاه عبر خيطه الناظم الأفكار والمعلومات والحقائق والمسلك المنهجي الذي يبلور صوره بوضوح وشفافية وحتى بالدقة المطلوبة والمرجوة، فيصير إلى طرح المخارج والمخرجات تحت سقف إسهامها في الحلول والمعالجة، والتأثير نحو الخروج من الإخفاق والنكوص إلى التجديد والتطور واللحاق بالحضارة الإنسانية العالمية. وأخذ العضوية في مؤسستها العلمية والأخلاقية والحقوقية. فالناظر في جوابه السابق يقف عند اتساق أفكاره وسلاسة أسلوبه الذي يجذبك للاسترسال في القراءة، بل الدراسة، بمنطق الترابط بين الأفكار بروابط عضوية، وترتيبها حسب أولوياتها وأهميتها وجدواها، فتأبى إلا أن تضعك على محك اختبارها على مستوى الصحة والخطأ بنقد النقد، الذي تلمسه في فتح منافذ القراءة الناقدة المحمولة على مفهوم نقد النقد. وأجده - حفظه الله - من كتاباته مفكرا ناقدا صريحا جريئا، يطرح أفكاره ويفصح عن معتقداته بكل التجلي والوضوح، لا يخاف في الله لومة لائم مهما كان وأنا كان، في استقلالية فكره وحريته ونزاهته العلمية، مدركا لمعرفته وحدودها وامتداداتها وأثرها وتأثيرها في القارئ مقارنة مع غيره، متواضعا فكريا، ينحو إلى الإجابة عن الكتاب والقراء والمعلقين إلى التواضع واحترام الآخر ورأيه المختلف. ولعل التعليقات والشهادات المرفقة بمنجز موضوعه، تبين هذا التواضع (لا أجد سوى الصمت وأنا أصغي مبهورا بشهادتك، لأنها شهادة خبير، قادر على تمييز الفكر بحكم تخصصه كباحث ومفكر تنويري، طالما تابعت كتاباته وقدرته على التحليل والتشخيص، شهادة أعتز بها وأفتخر بها وساما، أفرحني رضاك بهذا الوعي والتفاعل مع مفاصل الحوار، كل التقدير والاحترام مع خالص محبتي)[51]. وتظهر شموخ عالم متواضع يصادق على ما درج عليه العلماء من قول: " كلما ازداد المرء علما كلما ازداد تواضعا "، وتجلي عطفه وحنانه على الغير؛ ولعل مسعاه إلى هدم الهوة بيننا وبين الآخر المختلف عنا دينا أو مذهبا أو جنسا أو حضارة أو لغة دليل على هذا الخلق الكريم والقيمة الإنسانية التي قلما تجدها عند التراثيين الأصوليين المتعصبين المنغلقين الذين يصفون خصومهم بأبغض الألفاظ وأمقتها وانحطاطها، والتي لا تعبر عن أخلاق العالم والعلم. ولهذا جذور في ثقافتهم. فهو في رده على تعليق الدكتور عدنان عويد السابق، يدلي بسمة جليلة تتساوق مع سمة التواضع، وهي التكامل المعرفي مع الآخر للاستفادة من تجربته وخبرته وعلمه ومعرفته وقدراته ومهاراته " طالما تابعت كتاباته وقدرته على التحليل والتشخيص ".

فأستاذنا الكريم ماجد الغرباوي، يريدنا في البعد النقدي للتراث الديني من خلال العنوان الحالي " إخفاقات الوعي الديني حوارا " أن نخرج من دائرة:

- الفكر الديني الأحادي الذي يرى بعين واحدة، ومن زاوية واحدة الأمور والأحداث، فيغلق منافد الرؤي الأخرى بالعيون المتعددة؛ (للأسف مازالت الأرضية غير مؤهلة لاحتضان الآخر)[52]. و(سلسلة اليقينيات تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان أنه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا، وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتكفير الآخر)[53].

- ردة الفعل التي تسيطر على فكرنا الديني، لا المبادرة والاستشراف في الرؤية والتفكير؛ (لكن ماذا ينفع هذا التفاخر والغرب الآن يمسك بقبضة التقدم ويتحكم بنا من خلال افتقارنا لأبسط منجزاته!)[54]. وكل منجزات الغرب نحاول أن نرجعها إلى الحضارة الإسلامية بالمطلق كرد فعل على تقدمه وتخلفنا؛ (بتنا بحاجة ماسة أكثر من قبل للمكاشفة والصراحة، وواقعنا المزري يفرض علينا هذا الموقف مهما كان حجم التضحية وردة الفعل)[55].

- الخمول والتقاعس والكسل في مقاربة التراث الديني والتفكير الديني ومساءلته ومشاكسته بدل الرضا بأول الحلول والاقتراحات دون باقيها؛ (لذا يجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا)[56]. و( بالفعل ثروات المنطقة دفعت باتجاه التكاسل، والاتكال عليها بدلا من تطوير الذات وخلق عالم جديد، فكان وعيا سقيما مهد لطعننا من الخلف، وجعلنا في تراجع مستمر كما تفضلت، وهذه بتقدير نقطة مهمة تضاف إلى النقاط الأخرى)[57] ف- " العناد، الجهل، الإيمان بمفاهيم جاهزة ثابتة لا تتغير بتغير الحال، فكر البدوي، الاتكالية وعدم الرغبة بالبحث عن سلالم الارتقاء بالإنسان، والبقاء في دائرة الاسترخاء "[58]، كلها من الفكر الديني التراثي المقلد القائم على سيادة النص الهامشي الشارح للمتن، المثقل بسلطة السلف الصالح المستمرة فينا المتحكمة بشؤوننا، وسطوة الإجماع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن كان فيه وجهة نظر. المكبل بأصفاد السياسة والمصالح والغرائز والهوى إلى يومنا هذا، يدور دوران السلطة؛ انغلقت وتحجرت انغلق وتحجر، وإن إن انفتحت انفتح؟! المشبع بالعنف والتكفير والقتل جلبا للديمقراطية في بلداننا، والبارحة لطاعة الحاكم وإن كان ظالما ...؟، والدوران مع المنافع والمصالح والرغبات والطلبات دوران عقارب الساعة، والغارق في سبات الماضي؛ لا يمكنه إلا أن يكون فكرا مسترخيا كسولا، مستقيلا من التفكير نظرا وقراءة ونقدا وإبداعا، جالسا على الأريكة يضع رجلا فوق أخرى ويتفرج على تفكير العقل الآخر ومنجزاته، تارة يحللها وأخرى يحرمها، فهو في انحدار إلى أسفل القاع، بقتلنا بحروبه وإرهابه وتكفيره. وينأى بنا عن التغير والتقدم بما أخرنا عن ركب العلم والتكنولوجيا والصناعة والمخترعات والإبداعات التقنية والرقمية، وأضعفنا أمام الغير وخصومنا، وعرض ثرواتنا للنهب والتبديد من قبل سلطات عربية وإسلامية ضعيفة وهزيلة، لم نقو على مواجهتها، فخضعنا لرغباتها وطلباتها. وهو الأمر الذي سجله أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي في رده على تعليق الشاعر والقاص والناقد الأستاذ حسن البصام حين قال: (أراك وضعت أصبعك على نقطة مهمة، بالفعل ثروات المنطقة دفعت باتجاه التكاسل، والاتكال عليها بدلا من تطوير الذات وخلق عالم جديد، فكان وعيا سقيما مهد لطعننا من الخلف، وجعلنا في تراجع مستمر كما تفضلت، وهذه بتقديري نقطة مهمة تضاف إلى النقاط الأخرى)[59].

- القدسية والتقليد اللذان يقيدان الفكر والفكر الديني من الانطلاق نحو الآفاق الواسعة من التطور والتحضر والتمدن، ومن العلم والمعرفة؛ (ابتلي المسلمون والعرب خاصة بنزعة تقديسية باعدت بينهم وبين الحقائق ...)[60]. و(صفة أخرى ابتلي بها المسلمون ... الحاضر يقلد الماضي في كل شيء)[61].

- االيقينية المطلقة في التراث الديني من خارج العقلنة، التي ترتكز على الموروث القولي الديني تحت سقف الإجماع رغم أن الإجماع فيه وجهة نظر؛ فهو حجة عند الإمام مالك وغيره، وسلك مسلكه الفقهاء والعلماء والشيوخ الورثة للدين. ومعطى احتمالية عدم الإجماع بمعنى الاختلاف طبيعة الحياة الإنسانية، من حيث إمكانية الاختلاف لا الائتلاف بين الناس، سيرا وموافقة لسنة الله تعالى في خلقه، التي تطبع الحياة الإنسانية بالاختلاف نتيجة تنوع وتعدد الأفكار والتفكير، وزاويا الرؤية، ومتطلباتها ووسائلها وكيفياتها ومناهجها ومسالكها، وتنوع مسالك المعيشة بين الناس ... وغيره من مظاهر الاختلاف في الحياة. فقد قال رب العالمين جل وعلا: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين)[62]؛ وقد (أفرز لنا اليقين السلبي نمطا من السلوك، أرهق وعي الفرد والمجتمع ... ولعل من أسباب هذه اليقينيات، إضافة إلى سذاجة الوعي، وسوء الظروف المعاشية والاجتماعية، تراثنا المشحون بروايات عن السلف ترسخ تلك اليقينيات وتمنحها صفة شرعية، يصعب مناقشتها فيسلم لها ويتعبد بها كيقينيات غير قابلة للشك)[63].

- الفكر النقلي الذي لم يجسر ذاته بالتفكير التجريدي، الأداة لصورنة الواقع بالمفاهيم تجريدية، تبني نماذج فكرية قابلة للتطور والتجديد. بعدها الفلسفي يغطي ما لم يستوعبه الفكر النقلي من منقولات الواقع إلى العقل، ومنقولات العقل إلى الواقع. لذا وجدنا (فهم النص ضمن الإطار العام للقرآن ولغته ورمزيته وتعاليه وقصديته، لا خارجه. وهذا لا يحد من حرية الباحث بل يمهد لقراءة منتجة في ضوء منطقه الداخلي، فعندما يأمر القرآن برد المتشابه إلى المحكم من الآيات فهو يعترف ضمنا بعجز اللغة الدينية عن استيعاب المعاني المفارقة، فتأتي النصوص متشابهة، وليس أمام الباحث سوى الآيات المحكمة لاستنطاقها، تفاديا لأي تعارض بحكم التعارض القائم بين ظواهر الآيات، كما بالنسبة للآيات التي تجسم الخالق مثلا، فتعكس صورة لجبار متغطرس، تشبيها بجبابرة الأرض، بينما الآية المحكمة تقول ليس كمثله شيء!، وحينما نرتكز لها نفهم أننا أمام آيات متشابهة فرضتها ضرورة اللغة الدينية لتقريب معنى مجرد لذهن بشري مادي، لا يدرك معاني الأشياء بعيدا عن مصاديقها المادية أو تمثلاتها بينما يعجز عن إدراك القضايا الماورائية. فاشتراط التقيد بالمنطق القرآني ينير الفضاء المعرفي للباحث الموضوعي)[64]. الفكر النقلي الذي حصر الواقع في ماضوية لا تتحرك إلا على سحب الحاضر إلى الماضي أو إحلال الماضي في الحاضر، وثباتها على أحداث ووقائع ورؤى تاريخية محددة، يقيس العقل النقلي بها كل شيء محدث. ينافح عن ذاته بقمع كل أنواع التفكير؛ (إن تداعيات الجمود على النص، وتقليد السلف، واستفتاء الموتى، راكمت التخلف والانحطاط والتبعية)[65].

- الفكر التجزيئي الذي يتعاطى مع تفاصيل الأشياء دون وضعها في إطار أشمل، بمعنى وضعها في إطار منظومي نسقي؛ بمعنى الاشتغال بالتفكير المنظومة. نسق مكوناته تتفاعل فيما بينها تأثيرا وتأثرا، ويستحضر بعضها الآخر لاستكمال اشتغاله ... (كما هو دأب العقل التراثي الذي يهتم بجزئيات لا علاقة لها بجوهر الأشياء)[66]. ما يفقده الرؤية الشمولية في مقاربته وربط الجزئيات بإطارها العام. فمعظم الفتاوي هي فتوى بخصوص نوازل منعزلة عن سياقها العام الاجتماعي والثقافي والسياسي ...؛ لذا نقيس الحاضر على الماضي. فمثلا: قضية المرأة في المجتمع الإسلامي نقيس حاضرها بماضيها عبر أحكام وفتاوى فقهية تاريخية لها مسوغاتها ومسبباتها، ليست حتما متشابهة بالراهنة منها، ولا في سياقها. ولا هي في جزئياتها وعمومها شبيهة بالتي حاصلة الآن، فظروف المجتمع الآن غير ظروفه في الماضي، ومتطلباته الحالية غير متطلباته الماضية ... وهكذا؛ نأزم المأزوم أصلا، ونزيده بؤسا ومعاناة. (المرأة مقياس تطور المجتمع، وقمعها أحد علامات تخلف المجتمع، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، تفرض عليها قيم بائسة، تحرمها أبسط حقوقها، وتقصي قدراتها الخلاقة، فتحرم المجتمع نصفه)[67].

- فكر ديني معتل بثقافة القبيلة والإثنية والمذهبية والطائفية؛ بمعنى فكر يفرق أكثر مما يجمع خلافا لأصله العقدي ({واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} ... وجذر من تمزقهم وتنازعهم: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم})[68]. وهنا لابد من تسجيل أن هذا الفكر هو الملائم لأعداء الأمة لبث التفرقة بين أفرادها وشعوبها؛ لأن طبيعته قابلة لتبني عوامل التفرقة والتمزيق في بنيته العقدية. وهو ما يتجلى في فتاوي التكفير للمخالف المذهبي والطائفي، حتى صار إلى دعوة الأعداء لشن الحروب على بعضنا البعض؟! وكأننا لسنا من أمة مسلمة واحدة، و(نحن متفرقون منذ الوجود وإن اختراقنا كان سهلا جدا ومازال واختراقنا هي تبعيتنا)[69] وهو ما يحول وعوامل أخرى دون اتحاد الدول العربية والإسلامية ووحدتهم. (فالقرآن من حيث المبدأ قادر على تماسك الجماعة المسلمة، بمعنى أنه قادر على تأسيس وعي كامل لمسألة وحدة المسلمين، من خلال حثه على الأخوة، والإيثار، والتسامح، والعطاء، إلى آخره، وكلها عناصر تساهم في وحدتهم)[70]. لكن الفكر الديني التراثي القبلي المذهبي الطائفي يلغي من قاموسه هذا المبدأ، ويجعل المسلمين طوائف متحاربة فيما بينها. ف- (داعش وأخواتها كفيلة بتفتينا. بل إن الصراع بين الطوائف الإسلامية الذي يتجلى بأشكال مختلفة، وعلى جميع المستويات، ظاهرا مرة وأخرى مستترا كفيل بتحطيم أواصر الأمة الواحدة، وبالتالي القضاء عليها. مرعب حجم التنابذ والتكفير الذي يصل حد استباحة الدماء، لا أستثني أحدا، ومآل خطير)[71].

- الفكر المغالي والمبالغ في مذهبه ومعتقده وطريقته؛ من أنه نجح (في ترسيخ بديهيات عقيدية، من خلال منهج مراوغ، يعتمد الاستدلالات الساذجة، ويستغل رثاثة الوعي، وانحطاط الثقافة، والبيئة المثيولوجية، فيشاغل وعي المتلقي بمضامين غرائبية خرافية عن الرموز الدينية، يغفلون معها سؤال الحقيقة. أي السؤال عن ذات الرمز وحقيقته قبل الحديث عن خصائصه ومعجزاته وكرامته. فعندما يشاغل النص الوعي الرث بأحاديث خارقة، مذهلة، غرائبية لا يلتفت لسؤال الحقيقة، بل تصبح لديه منظومة بديهيات، ومبادئ عقيدية مسلمة، تندرج ضمن اللامفكر فيه، والمقدس، الذي يحرم مقاربته، فضلا عن نقده. هذه البديهيات هي التي تمرر روايات الغلو، لتراكم مزيدا من المعرفة المشوهة، العقيمة. فلا دليل على أسطرة الرمز الديني سوى النص ومنطقه ومراوغاته وأدائه، وقدرته في التشويش، وتوجيه العقل الجمعي، المفجوع بوعيه. خطاب الغلو لا ينتج معرفة، بل يؤسس للخرافة واستعباد العقل والمنطق. فهو خطاب مغلق، دائري، يتحرك داخل مداراته، بين الرمز ومضامين النص. يجب الإشارة إلى مراوغات خطاب التقديس والخطاب التنزيهي الذي يلعب دورا هو الآخر في ترسيخ جملة بديهيات عقيدية، كانت قد انبثقت في بيئة خرافية، ثم ترسخت تحت فعل التلقين والتربية والتثقيف، وخطاب التقديس يتخفى بظل الأوصاف الأسطورية، والمبالغات التقديسية، ويحقق ما يريد، من خلال سلطته حينما يتمركز في اللاوعي. فقيمة النقد ليس في تناول ما يقوله النص ظاهرا، بل باستدعاء ما لا يبوح به، ويسعى لتمريره دون التصريح به، من خلال قوة أدائه وبلاغته. وقمة وعي الفرد في قدرته على إعادة تشكيل العقل وفقا لسؤال الحقيقة عن ذات البديهيات العقيدية، وصفاتها، وخصائصها، وبشريتها، وليس النقد انشغالا بظاهر النص، وما يبوح ويتجاهر به، فهذا ليس نقدا عقليا وفلسفيا، ولا يمثل منهج التفكيكي والتحليلي. ولا يصدق أنه حرث وتنقيب في أعماق النص. فالنقد مهمة شاقة، تتطلب أدوات ماضية، ومنهجا عقليا صارما، مع ذكاء وفطنة، وقدرة على ملاحقة مراوغات النص، والإمساك بهلاميته، والوقوف على آليته. لذا تندر القراءة النقدية الفاعلة، ولذا أيضا يتهستر العقل التقليدي من نتائج النقد وقوة محاججاته. إن مهمة النقد مهمة فكرية فلسفية، تتوغل عميقا في المضمر من الأنساق، وتواصل تفكيك مرجعياتها، وتحليل مقولاتها، كي نتعرف من خلالها على حقائق الأمور، وخيبة الوعي، عندما تكتشف حجم التزوير، ومساحة اللامعقول في العقيدة، التي هي مركز توجيه الوعي، وتشكيل العقل. وتقف بنفسك على خيبات التخلف الحضاري والفكري، حينما نحتسب أن كل ما بيدنا حقائق نهائية، وما هي سوى تزويرات، تخشى المقاربات النقدية)[72]. ولكي يكون النقد ذكيا وفطنا لابد أن يلتمس في فرشته المعرفية المنطق غير الصوري للوقوف على المغالطات المنطقية والمنطق وتحليل الخطاب مع مهارات وقدرات وكفايات التفكير المختلفة. فالغلو يحبك صنعته جيدا؛ حيث يمسك بحديثه داخل بيت عنكبوته عبر خيوط رفيعة تعكس في ظاهرها الحقيقة والمصداقية وصدق المرجعية، وفي باطنها نار الجهل والتخلف والتزوير والتزييف. وباطن بيت العنكبوت هذا، في زاوية ما، حاصره فكر أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي، لعله يفتح كوة في عقلنا الجمعي لمراجعة تراثنا الديني وتفكرينا العقائدي بمنطق السؤال، ويشكل وعينا الديني المفقود منذ زمان، شدنا إلى الخلف والتردي. فهو ينزع إلى إيقاظنا من السبات والغفلة لننطلق بديننا نحو العقل وآفاقه الرحبة.

