بأقلامهم (حول منجزه)

تعرفت على الصديق والاخ الاستاذ ماجد الغرباوي منذ السنة الاولى لتأسيسه موقع ومجلة المثقف التي تحولت فيما بعد الى مؤسسة المثقف العربي ومركزها سدني - استراليا.  ولم يمض وقت طويل حتى ترسخت علاقتنا بحكم التقارب في افكارنا وفلسفتنا ونظرتنا لما يدور حولنا من شؤون وطننا الذي ابتلي بسلسة من الفواجع. وكذلك بحكم احترامي الجم لخلقه العالي وكرمه وتواضعه.

عرفت في الاخ الغرباوي  رغبته الصادقة لشق طريق مختلف تماما عمّا انتشر من مواقع وصحف ومجلات انتشارا انفجاريا على الانترنت وماهو مطبوع.  كان همه الاول هو نشر الكلمة الصادقة  وتنمية الافكار الناضجة ورعاية الاقلام  الجادة الملتزمة بالوطنية الحقة البعيدة عن التكتلات والتحزبات والاصطفافات العقائدية والمذهبية.  وهذا أمر واضح لمن يريد ان يلقي الضوء على تاريخ ما نشرته المثقف منذ تأسيسها ولحد اليوم والذي سيجده خاليا تماما من الترهات الصحفية ومنشورات الانترنت الهادفة الى الاثارة او الى التحزب والتنابز وتجنيد العواطف مع او ضد هذا الطرف او ذاك.

وحري بي القول ان الاخ الغرباوي أخذ على عاتقه تمويل هذا المشروع من جيبه الخاص دون مساعدة او تعضيد من أي جهة.  وقد مضى الى دعم نشر عدد من الكتب لشخصيات ادبية وثقافية مهمة، ثم بدأ بالتدريج وبأناة لنشر مؤلفاته الخاصة التي فتحت حقلا جديدا وسلكت دربا حاسما لم يسلكه احد من قبل حسب معرفتي المتواضعة.  وهكذا خرج الى النور مشروع الغرباوي الفكري بعدة اجزاء، وما زال ماض في الصدور.

لقد ركز مشروع الغرباوي على  البحث  الجاد في موضوعات فكرية تنويرية  اكتسبت اهميتها القصوى في هذه المرحلة الثقافية والحضارية المعتمة من تاريخنا الحديث.  فما احوجنا مثلا للتنوير في اشكاليات السلطة والحكم والاستبداد،  والحرية والعنف والتسامح والتعايش، والدين والعقيدة والمواطنة! وفوق ذلك فقد أخذنا الغرباوي الى فضاء فكري آخر، ادق واعمق وله ضرورة حاسمة اليوم في مجتمعنا العراقي والعربي الذي يشهد نكوصا ثقافيا وحضاريا مفجعا. ألا وهو الغور في موضوعات الحقيقة والاصلاح، والقدسية والدين والآلهي السماوي والبشري الارضي، واشكاليات الفقه والتفسير والحكمة والتشريع.

وليس اصدق من أن نراه يلخص رسالته الفكرية وهدفه التنويري بالقول انه يسعى الى:

" تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب".

فمن فكر وسيرة هذا المعلم الجليل نتعلم وتتعلم الاجيال القادمة ليتمهد السير باتجاه العقل الراجح والوعي الرصين الملتزم من اجل المواطنة الحقة والعيش بكرامة وسلام ومحبة للجميع.

***

بقلم: الدكتور مصدق الحبيب

..........................

* مشاركة (17) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تنماز العقائد الدينية بمجموعها بصفة الصرامة القسرية المقرونة بالإكراه الفكري المقرون بدوره بمنهج تخويفي يكاد يقيد حراك المرء، ويضيق أمامه السبل الحراك، فلا يحاول تجربة العبث الفكري مع الشدة المتشنجة للتابو المهيمن على أجواء العلاقة بين الاثنين، ذلك المنهج المقرون دائما بلهجة التخويف والتحذير من نار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد، تلك الصورة المرعبة التي وقفت بوجه كل من يريد أن يبدي رأيا بشأن مسألة دينية تكاد لا توافق العقل، أو تناقض المنطق، والمرات القليلة التي جرب بها الكلاميون والفلاسفة حظهم باءت واقعا بالفشل، لا لقصور في مناهجها بل بسبب شدة وشراسة الهجمة التي تعرضوا لها، تلك الهجمة المدعومة من السلطة والسلطان؛ الذي تحسس مكمن الخطر في منهج التنوير، فتخوف على عرشه وغلمانه وجواريه وخزائنه، فاستعان بالمتشددين ليحارب الأفكار التوعوية التنويرية، بعد أن وصمها بالكفر والمروق والردة، وهي تُهم قاسية عقوبتها الموت المحتم، ليس لأن الأديان تُقر ذلك، فجميع الأديان بما فيها دين الإسلام لا يوجد فيها أي نص يوجب حتى قتل المرتد، وإنما هي مجرد أحكام مبتكرة، ابتكرت كأداة لمنهج تخويفي مبتكر، كان وليد الاجتهاد، بحجة الحفاظ على الدين، تماما مثل تلك المجاميع التي كانت تضع الأحاديث وتنسبها لرسول الله ﷺ وحينما يسألونهم عن السبب، يقولون: "نحن نكذب له، ولا نكذب عليه!"

إن من يقلب صفحات تاريخنا الموغل بالقدم، يجد هناك عشرات الأسماء التي تحدت الواقع ببسالة، فحملت مشعل التنوير بإخلاص المجاهدين، بعد أن تأثرت بكتب الفلسفة المترجمة عن اليونانية، وهؤلاء الشجعان أنفسهم هم الذين أعادوا صياغة مفهوم الفلسفة؛ الذي كان يعني لدى اليونانيين القدماء: "حب الحكمة"، فجعلوه أوسع من ذلك التضييق، طالما أنه يرمز إلى الأفكار الـمُستنبطة بواسطة العقل، وإعْمال الفِكر، حول الموجودات ومبادئها وعللها. هذا الجمع المغامر وضع المفهوم العربي للفلسفة موضع التطبيق، بعد أن تناولت طروحاتهم هذا الجانب بالذات، أقصد مهمة الاستنباط بالعقل، فتسببوا في إثراء المنهج الفلسفي الإنساني، وتطويره وترسيخ جذوره، ذلك لأنهم لم يكونوا تقليديين، ولم يقتبس أي واحد منهم ما عثر عليه دون تمحيص وإدراك، وإنما كانوا مجددين بامتياز، بدليل اختلاف مواقفهم من الفلسفة المستوردة (اليونانية)، بين رافض لها، ومكفر لمنهجها، متشدد، نظر إليها على أنها تفتح أبواب الضلال والفساد ويجب محاربتها. ومن وقف منها موقفاً وسطاً محايدا مبنيا على النقد والتمحيص والامتحان والتدقيق، وكان المعتزلة وبعض الأشاعرة من هؤلاء، وكان الفيلسوف الغزالي واحدا منهم، وهؤلاء بالذات كانوا يتقبلون، ويأخذون منها ما يرونه حقيقياً، ويرفضون ويتركون ما يرنه باطلاً. ومنهم صنف ثالث سحرته وبهرته، فوقف منها موقف الإعجاب والإكبار والتقدير، فدرسها بعمق وعمل على محاكاتها، بل والكتابة والتأليف على نمطها، وكان من بينهم الكندي الذي يُعتبر الأب الروحي والمؤسس الحقيقي للفلسفة العربية الإسلامية، ولاسيما بعد أن فتح أبواب النظر الفكري من خلال كتاباته مثل كتاب "الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد"، وباقي طروحاته التي اهتمت بالميتافيزيقيا وعلم ما وراء الطبيعة، والأخلاقيات، والبحث في توضيح مشكلة حرية الإرادة توضيحاً فلسفيا، فخرج بنتيجة أن لإرادة الإنسان قوة نفسية تُحركها الخواطر والسوانح. ونتيجة ذلك صار ملهما لمن عاصره أو جاء بعده، مثل أبي نصر الفارابي، الذي كان قريبا من عصر للكندي. وعلى نهجهم سار ابن رشد الذي أفاد كثيرا من كتاباتهم وتجاربهم. وهو وإن بدا تجديديا ومختلفا عنهم، إلا أن طروحاته أثبتت أنه كان متأثرا بنظرية الأخلاق الأفلاطونية؛ التي بين فيها أفلاطون أن الفضائل الأساسية هي: الحكمة والشجاعة والعدالة والعفة. ومن خلال الإبداع والتقليد والتأثر انطلق ابن رشد بفكرة أن الدين والفلسفة هما أدوات تُمكّن الإنسان من معرفة السبيل للخلاص البشري. وقد سار ابن باجة على أثره وكان من أكثر الفلاسفة المتأثرين بفلسفته، وكذا ابن سينا وابن طفيل وابن الهيثم وأبو حامد الغزالي الذي كتب في التصوف والفلسفة والعقيدة.

وبين هذا وذاك كانت هناك كوكبة من المفكرين الذين تباينت طروحاتهم بين تصحيح الواقع الديني، فاتهموا بانحيازهم، وتم التشكيك بنزاهتهم بسبب جرأة طروحاتهم، مثلما اتهم أبو حامد الغزالي بأنه اتهم الخليفة عمر بن الخطاب بمخالفة إمامة علي بن أبي طالب؛ أثناء حديثه عن رواية: "من كنت مولاه فعلي مولاه" في كتابه "سر العالمين وكشف ما في الدارين"، وتصحيح الواقع السياسي، حتى اتهم بعضهم بأنه يروج لتأييد السلطان، مثلما اتهم الغزالي أيضا بأنه دعم السلطة العباسية بعد أن وضع كتابا بعنوان "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" بطلب من الخليفة العباسي المستظهر بالله، أشاد فيه بدور الأخير.94 salehaltaie600

إن الطروحات الغريبة عن الأجواء العامة للمجتمعات العربية كانت سببا في اتهام الفلاسفة بتهم وصل بعضها إلى التكفير، واتهام الفلسفة بالتهافت، وربما كانت هذه التمظهرات هي الأسباب التي قلصت الحراك الفلسفي في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، وجعلته مقصورا على قلة من الناس، لأن سلطة الحاكم والسلطة الدينية كلاهما كانا يستدعيان المقدس "القرآن والسنة النبوية" كعناصر إسناد وقوة لتبرير مواقفهم لا السياسية وحدها بل وحتى القمعية، فلطالما استدعي النص الديني لقمع الخصوم والمناوئين والأعداء، بما فيهم المحتملين والحقيقيين طوال تاريخنا الإسلامي، وهو الأمر الذي تسبب بانكفاء الحراك الفلسفي، وتقلص المساحات التي يمكن للفلسفة أن تتحرك من خلالها بسبب التضييق والشدة.

وقد تسبب الانكماش الفلسفي في طغيان الفكر الساذج القائم على الخرافة ومنظومات الفضائل؛ التي ما أنزل الله بها من سلطان، فتسبب ذلك في تأخر مجتمعاتنا، وانتشار الفقر والجهل والأمية، والدجل والشعوذة، والحديث عن الجن والتلبس والتابعة، بدل الحديث عن العلم والحرية والعدل، وهو الأمر الذي حدا ببعض الذين يملكون جرأة الوقوف بوجه التيار ليتصدوا بشحذ عقولهم والتصريح بالحقيقة المغيبة التي يرفضها الكاهن والسلطان، ومن بين ركام الفوضى جاءت إشراقات المفكر والفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر، والمفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري الذي تناول بمؤلفاته الحديث الصريح عن الفكر الإسلامي المعاصر، ومنها كتاب "نقد العقل العربي" وكتاب "نحن والتراث". والباحث والأكاديمي الجزائري محمد شوقي الزين، الذي طرح رؤاه في عدة أعمال فكرية مثل: "تأويلات وتفكيكات"، و"سياسة العقل"، و"الثقاف في الأزمنة العجاف". والفيلسوف التونسي المعروف محمد الحبيب المرزوقي، وثلة من الفلاسفة الآخرين.

أدى ظهور تلك الآراء والأفكار التي بدا بعضها مشاكسا جريئا إلى إثارة زوبعة من الآراء المضادة المتباينة حول مواقف الفلاسفة من الدين والحياة والواقع والمجتمع والسنن والعادات وأشياء كثيرة أخرى، وتباينت المواقف منهم بين رافضٍ معترض، وساكتٍ، ومؤيدٍ ومناصر، بدل أن تتم مناقشة تلك الطروحات بمنهجية علمية، وأدت المواقف السالبة إلى إلحاق الأذى والضرر بالفلاسفة، فبدا وكأن عصر الفلسفة انتهى، ولكن في كل مرحلة كانت هناك اقلاما ناضجة ترفع رأسها متصدية للسلبيات بكل أنواعها، اعتمادا على تفكيك جذور التابو الديني، والدوافع التي تجعله ينمو حتى في القرن الحادي والعشرين بكل تلك الشراسة التي تتمثل بالأعمال الإرهابية، بما يعني أن من المؤمل لها أن تخوض معارك فكرية صعبة، توجب عليهم الوقوف أمام حشد من الجهلة والمؤدلجين والجامدين على النصوص والسلفيين، ولاسيما وأن الإسلام نفسه بدا في هذه الحقبة متشعبا ضمن أطر سياسية تمتد من الإخوان المسلمين، إلى السلفية، إلى الحركات الميلاشيوية إلى الحركات الجهادية الراديكالية المتطرفة، وقد تسبب هذا التشظي بولادة نزعات عدوانية بينها، صعَّب مهمة الفلاسفة وأعاق تقدم الفلسفة، ولاسيما وأن التهديد كان سيد الموقف والسلاح الكاتم كان هو المتحكم والقاضي.

ضمن أجواء الشد الحرجة هذه لم يكن من السهل على مفكري الداخل العمل بحرية وهم يرون السيوف مسلطة على رقابهم والنحر أبسط ما يمكن أن يواجهونه، ولقد عشتُ هذه المحنة بعد عدة مؤلفات أصدرتها ونشرتها ضمن سلسلة من أربع مجلدات، تحدثت فيها عن أثر النص المقدس في صناعة بعض العقائد المنحرفة مثل التكفير والتهجير وقتل المرتد والمثلة وحرق البشر، حيث قاموا بتهديدي بالقتل إن لم أتوقف. أما المفكر الموجود في الخارج فقد وجد فرصة كبيرة للتعبير عن رؤاه ومواقفه من كل ما يدور على ساحة الدين والمجتمع والسياسة، وكان الأستاذ المفكر العراقي المقيم في أستراليا ماجد الغرباوي أحد هؤلاء؛ الذين حظوا بالفرصة واستغلوها ليطرحوا رؤاهم، وقد ساعده البعد على التحدث بصراحة يكاد يفتقد إليها أبناء الداخل.

هذه الفسحة فضلا عن رجاحة الفكر، والإعداد الفكري المتأصل المتجذر الذي حظي به المفكر الغرباوي، بعد أن قرأ ودرس عددا كبيرا من أهم وأخطر المؤلفات، وتعمق بدراسة الفقه على مدى سنين طويلة، وتولى القيادة والإشراف على عدة منشورات عقائدية تعتبر من أهم وأخطر المنشورات؛ رئيسا للتحرير وكاتبا ومقوما ومقيما، فضلا عن احتكاكه المباشر مع كبار رجال المؤسسة الدينية والعمل معهم، واطلاعه على خفايا لا يتسنى لأحد من خارج المؤسسة الاطلاع عليها، بل لا يتسنى لبعض من هم داخل المؤسسة أن يطلعوا عليها، كل هذا مقرونا بشجاعة شخصية مائزة واعتداد بالنفس وحسن تدبر ورجاحة عقل وسمو أخلاقي، فضلا عن وجود الواسطة، وأقصد بها موقع صحيفة المثقف الذي بناه بجهده وعرقه، وحولة خلال بضعة سنين إلى دوحة للمفكرين والباحثين والأدباء والفنانين، اجتمعت كلها وصقلت موهبته الفكرية.، فكان هذا النتاج الثر الماتع الرائع المفيد والخطير أيضا.

ولا أبالغ إذا ما قلت لكم أني كنت أحد المعترضين على كثير من طروحاته، وكنت أرى فيها انحرافا عن المألوف لا أكثر، لكني حينما بدأت أتعمق بتفكيك كتاباته، واستشراف مقاصدها، وجدت نفسي أمام عقل شره للعلم، شجاعا بالطرح، رائعا بالتفكير، أستاذا بالاستقراء والاستنتاج، وكان للنتائج التي توصل إليها وطرحها من خلال مواضيعه التي نشرها تباعا على صفحات صحيفة المثقف تأثيرا على بعض رؤاي الشخصية، وقد أفدت منها كثيرا، بل وجدتها تصحح لي بعض مسارات تفكيري.

وقد سبق لنا (الغرباوي وأنا) ودخلنا في حوارات عميقة من خلال المداخلات على كتاباته المنشورة، أخذتُ من خلالها بكثير مما قاله، وأخذَ بما قلت، والظاهر أن هذا التعاطي الفكري الرائع أوحى لبعض ضعاف النفوس الذين لا يملكون القدرة على مقارعة الحجة بالحجة، فانتحلوا اسمي، وبدأوا يوجهون له المطاعن والسباب.! وقد يرى بعضكم أن هذا أمرا طبيعيا لا غرابة فيه، لأن الأعم الأغلب من أصحاب الفكر وجدوا على مر التاريخ من يتصدى لهم ويوقع بهم الأذى، ألم يعدم سقراط، ويقتل فيثاغورس؟ ألم يقتل الفيلسوف والخطيب الروماني الشهير شيشرون بأمر من الطاغية نيرون؟ ألم يكن موت الفيلسوفة هيباتيا على يد متطرفين مسيحيين في مصر؟ ألم يعدم الفيلسوف بوثيوس صاحب كتاب "عزاء الفلسفة" بأمر من الملك ثيودور الكبير؟ ألم يقتل جوديا هالفي، وجون هاس، وإبراهام بن داود، ألم يعدم الفيلسوف الإيطالي غوردانو برونو حرقا وهو حي؟ ألم يحاكم غاليليو بسبب آرائه الفلكية ويسجن؟ ألم يقتل الفيلسوف توماس مور صاحب المدينة الفاضلة "يوتوبيا" بأمر الملك الإنجليزي هنري الثامن، ألم يقتل الفيلسوف الغورنون سيدني بتهمة التآمر ضد الملك الإنجليزي؟ ألم يقتل ليون تروتسكي بأمر من ستالين، ألم يقتل الشيوعيون المتطرفون جيوفاني جنتيله الإيطالي؟ ألم يقتل فيلسوف الوضعية المنطقية موريس شليك على يد طالبٍ مجنون؟ ألم يقتل الفيلسوف الفرنسي سيجر البرابوني على يد المتشددين لمجرد أنه من أتباع الفيلسوف العربي ابن رشد الذي تتهمه أوربا بالإلحاد؟ ألم يخشى ديكارت على نفسه أن يلقى مصير أقرانه من الفلاسفة فأحجم عن نشر كتابه "العالم" لأنه يطرح الآراء نفسها التي قتل من أجلها برونو وسجن غاليليو، ولم يطبع الكتاب إلا بعد موته؟

لكن غير الطبيعي، الذي ينم عن سمو أخلاق الفيلسوف ماجد الغرباوي أنه لم يفاتحني بالأمر ولم يعاتبني أبدا إلى أن اكتشفت من خلال الحوار معه وجود هذا الموضوع الشائن، فقمنا بالبحث والتحري لنكتشف أن هناك من عمل إيميلا مقاربا لإيميلي ليرسل من خلاله تلك التفاهات من مدينة الكوفة. وكان طوال مدة تلقي الإيميلات الخبيثة يتصرف معي كأخ وصديق، دون أن تظهر عليه أي علامات حتى للزعل البسيط، وهذه مكرمة لا يتمتع بها إلا الفلاسفة الكبار، وأنا أُكبرها به وأشيد به بسببها في جلساتي.

وآخر ما أردت الإشارة إليه هو رغبتي الجامحة في أن تتولى المؤسسة الدينية والمؤسسات الأكاديمية دراسة طروحات الغرباوي بشكل منهجي علمي أكاديمي حوزوي محايد وستكتشف أسرارا هي بحاجة ماسة إليها، فمن الغريب أن نفرط بذلك الكم الكبير من الفكر المتحرر الناهض العلمي دون أن نلمس أثره على الواقع الإسلامي الذي هو بأمس الحاجة لمثل طروحات الأستاذ الغرباوي.

كما وأتمنى أن يبادر الرأسماليون المسلمون وغيرهم إلى جمع مبالغ لإعادة طباعة مؤلفات ماجد الغرباوي وتوزيعها بشكل مكثف على كافة طبقات المجتمع، فالمرحلة التي نمر بها اليوم من أخطر المراحل التاريخية، وعلينا الاستعداد للمواجهة بحكمة وعقل، فزمن المعارك والسيوف ولى، والعقل هو الذي يحكم العالم اليوم، وما يطرحه ماجد الغرباوي هو لب العقل بعينه.

وفي الختام أقول: سبق لي في عام 2021 ووضعت كتابا بعنوان "الإلهي والبشري والدين التراثي رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي" يتألف من أكثر متن 250 صفحة، لقي رواجا وقبولا واسعا، ولو سنحت لي الفرصة الآن لوضعت كتابا آخر تناولت فيه طروحاته الجديدة، فهي تستحق القراءة والتفكيك.

***

بقلم: د. صالح الطائي  

........................

* مشاركة (16) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

في تسعينيات القرن العشرين كنت غاطسا في الكتابات الروحية، ونشرتُ عددا من النصوص في المجلات المهتمة بها، وبعد إنطلاق الصحافة الإليكترونية، نشرتُ بعضها فيها، ومنها نص أشبه بالمناجاة مع جبران خليل جبران، ومطلعه "ولِدَ الروحُ قبيْلَ الأزلِ.. وتهادى ببراقِ الأبدِ، في قلوبٍ كضياءٍ وسِعَتْ...كوْنَ حبٍّ لجميعِ البَشر".

وفي ذات اليوم وصلتني رسالة تُعْلِمُني بنشر النص المذكور، في صحيفة إسمها "المثقف" وتدعوني للكتابة  فيها، وتوقيعها "أبو حيدر"!!

أول ما شدّني الإنجذاب للنص وهو يُبحر في المعاني الروحية، فالمنجذب إليه لابد أن يكون صاحب حس روحي،  لكنني ترددت في النشر، بسبب مَن غمروني برسائل لا تشجعني على النشر فيها، لأن إسم صاحبها مجهول.

ومضيت أتابعها لبضعة أيام فإستشعرتُ الإرادة الثقافية الحرة، وكأنها تحاول أن تبني منبرا إبداعيا مشرقا بالمعارف الصالحة للحياة الأفضل، فأخذت أمدها بنص ومقالة كل يوم، وما أن بدأت حتى تواصلت بلا إنقطاع، وشعرت بالمسؤولية أن أنشر فيها يوميا.

"المثقف" إبتدأت بذرة تكنز طاقات تنويرية ورسالة إنسانية تسامحية، وإرادة راسخة وثّابة، وثقة بأنها ستنبت وتتبرعم وتتحول إلى شجرة، ومروج أنوار معرفية دفاقة في فضاءات الوعي الجمعي العربي.

فالمتواصل معها منذ خطواتها الأولى ينظر بإعجاب ودهشة لما أنجزته في مسيرتها، التي إنتصرت فيها على التحديات والمعوقات، وفازت في المنازلات التي خاضتها، وهي تحمل رايتها وتتمسك برسالتها.

وتميَّزت بإستقطابية عالية للأقلام العربية المؤثرة في الواقع الثقافي ، والمتفوقة بقدراتها الفكرية والإبداعية، فأصبحت مدرسة معرفية متنوعة الموضوعات والدروس.

ويمكن القول بأنها موسوعة ثقافية فريدة وفعّالة، أسهمت بتفاعل العقول وتواصل الأقلام الحرة المنوِّرة، التي زادت مساحة السطوع الإنساني في أرجاء الأمة.

فالمثقف إنجاز فكري ثقافي مرموق ورائع يستحق التباهي والتفاخر، وتعبير صريح وشديد الوضوح عن الإرادة المشرقة، ذات الإمتدادات الحضارية والإنسانية المطلقة.

ويقف وراءها إنسان مبدع مؤمن بالكلمة الصادقة، ومتواصل بإصراره على إعلاء شأن الفكرة الطيبة الصالحة للحياة الحرة الكريمة.

وهو يمثل الإرادة الكبيرة المتحدية المثابرة، التي تنتصر على المرض والمعوقات بأنواعها، ويمضي بهمة  فائقة وصولة أصيلة واثقة، حاملا مشاعل التنوير المعرفي الإبداعي، اللازمة لطرد الظلام والضلال والخداع والبهتان.

مما جعلها تحمل رسالة الصفاء والألفة والمحبة، والصدر الرحب والأدب الأنيق، والأمل بمستقبل أحلى وأجمل، ففيها معين دفاق من الأفكار الإيجابية، ومناهج صيرورات حضارية متوافقة مع إرادة الأمة، وتطلعات براعم أجيالها المتوافدة.

وصاغَها مثلا حيا على الجد والإجتهاد والتواصل والإصرار، والإيمان بالعمل والتفاؤل بالإنجاز، وبها يؤكد إرادة أكون التي تحتاجها أمة عليها أن تكون.

فصارت مشروعا إنسانيا مؤهلا للتعبير عن القدرات الإبداعية، بأسلوب ثقافي متقدم على غيرها من المواقع والصحف الإليكترونية، وتتفاعل على منبرها عقول ذات قيمة فكرية وعلمية وأدبية مهمة ومتنورة.

 وميَّزها بتبني  ضرورة الإختلاف وأهميته لبناء الحياة، والتأكيد على ثقافته وتوظيفها الإيجابي للتقدم والرقاء، مما يؤكد على رؤية حضارية معاصرة وسبّاقة في واقعنا العربي.

فهي تمتلك مرونة واسعة وحرية تستحق التقدير والإحترام، ويبدو أن لمبدعها القدرة الأخلاقية على جذب  النوعية المتميزة من الكتاب الذين يساهمون في النشرعلى صفحاتها.

 فالمثقف ذات رفعة وسمو، وتتسامى على الحالات السلبية، ولا يمكن لكاتب بلا رؤية إنسانية وفهم ثقافي معاصر أن يتواصل على صفحاتها، وأي ضيق في الرؤية والأفق تتهاوى وتنحسر.

وهذا السمو الخلاق منحها قوة معنوية وفكرية خاصة، فأصبحت تضم شريحة من المثقفين المتميزين في ميادين إبداعهم، ويمكن مقارنتها بمجلات مهمة في العقود الماضية، أوجدت مبدعين مهمين في الثقافة العربية، لإجتذابها للنخب الفكرية والأدبية والإبداعية الأصيلة، الصادقة المُحبة للمُثل والقيم الإنسانية الراقية.

فقوة المواد المنشورة، يتفق والنوعية المتميزة للكتاب الذين ينشرون فيها، ولقدراتهم الواضحة في الدراسة والتحليل والنظر الموضوعي والعلمي، الذي يهدف إلى التبصير بالحقيقة وتقديم المعلومة بأسلوب حضاري معاصر.

 وهي صحيفة رحبة، بمعنى أنها ليست ضيقة الأفق، أو منزوية في زاوية حادة، فهي ذات  آفاق وتفاعلات إنسانية متسعة كما الكون يتسع، وفي هذا تأكيد على وعيها لطبيعة العقل البشري ومعاني الإبداع الصحيح، اللازم لتقوية القيم الإنسانية وتعزيز الألفة المحبة والأخوة والتسامح والسلام.

 وتميزت بالتواصل والتحدي، لأنها مشروع ثقافي متنامي، وقد مضت في طريق تأكيد الدور والفعالية برغم الصعاب وكثرة الصحف الإليكترونية، ففي البداية لم يصدق الكثيرون بأنها ستنجح، لكنها إستطاعت أن تشق طريقها بجدارة ونجاح فائق.

 ولديها خطاب ثقافي معاصر ومتفتح، فهي بستان أفكار ورؤى وتصورات إبداعية ثاقبة، حتى في تخاطب إدارتها مع الكُتاب، تقرأ معالم السلوك الخطابي المتحضر وإحترام خصوصيات الكُتاب، وتثمين جهودهم ودورهم في المشروع.

 وتبذل جهدا ثقافيا يوميا، فهي تتواكب مع الأيام ويندر أن تنقطع عن الصدور إلا لأسباب تقنية، بعكس الكثير من الصحف التي تتعثر في صدورها وتتوقف لأيام، وهذا يعكس حسن الإدارة والتفاني في الجد والإجتهاد للوصول إلى ذروة النجاح والتألق.

 ومن أهم أسباب نجاحها إلتزامها برسالتها ورؤيتها ومنهجها، ونجاح أي صحيفة يرتبط بقدرات رئيس تحريرها على الإدارة والتفاعل مع الكتاب والقائمين عليها، ومن الواضح أن الأخ رئيس التحرير يتميز بقدرات ناجحة وأخلاقيات سامية وثقافة عالية، أهلته لأن يكون قائدا ناجحا لهذا المشروع الثقافي الباهر، ونرجو له التوفيق والنجاح المتواصل والعطاء الأصيل.

هكذا أرى الأستاذ ماجد الغرباوي من خلال منظار تفاعلي مع المثقف منذ إنبثاقها، وقد أعطى مثلا حيا لقدوة فكرية ثقافية ذات قيمة حضارية تنويرية وهاجة، فالمثقف مرآة مؤسسها، وهو هي!!

فتحية للمثقف ولحادي ركبها التنويري الساطع الفياض!!.

***

بقلم: د. صادق السامرائي

........................

* مشاركة (15) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

الأستذ ماجد الغرباوي، مدير صحيفة المثقف الإلكترونية، غني عن التعريف. كتاباته الرصينة شكلت مرجعا فكريا ومعرفيا جعلته يصطف إلى جانب كبار رواد الفكر عربيا ومغاربيا وكونيا. إنه مفكر إسلامي مرموق كرس الجهد المضني لإبراز المقاصد والدلالات والرموز التي جسدتها النصوص الدينية الأصلية. يمتاز بمنهجيته المتفردة وبأسلوبه البسيط المنير للعقول. بتفاعلي مع منتوجاته القيمة تعلمت منه معنى الوضوح والشفافية في الثقافة، والشمولية والموسوعية في تناول القضايا العربية الشائكة. لقد أثبت بالبراهين العقلية أن الاعتدال والوسطية هما الأساس الضامن لصلاح الدين الإسلامي لكل زمان ومكان.

شفافية شخصيته جعلت منهجه قويما جذابا، يقود القارئ بسلاسة إلى التأمل في مراحل التحليل، ميسرا مروره بتركيز عال من الوضعية العادية، ثم الوسطية، ليجد نفسه في الوضعية الختامية مقتنعا بالاستنتاجات المنيرة للعقل والمحفزة على اكتساب المعرفة العلمية والأخلاقية. كما جعلت أسلوبه يتسم بالبساطة والسلاسة. قدرته على تبسيط تحليل القضايا المعقدة مكنته من كسب اهتمام القراء بمختلف مشاربهم. يستحضر النقل ويشهر قوة العقل، ثم يبدع في خلق الحوافز النفسية أمام القارئ دافعا إياه عن طيب خاطر للتأمل وكشف بواطن الأمور والتمييز بين الأصول والفروع. مكانته الفكرية هي تتويج لمساره الشخصي الزاخر بالاهتمامات والبحوث المتواصلة.

المتتبع للأستاذ الغرباوي يستشف إيمانه العميق بالإسلام الوسطي المعتدل، مبرزا ما يتضمنه من قيم إنسانية كالحق والعدل والعلم والإيمان. إنه صاحب مشروع نهضوي عربي إسلامي ينضاف إلى مشروعي كل من المفكرين المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري والدكتور عبد الله العروي أطال الله في عمره. إذا كان الجابري يدعو إلى غربلة التراث من خلال تنوير العقل العربي، والعروي إلى القطيعة المنهجية باعتماد المنهج الماركسي الموضوعي والتاريخانية والارتماء في أحضان الحداثة الغربية في القرون الثلاث السابع والثامن والتاسع عشر والعودة الفكرية إلى التراث بمنطق الأنوار، فإن الأستاذ ماجد الغرباوي يدعو إلى عقلنة شعور الشخصية العربية والإسلامية وتقوية قيمها العقلانية بالشكل الذي يجعلها تضفي طابع الفاعلية على الروابط بين العقل النظري والعقل العملي.

يمكننا أن ننظر إلى كتابه "المقدس ورهان الأخلاق" بوصفه دراسة في فلسفة التاريخ (التاريخانية عند عبد الله العروي). استثمر في تاريخ الأفكار وما تمخض عن تفاعل النصوص العقائدية بالواقع. وهو يقابل الخلاصات الفكرية مع الأحداث التاريخية التي وازتها، يمكن القارئ العربي البسيط من طرح التساؤلات العديدة في شأن واقعه وسبل الخروج من مآزقه. كتاباته تصوب اهتمام القارئ في اتجاه علة الأحداث وعمقها، فيؤثر في سلوكه واضعا إياه في موقع الباحث عن توجهات جديدة، معترفا بحاجته إلى فهم عميق للفكر الإسلامي، ومحاولا الكشف الكلي على المسببات الواهية التي ربطت الصدام التاريخي بين العقل والنقل في الفكر الإسلامي بنزعات الحفاظ على المصالح والمنافع الذاتية على حساب الأوطان وشعوب المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج.

العقلانية في الدين عند الغرباوي هي دعوة للحسم في مقومات الشخصية الإسلامية بتمكينها من قدرات الغوص في العلم والإبداع والتكنولوجيا. لقد استخلصت من كتاباته أنه، كعبد الله العروي، يستحضر أوضاع تأخر الشعب الألماني زمن عصر الأنوار معتبرا إياها مشابهة نسبيا لأوضاع الشعوب العربية في الوقت الراهن. وهو نفس الاستنتاج الذي أبرزه ماركس. إن تدني العلاقات الاقتصادية الألمانية في ذلك العصر، مقارنه بفرنسا وبريطانيا وأمريكا، يعود إلى تلك الإيديولوجيا المثالية التي تهيمن على الوعي الألماني وتحول بينه وبين تطوره، لأنها كانت تغرقه في الأفكار والخيالات السابحة. كان تفكير الألمان يسبح في السماء ولا صلة له بالإبداع لتجديد أنماط وتقنيات الإنتاج المادي.

بنفس المنطق، لم يدخر الأستاذ الغرباوي جهدا في نقد الوعي العربي الزائف وتبيان هشاشته. حياة أغلب أفراد الشعوب العربية غارقة ليل نهار في الأوهام والتعبيرات الشفاهية التي لا تمت بصلة بواجب تنمية الحياة المادية وخلق السعادة الروحية. إن رسائل ودلالات كتاباته تدعوا إلى تشييد حياة جديدة قادرة على تفنيد الأنظمة التقليدية السائدة. لقد بين بالبراهين الدامغة أن الأبنية الثقافية التي شيدت من طرف أصحاب المصالح من رجال الدين ورواد البيروقراطية السياسية أصبحت هشة ومتداعية وضيقة وغير مريحة. في نفس الآن يذكرنا أن استفاقة العرب المسلمين تمليها أمانة استخلاف الإنسان أرضا. فما تعرفه الشعوب العربية من فقدان مستمر لأجزاء من بشريتهما تحت وطأة الاستغراب الرأسمالي أو العقائدي يجب أن يتوقف. الشخصية العربية المسلمة يجب أن تكون عاملة ومتفاعلة، تتفتح وتزدهر باستمرار، وقادرة على أن تحل محل المذاهب العقائدية المتناحرة السابقة. عليها أن تتوق لتغيير وضعها بتملك السلطة المعرفية والإرادة السياسية والرغبة القوية، وبالتالي تنوير واقع الفرد العربي ليلا ونهارا. يعيش ليله مزهوا بهويته وثقافته وتراثه العقلاني، يفكر ويدبر كيف سيكون غده أكثر مردودية ماديا، مردودية تستجيب لسر وجوده ولأمانة كشف أسرار الكون التي لا تعد ولا تحصى.

بالنسبة للغرباوي، معاداة الآخر لا يمكن اعتبارها إلا عائقا أمام طموح النماء القطري، بل موقفا واهيا يعرض الشعوب إلى هدر الزمن والاضرار بالنفس. زمن الحداثة الغربية هام للغاية. لقد كان من الناحية التاريخية نتيجة نشوب حركات التمرد والثورات التي خاضتها الشعوب الغربية ضد استبداد الكنيسة ومريديها. إنه مرجع تاريخي زاخر بفرص وإمكانيات التطور والقطيعة مع سبات الماضي. لقد دعا الدكتور عبد العروي إلى سبر أغوار هذه المرحلة البارزة في تاريخ البشرية. التاريخ الغربي يذكرنا بالفترات الصعبة التي انتصرت فيها العقلانية وفرضت حياة متنورة جديدة. لقد أشار الدكتور علي القاسمي في كتابه "صياد اللآلئ في الفكر والإبداع المغربي المعاصر"، كيف تم اعلان ميلاد حقوق الإنسان في تاريخ البشرية. صدر العهد الأكبر في عهد ملك إنجلترا جون سنة 1215، وتطور إلى إعلان الحقوق بنفس البلد سنة 1689. صدر إعلان الاستقلال الأمريكي سنة 1776، والإعلان الفرنسي لحقوق المواطن سنة 1789. إنه عهد مرجعي في رفع الظلم والحد من الاستغلال البشري والنضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بأي وسيلة. إنه فترة التعبير عن الإرادة السياسية الشعبية لتعميق الفهم للحقيقة بنهج فلسفة تسعى لتغيير الواقع لأجل سعادة البشر. بنفس المنطق، تراث الماضي بالنسبة للغرباوي جزء من هوية الأمة الحضارية شريطة إخضاعه للفحص بغربال العقلانية.

والعالم يعيش زمن تسلط الليبرالية المعبرة عن زمن ما بعد الحداثة بتركيزها على علاقات دولية اقتصادية وسياسية أساسها المصلحة والمنفعة المادية، تزداد الحاجة إلى تقريب كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي من العقل الشعبي الواقعي في كل الأقطار العربية، للحسم النهائي في مقومات الفرد العربي المسلم بتقوية وجوده الثقافي الكوني ومستوى مقاومته للتغريرات والخطابات التقليدية المناوئة للمستقبل. إن حلم خلق مجموعة سياسية واقتصادية عربية يتطلب أولا وقبل كل شيء الاطلاع العقلاني على تاريخ تحول العالم الغربي في عصر الأنوار، ثم التشبع بقيم الحداثة بحقوقها السياسية والاقتصادية، ثم الحسم النهائي في مقومات الشخصية العربية المسلمة كما بين لنا ذلك كاتبنا الغرباوي، وبالتالي تعبيد الطريق لخلق القطيعة مع كل بال ورث في التراث، وتسريع بلورة استراتيجية تربوية للصغار وتكوينية للكبار حتى يتأتى للجماهير العربية التوجه للمستقبل بانفتاح نافع ماديا ومعنويا، مغتنما كل الفرص المتاحة كونيا في مجال الإبداع والدرابة اليدوية والعقلية ووفرة الإنتاج وتراكم الثروات.

الاعتزاز بالتراث العقلاني هو مرادف للعودة إلى القيم الإنسانية في الإسلام، وإعادة الاعتبار لمفهوم النظم والمؤسسات الإسلامية المنفتحة والمتسامحة، وترسيخ ثقافة الخلق الصناعي والإبداعي الفني في أذهان الأفراد والجماعات. الغرباوي يدعونا من خلال تحليلاته الرصينة إلى تسريع التراكم الحضاري والثقافي بالتخلص النهائي من سلطة تراث الماضي المتخلف الذي يكرر نفسه خالقا لنفسه حواجز عالية تفرمل آلياته المشروعة لكسب مهارات التنافس والحق في الوجود الفاعل كونيا. فلا سلطة إلا للعقل. إنه الأساس الذي بني عليه التاريخ البشري. علينا أن نجد المنعطف المناسب، ونرسخ مقوماته، ونميل، كما مال الغرب، صدفة وإتقانا إلى جهة، فوجد نفسه على رأس طريق معبدة. لقد عثر العرب المسلمين على ذخائر خدمة المستقبل في فترات معلومة من الماضي، إلا أنهم مالوا إلى جهة تاهوا فيها في معارج رملية قاحلة.

كتابه "المقدس ورهان الأخلاق" زاخر بمقومات صقل كفاءات ومهارات الشخصية العربية الإسلامية. الأخلاق مصدر معنوي حضاري، يميز من خلاله الفرد المواطن بين الخير والشر، الحسن والقبح، الفضيلة والرذيلة. فأمام التفاعل السريع للسلوكيات والانفعالات اليومية للشخصية العربية الإسلامية، تبرز مكانة العقل لتحقيق المواقف والأفعال وردود الأفعال المناسبة معبرة عن وجود منظومة أخلاقية جذابة تخضع في أبعادها للمنطق المتعارف عليه كونيا. الرأي العام الكوني لا يمكن له أن يعادي الاختلاف المعبر عنه بالطرق الحضارية المعروفة، بل يمتعض من ردود الفعل غير المبررة والعنيفة. وبذلك، تكون الأخلاق وحيا من مدركات العقل العملي ومشاعر الفطرة الإنسانية السليمة. لقد ترتب عما يعيشه العالم من استبداد علني ومبطن بسبب هيمنة الاتجاهات المادية والنفعية الجشعة في زمن العولمة ميول الإنسان الغربي إلى الاحتكام للقاعدة السلوكية المبتدعة "الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة". عالم اليوم يحتاج إلى أخلاق وقيم عصر الأنوار وزمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. نحتاج لحياة فردية تستمد مقوماتها من الأخلاق الحضارية العقلانية، وتكرس في سلوكياتها مهابة الدين في الحياة الشخصية.

المقدس بالنسبة للغرباوي يحتاج إلى التحري المعرفي والتحلي بالدقة والنباهة لتحويله إلى آلية لتقوية الشخصية العربية الإسلامية بالرفع من مستوى جاذبيتها وتحبيبها لسكان المعمور. الجهل المقدس يجب أن يندثر بصفة نهائية من حياة الشعوب الإسلامية ببلورة ميثاق أخلاقي تقدمي منفتح وقابل للتجديد يجعل الدين مقوم أساس للهوية والحياة. الأستاذ الغرباوي في هذا الصدد أبرز الاستثناءات والقراءات التراثية المتخلفة عن ركب التاريخ في كتابه السالف الذكر. لقد اخترق سجون العقل وأغلال التفكير وفندها بالدليل والحجة. لقد أثار الجدل الذي عاشته الحضارة العربية في فجر الإسلام (المعتزلة، الأشاعرة، الخوارج، الشيعة، .....). دافع المعتزلة كون الحسن والقبح عقليان، وأذاع الأشاعرة كونهما شرعيان. لقد فند الغرباوي رواية زواج النبي (ص) من عائشة وعمرها ستة سنوات ودخل عليها وعمرها تسعة سنوات. كما ركز بتفسيراته المقنعة على ظاهرة القتل المرفوضة والحق في الحياة (قصة موسى والغلام). إن الكاتب من رواد تحرير الوعي الديني وإخراجه من دائرة احتكاره من طرف مريديه. الحلال بين والحرام بين.

إذا كان العقل النظري هو مفتاح التأمل التجريدي المسخر للاستفادة من خدمات الكشوفات العلمية في الواقع (الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، ....)، فإن العقل العملي يكون في أتم الاستعداد لتحويل النظريات إلى صناعات وانتاجات مادية تنفع الإنسان وتجعله يركز أكثر على المستقبل والآتي من الكشوفات الجديدة. العقل النظري دينيا، يقول الغرباوي، يخضع لمبدأ الإدراك، والعقل العملي أساسه دوافع ومحفزات. داخل هذه الانشغالات الطبيعية التي تضمن استمرار الوجود البشري فوق الأرض، يكون العقل الأخلاقي حاضرا بقوة للحيلولة دون السقوط في الانزلاقات الخطيرة. فهو إذن مشترك إنساني غير مرتهن لأي حكم مسبق ما عدا مبادئه. أدواره حماية الأفراد من السلوكيات المنحرفة المحكومة بالظلم والعدوان، والتي لا يمكن لأحد تبريرها مهما رفعت شعارات دينية وطائفية مؤيدة لها (القتل بدوافع عقائدية وطائفية). الحسن حسن بذاته، يدركه العقل العملي باعتباره واقعا، والقبيح قبيح بذاته تنبذه النفس. الفطرة الإنسانية إحساس أخلاقي ترتهن له القيم والأخلاق كونيا (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). الميل للخير مرتبط بوضعية يكون فيها الفرد حرا. في التعاطي مع الأحكام الشرعية، يدعونا الكاتب إلى الأخذ بعين الاعتبار القبليات العقدية والسياسية والإيديولوجية. فلا يمكن مثلا تبرير الإرهاب بأقوال الصحابة أو الأئمة الإثنى عشر أو فتاوي الفقهاء. لقد بين لنا كذلك بوضوح تام كيف خضع تاريخيا العقل التراثي للحوافز الإيديولوجية والطائفية.

لقد أسهب الكاتب بما يكفي لتوضيح كون العنوان الأبرز لرسالة الله عز وجل لعباده تتجلى في التسلح بالعلم والأخلاق لتحقيق العبور الدائم من حال الجهل إلى حال العلم. الله يمجد في كتابه المقدس أولي الألباب الذين يربطون انشغالاتهم اليومية بالشعور بالواجب بدون طغيان اللذة والمنفعة غير المشروعة. جاء في نفس الكتاب أن الفيلسوف كانط في هذا الصدد قد دعا الإنسان للفعل الجاد بحيث يمكن لقاعدة فعله أن تكون قانونا عاما. وبذلك يكون مصدر التزام العقل الأخلاقي هو العقل العملي مع اعتبار أن الشخص يعي ذاته بما هي ذات إنسانية مستقلة، وكحركة وجود بحمولة ثقافية ترتكز على خصوصية مندمجة في الحضارة الإنسانية وعلى رؤية شاملة للكون والوجود والإنسان والحياة وما بعد الموت لمن كان مؤمنا بوجود عالم ما ورائي (يوم الحق والعدل). استحضر مسألة الضمير الذي يستمد مقوماته من أدواره الرقابية التي يستمدها من الطاقة الروحية للدين. الأخلاق منظومة معروفة لا تقبل إلا الحسن والفضيلة، ولا تتماهى مع الظلم حتى إن كان دعوة مغلفة بنزعات دينية. مركز انشغال الدين، يقول الكاتب، هو تسديد وحماية الضمير، وليس ذات الفعل الأخلاقي. الدين لا يفرض على الفعل الأخلاقي شروطه وقناعاته. الأخلاق مستقلة لأنها من مدركات العقل العملي.

لقد قدم لنا الأستاذ ماجد الغرباوي منظومة متكاملة أوضح من خلالها الارتباطات العقلانية بين الدين والأخلاق والضمير والمقدس (لا تعارض بين جوهر الدين والأخلاق - الدين تجربة روحية، تتقوم برؤية كونية، ومشاعر إنسانية عميقة)، مبرزا إمكانية توحيد الرؤية لتشمل العامة والمثقفين في شأن مقومات الشخصية العربية الإسلامية القادرة على الاستفادة من ماضيها، وفحص قيم الحداثة التي عاشها الغرب في القرنين السابع والثامن عشر، والاندماج في تطورات الحاضر بمنطق الفاعل الطموح المتشبث بالمشاركة في صناعة المستقبل. التجربة الروحية لكل إنسان محورها الله الذي يدعوه لسبر أغوار الكون والبحث عن حقائقه المطلقة سعيا إلى الاقتراب منها، وتسخير حصيلة أعمال أيامه لسعادة البشر المادية والروحية والصحية (الدافع الإنساني الخالص الذي يجعل من أنسنة المقدس شعارا صالحا لكل زمان ومكان).

قداسة النص الديني المتعالية تتطلب توفر الإنسان على القدرة على التدبر والحكمة والتبصر لكيلا يكون أساسها الخوف من يوم الميعاد وتأجيل تحقيق الذات دنيويا والتخلي عن الحق في التمتع بسنوات العمر. فتحرير العقل عند الكاتب أساسي لتمكين الفرد من الوعي بحجم مسؤوليته دنيويا. وفي هذه النقطة بالذات أختم هذا المقال بقولة ربيعة العدوية الشهيرة: "اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فارسلني فيها، أنا أعبدك لأنك تستحق العبادة". لدى المسلم ما يكفي من الأبحاث والمشاريع الفكرية لتحويل العقيدة الدينية إلى مصدر قوة للفعل اليومي وتراكم الخيرات والخبرات العلمية في الحياة. إن فهمه لدينه مع الاعتراف بنسبية معارفه تعد منطلقا للعيش في فضاء أوسع. الآيات الكليات في القرآن الكريم صالحة لكل زمان ومكان، والآيات الجزئيات بوقائعها وأحكامها مرتبطة بالزمن الذي وقعت فيه.

***

الحسين بوخرطة – كاتب وباحث مغربي

....................

* مشاركة (14) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

عندما هممت بالكتابة عن الأستاذ ماجد الغرباوي ومساهماته الكبيرة التي تصب في عنوان واحد واسع هو: التنوير، والتي تتشكل من عدة اعمدة يقوم فوقها مشروعه التنويري، تساءلت بداية عما يربطني بهذا الرجل/ القامة !!!

أنا اقتصادي واعمل منذ ثلاثين سنة في ميدان التنمية البشرية المستدامة، وهذا المنهج التنموي الحديث يقوم على فكرة مركزية الانسان في التنمية (تنمية الانسان بواسطة الانسان ومن اجل الانسان).

مركزية الانسان في الفكر الديني هي واحدة من منطلقات ماجد الغرباوي الاساسية في نشاطه الفكري التنويري. وهذا الرابط الفكري زاد من اهتمامي ومتابعاتي للانتاج الفكري لماجد الغرباوي وساعدني في توسيع المنظور الذي امتلكه حول الدور المركزي للانسان في التنمية بكل ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يلعب فيها الفكر الديني دوراً مهماً في عالمنا الاسلامي .

 فبعض الاتجاهات الفقهية قد تدعو الى حرمان المرأة من التعليم وحرمانها من العمل والمشاركة الاقتصادية ومن ممارسة النشاط السياسي والاجتماعي، وبذلك يعطل تنمية وتطّور نصف المجتمع.

الفقه المتشدد والمتطرف قد يدعو لمقاطعة الاجانب بحجة انهم كفّار ويحرم البلد من الخبرات والمهارات والاسواق والتكنولوجيا والاستثمارات الخ.

وهكذا فإن الفقه المتفتح والذي يحترم العقل والعقلانية ويحترم الحياة الانسانية ويدعو الى التنمية والتطور وعمارة الارض، ذلك النوع من الفقه وذلك النوع من التفكير والتأويل العقلاني المنطقي للنصوص، ذلك هو ما اتمنى سيادته لدعم جهدي وجهد غيري من العاملين في ميدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

بعد هذه المقدمة التي اردت من خلالها تسليط الضوء على الرابط الفكري بيني وبين الأستاذ ماجد وهو يصب في صميم اهتماماتي المهنية، اذهب الآن الى الاعمدة او المرتكزات الاساسية لمشروعه التنويري النهضوي كما اراها أنا ولا ادعي المقدرة على الاحاطة بكل جوانب ذلك المشروع الواسع.

- الدعوة الى العقلانية واستخدام العقل:

من اكبر اشكاليات الفكر الديني هي قضية تحييد العقل واستبعاده من تحليل ودراسة وتأمل القضايا الكبرى في الدين.

لقد شاعت ظاهرة الركون الى تفاسير وتأويلات القدماء بغض النظر عن عقلانيتها او منطقيتها او اتساقها مع مجمل الاتجاهات الدينية والثوابت الألهية. بل ان البعض يحذر بقوة من اللجوء الى العقل ووجوب الاعتماد على تأويلات وآراء الشيوخ القدماء. وهنا تأتي دعوات وجهود الأستاذ ماجد الدؤوبة لمناهضة هذا الاتجاه الخطير .

ومن يراجع مؤلفات الأستاذ ماجد سوف يتأكد من حجم المساحة التي تحتلها قضية العقل والعقلانية في تلك الاعمال.

 - مركزية الاخلاق في الجهد الفقهي:

تحتل قضية الاخلاق وتعريفها وموقف الفقه بكل تياراته منها، مركزاً مهماً في اعمال الأستاذ ماجد.. حيث يرى ان الدين هو الاستقامة او هكذا ينبغي ان يكون .. الميزان الاخلاقي للتفسير والتأويل واصدار الاحكام يجب ان يكون حاضراً ...

يقول رسول الله ( ص): انما بُعثتُ لاتمم مكارم الأخلاق...

انه يختزل الغاية من البعثة النبوية بهدف واحد عظيم يجمع كل ما هو خير، انه الاخلاق..واذا تحقق ذلك الهدف الكبير يتحقق ماسواه..

الاخلاق من الناحية الفلسفية لاتعني دماثة الخلق والطيبة في التعامل مع الناس فقط بل هي تعني الالتزام بالاحكام والقواعد والقوانين المتفق عليها اجتماعياً (هذا اذا كانت وضعية) اضافة الى الالتزام بالاحكام الألهية كما يراها رسول الله..

- نزع القداسة عن النصوص والتراث (بمعنى السماح بنقدها وتحليلها):

وهذه في نظري تمثل المدخل الرئيسي للاصلاح والتحليل الموضوعي.. اذ بدون نزع القداسة عن التراث وعن النصوص والتأويلات القديمة التي قد تكون لاتعكس جوهر الاسلام الحقيقي، بدون ذلك لايمكن الخروج من قيود الماضي السحيق

ولايمكن الاستجابة للتطورات العلمية والبحثية الحديثة..

يجب السماح بمراجعة التراث ونصوصه المختلفة وان لايكون ذلك بمثابة خطوطاً حمراء ..

نزع القداسة لايعني اهانة النصوص او تقليل احترامها بل عدم التعامل معها باعتبارها من المحرمات ولايجوز الاقتراب منها ولا الاعتراض عليها وووجوب التسليم بكل ماجاء فيها.. ذلك هو القتل الحقيقي للعقل..

- ماجد الغرباوي وعلي شريعتي:

لطالما كنت معجباً بكتابات الأستاذ الراحل علي شريعتي، والذي دفع حياته ثمناً لمواقفه التنويرية التحررية.. لقد كان شريعتي من أشد المطالبين بتحرير العقل والخلاص من قيود الفقهاء التي حرّمت العقل والاستقلال الفكري والذين نصبوا انفسهم رسلاً بين الانسان وخالقه.. ومقابل شريعتي، فأن لدينا ماجد الغرباوي داعياً الى العقل والاخلاق والى صيانة كرامة الانسان.. اشعر بالسعادة عندما ارى استمرار خروج المفكرين الابطال.

- الأستاذ ماجد يكتب وينقد (ولا أقول ينتقد) ويحلل في شؤون الدين والعقيدة وهو يعيش في عصر خطير يختلط فيه الدين بالسياسة والمال والعمل الاستخباري (ذلك يحتاج بطولة اسطورية لمواجهة ذلك التحالف والاستعداد لتحمل النتائج).

***

د. صلاح حزام

...........................

* مشاركة (13) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

لكي نستوعب حجم الجهد النقدي الذي يبذلة الباحث، في مجال الفكر السياسي والحركات السياسية، لابد لنا من الوقوف على امرين يشكلان معادلة فهم عملية النقد، والجهد الفكري المبذول لتحقيق دراسة نقدية هادفة في موضوع محدد. فالباحث الناقد يواجه امرين متضادين هما:

الأمر الأول: توفر الكم الكبير من المصادر في المكتبات، التي تتطرق في مجال بحث الشؤون الاجتماعية والسياسية المختلفة الجوانب، سواءً على مستوى النظريات أو على مستوى التطبيق.

الأمر الثاني: قلة المصادر المختصة بالنقد السياسي، مقارنة بحجم المؤلفات في هذا المجال. لأن عملية النقد، تقتضي التعرف على جميع الحيثيات، والاصول التي كُتبت في مجال سياسي محدد، ودراستها بامعان وفهما بعمق، ومن ثم اجراء عملية النقد، وفق اسلوب البحث العلمي الهادف.

والامر سيكون اكثر تعقيداً، إذا ما تناول الباحث نقد تجربة سياسية معينة، لها وجود عملي على ارض الواقع، بعدما استكملت تلك التجربة، دورها النظري واستطاعت ان تقنع مؤيديها، بان ينتقلوا من مرحلة التثقيف النظري، الى مرحلة خوض التجربة عملياً على أَرض الواقع، إذا ما تم نجاح التجربة السياسية ودخلت حيّز التطبيق العملي. ففي هذه المرحلة ستتكشف الكثير من الخفايا، التي كانت مبهمة إِبّان فترة النضال السلبي.

ان الكتابة عن تجربة سياسية معينة، اثناء ولادتها ونضجها وتبلورها كمشروع سياسي هادف، أَيسر بكثير من الكتابة النقدية التي تخصّ تلك التجربة، اثناء التطبيق العملي لها، والفرق بين الأَمرين كالفرق بين كلام خطيب يعتلي المنبر، ويتحدث عن مجموعة من القيم والمثل الانسانية الرفيعة، وبين شخص يقوم بعملية قوننة تلك الافكار، وتحويلها الى مواد دستورية وأَنظمة تشريعية تلزم مجتمع معيّن بتطبيقها والسير على نهجها.

فكلام الخطيب المنبري، لا يترتب عليه أَثر قانوني، إِذا ما خالفه أَحد أَو لم يلتزم به المتلقي، بينما في الحالة الثانية (الحالة التطبيقية للتجربة)، تترتب على الانسان المؤمن، بتلك القضية المطروحة، حالة من الالتزام الجاد، وفي حالة المخالفة، فسيكون القانون خصمه، ويكون للقانون دور في محاسبته واجباره على تطبيق الانظمة والقوانين، التي اقرتها تلك التجربة السياسية، في فضائها التطبيقي وإِطارها العملي.

والاستاذ العزيز ماجد الغرباوي، كان أَحد فرسان هذا المضمار، فقد وظّف تجربته الحزبية، في العمل السياسي الوطني، ليكون النقد البنّاء ميدانه الأَوّل، فأَصدر العديد من المؤلفات، في مجال الفكر الديني الناضج، والمتحرر من عُقَدّْ اللامعقول، التي أُلصِقتّ بالدين الاسلامي، نتيجة القصور في فهم الواقع، وسيطرة النمطية الكلاسيكية التقليدية، في بحث المشاكل التي يفرضها الواقع الاجتماعي، نتيجة لمتطلبات تطوّر الحياة الانسانية التي تتطلّب دائماً، طرح المستجدات من المسائل الحياتيّة، التي تستدعي وجود عقلية تشريعية مرنة، تُلبي كل تلك المستجدات الحياتيّة.

كما أَنَّ الاستاذ ماجد الغرباوي، لم يترك الخوض في المجال الأَصعب لعملية النقد البنّاء، وهو فضاء نقّد تجربة الاسلام السياسي في العراق بعد عام 2003م، ومتابعة ارهاصات انتقال التجربة، من مجال الدعوة السرية، الى مجال تجربة التطبيق العملي لتلك المسيرة، وهو مجال حكم المجتمع، والسير به نحو تحقيق اهداف الدعوة الحزبية، إِبّان فترة التنظيم السياسي السِرّي.

فالأَمر مختلف بين التجربتين، في المجالين النظري والعملي، فاصدر الاستاذ الغرباوي ثلاثة مؤلفات مهمة هي:

1. الحركات الاسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي 2015 .

2. جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق 2016 .

 3. رهانات السلطة في العراق.. حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي 2017.

وحتى يكون تقييمنا دقيقا، لجهد الاستاذ الغرباوي، لابد من استيعاب الفرق بين الكتابة الوصفية والكتابة النقدية، حيث يكون التمايز بينهما، مبنياً على مايلي:

أولاً: الكتابة الوصفية كتابة استعراضية، تقوم بوصف حالة معينة، أَو حتى حالات متنوعة، وقد يختلط في هذا النوع من الكتابات، المعقول واللامعقول، وفي هذا النوع من الكتابات، قدّ يدخل فيها ذوق الكاتب، وأَهوائه الفكرية والعاطفية، من حبّ للموضوع الذي تناوله أو كرهه له، وعدم قناعته به. كما أَنَّ التأثير العقائدي للكاتب، يترك بصماته على نتاج الكاتب، وخصوصاً في الكتابات المتّصلة بالجانب العقائدي أو الديني.

ثانياً: أما الكتابة النقدية، فمن مقتضياتها المطلبيّة، أَنَّها تكون ضمن إِطار صارم لعمليّة تحليل مشكلة البَحث، والتَّوصُل الى استكناه الحقائق الواقعيّة، وإِبراز كافّة ملابساتها، وربط القضية المبحوثة بقضايا أُخرى، لها صلة أَو علاقة بالموضوع المبحوث.

وهذا التشعب الشائك، يتطلب من الباحث عدة أُمور منها:

أ. سعة إِدراك الناقد بتشعبات الموضوع او القضية المبحوثة.

ب. أَنْ يكون الناقد ذا فَهم ثاقب بحيثات الموضوع المبحوث، وهذه النقطة تختلف عن النقطة السابقة، كونها تعني الدخول بكل التفاصيل الدقيقة للمشكلة المبحوثة، وقد يتطلب الأَمّر البحث عن الجوانب الشخصية والنفسية، لرموز وشخصيات الموضوع المبحوث، حتى تتكشّف كل الحقائق الخاصة بالموضوع قيّد الدراسة.

ج. يجب أَنّ يمتاز الباحث بملكة الاستنتاج الموضوعي، لربط الأَسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، للوصول الى تقييم دقيق، وصائب للموضوع قيد البحث والاستقصاء.

د. تمتاز الكتابة النقدية عن كتابة النصّ السَّردي، بانها كتابة يسيطر عليها منهج البحث المقارن، من أَجل الوصول الى الحقائق بصورة كاملة.

هـ. الكتابة النقدية بنتيجتها كتابة تقييميّة للأَفكار المطروحة، أَو البرامج المقدمة على أَرض الواقع، لذا يتحمل الكاتب، تبعات آرائه النَّقديّة. فقد تجابه تلك الآراء بعملية هجوم مضادة، من مؤيدي وانصار القضية المبحوثة، بينما في الكتابات السَّرديّة، لا يتجشم الكاتب عناء ومتاعب وتبعات الموضوع الذي كتبه. 

إِنَّ المُنجز الثقافي النَّقدي، الذي حققه الاستاذ ماجد الغرباوي، في مجال البحث النقدي الاستقصائي لمواضيع اجتماعية، تتصل بعدة جوانب من حياة الانسان المعاصر، جعله يمتاز بعنصر المُصارحة، في مواجهة مشاكل المجتمع، وكفى بالاستاذ الغرباوي معروفاً، أَنْ قال كلمة الحقّ، وقدَّم الحقيقة للاخرين بكل صدق واخلاص.

***

محمد جواد سنبه  

......................

* مشاركة (12) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

للأستاذ المفكّر والباحث ماجد الغرباوي ألف تحية وتحية في سبعينيته الزاخرة بالعطاء الفكري والإعلامي.

قبلَ عقدٍ من السنوات اقترح عليّ صديقي الراحل الشاعر سامي العامري أن أنشر قصائدي في صحيفة المثقف، ومنذ ذلك الوقـت وأنا اتابع يومياً صحيفة المثقف وأنشر فيها وأعلّـق على ما ينشره فيها زملائي الشعراء والأدباء.

صحيـفة المثقف تجسيد ثقافي لِـراعـيها ولولاه لَـما كانت ولَـما استمرّت وهذا كله سيرة ثقافية جامعة تجسدت في رجل واحد هو الباحث والناشر والأديب والمفكر ماجد الغرباوي .

ما أصعب الموازنة في التأليف الفكري المضطلع باستقراء العقائد بين التجرد وبين حميمية الإنتماء للعقائد ذاتها. وهذا ما نجح فيه الأستاذ ماجد كمفكّر فإنَّ قدرته الفذة في المصالحة بين التجرّد الفكري وبين حرارة الإيمان هي ما يميّزه عن غيره في كل ما كتب وألّفَ وحاورَ فقد قرأنا لباحث جمع بين أصالة الفكر وحداثة الطرح بمعاصرةٍ وعقلانية وانفتاح دون أن يكون ذلك على حساب المنطلق الإيماني الفاعل كبوصلة ومنهج .

من جانب آخر فإنَّ الأستاذ ماجد الغرباوي كناشر وصاحب منبر ثقافي لا يُقارن به إلاّ نادرون في حياتنا الثقافية، من حيث سعة المنبر وشموليته وأعتداله وموضوعيته واستمراره، وجمهرة الأقلام التي ساهمت في رفده ولا تزال فقد استطاع الأستاذ الغرباوي أن يجعل من المثقف صحيفة ثقافية جامعة استقطبت لفيفاً متنوعاً وغنيّاً من مختلف الأجيال والتخصصات ومن جميع أقطار الوطن العربي ومن خارجه وهذا كله ما كان ليزدهر ويستمر لولا الأستاذ ماجد الغرباوي .

هذه شهادتي بتواضع كشاعر من شعراء صحيفة المثقف بحق هذا الرجل باحثاً ومفكّراً وإنساناً .

العمر المديد للأستاذ ماجد الغرباوي .

***

جمال مصطفى

 

دخل العراق بعد عام ٢٠٠٣ حالة استعمار جديدة حين ربضت مجنزرات الأمريكان في بغداد وبقية المدن العراقية،  بعد أن قامت بقصف البنى التحتية. فأصبح العراق بيئة خصبة لنشوء العصابات الإرهابية والسلطات الفاسدة وأنظمة المحاصصة،  فغابت العدالة الاجتماعية.

وقد كان لهذه التحولات السياسية الأثر الواضح في الأدب العراقي. حيث تغيرت ملامح النصوص الأدبية بع أن انعكست عليها تلك الأحداث.

ومن بين هذه النصوص كان لي الشرف أن تكون بيين يدي نصوص الكاتب والمفكر ماجد الغرباوي. هذه الشخصية التي لم ألتقيها حقيقة إلا من خلال صحيفة المثقف التي يمثل الغرباوي شخصيا مديرها الواعي والمدرك لها ولجميع كتابها على اختلافاتهم الإثنية والفكرية،  فكان الأب الحاني الذي يتلقى إبداعات أبنائه عن طريق إيميلاتهم بكل حب واحترام.

ماجد الغرباوي الباحث والمفكر الذي ولد في العراق ونشأ فيها ثم سافر إلى استراليا وأنشأ صحيفة المثقف في سيدني/أستراليا في العام ٢٠٠٦ عايش كما أبناء العراق الأحداث والحروب التب كانت العراق قد تورطت بها لذلك فكتابات الغرباوي لم تكن بعيدة عن التغيرات التي حدثت كما باقي كتاب العراق. لذلك نجده يكتب حياة العراقيين لكن بلغة مراوغة ومرمزة. مراوغة يرسو معظمها تحت السطح ويطفو ما أراد هو منها أن يطفو. بريئة من النظرة الأولى غير أنها تحمل الكثير خلف هذه البراءة. بعد فك مغاليقها وأسرارها سيجدها المتلقي تتمحور حول عذابات الإنسان وخاصة العراقي. في عالم موحش قوامه المركز الذي يتغول على الهامش، يتبرقع خلف أقنعة مختلفة الألوان والأشكال. ومرمزة برموز تعتبر أدوات تعبر عن أيديولوجيات عامة تؤطر الواقع وتبث رسالته في منظور فرداني تتشكل فيه رؤية الكاتب ومساحات إسقاطاته على النص في حلة المسكوت عنه. فالمراوغة من الأساليب التي استخدمها الكاتب في نصوصه ويرادفها الغموض أو الفراغ أو الصمت،  الذي يترك فيه الغرباوي للمتلقي آفاقا لفهم النص والتوصل إلى دلالته وحل ألغازه. وقد لاحظت من خلال تمحيصي بالنصوص أن الكاتب لجأ إلى توظيف تجاربه الحياتية بطريقة غامضة أو مراوغة،  فهو يفضح السلطة التي تتغول على لقمة المواطن وتكبح حرياته وتزدري المرأة وتحط من مكانتها. وبذلك يكون الغرباوي كما قلنا قد اقترب من عالم البشر ودافع عن المظلوم منهم، لكنه في الوقت نفسه أخفى أسرار صناعته السردية وعبر بطريقة غير مباشرة عن رغباته المكبوته وتطلعاته.

وبعد التدقيق بالنص الموسوم ب"اللاعب المخادع" نجده على الرغم من إيجازه إلا أنه يمثل متاهة سردية تقوم على التشتت والمراوغة التي تتطلب من المتلقي اليقظة للوصول إلى الرؤية الكلية التي يريد النص طرحها. فشخصية المعلم في هذا النص وبالرغم من أنها كانت مثالية بالنسبة للبطل "علي" إلا أن الغموض يلفها. حتى أن "عليا" تمنى أن يحل لغز هذا المعلم. لكن هذه الشخصية الغامضة تحولت بعد وقت إلى لاعب سيرك وظيفتها إضحاك الناس وارتكاب ما لم يرتكب من أجل كسب المال.. وقد وجدنا الغرباوي راوغ كثيرا واستخدم الرموز ليضلل المتلقي. فما الذي تمثله حقيقة شخصية المعلم؟ هل هو السياسي الذي يرتقي سلالم الدولة بكلامه المعسول ليتغول في النهاية على الشعب الذي أوصله هذه الدرجة؟ وهل علي يرمز إلى شريحة الشعب؟ ويستطيع المتلقي هنا التقاط مراوغة استخدمها الكاتب وهي نقد الواقع، حين طرح قضية سياسية.

فهذا النص كما عدد من النصوص لا يقتصر على إدانة ما أصاب العراقي من الذل والإهانة على أيدي السلطات المحلية التي أورثته الشعور بالدونية،  بل وتستعرض قضايا الرشوة والفساد وغياب القانون.

ومن المراوغات التي لجأ إليها الغرباوي اللغة الشعرية الرائقة التي تلفت الأنظار إليها لما تحمله من أفكار فلسفية تأملية. وخير مثال على ذلك النص الموسوم ب "حطام المسافات" ومنه اخترنا الفقرة الآتية عن البطلة " أرسلت حفنة أشوق معتقة، أجابتها الشجرة بباقة آهات حالمة. انتشرت كفراشات ملونة على سطح اللوحة الهامدة في زاوية الغرفة".

وفي سياق المراوغة السردية التي تهدف إلى التعميه عن الوصول المباشر إلى هذا الهدف،  ويضمن قضية تبدو مركزية عند ماجد الغرباوي وهي قضية المرأة وتهميشها في مجتمعاتنا.

ويتجلى هذا في النص الموسوم ب" أمنيات متلاشية" فعن الشخصية النسائية في النص "نادية" " كم كانت نادية نموذجا نسائيا رائعا،  آه كانت تتمتع بثقافة رفيعة، تعتقد أن من حقها أن تمارس حياتها بحرية، لم تخرج عن العادات والتقاليد....أحبت زميلها في الجامعة،  تمنت أن يكون شريك حياتها مستقبلا. أخطأت حينما باحت بسرها لأختها فكانت المأساة" فهذا المقتطف يشرح استبداد الآباء وتحكمهم بقرارات البنات. فكأن الكاتب أراد الانتصار للمرأة عن طريق الصرخات التي أطلقتها الشخصيات النسائية في النص.

والمدقق في نصوص الكاتب سيجد بأنها أرضية خصبة للرموز. فالكاتب قد يستخدم الرمز إذا اضطر إلى التصدي إلى نوع من القهر وخاصة حينما يكتب في الثالوث المحرم. لكن كاتبنا لم يلجأ لهكذا تقنية لأجل هذا السبب فهو غير مقيم في العراق ويكتب في بلد تتيح له الكتابة والخوض والتعبير عما وفيما يريد،  إنما كان هدفه أن لا يكون المتلقي مستهلكا للنص بل على العكس من ذلك، أراده فاعلا منتجا. فعلى سبيل المثال لا الحصر لو دققنا في الفقرة الآتيه الواردة في النص الموسوم ب " هاتف الفجر" " خرجتُ مسرعا بعد لقاء قصير،  تداولتُ فيه مع صديق حميم حديثا وديا،  حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهام تقذفني"...." استقر سهم في قلبي، فتبددت أحلامي" فالسهم هنا هو رمز، لكن ما الذي أراده الكاتب؟ هل السهم الذي أصابه في مقتل وهو القلب مكان المشاعر، هو الوطن"العراق" الذي قتل أحلامه؟ أم هو شخص قريب أم ماذا؟

لكن دعونا نأخذ مقتطفا آخر عن السهم "هل سيتحكم بنبضي أو يمسك شراييني؟"

"هل سيستبيح أسراري ومشاعري؟" "ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين ويواصل رحلته من أجل المعذبين". وهنا من الذي بتحكم بنبض الإنسان ويستبيح مشاعره؟ ثم لم جاء الكاتب على ذكر المتعبين والمعذبين؟.

هل يطرح هذا النص أحد رؤوس الثالوث المحرم وهو السياسية؟.

ولو انتقلنا للنص الموسوم ب" مرايا الحروف" وقرأنا مقتطف قصير عن شخصية تدعى "السيد الجليل" شخصية مسيطرة على عقول المساكين من الناس وتتغول على تعبهم "ذهلت من هول المشهد، صارعتني ارادات شتى،  أي سطوة لهذا الشخص على الناس؟ تبعته وهم يتدافقون من حوله، يتبركون بتقبيل يديه". فهل يطرح لنا الغرباوي رأس آخر من الثالوث وهو الدين؟ وكيف يتحكم رجل الدين الذي يتوارى بالدين بأناس بسطاء؟.

كما سعى الغرباوي من خلال نصوصه التي يحتاج كل نص منها إلى إفراد دراسة منفصلة ومطولة إلى تحرير عقل الإنسان من الجمود بهدف إحداث تغيير على مستوى المجتمعات وقد يلتقط المتلقي هذا الطرح من خلال النص الموسوم ب" قرار ارتجالي" تلخص بعبارة" أعاده رباطها الملفوف على رأسه إلى حيث كان يعيش" فالشخصية المقصودة في النص حاولت التغيير إلا أن الأفكار الجامدة التي تحف برأسه حالت دون ذلك التغيير وأعادته مكانته الأولى.

وبقي أن نقول أن نصوص الكاتب تمضي بنا نحو لذة الرؤية الممتنعة عن الظهور من القراءة الأولى،  فهي ليست مجرد نصوص سهلة الوصول بل تتطلب إعمال العقل في كل جزئية للوصول إلى الدلالة التي أراد الكاتب إيصالها كرسالة للمجتمع..

وأتمنى للأستاذ المقدر ماجد الغرباوي طول العمر والبقاء.

***

بديعة النعيمي – ناقدة وكاتبة / الأردن

 

أُحيّي الباحث المفكّر (ماجد الغرباوي) مباركاً له بلوغه السبعين من العمر، ومعتذراً لإبطائي عليه بتلبية دعوته الكريمة، لظروف خاصة حالت بيني وبين الإجابة إلى سؤاله في وقته. ومهما يكن فإني أشهد أنه مفكّر نقديّ عقلانيّ إصلاحيّ ذو موقف ثقافيّ حر ومستقل وشجاع. يذكّرني تاريخياً بمواقف أصيلة قديمة لمفكّرين نقديين مثل الجاحظ والتوحيدي وابن خلدون، ولفلاسفة عقلانيين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. ويذكرني كذلك بمواقف معاصرة حديثة لباحثين ومفكّرين إصلاحيين مثل محمد عبده ورشيد رضا وهادي العلوي وغيرهم من الباحثين والمفكرين الإصلاحيين في عصرنـا الحاضـر. ولئن تشـابه معهـم في منحى النقـد العقلي والإصـلاح المعرفيّ؛ فإنَّ له رؤيته الخاصة التي تميـّزه ثقافيّـاً عن أولئـك وهؤلاء كليهما. وأشهد أنّه مثقف تنويـريّ في بيئة عربيّة ــ إسـلاميّة قد اشـتد ظلامها على المثقفين النقديين والعقلانيين بدءاً من القرن الخامس للهجرة(الحادي عشر للميلاد) حتى يومنا هذا؛ بعد أن بلغت مصابيحها النقدية العقلية أقصى شعاعها، في القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد)، من حيث طرح القضايا الإشكاليّة التي كان يتداولها المثقفون النقديون والعقلانيون تداولاً صريحاً بحثاً عن الحقيقة دون أي شعور بحرج أو خشية من ردود أفعال المؤسسة الدينية التي تخصّص نموذجها الفقهي التقليدي، بعد القرن الرابع للهجرة، بقمع حرية البحث النقدي العقلي، وبقصر المعرفة على التفسير اللغوي للنصوص الدينية دون أي نزعة نقدية عقلية لتحليلها، ودون أي نظر إلى الواقع العربيّ -الإسـلاميّ، لحل مشـاكـل الإنســان فيــه؛ على الرغم من أنّ الدين هو للإنسان وليس الإنسان هو للدين. ومهما يكن من شيء، فقد ساد ذلك النموذج الفقهي التقليدي منذ ذاك العهد حتى اليوم، وانتصر جموده على النقد العقلي الخلاق، وأدخلنا في خندق مسـدود مقابـل الإنفتاح الثقافي الأوربي الذي شرع بالرقي والإزدهار الحضاريّ منذ القرن السادس عشر للميلاد. ولا تفسيرعندي لاستمرارنا في هذا الخندق المغلق إلا لوجود سلطات رسمية وغير رسمية قد ضيّقته وأحكمت إغلاقه. وأخطرهنَّ السلطة الدينية التقليدية والسلطة السياسية الإستبدادية. وفي مثل هذه الحال تصبح مهمة المثقف النقديّ الفاعل هي أن يعرّي حقيقة هاتين السلطتين القمعيتين، وأن يواجههما نقديّاً بكل شجاعة ودون أيّ تردد لتحرير الدين من الأولى، وتحرير الإنسان من الثانية. ولتكن ما تكون عقبى تلك المواجهة النقدية في سبيل كشف الحقيقة وتغيير الواقع.

ولقد كان الباحث المفكر (ماجد الغرباوي) مثقفاً نقديّاً فاعلاً، بإزاء تعرية تينك السلطتين المذكورتين. وتتجلّي فاعليته الثقافية في هذا الشأن، من خلال دراســاتـه للتـراث العربيّ ــ الإسـلامي، ومنشـوراته و محاضراته، ولاسيّما تأسيسه لـ "مؤسسة المثقف العربيّ" في مدينة سدني في إستراليا، وإصدار "صحيفة المثقف" المهمة المفيدة، والحرّة تماماً من المذهبية المهيمنة على معظم الصحف العربية. تلك ألمذهبية المقيتة التي لاترى وجوداً للمثقف الآخر المختلف إلا إذا كان امتداداً لإجاباتها الجاهزة؛ ولا حقّاً له بالكلام إلا إذا كان يتكلّم ضمن إطارها مؤكّداً الإئتلاف لا الإختلاف والتماثل لا التباين. أي أن يسير باتجاهها أو لايسير إطلاقاً. إنه الإرهاب بعينه، ولكن بصبغة ثقافية قد تكون ذات لون دينيّ أوقوميّ أو لون آخر. إنّ صحيفة المثقف باختلافها النوعي قد تخطّت تلك المفاهيم الثقافية السائدة التي تؤكد العجز لا الإبداع، وتعلّم الإتباع لا الإستقلال، وأتاحت للمثقف حرية ثقافية كاملة لكي يبحث ويعبر ويتساءل ويتجاوز حرّاً دون أيّ قيد إيديولوجيّ، . وهذه الحرية الثقافية المنوّه بها في "صحيفة المثقف" قد تمّت بفضل صاحبها (ماجد الغرباوي) الذي سيبقى نظره وممارسته منارين ثقافيّين خالدين رغم الفناء.

 ***

عبدالإله الياسري

في ١٧/شباط/٢٠٢٤م

أتاوا ــ كندا.

..........................

* مشاركة (11) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

أسلوبية الترجيع الفردي في عاملية الأوضاع النصية

توطئة: تتشكل محاور العلامات في تجربة الكاتب والمفكر ماجد الغرباوي ضمن حدود أستقرائية تلتحم في صيغة قطبي (الترجيع الفردي - الأوضاع النصية) توصيفا للحد الاكبر من معنى وسياق أسلوبية الكتابة، التي راحت تتوافر إجمالا على مستويات خاصة من وصلات ووسائل متقابلة في الشكل والمضمون، وبالرؤى المتوفرة في مبنى موضوعات النصوص التي تمتلك في حالها الجزئي والكلي مسكونية ذائقة نوعية في الكتابة وقراءتها بأطوار حسية مخصوصة في المعالجة عبر مجال (القصة القصيرة -القصيدة) وهذه المكونات النصية لها من المؤشرات ما يجعلها تبدو كصورية تشكيلية ذات أوجه متقابلة في الاوضاع والاسلوب ومحاصل التكوين الدلالي، لها من التفاصيل والابعاد ما يجعلها تظهر وكأنها محمولات عضوية متداخلة في التدليل ونسيج الخطاب. أما في ما يتعلق مثالا ومجالية بناء القصيدة، فالأمر أكثر وأشد مواجهة من حيز حساسية الخطاب في القصة، ذلك لأن صيغة الدوال بدت أكثر إيغالا في الأستعارة المرسلة من ناحية كون البناء القصصي، هو عبارة عن وحدات تكونها مجموعة وظائف (خبر-تقرير- وصف- متكلم) وعلى هذا النحو وجدنا في حدود القصيدة ثمة مؤشرات خاضعة لجمالية البوح والتحسس، تدليلا على مواطن كيفية خصبة من الكم المثمر في الرؤى والأشياء وتراكيبها التلفظية ذات التأشير العلائقي في منظور التلقي لها.

- مؤثرات الشيفرة الشعرية في غواية الإيقاع الاستيهامي للسرد

لقد حاول الخطاب القصصي في نماذج أقاصيص الغرباوي، استثمار بعض من طرائق الموضوعة خواصها اللغوية التي تعتمد في ذاتها، على ذلك السمو بالإستعارة في مواقف اللغة الشعرية. فقد راحت أغلب أقاصيص تجربة الغرباوي، تستعين في أدائها بما يمكننا تسميته (الترجيع الفردي) الذي من شأنه توظيف الفرد العاملي في محاور ضمنية من النص، إذ يبدو الفرد من خلال موقعه التفيذي، وكأنه علاقة هلامية مخصوصة في الأجواء الاكثر تندرا في حدود (الشيفرة - جهة التواصل - الاوضاع النصية) اي بما راح يشكل في العلاقة السردية حالة ترجيعية بالأشياء والعناصر الأحوال التي تتضمن وجوده في المعادلات للحوادث بين الاصوات والوسائل المحيطة به كفردا مرجعا في غاية انفرادية من الذات العاملة ومعطياتها الإجرائية، لذا فعندما نقرأ قصة (هاتف الفجر) أو قصة (ذهول) يتولد لدينا ذلك الإحساس الانطباعي بأن معطيات النص تصب لذاتها علاقة ترجيعية حاصلة ومكتسبة عن وسائط ومؤثرات داخلية تخص افعال الفرد الشخوصي وحده، رغم وجود اكثر من حالة تماثل في مدار الخارج بصورة مؤكدة تجسيدا، ولكنه على اية حال، لا يظهر حالات الفرد الشخوصي الإ من جهة كونه علاقة ضمنية، يحتفظ مصدرها بكينونته ومحتواه كعاملية داخلية في نسيج الذات النصية. فمثلا نعاين هذه الوحدات الاستهلالية أنموذجا: (ادمنت قارعة الطريق، اتصفح وجوها كالحة، ترمق السماء تارة، وأخرى تنظر منكسرة / قصة -ذهول-) هذا الارتباط الضمني هو في حد ذاته لا يعكس هوية الترجيع الفردي، بقدر ما يعكس منطقة ترجيعية للصوت الفردي، وبخاصة في ما يتعلق والمجال الواقع بين قصدية المشار إليه وحالة الواصف ضمنا (ترمق السماء) وبين ذلك المؤثر الترجيعي الذي يقود الحركة العاملة بالصوت والإشارة الى مجال مرسلات الذات النواتية، دخولا في الإيقاع النفساني لها في الخطية الداخلية: (تنظر منكسرة) وهذا الأمر ما وجدنا لمثله في محددات قصة (هاتف الفجر) حيث تلك المسافة الخاصة من مضمرات الاستدلال والتي ترسم للأنا العاملة تلك الأشكال المتمحورة في ذاتها الأولى وفي مسار ذلك الترجيع الكامن لها في حدود تفكيك (هاتف - فجر) اي أن العلاقة الدلالية هنا تختص في بداهة المرسل العنواني، ثم بالتالي في تلك المرجحات الجهاتية (خارج- داخل/ نواة-ذات) اعتمادا على إرهاصات سيكولوجية من شأنها جعل الخطاب القصصي، وكأنه تكوينات مصدرها يتجاوز التوظيف الملموس للوقائع في الحكاية، وكأنها مناجاة حلمية الى مواضع مثالية وتطهيرية تتجاز الواقع العيني بلوغا نحو ذلك الواقع الميتافوقي، وقد جاءت بعض الأنساق في شكل مفردات تعبر عن جنوح التخييل عبر منعطفات معتمة: (كم أرهقتنا انفسنا بحثا عن معنى يشدنا إليها، متى ندرك أنها وهم مالم تغض قلوبنا حبا.. كم أخاف على قلبي.. أخاف على نبضة المتدفق حيوية) بهذا المعنى العرفاني، وجدنا اقتراب وابتعاد الشخصية من ذاتها قربا لذاتها، ولا شك في أن أمر خطاب السرد لدى الغرباوي، منطلقا من خلال تجليات فيوضية -ترجيعية، خلاصتها تكميلا لمشروعه الفكري النير، ولكننا حتى مع حوادث وحدوث ثيمات هاتين القصتين وأخريات ملحقات لهن، تواجهنا ذات القسمات من الوظائف الاسلوبية والبنائية وما تفرضة من تقانات حاصلة بالترجيع الفردي، الذي ظلت من خلاله الذات العاملة بالصوت والإشارة، فردا بلوغيا، يفلسف الوجود عبر مقادير ماهوية بالتوحد مع الملكوت الاعلى، بدءا من الذات نفسها وفي حدود منطقها ولفظها ودليلها الترجيعي للذات المسكونة في أسرارها وكلماتها المتوافرة في مستويات من التوحد والخروج من الذات بلبوس ذاتها ترجيعا وتكرارا. إذ يمكننا من جهة خاصة تشخيص حالات تقترب من مفهوم (التداخل الذواتي) اي بين الذات وحالاتها المراوية في عوارض انعكاسات الزمن والمكان ومساحات اخرى من دالات الوضع الترجيعي للذات العاملة بذاتها، إقترانا بمراتب الفضاء الداخلي وتوزيعاته الخارجية (الوقائعية - الحلمية- الترجيع الفردي) وعلى هذا الاساس تبقى أساليب ملامح البناء القصصي، كحقيقة محتملة في المبثوث الداخلي، اي في مستوى جملة موجهات وتماثلات تعتمد في مقاصدها الدلالية تلك الافاق من الترجيع الفردي كتبئيرات جوانية في الأداء وحركة التحفيز الوظائفي.

1- الفضاء الحكائي بين التداخل المرجعي وإيهامات المخيلة:

تحيلنا إثارات البحث النقدي والترغيب البحثوي في مجالات التقصي عبر أغوار الفضاء الحسي والأفعالي والوظائفي في مكونات المقروء الى ملاحظة المعنى وتقلباته الظاهرة والمتخفية وراء المنظور السردي بمؤشراته التفاعلية القابعة بين حدي (التداخل المرجعي - إيهامات المخيلة) حتى وجدنا اغلب استجابات الكتابة المطروحة في متون النصوص لدى الغرباوي القصصية تحديدا، تشكل في ذاتها استدعائية ما بالمقصود المرجعي الواقع ما بين السطور، اي ان اغلب توالدات السرد هي من الحواصل والوصلات المقتبسة بطريقة التناص من الموارد والكتاب المقدس، ناهيك عن كونها تشكل مبعثا اخر في ملامح مواضعها الأثيرة، إذ انها اظهرت بما يجعلها بوحا وتوصيفا متناغما، وقد لا يكون الأمر من باب الحدوث التواردي، بل من ناحية كونه تصرفا جعل من السرد متجاوبا في الثيمة والمقصود الشيفراتي وحدود هوية الإشارات والإحالات في مهام المصير الاوضاعي من النص، الذي بدورة لا يتجاوز سياق وقائع خاصة من مباعث إيهامية الاطياف المتوارية في حالات المرموز النصي. لذا فإن مجموع أقاصيص المدونة الخاصة بالقسم القصصي، هي حالات من اللازمن واللامكان واللاتحديد في إقرارات الواقعة الحكائية، غير انها من جهة ما تشكل في ذاتها حضورا لدلالات تشغل لنفسها الاحوالية مجموعة معادلات في مستوى التمثيل والفعل الوجودي المتوازن وماهية (الترجيع- التفريد) وصولا الى الحصيلة المتعالقة بين وحدات القص وتداعياتها الواقعة بين المتخيل والاستيهام المعادل في حسابات المعنى القصدي والتعددي الدال في الدليل المجمل.

- بلاغات الترجيع الحلمي وإمكانية المتفضل التشكيلي

في كل المستهلات والمقدمات الشعرية، يتصارع حدي (الماقبل- المابعد) أو ذلك التواصل الاستنطاقي لماهية العلامات المخاطبة لثنائية (خصائص اللغة- شعرية الحال القصدي) وما هو الشعر إلا خصائص وإشارات وملامح ملتوية ومزاحة من حصيلة التصور أو اللاتصور في بعدية المعنى الأكثر ملامسة لكيفية لغة التواصل للقبول بكليات البدائل والأوضاع المكثفة حسيا وصوريا في الاثر الجمالي المستحسن في ميزان الذوقي والافهامي (المعياري)، ومن النوع الذي يتطلب قدرا ومبلغا من التحاور والتنافذ والعزلة الصرفية التي تتعامل مع محبوكات النوع النصي بالترجيع والتفريد الذائقي. والحقيقة هاهنا تحفزنا الى قراءة نصوص القسم الاخر من تجربة الغرباوي الشعرية كتحديد تمفصيلي في سياق دراستنا هذه. أقول بادئ ذي بدء، أن طبيعة أشكال وتصورات ورؤى هذه القصائد، قد حلت في الجانب الاكثر عضوية مع حيثيات القصص لغرباوي نفسه في مدونته التي هي موضع دراستنا، فهي الوجه الاخر للموضوعة التي جاءت بها القصص، ذات العنونة، ذات الصلة والطابع نفسه، ولكنها أكثر جنوحا في فضاءات الموضوعة والتدليل والخطاب ذلك لكونها تجربة شعرية منطلقة عبر جناحان من المراد الاستعاري قصدا وبناء وأداة، اي من النوع الذي يؤهلها على صناعة شكلها الدلالي ذات التمظهرات المتعامدة وروح الوسائل البلاغية والاحوالية التي تتيحها جملة بنيات الخطاب الشعري، لنقرأ ما جاءت به قصيدة (هاتف الفجر) من تلوينات وآليات وحالات خاضعة في مؤشراتها الإجرائية والدلالية الى جملة مفاصل تتوزعها موضوعات وتبئيرات اتخذتها ذات القصص عنوانا ودالا وبوحا، وكأنها تسعى قدما الى عملية مسحية في الاستقراء ومعاينة محتوى الأوضاع في كلا الوضعين (القصصي- الشعري) :

هاتف الفجر

يتهادى حلما

ذهول

همسات لاهثة

تسمر الضوء

تمرد

تبتكرني الريح

شظايا

مديات حلم

حطام مسافات

مرايا حروف.

لعل هذا الفقه في الكتابة الشعرية المستغرقة في طيات الحدود والافاق، بدت وكأنها محمولات تشكيلية من دفاتر (الحلم- الفضاء- حساسية الخطاب) ما جعلها تستدعي ذلك الاستعداد الإمكاني في التحليق بكيفيات هواجسية تقدم للنص مساحات تتوقد في حدود المعنى والتمعن في غايات الرابط الدلالي المطروح في جنبات القول الشعري، كحالات عائدة ومكتسبة من افضية وخيارات ثنائية (معرفة الحسي- جنوح التخييل في رسم الاحوال) والغرباوي شاعرا، لا يقدم لنا المعرفة الإ في وسائط ومفاصل وتعالقات نوعية جعلت ترشح وتنتخب صناعة التخييل وفحصه للأشياء تحت مجهر الذوق والتذوق والمكين في إرسال حالاته الحسية إنطلاقا من القصد المحسوس بالدال الإمكاني ومساحة مضافة راح ينتجها التصور، كحالة وضعية من احوال القول شعرا في الصورة والدلالة وفضاء التنصيص بملامح الايحاء وأحوال الرؤية ذات الطابع والتطلع البرقوي. فالجمل الشعرية من هنا (هاتف الفجر.. يتهادى حلما..) هي بالمحصلة المتنية راحت تشكل ذاتها كممارسة استتاجية، ولكنها في محصلة اللحظة المقابلة، غدت وكأنها تداعيات ناتجة عن ملامح رؤية محالة في مرسلات القول المعادل (تسمر الضوء..تمرد..تبتكرني الريح = شظايا = مديات حلم = حطام مسافات = مرايا حروف) إذ تأتي الدوال اللاحقة، بما يزامن افعال القول وتداعيات الدلالات، تحديدا لغياهب جملة المستهل العنواني (هاتف الفجر) ليضاف في مرسلات الحال والاحوال، تجليات ممعنة في التصوير والكشف الاحتمالي في مقادير الحلم (يتهادى.. حلما) او ان التوقع المقابل للبرقية المركزية، حالة مخصوصة بالتوظيف المضمر والبرهنة، لذا فإن مجيء حالة وموصوف (ذهول) هي بمثابة الإبصار في توقعات الملامح القادمة وما تمليها عليها علاقات الاحوال مضاعفة في المرسل الوصفي. أنا شخصيا ارى أن دلالات المحتوى النصي، ماهي إلا تلك البؤرة التشكيلية التي إراد المختزل العنواني للقصيدة، جعلها بمثابة العلاقة التوالدية للبنية الدوالية في موجهات النص، إذ راحت تنطوي من خلالها تلك الخيوط السرانية والتداخلية تماهيا بين مجال أجواء القصة التي تحمل ذات التشفير من العنونة، ماراح يسمح بأن تكون فضاءات المستويين (قص - شعر) مجالا متوحدا يحمل ذات الطابع والتطبيع في ترجيع الخاصية الفردية والذاتية في علاقة أنواعية متلونة في نسيج وظائفها ومتحولة ضمنا في جعل شرارة الاصوات متشرنقة في عوالمها الذاتية التواصلة بين مقصودية المصور والمتخيل وفاعليات التشكيلي المتفضل على سمات النصوص بروح المفترض والمحتمل والتجاوزي.

- تعليق القراءة:

كان الاهم والمهم في تجربة مفكرة الغرباوي القصصية والشعرية، هو ذلك الإرتباط بين الدلالات ومصدريتها المجترحة لاسمى اللحظات (المتاخمة - المتناغمة- المزامنة) لهذا الصنيع في عوامل وعوالم قد تختلف في الأوضاع والمستويات والانواع، ولكنها تنطلق بجناحان من احدية ترجيعية، من شأنها تعزيز خصوصية الفرد العاملي وجعله في حدود مكونات ضمنية من حساسية الدال والتدليل والصياغة والاصواتية الداخلية في احياز انساقها الموضوعية والزمانية والمكانية والكينونية والماهوية، خلوصا نحو حاصلية تفريج جملة ضمنية من الاوضاع النصية عبر قطبي (المتن - المبنى) اي عبر حلية ترتد وتمتد، لتنطلق كلحظة ملكوتية ساحرة ومشعة في مقاديرها الزمنية والمكانية والعواملية والاعتبارية من تجلبات موضوعات حكايتها وقصيدتها الاكثر سبحا في شعريتها الحلمية، لذا فهي تلك الذات المتوالدة بصيغ رؤى وأفعال تتجه توجها، يعيد إلينا حساباتنا المعنوية تطهرا من شوائب تتعدى مستويات الظاهر من النصوص من الناحية اللغوية والتصويرية، بل انها تتجاوز هموم دنيا النصوص لترتكن في خواصية عوالم تكتسب ذاتها وروحها وأسلوبها من اهليات جمالية نوعية في الشكل والمضمون في الداخل والخارج، لتبقى مجموع وقائع وحالات النصوص بمثابة الترجيع للفرد العاملي إنطلاقا به نحو تحولات تأتي بصيغة الفواعل (الشكل الدال = المحتوى الدال) وبمحاولة إستعادة نقاء وصفاء الذات تتعاظم قدرات مسميات الحلم بحدود تتلاشى منها زخرف الحالات الإنشائية وجمالية النقوش الظاهرة، لتتحول متخيلات ووقائع تجربة ماجد الغرباوي الى حيوات أكثر بلوغا في مرادها وقصديتها الترجيعية بالذات المضمرة في حقيقة وجودها وهوية حالاتها الحيوية في الاوضاع النصية المائزة.

***

قراءة حيدر عبد الرضا

.........................

* مشاركة (10) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قد لا تسعفني الكلمات، وأنا أكتب عن قامة سامقة من قامات الفكر العربي المعاصر، فمعذرة إن قصّرت. وليعذرني شاعرنا العربي، ابن العراق الأشّم، محمد مهدي الجواهري، لأقتبس منه بيته القائل فيه: يا سيّدي اسعف فمي ليقولا ** في عيد مولدك الجميل جميلا. أمّا أنا فأقول لماجد الغرباوي: يا سيّدي اسعف قلمي لأكتب عنك في عيد مولدك السبعين هذه الكلمات المرصّعة بجميل التقدير ليراعك الفيّاض بمعاني التسامح الإنساني وجهودك المضنيّة التي ملأت روحك و شغلت جلّ عمرك المنصرم.

إنّ حياة المفكّر الحر حياتان: حياة الجسد الفاني وحياة الفكر الخالد، إنّها لا تُقاس بعدد السنين، ولا تنقضي بفواتها. وما العمر البيولوجي في حياة المفكّرين الأحرار سوى محطّة انطلاق نحو عالم الخلود.

ماجد العرباوي، مفكّر مثقف وباحث وشاعر وقاص، امتطى موجة التجديد والعصرنة في حقلي الثقافة والدين. رجل العقل النيّر الذي يمقت - من خلال مواقفه الفكريّة وفلسفة كتاباته الثقافيّة وإبداعاته الأدبيّة - التعصّب الفكري والديني، ويروم حريّة الفكر، والفكر الحرّ والتنويري، البعيد كلّ البعد عن التزمّت الهادم للذة التطوّر، والفكر الاتّباعي المضلّل للأبصار والبصائر، والمحرّف للحقائق الناصعة.

وأنا اقرأ له بكلّ شغف نصوصه الأدبيّة، من بوابة صحيفة المثقف الغراء، اكتشفت مفكّرا ملتزما وأديبا رهيف الإحساس، يخوض في عوالم القصّة الملتزمة والقصيدة الحيّة، بلغة تفيض بالمشاعر الإنسانيّة النبيلة والنابضة بالحبّ والسلام، الرافضة للظلم والاستسلام والغدر من لدن أبناء العمومة، يوم تكالب الأعراب والعجم من كل حدب وصوب على العراق الحبيب، فأثخنوا جسده وروحه جراحا غائرة لا تُنسى و تُغتفر. وهذا ما جسّده في نصّه الشعري (يتهادى حلما)، حيث يقول:

حزنا سرمديا

جاد به تموز

فما عاد لنا فرح

والموت ينشر راياته السود

فوق سحابات بلد خانت به

نفوس أدمنت الغدر.

و في نصوصه القصصيّة لوحات فنيّة حيّة، نابضة بألوان من التجارب الإنسانيّة، معبّرة عن معاناة الطبقة المسلوبة الحقوق، المحاصرة بين فكيّ الاستبداد السياسي والديني والتقاليد الميّتة والمميتة معا. ففي قصة " أمنيات متلاشيّة " رسم لنا القاص ماجد الغرباوي حقيقة المجتمع السادي. المجتمع المحكوم بحزمة من العادات والتقاليد الباليّة، أشدّ تأثيرا من الدين وأقوى من قوانين الطبيعة الفكريّة. فقد عجزت منال عن البوح بحبّها خوفا من العقاب الأسري والاجتماعي، في مجتمع لا يعترف بالحبّ، ولو كان حبّا عذريّا. إنّه مجتمع القبيلة والعشيرة، مازال يحرّم الحبّ ويعتبره جريمة وفضيحة أخلاقيّة، عقابها الوأد أو الذبح من الوريد إلى الوريد، بينا لا يعبأ بالكراهيّة. (أرادت أن تصرخ، كتمت صرختها، كلّمت نفسها، منال ماذا تفعلين، إنّها الفضيجة، ماذا سيقول مازن). إنّ بطلة القصة منال ذهبت ضحيّة مجتمع ذكوريّ تحكم دواليبه  ترّهات الجهل والخرافة.

وفي قصّة " كذبة متوهجة "، يكتشف رعد حقيقة الزعامة الثوريّة المزيّفة من خلال شخصيّة نوري جواد. وقد استطاع القاص ماجد الغرباوي أن يضع اصبعه على الجرح، ويفضح أولئك الذين امتطوا موجة الزعامة، وادّعوا قصب السبق في قيادة الأمّة. أولئك الذين خدّعوا وخانوا وزجّوا بالشباب المغَرَر بهم في أتون معارك خاسرة، بينا تواروا هم وراء الجدران في انتظار لحظات الحسم، ليخرجوا من جديد، من جحور الجبن والخيانة و يسرقوا النصر وينتحلوا الزعامة. لقد أصيبت الأمّة العربيّة والإسلاميّة في مقتل، بعد ظهور الفرق الدينيّة والمذهبيّة والجماعات الدينيّة المسلّحة متّخذة من التعصّب ومظاهر الإرهاب والكراهيّة وسيلة للتغيير المزعوم، فنتج عن ذلك السلوك الخراب والدمار في الشام واليمن وليبيا، ثم تلاه بدعة التطبيع مع الصهاينة مقابل السلام المزعوم.

ما يلفت النظر – حقا – في كتاباب أستاذنا ماجد الغرباوي، هو الشجاعة الأدبيّة، والمواقف الفكريّة الثابتة على درب القناعة الذاتيّة. فهو لا يهادن في موضع قول الحقيقة، ولا يصمت في موضع الكلام، ولا يخشى المواجهة. فنصوصه الأدبيّة ؛ نثريّة كانت أم شعريّة، تنم عن سعيه الدائم إلى تنوير العقل العربي وتغيير بوصلته المنحرفة، وعزمه على تطهيره من الترّهات التي عَلقت به منذ أفول العصر الذهبي بسقوط بغداد 656 هـ وعصر ما بعد الموحّدين بسقوط غرناطة.

و في قصته "قرار ارتجالي" رصد لنا القاص ماجد الغرباوي، حالة المجتمع العربي المعاق عقليّا ونفسيّا، في عصر سيادة تكنولوجيا العلم والعولمة والرقمنة. وكم هو في حاجة إلى التغيير المعنوي قبل التغيير المادي. إنّ التخلّص من الجهل والتخلّف يتحققان بتغيير العواطف لا المعاطف، والعقول لا الحقول، والنفوس لا الفؤوس، والمراتب لا المراكب. أما في قصته " اللاعب المخادع "، فإنّ العلاقة بين المعلّم الذي تحوّل فجأة إلى لغز ولاعب سيرك، وتلميذه عليّ، تلخّص لنا ظاهرة النفاق الاجتماعي والابتزاز السياسي والسلوك الميكيافيلي في مجتمعنا العربي. ففي القصة تعبير عميق عن ضياع القيّم أمام سطوة المادة وغلبة المصالح الضيّقة على المباديء والأخلاق. وعندما انقلب المعلم على (مبدئيته واستقامته) رأسا على عقب، (حتى عمد مرّة إلى إبراز عورته، وأحدث ضجّة كبيرة داخل السرك، وعلا التصفيق والصياح، فصعق علي، ووقعت آلته الموسيقيّة من يده)، اضطرّ علي إلى تذكيره بقيّمه ومبادئه التي تربّى عليها. ردّ عليه المعلّم: (أنت لا تفهم شيئا)،(للأسف إنّك لا تعرف شيئا من أبجديات العمل)، (يا ولدي، السرك كالسياسة، يعتمد على الخداع، والتشويش على أفكار الناس، وسرقة إعجابهم، واستغلال مشاعرهم).

وعندما سأل علي ببراءة: (وماذا عن القيّم الإنسانية، وماذا عن الأخلاق؟ أجاب المعلّم مخاطبا تلميذه علي: (ستعلّمك التجارب أنّ هناك مصالح تعلو على المباديء والأخلاق، فلا تكن ساذجا، وإن ما نجنيه من ريع عملنا سنخدم به شريحة واسعة من البؤساء والمعدومين). لقد نفذ القاص ماجد الغرباوي، في هذه القصّة، إلى تلافيف العقل العربي المعاصر، وإلى الأزمة الحقيقيّة التي أصابت المجتمع العربي، وخاصة شريحة المثقفين منه. إنها أزمة قيّم ومباديء أخلاقيّة لا أزمة ماديّة. فإنّ ما أرضة النفاق مازالت تنوش صحيفة قيّمنا التي تعارف عليها أفراد المجتمع. وهذا عائد – دون أدنى شك وريب - إلى ضعف العقل العلمي واليقين الإيماني وغياب الوازع الديني الوسطي. وفي قصة (وانشقّ القمر) لوحة أخرى من ألبوم المجتمع الشرقي الذي مازال يعيش بنصف عقل ونصف جسد ونصف قلب، وما أكثر الأنصاف في مجتمع ذكوريّ. المرأة نصف الرجل، والمواطن نصف الحاكم، والحياة نصفها موت قبل الموت. (لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلاّ أنّها أحرقت نصفه الأيسر)، (ماذا يفعل؟ تساءل وهو في الرمق الأخير من الحياة.)، (كيف يعيش بنصف جسد لو قدّر له أن يعيش؟)، (وماذا عن أحلامه مع ميامي؟). وهذا أنّه فقد قلبه، والقلب موطن الحب. كيف سيعيش بلا حبّ، بلا امرأة يبادلها همسات الحب؟ هل تحلو الحياة بلا حب؟ أم أنّ الحب في المجتمع الشرقي حالة فضلى؟ أو فرض كفاية؟. أليست المرأة هي سرّ سعادة الرجل؟ وهي طوق)!نجاته من اليأس والضياع والسأم والموت والانقراض أيضا. (انتبه.. هذا.. سرّ نجاتك

وفي قّصة " ذهول " رأى الراوي - بصيغة الأنا - (مذهولا يسابق الناس)، فأتبعه خطوة خطوة (وجدت نفسي مشدودا إليه). وفي خضم الليل استغرق تتبعه له، وهو ينتظر بشوق بزوغ الفجر (وصار الفجر أمنيّة تراودني). هي حالة أمّة غارقة في متاهات الظلام. ظلام الجهل والتخلّف والسراب، في انتظار من ينتشلها من محنتها. إنّ ما يخيف حقّا ويوجع القلب، هذا الفكر الرجعي الذي وضع عصيّه في دواليب العربة. ودوران الرحى بلا طحين. على أمتنا أن تواجه الخطر القادم من بين جوانحها، وهو خطر داهم تقوده عقول متطرّفة وتنفّذه دون هوادة.

وأخيرا، وليس آخرا، فإن تناول منجزات الأستاذ والمفكّر والأديب ماجد الغرباوي، لا يمكن استيفاءها في عجالة وفي مناسبة معيّنة. فكاتبنا يستقّ منّا كقرّاء أو نقّاد إلى إضاءات نقديّة، تبرز – حقّا- مكانته وموقعه على الخريطة الفكريّة العربيّة المعاصرة، تبيّن دوره في معركة التجديد والتنوير ونشر ثقافة التسامح والفكر النهضوي، الوسطي والإنساني. إنّ ماجد الغرباوي أنموذج المفكّر الوسطي، المدافع عن الحريّة الإيجابيّة، لا الحريّة السلبيّة التي تفضي إلى الفوضى، الواقف بالمرصاد بفكره النيّر لأعداء الإنسانيّة

***

بقلم: علي فضيل العربي - روائي وناقد / الجزائر

.............................. 

* مشاركة (9) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

 

كنت قد كتبت بضع مقالات عن أعمال الأستاذ ماجد الغرباوي وتحدثت عنها، حينها رحت أبين المشاهد الجمالية في تلك النصوص، وأعنى بالدرجة الأولى كوني ناقدا، أو أضع نفسي موضع الناقد، أقول أعنى بالجماليات الأدبيّة وسبك العبارة وترابط الصورة وتأثير ذلك في المتلقي.

ولم أغفل أيضا البعد الفلسفي لتلك النصوص، فالعمل الأدبي يعني الشكل والمضمون والبعد الجمالي، وهناك البعد الرابع وهو العمق الفلسفي للعمل، لأنّ أيّ عمل أدبي لا يحمل في طياته خطرات فلسفية لا يعيش ويستمر.

وقد اطلعت على بعض أعمال الأستاذ ماجد الفكريّة التي يمكن أن أطلق عليها الفلسفية وهي تلك الكتب التي أصدرها ونشرها عبر مؤسسة المثقف، وتابعت في الوقت نفسه الدراسات التي كُتِبت عنها من قبل المختصين في الحقل الفكري والفلسفي وهم أفضل منّي في هذا المجال، وهذا ما يشير الى أن الأستاذ الغرباوي يحتل مكانة مرموقة في عالم المعرفة بشهادة كبار المفكّرين.

المواضيع التي لفتت نظري في كتب الأستاذ ماجد هي:

1- تناوله السلبيات بتتبعها من المنبع . إنّه لا يغطي القبيح أو يجمله بل يتتبع جذوره لكي يستأصله.

2- لا يجامل في المواضيع الجدية، فهناك المنهج المقارن عنده بين (أ) و(ب) بتبيان نقاط التشابه والاختلاف ثمّ يختار الأصوب أو يختار الاثنين إذا كانا متساويين.

3- معالجة العادات والتقاليد لا عن طريق التغيير بالعنف بل بمبدأ التسامح عن طريق خلق التكافؤ، وإيجاد البديل.

4- اهتمّ اهتماما كبيرا بالخرافة والأسطورة لكنّه لم يعالجها مثلما فعل السلفيون بالتكفير أو بالعنف ثمّ إحلال نمط أسطوريّ خرافي بديل ومثلما فعل ويفعل الثوريون واليساريون عن طريق العنف والإلغاء بل بالحوار الهادئ وتطوير المجتمع نفسه واللجوء إلى وسائل العلم الحديثة. لأنّ الأسطورة تشكل تراكمات مقدّسة وتتعلّق بعض مساربها بالدين والفكر القومي فمن الصعب أن تجتثها من دون أن تجد البديل لقد وجد الاستاذ الغرباوي أن مجتمعاتنا بقى تمتمسك بالماضي في حين هناك حركة عالمية شاملة وأحد وسائل التغيير هو الالتفات إلى الحاضر.

5- إنّ من الأمور المهمة التي لفت الانتباه إليها السيد الغرباوي هي قضيّة تفكيك العقدة الاجتماعية، تتبعها وتحليلها وإيجاد البديل لها فنحن نقف أمام عقد كثيرة متشابكة تخص المجتمع وتتعلق بسلوكه وهويته ووجوده، فتعدد العقد يجعلنا نضيع في متاهتها وتشابكها مالم ندرسها واحدة واحدة ونحللها، إلى مفرداتها من دون أن نغفل عن علاقتها بالعقد الأخرى.

وفي الختام أودّ الاشارة إلى أنني فخور حين أقرأ نتاج المفكر الفيلسوف الغرباوي الذي كتب عنه كثير من المفكرين، وأجدني أيضا في غاية السعادة والحبور حين أطالع أعماله الأدبيّة فأكتب عنها، فهو الفيلسوف الأديب الذي تستحقّ أعماله كل تقدير واحترام.

أما المفاهيم الأساسية في فلسفة ماجد الغرباوي، فهي:

المفهوم الأول: التسامح

 يحتل التسامح في فكر الباحث ماجد الغرباوي موضعا مهما لكننا نستشف من بحوثه في الموضوع ذاته أن التسامح لا ينطلق من نقطة ضعف ولا ينتهي إلى قسوة. وهو هنا يمثل قيمة التسامح النوعيّة فلو عدنا إلى التجارب الناجحة في فكرنا العربي والإسلامي لوجدنا أن السنة المحمدية تحتوي تسامحا كبيرا وواسعا في فتح مكة مع من سببوا قتل عمه، وحين قدم زعماء القبائل يسلمون أبقاهم النبي في مناصبهم تلك ليستفيد من خبرتهم في الدولة الجديدة، وهذا يعني أن الباحث الغرباوي لا يعنى بما يسمى مبدأ الاجتثاث، ولا يفكر فيه، ففي فلسفة غيره من المفكرين يتأسس الاجتثاث على رفض كل من شارك في العمليّة السياسية السابقة، نعم إننا لا ندعو إلى مسامحة من اقترفوا جرائم بحقّ المجتمع غير أننا لا يمكن أن نعاقب الجميع، ولنا مثال واضح في العمليّة السياسة التي جرت في العراق بعد الاحتلال حين دفعتنا آلامنا ومآسينا التي تسبب بها النظام السابق إلى الإلغاء والاجتثاث والثأر غير المنضلط انهارت الدولة بكاملهاوجرت عمليات انتقام وانهارت البنى التحمية إلى درجة أن بعض الباحثين رآى  أن نظام الدولة المنضبط لن يعود إلى البلد في فترة قصيرة.

هذ فيما يخصّ الفرد، أما فيما يخصّ المجتمع نفسه فهناك الخصوصيّة العرية التي تستند إلى الموروث القديم ويلتزم بها المجتمع العراقي منها على سبيل المثال الثأر وغسل العار، بعض هذه العادات أصبحت تفرض نفسها على القوانين الحمومية فيكون لدى الدولة قانونان واحد رسمي تلتزم به الدولة هو الذي يتضمنه الدستور  للمساواة بين المجتمع وقانون العشائر المتعارف عليه منذ عصر ماقبل الإسلام. وأقرب مثال على ذلك حين تعفو الدولة عمّا تسميه مثلا خائنا لكن العشيرة ات تقنع بالعفو لأن عمله جلب عليها العار،فتخضع الدولة لقانون العشيرة المتعارف عليه وتضطر الدولة إلى أن ترضخ للأمر الواقع.

إن مفهوم التسامح حسب رأي المفكّر الغرباوي  يميل إلى الاستفادة من عامل الزمن واستغلال تثقيف المجتمع وجعله حضاريّا أكثر من كونه عشائريّا، ومجتمعاتنا العربيّة ومنها العراق تحتاج إلى وقت تتمّ فيه إعادة بناء المواطن حضاريا فما وجدناه من سلوك حسن مواكب للعصر ساعدت الدولة على بقائه وما وجدناه سيئا أوقفناه ثمّ محونته بسلوك حضاري مواز وإن تطلّب ذلك وقتا.

تبقى النقطة الثالثة في مفهوم التسامح وهي حلّ الخلافات  بين الشعوب للعيش بسلام، في هذا الموضوع يركز الباحث على أن تسعى الشعوب بخاصة المتجاورة إلى حل كل خلافاتها بالحوار، يجب أن يكون هناك لقاء حضارات، وتلاقح حضارات وليس صدام حضارات .إن الحضارات لاتتصادم بل تتلاقى، فما زلنا حين نتمعن في فكر الغرباوي التسامحي نجد أن المنطق الأرسطي وهو نتاج وثني  أبدعته الحضارة اليونانية يدرّس ويطبق في كل جامعات العالم ومنها جامعاتنا الإسلامية كالأزهر والنجف وقم والقيروان، فهذا النتاج الحضاري الوثني يلتقي مع الفكر الإسلامي،ويتفاعل معه فهو نقطة التقاء لا افتراق وعداء والأمثلة كثيرة  لا تعدّ ولا تحصى.

المفهوم الثاني: العقلانية

الذي يطّلع على فكر الغرباوي من خلال مؤلفاته يجد أنه فكر عقلاني، يدعو إلى المزاوجة بين ثلاثة حقول: الدين والديمقراطية والسياسة، فهو لا يدعو إلى فصل ذلك المثلث، ليسلب المجتمع من تراثه وفكره، فلاخوف على ضياع الدين لأنّ الأمة نفسها هي حاملة الفكر الديني، ويمكن أن يكون الدين عامل حسم في المجتمع يمكن أن يفرقه أو أن يجمعه، وقراءة ماجد الغرباوي تتمثل في قراءة النصوص الدينية البعيدة عن العنف وفهم مشاهد العنف في القران الكريم على أنها جاءت في وقتها ولأسباب لذلك نحن نفهم الدين على أساس أنه كائن حي، يمكن إحياؤه بالتركيز على منابع التسامح فيه ونشرها والتأكيد عليها بداعي الدعوة إلى الأخوة مساواة بين أخ الدين وأخ الإنسانية والمواطنة،والسياسة نفسها يمكن أن تستفيد من الدين من خلال مبدأ المساواة بين المواطنين واختيار الأكفأ لوظيفته، على وفق رأي ماجد الغرباوي أن اليهودي يمكن أن يصبح وزيرا إذا كان كفؤا والمسيحي ورئيس الدولة المنتخب المسلم هو ممثل لكل الأديان والطوائف، فهو  يتعامل مع الأزيدي بصفته أزيديا لا مسلما وكذلك مع المسيحي والمندائي واليهودي ليشعر الناس بالأمان وليشعر المجتمع أن أساس الحكم فيه هو العدالة لأن العدالة هي السمة المشتركة في كل الأديان ومنها الدين الإسلامي .

إن كثيرا من الباحثين رؤوا صعوبة بين توحيد أضلاع المثلث (السياسة والدين والديمقراطية) لكن لوتعمقنا في فكر ماجد الغرباوي لوجدنا أنه يمكن الجمع بين تلك الأضلاع المتنافرة من خلال التركيز على ما يبدو لنا أنه إيجابي وتاويل مشاهد العنف في الدين على أساس أنها وقتية أو لها مدلولات رمزية بخاصة إذا جاءت تلك المشاهد في الكتب المقدسة (التوراة العهد الجديد القرآن). أما في سير الأنبياء والتاريخ فالمجال واسع للرفض والشك في كل ماهو يثير الشحناء والبغضاء والعداوة بين االمجتمع، فالقراءة الخاطئة للدين أدت بنا إلى دمار هائل وقد تحقق ذلك حين قرأ الماضون ومن عاشروا النبي فكثرت الحروب بينهم وقتل بعضهم بعضا فكانت الضحايا بالآلاف قياسا إلى نفوس ذلك الوقت.

المفهوم الثالث: التجديد

يفهم المفكر الغرباوي التجديد على أنّه فهم للواقع المعاصر وموازاته بما يناسبه، وهذا مانجده في القرآن الكريم في باب الناسخ والمنسوخ. إن الغرباوي يؤمن بالثوابت الأساسية كأصول الدين وهي التوحيد والنبوة والعدل الإلهي، وغيرها وكذلك بالأفرع مثل الصلاة والصيام والحج أمّا التجديد الذي يؤمن به فهو في الحقول التالية:

1 – الاقتصاد.

 2 – الاجتماع. خاصة نمط تفكير المجتمع والعادات والتقاليد.

3 – السياسة.

من هذه الفروع الثلاثة يمكن أن نجد علاقة بين الدين والديمقراطية والعلم فما هو خارج عن العلم في موضوع العادات فعلينا إلغاؤه، وماهو غير مناسب من موضوع اقتصادي قديم وجدناه في عصر البعثة وما بعدها فيمكن تغييره، على سبيل المثال قضية الزكاة والخمس لتحقيق العدالة ومجتمع الرفاهية يمكن زيادة نسبة الضرائب، وإيجاد ضرائب أخرى مساعدة، إن المجتمع يتطور ولا يمكن أن نبقى على الموروث الاقتصادي الوارد إلينا من عصر صدر الإسلام من دون أن نغيّر فيه لأنه موضوع لا يخص الأصول بل المعاملات والاقتصاد.