- الفكر التراثي الديني الحامل للخرافة واللامعقول، ما لا يقبله العقل ولا التفكر والتدبر والتبصر، ولا يستحمل وجوده في العقيدة الإسلامية. فقد جعل بعضهم مسلك القرب من الله سبحانه وتعالى، ودخول جنة الخلد الأذكار فحسب، والسباحة بالروح في بحر غرق الأرواح، أو انصهار ذات الأروح في الروح بلا أرواح، أو الانعتاق من سلاسل أغلال الزمن والمكان والحدث بالفناء في عالم الأنوار، في دروب وأزقة وعروق ذات الذوات بلا ذات ... وهذا العدم في لا عدم بلا عدم يقتضي الخلوة، والخلوة مكان انفراد الإنسان بالنفس مختليا للعبادة في اصطلاح الطريقة الكركرية، من حيث يلزم العابد مكان الخلوة ليتجرد من الحس/المادي/الجسد، ويسافر إلى عالم المعنى، عالم المجردات، عالم الرب جل وعلا، بزاده/قوته/عظمته/اسمه ... والانقطاع الكلي عن ذات العابد وحسيته، ومفارقة الروح للجسد بلا مفارقة، والدخول إلى القلب بصفاء ذهني ونقاء روحي لمجالسة الرب، لكي تنكشف الأحجبة عن قلب العابد، فيتزود من القدم بما لا يبلى من مكاشفة وذوبان في السناء ... فلا أجد لعقل هذا الكلام - لا فهمه - منهجية تمسك به، فهو من خارج التعقل والتدبر والتفكر والنظر والوعي الذي أمر به الله تعالى في كتابه الكريم، ولا أجد نبينا عليه وعلى آله السلام سلك مسلكا كهذا منذ غادر غار حراء؛ فهو كلام ومنهج وطريقة ومسلك يساهم بشكل كبير، وبدرجة عالية في تمزيق العقل والجسد والروح، فضلا عن هدم الزمن والجهد في سبيل فراغ كلامي. فسر الآيات والأحاديث على هواه ولصالحه، وزعم أنه في طريقه هذا يلازم السنة في الأقوال والأفعال والأحوال، ويمزج بين الفناء والبقاء، فالمريد فيها فان باق في الوقت نفسه حسب زعم الطريقة الكركرية مثلا لا حصرا.

هنا؛ وبكل صدق (وقد بلغ العقل مرحلة متقدمة مع النبي محمد، أصبح قادرا على طرح الأسئلة النقدية)[73]، ولكي لا نحرم من طرح الأسئلة الحرجة والمحرقة على العقل والتفكير والتدبر في شأن هذا الواقع العربي والإسلامي المشبع بالخرافة واللامعقول الذي يحرق كل شيء، من قبيل:

- هل الرحمن الرحيم لا ينظر إلى الإنسان إلا وهو في كسوة العبادة المرقعة كوزرة المتعلمين في الفصل الدراسي؟ ولا يرتبط به سبحانه إلا وهو في حالة الدروشة والمسكنة والمذلة والانكسار؟ أم أنه خلقه في أحسن صورة، وطالبه بالزينة وحسن المظهر وجمال العقل. (يا بني آدام خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)[74]. و(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)[75].

- ألا يقتضي " لزوم قبر الحياة للتجرد من الحِسِّ والسفر إلى عالم المعنى بِزَادِ الاسم ..." من المريد أن يقتل نفسه، بمعنى الانتحار ليقصر المسافة بين حياته الموت وحياته الحياة تطبيقا لحالتهم الروحية شعرا:

فالمَوتُ فيهِ حياتي ****** وفي حَياتي قَتلي[76] ؟

وأنصح كل من يريد مجالسة رب العالمين الذي دعانا إلى تعمير الكون وإلى العمل وإلى التفكر والتدبر والتعقل بمفهومه العلمي لا بمفهوم أصحاب الأهواء على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم ومدارسهم أن ينغمس في دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الصحيحة والتاريخ الإسلامي بعين العقل المتبصر المتدبر. للوقوف على غايات الخلق والوجود الحقيقية التي خلق لها. وأما؛ وما نحن فيه وعليه من هذيان وخرافة وأساطير وسرديات خيالية وسحر يحدد مصائر الخلق، لا يناسب أمة اقرأ، والقراءة سباحة العقل في ملكوت الرحمن فاحصا ودارسا ومكتشفا ومبدعا ... فالله تعالى ليس في حاجة لعبادتنا إلا لغايتها السامية في خدمة الإنسان والكون ومخلوقاته وتعميره وتطويره. والله خلقك أيها المريد والشيخ لتحيا، لا لتموت وأنت تمشي في هذه الحياة الدنيوية، فهو جل وعلا غني عنك، ولكن الأمة فقيرة كل الفقر لمجهوداتك العلمية وأعمالك التكنولوجية والصناعية، لتجد روحك مسلكا إلى الموت في الله، في فلسطين دفاعا عن المستضعفين من إخوانك. ويكون استشهادك حياة حقيقية في الله، من حيث تكون حيا عنده ترزق، لا كما الحال اليوم موت في موت بلا موت. علا تعالى عما يفتون به من تخلف وخرافة علوا كبيرا، فديننا دين عقل ومعرفة وعلوم وتربية، والتربية منظومة قيم وأخلاق في بناء العالم وتعميره على أسس العلم والإحسان إلى الإنسان.

وقد جاءني واقعا مشاهدا بالحس أن الانتحار - سواء المادي أو الروحي - فعل تكفيري يقلص ويقصر مسافة الزمان والمكان إلى عشرة المصطفى عليه وآله السلام، وإلى الخلود في جنان الرب الكريم بدماء الأبرياء، والنعيم بالحور العين ...  ونسوا وشيعتهم من فرق مكذوبة على الإسلام والمسلمين أن الشهادة لا عبث ولا انتحار، وإنما صدق في الزمان والمكان والحال والمآل في طغاة ليس لهم مقام. فالعبث كل العبث، الانحراف عن ساحة الجهاد الحقيقية إلى ساحة القتل. فقد قال عبد الله بن المبارك فيها وفي العبادة على الطريقة الصوفية شعرا:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا         لعلمت أنك في العبادة تلعبُ

من كان يخضب جيدَه بدموعه       فنحورنا بدمائنا تتخضب

وصور الخرافة تتعمق في تراثنا الديني بتراث السنة النبوية الموضوعة، في الإيمان بالسحر وسطوته على الإنسان، والإيمان بمفعوله ضدا على إرادة الخالق، (ولا يفلح الساحر حيث أتى)[77]. ف- (إيمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العملية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح، فيتقاعس عن العمل وطلب الرزق، بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرضى وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء وسلوك الطرق الطبيعية للتكسب)[78]. فمازال مع الأسف الشديد تراثنا الديني مشبعا برؤى تقليدية فكرية وثقافية بما فيها الدينية والتربوية، وموروثات خرافية أسطورية تسللت إليه من روافد عدة، إحداها الإسرائيليات والوضعيات التي تخضع التفكير الديني على القبول بمقولات كالسحر والكرامة والولاية والتصوف والعجائب والغرائب من الأمور والأحداث. ولنا في المغرب المثل من حيث الأضرحة تصرف عليها الأموال الطائلة من الدولة والأفراد بزعم قضاء الحوائج والأغراض من أولياء شرفاء ماتوا وشبعوا موتا، انقطع عملهم منذ موتهم. وهم مازالوا بسلالاتهم وبغيرهم، كحياتهم يزيفون الوعي الديني للمسلمين، ومازالوا ينشرون الترهات بينهم، والسذاجة والحمق والبله، ليسهل انقيادهم من ثعالب السياسة والدين والثقافة حيث يريدون. فهم مازالوا يصنعون إنسان الخرافة، والجهل، والأسر، والتبعية، والعدمية ...

والأخطر ما في هذا التفكير التديني الأسطوري الخرافي أخذه الشرعية الدينية من التفسير السيميولوجي للنص الديني قرآنا كريما كان أو سنة شريفة. وأعطته تلك الشرعية عند رواده عقدية تعبدية، جعلوها من بنية الفكر الديني التي لها وظيفتها في التقرب منه تعالى، فهي كالصلاة أو أعظم. مما تغدو معه وعبر الزمن والممارسة من المقدسات التي لها حرمة لا تنتهك إلا تحت طائلة العقاب الشديد بالحكم الشرعي كما هو السائد مع مكذوب الحديث وأباطيل التكفيريين، وتنتشر في مجتمع الأسطورة والخرافة بسرعة وتستقطب الأتباع. وتطرح نفسها علما مستقلا بين علوم الدين يدرس، له متخصصون وأكاديميون، ومرجعية دينية تعلو فوق إدراك العقل وقدراته، بمعنى فوق العلم والمعرفة. وهنا؛ يقف أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي منبها لعامل الزمن بمفهومه التاريخي إلى ملتبسات هذه المقدسات السنية التي أخذت شرعية الانتساب إلى النص الديني الصحيح من باب تواردها بين الرواة. حيث (سبق التأكيد أن حجية السنة النبوية تقتصر على ما له جذر قرآني، فتكون بيانا وشرحا وتوضيحا في أفق الواقع وضروراته، شريطة صحتها بما يفيد العلم اليقين، بسبب بعدنا عن السيرة وعدم وجود أدلة كافية على صحة جميع ما وردنا من أحاديث السنة النبوية، واختلاط أقوال الصحابة والتابعين بأقوال السنة)[79].

- لماذا رزقنا الله العقل؟ أليس لنسلطه على النص الشرعي والكون قراءة بما تعني من تفكر وتدبر ونظر وتبصر لاكتشاف مكنونهما من المكونات والحقائق والقوانين والأدوات والمعرفة ونقيم الحجج والأدلة على ما يدعيه العقل أو الشرع؟ ألم لتركه وإعلاء شأن النقل نحوه، بدعوى قصوره عن إدراك ظاهرة الوحي وحقائقها وما ورد عنها من تشريع سماوي؟ أو بزعم تناقض العقل والنقل؟ والمنطق يفيد أن الاشتغال على النص الشرعي ذاته يقوم على العقل وإمكاناته الهائلة؛ فلما هذا التعارض بين النقل والعقل؟، وقد خلق الله العقل ليكتمل والنقل في نقل الحقائق والمعارف والأفكار والنصوص وغيرها من معطى التراث الديني على الوجه الصحيح الدال عليهما بالحجة والبينة والدليل. ومدح وأثنى الإسلام على العقل لأنه مناط التأمل، والتدبر، والتبصر، والتفكير الحر والمستقل المجرد في ملكوت الله تعالى، واكتشاف حقائقه وقوانينه وقواعده المتحكمة فيه والناظمة له. وصورنتها في نماذج فكرية قابلة للاستثمار والتطبيق، من باب الانتفاع بالمعرفة لخدمة الإنسانية عامة، والأمة الإسلامية خاصة. كما هذا العقل هو مدخل معرفة النص الشرعي بكل تفاصيله لغته ومتنه وقيمه واستنتاجاته ... فهو - أي الإسلام - يحتضن التفكير النقدي متنه، ولا ينفك عن الحجاج والحراك مع الآخر، ومع معطيات الكون والواقع حتى تسلم أفكاره بالحجج والدلائل التي تثبتها، ولا يخاف اقتحام المجهول والإبداع والتطوير والتجديد والتجدد، ولا يركن إلى ما حققه السلف أو استنبطوه أو استنتجوه أو أبدعوه، وإنما ظل التساؤل يرافق شمس السؤال، تلازم الظل لصاحبه، لا يختفي إلا بزوال النور، وزوال النور الجهل أو التقليد أو الموت. فهو مع الحياة يعيش القلق الإبستيمولوجي المنعش للتفكير والتأمل. ما أهله ويؤهله لمرتبة التكليف، في مقابل التنديد بالتقليد والاتباع، والإشادة بالعقل والحفاظ عليه والاشتغال به فيما ينفع الفرد والجماعة والأمة، وعدم توظيفه فيما لا ينفع من قبيل السحر، والشعوذة، والخرافات، والأساطير، والباطل. وهو سياق من سلك قمع العقل، وشكل العقل له الخوف من توظيفه واستعماله: (أكد الكتاب الكريم على ختم النبوة وختم التشريع: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين، وكان بكل شيء عليما". " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". وكلاهما يؤكد نضوج العقل وقدرته على الهداية والتشريع في ضوء قيم الدين والأخلاق، وهي قيم إنسانية كونية. والمقصود في خطابي ختم النبوة وختم التشريع، خصوص النخبة المفكرة ممن تتصف بوعي قادر على إدراك مقاصد الختم، وفي مقدمتهم الفقيه. وأما عامة الناس فيطرح الموضوع لهم كثقافة، في محاولة لزعزعة يقينيات الخطاب التراثي، الذي يغذي رهاب القداسة، والتوجس من العقل وأحكامه، خاصة عندما يضعه في خصومة مع الخالق، فتغذو أحكامه ردة وصلافة وجرأة على الله، ويكفي انطباع هذه الصورة في ذهن الناس لخلق ردة فعل من أحكامه في مقابل أحكام الشرع، التي يعمل الفقيه على توسعة نطاقها أبعد مما هو منصوص عليه قرآينا، لتشمل آراءه الفقهية ولو إيحاء، وهو يعلم علم اليقين أنها آراء اجتهادية ورؤية بشرية غير مقدسة ...)[80].

فالخروج من هذه الدائرة يفضي بنا إلى (الانفتاح على النص الديني بقراءة نقدية، للتعرف على مقومات النهوض، المنبثقة من مفاهيمه الأخلاقية. وتقديم رؤية جديدة للنصوص التي في ظاهرها تعيق التقدم الحضاري والتقني)[81]. والخروج من الفكر الساكن المنغلق على ذاته إلى فكر متنور منفتح قادر على فهم الآخر والحوار معه، وبناء شراكة معه في العيش المشترك، وقابل للاندماج الاجتماعي والثقافي والسياسي والفكري في المجتمع الأصلي، وفي مجتمع بلاد الاستقطاب والمهجر. باستنهاض العقل، وتثوير السؤال والبحث والتقصي، وتفاعل العقول وتكاملها وتناسقها وتقاسم معطياتها، واندماج الأفكار في رحاب تقاطعات الرؤى والثقافات والمعلومات والخبرات والتجارب، وإعادة تدوير الأفكار لإنشاء الجديد في إطار التفكير الإبداعي والابتكاري، وتشييد الوعي الحقيقي للأمة. وهو ما يسعى إليه مفكرنا الأستاذ المبدع ماجد الغرباوي - حفظه الله - حين يعتقد أنه (بالضبط يلعب الوعي دورا كبيرا في تحديد معالم نهضتنا الحضارية، والفهم الخاطئ سلبية قاتلة، جرت علينا كما تفضلت ويلات هائلة. ونحن نسعى جاهدين للمساهمة في ترشيد الوعي واستنهاض العقل من أجل تطور حضاري قائم على قاعدة أخلاقية مكينة)[82]، (بنسق عقدي مغاير، يضع العقل فوق النص، فيصدق أنه مذهب في التشريع، ينهل من معطيات العلوم الحديثة والفتوحات المعرفية المتجددة. يقدم الأخلاق على الأدلة الأولية ... لتعزيز حالة الوعي، وتكريس منطق النقد والتفكير والتحليل، بعيدا عن العواطف والدوافع الأيديولوجية)[83]. وبذلك يصنع متدين العقل، والعلم، والحرية، والاستقلالية، والنقد، والإبداع.