***

د. قصي الشيخ عسكر – روائي وناقد

 ..............................

* مشاركة (8) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

المفكّر التنويري والباحث ماجد الغرباوي غنيٌّ عن التعريف، فبحوثه ودراساته، وحواراته في مناقشة الفكر الديني، والمقدّس التاريخي، والأخلاق، والكمَ الهائل من التفسيرات والتأويلات المختلفة، وعلاقات كلّ ذلك بالعقل البشري، والعمق الزمني، وما استجدَّ من حقائق وتغيّرات في البنية العقلية الجمعية والفردية، وكذلك منْ خلال التطور الإنساني، وطرح أفكاره ورؤاه مستنداً الى علمه وخلفيته الثقافيه والدينية والعامة الغنية، وهو ما نجده في بحوثه ودراساته التي تحمل في طياتها موقفه العقلي التنويري في النظر الى هذا التراث الغزير، وبجدارة واقتدار، بحيث تصبح تراثاً فكرياً مضافاً ذا تأثير بالغ على المتابعين والمهتمين بالتاريخ الثقافي التراثي للأمة، وتداعياته وأثره البالغ في التكوين العقائدي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والسلوكي، وإلى حدّ التطرف عند البعض، وإلغاء الآخر المختلف. وهذا الفكر التنويري عند المفكر الغرباوي في غاية الأهمية؛ فهو ماتحتاجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية الواقعة في مركز اهتمام الصراع الأيديولوجي والسياسي في هذا العالم المضطرب، ونظرة هذا العالم تجاهنا وتجاه عقائدنا وقناعاتنا، وفي موقفه العام من الحضارة الإسلامية والعربية في عصورها المزدهرة.

لم يكتفِ الغرباوي بمنجزه الفكري الثقافي فحسب، بل خاضّ غمار الفنون الأدبية بأجناسها المتعددة، فقد كتب الشعر، بشكله الحديث، وهو ما يُسمى بقصيدة النثر، كما كتب القصة القصيرة أيضاً، وبإبداع ملحوظ. نلاحظ في هذا الجانب من منجزه الثقافي أثراً ممّا يكتنزه من ثقافته الفكرية الفلسفية والنفسية، ومن تخصصه الذي ذكرناه سالفاً. ولنا قراءة نقدية نُشرِتْ على صفحات صحيفته الغرّاء (المثقف)، وهي في قصيدته "مديات حلم". فهو مجاهدٌ بالكلمة، مثلما جاهدَ بالفعل، وكما قالَ نبينا الكريم في حديثه الشريف:

"مَنْ رأى منكم مُنكَراً فلْيُغيّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانِهِ، فإنْ لم يستطعْ فبقلبهِ، وذلك أضعفُ الإيمان."

ومفكرنا الكبير ماجد الغرباوي مجاهدٌ بالثلاثةِ: فعلاً، وقولاً (الكلمة والكتابة)، وقلباً (الإيمان الصادق). وذلك مشهودٌ له. ومِنْ جهادهِ الكبير إصدارُهُ صحيفة المثقف الغرّاء (اللسان الناطق بالحقِّ والتغيير ونشر العلم والابداع الإنساني)، والتي أصبحت منْ أهمّ ركائز الثقافة العربية فكراً وعلماً وثقافةً وفنّاً أدبياً، إذ اجتمع فيها كبارُ المبدعين العرب في شتى مجالات المعرفة والثقافة والأدب، وبمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية والإبداعية. وما زالت الصحيفة تواصلُ مهمتها الكبيرة بنشاط وفعالية، دون كلل أو ملل أو تقاعس. وهذا بفضل ربانها المجاهد ماجد الغرباوي، بجهدٍ مشهود، وإصرارٍ معهود.

العقل التراثي

مِنْ طروحات المفكّر ماجد الغرباوي المُصيبة والدقيقة إطلاقه مصطلح (العقل التراثي) في الإشارة الى تقديس التراث كمرجع فكري سياسي اجتماعي اقتصادي، والاستشهاد به كمثال مُقدّس لتطبيقه على واقع جديد ينمو، ويتطور كلَّ يوم، بفعل عقلي يتجدد دائماً، وبتاثير الزمن المرتبط بالنمو العقلي الإنساني، والخَلْق البشري في إبداع ما يتناسب مع هذا التطور. والتقدّم التكنولوجي هو المثال والمعيار لديناميكية العقل. لكنَّ العقل التراثي الذي يرى الماضي مثالاً هو العقبة المانعة في مجتمعاتنا لمواكبة هذا التطور، ومنعه من الوصول الى مجتمعاتنا، في محاولة لكبحه، وتطبيق المثال التراثي على واقع بعيد في تطوره العقلي والتقني المؤثر. لذا نعيش هذا الصراع المُرعِب، الذي أوصل بلداننا الى ما وصلت اليه. لكنْ بالمقابل استلهام العِبَر من التراث، وفهمه بدقة عقلية، وفق زمنه هو اضافة تراكمية، كما أشار الغرباوي، الى المعرفة والدفع الى الأمام.

ولذا، من خلال المتابعة والرصد، نجد الكثيرين مِنْ حَمَلة التراكّم التراثي الذين ناضلوا في تقديسه، والعمل على تطبيقه في الحياة المعاصرة كمثال يحتذى به، وتأكيد على مصداقية ما يدعون اليه، والاستشهاد به وبنصوصه كحقيقة أبدية خالدة، حين تعمّقوا ودرسوا واستفادوا ثم أشغلوا عقولهم ومقارناتهم، وبحكم وعيهم المتقدِّم وثقافتهم الواسعة وعقولهم المنفتحة، وتربيتهم النفسية والروحية، أخذوا بالعقل النقدي والتشريح النصّي؛ ليصلوا الى قناعة الإيمان بالتطور العقلي الإنساني، وعليه التطور الحياتي فكرياً لخلق حياة جديدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، تتلاءم مع الزمن المُتغيِّر المرتبط بتغيُّر الفكر المناسب للواقع الجديد. وهذا خيرٍ لمجتمعاتنا والإنسانية؛ لامتلاك هذه العقول لخبرة المعرفة الواسعة فكرياً، والقادرة على الاستلهام والتفكيك لمرجعية العقل التراثي الساكن غير المتحرك. والأمثلة عديدة من هذه الأسماء التي انتقلت من التراثي المقدَّس الى التراثي المتحرِّك. وبالمقابل كان هناك المتحرك الديالكتيكي الذي تحوّل الى التراثي الساكن غير المتحرِّك، والدكتور محمد عمارة أحد الأمثلة.

فالنشاط الفكري النقدي للغرباوي، ومحاولته هزَّ هذا الساكن وتحريكه، هو مِنْ حسن حظّ الفكر العربي الإسلامي المعاصر. وهو جهد كبير، وجهادٌ بالعقل والفكر للوصول الى التنوير المُرتجى الذي يرفع الأمة مما هي فيه منْ كبوة.

***

عبد الستار نورعلي

 ..................................

* مشاركة (7) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لم ألتقيه ولم أحاوره وجها لوجه ولاعبر الهاتف، لكنني اشعر انه كان يحاورني على الدوام، بطريقة شفيفة وملهمة، يعيش خارج مدننا المتعبة وخارج أوطاننا التي سكنها التكلس المعرفي وان كانت تنتج كتبا ودراسات كثيرة نسبيا، البعيد بالوطن والقريب من هموم ابناء جلدته وأبناء وطنه، قرأت اسمه بالصدفة في كتابه (المرأة والقرآن)، الذي كان كتابا حواريا بين د. ماجدة غضبان وبينه، في قضية المرأة في القرآن الكريم، اقتنيته من احد معارض الكتب التي تقام في النجف قبل عشر سنوات تقريبا، كنت ومازلت أهتم بالكتابات التي تناقش وضعية المرأة في القرآن والحديث والفقه لمجال اختصاصي الفقهي ولكوني ارأس جمعية تعنى بقضايا المرأة، قرأته في يوم واحد، ان أهم ماوجدته في الكتاب أنه يعترف بوجود مشكلة في فهم قضية المرأة عند المسلمين، وأن ليس كل ماهو مطروح في الكتب التقليدية والعرف السائد هو يمثل حقيقة القرآن الكريم.

ثم فيما بعد اكتشفته من خلال منبره الثقافي الذي كان قد أسسه: المثقف، فكان منبرا لنا جميعا، من كل مشاربنا المتصارعة في بلادنا، كان الفضاء المتعالي الذي يليق بالمثقف الناطق والكاتب بالعربية، هذه المنبر لوحده يكشف عن نزعته التجديدية وانشغاله في خلق جو ثقافي محايد للكتّاب العرب. نشرتُ مقالات عدة فيه، فكانت مراسلاتي الرسمية عبر ايميل الموقع قد كشفت لي عن روح صاحبها الطافحة بالمودة والمحبة، تفيض على المتعاملين معه والناشرين في موقعه الالكتروني، فكان يشعرنا بأننا أصحاب الفضل على الموقع وليس العكس.

ثم فيما بعد تابعته عبر صفحته في الفيسبوك، فاكتشفت كاتبا ومحاورا من الطراز الرفيع في نقد التراث، وضرورة التعامل الوسطي معه، فهو لايركن التراث على جنب مهملا له بالمطلق، لكنه لايقدسه كما لو كان معصوما كله .

كتبه العديدة التي تعاقبت كشفت عن ولع معرفي نقدي بالتراث الاسلامي الذي صار متصلبا وجامدا وغير قادر على تقديم الحلول للجيل المعاصر ولايتماشى مع تطلعات أبناء الحضارة المعاصرة . كان يحرث في حقل ملغّم، يقدم رؤى حديثة ومتسامحة تتسم بالوسطية، ودعوة الى ربط الشريعة بالأخلاق، ومقتضيات الحكمة، بحثا عن منهج جديد يحل الإشكالية المعاصرة التي ترى ان الفقه الإسلامي لم يعد يواكب العصر ولايقدم حلولا ناجعة، فلماذا تبدو هذه الاحكام بعيدة عن الأخلاق؟ فكيف نبرر منهج العلاقة مع الآخر المخالف لنا في الدين؟ كيف تساق أحكام الردة واحكام غير المسلم اليوم؟

لماذا هي متعالية على النقد، ولماذا تقذف هكذا في وجوه المعاصرين دون ان تراعي الأخلاق في قضايا المرأة أيضا وجعلها تبدو كما لو كانت أداة لاروح فيها بيد هذه الأحكام القاسية التي تنتقص من كرامتها وإنسانيتها، مستبعدين كون الفقه جهدا بشريا قابلا لإعادة القراءة والإجتهاد، كما ان التجربة الدينية لاتعني حصرية الفقه هذا، بل هي تجربة روحية فردية خاضعة لعلاقة الإنسان وخالقه، فلايمكن سلب التدين عن الإنسان الذي لايطبق الشريعة كما يراها الفقهاء التقليديون.

إن إعادة الإجتهاد مسألة حيوية وضرورية في يومنا هذا، لابد ان تتظافر الجهود الكثيرة في إنجازها .

هو من الأصوات التي لاتجد صداها الافي قلوب عاشقة للحق الناصع غير المرمّز، صوت يكره الزيف والتصنع والمباهاة الفارغة . هو قلم يصدح بالجديد، لكن البيئة العربية بيئة غير قارئة وغير حاضنة للفكر المخالف للسائد، لايتلقف الجديد من الأفكار فتظل عالقة في الكتب، مع أن خلاص المجتمعات العربية يكمن في مثل هذه الأوراق وهذه السطور المكتوبة عبر تجربة غنية وقراءات فكرية كثيرة ناضجة .

تكشف كتابات الغرباوي إطلاعا واسعا على مختلف التراث الإسلامي الفقهي والقرآني والكلامي والفلسفي، مع إمتلاكه الحس النقدي المطلوب أثناء الكتابة والإطلاع.

يبدو أن الصمت يرافقه من خلال صورته التي تظهره صامتا بابتسامة هادئة، لكنه صاخب الفكر يحدثنا بغزارة منقطعة النظير في عمقها وسلاستها في آن واحد. انه يحمل قلما سهلا ممتنعا، مع ثقافة غزيرة مصبوبة بقوالب لغوية غير معقدة، ليستطيع ان ينهل من فكره كل طالب علم ومعرفة وكل متطلع ليفهم هذا التراث الذي مازال مؤثرا في حياتنا الى اليوم، وهذا مايؤرق الباحث الغرباوي؛ خطورة هذا التراث غير المنقح الذي أمكنه ان يشظّي العالم وجعل المسلمين يبدون كأرهابيين يخشاهم العالم الحر . إن تشعب القضايا بين المصالح السياسية والجماعات الإرهابية المسلمة جعلت من هذا الدين يبدو للآخرين دينا إرهابيا يدعو للقتل وانتهاك حياة الأبرياء ولايحترم حقوق الإنسان، ولذا يقع على عاتق المفكرين المسلمين وأصحاب القلم الواعي منهم؛ أن ينبروا للدفاع عما آمنوا به من دين يدعو للتسامح واحترام الإنسان بما هو إنسان . وهذا ماعمله السيد الباحث ماجد الغرباوي بوعي وثقة وحرص فوق العادة .

نسأل الباري تعالى ان يديم له الصحة والعافية ليتحف العالم الإسلامي بجديد علمه وفكره النير .

***

د بتول فاروق / استاذة الدراسات العليا في كلية الفقه / جامعة الكوفة

١٧/ ٢ / ٢٠٢٤ 

.................................

* مشاركة (6) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تعايشنا مع صحيفة المثقف منذ زمن طويل حين وجدنا فيها الأستجابة والانفتاحية التامة مع افكار التنوير التي اصبح المجتمع العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص بحاجة ماسة اليها بعد هذه الهجمة الشرسة التي واجهها الوطن من أعدائه التقليديين .

المفكر الغرباوي واحداً ممن يدقون نواقيس الخطر والتنبيه في عالمنا العربي الجريح الذي شغل عن كل شيء الا عما يربطه بالملهيات والمغريات، الا انه لا يفقد الامل في وجود من يستطيع القيام بالبحث والتدقيق في واقعنا الحالي المهان ليصحح كل ما يحناج الى تصحيح.. وما يحتاج من تصفية مما شابه من عدم الدقة، في تسليم الامور لغير مستحقيها حتى اوصلونا الى حافة الهاوية والعدم والتهديم.

يعتبر ماجد الغرباوي هو احد مفكري العصر الحديث، وواحدا من الذين وعوا مشكلة الانسان العربي حاضره ومستقبله موضع درس عميق، واطلق العنان للبحث في مشكلته، حين فتح المجال لمجلته المثقف ان تنشر كل ما يهمه اليوم لتخليصة من ازمات الزمان، ليفتح للانسانية ابوابا واسعة للتفكير والتغيير، تمهيدا لثورة طويلة بعيدة المدى في الفكر والنظم السياسية والتشريعية والاجتماعية ..كما بدأت بالثورة الفرنسية ولا زالت مستمرة ليدخل وطنه في عصر الحضارة الجديد.

صحيفة المثقف تقدم قراءة معاصرة، ونظرة جديدة للاسلام والعروبة، تنطلق من خصاص اللسان العربي، وقوفا على الارضية الفلسفية والمعرفية للقرن الحادي والعشرين، وهو يعرض بكتاباته وتآليفه الرصينة وجهة نظر جديدة الى الوجود والمعرفة والتشريع والاخلاق والجمال والاقتصاد والتاريخ، يستنتجها من آيات الذكر الحكيم ومن قراءات المختلفة: أخذا بعين الاعتبار شمولية الاسلام التي جاءت من حنيفية التشابه بالحدود.

من كتاباته يتبين لنا ان العمود الفقري للعقيدة الاسلامية، هو قانون الصيرورة (نظرية التطور) حيث تكمن عقيدة التوحيد، وقانون تغير الاشياء.. وفي كتاباته المستمرة يحاول ان يتوصل الى وضع منهج جديد في اصول التشريع الاسلامي، القائم على البينات المادية، واجماع الاكثرية، وان حرية التعبير عن الرأي وحرية الاختيار، هما اساس الحياة الانسانية في الاسلام.

من هنا لا يمكن فهم حضارة الاسلام اليوم دون الالمام بهذه الاراء وما ينتظر لها من تطورفي مستقبل الزمان. ولا احد يستطيع التحدث عن هذه المفاهيم الثقافية والعلمية والاجتماعية الا بعد الاطلاع على دراسة كتبها ومحتواها.. وهنا احسُ ان الاخ ماجد هو واحد من الذين توفرت فيه هذه المزايا والخصال، نرجو الى المزيد من فتح ابواب الاراء والأفكار الواسعة للتفكير اكثر لنقل الاسلام الى واقع القناعة المبنيى على الحجة بالدليل، بعد هذه الهجمة لنقد الاديان والتي تطالب بقراءة معاصرة للدين وتفسير جديد للقرآن خاصة وان اللغة نظام لربطا لكلمات ظلت ترادفية عند المفسرين الاوائل وهي مرحلة تاريخية قديمة كانت فيها الفاظ اللغة العربية تعبر عن التفكير القائم على ادراك المشخص ولم تكن التسميات الحسية قد استكملت في تجريدات..

فهل سنجد في فكر ماجد الغراوي ما نأمله من التغيير..

واخير أسأل الله ان ينفع الناس بهذا الفكر الآخاذ نحو التغيير لخدمة العلم واهله وهو يستحق مكانة التكريم.

***

د.عبد الجبار العبيدي - كاتب وباحث

 ................................

* مشاركة (5) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

قراءة نقدية في ثلاثةٍ من نصوصه القصصية

قبل أن أعرض على القرّاء الأعزّاء، ما دوّنته من أفكار وآراء وانطباعات وتحليلات، فيما يخصّ مضامين ودلالات النصوص القصصية، التي نشرها الأديب والمفكر التنويري الأستاذ ماجد الغرباوي، رأيت ان اشير إلى أنّ ما حفّزني، وشجعني على الكتابة، هو قناعتي بأنّ هذا اللون من السرد القصصي، يختلف أسلوبا ومضمونا عن الكثير مما قرأناه من قصص وحكايات . فالغرباوي لا يطرح تصوراته وأفكاره فحسب، بل يحاول أن يحفّزنا على التفكير بطريقة معينة، وأن نقوم بأنفسنا بالتوصل إلى الإستنتاجات المقنعة، القريبة من روح النص، والدلالات التي يمكن أن تتمخض عنها القراءة الفاحصة المتأملة للمحتوى.

القصة هنا ليست مجرد سرد لأحداث، القصد منها التشويق وإشباع رغبة القارئ في الترفيه والمتعة، بل هي طرح لتساؤلات وأفكار ومفاهيم.

الغرباوي ينحو في نصوصه القصصية منحىً فكريا فلسفيا، وهذا ما حاولت أن أوضحه في مقالاتي التالية:

 

إشكالية الموت والحياة في قصة (وانشقّ القمر) للأستاذ ماجد الغرباوي

الإنسان بطبيعتهِ يخشى الموت، لأنه نهاية لما يسمى بالحياة، والتــي بالنسبة له ديمومة البقاء على هذه الأرض ، فبمجرد التفكير بالمــوت يجعل الإنسان فريسة للقلق ويعكّر صفو حياته. وأحيانا يولّد عنـــــده فكرة اللامعنى واللاجدوى في نظرته الى الحياة والوجود. وهـذا ما رآه أونامونو حين قال: " وأنا حين أجد نفسي مستغرقا فـي دوّامــة الحياة ــ مع ما يقترن بها من هموم ومشاغل ــ أو حينما أجـد نفسي منهمكا في حديث مشوّق أو في حفلة مسليـــّة، فإننــــي لا ألبــث أن أن أكتشف ــ على حين فجأة ــ أنّ الموت يحوم حولي، ويحلّق فوق رأسي! أستغفر الله، لا الموت نفسه، بل شئ اسوأ مــن الموت: ألا وهو الإحساس بالفناء، وهو ذلك القلق الأسمى الذي مابعده قلق" (1).

أمّا الفيلسوف الفرنسي الفرنسي باسكال  pascal فهــو يتجاهــــل التفكير في الموت او يتناساه، كما يفعل غالبية الناس فيقول: " إنّه لما كان الناس لم يهتدوا إلى علاج للموت والشقاء والجهل، فقـــــد وجدوا انّ خير الطرق للتنعّم بالسعادة هي ألاّ يفكروا في هذه الأمـور على الإطلاق (2).

وقريب من هذا المعنى ما قاله لاروشفوكوla Rochefoucauld :" إنّ ثمّة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت " !في أ دبنا العربي يفسّرلنا الشاعر المتنبي ظاهرة الخوف من المـوت في البيتين التاليين:

إلفُ هــذا الهواءِ أوقع في الأنـ  

 فسِ أنَ الحمــام َ مرُّ المــذاقِ

*

والأسى قبلَ فرقة الروحِ عجزٌ  

 والأسى لا يكونُ بعـدَ الفراقِ

فحسب رأي المتنبي يعود خوفنا من الموت الى اعتيادنا على الحياة، أمّا الموت نفسه فهو ظاهـــــرة، شأنه شأن الحياة، سواء بسواء، لا تستدعي الخوف.

الشاعر الانكليزي المعروف جون ملتن يصف لنا في ملحمتـــــــه الشعرية (الفردوس المفقود) مشاعر الإنسان وانطباعاته تجــــاه ظاهرة الموت، عندما يتعرف عليها لأول مرّة، وذلك على لسان قابيل، الذي قتل أخاه هابيل في بيتي الشعر التاليين:

سكنتَ وأبطلَ فيك الحراك 

   وهل ماتَ حيٌ اذا ما سَكَـــــــنْ

*

ألا لمْ تمُــتْ رغم اني رأيتُ

    بوجهك معنى يثيــــرُ الشجَـــنْ

نستنتج من البيتين السابقين أنه لا وجود للموت إلاّ في تصوراتنا، فبطلان حركة الجسم، لا تعني الموت إطلاقا،  وقد أدرك قابيــــل ذلك بفطرته. وقد أكّد هذه الحقيقة الأستاذ الغرباوي فــي معرض ردّه على تعليقي على نصّه، الذي نحن بصدده الآن حيث أفــــاد:

" كما تفضلت لا وجود للموت إلاّ في تصوّرنا، فهو كما يــــــرى بعض فلاسفة المسلمين انتقال من حالة الى حالة، وهذا الكلام وفقا للنظرية الاسلامية تام وصحيح. أمّا في الفلسفات غير الإسلاميـة، فالموت هو العدم المطلق. وهنا يظهر الفارق، ومدى تأثيره علـى سلوك الإنســان في الدنيا . فمن يعتقد (ويؤمن حقيقة) بوجود يوم آخر، يتوفر على وازع داخلي، يردعه عن ارتكــاب المعاصي، ويدفعه الى عمل الخير والإحسان.. ومهما كان رأينا حــــول هذه الظاهرة، لكنها تبقى هاجسا، تهز مشاعر الإنسان متى تذكرها "اذا ً يرى الغرباوي انّ الموت ما هو إلاّ عملية انتقال من حالـــــة الى أخرى . لكن ما طبيعة هذا الانتقال والتحول؟ تضاربـــت الآراء وتنوعت الفلسفات بخصوص هذا الموضوع. ففلسفة الكارما الهندية تعتقد بتناسخ الأرواح، التي تعود الى الحياة من جديد وتحل في كائنات تحمل صفات مقاربة لصفاتها. امّا مسألة الثواب والعقاب بعد الموت فهي تؤكد على أنّ الإنسان يصنع مستقبله على ضــــوء طبيعة عمله . فالحياة مستمرة وهي لن تنتهي اذ اما غادر الجسد هذا العالم إلى عالم آخر، وما الموت إلا جسر نعبر عليه الى الشاطئ الآخر. وقد لمّح جبران خليل جبران بشكل رمزي الى معنــــــى الثواب والعقاب، المرتبطين بسلوكنا وأعمالنا فقال في بيت رائع:

والموتُ كالبحرِ من خفّت عناصره

يجتازهُ وأخو الأثقالِ ينحدرُ

الأديب الأستاذ الغرباوي حين يدلي برأيه في مسألتي الحيـــــــــــاة والموت من خلال حوار أو مناظرة فهو مباشر وواضح، لكنّه حين يعالج هاتين المسالتين أدبيا وفنيا، فهو يقودنا عبر غابات كثيفــــــة ويحثنّا أن نتسلّق قمما سامقة ثم يدعونا أن نهبط معه الى وديــــــان عميقة. إنّها رحلة الإثارة والإستغراب!.. فهو يثير في نصّـــــــــه القصصي (وانشقّ القمر) مسألة الموت باسلوب، يّتّسم بالغرائبية وينحو منحى رمزيّا، لا يخلو أحيانا من بوح مكشوف عن المشـــاعر والأحاسيس، التي تنطلق من أعماق الإنسان، وهو يقف وجها لوجه أمام الموت.

في القصة يهاجم الموت الشخصيّة الرئيسية ويتسبب في مــــــوت النصف الأيسر منها، فيستمـــــرّ النصف الآخـــر يتفحــــص بيـن المحروقات أملا أن يعثر على النصف المفقود. وفي غمرة الذهـول والذعر، تتناهى الى سمعه كلمات مصدرها النصف الآخر. وهنــا ينقلنا الكاتب بخياله الى النقطة، التي يتداخل فيها الموت مع الحياة .فالمعروف انّ القلب يقع في الجانب الأيسر من جسم الإنسان، وهـو مصدر الحكمة والمعرفة، والكلمات، التي انبعثت من بين ركـــــام المحروقات، هي دليل على استمرار الحياة بعد الموت. إلاّ انّ الكاتب يتركنا فـــــــي دهشتنا و دون أن يعطينا جوابا مباشرا يقطــع الشكّ باليقين وهـــذا جزء مـــن الآليّة الفنيّة، التي اعتمدها في هندســــة نصوصه القصصية، والتي لمسناها في قصص سابقة.

الغرباوي كما ذكرت في مقالاتي النقديّة السابقة حول بعض قصصه، يمثّل منهجا جديدا في فنّ القصة الحديث، يتضمن عناصر مبتكرة من بنات أفكاره، وهي تحمل بصمات شخصيته الأدبيّة المتميّـــــزة في هذا المجال.

***

الوجه الآخر للبطلة في (حافات قلقة) للأديب ماجد الغرباوي

قبل أن أخوض في إشكاليات النص القصصي (حافات قلقة) للأستاذ الأديــــب ماجد الغرباوي، رأيت أن أسلط الضوء أولا على ملامح أساسية في النــــص استوقفتني قبل كلّ شئ. أولها ذلك الإيجاز الموحي الذي امتاز به النص، فقــــد تحاشى الكاتب السرد الطويل، الذي يلجأ اليه عادة الكثير من كتّاب القصـــــة والروائيين بما فيهم بعض المشهورين منهم. كان إيصال الفكرة عبـــــر أقصر الطرق هو الهمّ الشاغل للكاتب، الذي حاول بأقل ما يمكن من السطور أن يلحم المضامين ويضعها في إطارها الأخيرمع الحفاظ على عنصر التشويق، الذي يشدّ القارئ الى النص.

الجانب الثاني الذي استأثر باهتمامي هو رمزيّة النص، هذه الرمزيّة فتحت الباب على مصراعيه لتآويل كثيرة وتفسيرات شتّى، وبقيت رغم كلّ تلك التآويل والتفسيرات المحتملة تحتفظ بملمح أساسي لها وهو تنبيه وتحفيز القارئ للبحث عن العوالم والحالات، التي تتقارب من بعضها البعض على قدر نسبة التشابه القائمة بينها، ممّا اعطى النص تلك الدفقة الحيويّة، التي تستثير مخيّلة القارئ .. بل تستفزّه بشكل هادئ وذكي، فالقارئ ونقصد به القارئ المثقف أمام أمرين لا ثالث لهما: إمّــا أن يرمي بشباك مخيلته على قدر ما يستطيع ليقتنص تأويلا من التآويل وهي كثيرة، وإمّــا أن يلجـأ الى التقييم العام مكتفيا بكشف الجانب الاستطيقي(الجمالي) للنص.

بعد أن اشرت الى هذين الجانبين المهمّين أحاول ان أوضح ما استنتجته من الدلالات بعد أن قرأت النص أكثر من مرّة. من بين تلك الدلالات ذلك الصراع المحتدم بين الوهم والواقع، والذي يظهر جليّا في النص وهو يرمز من ضمن ما يرمز الى التوتر القائم على مرّ العصور بين المبدع والمؤسسة، التي تمتلك النفوذ والقدرات الماديّة. فسعاد بطلة الرواية تمثل الإبداع، فهي تأمل من خلال اعتراف المؤسسة بها أن تحقق ذاتها وبهــذا تكون قد أرضت نفسها وأرضت الآخرين وحققت هدفها المنشود. فهي تطرح نفسها كفاعلة للخير تحرص على الحفاظ على قيم الحق. والحقّ هنا يعني بالنسبة لها أحقيتها بالفوز بالجائزة .

الكاتب يطرح علينا سؤالا مهمّا ولكن دون أن يفصح عنه... فهو يتساءل ضمنيا..

ما هو الخيــر؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الخير والشرّ؟ هل ما نعمله نحن ونعتقد انّه خير هو خير في الحقيقة؟ يحاول الغرباوي أن يستثير القارئ من خلال التحوّل المفاجئ في سلوك (سعاد)، فهو يطرح علينا لغزا ويتركنا نفكّر ونراجع تصوراتنا الى الحدّ الذي يجعلنا نشكّ ونقف مشدوهين حائرين حين نواجه قناعاتنا. تبدو شخصيّة سعاد للكثير من القراء على أنها ضحيّة سلوك المؤسسة التعسفي، وانّها لجأت الى اساليب الغدر والمكر والسحر مضطرة لمواجهة المؤسسة، التي هي أقوى منها.

لكن الأمر في الحقيقة غير ذلك... فهي لما فقدت الأمل في الحصول على الجائزة، شعرت بخيبة مريرة وبدلا من ان تستمرّ في خدمة الإبداع بتجرّد لكي تستطيع أن تستمرّ في الحياة أطول، صرعها وهمها، رغم الطرق والأساليب العديدة (أساليب الإبداع)، التي ابتكرتها لردّ اعتبارها، والتي كانت سببا في نهايتها.

بطلة الحكاية لم يكن عندها الصبر الكافي ولم يكن لها هدف غير تحقيق نوازعها الإنانية، فكان إبداعها سلاحا ذا حدين انقلب عليها فعجّل في نهايتها. لقد كانت متهوّرة ولم تكن شجاعة، فالشجاعة كما يقول الحكماء وسط بين الجبن والتهوّر.وهي لم تكن فطنة، حيث انّها لم تتبيّن الحدود الفاصلة بين المناصرين والمنافقين، فقد أعماها الحقد والتعطّش للثأر، فاستعانت برجال الخصم، محاولة منها تغيير قواعد اللعبة. لقد حاولت أن تقفز على الواقع فغاصت في وحل المؤسسة، وبدلا من أن يلعلع صيتها، انكفأت على وجهها وأصبحت نسياً منسيا .

في الحكاية عبر ودروس، على القارئ أن يستخلصها بنفسه، وهي فضلا عن ذلك رحلة استكشافية سريّة في أعماق النفس البشريّة تستخدم لغة الرمز وكأنها لوحة من لوحات الرسام السريالي الشهير سلفادور دالي.

***

الدوائر اللامرئية في (قرار ارتجالي) للأديب ماجد الغرباوي

العلاقات التي تربط الإنسان بالمكان، هي علاقات من نوع خاص، تتخطى بطبيعتها الحيّز المكاني الى ما هو أبعد، وتضرب بجذورها بعيدا في أصقــاع أخرى، فتتداخل الأبعاد ويتعذر الفصل بين ما هو مكاني وما هو غيرمكاني. عندها تصبح أيّة محاولة لتتغيير المكان مشروطة بتغييرات في عناصر لا مكانية، وهنا يبرز الجانب السيكولوجي كعامل مهمّ في أيّة محاولة للخروج من الدائرة المكانية واستبدالها بأخرى. في هذه الحالة يتشكل المكان في دائرتين: واحدة شاخصة للبصر يمكن رؤيتها وتحسسها، واخرى خارج ادراك حواسنا الخمس.

في (قرار ارتجالي) للأديب ماجد الغرباوي تبدو محاولات الشخصية الرئيسية في النصّ في تخطّي المكان عديمة الجدوى وتنتهي في كل مرّة الى الفشل.

...خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان.. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد أن يلحق بالاولى، عثرت بغلته، اوشكت أن تسقطه أرضا ...

هذه هي افتتاحية النص، فمنذ الوهلة الاولى بدا تخطّي الدائرة المكانية صعبا إن لم يكن مستحيلا. فالشخصية المعنية في النص (صاحب البغلة) لا يمتلك الوسائل الضرورية، الموصلة الى الدائرة المكانية الاخرى. فما يملكه هو وسائل تنتمي الى زمن سابق، وتيرة الحركة فيه بطيئة، وتشكيلة بنيته بسيطة، فهي لا تتماشى والزمن الجديد، الذي بلغت فيه وتيرة التسارع والتسابق حدّا لم يدع مجالا للوسائل المتوارثة عن زمن سابق أن تنافسه أو أن يكون لها دور يذكر في عملية التحوّل المستمرّة .

المكان لم يعد منفصلا عن الزمان.. تداخل المكان والزمان فأصبحا واحدا. هذه هي الفكرة المحورية في النص، فالمكان لا يفهم كوحدة منفصلة عمّا حوله، وهذا ما غاب عن ذهن (صاحب البغلة)، الذي تصورالعالم على مقاس تفكيره، واعتقد انه بما لديه من وسائل، وهي أقرب الى أن تكون بدائية أن يتخطى دائرة المكان.

حينها حدث ما لم يكن في حسبانه، حيث وجد نفسه وجها لوجه أمام واقع تجاوزه . وهنا شعر بالفزع فانسحب قبل أن تصاب وسيلة تنقله وحركته بالعطب التام. فكر أن يعاود الكرّة ثانية، فلجأ الى ادخال تحسينات .. في الواقع هي تحسينات شكلية، فوسيلة تنقله بقيت كما هي وقد رمز اليها الكاتب ب (البغلة) و لم يحدث هناك أي تغير جوهري نوعي. بدأت المرحلة الثانية من مغامرته، التي انتهت به الى الحيرة مما دفعته أن يلجأ الى وسيلة تنقل اخرى، وهي ما رمز اليها الكاتب بالحصان هنا يلحظ القارئ ان تغييرا نوعيا قد حدث، حين استبدلت الوسيلة القديمة بوسيلة جديدة أكثر متانة وسرعة و لكنّ هذا التغير النوعي ما زال ضمن دائرة المكان الاولى خاضعا لشروطها ومنضبطا بروح تقاليدها المتوارثة . المرحلة الثالثة من مغامرة تخطي المكان، دفعت بصاحبها الى حالة من السخط، حيث انّ المستجدات في الحياة من حولة أشعرته بعدم جدوى وسائله، أثارت في داخله الشكوك ودفعته الى حالة هي أقرب الى الاغتراب الروحي، وهذا ما عبر عنه الكاتب في الجمل الآتية ...كان مرتبكا حدّ اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد أن قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل إلا في الظلام، أو بين المقابر...

لقد كانت صدمته كبيرة حين اكتشف انه لا يختلف عن الآخرين بشئ لكنه يشعر انه غريب عنهم .. هنالك جدار فاصل لا يمكن تخطيه، الآخرون وهم بشر مثله اندمجوا في مسيرة الحياة وراحوا يحثون الخطى بسرعة ناظرين الى الامام دون أن يعيروه اهتماما او يلتفتوا إليه . في هذه اللحظة شعر بعجز وسائله وحيله فقرر التوقف.

...كيف يواصل الطريق؟

ظلّ يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

بماذا أختلف عن تلك المرأة،

أو ذلك الرجل الطويل .....

هنا تتجسد حالة الاغتراب الروحي بكل وضوح، لااختلاف ما بيني وبين الآخرين، لكننا رغم ذلك مختلفون. هذا الاحساس يحدث عادة نتيجة صدمة يتعرض لها الفرد في حياته كما يقول علماء النفس.

في ختام النص القصصي يتعرض الكاتب الى نقطة مهمة وهي: انّ الانسان لا يستطيع أن يدخل تغييرا جذريا في حياته إلا اذا استطاع ان يغيّر تفكيره، وبدون

ذلك تبقى كل الوسائل عاجزة عن تحقيق ذلك التغيير، وقد رمز الى هذا المعنى بشكل جميل وذكيّ في العبارات التالية:

قال: أول الطريق أن أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولمّا خطى مسرعا، أعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش...

فالرباط الملفوف على الرأس هو نمط التفكير، الذي لم يفارق رأس صاحبه، رغم ما مرّ به من أحداث في مغامرته لتخطي المكان .

من خلال قراءتي لهذا النص القصصي استخلصت النتائج التالية: اولها انّ للمكان ملامح جعرافية واخرى لامرئية انطباعية تصورية، وثانيها انّ للمكان دلالة زمنية.. بمعنى ان سكان مكان معين يحملون في رؤوسهم قدرا من معارف فترة معينة ينعكس تأثيرها على المكان، الذي يتواجدون فيه، وثالثها انّ تغيير المكان والعيش في مكان آخر يستدعي تغييرا في نمط التفكير.

***

بقلم: جميل حسين الساعدي

شاعر وروائي وناقد - ألمانيا  

..............................

* مشاركة (4) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

(1) Alain Guy “ Unammume „ ;Paris Seghers، P.U.F.1964،pp. 30- 31

(2) د. زكريا ابراهيم:"تأملات وجودية" دار الآداب، بيروت،1962، الطبعة الأولى . العبارات المحصورة بين أقواس من ترجمة د.زكريا

- رابط قصة: وانشق القمر

 https://www.almothaqaf.com/aqlam-7/63486

- رابط قصة: حافات قلقة

 https://www.almothaqaf.com/aqlam-7/59267

- رابط قصة: قرار ارتجالي

 https://www.almothaqaf.com/aqlam-7/966164

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

 https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

يعرف قارئ (المثقف) أنّ الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الشؤون الدينية وداعي إصلاح وتطور وتسامح، ولكنّه لا يعرفه كاتباً وأديباً ذا أسلوب سلس رصين وجذّاب. فالأستاذ ماجد الغرباوي يتميّز بالكلام البسيط الحاذق المسبوك الذي يفهمه القارئ دون أن يتعثّر في فهمه إذا ما قرأه بجدّ وبصيرة. وهذا ما يتعلّق بأبحاثه الدينية والفلسفية والنقدية التي كثرت وفي مجالات عدّة لست أنا بصدد البحث فيها، فهي بحر عميق الغور. ولكنّي أركز على مقالة أو قـلْ، قصّة، بل ربّما هي إحدى الذكريات، وقد أعجبتني حقّاً، ليس لأنّ فيها الكثير من الحكمة والعبرة لمن أراد أن يعتبر، بل هي من صميم واقع حياتنا. فالأستاذ الغرباوي ليس باحثاً في تلك الشؤون وحسب، بل أديب وكاتب وحتي شاعراً قد يكون. سأذكر الآن أنموذجاً على ذلك، وهي (كذبة متوهّجة)

أهي قصة أم سرد أدبي خالص أم تبيان الواقع الذي يغيب عن الكثيرين من الناس البسطاء أم هي كلّها مجتمعة في ذاكرة ذلك الفتى الطموح (رعد) المتوهج عقيدة خلق بها ونشأ عليها دون إدراك حقيقتها والانجرار خلف من يدّعيها بأنّها الحياة التي يجب أن يعيشها ويحيا لها لإدراك الأمل المنشود الذي يرضي ربّه، فيأنس براحة نفسيّة طوبائية يسعد فيها البشر ويرضي ضميره. فلذا كان هذا الشاب المتّقد حيوية يجلس "قريباً من منبر الخطيب، يصغي اليه بروحه، يتابعُ حركاته، يتطلع الى حديثه بشغفٍ، تنهمر دموعه، وهو يسمع كلماته ترن في اذنَيّه، يحلق معه في عوالم غريبة." فغُرست في روحه بذرة التضحية ونمت، فتمنى أن يلحق برفاقه المناضلين في دربهم الميمون المحفوف بالحياة الصعبة من تسلّق جبال ونوم بين صخور ولا يهمهم الموت، أليس هذا هو النضال الذي كان يتمنّاه لينال حسن العاقبة والثواب! ولكنّ كاتب هذه السطور شكّك في أمرها منذ زمن ليس بقصير وقالها قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً:

هل الطريق نضالُ؟

أم النضال ضلالُ؟

*

حقـيـقـةٌ أم خيـــالُ

نمـوتُ قبـل الأوان؟

ولذا كان (رعد) متحمّساً جدّاً للّحاق برفاقه المناضلين، وخصوصاً عندما حدّثه بعض أصدقائه "طويلا عن نوري جواد، ذلك الرمز الذي هجر الأهل والأحبة كي يلتحق برفاق دربه، ويواجه الموت بنفسه." أليس عمل هذا الأخير باتّخاذه ذلك القرار هو أسمى تضحية بالراحة والمال وبالنفس العزيزة (والجود بالنفس أقصى غاية الجود). لذا قرّر أن يلتحق برفاقه (المناضلين) رغبة في الكفاح، سواءٌ أرَضِيَ أبواه أم لم يرْضيا، هكذا قال لصديقه أحمد البصري الذي سهّل له مهمّة السفر في اليوم التالي. وفي ليلة السّفر كان يفكّر ويتخيل كيف سيلتقي بذلك الشخص (نوري جواد) أهو إنسان مثلنا أم ملاك يمشي على الأرض؟ "تصوره بهالة نورانية، واخرى تصوره يمشي والملائكة تحيط به من كل جانب. وثالثا تصوره، اشعث الراس، نحيلا، وجهه مكفهر من التعب، والسهر، وقساوة الطبيعة. تصوره بِعِدَّةِ السلاح، وملابس القتال، تصوره بمختلف الاشكال." وبعد مسيرة دامت عشرة أيّام في وديان قاحلة وجبال وعرة ملتوية ونوم على الأرض، وصلوا مدينة نائية بقوا فيها بضعة أيّام ليستريحوا ومن ثّمَّ سيواصلون سفرهم الميمون المبارك إلى مواقع الرفاق. ولكن المفاجأة جاءت بعد تطوافه في شوارع المدينة، عندما شاهد صاحبنا (رعد) بناية عالية، "تحيطها حدائق غناء، وتنيرها مصابيح الكهرباء بكثافة، اشار احمد الى رجلٍ واقفٍ هناك، يحمل ملازم كتبه بيده، ببدلةٍ انيقةٍ، قد بدت عليه ملامح الترف، فسأله رعد من هذا؟"

فكان جواب أحمد صاعقاً حين قال: إنّه نوري جواد يا رعد. فتقدّم رعد بخشوع وخشية للسلام عليه وأبدى إعجابه من صمود نوري جواد طيلة هذه الفترة:

"لا يا رعد انا عادة أأتي من الطرف الاخر بواسطة سيارة، ولا اكابد اي مشقة في الطريق." هكذا أجابه نوري جواد. وهنا سأله رعد بدهشة "وهل يعني انك لم تلتحق برفاق دربك؟" وقبل أن يسمع الجواب "لاحت لرعد لوحة كبيرة فوق البناية كتب عليها "قسم الدراسات العليا!!!"

هكذا يختتم الأستاذ ماجد الغرباوي هذه القصة الجميلة، أو الذكرى التي قد تكون واقعاً على الأغلب، بل هي من صلب الواقع على أية حال، حيث تصور ازدواجية غالبية (المناضلين) أجلّ تصوير، ونحن نراهم حقيقة على الأرض يتهادون ويمشون مرحاً! والنضال؟ والتضحية بالنفس؟ تجدها في ألف ليلة وليلة! وهم يُظهرون ما ليس يبطنون، ويتراءون للبسطاء بأنّ الكفاح ديدنهم مهما كانت التضحية للتخلص من الطغاة الحاكمين ولو كان الموت موردهم. ولكنّهم لا يضحّون بأنفسهم ولا بأقربائهم، بل يدفعون الآخرين للقيام بالمهمات الجسام وهم يراقبون. وبعد أن ينالوا مرامهم فالويل لمن يقف ضدّهم، فسيقلبون له ظهر المجِنّ!

قال شيخ لبغيٍّ أنت ذي سكرى، فسُحقا

كلَّ يومٍ لك غــاوٍ فــي أحابـيـلكِ مُلقى

فأجابت: أنا يا شيـخ كما تحكي وأشقى

فأجبني عنك هل أنت كما تظهر حقّـأ؟

***

عمر الخيام (ترجمة  عبد الحق فاضل)

.............

Splittern

Dichter: Majid Al- Gharbawi

Übersetzer: Bahjat Abbas

***

Auf den Fuß der Wörter

Rollten Murmeln,

Echo

Flatterndes

Den Vogel entführt

Im Innere

Der rosigen Abenddämmerung

*

Stabil sind die Delirien

der Flöte.

Fallen

Trümmer deines Blutes.. bewässert die

Bauer des phönizischen Spiels.

Auf welchem Hafen wird Monalisa

Deine Holzstatue ankern?

*

Die Verführung lockt dich

als Vogel,

den das Meer als Phantom verlockt.

*

Rascheln deiner Flügel

lenkt Verleumdungssaiten ab.

*

Steige aus!

Reiz ist der Nachtspaß,

Er lullt die Lufts flüstern ein.

*

Der Morgenstern,

Vergossener Traum

Ködert des Regengelächters.

*

Dein Augenstrahlen

umarmt die Morgenrotwimpern,

Reduziert den Bereich.

*

Übelkeit der Buchstaben

Splitter

der blöden Gedichte

*

Der Stein ergießt sich überhaupt nicht,

Taub, stumm,

O Sie sehen nicht ein.

..................

.............................

شظايا / ماجد الغرباوي

 على سَـفَـحِ الكلمات

تَدَحرجتْ همهماتٌ

صدى

خافق يخطف الطيرَ

في أحشاء الشفقِ الوردي

*

مُستَفَزَةٌ هذياناتُ الناي

تتهاوى

حطامُ دمك  .. يروي بيادقَ اللعبةَ الفينيقية

بأيَّ مرفأ سَتُرسي موناليزا تمثالك الخشبي؟

*

تستهويك الغوايةُ

طائرا

يستدرجهُ البحرُ سرابا

*

حَفيفُ جَناحَيك

يُشاغلُ

أوتارَ الوشايةِ

*

ترجّلْ ....

ساحرةٌ دُعابَةُ الليل

تُهدهدُ همسات النسيم

*

نجمةُ الصباحِ

حلمٌ مسفوحٌ

يراودُ قهقهات المطر

*

شعاعُ عينيك

يعانق أهداب الفجر

يختزلُ المدى

*

غثيانُ الحروفِ

شظايا

قصائد بلهاء

*

لن يتفجّرَ الحجر

صمٌ، بكمٌ،

 فهم لا يعقلون ...

........................

Nuggets

In English

1

Human culture subconsciously contributes to the renewal of awareness,

Cultural openness has become a necessity in order to extract it and reshape the mind, which became obsessive with violence until it became an integral part of ones culture and cognitive structure

2

Exaggeration obscures the truth

And the most dangerous is the sanctification of religious symbols.

3

Whenever you are freed from your dogmatic inheritances, the more the face of God is revealed, the more your heart increased purity and light

4

No one is above error, no matter how perfect he is.

People would not be angels and devils, if there were no religious zealotry.

Knowing the truth depends on your ability of being impartial and objective in criticism.

5

Every doctrine that fears criticism and finds nothing but violence to suppress its opponents should disappear.

6

Take from religion its principles and values

And leave to the cleric his wangling and tricks.

.................................

Nuggets

In German (Deutsch)

1

Die menschliche Kultur trägt unbewusst zur Erneuerung des Bewusstseins bei,

Kulturelle Offenheit ist zu Einem Notwendigkeit geworden, um ihn zu extrahieren, und den Geist umzuformen, der von Gewalt besessen war, bis er zu einem integralen Bestandteil der eigenen Kultur und kognitiven Struktur wurde

2

Übertreibung verdunkelt die Wahrheit.

Und am gefährlichsten ist die Heiligung religiöser Symbole.

 3

Je Sie von Ihrem dogmatischen Erbe befreit werden, desto mehr sich das Antlitz Gottes offenbart, desto mehr Reinheit und Licht hat Ihr Herz.

4

Niemand steht über dem Fehler, egal wie perfekt er ist. Ohne den religiösen Fanatismus wären die Menschen keine Engel und Teufel.

Die Kenntnis der Wahrheit hängt von Ihrer Fähigkeit zur Unparteilichkeit und objektiven Kritik ab

5

Jede Doktrin, die Kritik fürchtet und nur Gewalt findet, um ihre Gegner zu unterdrücken, sollte verschwinden.

6

Nehmen Sie von der Religion ihre Prinzipien und Werte. Überlassen Sie dem Geistlichen seine Spielerein und Tricks.

***

شذرات

ماجد الغرباوي

1

الثقافة الإنسانية تساهم لا شعورياً في تجديد الوعي،

فالانفتاح الحضاري بات ضرورة لانتشاله وإعادة تشكيل العقل،

الذي أدمن العنف، حتى صار جزءا لا يتجزأ من ثقافته وبنيته المعرفية

2

المبالغة تحجب الحقيقة

وأخطرها تنزيه الرموز الدينية

3

.كلما تحررت من موروثاتك العقدية،

كلما انكشف وجه الله أكثر،

وزاد قلبك نقاء ونورا

4

لا أحد فوق الخطأ مهما كان مستوى كماله،

وليس الناس ملائكة وشياطين لولا التعصب الديني،

وتبقى معرفة الحقيقة رهن قدرتك على التجرّد والنقد بموضوعية

5

لترحل كل عقيدة تخشى النقد،

ولا تجد سوى العنف لقمع معارضيها

 (6)

خذ من الدين مبادئه وقيمه

واترك لرجل الدين ألاعيبه وحيله.

***

د. بهجت عباس – أديب وكاتب ومترجم

..............

* مشاركة (3) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري)..

- للاطلاع على قصة: كذبة متوهجة

https://www.almothaqaf.com/aqlam-7/966162

- للاطلاع على شذرات

https://www.almothaqaf.com/foundation/algharbawi-majed-nuggets

 

منذ سنوات وأنا أكتب في صحيفة المثقف، أتناول في مقالاتي مختلف القضايا.. وما يخطر في بالي من مواضيع سياسية وثقافية واجتماعية، دون قيود او تابوهات. أطلق لقلمي حرية الكتابة والتعبير. ولم أشعر وأنا أكتب بحاجة للحذر، فهناك حرية تسمح بالكتابة بجرأة عالية، ما لم يخرج الكاتب عن ضوابط سياسية الصحيفة. فأكثر ما يعجبني في هذه الصحيفة مساحة الحرية التي تمنح للكاتب كي يعبر عن آرائه وأفكاره بلا خوف أو تردد.

كنت لا أعرف من هو مؤسس هذه الصحيفة الجماهيرية الرائعة فقررت أن أبحث عن مؤسسها وعندما تعرفت إلى الأستاذ ماجد الغرباوي كنتُ سعيدة جداً، لأني تعرفت على قامة علمية، وموسوعة فكرية مميزة. وقد تشرفتُ بالكتابة له أكثر من مرة، فكانت أجوبته وأسلوبه في التعامل مع الآخرين يدلان على نبل وخلق الأستاذ ماجد. فيجب أن أتحدث عنه في هذا المقال، بأمانة وموضوعية. وأنقل لكم جزءا من سيرته العلمية، فهو مفكر وباحث  يسعى إلى تحرير العقل من بنيته الأسطورية ومعتقداته البالية من خلال إعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة ومن خلال تحرير العقول التقليدية من سطوة التراث وتداعياته، يشتغل الأستاذ ماجد الغرباوي في مشروعه على إنارة العقول من خلال قضايا: النهضة، نقد الفكر الديني، التسامح، الحركات الاسلامية، العنف وكذلك ما يخص المرأة والتنوير ... إلخ ، فهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية ومؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سدني، وللأستاذ ماجد مؤلفات كثيرة تصل إلى أكثر من 35 عملاً مطبوعاً تأليفاً وتحقيقاً وحواراً وترجمة . 

لقد اطلعتُ على مقالات كثيرة للباحث والمفكر ماجد الغرباوي. فوجدتها كتابات مميزة، تجعل القارئ يعيد حساباته ألف مرة، كمقالته (الأخلاق وتداعيات الاجتهاد) الذي تناول فيه موضوع  تداعيات الاجتهاد على مر التاريخ باعتباره (فقه). وبيّن أن الأخلاق معيار للفضيلة والاستقامة والتدين . كذلك مقالته عن "الاجتهاد والأخلاق " التي تناول فيها موضوع الاجتهاد من حيث كونه نشاطا عقليا وفق قواعد ومبادئ ينتهي فيها المجتهد إلى رأي في المسألة. ولعل مقالته المنشورة أيضاً في مجلة نقد وتنوير حول "الموقف الاخلاقي من التراث" من المواضيع المهمة التي تناول فيها مسألة الأخلاقي من التراث. فكان ينطلق في معالجتها من قيم ومبادئ إنسانية كونية شاملة، محايدة، ترفض القيم الأخلاقية النسبية التي تمليها نصوص تراثية وفقاً لقبلياتها الطائفية، فتهدر بذلك كرامة الإنسان الذي هو قيمة عظمى وفقاً لمنظومة ذات القيم الاخلاقية الأصلية. وكتب الأستاذ الغرباوي أيضاً عن دور الأخلاق في التشريع. وأكد أن نقد التراث يتطلب عدة معرفية، وخبرة بمناهجه ومصادره وموضوعاته.

مقالات الأستاذ ماجد الغرباوي مثيرة للاهتمام. وما نقلته، سوى جزء بسيط. انصح بمطالعتها فإنها، تثري القارئ وتضيف له وعيا جديدا.

***

سراب سعدي – أديبة وكاتبة

 

يرتجف القلم... فتتصادم أبراج الحروف وتتلجلج الكلمات وتهتز المعاني وتموج الدلالات عندما تقف في المحراب النقدي للمفكر الكبير ماجد الغرباوي بوحاً بالقيمة الإنسانية والعلمية لقامة فكرية يندر مثيلها في الفضاء الفكري والثقافي العربي المعاصر.

وقد لا أجامل ولا أبالغ إذا قلت إنّ مفهوم الثقافة والمثقف قد ارتبط عندي باسم الغرباوي الذي غمر الفضاء الفكري العربي بفيض متدفق من المقالات والأبحاث والكتب والأعمال الفكرية التي اتسمت بالطابع النقدي التنويري لمختلف وضعيات الحالة الراهنة للفكر العربي بمعطياته الثقافية والحضارية. ولا يخفى على أحد أن الأعمال الفكرية التي قدمها الغرباوي تشكل في تخاصبها مشروعا فكريا تنويريا نقديا متكاملا وضعه للنهوض بالتراث الفكري العربي القديم والحديث لتحريره من عوامل عطالته وجموده وإبراز الجوانب العقلانية الخلاقة التي تكتنفه منذ البدايات الأولى لتشكل العقل العربي في صدر الإسلام حتى يومنا الحاضر. ومن يخوض في الإشراقات الفكرية لمشروع الغرباوي سيجد ومضات فكرية فريدة من نوعها في التناول النقدي الفريد للعقل العربي الإسلامي وفي استكشاف الكثير من الجوانب الإبداعية التي خفيت على كثير من رواد الفكر العربي النقدي ممّن سبقوه في تناول هذا التراث نقدا وتحليلا ورصدا وتفسيرا.

ينتمي الغرباوي فكريا إلى جيل النقاد العمالقة الذين سبقوه أمثال الجابري ومحمد أركون وصادق جلال العظم والطيب التيزيني، وقد تميز برؤيته النقدية الفارقة للتراث والفكر العربي المعاصر في مشروعه المتجدد الذي يزخر بمعطيات منهجية جديدة ورؤية علمية مبتكرة لمختلف قضايا التراث العربي وقضايا الحياة الثقافية الحداثية المعاصرة.

وغني عن البيان أن مشروع الغرباوي الفكري يهدف إلى تحرير العقل العربي من هالته السحرية الأسطورية وتقديم فهم جديد للتراث الفكري الديني يقوم على تأكيد العقل والعقلانية ويسعى إلى تحرير العقل العربي من الدوغماتية القاتلة والمذهبيات العنصرية الخانقة التي يكرسها عقل فقهيّ نصّيّ تقليديّ يحاصر الإنسان ويدمر العقل والعقلانية في مختلف أنماط الحياة والوجود في الحياة العربية الإسلامية. وهو في سياق هذا المشروع يدعو إلى تحرير العقل العربي من أمراض الطائفية والعنصرية والتعصب وإلى تدمير مختلف المظاهر الخرافية والأسطورية التي تحاصر العقل والعقلانية منذ العصر الوسيط الإسلامي حتى اليوم. ويتضح من القراءة المتأنية لأعمال الغرباوي أن مشروعه الفكري يشكل سعيا نقديا متواصلا ومستمرا لتثوير النص الديني وتجديده في ضوء معطيات العصر بما ينطوي عليه من توجهات عصرية حداثية وما بعد حداثية. ويمكننا القول في هذا السياق إنّ مشروع الغرباوي يتميز عن غيره من المشاريع الفكرية العربية بأنّه استطاع أن يقدم رؤية عصرية للتراث وفق أحدث المناهج النقدية المبتكرة، وهي رؤية عميقة لطبيعة التفاعل بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين التراث الديني بسلبياته وأوضاع الحضارة الغربية المادية بأمراضها وعفنها. وقد حاول في تناوله هذا العمل على نقد الماضي والحاضر ونقد التراث الفقهي، ومن ثَمَّ نقد الحداثة المعاصرة في تأثيراتها السّلبيّة. وبين الاتجاهين النقديين عمل على تقديم مشروع نقدي يتميز بالخصوبة، إذ يستكشف فيه العمق الأخلاقي والقيمي للتّراث فيخاصب بينه وبين العمق العقلاني للحضارة المعاصرة. وهو في كل ذلك يسعى إلى تقديم تصور للوضع الاغترابي الذي تعيشه الحضارة الغربية المعاصرة، ويبحث في صدام الحداثة الغربية الموجعة بالقدامة التراثية في مآسيها الأخلاقية والدينية، ويحاول في اتجاه التجاوز الحضاري لأمراض التراث وأمراض الحضارة المادية على السّواء أن يعمل على تقديم تصور لمجتمع عربي يستأنس بالقيم العقلانية للتراث ويخاصب بينها وبين القيم العقلانية التواصلية للحضارة الغربية نأيا عن السلبيات التي تعانيها الحداثة الغربية المعاصرة. وهو في هذا الأمر يؤكد على أهمية النقد والمراجعة النقدية المستمرة من أجل تقديم فهم عميق متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

ويتمثل مشروع الغرباوي في  مجموعة كبيرة من الأعمال الفكرية التي يتناول فيها مختلف قضايا العصر في  ضوء مناهج نقدية جديدة ومتطورة. وإذا كان لنا أن نسرد بعضا منها فإنه  ينبغي علينا أن نشير إلى الأعمال التالية التي اتخذت لها عنوانا جامعا : " متاهات الحقيقة التي يبحث فيها عن المقدس ورهان الأخلاق وتراجيديا العقل التراثي، والمرأة  وآفاق النسوية، وتحرير الوعي الديني، ومضمرات العقل الفقهي، والفقيه والعقل التراثي، ومواربات النص والهوية والفعل الحضاري،  والنّصّ وسؤال الحقيقة، ونقد مرجعيات التفكير الديني،، وجدلية السياسة والوعي، وقراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ومن يطالع هذه العناوين سيدرك بأن مشروع الغرباوي لم يقف على أعتاب التراث لينغمس فيه، بل تحرك في أعماقه لينطلق منه إلى معالجة مختلف قضايا العصر الحداثي وليبحث في أكثر إشكالياته الفكرية والاجتماعية صعوبة وتعقيدا، ويتجلى ذلك أيضا في تناوله لقضايا الحركات الإسلامية (قراءة نقدية في تجليات الوعي)، والضد النوعي للاستبداد ،واستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، وتحديات العنف، وقضايا التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات) وإشكاليات التجديد. ولا ريب أن هذه الأعمال تشمل معظم القضايا الفكرية والسياسية والأخلاقية التي تفرض نفسها  بدرجة كبيرة من الأهمية في عالمنا المعاصر. ومن الواضح أن الغرباوي قضى حياته مفكرا ومجددا وكاتبا وناقدا لم يتوقف  يوما عن الإنتاج العلمي والفكري على مدى حياته وقد بلغ السبعين عاما من العمر.

ومن الضرورة بمكان الإشارة في هذا المقام إلى أن  العطاء الفكري الغرباوي الغزير يقوم على أسس منهجية عقلانية متجددة. ومما لا ريب فيه أن الغرباوي قد اجترح منهجا فكريا نقديا يتناسب مع تطلعاته  الفكريّة ويتميز منهجه بطابعه النقدي الذي يقوم على الرصد العميق لمختلف القضايا الفكرية التي يتناولها، كما يعتمد على التفكيك المنهجي النقدي للفكر والحفر الأريكولوجي في أعماق القضايا التي يبحثها، وهو يبحث - إذ يبحث - نقديا في أصولها ومضامينها واتجاهاتها الأيديولوجية وفي مستويات تأسيسها. ويمكن القول باختصار  إنّ المنهج النقدي العقلاني الذي نجده  عند الغرباوي يتميز بالأصالة والتفرد وينسجم مع طبيعة القضايا التي يعالجها.

ومن الأهمية بمكان أيضا الإشارة إلى الأسلوب الأدبي الرشيق الذي يتدفق حيوية وجمالا وبساطة، إذ عندما يقرأ المرء أعمال الغرباوي يشعر  بنوع من الانجذاب السحري ويستغرق في قراءة يشعر فيها أنه يتموج على صفحات تدفقات موسيقية شعرية  مفعمة بالدلالات والمعاني.

ومن العطاءات الفكرية التي تسجل  للغرباوي إسهاما لا يمكن أن ينسى في تاريخ الثقافة أنه  شيّد مؤسسة المثقف العربي في سيدني (بأستراليا) التي  كان لها دور كبير في نشر عدد كبير من الكتب والدراسات والأبحاث المهمة في الثقافة والفكر والحضارة الإنسانية. والأهم من ذلك كله  أنّه أطلق صحيفة المثقف التي تعد اليوم واحدا من أهم المنابر الفكرية والثقافية في العالم العربي، وهي تصدر يوميا  متألقة بعدد كبير من المقالات والدراسات الفكرية النقدية في مختلف أنحاء العالم العربي. وقد وجد المفكرون والمثقفون  موئلهم الثقافي للنشر اليومي في "المثقف" التي أصبحت اليوم منارة فكرية وثقافية تومض بعطائها النقدي في العالم العربي.

وفي شهادتنا هذه يمكننا القول  إنّ الغرباوي يشكل اليوم منارة فكرية ثقافية وهو في الوقت نفسه بأعماله وكتاباته الإبداعية وإنجازاته الفكرية يمثل حركة فكرية ثقافية نقدية في العالم العربي، وقد جمع حوله في مركزه البحثي وفي مجلته معظم المثقفين والمفكرين العرب النقديين المتنورين الذين وجدوا التشجيع من قبل الغرباوي للخوض النقدي التنويري في عالم الفكر والثقافة.  وإذا كان لي أن أصف الغرباوي فإنني أراه اليوم وهو يكافح ويناضل أشبه ما يكون ببروميثيوس الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها  أرجاء الأرض فلا يترك منها ركناً خافياً في عتمة الظلام، وها هو  يومض بقبس من النور ليبدد ظلام التخلف الثقافي والفكري في عالمنا العربي. إنه مثال للمثقف الحر الأصيل النقدي الذي يحدثنا عنه غرامشي، المثقف الذي يرتبط بالمصير ويضحي من أجل الحياة والنقد والتنوير. لقد أرادنا أن نتحرر من أنماط التدين المتوحش، الذي يفترس حياتنا الثقافية ويُكرّس الجهل والخوف في أوصالنا... لقد أراد بمشروعه الفكري أن يجعل من الإنسانية غاية والأخلاق قيمة حضارية وأن يرسخ الإيمان العظيم بالحق والحرية والكرامة الإنسانية، فأراد أن يطهر الثقافة العربية والعقل العربي من غشاوات السحر والخرافة والأوهام وهيمنة الأساطير كي يضعنا على طريق الحق والخير والجمال.

وفي الختام أقول عرفت الغرباوي جيّد المعرفة في تواصلي الفكري معه عبر صحيفة المثقف، ولا أخفيكم أنه قد أذهلني بما هو عليه من خلق عظيم وهو خلق العلماء والأنبياء .... شدني إليه هذا التواضع وهذا الحب الإنساني ..... وعلى الرغم من  علوّ قامته الفكرية بل شموخها فإنك تشعر عندما تتفاعل معه  بأنّه جوهر التواضع ومعدن الحكمة والفطنة ..... وأقولها بصدق ودون مجاملة أبدا  إنّني فخور بالصداقة والمعرفة  اللّتين  جمعتاني بقامته الفكرية الشامخة، وسأعتز بصداقته مدى الحياة ...  إنّه رمز من رموز الكرم والتواضع والأخلاق.  وأسمح لنفسي أن أقول فيه ما قاله زهير بن أبي سلمى في الكريم والكرم:

تَراهُ إِذا ما جئتهُ مُتَهَلِّلاً

كَأَنَّكَ مُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه

*

كَريمٌ إِذا جِئت لِلعُرفِ طالِباً

حَباكَ بِما تَحنو عَلَيهِ أَنامِلُه

*

وَلَو لَم يَكُن في كَفِّهِ غَيرُ نَفسِهُ

لَجادَ بِها فَليَتَّقِ اللَّهَ سائِلُه

وأخيرا نسأل الله للمفكر الكبير ماجد الغرباوي العمر المديد، ونسأل الله أن يمده بالصحة والعافية وأن يحقق أحلامه الكبرى في تحقيق مشروعه الثقافي الفكري العظيم

***

ا. د. علي أسعد وطفة – أستاذ علم الاجتماع

جامعة الكويت – كلية التربية

...............................

* مشاركة (2) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري). سيبقى الملف مفتوحا يستقبل مشاركاتكم حتى منتصف آذار 2024م.

يبحث هذا الكتاب(1) العلاقة بين الدين والأخلاق في اطار الدين بشكل عام وفي الاسلام بشكل خاص، حيث برزت فكرة الكتاب بعد إثارة سؤال حول اسباب فشل الدين في تهذيب وضبط سلوك المسلمين، خاصة في ظل الانهيار الحالي في القيم الاخلاقية والدينية، وشيوع انماط سلوكية غير سوية من العنف والقمع والارهاب والتسلط واتساع مظاهر الفساد وهدر الثروات وإلغاء الآخر.

يتألف الكتاب من تسعة فصول:

الفصل الاول: العقل الأخلاقي

الفصل الثاني: الضمير والأخلاق

الفصل الثالث: معالم التجربة الدينية

الفصل الرابع: أنسنة المقدس

الفصل الخامس: قداسة النص الديني

الفصل السادس: رهانات الدين

الفصل السابع: معيار الحكم الاخلاقي

الفصل الثامن: صدقية القيم القرآنية

الفصل التاسع: السلوك المقدس

سنحاول التطرق الى المسألة الاخلاقية في الاطار العام وليس في نطاقها الاسلامي، لأن الشق الاكبر من البحث (الاخلاق الاسلامية) والذي ألمّ به الكاتب بفعل تخصصه، حفل بالكثير من الآيات القرآنية والنصوص الفقهية التي تحتاج الى دراية وفهم في الفقه وعلم الاصول. لذا سنحاول التركيز على المسائل ذات الطابع الفكري والفلسفي ونتجنب تلك الموضوعات ذات الصبغة الفقهية.

في الفصل الاول من الكتاب يطرح المؤلف سؤال الاخلاق، حيث هناك إشكالية قديمة في علاقة الدين بالاخلاق طرحها معظم الفلاسفة وهي: هل ان الاخلاق مستقلة عن الدين ام تابعة له؟ وقد تناول علم الكلام هذه الإشكالية تحت عنوان: هل الحسن والقبح عقليان ام شرعيان؟ ناقشها المعتزلة والاشاعرة في أحاديثهم حيث اعتبر المعتزلة ان العقل يحكم بمعزل عن المجتمع وعاداته بحسن العدل وقبح الظلم سواء صرح بذلك ام لم يصرح. أحكام العقل هنا هي أحكام معيارية تستمد شرعيتها من العقل العملي الذي يرتكز على مبادئ انسانية كونية يُحتكم اليها عند الاختلاف.

أما في نظرية الأوامر الآلهية يكون الصواب الأخلاقي هو الذي أمر به الله وان الخطأ الاخلاقي هو الذي نهى عنه . فمثلا في سفر الخروج 20:16 ان الله أمرنا ان نكون صادقين. هنا السبب في ان نكون صادقين هو ببساطة لأن الله اراد ذلك. بعيدا عن الامر الالهي، يكون قول الحقيقة لا هو جيد ولا هو سيء، أوامر الله هي التي تجعل الصدق صوابا. لكن هذا سيجعل اوامر الله تبدو عشوائية، بنفس السهولة هو بامكانه ان يأمرنا بالكذب وعندئذ سيكون الكذب هو الصواب وليس الصدق (قد يقول البعض ان الله لا يمكن ان يأمرنا بالكذب، لكن لماذا لا؟ اذا هو أجاز الكذب فهو سوف لن يأمرنا ان نفعل الخطأ لأن اوامره ستجعل الفعل صحيحا). هذه النظرية تحل مباشرة المشكلة القديمة المتعلقة بموضوعية الاخلاق. بالطبع الملحدون لن يقبلوا بهذه النظرية لأنهم لا يؤمنون بوجود الله، لكن هناك صعوبات في قبولها حتى عند المؤمنين بالله. المشكلة الرئيسية أول ما لاحظها افلاطون الفيلسوف اليوناني الذي عاش قبل المسيح بـ 400 سنة. كتابات افلاطون كانت على شكل حوار بين سقراط وأحد محاوريه. في حوار (ايوثيفرو) هناك نقاش يتعلق بالصواب وهل ان الله هو من يأمر به. سقراط يشك في هذا ويسأل: هل السلوك الصحيح هو بسبب ان الله يأمر به، ام ان الله يأمر به لأنه صحيح؟هذا السؤال كان من الأسئلة الشهيرة في تاريخ الفلسفة. اذا كان الله يأمرنا للقيام بما هو صحيح. عندئذ نحن أمام خيارين: اما ان نتبع الخيارالاول وهو ان الفعل صحيح لأن الله يأمرنا به، او نتبع الخيارالثاني ان الله يأمرنا بذلك الفعل لأنه صحيح.

لو أخذنا الخيارالاول، فان اوامر الله، من الزاوية الاخلاقية، ستكون عشوائية، وان الاعتقاد بخيرية الله سيصبح بلا معنى. اما لو اخذنا بالخيارالثاني عندئذ سوف نعترف بوجود معيار للصح والخطأ مستقل عن رغبة الله، وبالنتيجة سوف نتخلى عن التصور الديني للصح والخطأ.

لذلك، نحن يجب اما ان نعتبر اوامر الله عشوائية ونتخلى عن الاعتقاد بخيرية الله، او نعترف بان هناك معيار للصح والخطأ مستقل عن رغبة الله، ونتخلى عن التصور الثيولوجي للصحيح والخطأ.

من وجهة النظر الدينية، من غير المقبول اعتبار اوامر الله عشوائية او التخلي عن الاعتقاد بخيرية الله.

لذلك، حتى من وجهة النظر الدينية، لابد من قبول معيار للصح والخطأ مستقل عن رغبة الله وهو ما ينسجم مع فكرة الحُسن والقبح العقليين للمعتزلة .

في الحقيقة، ان كبار الثيولوجيين مثل القس توما الاكويني (1225-1274) رفض نظرية الأوامر الالهية لهذه الاسباب، وبدلا من ذلك ربط الأخلاق بنظرية اخرى مختلفة وهي نظرية القانون الطبيعي.

يرى مؤلف الكتاب ان اولئك الذين يؤمنون بالحسن والقبح العقليين لا يمكنهم ارتكاب او القبول بسلوكيات خاطئة، بينما اولئك الذين اعتمدوا الشرع برّروا وقبلوا بتلك السلوكيات حين لجأوا الى تأويل النصوص وارتهنوا فهم النص لقبليات وثقافة الفقيه او المجتهد. فكان هذا احد اسباب مظاهر الفساد في صفوف المسلمين، حينما برّرت فتوى الفقيه استباحة المال العام او التعدي على الاخرين دينيا او طائفيا. الفريق الاول يعاني من تأنيب الضمير بينما لا يشعر الثاني بذلك طالما هو مبرر دينيا. وهذا حسب الكاتب يدعو الى المراجعة والنقد لمعرفة حقائق الامور، ومدى صدقية ان الدين مصدر الاخلاق، فيصل الى نتيجة ان "ان الحسن والقبح عقليان لا شرعيان وان المقدس لا يحول دون الرجوع للعقل لمعرفة حقيقة السلوك البشري مهما كان مصدره"2.

ومما تقدم يصل الكاتب الى استنتاج وهو "ان العقل يتصف بالحسن والقبح في ذاته بغض النظر عن الامر والنهي الإلهين. وبما ان الاخلاق تصدر عن حكم عقلي كوني فهي اخلاق كونية ومشترك انساني، فتكون حيادية، صادقة يصعب استغلالها او توظيفها الاّ بتزوير الوعي والالتفاف على قيم الفضيلة. فالعقل كما يراه مرجعية نهائية للحكم الاخلاقي، عقل يلغي الفواصل بين بني البشر دون انحياز عنصري او ديني او طائفي"3.

ان القول بالحسن والقبح الشرعيين يُفقد الفعل صفته الأخلاقية ويكون مرتهنا لحكم الشريعة التي هي ليست فقط القرآن وانما سنة النبي وسنة الصحابة والائمة الاثنى عشر وفتاوي الفقهاء وهنا تعطلت فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين كرس فقهاء السلاطين أنفسهم لتبرير سلوكيات الظالمين وبهذا لم يعد هناك معنى لمحاسبتهم وفق أي مبدأ اخلاقي.

رهان الدين:

 يؤكد الكاتب ان استقلال الاخلاق عن الدين بمعنى التشريع، لا يمنع وجود دور أخلاقي للدين. الفعل الاخلاقي حسب رأيه، هو فعل سلوكي يواجه باستمرار تحديات تختبر صموده، وقد يخفق الضمير تجاهها فيأتي دور الايمان ليعزز دوره الرقابي ويحول دون تراخيه ونكوصه. ان مجال عمل الدين هو ديمومة يقظة الضمير الذي يخضع له الفعل الاخلاقي، والضمير هو مشترك انساني يستهدي به الفعل الاخلاقي في إخلاصه ونقائه الانساني4.

ويضيف الكاتب بانه ليس من دعاة إقصاء الدين. للدين دور مؤثر جدا حينما نحسن توظيفه، خاصة في المجتمعات التي تحتضن الاديان، المسكونة بالغيب. علينا استثمار المشاعر الدينية وإعادة تشكيل الوعي الديني بما يخدم القيم الاخلاقية والانسانية باعتباره احد وسائل ضبط سلوك الافراد والمجتمعات. هذه المشاعر عميقة ومتجذرة وملازمة لوجود الانسان5.

علاقة المقدس بالاخلاق

هناك سؤال يبرز الى السطح وهو هل تتأثر الاخلاق بوجود المقدس او عدمه؟ يشير الباحث الى ان العقل لا يخضع في قيمه وأحكامه للمقدس. الاخلاق تحتفظ باستقلاليتها. فكما ان العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بعيدا عن الشريعة، كذلك تكون أحكامه بعيدة عن المقدس، وبذلك يصح استقلال الاخلاق عن الشريعة والمقدس معا.

وكلمة مقدس sacred تشير الى التبجيل او الرهبة، وهي تأتي من الكلمة اللاتينية sacer. الشخص او المكان قد يُشار اليه بالمقدس باعتباره متفرد بشكل استثنائي لما له من قوة اسطورية. في كتابه (المقدس والمدنس) يشير مؤرخ الأديان الروماني ميرتشا اليادة Mircea Eliade(1907-1986) الى ان المقدس دائما يجسد نفسه كحقيقة مختلفة عن الحقائق العادية. نحن نصبح واعين بالمقدس عندما يُظهر نفسه كشيء مختلف عن المدنس. الافتراض هو ان هناك إله او قوة روحية عليا تجسد نفسها للناظر الذي يشعر بالتميّز نتيجة لذلك. وبهذا فان المقدس يجسد نفسه فقط في سياق ايمان الناظر او جماعته، وبعبارة اخرى ان الناظر هو من يخلق المقدس ويستثمره في الأشياء التي حوله.

يؤكد الغرباوي في كل فصول كتابه على الفجوة التاريخية التي يحملها العقل التراثي بنيويا، هذا العقل يشوّه الحقائق، ويتبنّى ما يوافق عقائده بعيدا عن الدليل العقلي والفلسفي رغم ان الواجب يقتضي الركون للدليل وقدرته على تحدي الإشكالات ودراسة جميع الأدلة والبراهين والقرائن المتاحة والاجابة على جميع الاسئلة والاستفهامات وتحليل الواقع بجميع عناصره، ومن هنا جاءت الأجوبة في هذه السلسلة الحوارية من متاهات الحقيقة تقارع قلاع الكهنوت وتحطم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة وتطرح اسئلة استفزازية جريئة بحثا عن أسباب التخلف وشروط النهضة ودور الدين والانسان في الحياة، فتوغلت عميقا في بنية الوعي واستدعت المهمش والمستبعد من النصوص والروايات.

هذا ما يؤكده ويتفق عليه ايضا المفكر المغربي محمد عابد الجابري في قوله: "ان علّة عجز التراث العربي الاسلامي عن القيام بدوره كآلية دافعة للنهوض والتجديد ترجع الى بنائه وبنيته، من بين شروط النهضة هو تمرّد العقل الحرعلى تلك التفسيرات والتأويلات السلفية للآيات القرانية، هناك ايضا مشكلة قراءة المتون واستيعابها ومعنى النص ودلالته ومقاصده التي أنتجها العقل الديني التقليدي. ان العقل العربي قد تكوّن أساسا من خلال التعامل مع النص، ونحن لا نطعن في هذا لأنه معطى تاريخي لا معنى للطعن فيه ولكن المشكلة هي في الطريق الذي سلكه الأقدمون في فهم النصوص القائم على ما أسموه "الاستنباط". لقد تعاملوا مع الالفاظ كمنجم للمعاني وأخذوا يطلبون منها ما يريدون، أي ما يستجيب لآراء ونظريات جاهزة هي آراء المذهب سياسيا كان او فلسفيا. هنا تُنتزع اللفظة من سياقها لتتضمن معنى جاهزا. "مع سلطة السلف يفقد العقل سلطته كفعالية قائمة على ربط المسببات بأسبابها، هذا العقل لا يعرف اللزوم المنطقي ولا يصدر عن مبدأ السببية. وهكذا فان الفقيه الذي تشكّل عقله داخل الثقافة العربية يخضع في تفكيره لسلطة اللفظ والسلف والقياس وسلطة التجويز".

سبق ان صدرت للغرباوي عدة كتب ركزت على تجديد الفكر الديني ومن أهم اعماله: إشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، قراءة نقدية في تجليات الوعي، الحركات الاسلامية، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، تحديات العنف. ومتاهات الحقيقة بتسعة كتب.

تجدر الاشارة الى ان الباحث الغرباوي أحد الشخصيات الفكرية البارزة في المحيط الثقافي الحالي سعى جاهدا للتوفيق بين المنهجية الغربية والتراث الاسلامي في التصدي للقضايا الفكرية، وهو ما كشف له عن الكثير من الافكار المهملة في الفكر الاسلامي وفي علاقة الاسلام بالآخر. مشروع الغرباوي التنويري لا يقل أهمية عن المشاريع التي برزت في الساحة العربية او الاسلامية، يسعى دائما الى تحرير العقل وإخراجه من بنيته الاسطورية وإعادة فهم الدين وفق دور الانسان المحوري في الحياة والتخلص من سطوة التراث وأغلال العقل التقليدي.

***

حاتم حميد محسن

............................

الهوامش

(1) كتاب (المقدس ورهان الاخلاق) للباحث والمفكر التنويري ماجد الغرباوي، صدر عن مؤسسة المثقف في سيدني، ودار أمل الجديدة في دمشق عام 2022 في 385 صفحة، وهو الكتاب الثامن في سلسلة "متاهات الحقيقة".

(2) المصدر نفسه، ص 15.

(3) المصدر نفسه، ص 23.

(4) المصدر نفسه، 48.

(5) المصدر نفسه، 58.

 

الإبحار في المعقول واللامعقول

لقد أصبح مشهد الفكر الإسلامي ساحة معركة للصراعات الأيديلوجية، التي تصاعدت على مر السنين، مدفوعة بتآكل الحدود والمقدسات بسبب الرقمنة، مما جعل هذا التحول الرموز عرضة للتفسيرات المتنوعة، وفي الوقت نفسه يكافح الخطاب الديني لتزويد العقول الشابة أو الأجيال القادمة بالأدوات اللازمة لمواجهة مجموعة التحديات التي يواجهونها، بعد أن أدى تشكيل السلوك ورعاية الفكر إلى حصر الدين في رموز، مما قلل من التركيز على المفاهيم الأساسية وجوهر المعتقد.

ومن هنا جاءت ضرورة الاستكشاف المعرفي للمعتقدات والممارسات الدينية، ويستلزم هذا النهج فحص الطقوس والمعتقدات من وجهة نظر معرفية وتحليلها من خلال عدسة نظرية المعرفة، والتحقيق الفلسفي في المعرفة والاعتقاد والتبرير، تبحث هذه المنهجية في كيفية اكتساب المعرفة، وجوهر الاعتقاد، والمعايير التي تثبت صحة قناعاتنا عند تطبيقها على الدين، فإن هذه العدسة المعرفية تدرس الأسباب الكامنة وراء الادعاءات الطقوسية والاجتهادات الفقهية وتقييمها وفهمها، وبالتالي لابد أن ندرك الحاجة الملحة للتحليلات المعرفية داخل المجتمع، والسياقات الدينية، والتفاعلات بين النظم العقائدية المختلفة، ويرجع ذلك إلى الطبيعة المعقدة والمفككة لكل من المجالين العالمي والديني، والمعتقـدات الدينيـة لا تحيـل بالضرورة إلى قناعـات -أو رؤى اجتماعيـة- تدافع عنهـا تنظيـمات اجتماعيـة أو أفـراد معينـون فقط؛ بل تتضمـن رهانات أيديولوجيـة، سياسية، اقتصاديـة... وأيضـا إرثـا حضاريا وثقافيـا معينـا ..

هذه الاعتبارات تدفعنا إلى التأمل في الطقوس والعادات والتقاليد المنسوجة في حياتنا، كيف يمكننا التعامل مع هذه الممارسات بمعرفة، وإحاطة أنفسنا بالبحث العلمي الدقيق ومواجهة شكوكنا؟ هل يمكن للدراسات الإثنولوجية أن تلعب دورًا أكثر نشاطًا، مسترشدة بالتقييمات النقدية، لغربلة الشوائب الملتصقة بمعتقداتنا؟ كيف يمكن أن ننخرط في مناقشات مسترشدة بالآيات القرآنية التي تظل وفية لإيماننا الحقيقي؟.3615 مدارات عقائدية ساخنة

ضمن صفحات "مدارات عقائدية ساخنة: حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني"1، يتعمق المفكر ماجد الغرباوي في ضرورة إعادة تنشيط الخطاب الديني، ومواءمته مع الأبعاد المتعددة للطبيعة البشرية. ويشمل ذلك العناصر النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية، إنه يتفحص المعتقدات وفعاليتها كرموز وإيحاءات وتأثيرها على الوعي الجمعي بقوله (العقيدة منظومة فكرية توجه وعي فرد، يتأتى الأيمان بها، عبر تراكمات لاشعوية، نفسية -ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لأخر، فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والأجتماعية والسياسية، والعلمية والثقافية، ومنها ذات العقيدة وقوة رمزيتها، وإيحاءاتها وحجم تأثر العقل الجمعي بها، وهنا يكتسب النقد صفة الضرورة ليحد من تمادي العقيدة على حساب المبادئ الأصيلة)2.

في التحاور بين المدارات العقائدية الساخنة الذي يشمل عشرة محاور، يبدأ بتكامل مفهوم "المنقذ"، وينهيها بمحور التشيع وإعادة إنتاج الشعائر، تتطلب هذه الدوائر الساخنة التجرد والموضوعية للفهم، لا يحتاج المرء إلى اعتناق الأفكار المقدمة بالكامل؛ بل من الأهمية بمكان أن نمنح العقل حرية اجتياز هذه المدارات دون أن يعيقه الخوف من الحوار.

على مر التاريخ، جذبت المدارات المقدسة والطقوس المرتبطة بها باستمرار انتباه علماء الأثنلوجيا فبرز كتاب كلود ليفي شتراوس "المدارات الحزينة" كتجسيد مؤثر لهذا التحقيق وهو عمل مبدع صاغه عالم الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا الفرنسي يؤرخ رحلاته وعمله الميداني في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أمريكا الجنوبية، تتعمق هذه التحفة الاستبطانية والشعرية في تعقيدات المجتمعات البشرية والأساطير وطيف التنوع الثقافي، ومن خلال مواجهة الحضارة الأوروبية بحضور الثقافات الأخرى، يسعى ليفي شتراوس إلى تبديد هالة التفوق والمركزية، مبشرًا بفكرة مفادها أن أرقى الحضارات هي تلك القادرة على الحوار والتواصل بين الثقافات، ويؤكد أن " العالم بدأ من دون الإنسان، وسوف ينتهي من دونه أيضاً، والمؤسسات والعادات والتقاليد، التي كان عليّ أن أمضي الشطر الأكبر من حياتي في فهمها وفي استكشافها وإحصائها، هي في حقيقة الأمر بداية تفتّح عابر لتكوين لا نملك تجاهه أي معنى، سوى السماح ربما للإنسانية بأن تلعب فيها دورها"..

لذلك بالرجوع الى كتاب مدارات عقائدية ساخنة وفتح باب المناقشة التي تجاوزت فيه الحدود الجامدة بإطلاق العنان للسؤال، حيث مما جاء به (ثمة جدل متواصل بين الأيمان وبيئته لتجديد فاعليته على مستوى السلوك والأخلاق والوعي، بدوافع أيديولوجية لتبقى العقيدة سلطة توجه وعي الفرد وتؤثر في فهم الواقع، فالصورة الذهنية للعقيدة وليدة أيمان الفرد وضروراته ومصادر معرفته)3، ومايميز هذا الحوار أنه حوار مفتوح يتضمن حلقات نقاشية على محركات البحث كوكل، وهو جزء من تشكلات الخطاب في العصر الرقمي حيث يرى الغرباوي (أحيانا تَحط المعاصرة من قيمة الرمز وقدسيته، بينما تزدهر في غيابه حداً تُلهب رمزيته الخيال الميثيولوجي، فيجرّده من بشريته ويحلّق به في مدارات الأسطرة واللامعقول، ليُعيد انتاجه باستمرار في إطار ضروراته العقدية والأيديولوجية)4.

بأختصار يبرز التحليل المعرفي للطقوس والمعتقدات الدينية كأمر بالغ الأهمية وهو ينطوي على التحقيق في المفاهيم والممارسات والأحداث الدينية من خلال عدسة معرفية، ويفكر هذا الإطار في كيفية اكتساب المعرفة وجوهر الاعتقاد، والأساس المنطقي وراء التحقق من صحة المعتقدات، إن التعامل مع الدين من هذا المنطلق يتطلب التدقيق في المنطق الذي تقوم عليه الادعاءات الطقسية والأجتهادات المتعلقة بها وتقييمها وفهمها، يحمل هذا النهج أهمية خاصة بسبب الطبيعة المركبة والمفككة للعالم وجوانبه الدينية، وبالتالي تجديد الخطاب الديني الموجه الى الأجيال القادمة ومحاكاة تطلعاتهم ومخاوفهم فذلك هو السبيل الأنجع للتحاور بما يناسب فضاء الرقمنة وتجاوز ثقوبه السوداء التي باتت تبتلع كل من يضطلع بها.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع

.....................

1– مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في الأسطرة واللامعقول الديني، مؤسسة المثقف وأمل الجديدة، 2017م. والكتاب هو حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي.

2- المصدر نفسه، ص 17.

3– المصدر نفسه، ص 18.

4- المصدر نفسه،ص 162.

منذ تمهيده في هذا الكتاب يسعى ماجد الغرباوي الى اشاعة قيم التسامح والتعايش والتفاهم على أسس إنسانية. بعيدا عن العنف والتطرف والكراهيية والغلو. لهذا دعا لتقديم قراءة جديدة للدين والنصوص المقدسة. وشدد على ضرورة إرساء مقاربة تشاركية بين السياسي والديني والتربوي والاعلامي والثقافي، للحد من مشاعر الاقصاء والاحتراب، إذ (لم يبق امام الشعوب الاسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والاقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر)[1]. وإرساء مبادئ سامية تجعل من المجتمع مجالا مفتوحا، يتولى أفراده إدارته وتدبير شؤونه وتجاوز أزماته التنموية المستعصية.

إن القيم المغايرة للمألوف في واقعنا الذي يتسم بشيوع الفكر الانتحاري دون الفكر الحيوي واليقظ، وجنوحه للكراهية بدل الحب، والتنابذ بدل الوئام، يتطلب تنزيلها على ارض الواقع، والعودة الى الذات لمساءلتها، واعادة النظر في تراكمات التراث المعيقة والمكبلة لتتفتق عبقرية الفرد في الوجود. هي دعوة صريحة الى التقوية والمعالجة من أجل مستقبل أفضل.

يرتكز الغرباوي في دراسة التسامح، المقابل للتعصب كضد نوعي، الى عنصرين هامين، الاول هو الاسلام كدين يحمل خصوصيات مشتركة بين جميع التوجهات التي انجبها. وايضا يتميز ببعده العام الذي يدعو الى التعايش والتعارف. وقد اتخذ الكاتبُ العراقَ نموذجا لدراسة موضوع التسامح وضده النوعي العنف، لأسباب بينها داخل الكتاب [2].

وقد يتساءل أحد عن الرابط بين مجتمع العراق الذي ينتمي اليه الغرباوي ومجتمع المغرب الذي انتمي اليه، واجيب ان هناك قضايا متشابهة واخرى متباينة، ولعل ابرز وجوه التشابه سيادة الدين الاسلامي، بيد ان اشكال التدين تختلف. فالعراق يزخر بتعدده الديني والمذهبي، وهناك إلى جانب الإسلام، المسيحية والصابئية المندائية،  بينما المغرب اغلبية مسلمة تتبنى المذهب المالكي منذ أكثر من اربعة قرون. ورغم التعددية الدينية في المغرب الا انها ليست بمستوى العراق. لكن كلا البلدين يعاني من أزمات سياسية. فكلاهما لم يحقق الى الآن تقدما حقيقا على مستوى الديمقراطية، وهناك أزمات مستعصية يعاني منها كلاهما، كدعوات الانفصال القومي والعرقي، ووجود المتطرفين وانتشار ثقافة الكراهية، وغير ذلك، ولا حل أمامهما سوى تبني ثقافة التسامح والعفو والاعتراف بالآخر من أجل مجتمع مدني، والتأكيد على حقوق الإنسان والانتقال السلمي للسلطة، وإشاعة قيم المحبة والوئام والتعاطف والرحمة.

دلالات التسامح:

يعرف الغرباوي المفاهيم المفتاحية المرتبطة بموضوع الكتاب، فالتسامح لغة من السماحة والجود اي الموافقة على المطلوب، والمسامحة تعني الجود والسخاء والكرم والمساهلة، اما التسامح فيعني التساهل.

ويشير الى ان مفهوم التسامح ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر[3] في بيئة غربية كانت بحاجة اليه لتجاوز خلافاتهم الدينية والسياسية  والايديولوجية. وقد اتخذ المفهوم اصطلاحا عدة تعريفات مفادها احترام الحرية الفردية وحقوق الانسان وتقبل الاخر قصد تحقيق التعايش في المجتمع دون تحيزات فكرية او دينية، وهذه المبادئ لا تتحقق الا بالكف عن دعوى احتكار الحقيقة التي اضحت في ظل الحضارة الغربية متعددة ونسبية وما من احد لديه الحقيقة المطلقة بل كل لديه فهمه الخاص للامور.

مفهوم التسامح بهذا المعنى غريب عن البيئة العربية الاسلامية، كما يصرح الغرباوي، لذا يدعو الى تبيئته لينسجم مع ثقافتنا، او تسييقه contextualiser اي تنزيله وفق السياقات الثقافية للمجتمع، مع الحفاظ على روحه ومقاصده العليا[4]. وقد اشار الى ان الاسلام لا يخلوا من قيم التعايش والتعددية واحترام الاخر المختلف انما غيبتها القراءات الاحادية والمتحيزة والجامدة التي تحاول التفرد بالحقيقة واقصاء الثقافات الاخرى او النظر اليها بعين الاستهزاء. من هنا وجب تغيير هذه المنطلقات من اجل الدخول في الحداثة بشكل فعلي وليس شكليا، كما هو الحال في عديد الدول الاسلامية[5].

التسامح وفق قراءة الغرباوي ليس بالضرورة تنازلا امام الاخر او انصياعا له واتباعه فيما يعتقد او يريد، انما (يصار الى صيغ توافقية تبقي الاحتمالات مفتوحة لمراجعة جميع المفاهيم والمقولات التي تشترك في تكوين الانساق المعرفية. أي يمكن اعادة النظر بمفهوم التسامح نفسه ومراجعة قيمنا ومفاهيمنا ايضا للتأكد من صحتها وشرعيتها)[6]. ويؤكد الغرباوي ألا حل أمام التنوع والاختلاف الديني والثقافي في جميع المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا، والمجتمعات الاسلامية خاصة، سوى التسامح والتعايش. وفسح المجال امام الحرية السياسية التي تقتضي اعطاء الحق لكل فرد في الانخراط والمساهمة في الحكم شريطة التوفر على الضوابط والنزاهة.

منابع اللاتسامح:

يؤكد ماجد الغرباوي ان الموروثات العريقة الممتدة منذ تاريخ قديم تلعب دورا في ترسيخ اللاتسامح، فما زالت شعوبنا محافظة على نسق فكري وعقدي دوغمائي يرفض الاخر ويقصيه. وعندما يتسامح معه يتسامح معه على أساس التفضل والمنة. بينما مفهوم التسامح الحقيقي عنده يتجاوز هذا النمط من الافكار. فمفهوم التسامح عنده وليد (منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. وطبيعة هذه القيم انها تتقاطع مع قيم التسامح، لانها تكرس صفة العصبية والرفض والاقصاء)[7].

1- العنف:

العنف هو المصدر الأول والأساس للاتسامح على مر التاريخ. هذه الظاهرة، التي لازمت المجتمعات البشرية، وصارت لصيقة بها، رغم تعدد اسبابها. وقد أدرج المؤلف الدفاع عن النفس ضمن هذه الأسباب، بل هو أولها، حيث لجأت اليه المجتمعات البدائية لحماية نفسها من الاخطار المحيطة بها من كل جانب. حتى اضحى العنف جزءا من ثقافة الشعوب، تقاس به رجولة الفرد، ومدى قدرته على ممارسته. (واستمر العنف صفة ملازمة لكثير من الشعوب رغم اختلاف الظروف وتطور الحضارات وتوغلها داخل العمق الجغرافي لاغلب البلدان في العالم. وهي صفة للبداوة اكثر منها صفة للمدنية والحضارة. ولهذه الظاهرة اسبابها وجذورها التاريخية)[8]. إذن العنف كان السبيل الوحيد لاثبات الذات لمن يفتقر الى مؤهلات التسامح والعيش المشترك على أساس إنساني.  

وللاسف الشديد مازالت المجتمعات تتعهد العنف والروح الانتقامية. تستعيد الماضي ومشاكله، ولا تعرف طريقا لتسوية الخلافات الا العنف. وقد ساعد على ذلك عنف السلطة السياسية، واحترام الناس لها مادامت تمارس العنف والقوة، والناس يهابونها ويحترمونها، ولديهم الاستعداد للتضحية من أجل الحاكم المستبد.

من كل هذا يتبين لنا ان العنف شئ غريزي في الانسان  وهو ميّال اليه، ويظل لصيقا به ما لم يتحول الى كائن ثقافي وحضاري قادر على تبني قيم التسامح.

2- الولاء القبلي:

يعتبر الغرباوي القبيلة (نسق من القيم والاخلاق تحكم افراد القبيلة الواحدة، تستقطب ولاءاتهم، وتوجه سلوكهم، وتحدد مكانتهم الاجتماعية)[9]. كما ان لكل قبيلة نسقها الاجتماعي الذي يضع الشيخ فوق الجميع ويتيح له التحكم بمصيرها[10]. فتقاس قيمة المرء ومكانته بولائه ومدى رضوخه للقبيلة ومقدساتها. من هنا يتصور المنتمي للقبيلة انها اولى واهم من المصلحة العامة للوطن والمواطنين جميعهم، هو ضرب من ضروب التزمت والتعصب، اضافة الى التعسف والقسوة وضيق الافق، وتتضح في بلداننا مظاهر القبلية في المجال الحزبي والسياسي، حيث تشكل الاحزاب والمؤسسات امتدادا لفكر القبيلة، وما يتيح التواجد هنا هو الولاء وليس الكفاءة.

3- سلطة القيم:

قيم التسامح قيم بعيدة التحقق في مجتمعاتنا لطغيان قيم الاستبداد والتسلط التي اخذت اشكالا متعددة الابعاد، منها السياسي ومنها الاجتماعي ومنها الديني... وللاسف في مجتمعاتنا تطغى النظرة الشمولية والاطلاقية التي ترى في قيمها المتوارثة حقائق ثابتة ونهائية بينما ترى الاخر خاطئا ظالا لا تقدر على تقبله والاستفادة من منجزه، وما يزيد الطين بلة في هذا الوضع هو القيم المصطنعة التي رسختها دوائر الحكم والنخب الثقافية والاجتماعية والدينية وجعلتها في صالح مصالحها. قيم الطاعة والولاء وتغييب النقد والخضوع للمجتمع الذكوري والابوب الذي يجعل المرأة كائنا ناقصا ووسيلة ومصدر عار في حال الفضيحة بينما ذلك مصدر بطولة للرجل، فمجتمعاتنا مجتمعات ذكورية كما يقول ماجد الغرباوي: (تمنح الرجل صلاحيات واسعة في مقابل تهميش المرأة وتحقيرها، وتلغي وجودها وتعتبرها انثى يطأها الرجل حينما يرغب ويتخلى عنها متى شاء، وفي احسن الاحوال انها اداة لخدمة الرجل وابنائه وضيوفه من الرجال. وهي ايضا عورة وبلاء وهمّ متى تنتقل في عهدة رجل آخر ليتخلص من مسؤوليتها اهلها ويهدأ بالهم، لانها بنظرهم كائن حيواني غير مؤتمن على شرفه، بل يجب حصره وتضييق الخناق عليه مخافة ان يراها احد فتنخدش قيمة الرجل عندما يتصفح وجهها الآخرون، او يخشى عليها الانهيار بمجرد ان تلتقي برجل ليس من محارمها، فهي بلاء مزمن وعار كامن في نظر الرجل القبلي)[11]. لذلك يتم التسامح مع اخطاء الرجل واضطهاد المرأة والمغالاة في حال ما اقدمت على غلط ما، بينما ايضا يتم تطبيق تسلط عمودي على الابناء من طرف الاب وحرمانهم من حق التعبير والتساؤل والمساهمة في صنع القرار، في نفس السياق يحرم الحاكم محكوميه من حقهم في تقاسم الحكم وصيغة القرارات التي تخصهم. كلها عوامل ساهمت في طغيان النظرة الاحادية المتزمتة والمتعصبة للرأي.

4- الاستبداد السياسي:

اكيد ان الاستبداد السياسي هو افة من افات المجتمعات المتأخرة وهو عامل يكبلها ويعيد انتاج الازمات فيها، لانه يحرم السواد الاعظم من الحقوق ويغيب حسها المشترك الرامي الى النهوض بالبلاد والعباد، وهو نقيض التسامح، (وخصم حقيقي له)[12] الذي يقتضي التعامل باحترام وبمساواة مع الجميع بعيدا عن التراتبية والتفرد بالسلطة وبالقرار السياسي، والتسامح يعني قبول للآخر بدون شروط مسبقة عكس الاستبداد الذي يحتم على الطرف المقهور الرضوخ لمن هو اعلى منه مرتبة في السياسة،  وتستغل السلطة السياسية كل الوسائل المتاحة للاستمرار في الهيمنة ومن بين ما تستغله العاطفة الدينية لدى الناس، وليس لديها مشكل في قراءة النصوص الدينية بالطريقة التي تخدم مصالحها، فالغاية تبرر الوسيلة في هذا المجال. لا يرضى الحكام في دول التخلف الخضوع للنقد والتمحيص انما يجعلون انفسهم فوق ذلك والويل لمن يقدم على ذلك الفعل، بينما يقتضي التسامح الحوار وقبول الرأي المختلف، شعوب اذن مصيرها ليس بين ايديها بل هي مسلوبة الارادة ولا تعرف حتى التفريق بين الممارسة الديمقراطية السليمة والاستبداد، والانكى والامر انها بفعل الادلجة اصبحت تخشى الديمقراطية والتحرر.

5- التطرف الديني:

يعتبر الغرباوي التطرف الديني احد ابرز مصادر اللاتسامح لكونه اقرب طريق لحشد همم الناس وخصوصا البسطاء منهم، يشد قلوبهم ويأسره تحت شعارات ويافطات رنانة لا تترك لهم فرصة للنقد والمساءلة. (يعتبر التطرف الديني احد اخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي، وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر)[13]. فهو مفهوم حساس يوظفه الكثير من رواد الاسترزاق باسم الدين ويجيشون به الحشود ويدفعوهم لاضطهاد الاخر المختلف مذهبيا او دينيا. ولعل ما يزيد الطين بلة هو النزوع نحو التفرق والطائفية والتمذهب نتاجا لتعدد التفاسير رغم وحدة النص القرأني، ما يجعل ظواهر التكفير ورفض الاخر الداخلي اولا والخارجي ثانيا متفشية نتاجا لتلك القراءات السطحية والحرفية. معضلة التطرف الديني هي قصور في فهم الدين واختلال في الفهم والادراك وهي  منبع للجمود العقائدي والاطلاقية، وهي عوامل تعرقل استقبال الاخر وفهمه والتواصل معه بشكل فعال.3544 كتاب التسامح ماجد الغرباوي

التسامح، تأصيل الاسس:

ترسيخ المنظومة القيمية للتسامح يقتضي بالضرورة ايقاف نزيف الكراهية والحقد والاقتتال والحدية في التفكير، وبناء فرد ومجتمع قابل للحوار، منفتح على الافكار المختلفة. وتوفره على تربية سليمة قادرة على منح المجتمع روح النقد والانفتاح والقابلية للتغيير، وكل ذلك ينطلق من الاسرة والاعلام والاوساط الثقافية والسياسية وغيرها من مجالات الحياة. ويبقى الاضطهاد والتكفير مصادر لتفشي العنف والجهل المركب في مجتمعاتنا المعروفة بالأصولية الاسلامية التي تأبى تجاوز المحكيات والموروثات المتقادمة.

لذلك ينادي الغرباوي بنقد الانساق الفكرية والعقدية والثقافية في هذه المجتمعات وذلك لتجاوز اشكالياتنا التاريخية وقصورنا وازماتنا، واستتباب قيم التسامح والتعايش في جو يسوده احترام اختلافات الناس وتعدد افهامهم. وترسيخ التسامح بدل العنف القابع في عمق اللاوعي عمل صعب ويحتاج الى الصبر والتسلح بالعلم والمعرفة والحكمة لخلق شعوب تعي تخلفها وتصبوا لتغيير واقع الحال المتسم بالتفتت على شتى الاصعدة: (ان خطوات قيام مجتمع متسامح تبدأ من العقل، تبدأ من نقد الانساق المعرفية، تبدأ من نقد العقيدة، والفكر، والثقافة، ليصار الى فهم بديل للدين والحياة والمجتمع يساعد على استتباب قيم التسامح)[14].

اسس التسامح:

1- حقوق المواطنة:

من اجل تحقيق الغايات الكبرى للوطن والمتمثلة اساسا في مواطن حر يتمتع بحقوقه ويحترم واجباته، يتحدث الغرباوي على ضرورة تحقيق مجتمع يقبل بعضه البعض، قبول الاخر مسألة مهمة اذن من اجل المصلحة العامة المشتركة ومن اجل حماية البعد القومي والديني. الا انه ايضا يتحدث عن الاعتراف بالآخر والذي يعتبر اقرارا لحق الاخر في التعبير عن افكاره وقضاياه دون طائفية ولا ادعاء للتفوق: (ليست المواطنة سوى الاعتراف بالآخر وبحقوقه. او لا اقل قبوله وقبول التعايش معه سلميا وفق حقوق مشتركة لجميع المواطنين)[15]. ويخبرنا الغرباوي عن قيم المواطنة الحقة والتي من شأنها اعلاء راية الوطن كقضية اولى حتى من كل الانتماءات، اثنية كانت ام طائفية ام دينية.

1- الحقوق الاسلامية لغير المسلمين:

يرجع بنا الغرباوي الى زمن سحيق من تاريخ الاسلام ليسرد لنا وقائع واحداث شهدها هذا العالم وذلك من اجل اعادة فهمها كما يجب، وذلك لان العالم الاسلامي للأسف تطغى فيه القراءات الاحادية للنصوص الدينية. هذا الجمود العقائدي يؤدي الى الرغبة في تنزيل آيات اتت في سياقات محددة ومنها ما لا يستقيم تنزيله بالفهم الحرفي في  زمننا هذا، ويدعوا الى العمل بروح الاسلام الذي يتجسد في وقائع وآيات عديدة تدعوا الى الحوار بين الثقافات والامم رغم اختلافاتها، كما يشدد على اهمية السعي الى الحوار الهادف الى تبادل المعارف والخبرات والتجارب والتكامل والتثاقف  وليس السعي الى هداية الناس لان هذا من شأنه معاملة الناس على انهم كفار او اشياء شبيهة بذلك، ليخلص في الاخير الى ضرورة وضع الاختلافات كمصدر للمراجعة والنقد ولا شيء يتعالى فوقه باعتبار افهام الناس متعددة، ويجب كذلك الحكم بنسبية فما من صحيح مطلق وما من خطأ مطلق وتجاوز الفكر الذي يتصور الاخر كضال وجب هدايته لان الهداية التامة لله والبشر ما هم الا خطاؤون عليهم الانصات الجيد لبعضهم البعض للوصول الى التكامل. (ان الاعتراف يعني: (ان الآخر شخص له عقيدته وفكره ودينه ووجهة نظره. له الحق في تبنيها والدفاع عنها)[16].

2- سيادة القانون:

لا يتحقق التسامح الا اذا كان هناك قانون يحميه ويستند اليه[17]. وهذا القانون ينبغي ان يتوفر على قوة ردع عالية لضبط حقوق المواطنين بشكل متساو. المواطنون قد ينزعون الى العنف او التشنج لكن على السلطة تثقيف الناس على قيم الاحترام والحق والواجب. ويبقى القانون هو الالة الرادعة التي لا تستثني احدا ولا تقصي حقوق الاقليات، من أجل مجتمع قادر على تبني قيم التسامح، مجتمع يتداول السلطة سلميا ويتحلى بحب الوطن والعمل الصادق من اجل مصالحه العليا ومصالح مواطنيه.

تعدد المرجعيات:

يعد تعدد الولاءات للدين او للعرق او العشيرة او اي نطاق محدود كيفما كان قتلا لسيادة القانون، و(يصاب القانون بالخواء والشلل عادة اذا نافسته مرجعيات اخرى)[18]. ويؤكد الغرباوي بهذا الخصوص على الولاء للقانون المتوافق عليه، خدمة للوطن، من اجل مجتمع تسوده قيم التسامح والانفتاح. بعيدا عن اي مرجعيات أخرى. خاصة من يتحدثون باسم الله كأنهم ممثلين للإرادة الالهية. وهذا يُنتج حالة من التزمت والاستعداد للإرهاب.

3- اعادة تشكيل قيم التفاضل:

في بيئة تعرف التعدد على جل المستويات، تشكل القيم الدينية منبعا رئيسا للتمثلات التي تنغرس في لاوعي الفرد وتحركه، ومن هذا المنطلق يقترح الغرباوي من اجل الحد من العنف واللاتسامح استراتيجيتين رئيسيتين وهما، الولاء للوطن ولمصالحه العليا وذلك بتجاوز الاختلافات الضيقة والمغلقة، والارتكاز على القيم الانسانية باعتبارها قيما كونية تنصهر فيها القيم المغلقة المبتنية على التفاضل والولاءات.

واما التفاضل في الاسلام فيحدده الغرباوي في ثلاثة مستويات[19]، اولها التقوى والتي لا تعني كثرة العبادات او التشدق بالمعاني الدينية بل القيام بالعمل الصالح الذي يعود بالنفع على الذات وعلى الانسانية جمعاء، وقول الله تعالى (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) هو دليل على ان الله يحب عبده المتقي لأنه هو الأدرى والاعلم بمن يتق، اما البشر فليست لديه القدرة ولا الحق في الحكم على الناس وتفريقهم الى متق او غير متق، انما ما على البشر هو تقبل الاخر وتجنب اصدار الاحكام عليه، ولرب قليل العبادات احسن عند الله لما يقوم به من عمل صالح، عكس من يكثر في العبادات ويبيح سفك الدماء او يريقها.

وثانيها الجهاد، لا الجهاد الذي يتصوره المتزمتون والمتطرفون، انما الجهاد الرامي الى النهوض بالنفس وبالوطن، وهو قائم على التضحية من اجل الاخر ونبذ العنف واللاتسامح معه بغض النظر عن اختلافاته.

وثالث هذه المبادئ هو العلم، لان من حيث حتى عبادة الله فهي لا تتم الا عن علم، لذلك فالله تعالى كرم عباده العلماء لانهم الاقرب اليه وهم الاقدر على طاعته خير طاعة، والعلماء هم منارة الانسانية لما يقدمون لها من خدمات تميط اللثام على مظاهر التخلف وتستجيب لحاجياتهم في الدنيا وتقيهم من الشرور، وعالم افاد الانسانية في اختراع علمي يبقى ذلك في ميزان حسناته كصدقة جارية.

هذه هي مبررات التفاضل التي قدمها الاسلام، اما الفهم القبلي او الطائفي فيخندقان البشر في تفاضلات شكلية تبتعد عن مضمون الامور، بارتكازها على النسب او اللون او العرق، وهذه من اسباب النكوص الحضاري التي تبقي المجتمعات في سياجاتها الدوغمائية المغلقة بتعبير محمد اركون. فما احوجنا الى ميثاق حقوق المواطن والمواطنة في شمال افريقيا والشرق الاوسط.

4- اطلاق الحريات العامة:

يذهب الغرباوي الى ان الحريات العامة تلعب دورا اساسيا في انبثاق عبقرية الفرد في العالم، بينما يلعب القمع دورا مهما في ترسيخ العنف والتشنج والتنابذ حتى بين ابناء الوطن الواحد، لان المجتمعات المقهورة تسوء اخلاقها على حد تعبير ابن خلدون. يقول: (تلعب الحريات العامة دورا كبيرا وفاعلا في ترسيخ قيم التسامح بين ابناء الوطن الواحد)[20].

والمجتمعات المرعوبة تخشى الحرية نظرا لما تعرض له هذا المفهوم من تشويه بفعل الايديولوجية وبفعل الرغبة السياسية في استمرار الاضطهاد وبذلك ترسخت في العقول بوعي او بدونه افكار حول الحرية من قبيل انها فوضى او انفلات او كفر او اشياء من هذا القبيل، الا ان الحرية تعني حرية الفكر والمعتقد والثقافة والحرية السياسية والدينية، وتبقى حلما مشروعا ما دامت تصبو الى خدمة الوطن والمواطن، ومن هنا وجب تحرير الوعي الاسلامي من بعض المنطلقات المغلوطة التي ترسخ افكار من نسج خيال بعض الجهات التي لها مصالح في تأبيد سطوتها، ولنطلق العنان لسهام النقد والمراجعة والمعارضة لكل ما هو سيء في البنى السياسية والاقتصادية لان هذا ما من شأنه خلق اوطان ديمقراطية وحداثية وليس اوطانا مليئة بالخراب كما يصورون للناس.

ومن الاحكام الفقهية التي تشوه صورة الحرية في الاسلام وصورة الاسلام بحد ذاته حكم قتل المرتد[21]، وذلك اجتهاد فقهي لا اساس له في القرآن، فالأخير ينص على ان: "لا اكراه في الدين".

ومن هذه المنطلقات يركز الغرباوي على ضرورة فهم النصوص الدينية فهما يتماشى مع العصر وان مجموعة من النصوص نزلت في سياقات معينة وتم تطبيقها باليات محددة، ولا يمكن العمل بعقليات عصور قديمة جدا، وهذا من شأنه ان يترك عقلية المسلمين جامدة لا تسعى الى المضي قدما وتجاوز القراءات المتزمتة والمغلقة.

التسامح.. نصوص خالدة:

ينتصر الغرباوي للجديد المتجدد ضد القديم المتهالك التي لم تعد صالحا، رغم انه لا ينكر دور الكثيرين في صناعة تاريخ الامة، بين انهم اتوا وادوا دورهم في مراحلهم الخاصة، ولكل زمان رجاله، اذن وجب استحضار مصالح وقوى الاحياء لا اتباع الاموات وتقليدهم، ومنه ابداع افكار حية بدل الافكار الميتة التي تميت الانسان والمجتمع وتجعله عاجزا على التطلع الى افاق العصر والانصات الى متطلباته. (من الغريب اننا نستفتي الموتى ونسقط الماضي على الحاضر رغم اختلاف الظروف والثقافة والعصر، فما لم نتخل عن التقليد ونكف عن مناشدة الموتى واستنطاق الماضين، ستنقلب حياتنا جحيما في ظل عقول استاتيكية متحجرة لا تفهم من الدين سوى ما قاله السلف، وما افتى به المتشددون).[22]

ويستغل المتطرفون احداث الحروب التي ما كانت يوما الا استثناء في تاريخ دعوة الرسول الكريم الى الاسلام، وايضا يجدون ضالتهم في آيات القتال التي جاءت لغايات سياقاتها التاريخية من اجل اصدار الاحكام وجز الرقاب وتخويف الناس، وهذا ما يشوه الاسلام الذي تبنى الحكمة والموعظة الحسنة، وجاء لرحمة العالمين، اي الناس جميعا على اختلافاتهم وتبايناتهم.

نصوص غيبها النسخ:

يستعرض الباحث ماجد الغرباوي في هذه الفقرة آيات من الكتاب الحكيم يستند اليها المتطرفون لتبرير افعالهم المقيتة، وساهم النسخ في تغييب آيات اخرى اكثر اهمية، وهي عديدة جدا وتدل المسلم الى الرحمة والصفح والسلم والسلام.

وقفة مع الآيات:

يواصل الباحث العراقي ادراج الآيات التي تدعوا الى التعايش والسلام والاخوة بين الناس، ويدعو الى التبصر في كنهها وتفادي الفهم الاعوج للآيات المشروطة بسياق معين وظروف محددة، وفي الاخير يدعوا الى استتباب قيم ومبادئ  اسلامية[23]:

الرفق: على اعتباره ضدا للحمق والعنف والخرق، فالرفق قيمة انسانية نبيلة تشكل احد ثوابت التسامح، لأنها تعامل لين يكسب به المرء القلوب.

الحلم: هو ثاني القيم الاسلامية المساهمة في ارساء التسامح، وهو تمكن من كظم الغيظ، وتفادي للحرب وضبط للأهواء الجياشة.

العفو: هو ملكة تمكن من ترسيخ مجتمع متسامح ومتفهم ومتعاون، اعتبارا من كون الناس خطائين، فالعفو صفة الانسان الراقي والواعي بدواخل النفس وجموحها.

الرحمة: "ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء"، الانسان كائن ضعيف والرحمة واجبة مع كل ما في الارض، ولعل البسملة خير دليل على اهمية الرحمة.

خاتمة:

ما احوجنا في مجتمعات شمال افريقيا والشرق الاوسط والعالم الاسلامي عموما الى نهضة فكرية تنطلق من اختلافاتنا وتجعلها قوة وترجع الوحدة كإيديولوجية بدل البحث عن وحدة الايديولوجية، لان ذلك غير ممكن، فالناس ميالون الى الاختلاف والتفرد وهذا امر وارد وطبيعي وجب ضمانه كحق للجميع، فما احوجنا من اجل ذلك الى مفكرين مثل ماجد الغرباوي، بأسلوبه السلس والعميق، يؤصل للمفاهيم ويضعها في سياقنا المتسم بخصائص تميزه، ولعل الكتاب موضوع قراءتنا خير دليل على الاهمية القصوى للمشروع النهضوي القائم على التسييق والبساطة وغيرها من المبادئ والمنطلقات الفكرية الرامية الى خلق مجتمع واع بحقوقه وواجباته، متسامح مع ذاته ومع مجتمعه ومساهم في صناعة القرار.

***

محمد هروان - المغرب

 .......................

[1] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحضارية – بغداد والعارف للمطبوعات – بيروت، ط 2008م، ص 15.

[2] - المصدر نفسه، ص 18.

[3] - المصدر نفسه، ص 20.

[4] - المصدر نفسه، ص 21.

[5] - المصدر نفسه، ص 22.

[6] - المصدر نفسه، ص 21.

[7] - المصدر نفسه، ص 26.

[8] - المصدر نفسه، ص 27.

[9] - المصدر نفسه، 33.

[10] - المصدر نفسه.

[11] - المصدر نفسه، ص 43.

[12] - المصدر نفسه، ص 51.

[13] - المصدر نفسه، ص 56.

[14] - المصدر نفسه، ص 74.

[15] - المصدر نفسه، ص 76.

[16] - المصدر نفسه، ص 100.

[17] - المصدر نفسه، ص 102.

[18] - المصدر نفسه، ص 104.

[19] - المصدر نفسه، الصفحتان: 118 و119.

[20] - المصدر نفسه، ص 121.

[21] - المصدر نفسه، ص 123.

[22] - المصدر نفسه، ص 138.

[23] - المصدر نفسه، الصفحات: 157 – 160.

جاء في الخطاب الفكري للباحث الاستاذ ماجد الغرباوي أنه:

 (لا أحد فوق الخطأ مهما كان مستوى كماله، وليس الناس ملائكة وشياطين لولا التعصب الديني، وتبقى معرفة الحقيقة رهن قدرتك على التجرّد والنقد بموضوعية)1.

وهو ما يجعلنا نتوقف عند استخلاص نظرية دقيقة وحقيقة علمية ثابتة مفادها أن: (لا أحد فوق الخطأ)..

لا أحد فوق الخطأ

نظرية علمية أقرها الله في دستوره العظيم، إذ خلق الإنسان كائنا ناقصا لا يرتقي إلى الكمال باعتبار أنه تفرد هو بهذه الصفة

إذن الخطيئة ليست بالمحرمة وهي مسموح بها باعتبارها هي المقياس لعملين من إنجاز الذات الإلهية وهما الثواب والعقاب

وقد سعى المفكر والباحث الاستاذ ماجد الغرباوي إلى بلورة هذه النظرية ضمن معطيات ثلاث:

1- المعطى الأول: حقيقة الوجود

"لا أحد فوق الخطأ مهما كان مستوى كماله"

يعني الكل مخلوق

الكل يخطئ

الكل غير منزه عن الخطأ

(مهما كان مستوى كماله)

هنا موطن الجدال لأننا نعتقد أن لا أحد وصل أو يصل أو سيصل إلى الكمال. فالكمال في هذا الموطن محال.. وبالتالي يمكن القول (مهما اعتقد انه كامل).