ونحن بصدد الخروج من شرنقة النقل الأعمى والتقليد وجمهرة المحافظين التراثيين الدينيين، بالانفتاح على النص الديني بقراءة ناقدة، نستحضر في تاريخنا الإسلامي بالخصوص، وفي الغالب، أن عملية التأريخ للمعطى العلمي والاجتماعي والثقافي والفكري؛ بما فيها تدوين الموروث الديني في بدايتها كانت بأثر رجعي. فرغم وجود بعض المبادرات التدوينية عبر صحائف الصحابة والتابعين ومن تبعهم للسنة أو الحديث حسب المختصين بالحديث والسنة والأثر - وهو أمر لا يمكن الجزم به لمجرد أن المخطوطة الفلانية موجودة في المكتبة الفلانية أو في المتحف الفلاني أنها صادقة - فإنها لا تصدق إلا حين تكون عن المدون نفسه، وإلا هي نسخة عنه؛ قد يقع فيها التصحيف والتحريف، والزيادة والنقصان. والصادق من الأحداث أو الروايات، هو ما تم عيشه حقيقة وبدون كذب في الواقع المعيش في زمنه ومكانه ودون في وقته. وأما ما دون بأثر رجعي، وزعم صحة متن تدوينه؛ فذلك لا تصدق عليه الصحة والثبوت القطعي، وإنما الثبوت الظني أولى به. وأما الحدث المسموع فهو حدث مساءل بضرورة طبيعته، لا حدث بالقطع والجزم لأنه نبأ. ومطلوب شرعا تبينه وتفحصه لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)[84]. وعليه جهد علماء المسلمين على إنشاء ووضع علوم شرعية لتمحيص الحدث ومتنه المروي وراويه ومخرجه، بمعنى التمحيص وإن شئت النقد على مستوى الرواية والدراية[85]. والمسألة في التراث الديني خاصة خارج القرآن الكريم المتن المقدس، هي مسألة تاريخية بامتياز يجب توظيف المنهج التاريخي - حسب أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي - في دراستها، لكي نعي مفاهيم ونماذج الظاهرة التراثية الدينية الإسلامية في المجتمع الإسلامي التي نزعت بهذا الأخير إلى فرق وملل ونحل متصارعة فيما بينها فكريا وماديا. ما دعا إلى التماس المنهج التاريخي لتبيان جذور المشكلة وطبيعتها من سياسية إلى دينية مرورا بالاجتماعية والثقافية والاقتصادية ... والحكم عليها تدوينا وتاريخا ومتنا ومنهجا وتوثيقا ودراسة.

الظاهرة التراثية الدينية الإسلامية لم تنشأ معزولة عن التفاعل الحضاري تأثيرا وتأثرا في المجتمعات الأخرى ولا المعطى الثقافي للأديان السابقة. ما يفسر الدعوة الملحة لتوظيف المنهج التاريخي في مقاربتها. من حيث:

- وصف وتنظيم التراكم التراثي الديني الإسلامي تعاقبيا وتزامنيا، ودراسته زمانيا، ومكانيا، وحدثا واقعيا، وحدثا فكريا. وتحليله بصرامة علمية مسؤولة وجادة، دون تأويل ولا تجميل ولا موالاه ولا مغالاة؛ لتقويمه بموضوعية، لأنها تتعاطى مع معطى موضوعي كان قائما في مرحلة ما، ولم ينته بعد، لأن امتدادات له في الحاضر والمستقبل.

- التماس المنهج النقدي التاريخي في دراسة التراث الديني الإسلامي لأجل رصد تبئيرات المشتغلين به منذ تأسيس التدوين، على الممكنات الوجودية التي عاصروها أو سبقتهم، وأخرجوها من إمكانية الوجود إلى الوجود بالفعل، ومن موضوع مجرد إلى موضوع متحقق على مستوى الكيان، ومدون على مستوى الحدث. وإلى متحقق تاريخي بين يدي الدارس والباحث الناقد، قابل للإمساك المعرفي والتداول التعليمي.  والذي من جهة أخرى يشكل أحد مكونات الحاضر والمستقبل. ذلك؛ ما القياس إلا دليل على إخراج ممكن الوجود إلى الوجود الفعل الواقعي. فالمنهج التاريخي بصفة عامة يساهم باستحضاره سياق الوجود وحيثياته وتفصيلاته وتمفصلاته الزمنية والمكانية والموضوعية والذاتية، في فهم واستيعاب ممكن الوجود - الحدث الغائب عن التدوين في وقته - ودلالاته ومعانيه في ذاته، قبل إسقاط دلالات خارجية عليه أو إضافتها لسابقاتها الذاتية. وهو ما يمكن أن يشكل منحدرات الانزلاق إلى التأويلات والتفسيرات وإسقاطات ظلال المعاني عليه. فيحتمل إمكانية الالتباس. وهو ما أشار إليه أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي بصيغة أخرى وبرمزية أخرى في سياق حديث آخر عن التداخل بين الأسطوري والديني، حيث قال: (فالبحث التاريخي يساعد على دلالاتها الرمزية [الخطابات القرآنية]، لتدارك أي انزلاق تأويلي، يؤثر سلبا في فهم تيمتها)[86].

وهذا المنهج لن يتجلى بصورة واضحة دون ترصيف المنجز الفكري بصيغة الجمع لأستاذنا المفكر التنويري الجليل ماجد الغرباوي، ورصد المرتكزين السابقين فيه، فهما قائمان حسب القراءة المتبصرة. ويكفيني لذلك الإشارة إلى قوله: (أن جميع الأحكام تشرع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في إطار الواقع وضروراته)[87]، والواقع وضروراته يختلف في الزمان والمكان والحدث وأهله وطبيعة تفكيرهم وأدواته ومناهجه واستراتيجياته. نتيجة طبيعته المتجددة والمتطورة التي تأبى السكون، وتنزع للحركة. وهنا البعد التاريخي حاضر بثقله لا يمكن إلغاءه ولا تجاوزه، ولا إنكار تأثيره في الأحداث وأحكامها وروايتها ودرايتها.

2.1. إخفاقات الوعي الديني على مستوى العمق:

في هذا المبحث ستكثف الورقة دلالات العمق سيميولوجيا، حيث ستشير في البعد النقدي إلى رمزيات إخفاقات الوعي الديني حسب متن الحوار القائم بين السائل الأستاذ سلام البهية السماوي والمجيب الأستاذ ماجد الغرباوي، كالتالي:

- الإخفاق يشير إلى غياب الوعي الديني لدى حراس العقيدة عبر قرون مديدة، منذ احتلت السياسة تربة جذور العقيدة، تغذيها بالمواد والماء والأسمدة، فيعتقد الفرد أن العقيدة شجرة خالصة الطبيعة الدينية، ولا يرى الجذور ولا التربة تحت جذع الشجرة. فتصبح العقيدة تابعة لا مستقلة، ويصبح التراث الديني الإسلامي في أكثريته تبريرا لواقع مرير يكرس تزييف الوعي والعقيدة معا، ويناصب كل نقد بناء أو مساءلة فكرية العداء، وينحو نحو الدفاع عن الموروثات كيفما كانت مادامت تنتسب إلى الدين، ولو كانت خرافات وأساطير متساوقة مع أطروحاته. فالوعي عندما يدخل تحت عباءة النقل الأعمى والتقليد واللامفكر فيه، ويلغي من ذاتيته البعد النقدي، ويشطب بالقلم الأحمر على منظومة التساؤل؛ يصبح كارثيا على التراث الديني نفسه، وعلى المجتمع لتحجره في قوالب فكرية معينة مغلقة غير قابلة للفتح أو في أقبية مظلمة معتمة لا ينفذ إليها النور. لكن عندما يدخل تحت عباءة العقل والفلسفة والسؤال يتحرر من قيوده، وينطلق نحو النقد والمساءلة بما يدقق في الحقائق والأحداث، ويراجع الأقوال والأحكام. ولا يهتم لتلك الأوصاف التي يسقطها عليه التحجر الفكري، ويسير إلى هدفه بثبات وحياد مزيحا كل العقبات والإكراهات والتحديات من طريقه ضمانا للوعي الديني المحرر للإنسان.

- الإخفاق دلالة على استقالة الفكر الديني عن ممارسة دوره في التجديد والتطوير للمعطى التراثي ومنتوجه الحضاري والإنساني. بمعنى إخفاقه في تناول الأسئلة الحرجة المتعلقة بالبعد الوجودي الحقيقي للإنسان المسلم ومآلاته، في زمن التغيرات المتسارعة في المجتمعات ومناحي حياتها، وقطاعات إنتاجها ... فالفكر الديني مازال يجتر الماضي وينسب كل منجز حاضر إلى ماضيه، ظنا منه أنه سيأصله. فالفكر الديني ما لم ينفتح على قضايا عصره لن ينجز شيئا، ولن يفهم فلسفة الحياة المعاصرة، ولن يتقدم إلى الأمام شبرا. فعليه الانفتاح على العصر وقضاياه ويشارك في مقاربته بنقد وإبداع، وثقة وعزة وحرية ومسؤولية واستقلالية. فالتابع عبد يؤمر ولا يأمر.

- إخفاق الوعي الديني هو قتل للدين ذاته بلا منازع. لأن غياب الوعي هو غياب للموضوع والمنهج وأدوات الاشتغال على الدين. فلا يستقيم إخفاق الوعي الديني مع إيجاد معرفة واعية بالدين. فذلك من المتناقضات التي سعى التراث الديني إلى التوفيق بينها، بل الترقيع بينها في أكثر من قضية دينية أو فكرية. وأدخل في علوم الدين ما ليس له صلة بالعلم ولا بالعقل ولا بالمنطق. بل ربما يتصل بنظرية الفوضى.

- إخفاق الوعي الديني يرمز في ناحية ما إلى عدم التوسع المعرفي بمسألة التراث الديني، وضيق الاطلاع الموسوعي على مختلف العلوم المساهمة في توضيح الرؤى، الداعمة لتنوع التفكير، وقلة الإمساك بالمناهج الحديثة لدراسة الظاهرة التراثية الدينية كمعطى ثقافي واجتماعي وتاريخي وسياسي ... قبل المعطى الديني. فالتراث الديني المقصود منه ليس القرآن الكريم ولا السنة النبوية الشريفة، وإنما ما أنتجه العقل الديني من علوم وشروح وتعليقات واجتهادات وهوامش ونكات ... وغيرها. فقصور المعلومة يؤدي إلى اختلالات في القرارات فضلا عن المناهج والأدوات ... وفي ظل هذا المعطى الرمزي، يؤدي القصور المعرفي في المجتمع، وحتى في المجتمع المعرفي إلى الفهم المغلوط والمشوش للتراث الديني، ما يؤدي إلى ظهور مشكلات معرفية وسلوكية عدة، قد تهدد بانهيار المعمار الديني للمجتمع معتقدا ومسلكا وسلوكا ومن ثم معماره الاجتماعي. فخطورة الفهم القاصر والمشوش والرمادي على الفرد والمجتمع أشد وقعا من القنابل، لأن مفعولها محدود في الزمن والمكان والأشخاص، بينما مفعول الآخر يدوم وينتشر على الكل.

- إخفاق الوعي الديني بصيغة الجمع يرمز إلى وجود عدة مجالات وقطاعات وحقول تم فيها الإخفاق، خاصة تلك التي تشكل المدخل الحقيقي والعملي للتطور الإنساني. وهي الحقول والمجالات المعرفية والفكرية. فالإخفاق مثلا في الإنتاج هو إخفاق في المعرفة والعلم والإبداع. وإخفاق الوعي الديني عندنا ناتج عن إخفاقنا في نزع سيطرة النقل الأعمى على تراثنا الديني الحامل للخرافة والأسطورة، وضيق العقل واشتغاله. والإمساك بأوهامنا وضلالاتنا وتفكيكها بأدوات علم النفس المعرفي السلوكي، وإخراجها من دائرة معتقداتنا، ورميها في هوة سحيقة من ذاكرتنا الجمعية والفردية، وردمها بتربة التفكير العقلاني المتطور. بل حرقها في أفران الوعي الديني الحقيقي أو إذابتها بحوامض المركبات الكيمائية الفاعلة في إبادتها من وجودنا الديني والثقافي والاجتماعي. ودخول العصر الحديث دونها لكيلا تؤثر فينا، والتواصل مع آفاق وأوطار العقل والتفكير العلمي للخروج من واقعنا المريض والمأزوم.

- إخفاق الوعي الديني في عمقه يدعو إلى مراجعة التراث الديني دراسة وتحليلا، ومساءلة وتصحيحا، لتنقيته وتصفيته من الشوائب العالقة به، من إسرائيليات وأحاديث موضوعة، وشروحات وتفسيرات خاطئة وأخرى أسطورية وخرافية. وإزاحتها عن مشهد الأحكام ومواطن التأثير في الخاصة والعامة من المسلمين والثقافة الدينية والتداول التعليمي والعلمي والأكاديمي، ومغادرتها فكرا وسلوكا.  ومحاربة الاجتهادات والفقهيات والأفكار المتخلفة عقليا ونفسيا التي سيطرت على المجتمع الإسلامي لعقود طويلة، ووسمته بالجمود والتأخر والتخلف على مختلف الأصعدة. وكذلك الوقوف على الأسباب الحقيقية التي تشدنا إلى الخلف الراقدة في تراثنا الدينية، والعمل على حل مشاكلها ووضع الحلول والخطط لتجاوزها سيرا نحو التقدم والتطور الحضاري والعلمي والتكنولوجي ...

- إخفاق الوعي الديني يرمز من جهة أولى إلى ما نعيشه من أزمات متنوعة، ومن جهة ثانية إلى تأكيد أولوية صناعة الوعي من جديد في المجتمع. إذ أصبحت صناعة الوعي اليوم من أولويات ما تسعى إليها النظم التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات والدول، وإلى تحقيقها عمليا وفعليا على أرض الواقع، لكي تتطور وتتجدد وتنمو في ظل التطورات التقنية والتكنولوجية والعلمية البحثية، وتحدث منافذ للوعي في الأفراد والجماعات، وتشكيل الوعي الجماعي الذي يشيد المصلحة العامة للمجتمع، ويبني تلاحمها وتضامنها وتكافلها وتآزرها، ويعضد الأواصر بين مكوناتها لتحقيق منافعها، وما يسعدها ويرغد عيشها وحياتها.

- إخفاق الوعي الديني يرمز إلى تهيب السؤال ومغامراته الفكرية، ومجاهيل مصائره في حياة الفرد والمجتمع، خاصة ارتدادات الصدى في مدى الإيمان وعائدات السياسة والمصالح والمنافع لا الحسنات والثواب، والجزاء والعقاب؛ لأن السؤال لم يكن (علامة استفهام ساذجة ارتسمت على وجهه [أي الإنسان] في أول بادرة وعي بشري، بل كانت سؤالا فلسفيا، يتحرى الحقيقة، والبحث عن معنى لوجوده ومصيره، وفهم ما يحيط به من ظواهر وألغاز. الإنسان مسكون بالحيرة، لذا لازم السؤال حياته، وشكل أساسا متينا لمعارفه وآفاقه العلمية، التي أفضت إلى اكتشاف قوانين الطبيعة وتسخيرها لمواجهة تحدياتها. فكان الشك يتفاقم، يتشظى، يفتت ركام التخلف والانحدار، ويزعزع يقينياته وقبلياته، سيما السؤال الإشكالي، يستدعي التأمل والحفز والتنقيب، ويفتح مساحات رحبة للنقد والمراجعة والحث على اكتشاف الحقيقة. فالسؤال تعبير آخر عن الحيرة والدهشة، وإعادة ترتيب أولويات التفكير النقدي، عندما يخترق مرجعياته، ويستدعي مقولاته الأساسية، وما تتستر عليه، وتستبعده من ثقافة موازية، تمارس تزوير الوعي. غير أن السؤال الإشكالي المنتج مرتهن لشرطه، أو يخبو وينهزم في أجواء التخلف والعبودية، فثمة خطوط حمراء، ومحرمات، عقدية وفكرية، يعتبر تخطيها، استفزازا وتقويضا لمؤسسات دينية واجتماعية نشأت، وفرضت هيمنتها وفقا لاجتهادات، تخدم مصالح مذهبية وطائفية وسياسية. فالأمة القادرة على صياغة أسئلتها، تكسب معركة النجاح حضاريا ولو آجلا، وتنكفئ حينما تراوغ وتتشبث بأوهام الحقيقة، والهروب من المسؤولية إلى أحضان التراث)[88].

- لابد من الاعتراف:

لكل مقاربة نجاحاتها وإخفاقاتها أو إيجابياتها وسلبياتها. ولعل الاعتراف بذلك يظهرها في:

أ - الإيجابيات:

- من محاسن العنوان أنه أخرجنا من ضيق الفكر الديني التراثي التقليدي المنغلق إلى رحابة الفكر الديني التنويري.

- الإطلاع على مشروع مفكرنا الأستاذ ماجد الغرباوي التنويري في مقاربة التراث الديني، وطرحه المنهجي المرتكز على البعد التاريخي والأخلاقي.

- حضور النقد في منجزه الفكري بصيغة الجمع بجانب البعد العقلي والفلسفي الذي يضفي سمة الميتافيزيقي في التدين الإسلامي تأملا وتحصيلا. والحضور هنا بأبعد مدى، وبأشد سؤال حرقة، وبأكبر جرأة لا تخاف لومة لائم في الله. فانفتحت آفاق تشييد الوعي الديني من جديد على ركيزتي النقد والعقل ومتطلباتهما المتنوعة.

- حضور البعد التاريخي في قراءة أستاذنا الجليل للتراث الديني، خاصة منه الفقهي، والخروج بما يناسب قضايا العصر ومستجداته. وتصحيح المتهافت منه بمنطق الحدث التاريخي والعقل.

- حضور الوعي الديني في ملاءمة المنطوق الفقهي - خاصة منه ما يتعلق بالآخر المختلف - مع قضايا التواصل بالآخر في العصر الحاضر.

- قراءة منجزه الفكري بصيغة الجمع توسع مساحة البيكار المعرفية للقارئ، فضلا عن فتح منافذ السؤال على التراث الديني ببعد نقدي مشرطي متفحص ومدقق ومصحح.

- الاعتقاد بتعدد الرؤى حين الدعوة إلى تحرير الوعي الديني وتجديد منهج تشريع الأحكام، بما يفيد أن القراءات التراثية التقليدية غير مكتملة، وغير مؤهلة بما يكفي لمقاربة معطيات العصر الحالي. ما يتطلب فتح على القراءات العصرية التي شكل العقل مركز الانطلاق إلى مغاليقها وأقبيتها.

ب - السلبيات:

- فصحة الزمن الممنوحة تضيق أمام هذا التراكم المعرفي والمنهجي، وعديد المنجز الفكري بصيغة الجمع. لذا جاءت المقاربة في جزئها الأول المتعلق ب " إخفاقات الوعي الديني" مضغوطة مبتسرة. لا تدعي، ولا تزعم أنها وفت منجزه تفصيلا من البيان والدراسة، ولا تحصيلا لمكانته بين تراكم وترصيد الفكر التنويري، وإنما تلتمس العذر من قامة فكرية كبيرة، هي المقاربة منها نزر كحبة تراب من ظل شجرتها الوارفة السامقة حين تستقيم شمسها في وسط السماء بالنهار.

- الورقة هذه غير مكتملة، وإنما هي الجزء الأول من بين ورقتين باقيتين، ستعمل المقاربة على إنجازهما وعدا لأستاذنا الكريم ماجد الغرباوي بالمشاركة في المؤلف الجماعي القادم بإذنه تعالى. أولهما تخص منجز " تحرير الوعي الديني " وثانيها منجز "مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام". حيث يتجلى فيهما البعد النقدي بوضوح.

- المقاربة هذه وقفت على هذه المفردات في موضوعه بقراءة سريعة متسرعة في فعلها وزمنها، سيغطي على مثالبها الطموح إلى إنجاز كتاب في شأنها، يمنحني الوقت الكافي والدراسة والقراءة المتأنية الفاحصة الناقدة لمنجزه الفكري بصيغة الجمع. وتعتذر من القارئ ما لم يجد نفسه في تفاصيلها مع مؤلف " إخفاقات الوعي الديني ".

- أمل:

أملي أن أكون أشعلت شمعة في طريق الإضاءة على الفكر التنويري لأستاذنا المفكر الجليل ماجد الغرباوي، بعود ثقاب الرصد للنقد الديني، الذي أجلى أمامي الكثير من الحقائق، ومنحني مسلكا منهجيا جدير بالمناقشة والدراسة، وتوافق مع ما أصبحت عليه من قناعات دينية اتجهت نحو التحرر مما كبل تفكيري الديني من مسلمات ويقينيات، شحنت في الذاكرة المعرفية منذ أيام دراستي للشريعة الإسلامية عن السنة النبوية الشريفة خاصة. قناعات تشكلت عند ملامستي الفلسفة دراسة وممارسة، ورميت البوح بما لها من رحابة التفكير والحرية عندما تعانق روح الإسلام القرآن الكريم ...

وألتمس من كرمه أن يضع هذه الورقة في خانة يتبع إن شاء الله تعالى.

***

عبد العزيز قريش

قارئ من المغرب

......................

المراجع:

" حسب ورودها في المتن "

أ - الورقية:

- القرآن الكريم.

- صحيح مسلم.

- إخفاقات الوعي الديني، حوار سلام البهية مع ماجد الغرباي، مؤسسة المثقف العربي/العارف للمطبوعات، سيدني/بيروت، أستراليا/لبنان، 2016، ط1.

- ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، أستراليا/سوريا، 2024، ط1.

- ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2021، ط1.

- ذ. ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة ... نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2018، ط1.

هوامش

[1]   إخفاقات الوعي الديني، حوار سلام البهية مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف العربي/العارف للمطبوعات، سيدني/بيروت، أستراليا/لبنان، 2016، ط1، ص.:5.

[2] سورة النحل، الآية: 90.

[3] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، أستراليا/سوريا، 2024، ط1، صص.: 7 - 8.

[4]  سورة المدثر، الآية: 11.

[5]  سورة مريم، الآية: 95.

[6] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحجمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، أستراليا/سوريا، 2024، ط1، ص.: 9.

[7] سورة الزلزلة، الآيتان: 7 – 8.

[8] سورة النساء، الآية: 105.

[9] سورة التوبة، الآية: 31.

[10] سورة المائدة، الآية: 44.

[11] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.: 5.

[12] انظر في شأنه المعاجم العربية.

[13] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:49.

[14]  ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 42.

[15] نفسه، صص.: 49 – 50.

[16] نفسه، ص.:47.

[17] ما بين معقوفتي المجال الرياضياتي هو إضافة من الورقة.

[18] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:57 - 58.

[19] نفسه، ص.:47.

[20] سورة النمل، الآية:80.

[21] سورة فاطر، الآية:22.

[22] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:59 - 60.

[23] نفسه، ص.:60. بتصرف.

[24] نفسه، ص.:61.

[25] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:61.

[26] نفسه، صص.:39 – 40.

[27] هذه الفقرة نفي لما جاء عن حضارة الغرب في الصفحة 17 من: ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني.

[28] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:17 - 18.

[29] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:67.

[30]ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:67 - 68.

[31] سورة النمل، الآية:88.

[32] سورة النبأ، الآيات من/إلى:6 – 16.

[33] أخرجه أبو يعلى والطبراني، وصححه الألباني.

[34] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:68 - 69.

[35] ذ. ماجد الغرباوي، الهوية والفعل الحضري، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2019، ط1، صص.: 332 - 333.

[36] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 34.

[37] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 57.

[38] نفسه، ص.: 50.

[39] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق.

[40] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق.

[41] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 69.

[42] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:57.

[43] نفسه، صص.: 53 – 54.

[44] سورة الحجرات، الآية.:13.

[45] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:40.

[46] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.: 31.

[47] سؤال الأستاذ سلام البهية السماوي، إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:36.

[48] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 36 - 37.

[49] نفسه، ص.: 35.

[50] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 65 - 66.

[51] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 73 – 74.

[52] نفسه، ص.: 34.

[53] نفسه، ص.: 60.

[54] نفسه، ص.: 27.

[55] نفسه، صص.: 95 – 96. ردا على تعليق الدكتور الكاتب والباحث علي ثويني.

[56] نفسه، ص.: 68.

[57] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 93.

[58] إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 92.

[59] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 93.

[60] نفسه، ص.: 49.

[61] نفسه، ص.: 49.

[62] سورة هود، الآية: 118.

[63] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 61.

[64] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2021، ط1، ص.:138.

[65] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 68.

[66] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:88.

[67] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 50.

[68] نفسه، ص.: 41.

[69] فكرة متبناة من ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 92. بتأكيد القول ب: تضاف إلى النقاط الأخرى.

[70] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 41.

[71] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 107. ردا على تعليق الدكتور الطبيب الكاتب الأديب محمد مسلم الحسيني.

[72] ذ. ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة ... نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2018، ط1، صص.:279 - 280.

[73] ذ.  ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:363.

[74] سورة الأعراف، الآية: 31.

[75] أخرجه مسلم.

[76] انظر موقع الطريقة على الشبكة العنكبوتية.

[77] سورة طه، الآية: 69.

[78] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 59 - 60.

[79] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.: 15.

[80] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، صص.:116 - 117.

[81] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 64 - 65.

[82] نفسه، ص.: 94. ردا على تعليق على الشاعر الأستاذ الحاج عطا الحاج يوسف منصور.

[83] نفسه، ص.: 9.

[84] سورة الحجرات، الآية:6.

[85] انظر في شأن هذا المبحث كتب الاختصاص من علوم الحديث.

[86] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:178.

[87] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.:127.

[88] ذ. ماجد الغرباوي، الهوية والفعل الحضري، مرجع سابق، ص.: 7.

...................

* مشاركة (22) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

- الغرباوي مفكر إسلامي عراقي فذ من مواليد 1954.

- هاجر إلى أستراليا في عهد نظام صدام حسين وحصل على الجنسية الأسترالية.

- أسس صحيفة ومؤسسة المثقف في مدينة سيدني الأسترالية.

- له العديد من الكتب والمؤلفات التي تدعو لتحديث الدين الإسلامي ونبذ التطرف.

- ينتقد الغرباوي التفسيرات الجامدة للنصوص الدينية ويؤكد على أهمية العقل والاجتهاد في فهم الدين.

- يدعو إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية تتوافق مع قيم العصر الحديث.

يرى أن الدين الإسلامي قادر على التكيف مع متغيرات العصر دون المساس بجوهره.

أبرز أفكاره:

1- ضرورة التمييز بين الدين كعقيدة إيمانية وبين الدين كمؤسسة اجتماعية.

2- الدين الإسلامي دين إنساني يدعو إلى الحرية والتسامح والعدالة.

3- يجب تحرير الدين من سطوة المؤسسات الدينية التقليدية.

4- أهمية الاجتهاد والتفكير النقدي في فهم النصوص الدينية.

5- ضرورة مواكبة الدين للتطورات العلمية والفكرية في العصر الحديث.

القلة من أصحاب رسائل التنوير من ينذر نفسه لإكمال مشروعه حتى النهاية غير أَبِهَ ولا مبالي بالعقبات والصعوبات وكأن رسالته التنويرية وحيانية ومسؤولية ما ورائية يترتب على أكمالها مصائر الخلق أجمعين.

المفكر العراقي ماجد الغرباوي من هذه الطينة النقية طينة عُجِنَت بماء المسؤولية لتبرز وجه الحق للخلق والغاية هي ترسيخ كرامة الكائن الإنساني وسعادته. من خلال وضع المعادلة المقلوبة في نصابها الصحيح: (الدين في خدمة الإنسان) و(ليس الإنسان في خدمة الدين).

من أجل ذلك سعى المفكر الغرباوي إلى قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة من أجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري يساهم في ترسيخ قراءة متجددة للنص وهي ضرورة لنهوضٍ حضاري راسخ في قيم الحرية والتسامح والعدالة.

أدرك مقكرنا أن الدين عنصرا أساسيا في حياة الكثيرين فهو يقدم لهم الإرشاد والهداية والمعنى في الحياة. ولكن مع مرور الزمن قد تصبح بعض النصوص الدينية غير مفهومة أو غير متسقة مع قيم المجتمع المعاصر.

من هنا تأتي أهمية القراءة المتجددة للنص الديني والتي تقوم على النقد والمراجعة المستمرة من أجل فهم متجدد للدين. فهم عصري للنص يتناسب مع احتياجات العصر الحديث. تُساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة وهي القيم الأساسية لأي نهوض حضاري. غايته معالجة التطرف والظواهر السلبية التي قد تُنسب إلى الدين والدين منها براء.

مبادئ القراءة المتجددة للنص عند الغرباوي

أولا: النقد والمراجعة المستمرة:

يجب أن تُبنى القراءة المتجددة للنص على النقد والمراجعة المستمرة دون الخوف من التساؤل أو إعادة النظر في بعض الأفكار.

ثانيا: الاعتماد على العقل والمنطق:

يجب أن تعتمد القراءة المتجددة للنص على العقل والمنطق مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والثقافي الذي نزلت فيه النصوص.

ثالثا: التسامح مع التنوع:

يجب أن تُراعي القراءة المتجددة للنص التنوع في التفسيرات وأن تتسامح مع مختلف وجهات النظر.

مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحو منهج جديد لتشريع الأحكام

سأقف مع هذه الإضاءة من إضاءات مفكرنا الفذ بإختصار لأن من المستحيل الإحاطة بكل درره في هذه الشهادة القصيرة.

 مقتضيات الحكمة في التشريع تشير إلى الضوابط والمبادئ التي يجب أن توجه عملية صياغة القوانين والتشريعات. هذه المقتضيات تهدف لتحقيق المصلحة العامة وحماية حقوق المواطنين وتعزيز العدل والمساواة في المجتمع. وفيما يلي بعض المقتضيات الرئيسية للحكمة في التشريع:

1. الدقة والوضوح: يجب أن تكون القوانين محددة ودقيقة بحيث يتسنى للمواطنين فهمها وتطبيقها بسهولة. يجب أيضاً أن لا تكون هناك تركيبات لغوية معقدة أو غامضة التفسير.

2. المرونة: ينبغي أن تكون القوانين مرنة بما يتناسب مع احتياجات المجتمع والتطورات الاجتماعية والتكنولوجية الجديدة. وبالتالي، يمكن تعديل القوانين وتكييفها لتلبية المتغيرات الجديدة.

3. المساواة والعدل: ينبغي أن تكون القوانين عادلة وعادلة بالنسبة لجميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن جنسهم، عرقهم، دينهم أو أي خصائص أخرى.

4. السلامة والأمان: يجب أن تهدف القوانين والتشريعات إلى حماية سلامة المواطنين وتوفير بيئة آمنة ومستقرة. يجب أن تكون هناك تدابير فعالة لمكافحة الجريمة والحفاظ على الأمن.

5. الشفافية: يجب أن تكون العملية التشريعية شفافة ومفتوحة، بحيث يتسنى للمواطنين معرفة كيفية اتخاذ القرارات وصياغة القوانين. يجب أن يحظى الجميع بحق الوصول إلى المعلومات والمستندات ذات الصلة بالقوانين.

6. الاستدامة: ينبغي أن تعمل القوانين والتشريعات على تحقيق التوازن بين الاحتياجات الحالية والمستقبلية للمجتمع.

ومن أجل تحقيق هذه المقتضيات يجب أن يكون التشريع مبنيا على أسس قوية ومبادئ قائمة على العدل والمساواة وحماية حقوق الفرد والمجتمع بشكل عام. كما ينبغي أن يتمتع المشرع بالحكمة والفطنة في اتخاذ القرارات الصائبة التي تحقق المصلحة العامة وتسهم في تنمية المجتمع بشكل شامل.

تتضمن مقتضيات الحكمة في التشريع الاستناد إلى الدراسات والبحوث العلمية الموثوقة والتحليل الشامل للظروف والمتغيرات المحيطة بتلك القضايا. كما يتطلب الأمر الاستماع لآراء ومقترحات الخبراء في المجالات ذات الصلة واستشارة الأطراف المعنية والمجتمع المدني لضمان إشراك جميع الفئات الاجتماعية وتلبية احتياجاتها وتطلعاتها.

وتكمن مقتضيات الحكمة أيضا في وضع تشريع يأخذ بعين الاعتبار توجهات التطور العلمي والتكنولوجي والاجتماعي ويكون متكيفا مع التحولات السريعة في المجتمعات الحديثة. فعالمنا المعاصر يشهد تطورات هائلة في مختلف المجالات ومن ضمنها القانون والتشريعات ولذا فإن التشريع يجب أن يكون قابلاً للتطور والتعديل لمواكبة التحولات والتحديات الجديدة.

وأخيرًا تعني مقتضيات الحكمة في التشريع ضرورة توفير آليات فعالة للمراقبة والتقييم المستمرة لسلوكيات التطبيق والتنفيذ لتشريعات المجتمع. يجب أن يتمكن المجتمع من مراقبة تلك القوانين وقياس فاعليتها والتأكد من تحقيقها للأهداف المرجوة. علاوة على ذلك يجب وضع آليات قانونية لتعديل أو إلغاء التشريعات التي تثبت فشلها أو عدم ملاءمتها للظروف الراهنة.

باختصار يجب أن يتسم التشريع بالحكمة والعقلانية والتفكير الاستراتيجي لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في المجتمعات لذا ينبغي أن يعكس التشريع المقتضيات الحكيمة والمتطلبات العصرية للتشريع بناء على أبحاث واستشارات ومراقبة فعالة.

وهذا عرض مختصر لفحوى كتاب مقتضيات الحكمة في التشريع للأستاذ ماجد الغرباوي:

يُعدّ كتاب "مقتضيات الحكمة في التشريع" للأستاذ ماجد الغرباوي من أهم الكتب التي تناولت فلسفة التشريع في الإسلام. ويُناقش الكتاب العلاقة بين الحكمة والتشريع ويؤكد على أن الحكمة هي الأساس الذي تُبنى عليه القوانين والشرائع.

أهمّ الأفكار التي يُناقشها الكتاب:

مفهوم الحكمة في الإسلام:

يُعرّف الكتاب الحكمة بأنّها "علمٌ يُدرك به ما يجب فعله وما يجب تركه". ويؤكد على أنّ الحكمة هي صفة من صفات الله تعالى وأنها تمثل الغاية من التشريع الإسلامي.

العلاقة بين الحكمة والتشريع:

يؤكد الكتاب على أن التشريع الإسلامي مبني على الحكمة وأن جميع الأحكام الشرعية لها حكمة وسبب ويشير الكتاب إلى أن الحكمة قد تكون ظاهرة أو خفية وأن على المسلم أن يُؤمن بحكمة الله تعالى حتى وإن لم يُدركها.

مقتضيات الحكمة في التشريع:

يناقش الكتاب بعض أهم مقتضيات الحكمة في التشريع، مثل:

- التدرج في التشريع: يؤكد الكتاب على أن التشريع الإسلامي جاء متدرجا وأن ذلك من مقتضيات الحكمة. فمثلاً لم يُحرم الله تعالى الخمر دفعة واحدة بل حرمها على مراحل.

- مراعاة المصالح: يؤكد الكتاب على أن التشريع الإسلامي يُراعي المصالح وأن ذلك من مقتضيات الحكمة. فمثلا حرم الله تعالى الربا لأنّه يُضر بالمصالح الفردية والمجتمعية.

- سدّ الذرائع: يؤكد الكتاب على أن التشريع الإسلامي يُسد الذرائع التي قد تؤدي إلى الفساد. فمثلاً حرم الله تعالى الزنا لأنه قد يُؤدي إلى الفساد الأخلاقي والاجتماعي.

- أهمّ خصائص الكتاب:

الأسلوب السهل والمبسط: يقدم الكتاب أفكاره بأسلوب سهل ومبسط مما يجعله مناسبا لجميع القراء.

- الاستدلال بالقرآن والسنة: يؤكد الكتاب على أفكاره بالاستدلال بالقرآن والسنة مما يعطيها مصداقية وقوة.