واعتقاد الكمال موجود في بعض النماذج كرجال الدين أو رجال السياسة.. وأصحاب الجاه والسلطان. هؤلاء اعتقدوا عبر أحقاب تاريخية انهم بالغون الكمال. ولعل أبرز مقولة تؤرخ لهذا المعتقد الواهي قول معاوية بن أبي سفيان حين اعتلاء العرش:

(أنا ظل الله في الأرض ومن خالقني فقد خالف إرادة الله)

تلك المقولة التي شرعت لتوظيف الدين في السياسة إلى يوم الناس هذا. ومنها انطلقت المعضلة الكبرى .

وهذه مسألة جدالية وخلافية كبيرة لا يتسع لها المقام3476 ماجد الغرباوي

2- المعطى الثاني: تأكيد أنسنة الإنسان

(وليس الناس ملائكة وشياطين لولا التعصب الديني)

إننا نقر بدقة هذا المعطى وضبطه بطريقة محكمة وموضوعية، فالإنسان هو الدرجة الوسطى بين الملائكة والشياطين. لكن في ظل التعصب الديني يمكن أن يتحول هذا الكائن من إنسان إلى شيطان أو أن يدعي انه ملاك ..

وهنا نقر بقيمة عملية الخلق والتكوين التي هي عملية مازالت تربك العقل البشري وتدفعه إلى البحث والتنقيب. ونحن مع كل ما يشعل نار السؤال في العقل ليكون حرا وولودا ولا يكون عبدا عقيما أو خصيا بفعل تلك الرقابة التي تمارس عليه بمنطق المحرم أو الحلال والحرام وغيرها

ولنتأمل عملية الخلق وابعادها

- الملائكة خلقت من نور

- الشيطان من نار

- الإنسان من طين

وهي كلها مكونات هذا الوجود عندما نضيف إليها الأرض، التي تتركب من تراب وماء نفهم قيمة هذه المعادلة الفيزيائية الرهيبة التي قامت عليها عملية الخلق

وندرك هذا الإعجاز العلمي العظيم الذي يتفرد به الله الخالق الأعظم والفيزيائي المبهر..

فإذا حاد مخلوق عن مادة خلقه اختل توازن الكون، واذن فالتعصب الديني يؤدي إلى اختلال الكون إذن يؤدي إلى اختراق هذا الإعجاز العلمي الإلهي العظيم. وهنا نلفت الانتباه إلى مدى خطورة هذا التعصب الديني الذي يؤدي إلى شيطنة الإنسان وبالتالي تدمير الأرض بالتقاتل وسفك الدماء والتخريب والفسوق الأعظم. .

3- المعطى الثالث: قيمة العقل ودوره في الوصول إلى اليقين المعرفي

(وتبقى معرفة الحقيقة رهن قدرتك على التجرّد والنقد بموضوعية)

وهنا ندرك لماذا كرم الله الإنسان دون سواه بالعقل. فهذا التكريم العظيم وراءه مقاصد عظيمة. فلابد إذن من تحرير العقل العربي المعاصر وإطلاق سراحه ليصل إلى الحقيقة والحقيقة هنا بمعنى اليقين. ونقصد بتحرير العقل النأي به عن الخرافات والاوهام والأحكام السفساطئية المسقطة.. إنه لا مجال للتحرر وتحقيق إنسانية الإنسان إلا في ظل تحرير العقل العربي...

إن استنطاق الخطاب والتحاور معه بآليات فكرية وعلمية وأدوات معقلنة بعيدا عن كل ادلجة أو انتماء يضفي بالضرورة إلى مواطن الحق واليقين.. في سبيل مقاصد إنسانية ومبادئ كونية شاملة إيمانا منا بوحدانية الله وتفرده بخصائص الكمال والاكتمال وإنسانية الإنسان بقطع النظر عن لونه أو جنسه أو معتقده فهي أشياء لا تؤسس وجوده بل تكمله ..

لذلك خلق الله هذا الكوكب العظيم الذي هو الأرض وجهزه بأسباب العيش وأرسل له هذا الإنسان الذي اصطفاه لهذه المهمة لمقاصد متعددة. ومن هنا انطلقت رحلة البحث التي يقودها العقل. لذلك لابد من النضال الفكري المستمر في سبيل تحرير هذا العقل من ثقافة التسليم والتشبث بالمسلمات والخوف من الحقيقة حتى تتحقق المقاصد الحقيقية من مبدأ الاستخلاف...

لقد استطاع المفكر والباحث العراقي العربي ماجد الغرباوي أن يضع اللبنات الأساسية لتحرير العقل العربي المعاصر الذي مازال يتأرجح بين الخرافة والتعصب الديني المقيت الذي يضر بالدين في ذاته ويساهم في اغتيال إنسانية الإنسان وتدمير المهمة الأساسية التي جاء من أجلها إلى هذه الأرض. وهي التعمير وفق آليات ضبطها النص الديني ودعا العقل إلى التنقيب عنها بعيدا عن التطاحن والبغضاء والضغينة والفتن والكراهية ...

***

الناقدة سامية البحري

.............................

* نشره على جدار صفحته بالفيسبوك يوم 13 – 7 – 2023م

أدناه رابط محاضرة للأستاذ محمد هروان،  بعنوان: انسان الغرب وانسان الشرق وفقاً لماجد الغرباوي

يقول المحاضر: في كتابه "اخفاقات الوعي الديني، تداعيات في النكوص الحضاري" يتحدث الكاتب والمفكر العراقي ماجد الغرباوي عن اسباب تقدم الغرب وعن اسباب تخلف المسلمين، في هذا الفيديو اتطرق الى الفروقات بين مواطن الغرب ومواطن الشرق استنادا الى ما قدمه الغرباوي، وجدير بالذكر اننا لا نتصور ان انسان الغرب كامل ومنزه بل لديه نواقصه ايضا الا اننا نظرنا الى ميزاته الايجابية كي نضعها على النقيض من سلبيات مواطننا الشرقي، الاخير بدوره لديه ايجابيات ولكن الظرف التاريخي المتسم بتخلفه وتقدم الغربي يحتم علينا المقاربة بهكذا شكل.

رابط تحميل الكتاب : https://urlz.fr/mqe0

.........................

رابط المحاضرة

https://www.youtube.com/watch?v=89OAbBDATZU

Against tyranny, the open religious discourse project: a productive hearing and a productive mind at majed algharbawi

مُلخص:

نهدف من خِلال هذه الورقة البحثية إلى فَحص اشتغالات أهم الخِطابات التي تتصدّر منابر التوجيه، وهو الخِطاب الديني في صيغته العربية الإسلامية، لنُسلّط الضوء بِداية على أهم إشكالاته ومَزالقه والأساليب المُستبدة التي ينتهجها والجِهات التي يعتمد عليها في ترسيخ مَركزيته وإزاحة مُنتقديه، ثم ننتقل إلى شُروط إصلاحه وتجديده، من أجل تحرير الوعي الديني وإعادة فهم الدين، كشرط رئيسي للنُهوض الحضاري للإنسان، وِفق المَسالك المنهجية العِلمية والكُشوفات المَعرفية الحديثة والقيم الإنسانية التي لا تنضب، مثل: التسامح، الحُرّية والعقلانية، بما يُحافظ على الغايات الإسلامية الحقّة كما تضمّنه الخِطاب الديني المُنفتح والتنويري للمُفكّر "ماجد الغرباوي" كحَالة بحثية نوعية في هذا السياق. وتأتي أهمية الموضوع في كونه يُعالج قضية مُلحّة وهي سطوة الخِطاب الديني الرجعي الذي يُصادر كل حملة عقلية مُناهِضة، لينسحب ويطال بقية مجالات الحياة، بخاصة حينمَا يتحالف مع السُلطة السياسية، التي تتخذ النزعة الشُمولية في العالم العربي وتتزعّم مقاليد التسيير في كل شيء. إضافة إلى ميزة مهمّة في فكر"الغرباوي" والذي اتخذّناه نموذجًا أنه يطرح البديل ويؤسّس لثقافة دينية مثمرة لا تستبد وتُزيح. أمّا الأدوات المنهجية التي اعتمدناها، فكانت بارِزة في المنهج التحليلي والمنهج النقدي.

الكلمات المفتاحية: الخِطاب الديني - الاستبداد - اللامُفكر فيه - النقد - التنوير - النُهوض الحضاري104 tasamoh2

Abstract :

Through this research paper, we aim to examine the activities of the most important speeches at the top of the guidance platforms, it is the religious discourse in its Arabic-islamic form. Let’s first highlight its main problems and pitfalls and the tyrannical methods that he uses and who he relies on to establish his centralization and dislodge his critics, then we turn to the conditions for its reform and renewal, in order to free up religious consciousness and re-understand religion, as aKey condition for the advancement of human civilization, in accordance with scientific methodology and modern cognitive data and human values that are not lacking, such as: tolerance, freedom and rationality, it is also included in the open and enlightening religious discours of the intellectual majed algharbawi as a qualitative research case in this context. The importance of the topic is that it addresses a pressing issue: the ascendancy of the reactionary religious discourse that confiscates each every anti-mindset campaign, to withdraw and demand the rest of life, especially when allies with political power, in the arab world, it takes totalitarianism and leads the way in everything. Add to an important feature of algharbawi thinking, which we took as a model, it posed an alternative and established a productive religious culture that is not excluded. The methodological tools we have adopted have been prominent in the analytical approach and critical approach .

Key words: religious discourse - tyranny - the unthinkable - criticism - enlightenment - civilizational advancement .101 majedalgharbawi1

مقدمة: يأتي الدين religion في طليعة العناصر الحيوية التي يمتح منها الإنسان شخصيته المُركّبة، ليسدّ ثغراتها ولِيَحّفظها من شِراك التمزّق والضياع الوجودي. فهو على حدّ توصيف الروماني "مرتشيا إليادة" Mircea eliade(1907-1986م) يُمثّل بنية الوعيconsciousness ذاته وليس مرحلة من مراحِله فحسب. ويتموّضع الدين بقوة ضِمن الشُروط الجوهرية للبناء الحضاري الذي تطلبه الإنسانية، ولهذا الغرض نلحظ الهمّ الفلسفي الدؤوب بالعُنصر الديني؛ حيث يشتغل المُفكرون والفلاسفة على تجديد القِراءات الموضوعة للنص الديني، من دعوى صريحة لاستحداث مناهج أكثر فعالية وإنتاج، وضرورة اختراق الأعين التفسيرية التقليدية التي كبّلت العقل عن البحث والاجتراح. ولقد شكّل الدين نقطة باعِثة على التفكّر منذ العُصور السالِفة، في صيغة خِطابات دينية فسّرت وشرحت وأوّلت النُصوص، وقدّمت مجموعة من الرُؤى والمواقِف. لكن إن تحتكر مُهمة القِراءة وتحوّل خِطابها إلى فكرة لامُتناهية مُطلقة تصدر بالأساس عن عقل مُتعصّب مُرتهن لمُنطلقاته التي يحسب فيها صِفة القداسة، ولتفسيراته الواهِمة بأنها تحضر في كل زمان ومكان، عقلاً مُستبِدًا وقامِعًا، على قطيعة مع مُستجدات الحقل العِلمي من مناهج ومَعارف، أسير الثنائية: حلال-حرام، يُعنّف في أحكامِه التعسّفية، ويعمل على تزييف الوعي ويُعتّم منطقة الأسئلة الهامة بحجّبها في المحظور أو ما أصبح يُتداول باللامُفكّر فيه، هنا يُصبح الدين المُعبّر عنه في خطابٍ جاف خطرًا على الحياة الحضارية للإنسان، فينتقل من الحيوية إلى التكلّسية، وينخرط بالتفكير والتعقّل في براديغم الجُمود والرتابة، والأمرّ من ذلك أنه يضرّ بالدين ذاته، حينمَا يُحوّل مضمونه إلى دفعٍ للتناحر والاحتراب، ودلالاته إلى فكرة خُلقت ولن تموت، ذلك برفض تجديدها وتقويمها بما يُخدم مصالح الإنسانية. ضِمن هذا المُعترك يبرُز المُفكّر والباحِث العراقي "ماجد الغرباوي"Majed algharbawi(1954م)، مُسجِّلاً موقِفًا نقديًا من الفكر الديني المُستبد، في ذات الموضع يجتهد في وضع سُبل تجاوز هذه العقبة، وتأسيس خِطاب ديني مُتحرّر يقبل النقد والمُراجعة والإضافة المُستمِرة. وعليه: وِفق رُؤية "ماجد الغرباوي"، ماهي أبرز مظاهر سُلطة العقل الديني التُراثي؟ وفيم تتمثّل فُصول مشروعه التنويري كطرح فِكري لإحلال الدين كطرف مِحوري فعّال وحيوي؟9 majed500

أولاً: ماجد الغرباوي، المسَار العملِي والمَنْجَز الفِكري

"ماجد الغرباوي"، المُفكّر والناقِد، من مواليد 1954م بالعِراق، يَحْمِل الجنسية الأسترالية، "مُتخصّص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، مؤسّس ورئيس مؤسسة المثقف العربي - سيدني، كان رئيسًا لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85-106)، أصدر سلسلة رواد الإصلاح، وكان رئيسًا لتحريرها، كما اشتغل كعُضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد(...)، ومارس التدريس ضِمن اختصاصه في المعاهد العِلمية لسنوات عدّة"(1)، ممّا يوضّح خبرته في المجال العِلمي الأكاديمي، وعلاقته المباشرة بمسائِل الشريعة الإسلامية. سيُصنّف كباحِث بالفِكر الديني religious thought، يهدف من خِلال المشروع الذي سطّره إلى تحرير العقل الدينيreligious reasonمن قاعِدته الأسطورية والاشتغال على إعادة فهم الدين من مُنطلق مركزية الإنسان في الحياة، كما يسعى إلى تهذيب الوعي والنُضج به عبر تحرير الخِطاب الديني religiuos discourseمن قُيود التُراث ومُستتبعات العقل التقليدي. وتنديدًا بضرورة استدعاء قِراءة مُتجدّدة للنص، تعتمد النقد criticismوالمُراجعة المُتواصِلة كآليات بِنائية لها، بغرض فهم الدين فهمًا متجدّدًا، كشَرط رئيسي لأي نُهوض حضاري، يحظى بإسهام مُعتبر في تجذير قيم الحُرّية freedomوالتسامح toleranceوالعدالةjustice ، في إطار مجتمع مدني يخلو من روح الكَراهية spirit of hatredكالعُنف violence ، التنابذ والاحتراب (2). يتّضح إذن، الملمح الجوهري لفكر "الغرباوي"، المُشتغل في حقل نقد الفكر الديني السُلطوي، وما يتداعى عنه من تحريمات وتعنيفات وقتل للأفكار الجديدة. إضافة إلى حِرصه على تأسيس خِطاب ديني مُنتج يتحرّى تحقيق المدنية المُجتمعية المُتولّدة عن مدنية التفكير. ويُشير هذا المسعى إلى أن النص الديني ليس نصًا مُغلقًا مكتمل البناء الدلالي، واضِحًا وظاهرًا، لا يحتاج القِراءة الفاحِصة، وهذا ما أراد له العقل الديني المُستبد حينمَا جعل من تفسيراته للنُصوص محظورة عن المُساءلة بوصفها قِراءة مُباشرة وكُفئ للنص الأصلي، الذي يقبل بالأساس التأويل interpretationوالتفسير explanation والتعقّل، ويدفع إلى البحث عن المعاني المُضمرة، فاللغة حمّالة أوجه وبالأخص اللغة الدينية. وفي هذا السياق يجدُر التنويه إلى نقطة مهمّة، تتعلّق بنوعية القِراءة والشبكة الدلالية المُتمخّضة عنها، فالتأويل والفهم من الآليات التي يدعو إليها الدين الإسلامي ذاته ويحثّ على تنشيط مَلَكة العقل، هذا من جهة ومن جهة ثانية هُناك آيات قرآنية مُختلف فيها ومعانيها مُتوارية تتطلّب الفَحص، لكن ينبغي الحذر من التأويلية الجارِحة التي تتذرّع بعدمية المُقدسsacredسوى الإنسان، وتشرع في تبديل وتحوير الآيات ومضمون النص الديني حينمَا تغفل أنها تضرّ بعقلها الذي ارتهنت له، لأنها بهذه الطريقة تحجبه عن الحقيقة الموجودة في الأعين النظرية الموصولة بالمحتوى الديني، وصلاً تكامُليًا لا تفاضُليًا ومركزيًا. وبالمُجمل يشتغل "الغرباوي" على موضوعات: نقد الفكر الديني، فكر النهضة، العُنف، التسامح، الحركات الإسلامية، المرأة، الترشيد والتنوير (...)(3)، وهي نقاط بحثية قلِقة وهامة، ترتبط بمُستقبل المجتمع العربي الإسلامي ورأسماله الثقافي والقيمي، وشخصيته ومفاهيمه ومدى حُضوره المُستقل والمُبدع في ساحات الفكر والنظر الحصيف، وتعامُلاته مع مُفكريه وإنتاجاتهم بما يضمن الحِفاظ على التراث مع الانفتاح والانتفاع، وترسيخ قيم التسامح بمُختلف صوره، والعقلانية والتتبّع المُلحّ لمُخرجات العقل العِلمي واكتشافات منطق التقدّم، والأهم الانخراط بالدين كسند جوهري في التحضّر، وِفق اعتماد منهجيات النقد والتجديد renovationوالتفكيك deconstructionمع إعادة البناء. أمّا عن إنجازاته وإنتاجاته الفِكرية، فلقد شارك في عدّة ندوات ومُؤتمرات عِلمية، وحازت أعماله على جوائز نقدية وتقديرية نظير مجهوداته، يمتلك "الغرباوي" أكثر من 35 عملاً مطبوعًا، تأليفًا وتحقيقًا وحِوارًا وترجمة، وجُملة مُحترمة من الحِوارات والدِراسات والبُحوث والمَقالات في دور مجلات وصُحف ومواقع، إضافة إلى الحظوة الاهتمامية لعدد من النُقاد والباحثين عرب وأجانب لمَنْجزه الفِكري والثقافي والأدبي(4). ومن بين كتاباته: "إشكاليات التجديد (طبعتان) - التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان) - تحدّيات العُنف - الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية (طبعتان) - الضدّ النوعي للاستبداد، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني - الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجلّيات الوعي - جدلية السياسة والوعي، قراءة في تداعيات السُلطة والحُكم في العِراق (...)- ترجمة كتاب الدين والفِكر في شِراك الاستبداد - تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث(...)، حِوارات معه: إخفاقات الوعي الديني وتداعيات النُكوص الحضاري، حِوار مع ماجد الغرباوي/ سلام البهية السماوي"(5)، وغيرها، خاصة موسوعته متاهات الحقيقة، وعلى سبيل المِثال لا الحصر نذكر كتاب صدر عنه: الفلسفة النسوية في مشروع "ماجد الغرباوي" التنويري، الكاتب: محمود محمد علي. بهذه المُعطيات التي تبيّن الانهمام الفِكري "للغرباوي" بنقد الخِطاب الديني المُتزمّت، الذي يأسر أحقية الفهم understandingوالتأويل في نِطاقه، فإننا نصرف سعينا عن سيرته العمَلية والعِلمية إلى فَحَص وتحليل الصُور الحيّة لسطوة العقل الديني كما سجّلته رُؤيته النقدية.1 salih

ثانيًا: تجلّيات التسلُّط الديني، ضديدة الغرباوي من المُستبِدة الدينية

عَكَف "ماجد الغرباوي" على نقد العقل الديني القامِع، وكشف في مُناسبات كثيرة مُراوغاته، وفضح مُتوارياته، بوصفه حامِلاً ومُنتِجًا للاستبدادtyranny، ومنه الاستبداد الديني religious tyranny الذي يأسر التفكير في نسقه ويُعمّم ثقافة الولاء والطاعة العمياء ضمانة بقاء الأمة تحت سقفه. ولقد خصّص العديد من كتابته لبحث ظاهرة الاستبداد من تعريف، تاريخ، آليات وأنواع وغير ذلك، ويُشار في هذا المقام إلى المجهود القيّم الذي وضعه المُفكّر السوري "عبد الرحمان الكواكبي"abed al-rahman al-kawakibi (1855-1902م) في مؤلّفه الموسوم ب: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الذي يعود إليه "الغرباوي" ذاته في تدوين بعض النُصوص. وقبل مُعاينة مظاهر الاستبداد الديني كعامل رافِد للتخلّف الحضاري العربي الإسلامي، نتعرّض أولاً لماهية الاستبداد.

1- في الاستبداد ودعائمه:

من أخطر الأساليب التحكّمية التي تهدف إلى السيطرة وخدمة المصالح وتمرير الرسائل الشخصية أو لفِئة تجمعها منافِع مُشتركة هو الاستبداد بمُختلف أشكاله، حيث يعمد الإنسان الطاغية إلى استغلال نفوذه وخوف الشعب من سُلطته، لغرض بسط هيمنته وتزعّمه التسيير لكل شيء.

أ- تعريف الاستبداد:

يُوصف من يحكُم بمنطق الاستبداد "بالمُستبدdespot ، المُشتقة عن الكلمة اليونانية ديسبوتيسdespotes ، التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده، ثم خرجت إلى عالم السياسة لكي تُطلق على نمط من أنماط الحُكم، بعد أن طوّرت الكلمة أكثر من مرة على يدي رجال الفكر السياسي، كان آخرهم مونتسكيو (1689-1755م)"(6). يُشير مُصطلح الاستبداد لُغويًا إلى دلالات الزعامة وتسلّم مقاليد الحُكم في مكان مُعين وعلى فئة مخصوصة، قد يكون في المنزل وعلى أفراده، أو في الساحة الاجتماعية كفضاء العمل مثلاً وعلى العمال الذين تُخلع عليهم صفة العبيد، ثم كان للمُصطلح أن دخل السياسة ليُصبح شكلاً من أشكال الحُكم، إمّا أن ينحصر الحُكم في يد مجموعة من الأفراد المُستبدة وإما في يد فرد واحد يزعم الملكية المُطلقة، النتيجة أن النظام الحاكم لا يعرف حق الشعب في إبداء الرأي أو في تقرير مصيره، والأخطر من ذلك أن الشعب ذاته هو من يجهل حقه بالموالاة التامة للحاكم المُستبد. والسُلطة المُستبدة هي تلك السُلطة التي تقفز على القانون، فبحسب منظورها لا يخضع الحاكم إلى القانون إنما هو قيد على المحكومين فقط، ممّا يجعلها في حُرية تامة فيم تعلّق بالاجراءات التي تتخذّها لمُصادرة حُرّيات الأفراد أو ممتلكاتهم(7). إذن بهذا التوصيف يكون الحُكم الاستبدادي أخطر الأنظمة الحاكِمة لما ينتهجه من أساليب قمعية ضدّ الشعب وكل من يُخالف عقيدته.

ب- تاريخ الاستبداد:

يُصرّح "الغرباوي" بأن للاستبداد تاريخ طويل، يُثبت تساوقه مع اللحظة التملّكية التي أراد لها الإنسان التحقّق والتجسيد، وبالعودة إلى السجلّ التاريخي المَخفي عن القِراءة، نجد العديد من النماذج التي دلّت على وجود الطواغيت والمستبدين، فالحضارات الشرقية كالسومرية، البابلية، الآشورية، الفرعونية أو الصينية وغيرها، قامت على أساس انتهاك حرية الإنسان وكرامته، هذا الفعل الاستبدادي هو المُنعطف نحو تشييد حضارة مادية عبر التاريخ، وتأسيس حكومات مُطلقة تمتّعت بالسيادة الواسعة المُنفلتة من كل قيد دستوري أو قانوني يحدّ من سُلطتها(8)، فالغريزة الإنسانية للتملّك وتحصيل المنافع جعلته يتّخذ من السُلطة سبيلاً استغلاليًا لجلب مصالحه، فأذلّ بذلك العِباد وأرقّ دماءهم. أما في الدولة الإسلامية فقِياسًا على دِراسات الشيخ "محمد حسين النائيني"sheikh mohammad husain al-nae’eni، لم يكن هناك أيّ مظهر استبدادي في سياسة الرسول صلّى الله عليه وسلم أو الخُلفاء، غير أنه أرجع وجود الاستبداد في الدولة الإسلامية إلى الحُكم الأموي، حينمَا تحوّل الحُكم إلى وراثي لا يهتم لشرط الكفاءة اللازمة في الحاكم الإسلامي، إنما الأهم هو شرط النسب والوراثة فقط(9). نفهم من هذا أن سياسة التسامح والشورىconsultationوالاستماع إلى الآخر والحِفاظ على المُمتلكات والحرّيات والكرامة التي هي من مقاصد الشريعة، كانت ملمحًا جوهريًا نفى الاستبداد عن فترة النبي الكريم والخُلفاء، كما يُمكن تسجيل نقطة مهمة وهي أن الاستبداد في وجه من وجوهه يعتمد على عامل الوراثة من أجل إبقاء دائرة الحُكم ضيّقة لا تتعدّى نِطاقه.

ج- آلية الاستبداد

لأجل الانتشار والتجذّر أكثر يعتمد المُستبد على آليات يُراهن عليها من أجل جعل الاستبداد ظاهرة طبيعية والأكثر مطلوبة كما لو أنها نظام شرعي لإعطاء الحُقوق وإبقاء الحياة، ويرى "الغرباوي" أن المُجتمعات الإسلامية قد عانت من الاستبداد، وطريق الإصلاح يمرّ بداية عبر خطوة هامة تتمثّل في فضح المُستبد ومُراوغاته، وكشف أوراقه(10)، فالاشتغال على التعرية وإسقاط الأقنعة التي يرتديها المُستبد ضرورة سابقة، حتى يحصل الوعي من طرف الشعب المقموع والمقهور بأن الحاكم أو رجل الدين الذي يتوسّمون فيه الفلاح هو مرتع خصب للفساد، من ثم تأتي مرحلة الإصلاح بعد أن تم تهيئة العقل للفهم والموافقة. ويستند المُستبد على آلية دينية، حيث يُلاحظ أنه "يرفع شِعار الدين ويرتدي عباءته عند الضرورة، بعد أن يستغل جهل الأمة، ويستعين ببطانة من الجهلاء. فعلى الصعيد الأول نجد فرعون يرفع شِعار الدين ضدّ موسى عليه السلام ويوحي إلى قومه بأن واجبه يُطالبه بالدفاع عن الدين (...) وأما على صعيد الجهل فإن العوام هم قوة المُستبد وقوته"(11). فمن خِلال التذرّع بالوظيفية الدفاعية عن الدين وبإسم حمل الصِفات الإلهية يتمكّن المُستبد من كسب العامة إلى صفّه، ولنا في ذلك مِثال الطاغية فرعون الذي برّر لاستبداده بالمسؤولية الدينية الموكلة إليه، وسوف يقوى الاستبداد أكثر ويجد المُستبد المساحات الكافِية للتحرّك هيمنيًا فيها بعد أن يضمن جهل الأمة، الذي يحوّل الفاسِق إلى مُصلح، والناقد التنويري إلى مُتمرّد مُجرم، وينظُر بعينٍ نقيضة لكل ما يفعله المُستبد من إهانة وانتهاك وسلب وتعدٍ. ويؤكّد "ماجد الغرباوي" أن الاستبداد الديني أخطر من الاستبداد السياسيpolitical tyranny ، وهو أخطر أنواع الاستبداد وقواه لدرجة أنه يصعب علاجه بل يُمتنع عن ذلك، والاستبداد السياسي متولّد عنه(12)، فالخِطاب الديني هو أهم الخِطابات وأكثرها تأثيرا، لأن الشعوب العربية الإسلامية هي شُعوب مُتديّنة يكتسب الدين في فضائها اليومي حيّزًا كبيرًا، فحتى على مُستوى مشاكلها وأزماتها فإنها ترفض في الغالب حلول العقلانية والأعين العِلمية الحديثة لصالح الفتاوى التي تتحوّل بفعل منطق الجُمود إلى الثنائية التي تأسر: حلال - حرام، ونحن هنا لسنا ضدّ الدين، بالعكس فهو شرط جوهري، لكن الضديدة هي من المُتزمّت الذي يهمّ بانتشار الجهل ويسعى إلى وقف حركة التوعية والتنوير، وبالتالي فخُطورته مُتزايدة ومُكثّفة مقارنة ببقية استبدادية الخِطابات الأخرى. وللاستبداد الديني مظاهر متنوّعة، يفصّل فيها "الغرباوي" في كتاباته، ولقد وقع الاختيار على أهمّها وأكثرها حُضورًا وتوجيهًا.81 majedalgharbawi600

2- أين يتجلّى الاستبداد بالدين؟

يلجأ المُستبد لتحقيق مأرب كبح الحُرّيات، وقتل التفكير ونشر التكفير، وتمويه العقول وإفساد الضمير، وتغييب الوعي إلى أن يُصبح صنمية مُتأزّمة لا تنتج إلاّ التدجين والقبول السلبي بالوضع البائِس على أنه أفضل الأوضاع، إلى الدين والشِعارات الدينية كغِواية ناجِحة للشُعوب المُستضعفة فكريًا قبل كل شيء، ويتمظّهر الاستبداد الديني في نقاط مُهمّة وقلِقة كثيرًا، وهي كالتالي:

أ- إفشال الوعي وتغليط الرأي:

نظرًا للأهمية الفارِقة لملكة التوعية النقدية في إيقاظ الشُعوب ودفعها إلى المُراقبة والمُعاقبة للطبقة الدينية والسياسية القاهِرة، تعمل السُلطة المُستبدة على تزييف الدلالة الأصلية للوعي حتى يحصُل له الإخفاق في تبليغ رسالته التنويرية التي تُعبّر عن جوهر مفهومه. فيؤكّد "الغرباوي" على ذلك، حينمَا يُصرّح بأن الحُكّام والشريحة المُنتفعة لمّا تُدرك خطورة الوعي، فإنها تُسارع إلى سدّ جميع طُرقه، ولمّا عرفوا قيمة الدين في حياة الأمة استندوا عليه لتحقيق مآربهم، فحوّل وعاظ السلاطين وعُلماء البلاط النقد جريمة وتمرّد ديني لا يُمكن العفو عنه، وأعطوا دلالة تفسيرية تضليلية للوعي، حتى صار لدى الناس مُرادِفًا للتمرّد والرفض والخروج عن المألوف من أعراف اجتماعية وشِعارات دينية وتراث وسلف، فإذا أرادوا لشخص ما السقوط قاموا بإنسابه إلى تيار الوعي، ولعلّ أكثر ما عانت منه الطبقة المُصلحة هو إخفاق الوعي وفشله في تحديد المعنى الصحيح لمفهومه(13). بهذه الكيفية تُشوّه المُستبدة السياسية الدينية الوعي؛ إذ تجعل من النقد وروح التوعية جرائم يُعاقب عليها بإسم الدفاع عن الدين وما تُمليه الشريعة، ممّا يتولّد عنه مفهوم خاطئ عن الوعي على أساس أنه كُفر وإلحاد بالنسبة إلى الدين الذي يصطنعونه ويبيعون شريعته والثمن سلب حرية التفكير والتعقّل، من أجل إبقاء الشعب في غفلته، ليكون الوعي ضحية لفساد الجهة القابِضة.

ب- سُلطة النص وسجن القِراءة في قُدسيته

لقد حالت المُستبدة الدينية دون أن تشهد الساحة الفكرية العربية الإسلامية تفاعلاً جدليًا مُثمرًا بين النص والقارئ؛ وذلك بفِعل القِراءة الضيّقة التي ترتاب مزلق خرق المُقدس، رغم أن عالَمها رحب يضمّ المنقول والمعقول، والمسموع والمكتوب، "فالباحث الديني/ الفقيه / المفكر / المفسّر، يقرأ من داخل النص، فيخضع لسُلطته ومحدّداته لا إراديًا، ولا يُمكنه التمرّد عليه. لا لأنه لا يُريد الحرية أو لا يفهم معناها، بل لأن قداسة النص هي التي تتولّى هندسة قبلياته وبنيته الفكرية والمعرفية فتفرض محدّداتها ومدياتها، وآلية تفسيره أو تأويله للنص، وهي التي تحدّد هامش الحرية وفضاء التفكير داخلها (...) ومِثالها جميع القِراءات التُراثية بل وأغلب الفكر الديني الخالِ من النقد والإبداع"(14). يُكبّل النص التحرّكات التفسيرية والقِرائية للباحث الديني، ويأسرها في نسقه ويفرض عليها قوانينه التي تتلخّص في قانون القداسة. ليُشكّل بذلك مرجعية ثابتة هي من تعمل على تحديد خلفياته وقاعدته الفكرية والمعرفية والمنهجية أيضًا للتعاطي مع دلالته، والأكثر تُحدّد مقدار الحرية والتفكّر الذي وعلى حسب ذهنية التطويق في إطار المُقدس تكاد تنعدم. ممّا نتج عنه قِراءات جافة تُردّد المدلول الظاهر للنص من دون تسجيل إضافات جديدة مُبدعة وخلاّقة تخدم النص ذاته بأن تجعله مُنفتحا على كل زمان ومكان ومُواكبًا للحركة الواقعية المُتغيّرة، فإذا تحرّر القارئ وُلد النص وعلى ذات المسيرة سيتوالد صونًا له من إجهاضات الحبس في إطار زماني ومكاني تقليدي. ولا نوافق "الغرباوي" هنا في إدراجه للمفكّر في سياق أولئك الخاضعين للسُلطة النصّية، فالمُفكّر رأسماله هي الفكرة، التي تأبى التحديد والفَرَض القبلي، ثم إن التفكير والتفكّر من طبيعته الجُرأة الموصولة بعلّة الحرية. إضافة إلى أن القِراءات التُراثية لم تكن في مجموعها عقيمة، هناك قِراءات جمعت بين عالم السمع وعالم العقل، ليكون المنتوج مُبدعًا، نذكر من ذلك قِراءات المفكر المغربي "طه عبد الرحمان"taha abed al-rahman (1944م)، وقِراءات أخرى يُحسب لها مجهودها، غير أنه طالها النقد باعتبارها قِراءات مجزوءة، لنكون أمام حتمية منهجية التكامل والتراجع عن توصيفات: "جميع"، "كل"، مثل: قِراءة المغربي "محمد عابد الجابري"mohammed abed al jabiri (1935-2010م)، وقِراءة الجزائري "محمد أركون"mohammed arkoun(1928-2010م) والتي يُشير إليها "الغرباوي" ذاته بتثمين خَرجَاتِها النقدية، لكنه يُحذّر من مزالق الارتهان للأسس المُنطلق منها حتى لا نعود في كل مرة إلى سجن القدسية.

ج- الإزاحة بالعُنف وتكفير التفكير:

يخاف المُستبد الاختلافdifferenceوالنقد والمُعارضة، خوفًا على مصالحه لا على الدين كما يزعم بوقاحة، فالدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى الاجتهاد والتعقّل وآيات القرآن الكريم الداعِية بوضوح إلى إعمال العقل والتدبّر والتفكّر خير برهان لمن يحجب البرهنة بأساليب واهِمة. ولقد قاده الاستبداد إلى التعنيف والتكفير والإخراج من ملّة الإسلام، حيث ينوّه "الغرباوي" إلى خُطورة هذا الفِعل القمعي؛ إذ اجتاحت موجة من التكفير العالم العربي والإسلامي في العُقود الأخيرة، كان وراءها حركات إسلامية مُتطرّفة، من دعواتِها الأولى قتل المُختلف دينيًا ومذهبيًا، لترسم صورة سوداوية عن الإسلام وتعاليمه، فهي ظاهرة مُفجعة لا تُلقي سوى بالانطباعات السلبية. ويرتد الفكر التكفيري في أصوله إلى قِراءات غير ناضِجة مُبتسِرة عن الدين، وتأويلات مغلوطة للآيات والأحاديث الخاصة بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر. وتعزّز هذا الفكر المُنحرف بواسطة فتاوى دينية حكمت بحلال قتل الآخر، وهو لون سُلوكي عُدواني آفِل بالفعل الحضاري والجهود المبذولة للتقدّم به. حتى صار الغرب يُرادف بين المسلم والإرهابي(15). يُظهر هذا النص حجم التعنيف والتكفير الذي مارسه المُستبد بالدين ضدّ المُختلف والناقِد، ناتِجة عن جهل بالمضمون الحقيقي، فكل تأويل مُتسرّع سطحي لآيات وأحاديث تتحدّث عن أمور الجهاد، سيؤول بالمعنى المُراد له إلى الهاوية حينمَا يُزاح لصالح آخر يحثّ على تكفير التفكير والإبعاد بالعُنف. هذا الواقع المأزوم للنص الديني جعل من الغرب كما يقول "الغرباوي" يُساوي بين المسلم والإرهابي وهو ما أصبح يُتداول تحت مُسمّى "الإسلاموفوبيا"islamophobia. وبحسب تقدرينا، نرى أن التأويل المُبتسر قد يُخفّف من وطأة الجُرم بعفو الجهل منهم، وإننا نُقدّر المسألة على أنها بعمدٍ وتخطيط، هم يعلمون جيدًا أن نشر قِراءات مغلوطة للنصوص المنوطة بالجهاد طريق مُعبّد لإهدار طاقات التحضّر. كما لا تفوتنا الفُرصة للتأكيد من جهة على رأي "الغرباوي" بأننا بمثل هكذا سُلوكيات تعنيفية وتكفيرية وبإسم الدين نترك الغرب يتصيّد أغلاطنا للحُكم علينا بصانِعي الإرهاب، لكن ومن جهة ثانية لا نغفل على حقيقة أنه هو الإرهاب الفِعلي ونصوص الفلاسفة المعاصرين تعترف بذلك، من مثل كتابات: "جان بودريار"jean Baudrillard(1929-2007م)، "نعوم تشومسكي"noam Chomsky(1928م) وغيرهِما، وأبلغ حجّة على الإرهاب الفكري هي رسومات شارلي إيبدوcharlie Hebdoالساخِرة من شخصية النبي الكريم في محاولة لاستفزاز المُسلمين وإغضابهم، من ثم إعلان أنهم إرهابيين.84 mahmod mohamad ali 600

د- الهيمنة الذُكورية وتهميش المرأة :

بِداية، تُصنّف إشكالية قمع المرأة كإشكالية عالَمية وليست عربية إسلامية فقط، لكن ولأننا نهمّ دائِمًا بُمعالجة إشكالاتنا واعتلالات فِكرنا وواقعنا، فسنحّصر التحليل النقدي في إطاره المَحلي. ولقد حظيت هذه الإشكالية بعِناية بحثية مُتميّزة في فكر"ماجد الغرباوي"، حيث ينتقد كثيرًا المنطق الذُكوري السُلطوي وقمع المرأة، وله في هذا الصدد كتاب مُعنّون ب: إشكالية العلاقة بين المرأة والقرآن، "كمدوّنة عقدية وتشريعية، تستمد قُدسيتها من تعاليها، وهيمنتها على الوعي الديني قاطِبة. وهي تمثّل سُلطة معرفية، وُظّفت لتكريس المنطق الذُكوري، بعد تجريد أحكام الشريعة من تاريخيتها، والدفاع عن إطلاقاتها الأزمانية والأحوالية. يتجلّى ذلك في فتوى الفقهاء والخِطاب الديني المُرتكز لرؤية الفقيه"(16). رغم الدور المِحوري للمرأة داخل المجتمع ومن عدّة زوايا، إلا أن الواقع العربي الإسلامي لا يزال جاحدًا بهذه الحقيقة ولو أننا نلحظ تحسّن في وضعية المرأة خاصة بفضل القوانين التي تحميها من العُنف الذُكوري. وفي إطار قمعِها فلقد عزى ذلك "الغرباوي" إلى الخِطاب الديني المَبني على رؤية ذُكورية تهمّش العُنصر النسوي، بسبب سوء فهم وسوء توظيف لأحكام الشريعة، كعامِل من عوامل قمع المرأة، في وقت أنصفت فيه الشريعة الإسلامية المرأة وضَمِنت لها حُقوقها وصانت لها كرامتها، غير أن العقل الفقهي والديني الرجعي هو من أساء إلى المرأة بمنطق ذُكوري مُستبد. إذن، هذه هي أهم تجلّيات التسلّط الديني والتي تسبّبت في تراجع الفِعل الحضاري وأفشلت المشاريع النهضوية. ولا يتوقّف "ماجد الغرباوي" عند نقد الفكر الديني والخِطاب العنيف القاتِل لروح الأفكار التنويرية، بل يؤسّس لخِطاب آخر يتميّز بكونه يجمع بين الدين كشرط جوهري للانتفاضة الحضارية وبين الأعين العقلية لنكون أمام أطروحة: سمع مُثمر وعقل مُنتج؛ بمعنى كيف نجعل من الدين رافِدًا دافِعًا للتحضّر؟ والإجابة هي القِراءة العقلانية المُنفتحة التي تتكامل والمعاني الإيمانية الحقيقية. 

ثالثَا: نحو سبيل فِكري تنويري، ماجد الغرباوي ورِهان الإيقاظ :

بعد أن عرضنا بالتحليل والنقد الجزء الأول والذي اختصّ بالموقف النقدي "للغرباوي" من منطق الاستبداد الديني ومظاهره، يأتي الجزء الثاني مُوجزًا اهتم بأهم المُهمّات التجديدية التي دعى إليها قصد التغلّب على عوائِق الاستبداد وإيقاظ الشعوب العربية المُسلمة من مراقِدها نحو التفتّح على العلم والمعرفة بالمحافظة على المقاصد الحيّة للدين الإسلامي، وتفصيل ذلك في مايلي:

1- ضرورة التجديد وبعث الفكر التنويري :

يُلحّ كثيرًا "الغرباوي" على قيمة التجديد وإلحاحيته في زمن تفجّرت فيه الرتابة والجمود والتقليد، وانتشرت فيه الحركات المُناهضة لكلّ أطروحات العقل التنويرية والتوعوية، ويقصد بالتجديد، "تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، لإعادة النظر بجميع اليقينيات والمقولات الأساسية. من أجل فهم جديد للدين ومقاصِده وغاياته ومبادئه ومعارفه في ضوء تطوّر وعي الإنسان وقُدراته العِلمية والمادية، استجابة لتطوّرات العصر ومُقتضياته، ومعرفة حدود الدين، والمائز بينه وبين الفكر الديني، والتفريق بين الإلهي والبشري، أو بين المُقدّس والمُدنّس"(17). ينبغي تحيين الأدوات المُفكَّر بها بالانفتاح على المسالك المنهجية والمنظورات المعرفية الحديثة، وهذا يُشير إلى أن الإجراءات البحثية التقليدية من مناهج وأعين لم تعد مُثمرة، فهي حبيسة زمان ومكان ولّى عهدهما، لكن بحُسن توظيف؛ فالمناهج المنقولة من دون تحوير وتنسيق ستضرّ بالبيئة المزروعة فيها، والقصد هنا ضرورة تكييف المنهج بما يتماشى وخُصوصية الموضوع، فليس من المعقول الإتيان بمناهج غربية هي في الأصل استنبتت لمُعالجة إشكالات العلوم الإنسانية وإقحامها هكذا في تأويل الأحاديث أو الأكثر من ذلك إخضاع القرآن الكريم لها، فلكلّ منهج تاريخ محلي، ومن أجل الانخراط به في العالمية يجب أولاً تعديل مقاصِده بما يتّفق والمادة المقصودة. كما يدعونا "الغرباوي" إلى التفرقة بين الاصطلاحات المُتقاربة بالضدّ غير المُتطابقة، مثل: المُقدّس / المُدنّس حتى نحفظ الدين الحنيف من تشوّهات الخلط التي تُحيل كل شيء إلى مُدنّس، وفي ذات الموضع يُنبّهنا إلى أهمية فهم جديد للدين، فهمًا حقيقيًا لما يرمي إليه ويقصده. وفي حديثه عن قيمة الفكر التنويري، فيؤكّد أنه لا تراجُع عنه؛ لأنه ولغرض إزالة الحواجز وفتح الطريق أمام موجات الإصلاح والتغيير، يتطلّب إفشال مساعي رجل الدين والحُكم والعشيرة والوقوف في وجههم ممن يستثمرون في الجهل والتبعية وعدم الانفتاح على آفاق العِلم والمعرفة والحضارة ورأي الآخر، من أجل تجذير سُلطتهم التي يخافون عليها من استيقاظ العقل وتمرّده على سُلطاتهم. وإن لم نُفعّل قِوى المُعارضة سيبقى الفكر والثقافة أسيرًا في عالم النظر والورق مفصولاً عن الواقع لا يؤثّر فيه، ولهذا فالنقد ثم النقد بهدف شقّ آفاق الوعي(18). فالرِسالة واضِحة الخُطوط والمعاني؛ إذ ينبغي بإصرار كسر وتيرة الاستبداد بخاصة الديني، فالدين لبِنة رئيسية للتحضّر، وأيّ توظيف إيديولوجي مشحُون بالسُلطة سيُحيل المَسعى إلى وهم هادِرًا للطاقات، وعلى سيرة التنويه يُشار إلى أن "الغرباوي" خصّص كتابات حول واقع السياسة والدين في بلده العراق، من ذلك كتابه الذي حاوره فيه "طارق الكناني" والمعنّون ب: "رهانات السُلطة في العراق، حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي". والنقطة الثانية تتعلّق بقيمة إنسانية راقية نقيضة لإرهاب العُنف والاستعباد.

2- ترسيخ قيمتي التسامح والحُرّية :

ما يُميّز المُجتمع البشري التركيبة الغنية بالاختلاف والتعدّديةmultilateralism ، ممّا يفرض وجوبًا التسامح مع هذه القيم الكثيرة وأن لا نُعنّف بعضنا البعض لمُجرّد أننا نختلف دينيًا أو عرقيًا أو جُغرافيًا، فهو هبة ربّانية تحمينا من تمزّقات المُطابقة والاتفاق في كل شيء. ويُحدّد "الغرباوي" الأبعاد الجوهرية للتسامح في نبذ العُنف ورفض الطائفية واعتماد آليات المجتمع المدني والإيمان بها، واتخاذ مبدأ الحوار كمبدأ لحلّ النِزاعات كافة، ولذلك فإن الحُرّية عنده ليست ماهية بل مُشخّصنة؛ بمعنى مُتجسّدة ولها وظيفة اجتماعية مُحدّدة. ولا يُمكن أن نقدّم لها آية ضَمَانات سياسية في مُجتمعات كمُجتمعاتِنا(19). فالتسامح شرط أساسي للالتحام، وهو عصب العيش المُشتركcommunal living، الذي يُعد مطلبًا مُلّحًا لعديد الفلاسفة مُمثّلي البراديغمات المُتلاحقة: الاختلاف، التواصل communicationوالاعترافrecognition، ولقد أكّد "الغرباوي" على ضرورة تفعيله، بخاصة بين الأديان وتأسيس ثقافة التعايش واحترام المُعتقد المُختلف، والتسامح يستدعي الحُرّية؛ أؤمن بحُرّيتك بالتالي أتسامح مع اختلافاتك عنّي، والتي يخلع عليها صِفة عملية تندرج بها ضمن فلسفة الفعلphilosophy of actionحينمَا يطلب تجسيدها في الواقع الاجتماعي وليس الرفع من قيمتها في عوالِم النظر والماهية والجوهر. أمّا النقطة الثالثة فترتبط بالمرأة وإصلاح الرؤية التعسّفية لها.43 malida2

3- إنصاف المرأة، نحو قيم تحفظ إنسانيتها من تسلُّط الذُكورة وعِبادة الأنُوثة :

يهدف "ماجد الغرباوي" المُهتم بقضية المرأة ومنه ما يُعرف بالفلسفة النسويةfeminist philosophy، إلى إحلال منظور عقلاني عادِل لها، تِبعا للظُلم الذي تعيشه بسبب ولاء المُجتمع للمنطق الذُكوري وإخلاله بالقيمة الإنسانية للمرأة؛ إذ يرى أن "أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المُثقّفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذُكوريته وسُلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامُله معها. مع تعميق ثقتها بذاتِها وبمَنْجَزِها، بعيدًا عن تاء التأنيث، تحاشِيًا لإعادة إنتاج الذُكورة من خِلال تكريس الأنُوثة"(20). إنها تحديدات مطلبية مُهمّة للغاية، حيث ينبغي بإصرار تحرير الوعي، والاعتراف بقيمة المرأة وتقدير مجهوداتها، والعمل على توعية المُجتمع بأهميتها، وأن الإنسانية برجالِها ونسائِها، والحضارة تُبنى بهمَا معًا في إطار حُقوقي وواجباتي عادِل. وينبّه "الغرباوي" إلى نُقطة فارِقة غفلت عنها الحركة النسوية المُتطرّفة في دعوتها للاتفاف حول المرأة، وهي أنه يشير بذكاء إلى توخّي حذر الوقوع في تكريس الأنوثة التي ستُنتج تلقائيًا الذكورة، ليتوالد الصِراع بينهُما، ويأتي هذا التنبيه إلى كون الأنُوثة والذُكورة عبارة عن مدلول جنسي، وطريق إنصاف المرأة عبر تقديم أنوثتها لن يورث سوى الإذلال لها بحكُم أنها توصيفات جنسية ستجعلها حبيسة منظور الجسد والدلالات الجنسية، أمّا أن نُنصف المرأة لنحافظ على المرأة فله معانٍ أكثر رِفعة من اجتماعية، عِلمية، اقتصادية، تاريخية وثقافية، التي تستدعي دورها الفعّال في التقدّم والتحضّر. وفي حديثه عن وظيفة الخِطاب الديني، فيدعو إلى توظيف الخِطاب الديني الإنساني، العقلاني والتنويري، الذي يعتمد قيم العدل، الرحمة والتراحم(21)، من أجل إبلاغ مأرب منشود لحظة التحقّق، يُعيد للمرأة إنسانيتها وثقتها الضائِعة في مُجتمعاتنا المثقوبة نفسيًا ومعرفيًا وقيميًا.

إذن، كانت هذه أهم النقاط الفِكرية التي طرحها المُفكّر "ماجد الغرباوي"، ليُبيّن بواسطتها الفهم المُشوّه الذي ينجم عن عقل مُتعصّب يخدم منطق الأبويات والوصاية، ولا يكترث لقيم التنوير والحُرّية والإنسانية التي تأبى التأطير، وهذا ما توضّح في الاستبداد الديني القاتِل للجدّة والأصالة معًا. ليضع مشروعه التجديدي والإصلاحي الرامِي في مفاصِله إلى إحداث تغيّرات حقيقية على مُستوى الفهم والسلوك.

خاتمة:

بعد الانتهاء من وضع نقطة النهاية لهذه الورقة البحثية، والتي نُقرّ بأنها نهاية ظرفية مخصوصة هُنا فقط، في انتظار جُهود أخرى تُصحّح أخطاء المسار وتُثمّن صوابيته، نصل إلى إدراك عُمق الضرر الذي يلحق بالواقع العربي الإسلامي جرّاء مركزيات دينية مُستبدة، تقطع الطريق على إمكانات فِكرية آمنت بأن قدر التخلّف والتبعية يُمكن ردُّه بالعمل والإرادة على التغيير نحو الأفضل، وتُجهِض المُحاولات الطموحة لاستنطاق مقدرات العقل المُتّفقة مع القول الديكارتي: "العقل أعدل قسّمة توزّعًا بين الناس"؛ لتبعث الثقة في الذات المُفكّرة بأن العطاء المنهجي والمعرفي ليس حِكرًا على العقل الغربي، فقط ينبغي تهيئة الشُروط اللازمة. لتدفع هذه الحالة المُتأزّمة مُفكّرًا وباحثًا نُقدّر يقظة ضميره الفِكري ونقرأ نصوصه بعينٍ موضوعية تتصل ولا تنفصل، ناقِدة لا ناقِضة، وهو "ماجد الغرباوي"، لنؤكّد على نُقطة طرحها وألحّ على الالتفاف حولها، وهي الإنسان، كسؤال محظور في ثقافتنا، فنحن نشتغل على مباحث المُقدس، الديني، الدولة، ولكن مبحث الإنسان مفقود، رغم أنه مبحث غني جدًا بالإمدادات المعرفية الموصولة بفروع عديدة أبرزها علم الأناسة، ثم إن السبيل للتحضّر يستلزم الإحاطة بالإنسان، ولذلك يجب أن يعي العقل العربي المُسلم أهمية الاشتغال حوله، وقيمة القِراءات الإنسانية العقلانية المُتحرّرة من قبليات لاهوتية مُتزمتّة، في حين مُنفتحة ومُتكاملة مع نُصوص إيمانية عرفت قدّر قارِئها.

***

شهرزاد حمدي – طالبة دكتوراه / فلسفة

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

.............................

* الدراسة قد شاركت ضمن أعمال مؤتمر: المتغير الفكري وأثره على الخطاب الديني.. الذي انعقد في كلية التربية الأساسية، جامعة الكوفة العراق آذار 2022م، ثم تم نشره مؤخرا في مجلة الكلية الإسلامية الجامعة المحكمة، في الجزء الثاني من العدد: 71 / 28 آذار 2023م.

الهوامش:

(1) موقع المثقف العربي:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majed-algharbawi-cv

(2) المرجع نفسه

(3) المرجع نفسه

(4) المرجع نفسه

(5) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، ط3، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2016م، ص 247

(6) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2012م، ص 137

(7) ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للاستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2010م، ص 30

(8) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسن النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، مصدر سابق، ص ص 139-140

(9) المصدر نفسه، ص 140

(10) صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2016م، ص 51

(11) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسن النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، مصدر سابق، ص ص 146-147

(12) ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للاستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مصدر سابق، ص 28

(13) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 36

(14) ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2018م، ص 35

(15) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 15

(16) محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، سيدني، الاسكندرية، 2020م، ص 15

(17) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 24

(18) ماجد الغرباوي، متاهات الحقيقة (1) الهوية والفعل الحضاري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل الجديدة، سيدني، دمشق، 2019م، ص 196

(19) صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة في المشروع الإصلاحي التنويري لماجد الغرباوي، مرجع سابق، ص 73

(20) محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مرجع سابق، ص 12

(21) المرجع نفسه، ص 40

- قائمة المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

1- ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2012م

2- ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للإستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2010م

3- ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2018م

4- ماجد الغرباوي، متاهات الحقيقة (1) الهوية والفعل الحضاري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2019م

ثانيًا: المراجع

1- صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2016م

2- محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف العربي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، سيدني، الاسكندرية، 2020م

ثالثًا: المواقع الإلكترونية

1- موقع المثقف العربي:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majed-algharbawi-cv

مقدمة: يعد ماجد الغرباوي، المفكر العراقي من أهم الاسماء المعاصرة في العالم الاسلامي والتي طرحت بجرأة أسئلة مرتبطة بالتخلف الذي يعاني منه اغلب بلدان شمال افريقيا والشرق الاوسط وبلدان اخرى مسلمة، اسئلة مؤرقة شغلت بال مفكرين كثر كأركون والجابري وطه جسين وحسين مروة وغيرهم الكثير، اجيال تتالت واحدثت نظريات مختلفة وتارة متباينة، كلها تصب في مصب واحد وهو ايجاد المخرج من المأزق الحضاري الذي نعانيه.

اضافة الى ذلك، نمت افكار اصلاحية تحاول تحليل المنظومة الفكرية والعقلية للمسلمين بيد انها ووجهت احيانا بالتنكيل واحيانا بالرفض والتكفير، ويحاول الغرباوي تحليل منابع ذلك النكوص واليقين السلبي من خلال هذا الكتيب الذي يحاوره من خلاله الأستاذ سلام البهية السماوي، وذلك وفق مقاربات نقدية وتحليلات مبنية على المقارنة مع الغرب، بعيدا عن الخيار العنفي الشمولي والفكر الرجعي، وتم طرح قضية التجديد على طاولة النقاش، زد على ذلك ثلة من الاسئلة والمظاهر التي تبصم بنية العقل الاسلامي.

من هو ماجد الغرباوي:

ماجد الغرباوي كما مدون في سيرته في "مركز نقد وتنوير": مفكر عربي تنويري معروف بإسهاماته النقدية الإبداعية في مجال الفكر العربي في مختلف تجلياته الفلسفية والدينية. ويعد الغرباوي من أصحاب المشاريع الفكرية النهضوية في العالم العربي والإسلامي . وقد شيد مؤسسة المثقف العربي في سيدني باستراليا، وهو يرأس حاليا هيئة تحرير صحيفة المثقف الشهيرة . يتضمن مشروع الغرباوي قضايا حساسة جدا في الفكر العربي ويتمحور هذا المشروع في العمل على تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. ويركز على أهمية التنوير الديني وتحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ويؤكد الغرباوي على أهمية قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. ويتناول ماجد الغرباوي ضمن مشروعه على موضوعات: فكر النهضة، نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الحركات الإسلامية، المرأة، التنوير، والنهضة الحضارية في المجتمعات العربية والإسلامية. وقد صدر لها أكثر من 34 كتابا أهمها متاهات الحقيقة التي صدر عنها 8 كتب لحد الآن1.3057 اخفاقات الوعي الديني

اخفاقات الوعي الديني، حوار في تداعيات النكوص الحضاري

يشير ماجد الغرباوي في معرض الاجابة عن التساؤل المرتبط بالفرق بين الغرب والشرق بما يلي...

الشرق

- رفض الاخر ووصفه بالنجس والكافر (بما في ذلك الاخر الداخلي)

- في حالة الاعتراف فانه يكون تفضلا ومنة

- القهر والكبت والحرمان

- التسلط وتقديس الافراد

- غياب سياسة ثقافية وتذوق للفن والجمال

الغرب

- انسان يعي مسؤولياتيه

- يقبل بتداول السلطة سلميا

- يتعايش مع الاخر رغم اختلاف الثقافة والدين

- يجيد لغة التفاهم

- يتمتع بحرية واسعة تتيح الابداع في كل المستويات

الحرية الدينية وحرية الاعتقاد، مما يتيح التعبير وممارسة الطقوس والشفافية

- استبعاد سلطة الكنيسة (رجال الدين)

- التحرر من ثقل التراث والماضي

- التحرر من العادات والتقاليد المكبلة

- الارتكاز على العلم والتجربة 

 ***

يحذو الغرباوي حذو ادونيس في معرض نقاش التنافس بين الحضارتين، حيث ان ادونيس يقول بأننا بدون الغرب صحراء وجمل، لذلك يعتقد الغرباوي ان المجتمعات الاسلامية ليست في مستوى يؤهلها ان تكون ندا للغرب2، هذا الاخير استعمرها وتفوق عليها كليا، وذلك نتاجا لتطوره الهائل في كل الميادين، علميا وعسكريا واقتصاديا، والمسلمين غارقين في تقليدهم، والمغلوب مولع بتقليد الغالب حسب ابن خلدون... وذلك حتى في مجال الابداع الادبي، واكد على ازمة المسلمين في التبرير والتباكي على الاطلال وعدم الاعتراف. يخلص المفكر العراقي الى ان العالم الاسلامي مطالب بتشييد نموذج خاص واستكمال النهضة وبعدها المرور الى التناد مع الحضارات الاخرى3.

وهذا النموذج الحضاري الذي يطرحه الغرباوي ينبغي وفق ما يراه ان يكون مبنيا على اسس احترام الاختلاف والمعارضة وبناء ديمقراطية حقيقية تمكن من الازدهار والتحرر من القيود التي تكبل تفتق وعي الفرد، ويضرب لنا مثالا باليابان التي تمكنت من فرض ذاتها كحضارة مشكلة معادلة صعبة في المشهد العلمي والاقتصادي والعسكري على الصعيد العالمي، يرى ايضا ان الدخول في حلبة التنافس كحضارة يقتضي الانطلاق من الهوية الخاصة كاليابان التي انطلقت من تراثها الخاص وتمكنت من تطويره ومن ثم طرحه كنموذج يحتذى به فنيا وسياسيا وثقافيا... بعيدا عما يقدمه المسلمون الان من صورة على حياتهم والتي جعلت منهم محط انتقاد وسخرية وازدراء4.

التفاعل الحضاري:

يؤكد الغرباوي على ضرورة الانفتاح على الاخر وذلك قصد الاستفادة من منجزه العلمي والثقافي والادبي، وذلك ممكن عبر الترجمة، اذ يذكر لنا نماذج من التاريخ كما وقع في العصر العباسي التي شهد ازدهارا للمسلمين وذلك بعد ايلاءهم الاهتمام للترجمة ونقل معارف المجتمعات الاخرى والاستفادة منها. تعد الترجمة اذن علاوة على الفتوحات الاسلامية من بين العوامل التي شهدت انفتاحا للمسلمين على الحضارات الاخرى وفق الغرباوي5.