- الشمولية: يُناقش الكتاب موضوع فلسفة التشريع بشكل شامل ويُغطي جميع جوانبه.

- خلاصة:

يُعد كتاب "مقتضيات الحكمة في التشريع" من أهم الكتب التي تناولت فلسفة التشريع في الإسلام. ويُقدم الكتاب أفكارا قيمة حول العلاقة بين الحكمة والتشريع ويؤكد على أن الحكمة هي الأساس الذي تُبنى عليه القوانين والشرائع.

ملاحظة:

هذه نبذةٌ مختصرةٌ عن فحوى كتاب "مقتضيات الحكمة في التشريع" لا تغني عن قراءته لأنه كتاب غني وفيه يصل المؤلف إلى قمة الفهم الناضج للعلاقة بين الأحكام الشرعية وفلسفتها التاريخية.

***

بقلم: الأستاذ سليم جواد الفهد

..................

* مشاركة (21) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

بعد ان تحول التراث الفقهي، والفكر الديني المتحجر الى مقدس.. تقاس به الحقائق الأخرى وتفرض على مجتمعات متعددة الأديان والثقافات.. ويكفر من يعترض عليه وتسلب حريته وانسانيته.. وما اعطاه الخالق تميزاً له عن سائر المخلوقات مثل: العقل والحرية والارادة.. الا ان الانسان في الكثير من مجتمعاتنا الإسلامية والعربية اضحى مجرد آلة تنقل الكلام دون نظر أو تساؤل، أو بحث.. وبعد ان قيدت الثقافة الدينية وارتهنت في الكتب والبحوث الفقهية التراثية.. عالج الفقيه والمفكر ماجد الغرباوي من خلال مشروعه التنويري الكثير من القضايا المقيدة بين الدين و العقل.. ومواجهة التحديات التي تواجه المجتمع العربي والاسلامي..

واهتم الغرباوي بالأنساق المعرفية.. والقضايا الإيمانية.. وركز كفقيه ومفكر على الدين بوصفه تجربة روحية اجتماعية.. وشريعة واسلوب عمل متواصل.. لا يوجد فيه توقف و جمود وقداسة لأفراد... ولا فتوى تباع للحكام.. ولا يستطيع فرد ان يدعي تمثل الله في الارض.. وان الافكار فيه لا تتجمد على زمان ومكان محدد..

فاستطاع الاجابة على الأسئلة الكثيرة.. وتأصيل الخطاب الفكري والفقهي بعيداً فى متاهات الفكر والعقيدة.. وفي أكثر كتبه ودراساته قدم الغرباوي الكثير من الاشارات الجادة والمنطقية التي تفرض نفسها في جميع مراحل التفكير الانساني.. بل ان اغلب افراد الانسان وبجميع مستوياتهام الفكرية قد واجهوا هذه الاسئلة.. وليس هناك قوة في الكون تستطيع منع الانسان من التفكير والتجديد في حقه المعرفي و الوجودي.. وطرح القضايا التي تتعلق بمصيره.. فالانسان اساس الوجود وهو المحرك للوجود في البناء الاعمار.. وخليفة الله في الارض.. الا ان البعض من الفقهاء اعتبروا ان للفقه مجاله الخاص.. ونسي هؤلاء ان كل شيء شرع بالعقل.. وان من شروط اجتهاد الفقيه هو العقل.. فاعتبر الغرباوي ان التفكير العقلاني هو الطريق الوحيد لتحقيق منطق اقوى، و حجة علمية.. فكانت افكاره لها حضور كبير بين الأوساط المثقفة.. لما لها من بعد معرفي معاصر ومواكب لحركة الواقع والاحداث والافكار بعد ان عالج الكثير من الافكار من خلال بحثه الدائم (المتاهه) وادانه العقلية الدينية المتعصبة والمتحجرة والرافضة لكل تجديد يتناول جوهر الدين ويواكب حركة العصر والافكار.. فعالج الكثير من متاهات الحقيقة في المقدس..

وفي التراجيديا.. وفي المضمرات.. وفي الفقيه والعقل التراتي.. وفي الهوية والفعل الحضاري والنص وسؤال الحقيقة.. ونقد مرجعات التفكير الديني.. ودراسات نقدية للحركات الاسلامية المعاصرة.. واعتبر الغرباوي ان العقلية الدينية القائمة على الايمان الاعمى والاستسلام الكلي للاوآمر الدينية، تقوم على اساس غير منطقي لا يمتلك مرونة وقدرة على التطور.. ويؤكد على ضرورة الانفتاح على المعرفة والتعليم المثمر.. والانفتاح على الأديان والثقافات الأخرى معتبراً انه الطريق الامثل للتعايش و التعاون مع التأكيد على ان الدين يجب ان يكون وسيلة للسلام والمحبة..

وبما ان التسامح ضرورة حياتية تبقى الحاجة اليها قائمة ما دام هناك من يمارس العنف والاقصاء والتكفير، ويرفض التعايش السلمي مع الآخر المختلف.. بل الحاجة الى التسامح تستند مع اتساع التنوع الاثني: والديني لامتصاص تداعيات الاحتقان بين القوميات والثقافات والأديان، والخروج بها من دائرة المواجهة الى مستوى التعايش والانسجام... فقدم كتابه المهم في التسامح واللا تسامح.. والذي طبعه وترجمه الى اكثر من لغة.

فهو يعتقد ان كل ما يجري في عالمنا بسبب غياب مفهوم التسامح وانه لاخبار امام ثقافة الموت والاحتراب والعداء والاقصاء المتفشية في كل مكان سوى قيم التسامح.فالغرباوي ومن خلال مشروعه الحداثي يسعى الى تحرير العقل من بنيته الاسطورية واعادة فهم الدين على اساس مركزية الانسان فى الحياة.. وترشيد الوعي عبر تحریر الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي.. من خلال قراءة ومراجعة للنص، من اجل فهم متجدد للدين، كشرط اساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترشيد قيم الحرية والتسامح والعدالة.. في اطار مجتمع مدني خالٍ من العنف و التنابذ والاحتراب یواكب حركة العصر والافكار.. ويرفض الجمود والمراوحة على افكار عفى عليها الزمن.. أو اضحت خارج العصر الذي نعيشه.. بعد ان جعلت الزمان الذي نعيشه كله ماضياً.. والمستقبل مجرد مجال لتحقيق الماضي.. وما على الحاضر الى ان يقتدي به.. أو ينسج على منواله.. فرفض الغرباوي هذه البنية الفكرية التي لا يكون فيها الحاضر أو المستقبل إلا انعكاساً للماضي.

***

حسين علاوي – أديب وكاتب عراقي

..................

* مشاركة (20) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

على الرغم من ان العصر الحديث والمعاصر هو عصر علمي تخصصي صارم، يهتم في الدرجة الاولى بالتخصصات الضيقة، وخاصة التخصصات العلمية والتكنولوجية الا ان الثقافة الموسوعية العامة التي تتصل بامور الحياة المختلفة وما وراء الحياة، لا بد منها في سبيل حياة متكاملة متزنة جميلة وممكنة.

فالثقافة الموسوعية العامة امر ضروري لكل فرد يعيش في مجتمع يضم انواعا وألوانا من  الاعراق والعادات والسلوسات والحالات، والا سيكون معزولا خارجا عن سياقات المجتمع الذي يعيش فيه.

وقد سلك اعلام التراث العرب والاسلامي في امتداد الحضارة العربية الاسلامية هذا السلوك  الموسوعي العام في حياتهم العلمية والفكرية والادبية.

فمثلا كان ابو يوسف الكندي المتوفى سنة ٢٦٠ هجرية فيلسوفا ورياضيا وفلكيا وعالما طبيعيا  وطبيبا وجغرافيا وما الى ذلك، وقد سجل له ابن النديم عددا كبيرا من من الكتب والرسائل والتي ضمت انواعا مختلفة من العلوم والمعارف.

ومثله كان الشيخ الرئيس ابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ هجرية، كان فيلسوفا وطبيبا وشاعرا وفلكيا وعالما طبيعيا وما الى ذلك. وكذلك كان الفارابي والبيروني وابن رشد والغزالي وغيرهم الكثير.

 وغالبا ما كان مصطلح (الحكمة) يضم تحته مختلف العلوم والمعارف، وكان العالم او الحكيم او الفيلسوف او المؤرخ يجمع عددا من العلوم والمعا رف لمحدودية العلوم والمعارف المتوافرة في ازمانهم. فكتاب (الاصول) للرياضي اليوناني اقليدس يجمع اغلب المادة الرياضية والهندسية، وكتب الطبيبين ابوقراط وجالينوس كانت تجمع اغلب العلوم الطبية.

هكذا كان الفرد الواحد العالم او المفكر يجمع بين هذه العلوم في زمن قصير لمحدودية تلك العلوم التي كانت معروفة في عصره.

وبدخول العصر الحديث في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر وما بعد ذلك، وخاصة بعد ظهور عالم الفلك البولندي كوبرنيكوس المتوفى سنة ١٥٤٣ وتوسع العلوم وتفرعها واستقلالها بدأ الباحثون والعلماء يتخصصون، فهذا فيزيائي وذاك كيميائي وآخر فلكي ورابع نباتي او حيواني، ومثل ذلك توسعت الدراسات الانسانية والادبية فظهر علم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ وما الى ذلك.. وفي هذه الظروف الجديدة ظهر متخصصون صارمون في هذا العلم او ذاك، وظهر معهم الابداع في العلم والتكنولوجيا والعلوم الانسانية المتنوعة.

وعلى الرغم من اهمية التخصص الكبرى في نمو العلوم وتطورها، باعتباره يوفر جهودا كبيرة وتركيزا خاصا لموضوع واحد،الا انه يبقى بعيدا عن تكامل الشخصية العلمية والثقافية المؤثرة في عصر جديد هو في امس الحاجة الى الحالة الموسوعية العامة لكي تستطيع ان تغير المجتمع المتنوع وتؤثر فيه.

وهكذا وجدنا في حاضرنا المعاصر شخصيات علمية وفكرية جمعت بين التخصص والثقافة الموسوعية العامة، شخصيات اثرت في مجتمعها وغيرت كثيرا مما فيه.

ولكي لا ندخل في اسماء وعناوين الشخصيات العلمية والفكرية التي جمعت بين التخصص والثقافة الموسوعية العامة سنتحدث عن شخصية علمية وفكرية ودينية انسانية جمعت بين تخصصها الاساسي الاول (الشريعة والعلوم الاسلامية) والثقافة الموسوعية العامة، ذلكم هو الاستاذ الباحث الجاد الاخ العزيز ماجد الغرباوي، الصديق الصادق الذي لم ينس اصدقاءه واحباءه في حياته الاجتماعية والعلمية والفكرية والثقافية .

فهو انسان انساني بحق جمعنا معه الدين والعلم والفكر والثقافة والوعي، جمعنا ذلك المعلم الديني والفكري والثقافي في (مجلة التوحيد) و(كتاب التوحيد) والمساجلات العلمية والفكرية والثقافية حينما كنا نجتمع سوية لتناول موضوع معين في هذا المجلس او ذاك، لاجل فكرة او منجز علمي او فكري او ديني او ثقافي او اجتماعي وغير ذلك.

كان الاستاذ الغرباوي باحثا علميا فكريا واعيا، ادار عددا من المؤسسات والندوات العلمية والفكرية والدينية والثقافية. كان رئيسا لتحرير مجلة التوحيد، المجلة الاسلامية الفكرية الثقافية، وكان عضوا استشاريا (لكتاب التوحيد) الفكري الثقافي، وهي سلسلة دورية تصدر عن مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، وكان ايضا رئيسا مؤسسا لسلسلة (رواد الاصلاح) وهي سلسلة فكرية ثقافية اصدر منها عددا من الكتب المهمة. وكان في كل ذلك رئيسا ومديرا ومسؤولا ناجحا، مازجا علمه بالاخلاق العالية، وكان يدير الحوار الديني والفكري والثقافي ادارة منهجية ناجحة متزنة، جامعا بين ثقافة الدين الواعي والثقافة الموسوعية المتنوعة، من علم وفكر وادب وتاريخ واجتماع وفن ومواد موسوعية متنوعة اخرى.

لقد ادار مجلة التوحيد الدينية الفكرية الثقافية ادارة واعية، فكان يختار موضوعاتها اختيارا واعيا مقتربا من العقل ومبتعدا عن الخرافة والعشوائية.

وكانت كلمة التحرير التي يكتبها هو في مقدمة المجلة مليئة بالوعي الديني والفكري والعلمي والثقافي، ومن ذلك يمكن ان اذكر ما كتب في العدد ١٠٢ لسنة ٢٠٠٠ ميلادية من المجلة.

ففي كلمة التحرير التي حملت عنوان: (اخفاقات الوعي في المرحلة الراهنة) يقول الاستاذ الغرباوي:

(عندما ننقب في ماضي الحضارات المتطورة بحثا عن عوامل نهوضها، يتمثل امامنا دور الوعي في صناعة نهضتها، وسيتضح ايضا  ان التطور الحضاري يبدأ دائما مع اول بوادر الوعي، كما ان صدقية ذلك التطور على ارض الواقع ستتحقق اذا اتيح للوعي ان يسود المفاصل الحياتية في المجتمع.

والوعي يعني ادراك الحقيقة، وتشخيص الواقع،وتحديد الأولويات وتمييز الالتباس واكتشاف التزوير. وعلى العكس تعيش الشعوب غير الواعية السكونية والتجرد والجمود، والاصرار على رهانات خاسرة والتبرير، اضافة الى تضخم الذات والشعور بالفوقية والانغلاق على الانا).

لقد كان الاستاذ الغرباوي قارئا ومثقفا مؤمنا، وفي الوقت نفسه كان ناقدا، والنقد سمة اساسية للبحث العلمي، لم يخرج عن الاوليات الدينية الصحيحة، بل كان يؤكدها، واذا كانت له آراء خاصة في اي موضوع، فهي له لا يفرضها على احد وهذه سمة مهمة من سمات الموضوعية والوعي والاتزان الثقافي.

والمثقف الواعي يفيض علما وفكرا وثقافة، وهكذا كان الاستاذ الغرباوي. فحين غادر الى بلاد المهجر، لم يهجر الثقافة ولا الدين، لم يغب عنه الوعي، ولم يترك هويته الدينية والثقافية والموسوعية، فانشأ سنة ٢٠٠٦ م مؤسسة  ثقافية واعية تحت اسم (مؤسسة المثقف) بمدينة سدني باستراليا، وهي مؤسسة ثقافية اهتمت بنشر الثقافة وقيم التسامح الديني، قد صدر عنها (صحيفة المثقف) كما قدمت عددا من الجوائز، من بينها (جائزة الابداع)   و(جائزة المرأة) و(جائزة المثقف).

لقد استقطبت هذه المؤسسة عددا كبيرا من الباحثين والمفكرين والمثقفين والكتاب، كتبوا في موضوعات متنوعة، موضوعات علمية وفكرية ودينية وادبية ونقدية وغير ذلك. اضافة الى عقد الاستاذ الغرباوي الندوات والحوارات والمقابلات العلمية والفكرية  والاجتماعية والثقافية وما الى ذلك.

وقد اصدر الاستاذ عددا مهما من المؤلفات والدراسات والبحوث، وله ايضا عددا من الترجمات الى اللغة العربية.

وفي كتاباته في مؤلفاته ودراساته تجد موضوعات موسوعية متنوعة، تجد موضوعات قرآنية وحديثية وفكرية وعلمية وتاريخية وسياسية وحضارية وفي الاديان وفي المراة فهو بحق باحث موسوعي.

 ويمكن قراءة ذلك في مؤلفاته المختلفة، ومن مؤلفاته يمكن ان نذكر بعض ما ورد

 في سيرته الشخصية.

* اشكاليات التجديد

* التسامح ومنابع اللاتسامح

 *تحديات المثقف

* المرأة والقرآن

* الهوية والفعل الحضاري

* الاصول الرجالية الاربعة

* تحرير الوعي الديني

* الشيخ المفيد وعلوم الحديث

* واخرى غيرها لا مجال لذكرها هنا، أهمها موسوعة متاهات الحقيقة.

***

د. عبد الأمير المؤمن

كاتب وباحث في تاريخ الفلك والحضارة الاسلامية

...........................

* مشاركة (19) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

في خضم التفكير في الإسلام اليوم، من خلال التراث الضخم الذي تراكم خلال أكثر من أربعة عشر قرن، بغثه وسمينه وقريبه وبعيده، وقنوات استيعابه، ومعضلاته وثماره، نجد أنفسنا أمام مشروع نقدي تجديدي وفق منهج لا يمكن القول عنه توافقي وإنما معتدل كما العديد من المشاريع الموازية له في جغرافية التفكير النقدي الديني داخل المنظومة الثقافية الإسلامية. هذا المشروع الذي لا يزال يعمل عليه الأستاذ ماجد الغرباوي (1954م) هو بمثابة بوصلة مهمة بحجم الكتابات والقراءات والحوارات التي تم نشرها ضمن سلسلة متاهات الحقيقة – والتي لا تزال بالفعل تقارب العديد من المفارقات والمغالطات والمدارات  ولكن من الصعب الوصول إليها دون الوقوف على أهم خطوطها العريضة التي تحاكي سؤال: كيف وماهو السؤال الديني المركزي في عقلانية الغرباوي، الذي تحدى علامة "الفقيه المثقف" لكنه اكتسب تمامًا مظهر الفيلسوف الديني المثقف.

فلسفة الغرباوي ليست فقهية. لكن هذا لم يمنعه من جلب الفقه "على حدود الفلسفة"، نحو أخلاق الإسلام الطبيعية الإنسانية، التي كان الغرباوي دائمًا في جل عباراته ما يحمل قيمها ومبادئها من الأدب الإسلامي بامتياز. في البدء. ما يحدد فهم الإسلام في ماجد الغرباوي هو الواقع بعيون الفلسفة والأخلاق، دون التفريغ المنهجي للموضوع الديني.