يجيب الغرباوي عن مجموعة من المغالطات عبر هذا المؤلف، ومن بينها ان العالم المتحضر استغل العلماء المسلمين من اجل التقدم، وهذا ليس الا محاولة لتبرير التخلف وغياب احترام العلماء في العالم الاسلامي، لان الغرب ايضا له منجراته الخاصة وهي كثيرة6... وهنا يمكن ان نقول ان المهم ليس ان يكون لك علماء ولكن الاهم ان تعرف كيف تعطيهم مفاتيح الاسهام في التغيير، فالعالم الغربي قدس رجال العلم ومكنهم من زمام الامور، غير عالمنا الاسلامي الذي يعانون فيه من التضييق والتكفير والمغادرة الى احضان من يمنحهم قيمتهم، وجدير بالذكر ان الحضارة الاسلامية في فترات تقدمها ايضا كانت تستقطب علوم الامم الاخرى وتستفيد منها. وبهذا نخلص الى ان الحضارات القائمة على اسس متينة هي الحضارات التي تعرف كيف تحتضن العلماء والعقول.

الفلسفة الاسلامية والفلسفة اليونانية:

صحيح ان الغرب استفاد من ثروات المسلمين في الطب والجبر والفلك وغيرها من العلوم بيد ان هذا لا يستوجب ان يكون مصدرا للتفاخر في العصر الحالي، والا فيما سيفيد والمسلمين مستعمرون ولا قوة لهم رغم الثروات الهائلة التي حبى الله بها بلدانهم، ويعيشون الفقر والقمع طامحين الى المغادرة والهجرة هربا من كل هذه الويلات، التي يساهم فيها الجبروت الغربي الذي يستنزف كل خيرات هذه الاوطان.

اما بخصوص تأثر الفلسفة الاسلامية بالفلسفة اليونانية، فيشير الغرباوي الى ان الفلسفة في الاصل هي يونانية النشأة ومن ثم اخد منها المسلمون بعض الاسس التي خلقوا من خلالها فلسفة اسلامية تحمل اشياء كثيرة من نظيرتها اليونانية وبرزت في هذا الصدد اسماء كالكندي وان رشد والفارابي وغيرهم، وذكر الى ان هذا التأثر يتجلى في الاشتغال بالمنطق الارسطي الذي لا يزال طاغيا في فكر المسلمين، وقد شكل مجال الالهيات والمنطق والرياضيات اهم المجالات التي استقى فيها المسلمين افكارهم من فلاسفة اليونان القدامى7.

الغرب والشرق، حوار ام صراع؟

مع ما اتاحه عصر التقدم التكنولوجي الهائل من امكانيات للتفاعل والحوار، الا ان الحركات الاسلامية المتطرفة عرقلت هذا المسار عبر ممارساتها التكفيرية والعنفية والتي جعلت الاخر يخاف ويتوجس، واشار الغرباوي الى ان الغرب لا زال مسكونا بنظرية هنتنغتون، صراع الحضارات، رغم ان شعوب الغرب بعدما ذاقته من الويلات في الحروب لم تعد تثق كثيرا في التوجهات الاقتصادوية والسياسوية في سياسات حكوماتها الخارجية8.

واشار المفكر الغرباوي الى ان الارضية لم تتهيأ بعد، لا للغرب ولا للمسلمين، لإنشاء جسور التواصل والحوار، لان الغرب يحتوي على شرائح واسعة من العنصريين الذين يدعون التفوق العرقي، وفي المسلمين ايضا شريحة كبيرة من التكفيريين الذين يتصورون الاخر نجسا وكافرا لا ينبغي التفاعل معه9.

التطرف الديني:

على امتداد تاريخ المسلمين، شهد عددا كبيرا من القتلى المسلمين بسيوف اخوانهم المسلمين، لا لشيء الا لاختلافات بسيطة او تأويلات خاصة وفي احايين كثيرة من اجل السلطة والمارب السياسية، هذا القتل كان قد تواطأ فيه رجال الساسة بإيعاز من رجال الدين الذين يبيحون ما يريدون وفق اهواءهم. هذا الوضع ساهم في خلق الخوف في صدور المسلمين وتراجع حرياتهم السياسية التي يخشون حتى الحديث عنها، فما بالك المطالبة بالحقوق في الحرية والكرامة والعدل10.

القرآن والتقدم الحضاري:

يعرف الغرباوي الحضارة على انها منجز انساني ناتج عن تفاعلات فكرية مادية، ويستحضر دعوة القرآن الى الانتشار في الارض والتفكر والتعقل والتدبر... ويخلص الى ان القرآن الكريم اوجد ارضية لبناء الحضارة في بعديها المادي من خلال العقل وبعدها الروحي من خلال ربط الدنيا بالآخرة11.

اما فيما يخص قدرة القرآن على رص صفوف المسلمين يشير الغرباوي الى ان فيه دعوة صريحة للاعتصام بحبل الله والتعارف والتآزر، الا ان المسلمين ومنذ وفاة الرسول وهم تتقادفهم موجات التطرف والطائفية والسياسة والعنف والاقصاء، وهذا ما مرقهم وجعل اختراقهم اسهل ما يكون12.

التخلف الحضاري واسبابه:

يرجع الاستاذ الغرباوي اسباب نكوص المسلمين الى سببين:

اولا: السبب السياسي، حيث انطلقت الصراعات السياسية حول السلطة بوفاة الرسول، وما زاد الطين بلة هو غياب آيات صريحة تحدد شكل السلطة وصفات الخليفة، دون نسيان ان الرسول الكريم لم يخلف احاديث تحد من حدة النزاعات السياسية، ما عدا بعضها الذي فهم بتأويلات متعددة، ومنذ ذلك الحين ظلت الخلافات ضارية ولم يتمكن المسلمين من الاستقرار على نمط حكم يقيها من الطائفية والمذهبية، عوامل نخرت جسدهم من الداخل13.

ثانيا: سبب مرتبط بمرونة النص القرآني الذي يشكل منظومة القيم والتشريعات، والتي تأثرت بدورها بالنزاعات السياسية، وعانت من التجاذبات حول السلطة والزعامة منذ العصر الأموي وحتى العباسي، ونشأ التكفير والاضطهاد والقمع باسم الدين والشرعية14.

اذن يخلص ماجد الغرباوي الى كون الحرية والابداع والازدهار رهينين بسياسة الديمقراطية القائمة على منح المجتمع الهامش الذي يتيح تفتق قدراته وعبقرتيه، وهذا ما حدث في الغرب عكس العالم الاسلامي الذي طبع مع الجهل والتسلط وقمع المعارض.

ان ارتباط الديني بالسياسي عامل حاسم في ارساء الاستبداد، بحيث انه باسم الدين تم اضطهاد الشعوب واستعبادها، واستقى السياسي مشروعيته من الدين بتواطؤ من الفقهاء معه، ويشرعنون له ما يشاؤون لتتولد ممارسات سياسوية رجعية تختفي وراء ستار الدين. وترسخت ايضا قيم القبلية والعشيرة التي تكبل الفرد في سياق جد ضيق، ينضاف اليها النظام الابوي الطاغي15.

وكنتيجة لذلك الاستبداد الثيوسياسي انعدم الوعي وقلت فرص التعلم ودور المثقفين والفنانين، ولعل ما عمق الجراح هو الاستعمار الذي لم تتحرر الامة الاسلامية منه بعد رغم خروجه الا ان الشعوب والسلطة لا زالوا يلهثون وراءه.

ويضيف الغرباوي عوامل اخرى ساهمت في هذا النكوص كغياب الاعتراف بالآخر وخاصة المختلف مذهبيا ومنها نشأ التمزق والفرقة وسادت نزعات تقديسية للأفكار المتوارثة والعادات، قدس الافراد كذلك وتسامت مجموعة من الامور على النقد والتمحيص16.

ان هذا الوضع جعل من التقليد مرجعية، وجعل بذلك من الماضي سيد الحاضر، والتحرر رهين بتجديد الوعي والتعامل مع الحاضر كمستجد، فلكل جيل خصوصياته وافاقه. وتحدث الغرباوي عن قمع المرأة وتقزيم دورها ايضا في التربية والثقافة، وتنضاف عوامل غياب الحس بالمسؤولية والتفاضل والتمرد على القانون وغيرها...

النهوض الحضاري:

الصدمة الحضارية وسؤال النهضة، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمين استنهضا اتجاهات تشخيصية للأسباب وطرح الحلول للخروج من المأزق:

الاتجاه الاول: اتجاه اجتاحه الانبهار بالغرب والذوبان فيه، هو اتجاه وفق الغرباوي يحاول خلق تبعية عمياء للغرب، لأنه لا يكفي تبني مبادئ وقيم الاخر كما هي من اجل التقدم، فهذا قد يكون سببا في الاغتراب كما يعيش ابناء الجاليات المقيمة في الغرب17.

الاتجاه الثاني: في مقابل الاتجاه الاول يعتقد دعاة هذا الاتجاه الثاني الى الانكفاء التراث الخاص وتقديسه، بل ذهب الى حد العداء للغرب والانغلاق في سياجات دوغمائية عمياء18.

الاتجاه الثالث: اتجاه توفيقي بين الجانب الديني والجانب العلمي، ويصف الغرباوي هذا الاتجاه الى انه اقرب الى الصواب، لأنه يأخذ بأسباب التقدم التقني والتكنولوجي وفي نفس الوقت يدعوا الى التشبث بالتعليمات الاخلاقية للإسلام والتي تحد من خطورة تلك التقنيات كالأسلحة الفتاكة مثلا، هذا الاتجاه تمثله شريحة من رواد الاصلاح لكن حدث لهذه النزعة نوع من التراجع والجمود والسقوط في فخ التبعية19.

علاوة على كل ما ذكر يؤكد ماجد الغرباوي ان مشاكلنا معقدة جدا، وليس سهلا الخروج بخلاصات في اسباب نكوصنا، ويرجع وضعيتنا الى بنية العقل وازمة الثقافة والنظام المعرفي لهذه الشعوب20.

اشكالية الفكر التكفيري:

ان تفشي ظاهرة التكفير والعنف ضد الاخر المختلف مذهبيا حقيقة منتشرة في العالم الاسلامي، ولا يتناطح كبشان على ذلك، ويرجع الغرباوي اسباب نشوء هذه النزعات التكفيرية الى قراءات معاقة للآيات القرآنية، وبالمناسبة هذه الممارسة هي تعبير عن وعي شقي ناتج عن سوء فهم للدين وعن ازمات نفسية واجتماعية واقتصادية.

ويعزز تواجد هذا النوع من التفكير غياب الحس النقدي وتدعمه جهات عازمة على تشتيت المسلمين قصد تحقيق النفوذ والسلطة. ولا مسوغ لفتاوى القتل او العنف ضد اي شخص مهما كان اختلافه، بحيث ان القرآن ينص على ان قاتل نفس بدون حق كقاتل الناس جميعا. ولا يجوز التهاون مع مثل هذا الفكر، بل وجب اجتثاثه من جدوره، وجب الحد من تلك اليقينيات السلبية التي تبصم فكر الكثير من شباب العالم الاسلامي21.

اليقين السلبي:

يضع الغرباوي القارئ امام نوعين من التفكير، تفكير يقيني سلبي مبني على الدجل والخوارق والإطلاقية من اجل قضاء الحاجات كالتطبيب مثلا... وتفكير يقيني ايجابي يعتمد على التجربة والعلم والعمل والاجتهاد.

نشأ تحرر الغرب من الخروج من نطاق طغيان الكنيسة، وذلك اعتمادا على الشك والبحث الدائم والتجربة، اما في العالم الاسلامي فلا يزال التحفظ يغلب في عديد القضايا، توجس يخلق خوفا من النقاش والتحليل اتقاء لانكشاف ريف عدة يقينيات22.

التجديد ضرورة حضارية:

يجيب الغرباوي عن مجموعة من الادعاءات التي تتهم الدين بالوقوف خلف تخلف المسلمين، ويواجه هذا الطرح من المسلمين ذاتهم باستماته، لان الدين عندهم خط احمر. ويصحح الغرباوي الخلط الذي يقع قائلا بأن هؤلاء لا يخلوا طرحهم من صواب لولا طريقتهم في معالجة الاشكالية، وكان عليهم التفريق بين الدين والديني، بين النص والتراث. وانطلاقا من كون الدين مسألة لا يمكن تجاورها في العالم الاسلامي، يطرح الغرباوي ضرورة القيام بقراءات نقدية في النصوص الدينية رغبة في تحقيق النهضة، والتقدم التقني والتكنولوجي يقف ايضا على الاستفادة من العلوم والتجارب الحديثة23.

التجديد اذن ضرورة ملحة وجب ان يكون ثورة فكرية تراهن على وعي الشعوب والشباب خاصة، مع العلم اننا في عصر النمو التقني الذي يتيح الاكتشاف والانفتاح، رغم ان كثير من رجال الدين سيقفون حجر عثرة امام هذا المسعى، وذلك حفاظا على سلطتهم الرمزية في توجيه العقول، وكذا حفاظا على مكاسبهم المادية... ولعل ما نشهده من رغبات اصلاحية تعاني من التنكيل والتكفير والاستفزاز علامة دالة على تخوف هؤلاء المحافظين.

التجديد يقتضي التسلح بالمعارف والمناهج الحديثة لمسايرة العصر ولخلق نموذج مجتمعي قائم على النقد وعلى السؤال، ويبدأ ذلك من تربية النشأ على قيم المواطنة الحقة واعطاءهم حرية ابداء الرأي والاجابة على تساؤلاتهم دون قمع او تنكيل او ضرب... هو تجديد للرؤية وتحفير للعقل قصد السير قدما والتخلص من ثقل التراث الذي يشدنا الى الوراء24.

خاتمة:

بعد هذا الحوار تباينت ردود افعال المتدخلين، المنتمين الى مختلف التخصصات العلمية والفنية والادبية ومختلف الاتجاهات الفكرية، بين مؤيدة لأفكار ماجد الغرباوي ومعارضة لها، وكذلك أخرى اضافت اشياء لم يستحضرها او غفل عنها او تناساها، ولعل هذا مؤشر اخر يدل على صعوبة الموضوع وتفرعه وشدة الخلافات حوله25.

ان تخلف المسلمين موضوع جد صعب، ولعل ما يزيده ضراوة هو التجاذبات السياسوية والنزعات العرقية والطائفية، لما لا وهناك من لم يعرف بعد حجم التخلف الذي تعيشه هذه الامة او بالأحرى لا يرضى الاعتراف بذلك، وهذا نوع اخر ينضاف الى اليقينيات السلبية التي تناولها الغرباوي، ومن هنا وجب ان نقول ان اولى خطوات العلاج هو قبول الخضوع الى التشخيص والاعتراف بالمرض.

***

محمد هروان - المغرب

13/04/2023

..............

1 – سيرة ماجد الغرباوي في مركز نقد وتنوير

https://tanwair.com/author/majed

2- اخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحاضري، (حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي) العارف للمطبوعات ومؤسسة المثقف، ط 2016، ص 18.

3- المصدر نفسه، ص19.

4- المصدر نفسه، ص 20.

5- المصدر نفسه، ص 21 .

6- المصدر نفسه، ص 22.

7- المصدر نفسه، ص 24.

8- المصدر نفسه، ص 33.

9- المصدر نفسه، ص 34.

10- المصدر نفسه، ص 35.

11- المصدر نفسه، ص 39.

12- المصدر نفسه، ص 42.

13- المصدر نفسه، ص 45.

14- المصدر نفسه، ص 46.

15- المصدر نفسه، ص 47.

16- المصدر نفسه، ص 48.

17- المصدر نفسه، ص 52.

18- المصدر نفسه، ص 53.

19- المصدر نفسه، ص 54.

20- المصدر نفسه، ص 55.

21- المصدر نفسه، ص 57.

22- المصدر نفسه، ص 59.

23- المصدر نفسه، ص 63.

24- المصدر نفسه، ص 65.

25- المصدر نفسه، ص 73.

............

نقلاً عن موقع الحوار المتمدن في يوم 13 – 4 – 2023م

- الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة مشروع كتاب يتناول فكر ماجد الغرباوي وتفكيك التراث

- (نُقَّاد يسلطون الضوء على جيل من المفكرين المُجَدِّدين

(المفكر التجديدي ماجد الغرباوي نموذجا)

يعتبر المفكر العراقي ماجد الغرباوي من المفكرين الثلاثة الذين ارتبط فكرهم بإعادة دراسة التراث وتفكيكه وهم: (حسن حنفي، محمد أركون ومحمد عابد الجابري)، إلا أن هذا الجيل كما يقول الدكتور قادة جليد وهو أستاذ بجامعة وهران لم ينل حظه من المتابعة الفكرية من قبل الباحثين والنقاد، رغم ما قدموه من جهود فكرية، بحيث لم يجد فكره انتشارا في الأوساط الأكاديمية والجامعية خاصة في المغرب العربي، لدرجة أن الكثير منهم يجهل اسم ماجد الغرباوي في الساحة الفكرية من المغاربة وهو الذي قدم دراسات عميقة حول التراث وشخّص أزماته وأعطى البدائل التاريخية للتراث.4698 ندوة الجزائر

المفكر العراقي ماجد الغرباوي من مواليد 1954 وفي ظل انتشار الفكر الشمولي والمذهبي في عهد صدام حسين هاجر إلى أستراليا ومارس البحث وأسس مؤسسة المثقف ومن خلالها ساهم في بعث النهضة الثقافية العربية نال خلالها مجموعة شهادات وأوسمة. اشتمل منجزه الفكري على مجموعة كتب تحت عناوين مختلفة: التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات / إشكاليات التجديد / الحركات الإسلامية.. قراءة في تجليات الوعي / الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني / جدلية السياسة والوعي / تحديات العنف / النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني / الهوية والفعل الحضاري / مواربات النص / الفقيه والعقل التراثي / مضمرات العقل الفقهي / تحرير الوعي الديني / المرأة وآفاق النسوية / تراجيديا العقل التراثي / المقدس ورهان الأخلاق.

كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب. كما صدرت عنه ثلاثة كتب للدكتور صالح الرزوق والدكتور محمود محمد علي والدكتور صالح الطائي. كما تُرجم كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح إلى  اللغة الفارسية.

الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة

الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة كان موضوع ندوة فكرية نظمتها المكتبة الولائية للمطلعة العمومية بولاية معسكر غرب الجزائر قدمها الدكتور قادة جليد ومن تنشيط الأستاذ فؤاد النجار، سلط فيها المحاضر الضوء على الفكر العربي وأجياله. وموضوع الندوة هو عبارة عن مشروع كتاب يصدر في سنة 2024 يتناول فكر المفكر التجديدي ماجد الغرباوي ووضعه داخل إطاره التاريخي. يقول الدكتور قاد جليد: مع مطلع القرن الثامن عشر، شهدت الساحة الفكرية بروز جيلين من المفكرين، الجيل الأول ظهر مع بداية النهضة العربية ويمثله الطهطاوي، الكواكبي، الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، وهو جيل سمي بجيل الصدمة التاريخية فيه أدرك العرب تخلفهم وأدركوا المسافة البعيدة بينهم وبين الغرب، من هنا بدأ التساؤل حول لماذا تخلف المسلمون وتأخر غيرهم؟، ثم ظهر جيل جديد، وهو الجيل الثاني الذي طرح سؤال النهضة. وذكر المحاضر أسماء من هذا الجيل كالشبيل شملي، سلامة موسى، طه حسين، ووصل إلى المفكرين المعاصرين كمحمد أركون حسن حنفي وآخرون.

واعتبر المتحدث د. قادة جليد أن المفكر العراقي ماجد الغرباوي من المفكرين الثلاثة الذين ارتبط فكرهم بإعادة دراسة التراث وتفكيكه وهم: (حسن حنفي، محمد أركون ومحمد عابد الجابري)، إلا أن هذا الجيل كما يقول الدكتور قادة جليد وهو أستاذ بجامعة وهران لم ينل حظه من المتابعة الفكرية من قبل الباحثين والنقاد، رغم ما قدموه من جهود فكرية، بحيث لم يجد فكرهم انتشارا في الأوساط الأكاديمية والجامعية خاصة في المغرب العربي، وهو ما اعتبره جحودا في حق المشارقة الذين أعطوا مساحة خاصة للمفكرين المغاربة، لدرجة أن الكثير منهم يجهل اسم ماجد الغرباوي في الساحة الفكرية من المغاربة وهو الذي قدم دراسات عميقة حول التراث وشخّص أزماته وأعطى البدائل التاريخية لأزمات هذا التراث.

الإنسان العربي ومرجعيات التراث4701 ندوة الجزائر

من وجهة نظر الدكتور قادة جليد فإن الإنسان العربي لا يفكر إلا بمرجعيات التراث الذي أصبح يؤطر الإنسان العربي في فكره، ولذا يحاول المفكر ماجد الغرباوي أن يحدد علاقة الإنسان بتاريخه وهي رؤية ماضوية تقرأ بعقول أعدت للماضي، في الوقت الذي عرف الإنسان الغربي أو الأوروبي إن صح التعبير كيف يطور نفسه ولم يبق حبيس ماضيه، فمشروع الغرباوي إذاً يختلف عن الرؤية التغريبية والرؤية الاستشراقية التي يدعوا أصحابها إلى القطيعة مع الماضي، بل هو (أي الغرباوي) يدعو إلى القطيعة مع فهم معين للتراث وليس مع النص المقدس، فالغرباوي في نقده التراث والقداسة يفرق بين الدين والنص الديني، والمشكلة كما يضيف المحاضر هي في الفكر الديني، لدرجة أن الخطاب الديني أصبح ينافس النص المقدس. يقدم الدكتور قادة جليد مثالا عندما تحدث عن بعض الغلاة الذين جعلوا من صحيح البخاري نصا مقدسا بل جعلوه أقدس من القرآن نفسه، وهذا الذي ينتقده ماجد الغرباوي في دراساته.

 من خلال ما جاء في ندوة الدكتور قادة جليد يُفْهَمُ من كلامه أن هناك وجهات تقارب بين ماجد الغرباوي ومحمد أركون، هذا الأخير يسميها بالمدونات النصية الرسمية المغلقة، حيث أخذت طابع القداسة وأطلق عليها اسما آخر وهو السياج الدوغماتي، وهذا أخر تطور الفكر العربي، فالغرباوي يدعو إلى أرخنة التراث وعقلنته ويقول أن النص الديني شيء والفكر الديني شيء آخر، فهذا الفكر نشأ تاريخيا على فهم معين للنصوص الدينية، السؤال الذي طرحه الدكتور قادة جليد: كيف يستطيع الغرباوي بفكره أن يحول التراث إلى نسبي بعد أن كان مطلقا؟، الجواب هو أن الغرباوي من خلال دراساته بين أن المشكلة ليست في النص الديني المقدس وإنما في النصوص المتأخرة التي تشكلت على النص الأول المقدس وانتزعت منه القداسة، هذا الفكر الديني الذي أنتج العنف والإرهاب (داعش).

في هذه الندوة حاول المحاضر تبسيط الأفكار التي ماتزال موضع جدل وصراع بين الحداثيين والأصوليين وقال أن الصراع هو فكري محض، مشيرا بالحديث عن المثلث الأنثروبولوجي الذي تحدث عنه كل من محمد أركون وماجد الغرباوي ليبين مدى تقارب فكرهما، وقد سماه محمد أركون بالعقل الأرثوذكسي، أما عن المرجعيات التي وصفها المحاضر بالصامتة يحاول الغرباوي تفكيكها باستعمال منهجيات معاصريها دون أن يشير إليها مثل منهج التفكيك والتفلسف بالمطرقة التي تحدث عنه نيتشه، أو المنهج الأركيولوجي لميشال فوكو.4700 ندوة الجزائر

 يتفق الغرباوي وأركون من حيث تحليل التاريخ الاسلامي والثقافة الاسلامية حول مفهوم أساسي وهو الجهل المؤسس بالاضافة الى الجهل المقدس للفيلسوف الفرنسي أوليفي روا، لأن هذا الجهل هو الذي أنتج وينتج العقل الأرثوذكسي الذي يقوم على المثلث الأنثروبولوجي (الحقيقة، المقدس، العنف).

ويبدو من خلال رؤية الدكتور قادة جليد للفلسفة الغرباوية بأن ماجد الغرباوي مفكر تجديدي بامتياز بحيث استطاع أن يقفز على كل الاتجاهات الفكرية ليقدم صورة حقيقية للفكر العربي وأسباب تأخره، وهو ما أراد المحاضر تبسيطه بل إيصاله إلى المثقف العربي عندما تساءل عن سبب غيابه عن الساحة الفكرية عندما اختتم محاضرته بالقول أن المشكلة هي مشكلة مثقفين ونحن نفتقر إلى المثقف العضوي والمثقف الثوري، فالفكر كما قال هو ثوريٌّ في طبيعته ولابد أن تكون للمثقف الجرأة على قول الحقيقة وملامسته الجرح.

كانت هذه ندوة الدكتور قادة جليلد، بثت عبر شريط فيديو والحقيقة أن هناك باحثين ومفكرين وفلاسفة اشتغلوا في الفكر الديني وأسسوا منهجا فكريا لموضوعاتهم، إلا أنهم واجهوا مشاكل كثيرة أمام المحدثين قبلهم في حقب التاريخ الإسلامي، حيث طرحوا أسئلة تتعلق بكيفية التوفيق بين خطاب العقل وخطاب العاطفة ومدى تحكم العاطفة في هذا العقل، كما تساءلوا عن العلاقة بين الدين والعقل والعلاقة بين الدين والسياسية والتوفيق بينهم من أجل إعطاء الصفة العلمية للتفكير الديني أو الفكرة الدينية التي تحدث عنها المفكر الجزائري مالك بن نبي وآخرون، كانت هناك مقاربات بين الاتجاه الكلامي (من طبقات المتكلمين من سُنّة وشِيعَةٍ ومعتزلة وبعض الفرق الإسلامية) والاتجاه الفلسفي والاتجاه الصوفي العرفاني الذي تجاوز العقل ويقابله الاتجاه العلماني، هكذا وقعت صراعات وأزمات حول النص المقدس ولعل السبب في ذلك هو غلق باب "الاجتهاد”، حيث بقيت بعض الجماعات الإسلامية تجتر نصوصا منذ قرون دون إخضاعها للتحليل ويراد بذلك الذين يسمونهم بـ: “الغوغائيين” الذين لهم فهم تقديسي لكل ما يمس الدين حتى ظهر مُقَدَّسٌ ثالث هو “التراث” وهي النصوص التي استعملت النص المقدس.

والتراث في مفهومه العام هو كل الرؤى والأفكار والخبرات والإبداعات الخاصة بالمنتجات، فنشأت صراعات أيضا بين التراث (الأصالة) والحداثة والهوية في ظل نظام فكري حَجَبَ الواقع لصعوبة تحليل الواقع وخصوصيته، فيما أطلق عليه اسم "الإيديولوجيا"، وليس محمد أركون وحده الذي يذهب في الاتجاه التجديدي بل نقف مع المفكر الجزائري مالك بن نبي أيضا، حيث نلمس اهتمام مالك بن نبي بالفكر الديني من خلال مؤلفاته التي تركها لاسيما الظاهرة القرآنية، شروط النهضة، وجهة العالم الإسلامي، بين الرشاد والتيه وغير ذلك، كل هذه الكتب تناولها بالتحليل منذ عهد النبي إلى العصر الحديث الذي تميز بظهور الحركات المذهبية والطوائف التي أعطت للفكر الديني تفسيرات مختلفة لكيفية تشكل الوعي الإسلامي لدى الأفراد وقد قارن مالك بن نبي بين المجتمع النبوي الموحد وبين المجتمع المفكك اجتماعيا مجتمع خضع للاستعمار طيلة عقود من الزمن، حيث ارتبط عاطفيا بالدين، بحيث لم يكن له رصيدا لغويا يجعله يفهم الخطاب القرآني فهما صحيحا.

4699 ندوة الجزائر

هذا وكانت المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية لولاية معسكـر، بالتنسيق مع نادي بيت الحكمة للفكر والأدب والفنون لولاية معسكر تنظم، ندوة فكرية بعنوان:

"الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة.. ماجد الغرباوي "أنموذجاً"

تقديم: الأستاذ الدكتور قادة جليد

تنشيط: الأستاذ فؤاد النجار

يوم الجمعة 23 ديسمبر 2022

على الساعة 16:30 مساءً

 

بمقر المكتبة الرئيسية

وقد حضر الندوة التي تحدث فيها الاستاذ الدكتور قادة جليد عن المنجز الفكري لماجد الغرباوي لفيف من المثقفين واساتذة الجامعات في مقدمته البروفسور نابي بولي استاذ الفلسفة الاسلامية في جامعة معسكر، ودار حوار بين المتحدث والحاضرين.

***

متابعة علجية عيش

 للطلاع على الفديو

 https://www.youtube.com/watch?v=6nO3SkHXCJw

 

لا ريب أن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها المقدس ورهان الأخلاق تنعكس مباشرة على واقعنا المعاصر، إذ أضحت (كما يقول الباحث الجزائري المتميز عبد العزيز بلعقروز)، مسألة القيم في الواقع الكوني مجالا تداوليا للنّقاش ضمن التحولات الحداثية والمابعد حداثية؛ واشتركت في هذا النّقاش المعرفة بفروعها (الفلسفة، العلوم الإنسانية، الاجتماعية…) بخاصة من داخل المؤسسات التي أدركت منزلة وجود التوجيه القِيمي داخل هياكلها كيْما تستقيم وكيْما تكون مقاصدها مشروعة. وفضلا عن هذا، فإن التحوُّلات الكونية في مستوى الصّلات بين الثقافات والحضارات، قد دخلت إلى معجمها التقييمي روح المفاضلة بين الثقافات والحضارات، إما شعورا بتفوق نظام القيم الذي تتبناه، وإما إبصارا منها دونية في منظومة قيم مختلفة عنها، لكن هذه الرؤية لم تكن تؤدي إلى مسالك الأمان، إذ اندفع العنف وبصورة لا سابق لها، بسبب هذه التّصنيفات القِيمية التي تتحرّك من وحي عوائد نفسية وأيدولوجية وجَهالة معرفية. لقد استوجب من جهة أخرى؛ استدعاء سؤال القيم مُجدّدا، لكن ليس من أجل المفاضلة والتّصنيف التراتبي للقيم، وإنّما من أجل التنقيب عن المُشْترك بين الثقافات المتنوعة، من أجل أن يكون أفقا وجسرا للتواصل، ومُسوغا قويا من مُسوغات القول بوحدة الطّبيعة الإنسانية في نزوعها نحو قيم مخصوصة نجدها مبثوثة في ذاتها أو في فطرتها، وإما لانتماء البشرية إلى روح دينية أصلية ألهمتها هذه القيم وتمظهرت بعدها في الأديان وتجلّياتها.

ومن ثم ظل سؤال “المقدس ورهان الأخلاق” هو أهم الأسئلة المحورية لعودة منظومة القيم، وبعثها من سباتها العميق على مدى  عصورها المتطاولة، وهذا الحضور المُكثَّف والجلي، لسؤال القيم، انجلى أيضا في الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال ما يُصنّف من كتب تسعى لأن تفكر في القيم انطلاقا من زاويتها ومنظورها، ومنظورها معناه: حقيقة النظام الأخلاقي الذي يدبّر ذاتها، من حيث الأصول والمبادئ التي ينبني عليها.

وهنا يجيئ كتاب المقدّس ورهان الأخـلاق، للفيلسوف والمفكر المبدع ماجد الغرباوي، والذي صدر حديثاً عن مؤسسة المثقف في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق سوريا، وهو الكتاب الثامن من سلسلة “متاهات الحقيقة”. والكتاب يقع في 385 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل.

يتناول فيه كاتبه مجموعة قضايا من بينها العلاقة بين الكلام الإلهي والتعاليم الدينية والسلوك، ودور المقدس في شرعنة الممارسات التي قد تتعارض مع الأخلاق، وما هي رهانات المقدس وهو يشرعن بعض الممارسات رغم تعارضها مع القيم الأخلاقية، وهل ثمة ما يدو لاعادة النظر بمجموعة مفاهيم كالقداسة وغيرها؟. ومن جملة الموضوعات التي تناولها الكتاب أيضا: التشكيل الأخلاقي للوعي، القرآن والأخلاق، الفقه والأخلاق، أخلاق العنف، التحريض على القتال، إشكالية العلاقة بين الدين والأخلاق، من خلال السلوك النموذجي للأنبياء، وكيفية فهم التعارض بينها وبين القيم الأخلاقية. كما تناول الكتاب: شروط الفعل الأخلاقي، الإلزام والأخلاق، الفعل الأخلاقي، الوعي الأخلاقي، مستويات الفعل الأخلاقي، الضمير، التجربة الدينية والأخلاق، جوهر الدين والأخلاق، مأسسة الأديان والأخلاق، النص والأخلاق، المقدس والأخلاق. كما ركز الكتاب على التعارض بين الأوامر الإلهية والأخلاق، وتعارضها مع الأحكام الشرعية، وما هي العلاقة بين الدين والأخلاق. والفرق بين القيم الأخلاقية الأصيلة والنسبية / المكتسبة. ثم حدد مبادئ التشريع: العدل وعدم الظلم. السعة ولارحمة. المساواة. وغيرها من موضوعات في دائرة اشتغال الكتاب لتسوية إشكالية العلاقة بين الدين والأخلاق.

ثم ينتقل، في محور لاحق، للكشف عن بديهيات العقل، ويناقش ضرورة الاحتكام لمصادر عقلانية من أجل استنباط معايير حاكمة للأخلاق. وفي هذا المضمار يقارب مشكلة الحسن والقبح، وهل هما عقليان أم شرعيان؟. ولمن ترجح الكفة للتدبير والتفكير أم  للنص؟.

ويؤكد الغرباوي في كل فصول كتابه على الفجوة التاريخية التي يحملها العقل التراثي بنيويا، فهو يرهن الحقيقة لمؤدى الخبر، ويصدّق ما يوافق عقائده بعيدا عن الدليل العقلي والفلسفي. مع أن الواجب يقتضي الركون للدليل وقدرته على تحدي الإشكالات، ودراسة جميع الأدلة والبراهين والقرائن المتاحة والإجابة على جميع الأسئلة والاستفهامات وتحليل الواقع بجميع عناصره.  وهذا يعني أن لا نكتفي  بالخبر دليلا على صحة الأفكار والمواقف، كي لا نكرس السكون والتبعية. ويخلص بالنتيجة إلى ضرورة أن تقوم النخبة بترقية الوعي إلى مستوى قبول الآخر، والتعددية، واتباع الدليل والبرهان في اعتماد الحقائق.

كما تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح. وكان محفز البحث فيه: سؤال عن قدرة القرآن على تهذيب سلوك المسلمين. سؤال يخفي أكثر مما يظهر، ويدين أكثر مما يُبجل. يثير أسئلة ويرسم علامات استفهام كبيرة، حول دور المقدس في شرعنة جملة ممارسات تتعارض مع القيم الأخلاقية. ما هي رهاناته؟ وهل يمكن إعادة تشكيل الوعي أخلاقيا؟ وماذا عن التعارض؟ وهكذا يستمر طرح الأسئلة، ويواصل السجال طريقه، للكشف عن بديهيات العقل وفق رؤية أخلاقية تؤمن أن العقل مصدر الأخلاق، وأن الحُسن والقُبح عقليان لا شرعيان. روية تضع العقل فوق النص. فثمة إشكالية معقدة بين الدين والأخلاق تطرق الكتاب للقسم منها.

ومن هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.

وقد سبق أن صدر لماجد الغرباوي عدة مؤلفات تناول بها تجديد الفكر الديني بشكل عام والإسلامي على وجه الخصوص. ومن أهم أعماله: إشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، قراءة نقدية في تجليات الوعي، الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية، الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الدين، تحديات العنف، الأصول الرجالية الأربعة. وقام بتحقيق كتاب “الوجيزة في الدراية”  لمحمد بهاء الدين العاملي والذي صدر عن منشورات المكتبة الإسلامية. كما صدرت عنه مجموعة كتب، وترجمت كتبه إلى لغات أخرى.

والأستاذ ماجد الغرباوي يُعدّ أحد القامات الفكرية العراقية- العربية التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقلية الغربية والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكرية، وهي تلك النظرة التي كشفت له عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكرية الآنية، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر، فهو الذي كتب عن نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الاسلامية، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية.

علاوة علي أنه متعدد المواهب فهو كاتب، وشاعر، وباحث دؤوب؛ حيث يسعي من خلال مشروعه في تجديد العقل الديني إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

ولهذا نراه في مشروعه النهضوي الذي لا يقل عن مشروع كل محمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهما يسعى الى: تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن كتاباته تتميز بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

تحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.................

المراجع :

1-ماجد الغرباوي :  المقدس ورخان الأخلاق، ضمن متاهات الحقيقة 8، دار أمل الجديدة، دكشق.

2-عبد الرازق بلعقروز : سؤال القيم في الفكر العربي المعاصر : قلق تاريخي أم رهان واقعي ؟، اسلام أون لاين .

3- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسية، ترجمة هاشم صالح، دار النهضة العربية، مركز الإنماء القومي، 2007.

4- أ. د. محمود محمد على - قراءة في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي “تحرير الوعي الديني”، صحيفة المثقف.

بحث مشارك في مؤتمر جامعة واسط.. مشاركة ثنائية:

- ايمان عامر، باحثة دكتوراه فلسفة تطبيقية، جامعة قالمة الجزائر

- دنيا مسعود خلوف، باحثة دكتوراه فلسفة غربية حديثة ومعاصرة، جامعة قالمة الجزائر

Tolerance is an enlightening Islamic vision –majed al-gharbawi is a model-

***

الملخص

مثل الحب والسلام، يعد التسامح فضيلة انسانية بالدرجة الأولى قبل ارتباطها بأي مؤسسة سواء كانت دينية أو اجتماعية وغيرها.. فهو ضرورة نقابل بها قيم التعصب والعنف والاستبداد التي أهلكت الانسانية وأدخلتها في دوامة من الحروب والصراعات على مر العصور، فقد كتب لوك وفولتير رسائلهم في التسامح لضرورة ملحة، أي انتشار كل أشكال العنف في ظل غياب التسامح منادون بضرورة تحطيم كل أشكال الخلاف والمناداة بالاختلاف الديني والثقافي وقبول الآخر، والعديد من الأصوات المنادية به في العالم سواء الغربي أم العربي، هذا الاخير الذي أنتج قلما من خيرة أقلام هذا العصر المنادية بضرورة فك دعائم اللاتسامح والدعوة الى فاعلية قيم التسامح لعلها تنتشل الفرد العربي من أزمته، وهو المفكر العراقي "ماجد الغرباوي" من خلال تقديمه لرؤية فلسفية وعقلانية محضة تنهل من منطق العقل ومن نهر الشريعة الاسلامية لتخلق نسق قيمي جديد قائم على قيم التسامح ومفككا لقيم اللاتسامح ومنابعها، انطلاقا من الواقع ومن البيئة الاسلامية التي شهدت تطرفا واستبدادا نظرا لعدم وعي الشعوب وعدم فهم النص القرآني فهما صحيحا، لهذا فمن الضروري أن تتظافر الجهود من ّأجل تفكيك النسق القيمي المتطرف وتبديله بقيم جديدة ايجابية لكي يعم التسامح والحب والتضامن كل أرجاء العالم الاسلامي في زمن انتشر فيه العنف باسم الدين.

الكلمات المفتاحية: التسامح، اللاتسامح، الاستبداد، العنف، الوعي، الشريعة الاسلامية.

Like love , peace, tolerance is a human virtue in the first place, before any religious or social instituation, it is a necessity with which we meet the values of intolerance, violence and preparedness that have destroyed humanity, locke and Voltaire wrote their letters in tolerance of the necessity and spread of all forms of violence in the absence of tolerance, calling for the acceptance of the other. Many have called for it, whether in the arab or western world, one of the most important advocates of the value of tolerance in the arab world is “majed al-gharbawi” who presented a purely rational and philosophical vision to create a new paradigm of tolerance that deconstructs intolerance, from the reality of the Islamic environment, which witnessed extremism and tyranny, given the lack of awareness among peoples and the lack of proper understanding of the quranic text, it is necessary to cooperate to dismantle the extremist system and replace it with positive values, so that tolerance,love and solidarity prevail throughout the Islamic world at a time when violence in the name of religion has spread.

Key words

Tolerance, intolerance ,tyranny, violence,awareness , Islamic law.

3980 الضد النوعي للاستبداد

مقدمة:

يعد التسامح فضيلة أخلاقية لها ملامح انسانية بالدرجة الأولى، اذ أنه من بين الفضائل التي سعى الانسان لبلوغها دوما، وشرع لمفهومه وآلياته الكثير من الفلاسفة على رأسهم جون لوك وفولتير ومونتيسكيو الذين ساهمو بشكل كبير في بداية تأسيس خطاب حقوق الانسان من خلال مشروعهم القائم على التسامح للتخلص من التعصب المتطرف الذي أغرق اوروبا في وحل النزاعات. ناهيك عن الخطاب الديني الذي يحمل في طياته رسالة وجيهة ألا وهي نشر قيمة التسامح والوئام والحب، لأنه من الضروري وجود رابطة متينة تعزز ثقافة السلم والتبادل الفكري الخلاق والداعم للحوار وبالتالي نشر قيمة التسامح في عالم تسوده هواجس الصراعات والمشاكل بين البشر، هذا التنافر سببه قيمة الاختلاف ليس هي في ذاتها، بل بالمشاكل المتعلقة برفضها، فالعالم الذي نعيش فيه اليوم يرفض الاختلاف وتقبل الآخر بالرغم من كونه سنة الكون والدعامة الأولى التي تميز البشر مهما كان نوعه ايديولوجي أو ديني او عقائدي أو سياسي، وبالتالي فالبشر لا يتقبلون من هو مختلف عنهم وبالتالي تسبب هذا الاعتقاد في وجود أزمة خانقة على مر التاريخ، على سبيل المثال ما شهدته أوروبا من حروب دينية بسبب التعصب الدوغمائي من قبل رجال الدين على بقية الشعب وممارستهم الوصاية باسم الدين وما نتج عن ذلك من استبداد ونهب وقتل وغيرها من منابع اللاتسامح التي عرفها العالم الاسلامي أيضا عبر مختلف الأحداث وساد الاعتقاد أن المنظومة القيمية الاسلامية هي المسؤولة عن تفشي هكذا أحداث، والكثير من الاتهامات التي وجهت لتلك القيم الدينية والتي نتجت عن مفهوم خاطئ والتي تستدعي قراءة جديدة للدين لفهمه فهما صحيحا، لذلك حاول المفكرون تجديد الخطاب الديني عبر محاولات نهضوية مختلفة، ومن أبرز مفكري العصر الذين اهتموا بهذا الموضوع بغزارة نجد المفكر العراقي "ماجد الغرباوي" في رؤية فكرية ذات توجهات اسلامية قائمة على نقد أسس العنف والاستبداد واللاتسامح وبيان تناقضها مع الشرع الاسلامي وفك الخطاب الديني الذي يبدو متطرفا وشرحه واعادة النظر في مفهومه واستبداله بالحقيقة الواعية البعيدة عن كل تطرف، وفهم الخصوصية الدينية والدعوة الصريحة لقيمة التسامح في وقت تفشى فيه العنف باسم الاسلام وبيان وجود مفهوم التسامح كمفهوم متجذر في الخطاب الاسلامي ودعوة صريحة له منذ نزول القرآن الكريم وبالتالي فالمطلوب هو البحث عن هذه القيمة في النصوص الشرعية ومحاولة نشرها بما يناسب واقع اليوم ..هذا ما حمله مشروع ماجد الغرباوي التجديدي والاصلاحي، ومنه نطرح التساؤل التالي: كيف يمكن للتسامح أن يحد من تفشي العنف والاقصاء؟ وكيف يمكن أن يكون وسيلة لتفكيك خطاب اللاتسامح الاستبداد ومنابعه؟

أولا-التعريف بالكاتب:

ماجد الغرباوي كاتب ومفكر عراقي مهتم بالفكر الديني، متخصص في الفلسفة والعلوم الاسلامية وعلوم الشريعة، كما يعتبر مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني، شغل عدة مناصب من بينها رئيس تحرير مجلة توحيد، كما أصدر سلسلة رواد الاصلاح وكان رئيسا لتحريرها بالإضافة الى عضويته في الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، كما حاز على العديد من النقدية والتقديرية عن أعماله1. يسعى الغرباوي من خلال مشروعه الى تحرير العقل من بنيته الأسطورية التي لجم بها واعادة فهم الدين على أساس مركزية الانسان دون غيره ونشر الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وقراءة النص قراءة متجددة تقوم على النقد والمراجعة من أجل فهم الدين كشرط أساسي لترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والحرب ويعمه السلام الكوني2.

أشهر مؤلفاته:

كتب الغرباوي العديد من المنجزات والكتب التي تعبر عن غزارة انتاجه الفكري، نذكر منها:

-الضد النوعي للاستبداد (استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني)

-التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)

-اشكاليات التجديد

-النص وسؤال الحقيقة (نقد مرجعيات التفكير الديني)

-الحركات الاسلامية (قراءة نقدية في تجليات الوعي)

- تحديات العنف

- موسوعة متاهات الحقيقة، التي صدر منها لحد الآن:

- الهوية والفعل الحضاري.

- مواربات النص.

- الفقيه والعقل التراثي.

- مضمرات العقل الفقهي.

- تحرير الوعي الديني.

- المرأة وأفاق النسوية.

 - تراجيدية العقل التراثي.3981 التسامح ماجد الغرباوي

ثانيا: مفهوم التسامح:

لغة:

لقد ورد مفهوم التسامح في لسان العرب لابن منظور "من السماح والسماحة: الجود. وسمح وسماحة وسموحة وسماحا: جاد.

ولغة يُقال: سمح وأسمح اذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء. وقيل: انما يقال في السخاء سمح، وأما أسمح، فإنما يقال في المتابعة والانقياد. ويقال أسمحت نفسه إذا انقادت.

والمسامحة: المساهلة، وتسامحوا: تساهلوا.

ومن ثم فالتسامح هو التغاضي عن أخطاء وزلات الغير أو التساهل في الحقوق أو الصبر على إساءة أو أذية ما3 .

- وفي النواحي الغربية الأوروبية فتتم الاستعانة بكلمتي Tolération وTolérance للدلالة على معنى التسامح. أين تحمل احداهما وهي Tolération معنى التخصيص فتشير بالضبط الى التسامح الديني سواء على مستوى الديانة الواحدة أو على مستوى ديانات متعددة.

في حين تحمل كلمة tolérance معنى العموم مشيرة بذلك الى تقبل الآخر بالروح السمحة مهما كان مختلفا عنا. ولعل الاستخدام المعاصر يميل الى كلمة Tolérance أكثر 4.

اصطلاحا:

أما من الناحية الاصطلاحية فالتسامح يشير الى جملة التصرفات والسلوكات الخاصة أو الجماعية التي على الأفراد ممارستها حتى يتقنوا فن العيش هم وغيرهم من الآخرين، دون أي انغلاق وتطرف، بل انفتاحاً على الاحترام المتبادل الذي يترك مجالا ومساحة للآخر المختلف خصوصاً عقائدياً 5.

 وبذلك فالتسامح مبدأ انساني يُؤصّل لفكرة التعايش وتقبّل الآخر مهما كان مختلفاً عنّا، بل تقويض طرق وسُبل الانقسام والشتات باسم الدم، الدين، الجنس... يقول في ذلك فولتير: "ان التسامح نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، لأننا جميعا من نتاج الضعف، فنحن ضعفاء ميّالون للخطأ، لذا دعونا يسامح بعضنا البعض ونتسامح مع بعضنا البعض بشكل متبادل وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة والمبدأ الأول لحقوق الانسان كافة." 6.

ثالثا- التسامح عند الغرباوي:

لقد وجدت الحضارة الإسلامية نفسها بعد مضيّ زمن طويل في وضعية شتات وصدمة حضارية عميقة، وذلك نتيجة استفاقتها على حالة من الانحطاط والتخلف والزعزعة، بعد أن كانت مهد كل الحضارات، وذلك في أول لقاء حضاري مع قرينتها الغربية، الأمر الذي دفع بالشرق وبالأخصّ الإسلامي أمام هذه المساءلة النهضوية الى الانشطار لثلاث اتجاهات7:

أوّل إمّعة تزعمه المتغرّبون ممن مالوا الى الذوبان في ثقافة الغرب، فقطعوا الصلة مع تراثهم.

اتجاه ثاني محافظ وفيّ مخلص لثقافته وحضارته الإسلامية ورافض لأي اختلاف ومغايرة غربية.

واتجاه ثالث وسطي تأرجح بين الأصالة والمعاصرة، فحافظ من ناحية على قيم وتعاليم

الدين الإسلامي، وانفتح من ناحية ثانية على ما يناسبها (القيم) من الحضارات الأخرى، مؤصّلاُ بذلك لثقافة التسامح والعيش الواحد المشترك بما فيه من احترام الذات واعتراف متبادل بالآخر.

ولعل هذا الأمر هو المشروع الأساسي الذي أكد عليه مفكّرنا العربي ماجد الغرباوي، فالأمة الإسلامية حسب رأيه في حاجة ماسّة الى رقيّ ونهوض حضاري لتجاوز ركودها وتقهقرها السابق الأمر الذي لا يكون الّا من خلال الموازنة بين معطياتها من جهة ومعطيات نظيرتها الغربيّة من جهة أخرى.

إنّ الآخر من وجهة نظر الغرباوي ليس المغاير المناقض، بل هو المغاير الذي يستلزم التواصل ويقتضي الانفتاح والقبول، فلم تكن المغايرة أبداً تخلّي عن الذات وطمس لهويّتها، كما لم ولن تكن أبداً انغلاق على الذوات الأخرى ومحاربة لها. بل على العكس من الحالتين المغايرة تسير في سياق الرقي بالذات ضمن علاقة وجدلية إيجابية مع الآخر قوامها المعايشة الواحدة والاحترام المتبادل ضمن سياق قيمي تسامحي 8.  وفي الإشارة الى التسامح يقدم الغرباوي مفهومه الخاص له باعتباره مبدأ إيجابي يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة دينيًّا وسياسيًّا، ليس تكرّماً ومنّةً، وانما واجباً تفرضه الحرية الشخصية. فالتسامح كمشروع حضاري لا يطمس ويتجاوز الآخر المختلف وفق ثقافة النبذ والاقصاء وتحت شعار المجابهة والقتال، بل يسعى الى التواصل والتعايش، ورغم أنه لا يقتصر على الجانب الديني فحسب بل يتعداه الى جوانب أخرى، إلاّ أنه في الفترات المعاصرة يُطرح ضمن هذا السياق خصوصًا وأن حضارتنا الإسلامية في حاجة ماسة الى مراجعة جديدة وعمليّة تعرية وكشف لما هو مستور مضرّ يمسّ ويهدّد وجودها من خلال الانغلاق على ذاتها والتعصب لمعتقداتها.

فالبيئة الإسلامية على حد تعبير الغرباوي في حاجة الى قراءة جديدة لنصوصها، قراءة قوامها الكشف والمساءلة لا التستر والمدارات، لأنّ هذه القراءة وحدها التي تسمح بالرقي بها وبإعادة بنائها وفق قيم حقيقيّة أبرزها قيمة التسامح. فالضرورة هنا هي تحديث هذه الحضارة ليس بشكل خارجي شكلاني وانّما بقلب الموازين واحداث تغيير داخلي عميق 9.

ان التسامح عند الغرباوي هو تجاوز لأي تعصّب وانغلاق على الآخرين، الى التقبّل والسماح لهم بإبداء آرائهم والتعبير عنها وفق مبدأ الحرية سواء كانت موافقة أو مخالفة لآرائها الخاصة.

ولذلك فنحن في حاجة ملحّة ضمن سياق مشروعنا الترقيعي النهضوي الإسلامي حسب الغرباوي الى خطوتين العودة الى الماضي بأصالته، وممارسة النقد عليه وتعريته. فالعودة لا تعني الذوبان التام فيه خصوصا اذا كان يحمل في طياته بوادر ضعفه، والنقد من ناحية أخرى لا يعني التقويض والهدم، وانما في الحقيقة هو ملية قوامها استدعاء الماضي وإزالة ما فيه من عرقلة نهضوية، وفي نفس الوقت الانفتاح على المستقبل بما يتضمنه من معايشة للآخر، ذلك أن تحضّر ورقيّ أي مجتمع يعود الى قاعدة وركيزة واحدة هي التسامح بمعناه الحقيقي الفعّال الذي يقوم على تقبل المختلف مهما بلغت درجت اختلافه ومستويات أخطائه، والسير نحو رؤية ايجابياته ونقاط جماله والأهم التسامح معه 10.3982 تحديات العنف ماجد الغرباوي

رابعا- بين التسامح واللاتسامح:

كتب على بني البشر العيش في جماعات مجتمعة، فلا يمكن لبشر أن يعيش بمعزل عن الآخر ولهذا العيش ضوابط وخصائص اذ يتوجب على الأفراد احترام خصوصيات بعضهم البعض وقبول معتقدات الآخرين وأفكارهم وحرياتهم الشخصية واختلافاتهم سواء كانت في الدين أو العرق أو اللون او في المعتقدات، لقول الله تعالى ان في ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين سورة الروم الآية22...، فالبشر جميعهم مختلفون لهذا السبب لا بد من تقبل الآخر والنظر في الأشياء التي تجمع الانسانية بعيدا عن كل تطرف او انتماء قد يشق أو يخلخل شبكة العلاقات الانسانية ويفكك قيم التسامح، هذا فان لم يحدث تقبل للاختلاف ستتدهور حالة المجتمعات مثلما هو سائد الآن ونخص بالذكر المجتمعات الاسلامية التي فقدت بنسبة كبيرة قيمة التسامح في مقابل انتشار قيمة اللاتسامح والتعصب والعنف وغيرها من قيم سلبية أثرت على الفرد العربي بالدرجة الأولى وفي سلوكياته وانطباعاته تجاه الآخر ومن ثمة مجتمعه. حيث أن ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح الذي يعتبر في نظر الأوساط المتصارعة مجرد قيمة أّخلاقية تتحكم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية والثقافية11. فالأطراف والأشخاص والأقوام المتصارعين لم ينتبهوا الى قيمة التسامح كونها الفاعل الأساسي في الحد من ذلك الصراع واعتبروها مجرد قيمة أخلاقية كغيرها من القيم كما أن غياب الوعي بمدى قدرة هذه القيمة في تغيير أحوال المجتمعات زاد الطين بلة وأدى الى نسيان الهدف الأسمى والصورة الغائية التي تندرج تحت هذه القيمة.

يرى الاستاذ ماجد الغرباوي أن الرهان على فاعلية قيم التسامح وقدرتها على خلق مناخات مؤاتية لاستنبات نسق قيمي جديد يتجاهل ما توارثه من محفوظات ونصوص ويؤسس لقيم جديدة ناظرة الى البعد الانساني12. بمعنى أن النهج الصحيح للوصول الى مجتمع متسامح هو اثارة الوعي حول هذه القيمة واعادة تشكيلها وفهمها من جديد بعيدا عن الموروث الديني المفهوم بشكل خاطئ وفهم الدين فهما صحيحا لأن المتطلع على الخصوصية الدينية يجدها تدعو الى كم وفير من القيم الايجابية كالتسامح والحب والأمانة وتقبل الآخر، وأن السبب في تفشي ظاهرة العنف واللاتسامح هو عدم فهم آيات الذكر الحكيم واعتبارها آيات تدعو للعنف وهذا نتاج القراءة السطحية والفهم المتداول عن العقل الجمعي الذي يتبع فقط الآراء السائدة، وعدم الوعي بقيم التسامح وثوابها ونتائجها المتواجدة في القرآن الكريم، وبالتالي انتشرت الكراهية ونبذ الآخر والتفرق والانحياز الى مذهب أو فرقة على حساب أخرى والتعصب لها وبالتالي انتشرت كل مظاهر اللاتسامح. اذن فمشروع مفكرنا مبني على "محاولة لتأسيس نسق قيمي جديد لمفهوم اسلامي عريق أكدته نصوص الكتاب وعضدته السير الصحيحة وارتكز اليه المسلمون وشخص النبي في علاقته مع الآخر المختلف دينيا"13.

 هذا المشروع يقوم على اعادة قراءة التراث قراءة صحيحة بعيدة عن الأحكام المسبقة والآراء المتطرفة لأنها هي السبب في نشر مشكلة اللاتسامح والقضاء عليها على الأقل نسبيا وبما أن البحث في جذور المشكلة هو نصف الحل اضافة الى تشخيص الأزمة فالبتأكيد سنتمكن من الحد من انتشار هذه الظاهرة خاصة وأن الانسان كائن مميز بالعقل، فبإمكانه ادراك وتحليل ما يخترقه من أزمات من خلال عقلنتها وعقلنة كل شيئ سائد لا سيما الدين، وهو ما ذهب اليه ايمانويل كانط في القرن الثامن عشر حينما أطلق العنان للعقل ورفض كل قيم التعصب والتشدد الديني التي تضفيها علينا الأحزاب الدينية وغيرها، فالعقل يستطيع الوصول الى الدين الصحيح دون املاء من تصورات مفارقة من خلال الاعتماد على نصوص الذكر الحكيم واستنباط منها قيم صحيحة عكس تلك السائدة كذلك اتباع قيم السيرة النبوية والتي رسمت لنا في بعض أحاديثها أروع رسوم التسامح كقصة النبي محمد (ص) مع الشخص اليهودي الذي تقبل اختلافه وتعامل معه بلين ورفق رغم أذية اليهودي لشخص الرسول لكنه تعامل معه بأبلغ قيم الانسانية، فالإسلام دين أخلاق عالمية كونية وانسانية يجهلها الشخص المتطرف. لأنه صار مألوفا حز الرؤوس وتقطيع الأوصال والتمثيل بجثث القتلى حتى مع المسلم البريء لمجرد اختلافه مذهبيا أو سياسيا، بل صار يعرف الاسلام بهكذا ممارسات لا انسانية فضلا عن لا اسلاميتها.

فالممارسات العنيفة من قتل واغتصاب واستبداد لا تمت للإسلام بصفة فهي أولا صفات دخيلة ربما ناتجة من جهل المجتمعات القبلية التي تتصرف بوحشية وفقا للنمط المنغلق المبني على العصبية..

و يرى مفكرنا أن الحل الوحيد لهذه الأزمة ليس بالأمر الهين لأنه مرتبط بصفات متجذرة في الشعب والمجتمع كما أنه مرهون للحد من صفات خانقة وكوارث اجتماعية متفشية تجتاح المجتمعات بلا هوادة وأثرت على المجتمع سلبيا، لذا فانه من الضروري "تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة الحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر وهو عمل صعب يستدعي جهودا يتظافر فيها الخطاب الاعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي"15. لهذا فزرع قيم التسامح بدلا من اللاتسامح هو عمل جبار يتطلب تعاون متبادل بين جميع الّأطراف وكل بنى المجتمع من أجل نشر الوعي من خلال تبني قيم الدين وقراءتها بصورة جديدة وتقديم رؤية عصرية لمختلف قيمه بما فيها التسامح وشرح اهمية التسامح الديني من أجل ضحد كل المنابع المؤسسة للعنف باسم الدين واستنباط قيم جديدة من اجل استغلالها لصياغة نسق ديني خاص بالتسامح لكي يعم السلام والأمن كافة أرجاء الانسانية لأن الانسان هو خليفة الله في الأرض فلزام عليه أن يكون كائن مسالم متسامح مع كافة اخوانه.