النقد الفلسفي والتجديد الديني

طوال حياته، كان ماجد الغرباوي يجمع بين النقد الفلسفي وروح التجديد. لقد قام بتأليف أعمال نقدية عظيمة، على افتراض عدم أهمية المنهجية في بداياتها، والامتناع عن التعبير عن الإيمان الراسخ في الرؤية الرئيسية، هناك تواضع مميز يبدو ضروريًا في حواراته الفلسفية، كما يظهر في أولى حلقات متاهات الحقيقة. في الوقت نفسه، موضوعية الطرح في فتح ملفات المغالطات وقراءات الاعتراف بالتخلف والضمور الذي يكتنف العديد من أركان الامبراطورية التراثية الدينية خاصة الكلامية والفقهية، دون ان ننسى التزامه بالضرورة  الإصلاحية المعمقة، من خلال إعادة تجديد وعينا لمفهومي المقدس واللاهوت.

تندرج أعمال الغرباوي التي تم جمعها في تسعة مجلدات (متاهات الحقيقة، مع قرابة عشرين كتاب غيرها)، في ظل منهج فلسفي نقدي للتراث، تحت عنوان مخاوف رجل الإيمان من فساد إيمان الناس بمطبات تاريخ التحيز الفقهي والتمويه الحقائقي. حيث يواجه الغرباوي "حرمة الشكوك" (تراجيديا العقل التراثي، الفقيه والعقل التراثي) وانتقاد الفقه (مضمرات العقل الفقهي)، وكذلك التحديات التي يمثلها العنف والاستبداد في المجتمعات العربية والاسلامية الحديثة (تحديات العنف، مدارات عقائدية ساخنة، الضد النوعي للإستبداد) وخصوصيات الهوية (الهوية والفعل الحضاري، تحرير الوعي الديني). رجل الحوار والتسامح، يستفرد بقدرته على سماع النقد الموجه إليه، ولكن أيضًا لتخيل صور وتمثلات محتملة لإيمان وهمي (مواربات النص).

مقاربات جديدة للمعضلات الفقهية الصعبة

من النفس إلى التأويل والتاريخ والنسيان والصدمة والرهاب إلى اللغة والفلسفة المعاصرة للتواصل يحتفظ الغرباوي بدروس في استخدام التفكيك الموضوعي لمعضلات العقل التراثي في الراهن. ضد العنف الديني الذي يسبب سلطة الإستبداد. وعبر فرويد، يقف الغرباوي مشخصا "التشابه" بين العصاب والعنف (التسامح ومنابع اللاتسامح). إنه يتعرف على التحليل النفسي لإمكانية "إظهار حقائق العقل التراثي المستبد". "إن مقاربة العنف قد حولت بعمق رؤيته للوعي الديني السليم، مما أثار عليه "النقد القاسي". ثم إنه أماط اللثام عن إشكالية اللاهوت والمقدس، وأن  "الدرس الفقهي" ليس فوق الدرس المنهجي العقلاني، بل هو الذي يتلقاه، واستطاع أن يعيد النظر في علاقة الإيمان بالمنهج والقيم الأخلاقية.

خلال هذه النصوص الكثيفة للغاية، يقدم ماجد الغرباوي مناهجًا جديدة لأسئلة صعبة وحاسمة، مثل علاقة الإيمان الإسلامي بالعنف والأخلاق والميتافيزيقا، المقدس باللاهوت، العقل بالتراث، القرآن بالحياة الإيمانية والذات الإنسانية، الفقه بالأخلاق، التشريع بمقتضيات الكرامة ... 

بإختصار زيارة فكرية معمقة في حديقة ماجد الغرباوي الثقافية خطوة بخطوة، تمكن من التراجع عن التهاون حيث يبرز عنوان المسؤولية ضمن الجزء المطوي من معادلة تجديد الوعي الديني، واضاءات هامة في السراديب المسدودة للتراث المقهور. وهكذا في رحاب الغرباوي تستنشق عطر النباهة الذي يغذي العقل بقدر ما يؤمن بالاسلام الحضاري..

***

هبة شاكر احمد – سوريا

....................

* مشاركة (18) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

تعرفت على الصديق والاخ الاستاذ ماجد الغرباوي منذ السنة الاولى لتأسيسه موقع ومجلة المثقف التي تحولت فيما بعد الى مؤسسة المثقف العربي ومركزها سدني - استراليا.  ولم يمض وقت طويل حتى ترسخت علاقتنا بحكم التقارب في افكارنا وفلسفتنا ونظرتنا لما يدور حولنا من شؤون وطننا الذي ابتلي بسلسة من الفواجع. وكذلك بحكم احترامي الجم لخلقه العالي وكرمه وتواضعه.

عرفت في الاخ الغرباوي  رغبته الصادقة لشق طريق مختلف تماما عمّا انتشر من مواقع وصحف ومجلات انتشارا انفجاريا على الانترنت وماهو مطبوع.  كان همه الاول هو نشر الكلمة الصادقة  وتنمية الافكار الناضجة ورعاية الاقلام  الجادة الملتزمة بالوطنية الحقة البعيدة عن التكتلات والتحزبات والاصطفافات العقائدية والمذهبية.  وهذا أمر واضح لمن يريد ان يلقي الضوء على تاريخ ما نشرته المثقف منذ تأسيسها ولحد اليوم والذي سيجده خاليا تماما من الترهات الصحفية ومنشورات الانترنت الهادفة الى الاثارة او الى التحزب والتنابز وتجنيد العواطف مع او ضد هذا الطرف او ذاك.

وحري بي القول ان الاخ الغرباوي أخذ على عاتقه تمويل هذا المشروع من جيبه الخاص دون مساعدة او تعضيد من أي جهة.  وقد مضى الى دعم نشر عدد من الكتب لشخصيات ادبية وثقافية مهمة، ثم بدأ بالتدريج وبأناة لنشر مؤلفاته الخاصة التي فتحت حقلا جديدا وسلكت دربا حاسما لم يسلكه احد من قبل حسب معرفتي المتواضعة.  وهكذا خرج الى النور مشروع الغرباوي الفكري بعدة اجزاء، وما زال ماض في الصدور.

لقد ركز مشروع الغرباوي على  البحث  الجاد في موضوعات فكرية تنويرية  اكتسبت اهميتها القصوى في هذه المرحلة الثقافية والحضارية المعتمة من تاريخنا الحديث.  فما احوجنا مثلا للتنوير في اشكاليات السلطة والحكم والاستبداد،  والحرية والعنف والتسامح والتعايش، والدين والعقيدة والمواطنة! وفوق ذلك فقد أخذنا الغرباوي الى فضاء فكري آخر، ادق واعمق وله ضرورة حاسمة اليوم في مجتمعنا العراقي والعربي الذي يشهد نكوصا ثقافيا وحضاريا مفجعا. ألا وهو الغور في موضوعات الحقيقة والاصلاح، والقدسية والدين والآلهي السماوي والبشري الارضي، واشكاليات الفقه والتفسير والحكمة والتشريع.

وليس اصدق من أن نراه يلخص رسالته الفكرية وهدفه التنويري بالقول انه يسعى الى:

" تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب".

فمن فكر وسيرة هذا المعلم الجليل نتعلم وتتعلم الاجيال القادمة ليتمهد السير باتجاه العقل الراجح والوعي الرصين الملتزم من اجل المواطنة الحقة والعيش بكرامة وسلام ومحبة للجميع.

***

بقلم: الدكتور مصدق الحبيب

..........................

* مشاركة (17) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تنماز العقائد الدينية بمجموعها بصفة الصرامة القسرية المقرونة بالإكراه الفكري المقرون بدوره بمنهج تخويفي يكاد يقيد حراك المرء، ويضيق أمامه السبل الحراك، فلا يحاول تجربة العبث الفكري مع الشدة المتشنجة للتابو المهيمن على أجواء العلاقة بين الاثنين، ذلك المنهج المقرون دائما بلهجة التخويف والتحذير من نار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد، تلك الصورة المرعبة التي وقفت بوجه كل من يريد أن يبدي رأيا بشأن مسألة دينية تكاد لا توافق العقل، أو تناقض المنطق، والمرات القليلة التي جرب بها الكلاميون والفلاسفة حظهم باءت واقعا بالفشل، لا لقصور في مناهجها بل بسبب شدة وشراسة الهجمة التي تعرضوا لها، تلك الهجمة المدعومة من السلطة والسلطان؛ الذي تحسس مكمن الخطر في منهج التنوير، فتخوف على عرشه وغلمانه وجواريه وخزائنه، فاستعان بالمتشددين ليحارب الأفكار التوعوية التنويرية، بعد أن وصمها بالكفر والمروق والردة، وهي تُهم قاسية عقوبتها الموت المحتم، ليس لأن الأديان تُقر ذلك، فجميع الأديان بما فيها دين الإسلام لا يوجد فيها أي نص يوجب حتى قتل المرتد، وإنما هي مجرد أحكام مبتكرة، ابتكرت كأداة لمنهج تخويفي مبتكر، كان وليد الاجتهاد، بحجة الحفاظ على الدين، تماما مثل تلك المجاميع التي كانت تضع الأحاديث وتنسبها لرسول الله ﷺ وحينما يسألونهم عن السبب، يقولون: "نحن نكذب له، ولا نكذب عليه!"

إن من يقلب صفحات تاريخنا الموغل بالقدم، يجد هناك عشرات الأسماء التي تحدت الواقع ببسالة، فحملت مشعل التنوير بإخلاص المجاهدين، بعد أن تأثرت بكتب الفلسفة المترجمة عن اليونانية، وهؤلاء الشجعان أنفسهم هم الذين أعادوا صياغة مفهوم الفلسفة؛ الذي كان يعني لدى اليونانيين القدماء: "حب الحكمة"، فجعلوه أوسع من ذلك التضييق، طالما أنه يرمز إلى الأفكار الـمُستنبطة بواسطة العقل، وإعْمال الفِكر، حول الموجودات ومبادئها وعللها. هذا الجمع المغامر وضع المفهوم العربي للفلسفة موضع التطبيق، بعد أن تناولت طروحاتهم هذا الجانب بالذات، أقصد مهمة الاستنباط بالعقل، فتسببوا في إثراء المنهج الفلسفي الإنساني، وتطويره وترسيخ جذوره، ذلك لأنهم لم يكونوا تقليديين، ولم يقتبس أي واحد منهم ما عثر عليه دون تمحيص وإدراك، وإنما كانوا مجددين بامتياز، بدليل اختلاف مواقفهم من الفلسفة المستوردة (اليونانية)، بين رافض لها، ومكفر لمنهجها، متشدد، نظر إليها على أنها تفتح أبواب الضلال والفساد ويجب محاربتها. ومن وقف منها موقفاً وسطاً محايدا مبنيا على النقد والتمحيص والامتحان والتدقيق، وكان المعتزلة وبعض الأشاعرة من هؤلاء، وكان الفيلسوف الغزالي واحدا منهم، وهؤلاء بالذات كانوا يتقبلون، ويأخذون منها ما يرونه حقيقياً، ويرفضون ويتركون ما يرنه باطلاً. ومنهم صنف ثالث سحرته وبهرته، فوقف منها موقف الإعجاب والإكبار والتقدير، فدرسها بعمق وعمل على محاكاتها، بل والكتابة والتأليف على نمطها، وكان من بينهم الكندي الذي يُعتبر الأب الروحي والمؤسس الحقيقي للفلسفة العربية الإسلامية، ولاسيما بعد أن فتح أبواب النظر الفكري من خلال كتاباته مثل كتاب "الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد"، وباقي طروحاته التي اهتمت بالميتافيزيقيا وعلم ما وراء الطبيعة، والأخلاقيات، والبحث في توضيح مشكلة حرية الإرادة توضيحاً فلسفيا، فخرج بنتيجة أن لإرادة الإنسان قوة نفسية تُحركها الخواطر والسوانح. ونتيجة ذلك صار ملهما لمن عاصره أو جاء بعده، مثل أبي نصر الفارابي، الذي كان قريبا من عصر للكندي. وعلى نهجهم سار ابن رشد الذي أفاد كثيرا من كتاباتهم وتجاربهم. وهو وإن بدا تجديديا ومختلفا عنهم، إلا أن طروحاته أثبتت أنه كان متأثرا بنظرية الأخلاق الأفلاطونية؛ التي بين فيها أفلاطون أن الفضائل الأساسية هي: الحكمة والشجاعة والعدالة والعفة. ومن خلال الإبداع والتقليد والتأثر انطلق ابن رشد بفكرة أن الدين والفلسفة هما أدوات تُمكّن الإنسان من معرفة السبيل للخلاص البشري. وقد سار ابن باجة على أثره وكان من أكثر الفلاسفة المتأثرين بفلسفته، وكذا ابن سينا وابن طفيل وابن الهيثم وأبو حامد الغزالي الذي كتب في التصوف والفلسفة والعقيدة.

وبين هذا وذاك كانت هناك كوكبة من المفكرين الذين تباينت طروحاتهم بين تصحيح الواقع الديني، فاتهموا بانحيازهم، وتم التشكيك بنزاهتهم بسبب جرأة طروحاتهم، مثلما اتهم أبو حامد الغزالي بأنه اتهم الخليفة عمر بن الخطاب بمخالفة إمامة علي بن أبي طالب؛ أثناء حديثه عن رواية: "من كنت مولاه فعلي مولاه" في كتابه "سر العالمين وكشف ما في الدارين"، وتصحيح الواقع السياسي، حتى اتهم بعضهم بأنه يروج لتأييد السلطان، مثلما اتهم الغزالي أيضا بأنه دعم السلطة العباسية بعد أن وضع كتابا بعنوان "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" بطلب من الخليفة العباسي المستظهر بالله، أشاد فيه بدور الأخير.94 salehaltaie600

إن الطروحات الغريبة عن الأجواء العامة للمجتمعات العربية كانت سببا في اتهام الفلاسفة بتهم وصل بعضها إلى التكفير، واتهام الفلسفة بالتهافت، وربما كانت هذه التمظهرات هي الأسباب التي قلصت الحراك الفلسفي في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، وجعلته مقصورا على قلة من الناس، لأن سلطة الحاكم والسلطة الدينية كلاهما كانا يستدعيان المقدس "القرآن والسنة النبوية" كعناصر إسناد وقوة لتبرير مواقفهم لا السياسية وحدها بل وحتى القمعية، فلطالما استدعي النص الديني لقمع الخصوم والمناوئين والأعداء، بما فيهم المحتملين والحقيقيين طوال تاريخنا الإسلامي، وهو الأمر الذي تسبب بانكفاء الحراك الفلسفي، وتقلص المساحات التي يمكن للفلسفة أن تتحرك من خلالها بسبب التضييق والشدة.

وقد تسبب الانكماش الفلسفي في طغيان الفكر الساذج القائم على الخرافة ومنظومات الفضائل؛ التي ما أنزل الله بها من سلطان، فتسبب ذلك في تأخر مجتمعاتنا، وانتشار الفقر والجهل والأمية، والدجل والشعوذة، والحديث عن الجن والتلبس والتابعة، بدل الحديث عن العلم والحرية والعدل، وهو الأمر الذي حدا ببعض الذين يملكون جرأة الوقوف بوجه التيار ليتصدوا بشحذ عقولهم والتصريح بالحقيقة المغيبة التي يرفضها الكاهن والسلطان، ومن بين ركام الفوضى جاءت إشراقات المفكر والفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر، والمفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري الذي تناول بمؤلفاته الحديث الصريح عن الفكر الإسلامي المعاصر، ومنها كتاب "نقد العقل العربي" وكتاب "نحن والتراث". والباحث والأكاديمي الجزائري محمد شوقي الزين، الذي طرح رؤاه في عدة أعمال فكرية مثل: "تأويلات وتفكيكات"، و"سياسة العقل"، و"الثقاف في الأزمنة العجاف". والفيلسوف التونسي المعروف محمد الحبيب المرزوقي، وثلة من الفلاسفة الآخرين.

أدى ظهور تلك الآراء والأفكار التي بدا بعضها مشاكسا جريئا إلى إثارة زوبعة من الآراء المضادة المتباينة حول مواقف الفلاسفة من الدين والحياة والواقع والمجتمع والسنن والعادات وأشياء كثيرة أخرى، وتباينت المواقف منهم بين رافضٍ معترض، وساكتٍ، ومؤيدٍ ومناصر، بدل أن تتم مناقشة تلك الطروحات بمنهجية علمية، وأدت المواقف السالبة إلى إلحاق الأذى والضرر بالفلاسفة، فبدا وكأن عصر الفلسفة انتهى، ولكن في كل مرحلة كانت هناك اقلاما ناضجة ترفع رأسها متصدية للسلبيات بكل أنواعها، اعتمادا على تفكيك جذور التابو الديني، والدوافع التي تجعله ينمو حتى في القرن الحادي والعشرين بكل تلك الشراسة التي تتمثل بالأعمال الإرهابية، بما يعني أن من المؤمل لها أن تخوض معارك فكرية صعبة، توجب عليهم الوقوف أمام حشد من الجهلة والمؤدلجين والجامدين على النصوص والسلفيين، ولاسيما وأن الإسلام نفسه بدا في هذه الحقبة متشعبا ضمن أطر سياسية تمتد من الإخوان المسلمين، إلى السلفية، إلى الحركات الميلاشيوية إلى الحركات الجهادية الراديكالية المتطرفة، وقد تسبب هذا التشظي بولادة نزعات عدوانية بينها، صعَّب مهمة الفلاسفة وأعاق تقدم الفلسفة، ولاسيما وأن التهديد كان سيد الموقف والسلاح الكاتم كان هو المتحكم والقاضي.

ضمن أجواء الشد الحرجة هذه لم يكن من السهل على مفكري الداخل العمل بحرية وهم يرون السيوف مسلطة على رقابهم والنحر أبسط ما يمكن أن يواجهونه، ولقد عشتُ هذه المحنة بعد عدة مؤلفات أصدرتها ونشرتها ضمن سلسلة من أربع مجلدات، تحدثت فيها عن أثر النص المقدس في صناعة بعض العقائد المنحرفة مثل التكفير والتهجير وقتل المرتد والمثلة وحرق البشر، حيث قاموا بتهديدي بالقتل إن لم أتوقف. أما المفكر الموجود في الخارج فقد وجد فرصة كبيرة للتعبير عن رؤاه ومواقفه من كل ما يدور على ساحة الدين والمجتمع والسياسة، وكان الأستاذ المفكر العراقي المقيم في أستراليا ماجد الغرباوي أحد هؤلاء؛ الذين حظوا بالفرصة واستغلوها ليطرحوا رؤاهم، وقد ساعده البعد على التحدث بصراحة يكاد يفتقد إليها أبناء الداخل.

هذه الفسحة فضلا عن رجاحة الفكر، والإعداد الفكري المتأصل المتجذر الذي حظي به المفكر الغرباوي، بعد أن قرأ ودرس عددا كبيرا من أهم وأخطر المؤلفات، وتعمق بدراسة الفقه على مدى سنين طويلة، وتولى القيادة والإشراف على عدة منشورات عقائدية تعتبر من أهم وأخطر المنشورات؛ رئيسا للتحرير وكاتبا ومقوما ومقيما، فضلا عن احتكاكه المباشر مع كبار رجال المؤسسة الدينية والعمل معهم، واطلاعه على خفايا لا يتسنى لأحد من خارج المؤسسة الاطلاع عليها، بل لا يتسنى لبعض من هم داخل المؤسسة أن يطلعوا عليها، كل هذا مقرونا بشجاعة شخصية مائزة واعتداد بالنفس وحسن تدبر ورجاحة عقل وسمو أخلاقي، فضلا عن وجود الواسطة، وأقصد بها موقع صحيفة المثقف الذي بناه بجهده وعرقه، وحولة خلال بضعة سنين إلى دوحة للمفكرين والباحثين والأدباء والفنانين، اجتمعت كلها وصقلت موهبته الفكرية.، فكان هذا النتاج الثر الماتع الرائع المفيد والخطير أيضا.

ولا أبالغ إذا ما قلت لكم أني كنت أحد المعترضين على كثير من طروحاته، وكنت أرى فيها انحرافا عن المألوف لا أكثر، لكني حينما بدأت أتعمق بتفكيك كتاباته، واستشراف مقاصدها، وجدت نفسي أمام عقل شره للعلم، شجاعا بالطرح، رائعا بالتفكير، أستاذا بالاستقراء والاستنتاج، وكان للنتائج التي توصل إليها وطرحها من خلال مواضيعه التي نشرها تباعا على صفحات صحيفة المثقف تأثيرا على بعض رؤاي الشخصية، وقد أفدت منها كثيرا، بل وجدتها تصحح لي بعض مسارات تفكيري.

وقد سبق لنا (الغرباوي وأنا) ودخلنا في حوارات عميقة من خلال المداخلات على كتاباته المنشورة، أخذتُ من خلالها بكثير مما قاله، وأخذَ بما قلت، والظاهر أن هذا التعاطي الفكري الرائع أوحى لبعض ضعاف النفوس الذين لا يملكون القدرة على مقارعة الحجة بالحجة، فانتحلوا اسمي، وبدأوا يوجهون له المطاعن والسباب.! وقد يرى بعضكم أن هذا أمرا طبيعيا لا غرابة فيه، لأن الأعم الأغلب من أصحاب الفكر وجدوا على مر التاريخ من يتصدى لهم ويوقع بهم الأذى، ألم يعدم سقراط، ويقتل فيثاغورس؟ ألم يقتل الفيلسوف والخطيب الروماني الشهير شيشرون بأمر من الطاغية نيرون؟ ألم يكن موت الفيلسوفة هيباتيا على يد متطرفين مسيحيين في مصر؟ ألم يعدم الفيلسوف بوثيوس صاحب كتاب "عزاء الفلسفة" بأمر من الملك ثيودور الكبير؟ ألم يقتل جوديا هالفي، وجون هاس، وإبراهام بن داود، ألم يعدم الفيلسوف الإيطالي غوردانو برونو حرقا وهو حي؟ ألم يحاكم غاليليو بسبب آرائه الفلكية ويسجن؟ ألم يقتل الفيلسوف توماس مور صاحب المدينة الفاضلة "يوتوبيا" بأمر الملك الإنجليزي هنري الثامن، ألم يقتل الفيلسوف الغورنون سيدني بتهمة التآمر ضد الملك الإنجليزي؟ ألم يقتل ليون تروتسكي بأمر من ستالين، ألم يقتل الشيوعيون المتطرفون جيوفاني جنتيله الإيطالي؟ ألم يقتل فيلسوف الوضعية المنطقية موريس شليك على يد طالبٍ مجنون؟ ألم يقتل الفيلسوف الفرنسي سيجر البرابوني على يد المتشددين لمجرد أنه من أتباع الفيلسوف العربي ابن رشد الذي تتهمه أوربا بالإلحاد؟ ألم يخشى ديكارت على نفسه أن يلقى مصير أقرانه من الفلاسفة فأحجم عن نشر كتابه "العالم" لأنه يطرح الآراء نفسها التي قتل من أجلها برونو وسجن غاليليو، ولم يطبع الكتاب إلا بعد موته؟

لكن غير الطبيعي، الذي ينم عن سمو أخلاق الفيلسوف ماجد الغرباوي أنه لم يفاتحني بالأمر ولم يعاتبني أبدا إلى أن اكتشفت من خلال الحوار معه وجود هذا الموضوع الشائن، فقمنا بالبحث والتحري لنكتشف أن هناك من عمل إيميلا مقاربا لإيميلي ليرسل من خلاله تلك التفاهات من مدينة الكوفة. وكان طوال مدة تلقي الإيميلات الخبيثة يتصرف معي كأخ وصديق، دون أن تظهر عليه أي علامات حتى للزعل البسيط، وهذه مكرمة لا يتمتع بها إلا الفلاسفة الكبار، وأنا أُكبرها به وأشيد به بسببها في جلساتي.

وآخر ما أردت الإشارة إليه هو رغبتي الجامحة في أن تتولى المؤسسة الدينية والمؤسسات الأكاديمية دراسة طروحات الغرباوي بشكل منهجي علمي أكاديمي حوزوي محايد وستكتشف أسرارا هي بحاجة ماسة إليها، فمن الغريب أن نفرط بذلك الكم الكبير من الفكر المتحرر الناهض العلمي دون أن نلمس أثره على الواقع الإسلامي الذي هو بأمس الحاجة لمثل طروحات الأستاذ الغرباوي.

كما وأتمنى أن يبادر الرأسماليون المسلمون وغيرهم إلى جمع مبالغ لإعادة طباعة مؤلفات ماجد الغرباوي وتوزيعها بشكل مكثف على كافة طبقات المجتمع، فالمرحلة التي نمر بها اليوم من أخطر المراحل التاريخية، وعلينا الاستعداد للمواجهة بحكمة وعقل، فزمن المعارك والسيوف ولى، والعقل هو الذي يحكم العالم اليوم، وما يطرحه ماجد الغرباوي هو لب العقل بعينه.

وفي الختام أقول: سبق لي في عام 2021 ووضعت كتابا بعنوان "الإلهي والبشري والدين التراثي رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي" يتألف من أكثر متن 250 صفحة، لقي رواجا وقبولا واسعا، ولو سنحت لي الفرصة الآن لوضعت كتابا آخر تناولت فيه طروحاته الجديدة، فهي تستحق القراءة والتفكيك.

***

بقلم: د. صالح الطائي  

........................

* مشاركة (16) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

في تسعينيات القرن العشرين كنت غاطسا في الكتابات الروحية، ونشرتُ عددا من النصوص في المجلات المهتمة بها، وبعد إنطلاق الصحافة الإليكترونية، نشرتُ بعضها فيها، ومنها نص أشبه بالمناجاة مع جبران خليل جبران، ومطلعه "ولِدَ الروحُ قبيْلَ الأزلِ.. وتهادى ببراقِ الأبدِ، في قلوبٍ كضياءٍ وسِعَتْ...كوْنَ حبٍّ لجميعِ البَشر".

وفي ذات اليوم وصلتني رسالة تُعْلِمُني بنشر النص المذكور، في صحيفة إسمها "المثقف" وتدعوني للكتابة  فيها، وتوقيعها "أبو حيدر"!!

أول ما شدّني الإنجذاب للنص وهو يُبحر في المعاني الروحية، فالمنجذب إليه لابد أن يكون صاحب حس روحي،  لكنني ترددت في النشر، بسبب مَن غمروني برسائل لا تشجعني على النشر فيها، لأن إسم صاحبها مجهول.

ومضيت أتابعها لبضعة أيام فإستشعرتُ الإرادة الثقافية الحرة، وكأنها تحاول أن تبني منبرا إبداعيا مشرقا بالمعارف الصالحة للحياة الأفضل، فأخذت أمدها بنص ومقالة كل يوم، وما أن بدأت حتى تواصلت بلا إنقطاع، وشعرت بالمسؤولية أن أنشر فيها يوميا.

"المثقف" إبتدأت بذرة تكنز طاقات تنويرية ورسالة إنسانية تسامحية، وإرادة راسخة وثّابة، وثقة بأنها ستنبت وتتبرعم وتتحول إلى شجرة، ومروج أنوار معرفية دفاقة في فضاءات الوعي الجمعي العربي.

فالمتواصل معها منذ خطواتها الأولى ينظر بإعجاب ودهشة لما أنجزته في مسيرتها، التي إنتصرت فيها على التحديات والمعوقات، وفازت في المنازلات التي خاضتها، وهي تحمل رايتها وتتمسك برسالتها.

وتميَّزت بإستقطابية عالية للأقلام العربية المؤثرة في الواقع الثقافي ، والمتفوقة بقدراتها الفكرية والإبداعية، فأصبحت مدرسة معرفية متنوعة الموضوعات والدروس.

ويمكن القول بأنها موسوعة ثقافية فريدة وفعّالة، أسهمت بتفاعل العقول وتواصل الأقلام الحرة المنوِّرة، التي زادت مساحة السطوع الإنساني في أرجاء الأمة.

فالمثقف إنجاز فكري ثقافي مرموق ورائع يستحق التباهي والتفاخر، وتعبير صريح وشديد الوضوح عن الإرادة المشرقة، ذات الإمتدادات الحضارية والإنسانية المطلقة.

ويقف وراءها إنسان مبدع مؤمن بالكلمة الصادقة، ومتواصل بإصراره على إعلاء شأن الفكرة الطيبة الصالحة للحياة الحرة الكريمة.

وهو يمثل الإرادة الكبيرة المتحدية المثابرة، التي تنتصر على المرض والمعوقات بأنواعها، ويمضي بهمة  فائقة وصولة أصيلة واثقة، حاملا مشاعل التنوير المعرفي الإبداعي، اللازمة لطرد الظلام والضلال والخداع والبهتان.

مما جعلها تحمل رسالة الصفاء والألفة والمحبة، والصدر الرحب والأدب الأنيق، والأمل بمستقبل أحلى وأجمل، ففيها معين دفاق من الأفكار الإيجابية، ومناهج صيرورات حضارية متوافقة مع إرادة الأمة، وتطلعات براعم أجيالها المتوافدة.

وصاغَها مثلا حيا على الجد والإجتهاد والتواصل والإصرار، والإيمان بالعمل والتفاؤل بالإنجاز، وبها يؤكد إرادة أكون التي تحتاجها أمة عليها أن تكون.

فصارت مشروعا إنسانيا مؤهلا للتعبير عن القدرات الإبداعية، بأسلوب ثقافي متقدم على غيرها من المواقع والصحف الإليكترونية، وتتفاعل على منبرها عقول ذات قيمة فكرية وعلمية وأدبية مهمة ومتنورة.

 وميَّزها بتبني  ضرورة الإختلاف وأهميته لبناء الحياة، والتأكيد على ثقافته وتوظيفها الإيجابي للتقدم والرقاء، مما يؤكد على رؤية حضارية معاصرة وسبّاقة في واقعنا العربي.

فهي تمتلك مرونة واسعة وحرية تستحق التقدير والإحترام، ويبدو أن لمبدعها القدرة الأخلاقية على جذب  النوعية المتميزة من الكتاب الذين يساهمون في النشرعلى صفحاتها.

 فالمثقف ذات رفعة وسمو، وتتسامى على الحالات السلبية، ولا يمكن لكاتب بلا رؤية إنسانية وفهم ثقافي معاصر أن يتواصل على صفحاتها، وأي ضيق في الرؤية والأفق تتهاوى وتنحسر.

وهذا السمو الخلاق منحها قوة معنوية وفكرية خاصة، فأصبحت تضم شريحة من المثقفين المتميزين في ميادين إبداعهم، ويمكن مقارنتها بمجلات مهمة في العقود الماضية، أوجدت مبدعين مهمين في الثقافة العربية، لإجتذابها للنخب الفكرية والأدبية والإبداعية الأصيلة، الصادقة المُحبة للمُثل والقيم الإنسانية الراقية.

فقوة المواد المنشورة، يتفق والنوعية المتميزة للكتاب الذين ينشرون فيها، ولقدراتهم الواضحة في الدراسة والتحليل والنظر الموضوعي والعلمي، الذي يهدف إلى التبصير بالحقيقة وتقديم المعلومة بأسلوب حضاري معاصر.

 وهي صحيفة رحبة، بمعنى أنها ليست ضيقة الأفق، أو منزوية في زاوية حادة، فهي ذات  آفاق وتفاعلات إنسانية متسعة كما الكون يتسع، وفي هذا تأكيد على وعيها لطبيعة العقل البشري ومعاني الإبداع الصحيح، اللازم لتقوية القيم الإنسانية وتعزيز الألفة المحبة والأخوة والتسامح والسلام.

 وتميزت بالتواصل والتحدي، لأنها مشروع ثقافي متنامي، وقد مضت في طريق تأكيد الدور والفعالية برغم الصعاب وكثرة الصحف الإليكترونية، ففي البداية لم يصدق الكثيرون بأنها ستنجح، لكنها إستطاعت أن تشق طريقها بجدارة ونجاح فائق.

 ولديها خطاب ثقافي معاصر ومتفتح، فهي بستان أفكار ورؤى وتصورات إبداعية ثاقبة، حتى في تخاطب إدارتها مع الكُتاب، تقرأ معالم السلوك الخطابي المتحضر وإحترام خصوصيات الكُتاب، وتثمين جهودهم ودورهم في المشروع.

 وتبذل جهدا ثقافيا يوميا، فهي تتواكب مع الأيام ويندر أن تنقطع عن الصدور إلا لأسباب تقنية، بعكس الكثير من الصحف التي تتعثر في صدورها وتتوقف لأيام، وهذا يعكس حسن الإدارة والتفاني في الجد والإجتهاد للوصول إلى ذروة النجاح والتألق.

 ومن أهم أسباب نجاحها إلتزامها برسالتها ورؤيتها ومنهجها، ونجاح أي صحيفة يرتبط بقدرات رئيس تحريرها على الإدارة والتفاعل مع الكتاب والقائمين عليها، ومن الواضح أن الأخ رئيس التحرير يتميز بقدرات ناجحة وأخلاقيات سامية وثقافة عالية، أهلته لأن يكون قائدا ناجحا لهذا المشروع الثقافي الباهر، ونرجو له التوفيق والنجاح المتواصل والعطاء الأصيل.

هكذا أرى الأستاذ ماجد الغرباوي من خلال منظار تفاعلي مع المثقف منذ إنبثاقها، وقد أعطى مثلا حيا لقدوة فكرية ثقافية ذات قيمة حضارية تنويرية وهاجة، فالمثقف مرآة مؤسسها، وهو هي!!

فتحية للمثقف ولحادي ركبها التنويري الساطع الفياض!!.

***

بقلم: د. صادق السامرائي

........................

* مشاركة (15) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

الأستذ ماجد الغرباوي، مدير صحيفة المثقف الإلكترونية، غني عن التعريف. كتاباته الرصينة شكلت مرجعا فكريا ومعرفيا جعلته يصطف إلى جانب كبار رواد الفكر عربيا ومغاربيا وكونيا. إنه مفكر إسلامي مرموق كرس الجهد المضني لإبراز المقاصد والدلالات والرموز التي جسدتها النصوص الدينية الأصلية. يمتاز بمنهجيته المتفردة وبأسلوبه البسيط المنير للعقول. بتفاعلي مع منتوجاته القيمة تعلمت منه معنى الوضوح والشفافية في الثقافة، والشمولية والموسوعية في تناول القضايا العربية الشائكة. لقد أثبت بالبراهين العقلية أن الاعتدال والوسطية هما الأساس الضامن لصلاح الدين الإسلامي لكل زمان ومكان.

شفافية شخصيته جعلت منهجه قويما جذابا، يقود القارئ بسلاسة إلى التأمل في مراحل التحليل، ميسرا مروره بتركيز عال من الوضعية العادية، ثم الوسطية، ليجد نفسه في الوضعية الختامية مقتنعا بالاستنتاجات المنيرة للعقل والمحفزة على اكتساب المعرفة العلمية والأخلاقية. كما جعلت أسلوبه يتسم بالبساطة والسلاسة. قدرته على تبسيط تحليل القضايا المعقدة مكنته من كسب اهتمام القراء بمختلف مشاربهم. يستحضر النقل ويشهر قوة العقل، ثم يبدع في خلق الحوافز النفسية أمام القارئ دافعا إياه عن طيب خاطر للتأمل وكشف بواطن الأمور والتمييز بين الأصول والفروع. مكانته الفكرية هي تتويج لمساره الشخصي الزاخر بالاهتمامات والبحوث المتواصلة.