ومن جانب آخر فلا يمكن للتسامح أن يتواجد في مجتمع تسوده قيم سلبية وشعوب متناحرة ومتنافرة وعادات تعبر عن سوء التأقلم والتعايش بين البشر، فلا يمكن للمجتمعات التي تعاني الاقصاء والتمييز والعنف أن تتبنى التسامح وتتقبل نمط معيشي جديد يسوده الهدوء بعيدا عن كل عصبية، اذن فانه من الضروري تفكيك كل منابع اللاتسامح أو المحددات المؤسسة لها ووضع قيم جديدة وتبني أشكال جديدة من القيم تصب كلها في منبع التسامح، لكن قبل ذلك يجب معرفة منابع اللاتسامح والقيم التي تؤسس لهذا الفعل وتحليلها من أجل تفكيكها والتمكن من تجاوزها في النهاية. أي "محاولة لتجريد التعصب من الشحنات السلبية ليصار الى قيم جديدة يتعصب فيها الفرد لصالح القانون واحترام النظام وتبني قيم التسامح والمحبة والوئام" 16. لأن الدولة المدنية هي التي تحمي الفرد بالقانون ولا تسمح بالتعدي على الآخر كما هو سائد في العقلية الرجعية للشعوب، وتختلف منابع اللاتسامح حسب مفكرنا نذكر بعضا منها

1- منابع اللاتسامح:

العنف:

لعل العنف من أبرز الظواهر السائدة في المجتمعات الحديثة ولا سيما القديمة، أي أنه مفهوم متجدر وتكون هذا المفهوم منذ القدم فقد لجأ الانسان الى العنف من أجل الدفاع عن نفسه بمختلف أنواعه سواء كان معنوي أو مادي بالضرب أو القتل او من خلال السب والشتم وغيرها من وسائل العنف المختلفة، كما ساد العنف بكثرة في الحروب وفي الخلافات العائلية وبين القبائل أي في المجتمعات التي لا تتحكم الى قوانين وضوابط مدنية وتلجأ الى العنف بحيث "أصبح الأسلوب الوحيد في انتزاع الحقوق وفرض الآراء هو اللجوء للقوة، التي هي جزء كبير منها ممارسة غير مشروعة للعنف، بل ومحرمة بميزان الدين والأخلاق" 17.

 فهناك من يلجأ الى بسط نفوذه والوصول الى مبتغاه بالعنف من خلال منطق القوة، كما اصبحت هذه الأخيرة وسيلة لانتزاع الحقوق بدلا من اللجوء الى القضاء والقوانين العادلة وبالتالي سيكون هناك ظلم خاصة أن القوي سيأكل حق الضعيف بأي صورة من صور العنف سواء بالضرب المبرح أو القتل العمدي وهي أفعال محرمة شرعا ومحظورة انسانيا، اذن فالأهم هنا هو القضاء على العنف وافراغ محتواه لتحل محله القيم الانسانية، لكن المسألة لا تقتصر على مظاهر العنف والممارسات اللامشروعة للقوة فهذه الأخيرة يمكن القضاء عليها بعنف مضاد، لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه، كيف نتجت ثقافة العنف وكيف نقضي على منابعها ومنابع التعصب بصفة عامة 18.

 اذن فمن الضروري تقديم قراءة جديدة للدين واستنتاج قيم جديدة قائمة على فعل التسامح لتحل محل العنف وتوعية الشعب وتثقيفه للابتعاد عن هذه الظاهرة المستبدة وتنقية عقله من الأوهام والسرديات الكبرى أو السرديات الفائقة بلغة ليوتار والتي ترسم لنا مظاهر العنف عبر أشهر محطات التاريخ التي لجأ فيها الانسان للقوة ليخرج منتصرا، فالشعوب دوما تتذكر القصص التي فيها عنف والتي غيرت التاريخ في نظرهم عن طريق انتهاج هذا النهج، فمن الضروري تقويم المخيال الجمعي وتوعيته والمساهمة في يقظته لكي يحل محل العنف قيم السلام والاخوة والليونة.

الولاء القبلي:

قبل الولوج في مفهوم الولاء القبلي وجب أولا الحديث عن القبيلة أو العشيرة باعتبارها مجموعة من الأشخاص يستوطنون مكانا ما، لهم قوانين ونظم خاصة بهم ويترأسهم شيخ يكنى بشيخ القبيلة، فهو يسن القوانين وهو الشارع المنظم يمارس الحكم على الجميع ويصدر القرارات التي ينبغي على الجميع احترامها والانقياد بها، هذا ما يسمى الولاء أي الطاعة واحترام قوانين العشيرة وجلب كل ما له مصلحة لها على حساب كل القبائل الأخرى، لأن وجود الفرد من وجود قبيلته ووجوده مرهون بها فهي من تصنع له مكانته، وبالرغم من دخول الفرد مرحلة الدولة الحديثة او دولة القانون الا ان النظام العشائري مزال يفرض نفسه ومسؤول عن انتشار اللاتسامح في بعض الدول من خلال تعارض المصالح خاصة عندما يكون الحديث عن معتقدات وقيم القبيلة.

لقيم العشيرة تداعيات خطير خاصة في المجتمع الذي يضم عدد كبير من العشائر ويكمن الخطر حينما تتصادم قيم القبائل فيما بينها أو تتصادم مع قوانين الدولة أي ما يسمى بتقاطع الولاءات هنا يكون الفرد مخيرا بين الولاء لقبيلته أو لدولته والقانون أو عندما يكون الامر مرتبط بالولاء للدين ايضا، فتكمن المشكلة الى من سينحاز الفرد في الولاء أكيد سيختار قبيلته وينحاز لها ضد الدولة فهو لا يستطيع التخلي عن عشيرته التي ترعرع في كنفها وعلى مبادئها وبما أن مكانته الاجتماعية تعطى له على أساس قبيلته 19.

كما أنه من المعروف أن القبيلة تقف بالمرصاد لأي أمر يتعارض مع مصالحها.. هكذا اذن تتقاطع الولاءات في معادلة الولاء للدولة أو للقبيلة وبالتالي تحدث فوضى عارمة في المجتمع ولاتسامح بين الأفراد لذلك كان لزاما تفكيك كل القيم المنوطة بالولاء العشيري واعادة تشكيلها وفقا لقيم جديدة اكثر انسانية ولا يسود فيها العنف والتصادم، أي أن يحول الولاء الى دولة القانون التي تضمن للإنسان حقوقه ومتطلباته الاساسية التي تطبق على الجميع سواسية، وتكون هذه القيم الجديدة قائمة على اساس الدين والنص القرآني الذي يدعو للبر والتقوى والتعاون، من هنا ستتوحد الشعوب على أساس انساني، كما أن الأمر يحتاج الى اعادة تفكيك قيم القبيلة لا القضاء عليها أو تعطيل فاعليتها لأن هذا الامر مستحيل وانما يعاد تركيبها بشكل يخدم المجتمع ويفعل القانون ويضمن ولاء الفرد للدولة القانونية بعيدا عن التعصب القبلي الذي كثيرا ما يتعارض مع المصالح العامة للشعب، هذا الأمر الذي عبر عنه الكاتب على أنه مصادرة للفرد وقيمته الانسانية وارادته التي أراد لها الله أن تكون متحررة وتسامح في بناء مجتمع متسامح20.

اذن فتفكيك النسق القيمي وليس الاجتماعي للقبيلة واعادة تشكيل العقل العشائري له الأولوية في عملية التغيير وتأسيس مجتمع يقبل كل التحولات بنظرة متسامحة تنشد كل قيم التسامح 21.

سلطة القيم:

تعتبر القيم الأساس الضابط لسلوك الفرد في تعاملاته وهي مكتسبة من المجتمع، بحيث "يلقن الفرد بمفاهيم قيمية يراد له الالتزام بها كي يكتسب احترام المجتمع، الذي لا يحترم الا من دأب على احترام قيمه والتزم بأعرافه وتقاليده"22.

اذ أن الاحترام يتبين من خلال تمسك الفرد بقيمه فهو بالتالي شخص محترم له مكانة اجتماعية مرموقة وكل شخص متمرد وساخط عن قيمه فبالتالي هو شخص فاقد لمكانته الاجتماعية خاصة تلك التي أعطته اياه القبيلة، فالقبيلة تشرع لصفات صارمة من قبيل العنف والولاء كما سبق شرحه وكذلك قيمة العصبية، فان لم يستخدم الفرد هكذا صفات في تعاملاته مع العشائر الأخرى أو في الدفاع عن قبيلته فسيوصف بالجبان وغيرها من صفات الضعف، فمعيار القوة في العشيرة هو مقدرة الشخص على التعامل بصلابة وبقوة وبكل عصبية والا فقد مكانته الاجتماعية في القبيلة، وبما أن هم الاشخاص نيل رضا شيخ القبيلة فبالتأكيد سيكون رد فعلهم صارم ولا متسامح ابان كل ردة فعل الى درجة التطرف.

كذلك في سلطة القيم يشير مفكرنا الى انتشار السلطة الأبوية وسيادة الذكورية، لأن المجتمع الذكوري لعب دورا كبيرا في تكريس سلطة النظام الأبوي، اذ يحتل الذكر مكانة أعلى من مكانة الأنثى، ومكانة مركزية الكون يتلاشى معها الوجود الاجتماعي للمرأة حتى تفقد قيمتها ومكانتها من خلال عدم تدخلها في القرارات خاصة المصيرية والحاسمة وبالتالي اختفى وجودها الحقيقي، وبذلك عطل المجتمع الأبوي نصفه الآخر بإرادته بعد أن هيمن العنصر الأبوي على جميع المستويات 23.

وبالتالي فان غياب مكانة المرأة في المجتمع يكون عبئا على تطور المجتمعات ويستحيل وصفها بالمجتمعات المتسامحة لأن هذه الأخيرة لا يمكنها اقصاء أي عنصر فعال في المجتمع ومهم كأهمية المرأة طبعا. هكذا اذن فان سيادة القيم المستبدة واللاسوية في المجتمع، تؤثر سلبا عليه وهذا بانتشار اللاتسامح والاضطهاد والعنف والاقصاء باسم القيم ومن الضروري فك النظام القيمي المتجذر في الشعوب ومحاولة وضع قيم جديدة أكثر عدلا وتنساق في المجتمع ليعمه السلام.

كما أشار الأستاذ الغرباوي الى منبعين آخرين لللاتسامح، وهما الاستبداد السياسي اضافة الى التطرف الديني واللذان تربطهما علاقة ببعضهما، فالمنبع الأول المتمثل في الاستبداد السياسي الذي يعني ممارسة السلطة العليا الاضطهاد والعنف باسم النظام والاحتكار والرشوة والظلم والكثير من أساليب الاستبداد، لذلك يتنافى الاستبداد السياسي مع التسامح ولا يمكن لهذا الأخير أن يحل في جو يسوده الاستبداد والعنف ويمارس ضمنه أساليب قمعية مختلفة هذا وتختلف انواع الاستبداد وتتعدد مجالاته وتتباين في الخطورة ولعل أخطرها الاستبداد الديني الذي يستمد شرعيته من الدين ويمارس عرابوه كافة طرق الاستبداد تحت شرع الدين بكل حرية وبالتالي يطغون ويصعب ردعهم، كذلك انظمة الحكم التي شهدها الانسان قد أسست للاستبداد والديكتاتورية بشكل كبير مما منع ظهور التسامح وقبول الآخر وحتى الاعتراف به، لهذا وجب دحض أسسه ومناهجه وأساليبه، كون أن "الاستبداد عقدة يجب تجنبها في كل صيغة لأي مشروع حضاري مستقبلي. كما ينبغي الارتقاء بوعي الأمة الى مستوى ادراك مساوئ الاستبداد، أيا كان مصدره سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا" 24.

أما عن التطرف الديني الذي يشبه عامة وفي سياقات خاصة الاستبداد الديني فهو أيضا أساس آخر مشكل للاتسامح، من حيث أنه يتخفى تحت ثوب الشرع والدين، لهذا فالتطرف الديني لا يعدو كونه قراءة متحيزة للدين ومجتزئة للنصوص نظرا لاختلاف القراءات وتعددها رغم وحدة القرآن وتعدد الآراء واختلاف الفتاوى وعلى هذا الأساس يكون هناك خلاف ولا تقبل وبالتالي ينتشر التطرف ويختفي التسامح من الساحة 25. لذلك فان تفكيك الخطاب الديني القائم على التطرف ونشر قبول الآراء وتبادل الافكار وحل مساحة للحوار هو الحل لأي طرف ناشد للتسامح ورافض للخلاف والاستبداد.

خامسا- أسس التسامح:

بما أن التسامح مبدأ انساني وشرط حضاري نهضوي، فلابد له لامحالة من دعائم يقوم عليها حتى يتسنّى للأفراد والأمم افشاء التعايش وتقويض التناحر، ولعل أبرز هذه الأسس 26.

حقوق المواطنة:

تتحدد المواطنة انطلاقا من الاعتراف بالآخر كذات مغايرة ومخالفة لنا، والاعتراف بأن له جملة من الحقوق وان كانت تخالف حقوقنا وتصوراتنا، ذلك أن هناك فارق كبير بين قبول الآخر وبين الاعتراف به رغم أن كلاهنا يؤصّل للانتماء الوطني، لكن يبقى قبول الآخر هو حالة خارجية مفروضة على الفرد تبعا لمصالح وحياة مشتركة واحدة. في حين الاعتراف به ينطلق وينبع من الذات الواعية التي لا تكون أنانية في تصرفاتها وانّما تسبّق الولاء وبالأخص الوطني على أي ولاء آخر دون أي الغاء لا للذات ولا للغير27.

ان حقوق المواطنة تتطلب المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين سواء كانوا مسلمين أو غيرهم ضمن اطار الوطن الواحد، خصوصا وأن الإسلام أكّد في نصوصه العديدة على حفظ حقوق أهل الكتاب قولا وعملا، قولا في الآيات العديدة:" ولا تجادلوا أهل الكتاب الاّ بالتي هي أحسن" (العنكبوت الأية 46 ) وعملا من خلال ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام في ميثاق المدينة الذي جعله دستور للناس مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية فهم أمة واحدة لهم نفس الحقوق والواجبات 28.

 لعل التعايش والاعتراف بالحقوق بين المسلمين وحتى مع غيرهم هو أبرز ولاء للوطن اذ يقوم على أساس التسامح، وينبذ أي شتات وخلاف مهما كان نوعه (طائفي، قومي، عرقي، مذهبي...) ولذلك فالحقوق هنا واحدة والخصوصيات ليست ملغاة وانما معترف بها تحت لواء المساواة بين الجميع دون أي تفضّل أو منّة، هنا فقط ينفتح الأفراد على حريات عديدة.

سيادة القانون:

بعد حقوق المواطنة، لابد للتسامح أن لا يسير بشكل عشوائي عرفي غير مقنّن، وانما لابد له من عملية تقنين فالقانون يلعب دور كبير في حماية التسامح والعمل على تطبيقه محابهةً لأي نوازع ذاتية وذلك حتى لا تنشأ هُوة بين الحقوق والواجبات ويحصل تصدّع بين الأفراد.

ان القانون يمثّل قوة عليا رادعة لأي تمرّد ولأي محاولة للثورة على الجماعة، وفي نفس الوقت مُحلّة ومُرسية لثقافة الحوار والتعايش وتقبّل الآخر المختلف.

غير أنه تجدر الاشارة الى أن هذا القانون لابد أن يبقى صامد مجابه لأي تصدّع ولأي مناداة بالانهيار والتراجع خصوصًا في ظل وجود مرجعيات أخرى منافسة له أو جهات ثانية يحتكم الها المواطن غيره، فهذا وحده يقوض الولاء للوطن باسم ولاءات ثانية متعددة، ذلك أن أساس استقرار أي مجتمع يكون من خلال إحلال التسامح والسلام والتعايش والحوار بين أفراده مهما حمل في طياته اختلافات (قومية، دينية، سياسية...) هنا فقط تبرز وتتجلى قيمة التسامح كمبدأ يحقق وحدة المجتمع في ظل التعدّد والاختلاف 29.

إعادة تشكيل قيم التفاضل:

تلعب القيم دور كبير في بناء أو تهديم أي مجتمع، فمن ناحية يمكن أن تغرس في أفراده سلوكات التواصل وثقافة الولاء للوطن وللآخرين، ومن ناحية ثانية يكن لها خصوصا اذا ما يتم تشكيلها وترتيبها بالشكل الجيد أن تُحدث فجوة وتُفشي في المجتمع الشتات وعوامل التفكك والخلاف، ولذلك لابد نقل هذه القيم من المستوى الخاص الأناني المنغلق الى مستوى عام انساني تعايشي منفتح.

ولعل الإسلام أبرز من أصّل لهذه القيم السمحة من خلال فكرة التفاضل التي تقوم علة جملة أسس أبرزها:

التقوى: تتمثل في وضع الانسان لله عز وجل في قلبه وعلى رأس تصرفاته أثناء معاملة الناس، أي الخشية منه، ومن ثم لا يمارس ولا يسلُك الاّ وفقًا لما هو أخلاقي، دون أن يستغل الدين في أعمال لا أخلاقية (سفك دماء، ظلم، تعدّي على الحقوق...)

الجهاد: ذلك أن الله عز وجل خصّ المجاهدين في سبيله بمنزلة ومكانة مع الأنبياء والأبرار والصالحين ووعدهم بأجر عظيم، ولذلك هناك فرق كبير بين من يجاهد في سبيل دينه ووطنه وبين من لا يحرك ساكنًا ازاءهما.

العلم: فالعلم له مكانة مرموقة خاصة في الدين الإسلامي خاصة باعتباره غاية مطلقة على كل الناس بلوغها، وذلك لما له من فائدة وقيمة عليا 30.

اطلاق الحريات العامة:

 ان المجتمعات التي تعايش الكبت والتستر تحت لواء قيود عدة لا يسودها الّا العنف والاستبداد واللاتسامح، في حين المجتمعات التي تنفتح على الحريات تترسخ فيها قيم التسامح والاحترام، فالحيرة مطلب ومسعى انساني رغم عديد المحاولات الساعية لطمسه، والمعنيّ بالحريات العامة حرية العقيدة والفكر والتعبير عن الرأي والحرية الدينية والسياسية والثقافية، لذا تبقى الحرية أهم ذريعة لتثبيت قيمة التسامح والاعتراف ونبذ كل عنف وتفرقة وكراهية.

الخاتمة:

ختاما نستنتج أن مشروع ماجد الغرباوي النهضوي المتمثل في اعادة تفكيك الخطاب الديني وتأسيس منظومة قيمية جديدة قائمة على الفهم الصحيح للدين من خلال ما ورد في النص القرآني والسيرة النبوية وبلورته بما يناسب مجتمعاتنا الاسلامية اليوم التي تعاني العنف والاستبداد والاضطهاد والاقصاء فيما بينها، فقد وجد مفكرنا في التسامح المبني على الحوار والانفتاح العقلاني على الأفكار واحترام الحريات والاعتراف بالآخر مساحة كافية للتقليل من الأخطار التي قدفت بالإنسانية نحو الهاوية وألقتها في ظلال اللاتسامح الشائكة والتي تتعارض مع الطبيعة الانسانية والفطرة السوية التي فطر الانسان عليها ككائن متسامح، متعاون، مسالم، لهذا وجب تفكيك النسق القيمي السائد وتشكيل نسق جديد قائم على الحب والحوار وتأسيس التسامح القائم على الاعتراف بالآخر، فأن تكون متسامح مع غيرك عليك أن تعترف به بذاته بوجوده وبكينونته، وهذا أمر شائك يستدعي جهودا كبيرة تتشارك فيها جميع الجهات من أجل نشر أكبر مقدار من الوعي، وهي محاولة أصيلة من مفكرنا تستدعي التطبيق الفعلي على أرض الواقع، من أجل مشروع سلام دائم بلغة ايمانويل كانط.

***

طالبتا الدكتوراه، الأستاذتان:

ايمان عامر ودنيا مسعود

الهوامش

1- صحيفة المثقف، السيرة الذاتية لماجد الغرباوي، صفحة الكاتب في باب المؤسسة:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majedalgharbawi-2

2- المصدر نفسه.

3- ابن منظور،لسان العرب.

4-  عصفور، جابر، ثقافتنا بين التعصب والتسامح، ص80.

5- ستيفن ديلو، التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني، 2003، ص700.

6- مجلة قضايا إسلامية معاصرة، 83، الصفحتان: 12 و13.

7- الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، ص124.

8- الغرباوي، ماجد، الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ص 111.

9- الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، ص 22.

10- الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، ص 125.

11- التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 11.

12- المصدر نفسه، ص 13.

13- المصدر نفسه، ص 14.

14- المصدر نفسه.

15- المصدر نفسه، ص 15.

16- المصدر نفسه، ص 27.

17- المصدر نفسه، ص28 .

18 - المصدر نفسه، ص 30.

19- المصدر نفسه، ص 34.

20- المصدر نفسه، ص 37 و38.

21- المصدر نفسه، ص 38.

22- المصدر نفسه، ص42 .

23- المصدر نفسه، ص 48.

24- المصدر نفسه، ص 28.

25- المصدر نفسه، ص 57.

26- المصدر نفسه، ص 75.

27- المصدر نفسه، ص 76.

28- المصدر نفسه، ص 82-97.

29- المصدر نفسه، ص104 و105.

30- المصدر نفسه، ص 108 و109.

قائمة المراجع والمصادر:

- ابن منظور. (1990). لسان العرب. بيروت: دار صادر.

- الغرباوي ماجد. (2008). التسامح ومنابع اللاتسامح. العراق: الناشر الحضارية للطباعة والنشر.

- الغرباوي ماجد. (2009). تحديات العنف. لبنان: دار العارف للمطبوعات.

- الغرباوي ماجد. (2019). متاهات الحقيقة الهوية والفعل الحضاري. استراليا، مؤسسة المثف وسوريا: دار أمل جديدة.

- الغرباوي ماجد. (2010). الضد النوعي للاستبداد. لبنان: العارف للمطبوعات.

- جابر عصفور. (فيفري، 2006). ثقافتنا بين التعصب والتسامح. مجلة العربي.

- ستيفن ديلو. (2003). التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

- مجلة. (دون سنة). التسامح ومنابع اللاتسامح. مجلة قضايا اسلامية.

www.almothaqaf.com

Iben mandor,1990, tongue of the Arabs, Beirut, sader publishing house

harbawi majed,2008, tolerance and founders, irak, annasher cultural publisher

Gharbawi majed,2009, challenges of violence, Lebanon, el aref publishing house

Gharbawi majed,2009, the labyrinth of truth identity and civilizational, Syria, amal publishing house

Gharbawi majed,2010, the specific antithesis of tyranny, Lebanon, el aref publishing house

Jabber assfour, febrary2006, our culture between intolerance and tolerance, al arabi magazine

Steven delow, 2003,politic thinking, political theory, civil society, cairo, superme council, of culture

Magazine, don a year, tolerance and founders, journal of Islamic issues

البحث منشور في مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية/الجزء الثالث من العدد السادس والاربعون /مؤتمر التنوع الثقافي أساس التكامل الوطني كلية الآداب/جامعة واسط ٢٠٢٢

https://lark.uowasit.edu.iq/index.php/lark/issue/view/63

يعيش الانسان اليوم في رحتله الحياتية في غربة، ولاسيما عندما يجد ان هناك ثمة تعرقل مقصود يطيح به، ويحيط به في الوقت ذاته، بسبب عدم القدرة على التسامح، واللاتسامح المفرط في وقتنا المعاصر أدى إلى ضعف البنية الاجتماعية بين الأفراد، وانتقل إلى عموم المجتمع وتفصيلاته، في هذه الرحلة مع" ماجد الغرباوي" يضيء لنا بعض الأضواء في مفاهيم التسامح حيث يجد أنه مفهوم اسلامي، ولكنه في الوقت ذاته قد صورته الثقافة الإسلامية بعده مخلوقا غير اسلامي بسبب قراءات العنف والاحتراب، وهذا مما يستدعي منا الرجوع إلى الذات لمراجعتها ونقدها، والوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها.

على الرغم من الملاحظات على القراءات المبتورة التي سجلها "الغرباوي" على من يعتقد بأن المتسامح هو انسان متنازل عن قناعاته الفكرية والعقيدية نزولا عند رغبة الآخر كما يعتقد، أو هي الانصياع والتبعية والرضوخ للاخر المختلف في رؤية أخرى، هنا الا يعتقد او يضع مجالا بعده تعايشا؟ على اساس كلية العقيدة وحرية التعبير وماشاكل ذلك.

قطعا ان التسامح عنده هو نسق قيمي وأخلاقي يراد احلاله محل النسق القيمي والأخلاقي الذي مازال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، ولاسيما بعد ان ظل العنف مستحكما داخل المجتمعات غير المتحضرة والتي لاتحتكم الى القانون، وتحتاج إلى رجوع واضح لفهم التداعيات في الممارسة غير المشروعة للعنف، واعتماد الجميع القوة والعنف أساسا في التفاضل الاجتماعي والسياسي عن طريق:

3215 التسامح ماجد الغرباوي- الولاء القبلي .

- وسيادة الإرادة السياسية .

وهذا بدوره أدى إلى تاسيس قيم في المجتمع من خلال :

١- تزريق القيم الى وعي الفرد عادة في السنوات الأولى من حياته عندما يلقن مفاهيم الخضوع والاستسلام للقيم .

٢- المجتمعات العربية مجتمعات ذكورية، تمنح الرجل صلاحيات واسعة، وتهمش المراءة وتلغي وجودها .

٣- هيمنة القيم التسلطية والقمعية في المجتمع .

٤- تمثل السلطة الفوقية وتداولها ولائيا.

مما سبب حالات من التغيير في مبتنى فهم الأفراد لما يحتاجون إليه جملة وتفصيلا، داخليا وخارجيا .

وبما أن التسامح هو نسق قيمي إلا أنه لاينسجم مع منظومة القيم المستبدة، لأن المجتمع هو الذي يحكم بصلاحه من عدمه، ووقوف الاستبداد السياسي كخصم حقيقي للتسامح، من خلال رفض الآخر وتبعاته، كما ينبغي بحسب " الغرباوي" اعتماد أسلوب آخر في الحكم ينهي هيمنة الطاغية على عقل الإنسان، الذي يخشى التدهور السياسي والأمني عند غيابه، بمعنى البقاء داخل السلطة مهما كلف الأمر.

ومن جهة أخرى يرى أن التطرف الديني أيضا أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه بلبوس المقدس، وتوظيفه للنص الديني، بما ينسجم مع مصالحه الخاصة فقط .

بعدها ينتقل الى أسس التسامح في حقوق المواطنة من المسلمين وغيرهم، الى سيادة القانون والاستمرار في تأثيره الاجتماعي، ولكنه يصطدم عندما يجد تعدد في المرجعيات فيفقده قوته ويتراجع،وحتى يبقى موقفه قويا لابد من اعادة تشكيل قيم التفاضل من خلال مجموعة موزعة اجتماعيا بين الدين والأخلاق والأعراف

والعادات والتقاليد، وتوظيفها في إطلاق الحريات العامة لترسيخ قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد، عن طريق الإسلام الصحيح بالرفق والحلم والعفو والرحمة، بدراسة مهمة ومحاولة تاسيس نسق قيمي جديد لمفهوم اسلامي عريق أكدته نصوص الكتاب وعضدته السيرة الصحيحة.

محاولة "الغرباوي" هذه محاولة علمية جادة، أراد من خلالها تبيان منابع التسامح الإسلامية الصحيحة التي تدعو إلى العيش المشترك، بعيدا عن لغة الحروب والصراعات والفتن، التي لا تؤدي إلا إلى القطيعة، وقد تستمر الى أجيال وأجيال اذا لم نتبه إليها.

 

د. حسنين جابر الحلو

 

 

ماهية الدين وعلاقته بالمعنى الوجودي للإنسان، لا تزال أشكل الإشكالات في تفاصيل حركة الحياة الإنسانية، هذا المبحث الشائك والمتشابك والعميق عمق تاريخ الدين في مسيرة البشرية يعد صنو إشكال ماهية المعنى الإنساني في حياة البشر، وفي حقل الأبحاث الفلسفية المعاصرة في الجغرافيا العربية والإسلامية هناك مشروع نقدي جدي وتجديدي مثير للنباهة ومحرك للوعي الحضاري لدى الإنسان العربي والمسلم بدوره ورسالته الوجودية كإنسان وعلى ضوء القيم الدينية السابحة في غمار حياته التاريخية وخياراته الثقافية، هذا المشروع الذي يعود لأربعة عقود من الزمن الثقافي العربي والإسلامي التنويري، لا يكاد يتوقف عن رفد العقل العربي والمسلم بمصابيح الوعي وأدوات التجديد، لأنه مشروع خارج إطار الأنا الضيقة، بل هي تجارب نقدية متعددة ومتنوعة تلتقي في بعض المسارات وتختلف في أخرى لكنها تعكس ثقافة وعي راسخة تقرأ الدين من خلال قراءة معنى إنسانية الإنسان دون الاستغراق في التراث وأدلجته وبعيدا عن الإغتراب في التعبير والتطبيق للعقلانية والمعنوية على ضوء فلسفة الدين المعاصرة، إنها نخبة نالت قسطا وفيرا من التجارب الفكرية والنقدية والمقاربات الثقافية التطبيقية عبر سنين من التساؤلات الجوهرية النابعة من المسؤولية الإنسانية تجاه فهم الدين ومقاصده على وجه الخصوص، كما أنها استطاعت أن تبعث خطابا ثقافيا ميزته الأساسية أنه فوق الطائفية وبلغة علمية رصينة، يجعل القارئ يستشعر جدوائية الخطاب الإنساني في ترسيخ الوعي القيمي والكرامة الإنسانية وتفعيل الحرية الفكرية..

2626 عبد الجبار الرفاعي وماجد الغرباوي

نسلط الضوء بعجالة في هذه السطور على قامتين من قامات الفكر التجديدي المعاصر ضمن الحقل الثقافي النقدي الإسلامي المسؤول، الأستاذ المفكر الأستاذ ماجد الغرباوي والأستاذ المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وكلاهما من العراق بلاد الرافدين والثقافة العربية والإسلامية الأصيلة عبر جميع محطات الزمن الإسلامي، حيث المطلع على نتاج كلا المفكرين يلحظ عدة ملاحظات منها:

1- تأسيس الفعل النقدي على أدوات ومناهج دقيقة ومنتجة للوعي الجمعي بعيدا عن المجاملات والمواربات..

2- ضبط المفاهيم من خلال إثارة الإشكالات من أجل رفع الغموض عن المشكلات الحقيقية لواقع الإنسان والأمة وليس اشتغال فكري نظري يزيد الواقع تيها واغترابا عن الرسالة الحقيقة للإنسان والأمة..

3- تأكيد النقاش العلمي والفعل النقدي بعيدا عن نظرية المؤامرة وترسيخ قيم الإنسانية في تفكيك الأزمات الثقافية والحضارية التاريخية بعيدا عن لغة التسقيط والتسفيه وما هنالك مما يتنافى ومقاصد التطلع الإنساني للحضارة والسلام والرقي ناهيك عن الأدب الإسلامي في المجادلة العلمية ..

4-  الإنفتاح الفكري على الثقافة الإنسانية من خلال القراءات العميقة والمعرفة الدقيقة لخلفيات الأفكار والنظريات وتاريخ العلوم ومناشئ الفلسفات وتبلور المدارس الفكرية في الغرب والشرق..

5- التحرر من تأثيرات الأيديولوجية بشجاعة وثقة عبر التأكيد على النزعة الإنسانية في مقاربات القضايا والإشكالات والمشكلات والأزمات والتطلعات..

6- رسم معالم إنسانية مقاصد الدين الإسلامي من خلال مقاربة آفاق الآيات القرآنية والارتكاز عليها في تأصيل دور العقل في استعادة الوعي بضرورات التجديد في فهم العلاقة بين الإنسان والدين من خلال تفكيك جدليات الواقع والتاريخ..

7- رسوخ القيم في تناول المسائل والمشاكل وتخليص حقيقة الدين والمقدس من متاهات النفس والتاريخ وسمسارة الأيديولوجية والمصالح..

8- تطابق الحس الأخلاقي مع الفعل الثقافي فلا يمكنك أن تقرأ عن الأخلاق والقيم لدى كليهما دون أن تلمس ذلك المعنى في تفاصيل حياتهما، التسامح أو التواضع والصدق والنزاهة والعفو والإخلاص كلها حاضرة في سيرة المفكرين لكل من عرفهما عز المعرفة، فالتسامح والتواضع عند الأستاذ ماجد ليس لقلقة لسان أو تنظير في فضاء الفكر وإنما حقيقة حية تعكس دقة الرؤية وصدق التحليل وعمق المعرفة، ونفس الحال عند الأستاذ عبد الجبار، كل منهما يأسرك بأخلاقه العملية الإنسانية الرائعة في تعاملهما مع الأفكار والأشخاص والأحداث..

9- استطاعا بكل اقتدار أن ينتقلا بمفاهيم ذات علاقة بالدين من خطاب المؤسسات الدينية إلى لغة التداول الأكاديمي عبر عمليات النقد والتفكيك، مما جعل الموضوع الفلسفي الديني الإسلامي عموما في أعمالهما يتجاوز المعوقات التاريخية والخلل المنهجي والأحكام المسبقة..

10- تجربة كل من الأستاذين الغرباوي والرفاعي تعكس صور وتمثلات المثقف المسؤول وترسم نهج تجاوز أدلجة الدين للعبور نحو إنسانية الدين للنهوض بوعي التجديد والمسؤولية لدى الفرد والأمة 

كانت هذه بعض الملاحظات العابرة من خلال قراءاتي المستمرة منذ عقود لنتاج المفكرين الرفاعي والغرباوي ، ولعلها تنطبق على مفكرين آخرين عبر العالم العربي والإسلامي، بينما الأكيد أن آخر نتاجاتهما كانت ذات أثر بليغ واستشراف عميق لما يجب أن تكون عليه العملية النقدية في المدى القريب والمتوسط خصوصا في سلسلة متاهات الحقيقة بالنسبة للأستاذ ماجد الغرباوي وثنائيات الدين الخاصة بالأستاذ عبد الجبار الرفاعي، وأهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا الخصوص أن للأخلاق والقيم حضور قوي وبين في جل أعمال المفكرين ليس كسمة أنطولوجية وإنما كقاعدة أساسية للأجيال على أن قراءة الدين بعيدا عن المعنى الأخلاقي ضمن إنسانية الإنسان هي قراءة ناقصة وقد تكون ذات آثار وخيمة، وهذا ما عبر عنه كلاهما في علاقة الدين بالأخلاق في آخر حلقات الحوار المفتوح مع الأستاذ الغرباوي المستمر ضمن سلسلة متاهات الحقيقة وفي جديد إصدارات الدكتور الرفاعي الذي سيرى النور قريبا حول الدين والكرامة الإنسانية..

ما يمكن استخلاصه من هذه الإطلالة الخاطفة على سمات فكرين يتقاطعان أكثر مما يفترقان أنهما يشتغلان بحب وصدق وإخلاص من أجل صناعة الوعي السليم وتفعيل الحركة التجديدية في إعادة قراءة وفهم الدين ونصوصه دون التغافل أو إهمال إنسانية الإنسان وضمانا لحريته وكرامته ونهوضا بمسؤوليته الحضارية فردا وأمة..

كل الشكر للأستاذين المفكرين رائدي التجديد المعاصر على الفكر الحر والرؤية الثاقبة والتطلع المسؤول والمنهج الرصين في النقد والتحليل والهندسة لآفاق التجديد والتمكين للنهوض الحضاري في عالمنا العربي والإسلامي، ونأمل أن يزداد الاشتغال الأكاديمي النقدي والتحليلي لأعمالهما لدى الباحثين الأكاديميين من طنجة إلى جاكرتا لأن معنى الحقيقة وحقيقة المعنى لدى كلاهما بحاجة لإستثمار معرفي أولا ومنهجي عملي ثانيا ضمن ما يمكن تسميته أنسنة الوعي الديني حتى يلبس الدين لبس الفرو مقلوبا.. ويبقى معامل الوعي الإنساني أساس التغيير والإصلاح والتجديد والنهضة..

 

مراد غريبي - كاتب وباحث في الفكر

 

صدر في شيراز – إيران عن دار "نگاه معاصر" بالتعاون مع "مركز تحقيقات مجد"، كتاب:

(مدارا و ریشه های نامدارایی.. فرصت های هم زیستی ادیان و فرهنگ ها)،

(التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات) لماجد الغرباوي.

ترجمة الأستاذ: مرتضى رحيمي نجاد

تقديم: الأستاذ الدكتور محمد جعفر أمير محلاتي، استاذ إلهيات السلام، جامعة شيراز، إيران.

اتصفت الترجمة بدقة النقل وجمال البيان، حيث بذل المترجم جهدا لتفادي حرفية الترجمة، ونقل مفاهيم الكتاب بلغة فارسية مشرقة. وللأستاذ مرتضى رحيمي نجاد مجموعة كتب ترجمها من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية.

كما أشاد الأستاذ الدكتور محمد جعفر أمير محلاتي في مقدمته الضافية بمؤلف الكتاب، وأكد على خلفيته العلمية وآرائه الفكرية، خاصة في موضوع التسامح، فكانت المقدمة إضافة نوعية من خلال قراءة نقدية لمفهوم التسامح وضروراته.

جاء في المقدمة:

التسامح ومنابع اللا تسامح كتاب لماجد الغرباوي الذي اتسم بمكانته العلمية، وقدرته على تشخيص أسباب التعصب والعنف علميا وفي إطار رؤية نظرية متماسكة. ويُعد كتابه من أفضل الأعمال وأكثرها تحليلا. ولا ريب فهو عالم له منجزاته ومكانته. ومن المهم جدا أن نعرف أن الغرباوي عراقي. ولد من رحم الحضارة الإنسانية؛ وكان شاهدا حقيقيا على حجم العنف الذي اجتاح بلاده. وأعاد ستة آلاف سنة من الحضارة العالمية إلى عصر الكهوف.

اهتم المؤلف في هذا الكتاب بجوانب مهمة من علم الوجود (الأنطلوجيا) والتأريخ وعلم الاجتماع وعلم الدلالات والرموز والفلسفة السياسية وعلم النفس واللاهوت والأنثروبولوجيا وغير ذلك.

2595 تسامح فارسي 2

إن كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، كان قد صدر سنة 2005م عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد. وصدرت طبعته الثانية في بيروت سنة 2008 عن مركز الحضارة ودار العارف. ويعد من الكتب واسعة الانتشار، وقد حظي بقراءات عديدة.

أتقدم بجزيل الشكر والاحترام للجهود الطيبة التي بذلها الأخ الأستاذ مرتضى رحيمي نجاد. كما أشكر الأستاذ الدكتور محمد جعفر أمير محلاتي بمقدمته التي أسعدتني. متمنيا لهما دوام العطاء والعافية.

2596 tasamoh3

يمكنكم الاطلاع على النسخة العربية من الكتاب على الرابط أدناه مع الاحترام

https://www.almothaqaf.com/k/majed-al-gharbawi-s-books/928973

 

ماجد الغرباوي

24 – 6 – 2021م

 

 

 

 

يمثل المفكر الإيراني "علي شريعتي" أحد أبرز المفكرين الذين ساهموا في إثراء وتجديد العصر الحديث، وقد تأسس "فكر شريعتي" على مكافحة حال الجمود والاستبداد، وإعادة بعث الوعي الديني، وبناء الوعي في فكر "شريعتي" اعتمد على ما عرف بفكر المقاومة، والذي نشط كتيار سياسي في سبعينات القرن الماضي، ومع عودة ثقافة فكر المقاومة إلى الساحة الإسلامية، خاصة بعد ما عرف بالربيع العربي، كان من الضرورة عودة النظر في فكر المقاومة . وذلك لحاجة المجتمعات الإسلامية المعاصرة لعودة الوعي الديني مع الاحتراز من شعارات تسييس الدين. ويرى "شريعتي" في دعوته إلى عودة الوعي الديني، أن الدين حتى يكون فاعلاً في المجتمع فلابد من تحويله إلى أيديولوجيا، فكان ذلك مدخلا لدراسة مدى تأثير الوضع السياسي والحزبي على فكر "شريعتي" وتوظيفه للدين في غير حقله. (ولم يفارق الهم الايديولوجي رجل الايديولوجيا المعلم الدكتور شريعتي وبقي يؤكد: ان الذي أأمله وابحث عنه هو العودة الى الاسلام باعتباره « ايديولوجيا». وفي مقابل ذلك رفض شريعتي الاسلام المجرد من الايديولوجيا واعتبره تراكما ثقافيا وفكريا لكن بلا حياة ولا حيوية)1.

وهنا وجدنا الأستاذ الكبير ماجد الغرباوي يقدم لنا في القسم الثالت من  كتابه "الضد النوعي للاستبداد- استفهامات حول جدوي المشروع السياسي الديني" قراءة حديثة لمشروع علي شرعيتي التغييري، وذلك من خلال الاستفادة من فكره في كشف أسباب تخلف المجتمع الإيراني، مع التوقف عند دعوته أدلجة الدين، لنوضح أن الدين أرحب من الأيديولوجيا، وأن أدجلة الدين ننقله من حقلة الأساسي كمصدر للأخلاق والقيم؛ إلى الحقل السياسي الضيق.

وهنا نجد ماجد الغرباوي يقدم لنا قراءة منهجية لسوسيولوجيا علي شريعتي في التغيير، وذلك من خلال اعتماد نموذج إرشادي تحليلي مركب يقوم علي قراءة كتابات شريعتي النقدية، وبالتحديد مفهومي " التشيع العلوي" و" التشيع الصفوي" على اعتبار أن بلورته لهذين المفهومين هو بمثابة نقد لأيديولوجيا المجتمع الإيراني. وما يعنيه الغرباوي بنقد الأيديولوجيا هو تحليل وكشف للأفكار والمعتقدات من حيث ارتباطها بعلاقات السيطرة والهيمنة الاجتماعية، وممارسته لهذا النقد بروح ومنهجية تقارب منهجية " النقد الداخلي" كما تم تطويرها في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت.

إن محاولة الغرباوي في أواخر كتابه " الضد نوعي للاستبداد" تقديم قراءة منهجية وجادة لنقد الأيديولوجيا – الداخلي عند شريعتي، تأخذ أهميتها الحقيقية المتمثلة بإهمال مثل الدراسة المنهجية لأعمال شريعتي، والتي يتم تناولها ضمن الأدبيات التي تعالج الثورة الإيرانية بشكل خاص، أو ظاهرة ما يسمي " الأصوليات الإسلامية المعاصرة"، حيث عادة ما تقدم هذه الأدبيات شريعتي بصفته المؤدلج الرئيس للثورة الإيرانية، أو المسؤول عن تحويل الإسلام (التشيع) إلي أيديولوجيا؛ وذلك بالرجوع إلي دوره في بلورة الإسلام – التشيع تحديداً إلي أيديولوجيا سياسية لعبت دوراً حاسماً في تحريك قطاع واسع من الجماهير الإيرانية، وتحديداً جيل الشباب، طلاب الجامعات والمثقفين الشباب.

2413 الضد النوعي للاستبداد

هذه الرؤية لشريعتي ودوره وإن كانت تحمل قدراً من الصواب، إلا أنها في نظر ماجد الغرباوي مجزأة، وخاصة بالنظر إلي الخلفية غير السوسيولوجية، وبالتحديد البعد النظري لكثير من هذه الدراسات التي عالجت تراث شريعتي برجل الدين؛ إذ نجد أن تراثه قد تسبغ كما يقول الغرباوي بنقود لاذعة لرجل الدين حتى كانت انتقاداته إحدى المآخذ القوية ضده، غير أن الموقف كما يذكر الغرباوي من شريعتي حول هذه النقطة بالذات موزع ما بين معارض متطرف، ومؤيد يبرر له فعله . ويضيف: (كان وما يزال الجدل محتدما حول الدكتور الشهيد علي شريعتي،  والاراء في تقييمه متاقطعة وربما متباينة تباينا تاما، ففيما ينتقده بعض بشدة ويصفه بالمروق والخيانة والخروج عن الدين، حتى لا يتورع بعضهم من رميه بالكفر، يمجده اخر ويرتفع به الى قمة العظمة. وقد مرت بعض التقيمات الايجابية لاهم رجال الثورة الاسلامية حوله. وهذا يكفي لمعرفة حجم التأثير الذي تركه شريعتي في مجتمعه، كما ان حجمم الجدل كان يتناسب بلا شك مع مستوى وعيه وحركته)2. أما لماذا ذلك فنجد الغرباوي يسوق لنا الأسباب التالية:

أولاَ: أن شريعتي كما يري الغرباوي كان يعي الدور الخطير ويدرك امتداداته الواسعة في المجتمع وتأثيره البالغ سلباً وايجاباً .

ثانياً: أن شريعتي يميز بين (الروحاني) عالم الدين الورع، المتقي، المجاهد، الواعي، والرسالي المناضل أو ما يطلق عليه علماء التشيع العلوي . وبين (الروحاني) رجل الدين المستبد المتحجر الخرافي الساكن المتكسب بالدين . يدعم السلطان ويشرعن ممارساته، ويتخذ من الدين حرفة ووسيلة ويفرض علي الأمة نمطاً من التفكير المغلق، أو ما يصطلح عليهم رجل الدين في التشيع الصفوي.. وبهذا الشكل كما يذكر الغرباوي انسن شريعتي رجل الدين بعد أن أنزله من عليائه ومزق شرنقته الميثولوجية، وصار يحتمل الخطأ والنسيان بعد أن كان معصوماً مصاناً متعالياً لا ينطق إلا الصواب والحق3.

ثالثا: كان شريعتي مبكراً في صراعه مع روحاني التشيع الصفوي المترصدين بلا هوداة لمناشطه الفكرية والاجتماعية، وطالماً شن هؤلاء هجوماً قاسياً على الرجل في المجالس العامة والأوساط العلمية، واتهموه بشتي التهم، غير أن شريعتي كما يذكر الغرباوي كان يزداد اصراراً وجرأة في طرح مفاهيم جديدة للدين تضع رجل الدين ومصالحه الشخصية المرتكزة إلى الدين في زاوية حرجة وتسمح للإسلام بالامتداد في جميع مناحي الحياتي التي حرمه رجال الدين من دخولها فتعطل هدفه وانحسرة دائرة تأثيره.

وثمة مؤاخذات يسجلها شريعتي على رجل الدين كما يذكر الغرباوي، فيرى في وقوفه إلى جانب السلطان الصفوي تخطياً فاضحاً للقيم الإسلامية الأصيلة، ويعتبرها مواقف غير مبررة مهما قيل في الدفاع عنها، إذ يسجل شريعتي، كما يذكر الغرباوي، على الدولة الصفوية والسلطان الصفوي التحفظات التالية:

التحفظ الأول: محاربتها للدولة العثمانية التي تقف رغم سلبياتها في نظر الغرب المسيحي، العدو الإيديولوجي للإسلام، وكانت حرب الدولة الصفوية كما يرى الغرباوي مع الدولة العثمانية حرب استنزاف للقوة الإسلامية، وقد أفضت إلى هشاشة المقاومة إلى درجة طمع الغرب في تخطي الحدود الشمالية، ومن ثم استولى على الرقعة الإسلامية بشكل تدريجي . وكان ينبغي للدولة الصفوية كما يرى الغرباوي أن تقف إلى جانب الدولة العثمانية لصد العدوان الأوربي الصليبى على الدول الإسلامية.

التحفظ الثاني: إقامة الدولة الصفوية اتفاقيات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع أوربا، التي هي في حرب مع المسلمين . فشددت تلك الاتفاقيات الخناق كما يرى الغرباوي على الدولة الإسلامية، بينما الموقف الشرعي يقتضي مقاطعتها لأنها في حرب مع المسلمين.

التحفظ الثالث: عندما لجأت الدولة الصفوية إلى التشيع في محاربة الدولة العثمانية المرتكزة إلى التسنن الأموي، أعاد الصفويون كما يرى الغرباوي بمساعدة رجال الدين صياغة التشيع وبناء منطومة من الأفكار المرتكزة إلى الخرافة والميثولوجيا والتضليل والاستغفال والاستحمار، وتغير التشيع من مذهب مناضل منافح عن قيم الإسلام عبر التاريخ إلى تشيع كما يرى الغرباوي يدعم الاستبداد السياسي والتخلف الفكري ويتمسك بتقاليد وعادات خرافية ويتبنى خطاباً دينياً مضللاً . وصار في ظل الدولة الصفوية كما يرى الغرباوي يستبيح قتل الإنسان السني كما يستبيح التسنن الأموي قتل الإنسان الشيعي، ولم يستيقظ إلا بعد أن ترك نقطة سوداء في تاريخ التشيع الناصع، وبعد أن شطر التشيع إلى علوي وصفوي.

بيد أن سياسة الدولة الصفوية كما يرى الغرباوي قد فرضت على رجل الدين بالمنطق القرأني أن يشكل تحدياً صارخاً للاستبداد والتعسف السياسيين، غير أن بعض رجال الدين كما يرى الغرباوي بدلاً من ذلك وقف إلى جانب السلطان المستبد وتسلم مقام مشيخة الإسلام في مقابل مشيخة الدولة العثمانية . وصار الفقيه يستمد وجوده كما يرى الغرباوي من السلطان، والسلطان يستمد شرعيته من الفقيه، واحداهما يشرعن ممارسة الآخر ويدعم موقفه ومكانته في المجتمع.

ولما كان الدجل السياسي يفرض على السلطان الصفوي ممارسات تمويهية كما يرى الغرباوي، كالسير مشياً على الأقدام لزيارة الإمام الرضا والأماكن المقدسة الأخرى عند الشيعة مثلاً، ويشارك في مراسم عزاء الإمام الحسين ويدعم الخطاب الطائفي من أجل تأكيد ولاءه المذهبي، ارتفع رجل الدين في مقابل ذلك بالسلطان إلى درجة الإلهة، ويكفي للتأكد من صحة هذا الكلام كما يرى الغرباوي أن تراجع مقدمات الكتب المؤلفة في العصر الصفوي لتقف على مقام السلطان في نظر الفقيه . وهذه المواقف وغيرها كما هو الحال بالنسبة إلى رجل الدين الذي وقف إلى جانب الدولتين القاجارية والبهلوية كما يرى الغرباوي دعت شريعتي وغيره من المثقفين إلى نقد تلك الممارسات وتمزيق جدار الصمت المطبق تحت ما يسمي ما يسمي بالبروتستانتية الإسلامية والإصلاح الديني4.

وهنا نجد الأستاذ الكبير ماجد الغرباوي يؤكد لنا حقيقة هامة ألا وهي أن البروتستانتية والإصلاح الديني هو أحد مشاريع شريعتي، ثم يقدم الغرباوي بعض الأمثلة والنماذج من أقواله ؛ نذكر منها قوله: ".. على المفكر في هذا المجتمع وفي هذه اللحظة أن يبدأ من الدين لتحرير الناس وهدايتهم وإيجاد عشق وإيمان وفوران جديد وتنوير للأذهان والأفكار، وإطلاع الناس على قوى الجهل، والخرافة والظلم والانحطاط في المجتمعات الإسلامية . يبدأ من الدين بمعني هذه الثقافة الدينية الخاصة، وهذا الفهم والتفسير الصحيح والمباشر، لا ما هو موجود وما ترونه أمامكم، بل ما يناقضه تناقضاَ تاماً، ويسعي علي القضاء ما ترونه أمامكم"5.

ويري الغرباوي أن شريعتي يعتقد أن الإصلاح إنما يطال القوالب والأشكال دون جوهر الدين، القوالب التي تشكلت ضمن طرف محدد وفي عصر له خصائصه وضروراته، فينبغي إعادة صياغة الإسلام ضمن أطر تناسب العصر، وتنسجم مع المتغيرات الزمانية والمكانية . ومن ثم فالإصلاح في مشروع شريعتي كما يري الغرباوي يكون من داخل الدين، ولا يتنصل عن الدين، كما هي دعوات المتغربين، ولا يلتف على الدين، كما هو ديدن رجال الدين المنتفعين بالدين كما يري الغرباوي، وبالتالي فهو إصلاح يطال القوالب والأشكال دون البني الأساسية التي يرتكز عليها الدين. إسلام ينهي التطاحن الطائفي والتخلف والانكفاء، ويعيد للإنسان دوره الحقيقي في الوجود بعد أن استغل واستحمر باسم الدين. إسلام يصنع مجتمعاً تسوده القيم والأخلاق وروح المودة والتحرر من عبودية الشرك وعبادة غير الله تعالي، ونبذ الأرباب المختلفة تحت مسميات شتي.

إذن المشروع الأساسي لشريعتي في نظر الغرباوي قائم على شعار العودة إلى قيم الإسلام ومبادئه .. بل مشروعه الحقيقي الذي عمل طوال حياته من أجله هو العودة للإسلام ديناً يرتقي بالإنسان إلى وعي الذات، وتحصينها من خلال الارتكاز إلى القيم والمبادئ الإسلامية.

ومن هنا يؤكد الغرباوي أن شريعتي قدم نظرية إسلامية تمثل رؤيته الكونية والتي تعتمد على أصول وأسس عقيدة الإسلام، وعلى رأسها التوحيد الذي يمثل العماد الأساسي للعقيدة الإسلامية، وكذلك كل الأسس التي قام عليها بناء مشروع شريعتي (التشيع العلوي)، ولذلك الرؤية التي قدمها حول هذا المعتقد، كانت مختلفة عن التفسيرات التقليدية التي قدمها الفقهاء الشيعة حول معتقد التوحيد، فقد اعتمد على وعيه بتاريخ تطور مجتمعه الإيراني والمجتمع الغربي في تقدي تفسير لهذا المعتقد بما يحقق الرؤية الكونية التي تلبي احتياجات الإنسان بشكل عام وتتفوق على كافة الايديولوجيات المطروحة في الفكر الإنساني، وتقدم حلاً لمجتمعه الإيراني الذي يعيش حبيساً داخل الرؤية الكونية التي نسجها ورسخ لها الفقهاء الصفويون، والتي جعلت مجتمعه يمتلك أيديولوجيا أضعف من الايديولوجيات الخارجية، ولا تستطيع أن تقف في مواجهة قوتها.

وفي ظل القمع البهلوي تبلور كما يري الغرباوي وعي أوسع أفقاً وأكثر طموحاً ساهم في تكوينه جيل عكس قراءة جديدة للدين، وحاول الإفلات من قبضة الأطر والقيود والأشكال القديمة، بغية الحفاظ على حقيقة الدين والارتفاع به إلى مستوي يتناسب مع العصر، وفي الوقت ذاته هي حركة ثورية مناهضة للاستبداد السياسي بقدر مناهضتها للاستبداد الديني، وغن لم تعلن عن ذلك صراحة.

وعندما تفجرت الثورة الإسلامية التي قادها أية الله الخميني ضد الشاه في عام 1979م كان هناك وعي كما يذكر الغرباوي ساهم في مراكمته عمل جاد وشخصيات عديدة غير أن بعضها قد تميز في جهوده كما ونوعا كالإمام الخميني على الصعيد السياسي، وعلي شريعتي على المستوي الفكري والثقافي6، ويكاد يجمع رجال الثورة على دور الشهيد الدكتور علي شريعتي وفضله في خلق جيل كامل من الشباب خاض فيما بعد تجربة الثورة بنجاح فائق؛ حيث استقطب شريعتي الطبقة المثقفة والتف حوله الشباب واقتطف الواعين من طلبة العلوم الدينية وعلماء الحوزة العلمية وتقدمت الإشارة إلى بعض آراء رموز الثورة من العلماء بشريعتي7، وتسلل إلي فئات المجتمع رغم العمل الجاد والمتواصل للحيلولة دون ذلك حتى صرح بعض رجال الثورة بأنه لولا جهود شريعتي الفكرية لما حصلت الثورة في هذا الوقت، أي أنه في نظر الغرباوي استطاع أن يرفع مستوي الشعب إلي درجة عالية من الوعي وتأليبهم على السلطان المستبد .

وعندما اندلعت الثورة الإيرانية عام 79 حمل المتظاهرون صورتين واحدة لروح الله الخمينى والثانية لـ«شريعتى»، الأول اعتبر ولاية الفقيه فريضة دينية تخلص الشعب من شرور الشاه، بينما كان الثانى يدعو إلى إسلام لا مركزى يتجاوز سلطة رجال الدين ويحرر المؤمن من سلطة الوسيط بينه وبين ربه.

حارب نظام الخمينى «شريعتى» ونعتوه بالوهابي، وحاربه جهاز المخابرات الإيرانية «السافاك» وقتله غيلة في لندن، وأقصاه أهل السنة لاعتقاده بالمذهب الاثنا عشرى، وآمن به فقط شباب «مجاهدى خلق» الذين رأوا أن الاشتراكية لا تتنافى مع الإسلام.

ورغم أن علي شريعتي إيرانى فارسى العرق، إلا أنه انتقد النزعة الشعوبية لدى رجال التشيع الصفوي، ويعد كما يري الغرباوي واحدًا من القلائل الذين استطاعوا التجرد بعيدا عن هوى المذاهب والتمذهب. حيث انتقد ما سماه «التشيع الصفوي» و«التسنن الأموي»، ودعا إلى التقارب بين «التشيع العلوي» و«التسنن المحمدي»، ما أدى في النهاية إلى مقتله بلندن.

فتحية إلى للدكتور علي شريعتي والذي أقول له أرقد بسلام سيدي، وتحية للأستاذ ماجد الغرباوي على هذا العرض الرائع والممتع على توضيح المشروع التغييري لدى علي شريعتي.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

1- الغرباوي، ماجد، الضد النوعي للاستبداد، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مؤسسة المثقف ودار العارف، 2010م، ص196.

2- المصدر نفسه، ص 205.

3- المصدر نفسه، ص185.

4 – حيث نقل الغرباوي نصوصا صدرت عن كبار العلماء تثني وتمجد السلطان الصفوي، أنظر مثلا، ص 187. واستشهد بما كتبه المجلسي صاحب موسوعة البحار (110مجلدات) في مقدمة كتابه زاد المعاد.

5- المصدر نفسه، ص190.

6 – المصدر نفسه، ص 199.

7- المصدر نفسه، ص 202، حيث استشهد المؤلف بمجموعة شهادات عن شريعتي لكبار الرموز الايرانية، كبهشتي وبازركان وخامنئي.

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

ذكرنا في المقالات السابقة بأن كتاب "تحرير الوعي الديني" لكاتبنا المبدع ماجد الغرباوي يهدف إلي تصحيح الوعي العربي - المسلم بعد أن بلغ تزييف الإسلام مداه بفكر مغلوط عن دين جاء رحمة للعالمين، عاون عليه طلاب الحكم من جماعات التطرّف والعنف، الذين اختطفوه وحرفوه بممارسات خاطئة، وبخطط خارجية من قوى غربية تبغي تركيع المسلمين، ووظفوا الإخوة الأعداء لبلوغ مآربهم الخبيثة؛ فروجوا فكر التكفير بأباطيل وأوهام ليس لها سند صحيح.

والسؤال الآن هو: هل نجح المؤلف ” ماجد الغرباوي” في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلى حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ على أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتى يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد على الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، وخير مثال أنه حين سئُل الغرباوي: هل تعد الحضارة الإسلامية الآن نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها ولماذا، فأجاب الغرباوي قائلاً: ” الندية تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين، أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ .. لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، ونحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل. وعندما أقول لا ندية بينهما أعي جيدا ما أقول. نحن نحتاجهم في كل شيء ونفتقر لمنجزاتهم حتى النظريات في مجال العلوم الإنسانية، بل وحياتنا الآن تتوقف على تلك المنجزات خاصة العلمية منها، والغرب راهنا يستعمر الدول الإسلامية إلا القليل من خلال حاجتها وافتقارها له. ولو قطع الغرب إمداداته العلمية لتوقفت الحياة في كثير من الدول الإسلامية. الغرب هو المركز ونحن الهامش والأطراف ندور من حوله، وهذا ليس انسحاقا أو شعورا بالدونية. إنما هو واقع نعيشه كل يوم، فنحن لم نحقق نهضتنا ولم نتقدم ما فيه الكفاية بحيث نتخلص من تبعيتنا للحضارة الغربية، ونكون ندا لها. تصور حتى في المجال الأدبي نحن نقلدهم في تطورهم على مستوي الأداء والنظريات النقدية. غاية الأمر أن بعضا يحاول أن يجد جذورا إسلامية لها، كما بالنسبة لقصيدة النثر، وهي احدى عُقدنا لا نعترف بالخطأ ونجيد التبرير والبكاء على الأطلال. إذن نحن مدعوون لاستكمال نهضتنا وتقديم نموذجنا أولا ثم نطرح أنفسنا للتناد مع الحضارات الأخرى (48).