المتتبع للأستاذ الغرباوي يستشف إيمانه العميق بالإسلام الوسطي المعتدل، مبرزا ما يتضمنه من قيم إنسانية كالحق والعدل والعلم والإيمان. إنه صاحب مشروع نهضوي عربي إسلامي ينضاف إلى مشروعي كل من المفكرين المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري والدكتور عبد الله العروي أطال الله في عمره. إذا كان الجابري يدعو إلى غربلة التراث من خلال تنوير العقل العربي، والعروي إلى القطيعة المنهجية باعتماد المنهج الماركسي الموضوعي والتاريخانية والارتماء في أحضان الحداثة الغربية في القرون الثلاث السابع والثامن والتاسع عشر والعودة الفكرية إلى التراث بمنطق الأنوار، فإن الأستاذ ماجد الغرباوي يدعو إلى عقلنة شعور الشخصية العربية والإسلامية وتقوية قيمها العقلانية بالشكل الذي يجعلها تضفي طابع الفاعلية على الروابط بين العقل النظري والعقل العملي.

يمكننا أن ننظر إلى كتابه "المقدس ورهان الأخلاق" بوصفه دراسة في فلسفة التاريخ (التاريخانية عند عبد الله العروي). استثمر في تاريخ الأفكار وما تمخض عن تفاعل النصوص العقائدية بالواقع. وهو يقابل الخلاصات الفكرية مع الأحداث التاريخية التي وازتها، يمكن القارئ العربي البسيط من طرح التساؤلات العديدة في شأن واقعه وسبل الخروج من مآزقه. كتاباته تصوب اهتمام القارئ في اتجاه علة الأحداث وعمقها، فيؤثر في سلوكه واضعا إياه في موقع الباحث عن توجهات جديدة، معترفا بحاجته إلى فهم عميق للفكر الإسلامي، ومحاولا الكشف الكلي على المسببات الواهية التي ربطت الصدام التاريخي بين العقل والنقل في الفكر الإسلامي بنزعات الحفاظ على المصالح والمنافع الذاتية على حساب الأوطان وشعوب المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج.

العقلانية في الدين عند الغرباوي هي دعوة للحسم في مقومات الشخصية الإسلامية بتمكينها من قدرات الغوص في العلم والإبداع والتكنولوجيا. لقد استخلصت من كتاباته أنه، كعبد الله العروي، يستحضر أوضاع تأخر الشعب الألماني زمن عصر الأنوار معتبرا إياها مشابهة نسبيا لأوضاع الشعوب العربية في الوقت الراهن. وهو نفس الاستنتاج الذي أبرزه ماركس. إن تدني العلاقات الاقتصادية الألمانية في ذلك العصر، مقارنه بفرنسا وبريطانيا وأمريكا، يعود إلى تلك الإيديولوجيا المثالية التي تهيمن على الوعي الألماني وتحول بينه وبين تطوره، لأنها كانت تغرقه في الأفكار والخيالات السابحة. كان تفكير الألمان يسبح في السماء ولا صلة له بالإبداع لتجديد أنماط وتقنيات الإنتاج المادي.

بنفس المنطق، لم يدخر الأستاذ الغرباوي جهدا في نقد الوعي العربي الزائف وتبيان هشاشته. حياة أغلب أفراد الشعوب العربية غارقة ليل نهار في الأوهام والتعبيرات الشفاهية التي لا تمت بصلة بواجب تنمية الحياة المادية وخلق السعادة الروحية. إن رسائل ودلالات كتاباته تدعوا إلى تشييد حياة جديدة قادرة على تفنيد الأنظمة التقليدية السائدة. لقد بين بالبراهين الدامغة أن الأبنية الثقافية التي شيدت من طرف أصحاب المصالح من رجال الدين ورواد البيروقراطية السياسية أصبحت هشة ومتداعية وضيقة وغير مريحة. في نفس الآن يذكرنا أن استفاقة العرب المسلمين تمليها أمانة استخلاف الإنسان أرضا. فما تعرفه الشعوب العربية من فقدان مستمر لأجزاء من بشريتهما تحت وطأة الاستغراب الرأسمالي أو العقائدي يجب أن يتوقف. الشخصية العربية المسلمة يجب أن تكون عاملة ومتفاعلة، تتفتح وتزدهر باستمرار، وقادرة على أن تحل محل المذاهب العقائدية المتناحرة السابقة. عليها أن تتوق لتغيير وضعها بتملك السلطة المعرفية والإرادة السياسية والرغبة القوية، وبالتالي تنوير واقع الفرد العربي ليلا ونهارا. يعيش ليله مزهوا بهويته وثقافته وتراثه العقلاني، يفكر ويدبر كيف سيكون غده أكثر مردودية ماديا، مردودية تستجيب لسر وجوده ولأمانة كشف أسرار الكون التي لا تعد ولا تحصى.

بالنسبة للغرباوي، معاداة الآخر لا يمكن اعتبارها إلا عائقا أمام طموح النماء القطري، بل موقفا واهيا يعرض الشعوب إلى هدر الزمن والاضرار بالنفس. زمن الحداثة الغربية هام للغاية. لقد كان من الناحية التاريخية نتيجة نشوب حركات التمرد والثورات التي خاضتها الشعوب الغربية ضد استبداد الكنيسة ومريديها. إنه مرجع تاريخي زاخر بفرص وإمكانيات التطور والقطيعة مع سبات الماضي. لقد دعا الدكتور عبد العروي إلى سبر أغوار هذه المرحلة البارزة في تاريخ البشرية. التاريخ الغربي يذكرنا بالفترات الصعبة التي انتصرت فيها العقلانية وفرضت حياة متنورة جديدة. لقد أشار الدكتور علي القاسمي في كتابه "صياد اللآلئ في الفكر والإبداع المغربي المعاصر"، كيف تم اعلان ميلاد حقوق الإنسان في تاريخ البشرية. صدر العهد الأكبر في عهد ملك إنجلترا جون سنة 1215، وتطور إلى إعلان الحقوق بنفس البلد سنة 1689. صدر إعلان الاستقلال الأمريكي سنة 1776، والإعلان الفرنسي لحقوق المواطن سنة 1789. إنه عهد مرجعي في رفع الظلم والحد من الاستغلال البشري والنضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بأي وسيلة. إنه فترة التعبير عن الإرادة السياسية الشعبية لتعميق الفهم للحقيقة بنهج فلسفة تسعى لتغيير الواقع لأجل سعادة البشر. بنفس المنطق، تراث الماضي بالنسبة للغرباوي جزء من هوية الأمة الحضارية شريطة إخضاعه للفحص بغربال العقلانية.

والعالم يعيش زمن تسلط الليبرالية المعبرة عن زمن ما بعد الحداثة بتركيزها على علاقات دولية اقتصادية وسياسية أساسها المصلحة والمنفعة المادية، تزداد الحاجة إلى تقريب كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي من العقل الشعبي الواقعي في كل الأقطار العربية، للحسم النهائي في مقومات الفرد العربي المسلم بتقوية وجوده الثقافي الكوني ومستوى مقاومته للتغريرات والخطابات التقليدية المناوئة للمستقبل. إن حلم خلق مجموعة سياسية واقتصادية عربية يتطلب أولا وقبل كل شيء الاطلاع العقلاني على تاريخ تحول العالم الغربي في عصر الأنوار، ثم التشبع بقيم الحداثة بحقوقها السياسية والاقتصادية، ثم الحسم النهائي في مقومات الشخصية العربية المسلمة كما بين لنا ذلك كاتبنا الغرباوي، وبالتالي تعبيد الطريق لخلق القطيعة مع كل بال ورث في التراث، وتسريع بلورة استراتيجية تربوية للصغار وتكوينية للكبار حتى يتأتى للجماهير العربية التوجه للمستقبل بانفتاح نافع ماديا ومعنويا، مغتنما كل الفرص المتاحة كونيا في مجال الإبداع والدرابة اليدوية والعقلية ووفرة الإنتاج وتراكم الثروات.

الاعتزاز بالتراث العقلاني هو مرادف للعودة إلى القيم الإنسانية في الإسلام، وإعادة الاعتبار لمفهوم النظم والمؤسسات الإسلامية المنفتحة والمتسامحة، وترسيخ ثقافة الخلق الصناعي والإبداعي الفني في أذهان الأفراد والجماعات. الغرباوي يدعونا من خلال تحليلاته الرصينة إلى تسريع التراكم الحضاري والثقافي بالتخلص النهائي من سلطة تراث الماضي المتخلف الذي يكرر نفسه خالقا لنفسه حواجز عالية تفرمل آلياته المشروعة لكسب مهارات التنافس والحق في الوجود الفاعل كونيا. فلا سلطة إلا للعقل. إنه الأساس الذي بني عليه التاريخ البشري. علينا أن نجد المنعطف المناسب، ونرسخ مقوماته، ونميل، كما مال الغرب، صدفة وإتقانا إلى جهة، فوجد نفسه على رأس طريق معبدة. لقد عثر العرب المسلمين على ذخائر خدمة المستقبل في فترات معلومة من الماضي، إلا أنهم مالوا إلى جهة تاهوا فيها في معارج رملية قاحلة.

كتابه "المقدس ورهان الأخلاق" زاخر بمقومات صقل كفاءات ومهارات الشخصية العربية الإسلامية. الأخلاق مصدر معنوي حضاري، يميز من خلاله الفرد المواطن بين الخير والشر، الحسن والقبح، الفضيلة والرذيلة. فأمام التفاعل السريع للسلوكيات والانفعالات اليومية للشخصية العربية الإسلامية، تبرز مكانة العقل لتحقيق المواقف والأفعال وردود الأفعال المناسبة معبرة عن وجود منظومة أخلاقية جذابة تخضع في أبعادها للمنطق المتعارف عليه كونيا. الرأي العام الكوني لا يمكن له أن يعادي الاختلاف المعبر عنه بالطرق الحضارية المعروفة، بل يمتعض من ردود الفعل غير المبررة والعنيفة. وبذلك، تكون الأخلاق وحيا من مدركات العقل العملي ومشاعر الفطرة الإنسانية السليمة. لقد ترتب عما يعيشه العالم من استبداد علني ومبطن بسبب هيمنة الاتجاهات المادية والنفعية الجشعة في زمن العولمة ميول الإنسان الغربي إلى الاحتكام للقاعدة السلوكية المبتدعة "الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة". عالم اليوم يحتاج إلى أخلاق وقيم عصر الأنوار وزمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. نحتاج لحياة فردية تستمد مقوماتها من الأخلاق الحضارية العقلانية، وتكرس في سلوكياتها مهابة الدين في الحياة الشخصية.

المقدس بالنسبة للغرباوي يحتاج إلى التحري المعرفي والتحلي بالدقة والنباهة لتحويله إلى آلية لتقوية الشخصية العربية الإسلامية بالرفع من مستوى جاذبيتها وتحبيبها لسكان المعمور. الجهل المقدس يجب أن يندثر بصفة نهائية من حياة الشعوب الإسلامية ببلورة ميثاق أخلاقي تقدمي منفتح وقابل للتجديد يجعل الدين مقوم أساس للهوية والحياة. الأستاذ الغرباوي في هذا الصدد أبرز الاستثناءات والقراءات التراثية المتخلفة عن ركب التاريخ في كتابه السالف الذكر. لقد اخترق سجون العقل وأغلال التفكير وفندها بالدليل والحجة. لقد أثار الجدل الذي عاشته الحضارة العربية في فجر الإسلام (المعتزلة، الأشاعرة، الخوارج، الشيعة، .....). دافع المعتزلة كون الحسن والقبح عقليان، وأذاع الأشاعرة كونهما شرعيان. لقد فند الغرباوي رواية زواج النبي (ص) من عائشة وعمرها ستة سنوات ودخل عليها وعمرها تسعة سنوات. كما ركز بتفسيراته المقنعة على ظاهرة القتل المرفوضة والحق في الحياة (قصة موسى والغلام). إن الكاتب من رواد تحرير الوعي الديني وإخراجه من دائرة احتكاره من طرف مريديه. الحلال بين والحرام بين.

إذا كان العقل النظري هو مفتاح التأمل التجريدي المسخر للاستفادة من خدمات الكشوفات العلمية في الواقع (الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، ....)، فإن العقل العملي يكون في أتم الاستعداد لتحويل النظريات إلى صناعات وانتاجات مادية تنفع الإنسان وتجعله يركز أكثر على المستقبل والآتي من الكشوفات الجديدة. العقل النظري دينيا، يقول الغرباوي، يخضع لمبدأ الإدراك، والعقل العملي أساسه دوافع ومحفزات. داخل هذه الانشغالات الطبيعية التي تضمن استمرار الوجود البشري فوق الأرض، يكون العقل الأخلاقي حاضرا بقوة للحيلولة دون السقوط في الانزلاقات الخطيرة. فهو إذن مشترك إنساني غير مرتهن لأي حكم مسبق ما عدا مبادئه. أدواره حماية الأفراد من السلوكيات المنحرفة المحكومة بالظلم والعدوان، والتي لا يمكن لأحد تبريرها مهما رفعت شعارات دينية وطائفية مؤيدة لها (القتل بدوافع عقائدية وطائفية). الحسن حسن بذاته، يدركه العقل العملي باعتباره واقعا، والقبيح قبيح بذاته تنبذه النفس. الفطرة الإنسانية إحساس أخلاقي ترتهن له القيم والأخلاق كونيا (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). الميل للخير مرتبط بوضعية يكون فيها الفرد حرا. في التعاطي مع الأحكام الشرعية، يدعونا الكاتب إلى الأخذ بعين الاعتبار القبليات العقدية والسياسية والإيديولوجية. فلا يمكن مثلا تبرير الإرهاب بأقوال الصحابة أو الأئمة الإثنى عشر أو فتاوي الفقهاء. لقد بين لنا كذلك بوضوح تام كيف خضع تاريخيا العقل التراثي للحوافز الإيديولوجية والطائفية.

لقد أسهب الكاتب بما يكفي لتوضيح كون العنوان الأبرز لرسالة الله عز وجل لعباده تتجلى في التسلح بالعلم والأخلاق لتحقيق العبور الدائم من حال الجهل إلى حال العلم. الله يمجد في كتابه المقدس أولي الألباب الذين يربطون انشغالاتهم اليومية بالشعور بالواجب بدون طغيان اللذة والمنفعة غير المشروعة. جاء في نفس الكتاب أن الفيلسوف كانط في هذا الصدد قد دعا الإنسان للفعل الجاد بحيث يمكن لقاعدة فعله أن تكون قانونا عاما. وبذلك يكون مصدر التزام العقل الأخلاقي هو العقل العملي مع اعتبار أن الشخص يعي ذاته بما هي ذات إنسانية مستقلة، وكحركة وجود بحمولة ثقافية ترتكز على خصوصية مندمجة في الحضارة الإنسانية وعلى رؤية شاملة للكون والوجود والإنسان والحياة وما بعد الموت لمن كان مؤمنا بوجود عالم ما ورائي (يوم الحق والعدل). استحضر مسألة الضمير الذي يستمد مقوماته من أدواره الرقابية التي يستمدها من الطاقة الروحية للدين. الأخلاق منظومة معروفة لا تقبل إلا الحسن والفضيلة، ولا تتماهى مع الظلم حتى إن كان دعوة مغلفة بنزعات دينية. مركز انشغال الدين، يقول الكاتب، هو تسديد وحماية الضمير، وليس ذات الفعل الأخلاقي. الدين لا يفرض على الفعل الأخلاقي شروطه وقناعاته. الأخلاق مستقلة لأنها من مدركات العقل العملي.

لقد قدم لنا الأستاذ ماجد الغرباوي منظومة متكاملة أوضح من خلالها الارتباطات العقلانية بين الدين والأخلاق والضمير والمقدس (لا تعارض بين جوهر الدين والأخلاق - الدين تجربة روحية، تتقوم برؤية كونية، ومشاعر إنسانية عميقة)، مبرزا إمكانية توحيد الرؤية لتشمل العامة والمثقفين في شأن مقومات الشخصية العربية الإسلامية القادرة على الاستفادة من ماضيها، وفحص قيم الحداثة التي عاشها الغرب في القرنين السابع والثامن عشر، والاندماج في تطورات الحاضر بمنطق الفاعل الطموح المتشبث بالمشاركة في صناعة المستقبل. التجربة الروحية لكل إنسان محورها الله الذي يدعوه لسبر أغوار الكون والبحث عن حقائقه المطلقة سعيا إلى الاقتراب منها، وتسخير حصيلة أعمال أيامه لسعادة البشر المادية والروحية والصحية (الدافع الإنساني الخالص الذي يجعل من أنسنة المقدس شعارا صالحا لكل زمان ومكان).

قداسة النص الديني المتعالية تتطلب توفر الإنسان على القدرة على التدبر والحكمة والتبصر لكيلا يكون أساسها الخوف من يوم الميعاد وتأجيل تحقيق الذات دنيويا والتخلي عن الحق في التمتع بسنوات العمر. فتحرير العقل عند الكاتب أساسي لتمكين الفرد من الوعي بحجم مسؤوليته دنيويا. وفي هذه النقطة بالذات أختم هذا المقال بقولة ربيعة العدوية الشهيرة: "اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فارسلني فيها، أنا أعبدك لأنك تستحق العبادة". لدى المسلم ما يكفي من الأبحاث والمشاريع الفكرية لتحويل العقيدة الدينية إلى مصدر قوة للفعل اليومي وتراكم الخيرات والخبرات العلمية في الحياة. إن فهمه لدينه مع الاعتراف بنسبية معارفه تعد منطلقا للعيش في فضاء أوسع. الآيات الكليات في القرآن الكريم صالحة لكل زمان ومكان، والآيات الجزئيات بوقائعها وأحكامها مرتبطة بالزمن الذي وقعت فيه.

***

الحسين بوخرطة – كاتب وباحث مغربي

....................

* مشاركة (14) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

الصفحة 1 من 5