كذلك يحسب للمؤلف قوله: “.. وما لم تختف مظاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا المرتقبة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطوراً ملحوظاً. وهذا يتطلب تحولا ثقافياً ومعرفياً، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع.. الفرد عندنا مشدود للوراء، يلتفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام، بينما شروط الحياة تغيرت، ولكل عصر حاجاته ومتطلباته (49).

كما نجد ” الغرباوي” يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلى ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم، ومن ذلك قوله: ” نحن بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثاً عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (50).

96 majedalgharbawi600

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ “ماجد الغرباوي” صدور هذا الكتاب الرائع عن “تحرير العقل الديني”، وهذا يدل على أنه مثقف تنويري، ومفكر مضيء، ونجم فكري، وثقافي نقدي لامع، يتجدد كل يوم في فضاءات العلم، والثقافة، والسياسة، والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب.

كما كشف لنا هذا الكتاب كيف أعاد “ماجد الغرباوي” كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، وكيف أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتعايش بين الأديان والثقافات.

علاوة على أن كتاب “تحرير العقل الديني” يمثل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا فيه المؤلف على العقلانية النقدية – البوبرية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلى نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهى، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلى تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلى تكوين خطاب ديني جديد في كتابه ” إشكاليات التجديد “، وافتتح مشروعه بالتأكيد على أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلى “الإسلام المنسي”، ولذلك رأى الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” تحرير العقل الديني”، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية في أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ماجد الغرباوي نموذج كبير لـ “مجدد العقل الديني ” (51)

فتحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

48- ماجد الغرباوي: تحرير الوعي الديني (متاهات الحقيقة 5)، مؤسة اللمثف في سيدني، استراليا ودار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2021، ص 367

49- نفس المصدر، ص 403

50- نفس المصدر، ص 402

51- محمود محمد علي: تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف، العدد: 4608، المصادف 18-04-2019.

https://www.almothaqaf.com/a/tanweer/936248

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

لا شك أن أزمة العالم العربي والإسلامي المعاصرة أصبحت رهينة فك الالتباس حول الحقيقة الغائبة بين رسالة السماء الإلهية لإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، وبين رسالة الدين الموازي الذي اخترعته أهواء البشر، ولكي ندرك تلك الحقيقة المغيَّبة بفعل تزييف الوعي الديني من خلال تسطيح العقل وإقصائه وحجبه وراء أستار التقليد والاتباع والسمع والطاعة للتعصب والعصبية، لابد من البيان والتبيين لأصول الخطاب الإسلامي وكذلك لمعالم طريق الخطاب الإرهابي.

من هذا المنطلق وجدنا ماجد الغرباوي ينطلق في كتابه "تحرير الوعي الديني" ليفصل لنا أحاديثه حول أهم قضايا أخرى مهمة تتعلق بتحرير الوعي الديني ونبذ الجمود والتقليد ؛ مثل: الخلق والحقيقة (من ص 111- 113)، ولغة الدين (من ص 114- ص 117 ثم من 120 – 123)، وفلسفة الخلق والتأويل (من ص 118- ص 119)، والتأويل الموضوعي (من ص 124- 126)، وقصص القرآن (من ص 127- 129)، والمنهج القرآني (من ص 130- 131)، ونموذج تأويلي (من ص 132- 135)، وسياقات التأويل (من ص 135-138)، وشروط المنهج (من ص 138-140)؛ وفي تلك القضايا السابقة توصل المؤلف إلى أن النص ليس منقطعا عن سياقاته التاريخية، ولا يتعإلى على تاريخيته، لكن ثمة نظرة خاطئة، واضحة في المنهج الفقهي حينما يتعامل مع النصوص منفصلة عن سياقها القرآني والتاريخي، فلا يخرج عن التقليد دون الاجتهاد، لأن الثاني لا يقف على حدود المعنى اللغوية الذي يعني بذل الجهد لفقه النص ضمن سياقه التاريخي وظروف نزوله. النص جاء ليقدم رؤيته عن الواقع الموضوعي، فهو استجابة لسؤال واقعي أو مقدر، ولذا لا يمكن فهم قصة الخلق وتحريرها من سجون اللفظ إلا بهدر الفهم التراثي والسلفي، وتوظيف المناهج الحديثة لفهمه (37).

كذلك يكشف لنا الغرباوي عن قضايا أخري مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: محددات القراءة (من ص 145- 148)، والمدونة الأساسية للدين (من ص 148- 152)، ومنهج القراءة (من ص 153-155)، والوحي ثانياً (من 156- 158)، والبيئة الثقافية (من ص 159-160)، ومفهوم الحق (من ص 161- 163)، والقصص الحق (من ص 164-196)، واستفهامات الحقيقية (من ص 170-172)، ومشاهد الخلق (من ص 172 – 176)، وتأملات في فلسفة الخلق (من ص 176-177)، والتداخل بين الأسطوري والديني (من ص 178-179)، والعنصر المشترك الأول: أسئلة الوجود (من ص 180-186)، وتشابه السرد (ص 187)، والعنصر المشترك الثاني: أسئلة الوجود (من ص 188-193)، وهنا نجد المؤلف يؤكد لنا أن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقصة الخلق جزء من اسطورة الخلق التوراتية، حيث تخصص يوما لخلق آدم وحواء وإسكانهما الجنة، مجرد حدث تاريخي لا يشي بمعان رمزية أو قيم إنسانية وأخلاقية. والأسطورة تاريخيا سابقة عليها، تحكي سؤال الوجود الملازم لشغف الإنسان بالخلود، لمعرفة أصل وجوده ومصيره. يبحث دائما عن إجابات لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، وهي أسئلة وجودية، تعبر عن قلق عميق يستبد بالإنسان لا شعوريا. فقصة خلق آدم جزء من قصة الخلق، وهي قصة أسطورية في جذورها التاريخي، وردت في الألواح السومرية والبابلية. قصة خاوية، تؤرخ لبداية حياة الإنسان، وغاية وجوده خلاصتها أن الآلهة قد طلبت من كبيرها أن يخلق من يقوم مقامها في الأرض بعد ان تعبت، وأرهقها السعي وراء تحصيل أرزاقها، فخلق الإنسان من دمها وعلى شاكلتها، وهو أقصى ما بلغته المخيلة البشرية آنذاك. وفي التوراة حصلت قفزة نوعية في قصة خلق الإنسان، ابتداء من توحيد الآلهة، وانتهاء بدوره في الأرض، مروراً بالجنة وكيف أغرته الحية، فارتكب خطيئته، عندما أكل من الشجرة المحرمة. فثمة تشابه بين التوراة وأساطير الأولين (38).

ثم يؤكد الغرباوي بأن فلسفة خلق الإنسان في الأساطير القديمة تقوم على اختزال الإنسان، وتكريس عبوديته للآلهة، التي خلقته مطبوعا على الطاعة والانقياد، تستعين به لتأمين قوتها وغذائها، بعد متاعب الأرض التي أنهكتها، فتكون العبودية جوهره وحقيقته، وليست عارضة أو طارئة عليه، فهو كائن مستلب الإدارة والحرية، متقوم بغيره، وهو ذات المنطق العبودي الذي ينفي استقلالية الإنسان ويكرس تبعيته الوجودية، حدا يبيح هدر إنسانيته. والأمر لا يختلف مع الأسطورة التوراتية، فالإنسان سيكون حارسا على الأرض ومسيطرا على الأسماك والبحار، أو ليذهب وحشه الأرض كما في بعض نسخ التوراة، فلم يكن مخلوقا لذاته، مستقلاً بإرادته، بينما يعطي القرآن الإنسان قيمة مغايرة حينما جعله خليفة، على الأرض، ومنحه العقل والإرادة والحرية، ليتحمل مسؤولياته ويؤدي وظيفته الوجودية، وليس عبدا وخادما للآلهة، ولا متسلطاً على الأسماك والطيور. بهذا نفهم أن الله أراد أن يخلق إنسانا تتجلى إنسانيته من خلال مشاعره وأحاسيسه وسلوكه. فالقرآن صدق فكرة الخلق وأعاد تشكيلها وفقا لمفاهيم إنسانية، ليضع فاصلاً بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق فيتفق مع التوراة في الوحدانية ويختلف معها حول هدف الإنسان في الحياة، كما استعاد إنسانية الناس، التي سلبتها أساطير الأولين، باعتبارها نتاج مجتمع، يكرس عبودية الفرد دينيا، ويسلب إرادته وحريته (39).

في الكتاب أيضاً يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: مداخل التأويل (من 194-195)، وآيات الخلق (من ص 196-197)، ورمزية قصة الخلق (من ص 198-205)، ورمزية الآيات (من ص 206-210)، وصدقية التناص (من ص 211- 213)، والعنصر المشترك الثالث: لحظة الخلق (من ص 214-216)، والعنصر المشترك الرابع: حوار الخلق (من ص 216-217)، والعنصر المشترك الخامس: موضوع الخلق (ص 218)، والعنصر المشترك السادس: استطلاع الملائكة (من ص 219-220)، والعنصر السابع السجود (من ص 221- 222)، والعنصر المشترك الثامن: خلق حواء (من ص 223-224)، ومفاهيم لغوية (من ص 225-227)، والمرأة ومشهد الخلق (من ص 228- 231)، والعنصر المشترك التاسع: وعلم آدم الأسماء (من ص 232-234)، والعنصر المشترك العاشر (من ص 235-237)، والعنصر المشترك الحادي عشر: الخطيئة (من ص 238-242)، وفوارق جوهرية (من ص 243-245)، والخطيئة العقيدة الدينية (من ص 246-247)، والعنصر المشترك الثاني عشر: قصدية الخلق (من ص 248-249)، والتشابة مرة أخرى (من ص 250-252). وهي مشتركات قام المؤلف بتقصيها من خلال مقارنة موضوعية بين أسطورة الخلق في أساطير حضارة ما بين النهرين، السومرية والبابلية، مقارنة بالتوارات من جهة، ومن ثم مقارنتهما مع قصة الخلق في القرآن، وقد كشف الغرباوي عن موارد التشابه والاختلاف، خاصة تشابه السرد، غير أنه كشف عن دلالات رمزية في قصة الخلق غير موجودة في أسطورة الخلق.

ومن خلال ما سبق عرضه من قضايا أكد المؤلف أنه لم يلجأ طوال البحث في فلسفة الخلق للتبرير والبحث عن أعذار للدفاع عن القرآن والوحي، وما قدم به من تقديم رؤية مغايرة لقصص الكتاب، وفق تقنيات اللغة والاستفادة من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة. كل هذا كما يقول المؤلف في إطار الهدف العام للكتاب، باعتباره خطابا للإنسان، فيكون هو مجرد محوره وقصديته، ثم أن هدف القرآن ربط جميع الظواهر الكونية والحياتية بالعلة الأولى، مباشرة، أو ضمن سلسلة العلل، وهذا يؤثر في فهمه. وسلسلة العلل لا تنفي العقل ولا تسلب إرادة الإنسان، بل تضبط حركته ضمن القوانين الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية. فالهدف النهائي من قصة الخلق ربط وجود الإنسان بخالقه، وبيان طرق الخلاص، وسبل النجاة وفق رؤيته الدينية. ولا علاقة لقصة الخلق بكيفية خلقه سوى التصديق الرمزي لما جاء في التوراة. وأما خلق الإنسان واقعاً فهو خاضع كغيره من الموجودة لأسباب خلقه وبالتالي لا تقاطع بين الدين والعلم حول ما يطرحه العلم، وتبقي النظريات العلمية مرتهنة لصدقيتها، وقدرتها على تقديم تفسيرات وأجوبة مقنعة لجميع الإشكالات وهو اختصاص علمي، لا يتداخل مع الديني (40).

كذلك يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: تقنية إدراك المعني (من 253-258)، والخلق بين الدين والعلم (من ص 259-262)، والإنسان الكامل (من ص 263-264)، ودلالات مضمرة (من ص 273-276)، الخلافة (من ص 277-280)، ودور الإمامة (من ص 281-282)، والشيعة والإمامة (من ص 283-286)، والمشرع السماوي (من ص 287-290)، والسياسة والتأويل (من 291-293)، والمعرفة الدينية (من ص 294-296)، وقيم الفضيلة (من ص 297-320)، ومن كل ما سبق يعلن المؤلف أن استمرارية الفضيلة لا تتوقف على وجود قيادة صالحة، ما دامت تنبثق تلقائيا، بل تتوقف على وجود مقومات ذاتية وبيئة كفيلة بحمايتها، وهذا ما حرصت عليه الأديان السماوية وأكدتها النصوص المقدسة، من خلال وجود: رقابة ذاتية وقانونية، وثالثة رمزية، كل واحد تؤثر من زاوية خاصة، وتارة تستقل وثانية تتداخل، باتجاه هدف واحد، فيكون تأثيرها مشتركا، خلاصته تعبئة الفرد والمجتمع أخلاقيا، لحماية قيم الفضيلة وتبنيها سلوكا (41).

ومن القضايا الأخرى المهمة لتحرير الوعي الديني والتي يناقشها “الغرباوي” هنا في هذا الكتاب، مثل: مثالية المجتمع (من ص 321- 322)، ومفهوم الفضيلة (من ص 323- 326)، والمجتمع المدني (من ص 327- 332)، وفلسفة الخلق والتسامح (من ص 332- 333)، ومجتمع المدينة (من ص 334- 335)، وحقيقة الإقصاء الديني (من ص 336-342)، وفلسفة الخلق وتداعيات السلطة (من ص 343-344)، والسلطة والاستبداد (من ص 345-346)، والتجربة التاريخية (من ص 347-348)، والأخطاء التاريخية (من ص 349-351)، ومسؤولية الانحراف (من ص 352-354)، فلسفة الخلق ومعاجيز الأنبياء (من ص 355- 358)، منهج فهم القصص (من ص 359-362)، والطابع الغرائبي (من ص 363-364)، والفارق الحضاري (من ص 365- 366)، وندية الحضارة الغربية (ص 367)، والتحرر والتفاعل والنكوص الحضاري (ص 368-371)، حضارة المسلمين (من ص 372-373)، والتثاقف الحضاري (ص 374)، والعلاقة مع الغرب وكذلك الغرب والآخر (من ص 378-379)، والتطرف الديني (من ص 380-381)، والقرآن والتطور الحضاري (من ص 382-383)، والوحدة الإسلامية (من ص 384-385)، والتخلف الحضاري (من ص 386-390)، والنهوض الحضاري (من ص 391-394)، وإشكالية الفكر التكفيري (من ص 395-396)، واليقين السلبي (من ص 397-398)، والتجديد ضرورة حضارية (من ص 399-403)، وهنا نجد المؤلف يتوصل لحقيقة مهمة وهي أننا: ” بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (42).

ثم يؤكد “الغرباوي” فيقول بأن: ” صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء، تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة  ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا. فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شئ. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات، وليس من المعقول أن نبقي متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتي الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم وتحاصرنا الشبهات والتهم (43).

لقد استطاع “الغرباوي” الوصول إلى نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلى درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:

أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلى المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح لخلافة الإنسان على الأرض وحديث المؤلف عن الفهم هنا هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة على ذلك قول ماجد الغرباوي: ” كان سؤال الوجود وراء استعراض قصة الخلق في الكتب المقدسة، ذلك السؤال الذي لا زم الإنسان، يستفزه بدهشة، ويطرح عليه أسئلة مصيرية، تارة تكرس التشاؤم والعدمية واللاجدوي حد اليأس والانكفاء. وأخرى تدفع باتجاه التأمل والبحث والتنقيب، لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينبغي للخطاب الديني تقديم رؤية وافية تبدد شكوكه، وتجيب على أسئلته، حول حقيقة الوجود والإنسان والموت وحياة ما بعد الموت والخلود، مبدأ الخلق ونهايته وغايته، وغيرها، فهو قلق يعبر عن نفسه بأسئلة واستفسارات فلسفية (44).

ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية، ويتضح لنا ذلك من خلاله حديثه عن الجذر التاريخي لشعار الإسلام هو الحل؛ حيث يقول ماجد الغرباوي: “ليس الشعار غريبا على الوعي الديني، بل أن من صميم العقيدة تطبيق الشريعة، والكفاح من أجل اعتبارها مصدرا وحيدا للتشريع في دساتير الدول الإسلامية. وإذا كان تنظيم الإخوان المسلمين أول من طرحه بهذه الصيغة (الإسلام هو الحل)، فهذا لا ينفي جذره التاريخي، بل يؤكد ما تبناه الفقه الإسلامي، أن الإسلام دين شامل لكل الحياة، وما من واقعة إلا ولله فيه حكم. ومعناهما أن الإسلام حل لكل معضلة حياتية ودستورية، ومن هنا أفتوا بحرمة التشريعات الوضعية؛ وعندما رفعت الحركات الإسلامية هذا الشعار، فثمة ما يعزز ثقتهم بإمككانية تطبيقه تاريخيا إضافة لما حصل في إيران، كتجربة الخلفاء، التي تعتبر نموذجا للدولة العادلة التي أقامت شريعة السماء (45).

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتى استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ماجد الغرباوي لفلسفة الخلق بين نظريتين حيث يقول الغرباوي: ” إن الفهم التراثي للقرآن، والجمود على ظواهر الآيات، بات عبئا على الوعي العقلاني، وتسبب في كوارث دموية نسبت للدين؛ مثاله تمسك الحركات الإسلامية المتطرفة بآيات القتال، رغم عدم فعلية موضوعاتها، وانصرافها لقضايا خارجية محددة، فاهلكوا الحرث والنسل (46).

ثم يستطرد “الغرباوي” فيقول: ” وقديما استغل مفهوم الجبر من قبل الحكومات الاستبدادية القديمة التي تري في الملوك آلهة أو ظلا لها أو خيارها. ثم استغل الحكم الأموي ومن جاء من بعده، الجبر لتبرير سلوك الخليفة، والارتفاع به فوق النقد والمحاسبة، في الدنيا والآخرة، بعد أن أصل له المتكلمون، وغدا من مؤسسات العقل التراثي لطيف واسع من المسلمين، فالتراث المثقل بالتبعية والاستبداد ليس أقل خطرا حينما يعطل العقل، ويشل إرادة الفرد والمجتمع، ويكرس التخلف باسم الدين وآيات الكتاب (47).... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال

37- ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، ص 140

38- نفس المصدر، ص 170-171

39- نفس المصدر، ص 176

40- نفس المصدر، ص 251

41- نفس المصدر، ص 219

42- نفس المصدر، ص 402

43- نفس المصدر، ص 402

44- نفس المصدر، ص 81.

45- نفس المصدر، ص 42

46- نفس المصدر، ص 101

47- نفس المصدر، ص 101

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

نعود ونستأنف حديثنا عن قراءة كتاب الغرباوي "تحرير الوعي الديني" لأستاذنا الكبير "ماجد الغرباوي" وهنا في هذا المقال نقدم شهادة للتاريخ فنقول:" إن كتاب الغرباوي "تحرير الوعي الديني" ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرداً لأحداث تاريخية، وإنما حصيلة مراجعة لعدد كبير من المصادر والمراجع إضافة لخبرته في العمل الفكري، لذا نجح في تقديم تفسير رمزي لقصة الخلق تفادى فيه إشكالية وقائعية القصص القرآني، لرفع التعارض المعروف بين نظريتي الخلق والتطور. وقد توغل في استعراض مشاهدها وتفصيلاتها، فجاء استعراضها منسجما مع فلسفة الخلق والهدف الحقيقي من وجود الإنسان. ويأتي هذا ضمن مشروعه لتحرير الوعي الديني وتقديم فهم مغاير للدين يضع مصلحة الإنسان أولا".

وهنا الأستاذ ” ماجد الغرباوي” أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلى مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم على ضم الفروع والجزئيات بعضها إلى بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية، وهو ما لا يعلم ” ماجد الغرباوي” أن أحدا قام به من قبل، لا في شيء محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضاً.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم على ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب؛ علاوة على أنه في هذا الكتاب كثيرا ما يدعو إلى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى توعية العقل العربي من خلال تقديم قراءة متأنية لأسس وأصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في  إخراج المجتمع العربي المعاصر من محنه  وأزماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية (8).

وننتقل إلى الكتاب مباشرة حيث يتصدى الغرباوي في مقدمته للإجابة على سؤال مفاده: هل يؤثر تفاقم العقائد على مستوى الإيمان الروحي بالخالق؟ وهل هو تأثير سلبي أم إيجابي؟

فأجاب: (العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة، بسيطة، وربما ساذجة ثم تتطور، بعضها يموت، وبعضها يقاوم، عندما تجدد العقيدة خطابها، وتصد تحدياتها، أو تتبناها سلطة دينية أو سياسية، تساهم في انتشارها، وتأصيلها، والذب عنها) (9).. ومن هنا تصبح العقيدة إطارا نظريا للإيمان وضربا من الهيام الروحي بفعل خصوبة الخيال (10). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تصبح العقيدة أيضا منظومة فكرية توجه وعي الفرد، إذ يتأتى الإيمان بها عبر تراكمات لا شعورية نفسية – ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لآخر، فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية، والعلمية، والثقافية، والتربوية (11).

إن ما يريد الغرباوي أن يقوله هنا هو أن: ”جملة آثار موضوعية وروحية تلازم كل تطور عقدي، يشهد لذلك تطور الطقوس والشعارات تبعا لتطورها، حد التشوه والانحراف أحياناً، لأنها شرط لقوام التجربة الدينية (12)، ومن ثم تشكل العقيدة في نظر المؤلف ”جوهر الإيمان، تتولي تقديم رؤية كونية تؤطر العمل الإيماني، وتمنحه مشروعية كاملة، من خلال ضوابطها ومقاييسها (13).

ثم ينتقل الغرباوي للحديث عن انضباط العقيدة، حيث يرى أن العقيدة تشكل خطرا حقيقيا على الدين وأهدافه، عندما تنحرف عن غاياته وقاصده، كأن تبرر الشرك بدواع مختلفة، بينما التوحيد جوهر الدين (14).. على نحو جامع، يكرس وحدانيته تعالى، ويمنع جميع الأغيار، مهما كانت شائبة الشرك، وعليه بما أن العقيدة الموازية، تستظل بالعقيدة الأم، فإن إيجابياتها وسلبيتها مرتهن لأدائها التصوري، ومدى قربه وبعده من جوهرها (15).

وهنا كما يقول الغرباوي سنكون أمام تنوع عقدي، لكل واحد أحكامه، ويمكن في هذا الخصوص تحديد مصاديقها والموقف منه من خلال الدليل العقلي، والذي من خلاله يكون العقل دليلاً على صدقية العقيدة كما هو الحال بالنسبة لوجود الخالق (أصل وجوده)، الذي يمكن للعقل الاستدلال عليه من خلال بعض البديهيات كامتناع التسلسل، وقانون العلية والمعلول، وبطلان الدور (16)؛ وتارة يكون كما يرى المؤلف بالنقل الذي يمثل مصدر جميع تفصيلاتها؛ حيث هنا ستكون العقيدة مرتهنة للنص وشروطه وارتهاناته، وهو بالذات سيكون مقياساً لإيجابية وسلبية التأثير، فيقُتصر على النصوص التأسيسية، التي هي موضوع للفهم والتفسير، وما يتلو النص التأسيسي، نصوص ثانية، شارحة ومبينة، تعكس قبليات مؤلفها، وتخضع لإملاءاتها، وضروراتها (17).

ثم يؤكد الغرباوي المؤلف بأنه من خلال الدليلين العقلي والنقلي تبني العقائد، حيث يقول: ”إن العقيدة جزء مقوم للدين، وتلعب دوراً أساساً في تأسيس مقولاته، وربطها بهدفه الأساسي، وليس ثمة فوضى، يُفتح بموجبها الباب للاستزادة من عقائد تستدعيها ضرورات أيديولوجية أو سياسية؛ خاصة العقائد التي تترتب عليها آثار دينية وعقدية، ولها انعكاسات على الفرد والمجتمع (18).

وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة يتطرق الغرباوي لمناقشتها ضمن أجوبته على ما طُرح من أسئلة، ألا وهي شعار: هل الإسلام هو الحل؟

وهنا نجد الغرباوي يجيبنا فيقول بأن هذا الشعار قد رفعه جماعة الإخوان المسلمين خلال تحالفهم الانتخابي مع حزب العمل والأحرار في حقبة ثمانينات القرن المنصرم لاستقطاب الشارع المصري، وضمان صوته الانتخابي، على خلفية دلالاته التي تحيل على المقدس والدين في مقابل ما تطرحه المشاريع السياسية والوضعية (19). . وكان للثورة الإسلامية في إيران دور محفز، حيث أثار انتصارها دهشة الحركات الإسلامية، وكسر حاجز الخوف، وشجع على الثورة ضد حكوماتهم، ولهذا تبنت جميعها بشكل مباشر، شعار ” الإسلام هو الحل” (20).

ثم يؤكد الغرباوي بأن هذا الشعار كانت له دلالات منطقية، منها أنه يؤكد كمال الشريعة، وشمولها لجميع مناحي الحياة، علاوة على أنه يستبطن إدانة غير مباشرة لمناوئيه، لعدم تطبيقهم الشريعة (21). . بيد أن شعار ”الإسلام هو الحل” في نظر المؤلف كغيره من الشعارات، حيث يتمتع بزخم عاطفي، وقدرة على تعبئة الناس لكونه يستجير بالمقدس الديني، ويفرض الاعتراف بقدسيته مهما كانت بشريته (22). . عبر توظيف اللغة، وإيحاءات الخطاب، فلم يكن شعارا بريئا، يروم تطبيق الشريعة لأجل الدين، بل يكمن خلفه مشروع سياسي يطمح لإقامة دولة دينية.. تختزن بداخلها صورة مشرقة مبالغ فيه عن دولة الخلافة، وهي صورة كما يقول المؤلف: صورة ساذجة، كتب بأقلام السلطة، دون نقدها وفضح بشريتها وعدم مثاليتها، بل وعدم شرعية سلوكها، وتصرفات حكامها في أحيان كثيرة ” (23).

ثم ينتقل الغرباوي في هذا الكتاب إلى قضية أخرى تتعلق بالنهضة والوعي؛ حيث قال: كان لسؤال النهضة دور كبير في تحريض الوعي، والبحث عن إجابات تفسر ظاهرة التخلف الإسلامي في مقابل التطور الحضاري الغربي الذي فاجأهم في عقر دارهم، بعد وصول جملة نابليون إلى مصر (1798م) مجهزة بأحدث الأسلحة والمعدات. فتوزعت الأجوبة بين من أدان الدين واعتبره المسؤول الأول عن تخلف المسلمين، فدعا إلى قطيعة تامة مع التراث والدين واللحاق بالغرب وحضارته لانتشال واقعنا الحضاري المتخلف. وآخر ارتد سلفياً طالب بتكريس التراث والسيرة لتدارك الوضع متهما المسلمين بخطأ التطبيق. وثالث قاده رواد النهضة كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وآخرين، الذين عادوا للتراث بحثا عن مصادر قوته الملائمة للعصر، ثم جاء التيار الإسلامي المنظم (الإخوان المسلمين) امتدادا لخط الوعي الإسلامي الأول. وبالتالي فجميع التيارات الحديثة جاءت ردة فعل بعد الصدمة الحضارية الهائلة، وطبيعة ردود الفعل تكون متسرعة مرتبكة، تنقصها الدراسة والتخطيط وجهل بالواقع واشراطاته رغم أنها جزء منه (24).

ومن هذا المنطلق راحت جماعة الإخوان المسلمين كما يقول الغرباوي تتحرك سياسياً باتجاه السلطة باعتبارها شرطا لتطبيق النظام الإسلامي، الذي هو وجهات نظر اجتهادية، صاغتها عقول المفكرين الإسلاميين لسد النقص (25). . الأمر الذي جعلهم يدمون الوهم، ويدورون في حلقة مفرغة، تحكم تصوراتهم مغالطة مفادها: بما أن النظام الإسلامي نظام رباني فينبغي أن يكون الأفضل والأصح (26).

ثم انتقل الغرباوي بعد ذلك للحديث عن فلسفة الخلق وأصل الإنسان ومنشأه ووجوده وبيان هدفه في الحياة الدنيا، باعتباره كائناً بشرياً تميز بعقله وقدرته على تطوير حياته، أو بامتياز بعقل خلاق مبدع فتكون الحرية والإرادة والمساواة لوازم وجودية في ضوئها يواصل مسيرته، ويرسم هدفه (27)؛ وهنا نجد المؤلف يعرض لنا تفسير ذلك من خلال النظريتين الدينية والنظرية الوضعية، فالنظرية الأولي تؤكد استقلالية البشر في أصله الترابي (الكتب المقدسة) (28)، بينما الثانية تعول على ” نظرية التطور والتي تعتقد أن أصل الإنسان من القرد (دارون) وثمة من يعتقد بانحدارهما من أسلاف سابقة (29).

وعندما انتهي الغرباوي من مناقشة هذه المسألة انتقل بعد ذلك للحديث عن مفهوم الخلافة، حيث رأى أنه ليس في مفهوم الخلافة الربانية سلب لإرادة الإنسان، ولم يكن مجبرا، سوى ما تفرضه القوانين الكونية باعتباره بشرا محكوما بها، فيخضع للجبر التكويني بفعل قوانين الكون، وهذا خارج عن إرادته. ولا يصدق السلب على التفويض، حيث فوض الله للإنسان حريته وإرادته وجعلهما لوازم لوجوده من وحي عقله وقدرته على التحكم بسلوكه، فيكون مسؤولا أمام اختياراته، وعلى هذا الأساس يمارس الفرد حريته. وحينما يلتزم بشريعة السماء أو يتمرد عليها بفعل ذلك بكامل إرادته (30).

وحول سؤال الوجود والمتعلق بقصة الخلق في الكتب المقدسة؛ فنجد الغرباوي يناقش قضية الخطيئة ضمن دراسة مقارنة بين أساطير الأولين والكتب السماوية؛ حيث رأى أن التوقف عند حدود الخطيئة لا ينسجم مع مفهوم الخلافة. إذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة. والخليفة هو آدم الإنسان، بكل ما تعنيه كلمة الإنسان واستعداده لعمل الخير والشر (31)، وليس لآدم تصور عن الموضوع سوى ما أخبره به الخطاب الإلهي، بما في ذلك الإيمان الذي كان هشا بسيطا، لم يصل حد الجزم واليقين الذي يحول دون معصيتهما للأوامر الإلهية. ولو لم يخرجا من الجنة لم يعرفا شيئاً عن معنى العقوبة، فقد هبطا للأرص بتجربة غنية جدا رغم بساطتها، حدها الأدنى أن هناك حسن وقبح، خير وشر، ثواب وعقاب. فكانت تجربة ضرورية عاشها آدم مع هواجسه، التي وصفت بالشيطانية لسلبيتها في مقابل هواجس الخير (32).

ثمة بعد آخر تحدث عنه الغرباوي في قصة الخلق متعلق بالمعرفة يمكن رصدها من خلال سياق حركة آدم، فتعلم آدم للأسماء كلها، تعبير آخر عن استعداده التكويني للتعلم واكتساب المعرفة، التي هي عملية مركبة، ليست بسيطة تقف عند حدود التلقي والطاعة المطلقة. فهي تلق وإدراك لمعاني الأسماء، وطريقة استخدامها، مما يتطلب تشخيص الواقع وتحديد اللفظ المناسب. أو تحديد المفهوم كصورة ذهنية، وتخصيص لفظ منتزع من ذات الصورة، قياسا بغيرها من الصور الذهنية الأخرى، وهس عمليات تلقائية لا شعورية، تقف وراء معرفة الإنسان وطيفية توظيفها، وهذه هي مرحلة وعي الذات كما يري المؤلف (33).

وعن علاقة الخطيئة بالفكر الديني، حيث أكد أن الديانتان اليهودية والمسيحية لا تختلف عن القرآن حول قضة الخلق، فآدم والخطيئة عناصر أساسية فيها، غير أن الخطاب الكنسي شيد قاعدة الاعتقاد المسيحي على مفهوم الخطيئة، وأن البشر قد توارثو خطيئة آدم، وارجعوا ضمن متبنياتهم العقدية كل شيء للخطيئة (34).

وهنا يعلن الغرباوي قائلا: ” للأسف لم أجد من يهتم بآيات الخلق التي ترسم معالم هدف الرسالات والأديان، وهذا خطا كبير في فهم الدين، بل وأحد أسباب جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية، خاصة ما تمارسه الحركات الإرهابية باسم الدين والقرآن وما تبثه حركات الغلو من ثقافات تكريس الجهل والأمية والتكاسل في الحياة الدنيا (35).

ويستطرد المؤلف فيقول “: لسنا بحاجة للروايات إلا بشكل محدود، وعلينا الاقتصار عليه، وعدم التمادي في التمسك بجميع الروايات، لأنها تعكس فهما للدين والكتاب المبين في ضوء ظرفها، وحاجات وتطلعات زمن الرواية. ثم لا يوجد نص عدا القرآن، وبعض الأحاديث النبوية الصحيحة فوق التاريخ، أو عابرة للتاريخ والأزمان، فلماذا التمسك بالتراث في فهم الكتاب، وهو نص مفتوح للقراءة والتأويل، وهذه ليست دعوة للقطيعة التامة مع التراث، بل التخلي عن التراث غير المنتج، الذي يكرس التبعية والانقياد والتخلف، ويغلق آفاق التأمل في الكون والنفس البشرية (36)... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

8- ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، إصدار مؤسسة  المثقف في سيدني – أستراليا ودار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، ص 6.

9- نفس المصدر، ص 9.

10- نفس المصدر، ص 9.

11- نفس المصدر، ص 9-10.

12- نفس المصدر، ص 10.

13- نفس المصدر، ص 11.

14- نفس المصدر، ص 15.

15- نفس المصدر، ص 17.

16- نفس المصدر، ص 17.

17- نفس المصدر، ص 18.

18- نفس المصدر، ص 20.

19- نفس المصدر، ص 22

20- نفس المصدر، ص 22.

21- نفس المصدر، ص 23

22- نفس المصدر، ص 23

23- نفس المصدر، ص 27

24- نفس المصدر، ص32

25- نفس المصدر، ص 33

26- نفس المصدر، ص 35

27- نفس المصدر، ص 63

28- نفس المصدر، ص66-72.

29- نفس المصدر، ص 64-65.

30- نفس المصدر، ص 80.

31- نفس المصدر، ص 86

32- نفس المصدر، ص84-85

33- نفس المصدر، ص 88.

34- نفس المصدر، ص 93

35- نفس المصدر، ص 106

36- نفس المصدر، ص 106

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*) 

مقدمة: ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها الوعي الديني تنعكس مباشرة على الوسط الذي يعيش فيه الفرد، وعلى كيفية رؤيته له تفاعلاً وانفعالاً معه، فلما كان هذا الوعي منقسما ومتشتتا ومتأزما أثر هذا في الفكر الإجرائي، أي في أسلوب العيش في جماعة، أي في النظام الاجتماعي وفي مستوياته المختلفة؛ ففشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد الإسلامية، هو كما يري البعض من الباحثين، هو نتيجة عدم انشغال الفرد بمثل هذه السياسات من جهة، لأنها مفروضة من فوق، ومن جهة أخرى لأن الفرد نفسه لا يدرك أهمية التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه، لأن زمنه الفكري زمن مضى أولاً، ولأن حضور الوعي والتميز في العمل، والفاعلية في الإدارة، يربطهم الفرد بمعاني فكرية فوقية لا بنتائج واقعية محسوسة ثانياً، وهذا ما أدي إلى كل المظاهر السلبية في الحياة العامة، والتفكك الاجتماعي، والتسيب الإداري، والاستقالة المحسوسة في كل الميادين. انفصام الوعي وانقسامه جعل الحياة الاجتماعية للأفراد تفقد معناها، فلم يعد هناك ذلك التلاحم بين أجزاء المجتمع، ولم يعد المخيال الاجتماعي يغذي تطلعات الأفراد إلى جدوي تحسين واقعهم، فالآفات التي طرأت على الواقع، كالانتحار، والهروب عبر الحدود، وعدم وجود رابط بين عدي رابط القهر، والعنف، والتشدد، ثم التبرم من كل وضع قائم، وانسداد الآفاق، واللجوء إلى الحلول الانتحارية، كل هذا يدل على أزمة في الوعي رداها خطورة هذا الخطاب الديني السياسي الذي يستغل كل الأزمات ليؤجج بذور الصراع والاختلاف بطرحه  الإيديولوجي البعيد عن كل أسلوب حواري متسامح (1).

وعندما ننظر لديننا الحنيف، نجد أنه كان أهم معاني خاتمية الرسالة الإسلامية وخلودها، هو الإيمان ببلوغ العقل الإنساني درجة من النضج تسمح له بالاستقلال باستنباط الأحكام استقلالاً تاماً، أو تأسيساً على ما ورد في التشريع الإسلامي من أصول وقواعد وأحكام (2)

ومن ثم ظل سؤال “تحرير الوعي الديني ” هو أهم الأسئلة المحورية لنهضة الأمة من وهدتها، وبعثها من سباتها العميق على مدى  عصورها المتطاولة.

وموضوع الوعي والتوعية الدينية من الموضوعات القديمة الجديدة، والتي تتجدد الحاجة إليه في كل عصر منذ عصر النبي صلي الله عليه وسلم، إلى عصرنا الحاضر. وتزداد الحاجة إليه في هذا العصر لما تشهده الساحة العربية من غزو إرهابي وتفش للجهل، وحين تعيش الأمة على هامش الأحداث وتتخلي عن دورها الريادي، وحين تفقد مصداقيتها فلا يحسب لها حساب، وحين تُضيع مبادئ دينها السمحة وقيمه العليا، فإن ذلك مؤذن بوجود خلل ما يتمثل في جملة منها: موجات الإرهاب الدامي التي تُفرض علينا، وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، وضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن ننتظر للغد.

وأكثر هذه الإشكاليات أهمية فيما يخص تحرير العقل الديني تتمثل في المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه، عموماً، يعني استراتيجية ما في القول عن الشيء، أي نمطاً للإفصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه ولا تؤيدها معطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً (3).

ويعني الخطاب الديني، خصوصاً، بكيفية عرض الدين، أو الدعوة إليه، أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالي، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقي مفهوم الخطاب الديني مهجوساً بالآخر، خصوصاً الغربي، وبتلك الرغبة الدفينة في الدفاع عن أنفسنا في مواجهاته، وتزويق صورة التدين الإسلامي القائم فعلياً لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامي، في مكونه القيمي والإنساني، بإلهام المكون الاعتقادي المتسامي على التاريخ؛ أي تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق الجذرية تتوافق على مستويات إحكامه وتساميه، تطويراً لواقعنا نحو الأفضل (4).

قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن الوعي الديني، لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” تحرير الوعي الديني ” للأستاذ ماجد الغرباوي، وقد صدر الكتاب في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، ضمن سلسلة متاهات الحقيقة التي يشتغل عليها المؤلف (5).

أما المؤلف فهو الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، وهو عراقي مقيم في أستراليا.. مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سيدني.. كان رئيساً لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85- 106)، وكان عضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، وقد مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لسنوات عدّة، والحائز على عدد من الجوائز النقدية والتقديرية عن أعماله العلمية، وقد كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب، وله أكثر من ثلاثين عملاً مطبوعاً: تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الحوارات والدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة. اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف،  الإصلاح والتجديد، فكر النهضة.

96 majedalgharbawi600

وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب دائماً ما أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شيء، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتى نضع المتلقي معنا على أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلى تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلى قضايا وظاهرات.

وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ ماجد الغرباوي (تحرير الوعي الديني)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلى محاولة التنظير والتأصيل. . أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلى أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم. . وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب ” ماجد الغرباوي ” في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ماجد الغرباوي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.

والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ” لماجد الغرباوي: لماذا اختار لكتابه عنوان تحرير العقل الديني، ولم يختار له اسم “تجليات الوعي الديني”، أو “تنوير العقل الديني”، أو ” بؤس الوعي الديني في دارنا العربية كما ذهب د. برهان زريق، أو أزمة الوعي الديني كما ذهب فهمي هويدي. . الخ؟

وهنا يجيبنا ماجد الغرباوي ضمن ملاحظة سجلها في الصفحة الرابعة في جميع كتب متاهات الحقيقة: (قد لا ينطبق عنوان الكتاب مع تمام موضوعاته، لكنها تنتظم جميعاً ضمن حوارات متاهات الحقيقة). فيكون الوعي الديني جوهر موضوعاته، وهو ما يسعى له ضمن مشروعه الفكري والتنويري. والكتاب كما جاء في الإعلان عنه عند أول صدوره: (يقع في” 418″ صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير أ. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة متاهات الحقيقة. حيث حمل الكتاب الأول عنوان: الهوية والفعل الحضاري. والثاني: مواربات النص. والثالث: الفقيه والعقل التراثي. والرابع: مضمرات العقل الفقهي).

تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة.

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.

في هذا الكتاب اعتمد المؤلف على منهج نقدي – تحليلي – تاريخي قائم على استقدام مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية كما يقول أستاذنا الدكتور “علي محمد اليوسف ” في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والأكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القار الثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي  إعلان هذا التزييف نفسه فكراً مضللاً، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الإسلامية في عهد النبوة (6).

لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لتطور العقائد، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، ففي نظر المؤلف أنه في كل الديانات القديمة، وبمرور الوقت تنشأ عقائد جديدة، نابعة من الأساطير التي يتحتم بها الموروث الشعبي لهذه المجتمعات، وبحكم الفلسفات التي يتداولها معتنقو هذه الديانات. . وقد تكون هذه الأفكار والعقائد كما يري المؤلف باعثاً على التجديد وعدم الركون لفكر ثابت (7).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

1- سعدي الهادي: الفكر الديني بين إشكالياته المعرفية ومشكلاته الواقعية، مجلة التربية والابستيمولوجيا، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة – مخبر التربية والابستيمولوجي، العدد الثالث، 2012، ص 80.

2- عمرو عبد الكريم: معركة الوعي: سؤال التجديد، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س52 ,ع600، 2015، ص 84.

3- صلاح سالم: الوعي العربي بين الإصلاح الديني والتنوير العقلي، شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد 164، 2015، ص 170.

4- نفس المرجع، ص 171.

5-أنظر ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2012.

6- أنظر على محمد اليوسف: منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف العدد: 4466 المصادف: 2018-11-16.

7- شاكر فريد حسن: ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء، العدد: 5652 – 2017 / 9 / 27 – 11:54.

 

 

 

من خلال المقالات الثلاث السابقة تبين لنا أن صالح الطائي يمثل واحداً من المجددين الكبار، فالرجل استطاع أن يرسم لفلسفته الإصلاحية هدفاً واحدا، وهو إخراج الفكر الإسلامي عامة، والشيعي خاصة من عالم التخلف والانحطاط، والسير به نحو النماء والازدهار، في معترك حضاري وصراع ثقافي بين عالم متخلف فكرياً وحضارياً .

ودعوة صالح الطائي إلى الإصلاح والتجديد ارتبطت بمخطط ارتبط فيه الهدف بالمبادئ والأصول وبالوسائل والمنهج، فكان ذلك عبارة عن استراتيجية تقوم أساساً على فكرة النقد، وفكرة إعادة البناء. أي إعادة بناء الفكر الإسلامي على النقد والتمحيص . فالنزعة الفلسفية والفكرية التي تقوم على النقد والتمحيص قادرة على الإلمام بالحقيقة التي تتطور معالمها وتتغير أوجهها من وقت لآخر، بفعل التفكير الفلسفي النقدي، وعلى ضوء هذا التفكير يمكن بناء فهوم ومواقف جديدة من الأشياء والحياة والوجود، تتجلي فيها الحقيقة، وينبني منها التفكير الإنساني في مرحلة من مراحل تاريخه .

أما ثقافة السكوت والسكون في القديم والتقوقع فيه، والقبوع فيما تركه الأسلاف بحلوه ومره فقط، أو الانغماس في الجديد بحلوه ومره، كل هذا يُفضي إلى الجمود والتحجر في الفكر، والضعف، والانحطاط في الحياة عامة، وتلك هي حال المسلمين في العصر الحديث . وفي جميع الأحيان ثبت المسلمون ما هو في أصله وطبيعته متحرك ومتغير ومتجدد باستمرار، كما عدلوا ما هو في أصله وطبيعته ثابت، وهذا مرده إلى غياب نظره نقدية فاحصة إلى الذات، وإلى الغير وحضارته .

ومن الغير نجد الحضارة الأوربية المعاصرة، والتي أعلن من خلالها "فريدريك نيتشه" عن نظرية موت الإله وموت الأديان، ومن خلال هذه النظرية ذكر صالح الطائي في كتابه ص 46-47، أنه وقع بين أيدينا نص من مداخلة لأحد القراء على مقال الغرباوي، بعنوان "دعوة لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء" الذي مر الحديث عنه، أوضح فيه بأنه: (لا يكفي أن تقول داعش وانحراف داعش هي الأعراض الواضحة على مرض الخرف الإسلامي إيذانا بالموت المحتم أسوة بموت المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها من شرائع عصور الإقطاعية . الإسلام بمذاهبه يعاني من مرض تصلب شرايين، وما الإفراط في الطقوس والشعائر إلا دليل استفحال المرض في جسم المريض الذي أدمن فهو يكثر من الطقوس المهدئات دون رصدي أخلاقي حقيقي لهذه الطقوس التي لم تردع سارقا ولا قاتلا ولا مزورا . حين اختفت الحضارة الرومانية كان ثلثا شعوبها قد مات في الحروب وسيختفي الإسلام أيضا بعد ان يأتي على معتنقيه فيمسحهم بحروبه (الهلالية) على وزن (الصليبية) وبعدها فلكل حادث حديث).. ثم يعقب الباحث صالح الطائي فيقول: "إذن يتضح من هذا القول أن هناك من يتنبأ بموت الإسلام إسوة بالأديان التي اعتقد بموتها، وهذا تصور قاصر مبعثه الخلل في بنية العقيدة الإسلامية المتداولة بين الناس، والذي أراه أن هؤلاء واهمون وأن الدين . ليس دين الإسلام وحده – وإنما كافة الأديان، لا زالت تلعب دوراً ملموساً في حياة المجتمعات المعاصرة، ولا زال تأثيرها على القوانين وسلوك الناس وعلاقة أتباع الأديان ببعضهم في أنحاء العالم كله فاعلا ومؤثراَ!

وهنا أحببت إضافة شيء، أن كلام الغرباوي في مقاله: "دعوة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء"، كان يؤكد على قضايا خطيرة ومهمة تهدد مستقبل الدين، وليس شرطا موته. ولا علاقة لماجد الغرباوي بكلام المعلق على مقاله، فعندما راجعت المقال وجدت الغرباوي يؤكد أن: "ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الاسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم .. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيدا عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرّس اللامعقول وتحرّض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والارهاب، او يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلد الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكلورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الارهاب دينا، والخداع دينا، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلا عن الكراهية والتنابذ والاقتتال".

ويستطرد الغرباوي فيقول: ان مسؤولية التجديد ستخرج من يد الفقهاء، اذا تمادوا في تكاسلهم ولا مبالاتهم تجاه ما يجري. لقد صار الدين مع جمودهم وتخلّف الدعاة شبحا يطارد احلامنا، وباتت شعارات تطبيق الشريعة والاسلام هو الحل والحاكمية الالهية وولاية الفقيه تستفزنا، خاصة مع تمادي بعض الحركات الاسلامية في تطرفها، وارتكابها مجازر يندى لها جبين الانسانية. بل نَسَفَ سلوكهم أغلب ما كتبه المفكرون الاسلاميون عن الاسلام وحضارته ومستقبله في بناء الدولة والمجتمع، وسفّه جميع احلامهم، بل كذّب جميع التأويلات التي اعتادها الكاتب الاسلامي في تبريره لأحكام الاسلام وتشريعاته ونظمه، لكثير من القضايا كـ: المرأة والرق ونظرته للآخر، مما حدا بنا العودة لمراجعة أصل التشريع، واستدعاء ذلك السؤال الخطير، الذي نهرب من مواجهته دائما: (هل الخطأ في التشريع أم في التطبيق؟ أم الخطأ في تعميم الأحكام واطلاقاتها؟.

وهنا يجيبنا الغرباوي فيقول :" للامس القريب كنا نردد ما تردده الحركات الاسلامية وجميع الدعاة المخلصين، حينما نواجه اي خطأ سلوكي: (ان الخطأ في التطبيق)، حتى راحت بعض المذاهب والفرق الاسلامية تعوّل على ظهور (المهدي المنتظر)، لتعذر تطبيقها من قبلنا. ولا ادري ما فائدة تشريعات ودين لا يمكن تطبيقه من قبلنا، حتى يظهر المهدي ويرعى تطبيقه بنفسه!! .. وماذا نفعل اذا لم يظهر او تأجل ظهوره آلاف أخرى من السنين؟ ثم ماذا يريد ان يقدّم المهدي من حلول اسطورية لهذه المشكلة؟ هل سيُشرّع لنا أحكاما جديدة؟ وهذا مستحيل، لتعذّر التشريع بعد الوحي. أم سيوظّف عقله وفقاهته؟، اذاً فلماذا لا نوظّف نحن عقولنا بدلا من انتظاره؟. لا ادري هل نعي شيئا من سلوكنا ام نخدع انفسنا ونحسب اننا على حق وغيرنا على باطل!!!. لا اخفيكم، أجد هروبا في فكرة الانتظار، بل اجد فيها إدانة لنا من حيث لا نشعر، والفقهاء قادرون على فقه الشريعة وتقديم قراءة اخرى للدين. فأرى من الأفضل مقاربة المشكلة في بعدها التشريعي، مع مراجعة مكثّفة لآرائنا وفتاوانا، وفق رؤية علمية، واقعية، ترتكز لمنطق القرآن الكريم في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، سنكتشف حينئذٍ حجم الهوّة بين التشريع والواقع".

إن استعراض مقال الغرباوي كان نافعا، لنعرف عن قرب كيف يفكر؟ وكيف يشخص الإشكاليات الفكرية؟ ففهم الإشكالية أهم من حلها، وطرح السؤال أولى من الإجابة. فالمسألة ليس مسألة موت الدين، بل أن تزوير وعي الناس باسم الدين أخطر بكثير، لأنهم سيعيشون في حالة ضلال. أن الدين، خاصة ما يتمسك به الإرهابيون والتكفيريون، هو الذي جعل المعلق يتنبأ بموت الأديان، ولا تكفي الرهانات على بقائها، الأهم تشخيص المشكلة، وهذا ما فعله الغرباوي في هذا المقال، وكان جريئا جدا، وربما مثيرا، فقد كتب د. صالح الطائي في نفس الصفحة: (بت على قناعة تامة أنه حتى في أسلوبه [أي الغرباوي] الجاف الجريء المشاكس الهجومي الصراعي إنما يعمل على الدفاع عن الدين أمام آراء تسيدت الساحة اليوم). هل حقا هذا هو أسلوب الغرباوي؟. أعتقد أن المنهج العقلي هو الذي يجعل الآخرين يصفونه بهذه الصفات، فإنه يحاصر المقابل بأدلته وتحليلاته، وكشفه للمستور.

***

الكتاب الذي قدمه الدكتور صالح الطائي ملئ بالقضايا والإشكاليات التي لا حصر لها، ولكن في نهاية هذا المقال أود أن أبرز حقيقة هامة هناك اختلاف بين فكر صالح الطائي وفكر ماجد الغرباوي في قضايا مهمة، خاصة القضايا العقدية، ومثاله مناقشة صالح الطائي لقضية "الإمامتين الدينية والسياسية؟ (من ص 48-60)؛ وفي هذه النقطة بالذات كانت النتيجة متوقعة، وهو : اختلاف المنهج يفضي لاختلاف النتائج. غير أن صالح الطائي لم يستعرض كافة أدلة الغرباوي حول الإمامة، كي يقارن القارئ بينهما. فمثلا  يعتبر الغرباوي مفاهيم مثل الإمامة، العصمة الصطفاء، مناصب إلهية. يقول في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص244: (فنفهم أن الوزارة والإمامة والاصفطاء كلها مناصب مرتبطة بالمشيئة الإلهية، ولم يفوضها لغيره. وبما أنها كذلك فتتوقف على وجود نص قرآني صريح. ولو كانت شأنا نبويا لاتخذ موسى قرارا شخصيا دون الرجوع إلى ربه. لكنه يعلم أن الله لا يشرك بقرارته وأحكامه أحدا: (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). أما لماذا يشترط هذا في هذه العناوين وتضاف لها المعاجز والخوارق فهو يجيب في نفس الكتاب، ص34: (وقد قررت قاعدة في كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني. القاعدة تقول: "الممتنع عقلا، لا يُحتمل وقوعه خارجا، سواء كان الامتناع ذاتيا، كشريك الباري، أو لعدم تحقق شرطه كاقتراب النار من الورقة شرط لاحتراقها، او لطبيعة الشيء وتكوينه، كامتناع صدور المعجزات والخوارق الكونية على يد الإنسان حسب طبعه وتكوينه. وما أكد القرآن وقوعه، يُقتصر فيه على مورده").

وأما لماذا لا يقدم الروايات والأحاديث، ويشترط وجود آية قرآنية، يقول: (ولا يمكن رفع اليد عن هذه القاعدة لأن أحكام العقل لا تخصص، وبالتالي نشترط وجود نص قرآني، نرفع به اليد عن القاعدة، لنفهم أن المعجزة قد جرت وفقا لقانون آخر نجهله. وأمثلة هذه القاعدة كثيرة خاصة العقيدة الشيعية وأسطرتها لرموزها التاريخية والدينية. نرجئ الحديث عنها).

برأيي كان ينبغي استعراض أدلته العقلية، المطابقة لمنهجه. وعليه نفهم أن الغرباوي لا تعنيه الروايات والأقوال التي سردها الباحث الطائي، مادام موضوعها مناصب إلهية ممتنعة في ذاتها، كما يقول الغرباوي في ص360 من الكتاب: (لأن كل منصب إلهي، هو ممتنع بذاته، ما دام مفارقا للطبيعة البشرية، فيبقى حتى القاعدة العقلية، ولا يمكن رفع اليد عنها إلا بآية صريحة، لا لبس فيها، تورث العلم واليقين، فحينئذٍ، لا نخصص القاعدة العقلية، لأنها لا تخصص، بل نعيد النظر في فهمنا لتلك الظاهرة التي نحسب أنها مخالفة للطبيعة البشرية، وعندما نعيد النظر فيها سنكتشف مدى صدقيتها وحقيقتها ومدى مطابقتها للواقع).

فهناك اختلاف جوهري حول المفردات العقدية. كل منهما له أدلته، لكن النتائج مختلفة بين من يثبت أو ينفي العصمة والإمامة وفقا لأدلته.

وقد أكد الدكتور صالح الطائي في كتابه، ص 49: (وإي إضافة تفتقر لدليل صريح يدل عليها لا قيمة لها يمكن التعويل عليها خارج اتباعها ومعتنقيها). وهذا كلام دقيق وعلمي لكن الأصل عند الغرباوي كما تقدم، عدم ثبوت الإمامة والعصمة ما لم يدل الدليل القرآني عليها. فالاستدلال الصحيح إقامة الحجة على الغرباوي وفقا لمتبنياته كي يصدق النقد. وأما استعراض الروايات لاثبات ضعف رأيه فغير صحيح. وعليه امام الباحث الجليل ان يقدم روايات وفقا لشروط الغرباوي في الرواية.

من الأدلة التي ذكرها الطائي دليلا على العصمة مثلا آية:

1- (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وهذا حقه، ومناسب مع منهجه. لكن كان يفترض أن يذكر للقارئ أن ماجد الغرباوي له رأي آخر في هذه الآية، تجده في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص244 – 245. فهو لم يفهم العصمة من الآية وفهم منها شيئا آخر.

كما استدل الطائي بروايات على العصمة، ضمن منهجه:

2- قول الإمام علي: " إنّ الله طهّرنا، وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا". والروايات بالنسبة للغرباوي لا تكون حجة ما لم تكن صحيحة، والصحيحة تورث اليقين فتخرج جميع روايات الآحاد، يقول في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص268: (وقد استعانوا لإثبات دعواهم بروايات لا نعرف عن حقيقتها شيئا لكنها تبقى محتملة وفقا للتصنيف الذي اعتمده للتمييز بين الروايات الصحيحة والمحتملة الصدور).

***

وبرغم الاختلاف العقائدي أو الايديولوجي كما أحب أن اسمية بين الطائي والغرباوي، إلا أنهما اتفقا على استعمال العقل وتحكيمه في أمور كثيرة (لا حصر لها)، كما اتفقا على أن المثقف القادر على توليد مقولات ثقافية عقلانية تساهم في تطوير مختلف جوانب المجتمع هو بالضرورة مثقف حر، تزود بثقافة عصرية لا تتعارض مع قيم المجتمع الأصيلة الموروثة بل تحميها من التشويه، فالمثقف الحر في نظرهما لا يتوقف من إنتاج تراث جديد من الثقافة يضاف إلى الماضي الذهبي ويغنيه بثقافة عصرية يحتاج إليها المجتمع في تبدلاته المستمرة في عصر العولمة.

كما اتفقا على أن السياسة وأنماط الحكم والتدبير في المرجعية العربية الإسلامية، لم تكن في يوم من الأيام شأنا دينياً أو شأنا للدين به صلة مباشرة، وإنما هي غرض دنيوي صرف موكل للفرد والجماعة للتفكير فيه، والعمل على إيجاد الصيغ والأشكال والنظريات القمينة بتحقيق الكرامة والسعادة الإنسانيتين للأفراد والجماعات، بناء على الاجتهاد العقلي والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة في هذا المجال، أخذاً في الحسبان معطي الزمان والمكان واستحضاراً للمصلحة العامة غاية أسمى.

وفي نهاية هذا المقال أقول تحية طيبة للأستاذ الدكتور صالح الطائي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

نواصل قراءة كتاب الدكتور صالح الطائي: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي). بمقدمة تمهيدية:

لقد قطع الفكر الإسلامي المعاصر في إيران شوطاً كبيراً في معالجة قضايا منهجية وأساسية كان لها دور في تجديد الفكر الديني، حيث لعب المفكرون الإصلاحيون هناك دوراً كبيراً في إعادة صياغة العقلية الإسلامية الشيعية، وربما كان زوال الشعور بالأقلية الإسلامية الشيعية في إيران من أكبر أسباب نضح العقلية النقدية في المجتمع الإيراني، حيث يمثل الشيعة أغلب سكان إيران خلافاً للشيعة العرب حيث وجود هذا النقد خوفاً من تفكك الأقلية، الأمر الذي يؤدي إلي بطء مسارات الإصلاح.

ومحاولات إصلاح الفكر الشيعي في إيران أخذت لدى البعض مسار إصلاح أدوات المعرفة الدينية، وطرق الاجتهاد إلي جانب تنقية التراث؛ ومن بين الوجوه الإصلاحية التي ظهرت في تلك الفترة مهدي بازرجان (1905-1995م)، ومرتضى مطهري ( 1920-1979م)، وعلي شريعتي (1933-1979م). ثم جاء من بعدهم عبد الكريم سروش (1945- ....)، مجتهد شبستري، ملكيان وآخرون مازال فكرهم ونظرياتهم تحظى باهتمام كبير.

ومع اختلاف مناهجهم بين العلمي والعرفان والاجتماعي والفلسفي والأصولي إلا أنهم استطاعوا أن يقدموا نهضة فكرية، فالمهندس مهدي بازرجان يعد من أهم المفكرين والمصلحين المعاصرين  في إيران فقد اهتم منذ شبابه بإعادة التفكير في صياغة الفكر الديني وبذل جهداً كبيراً لإظهار جدية الوفاق بين الفكر الإسلامي والمفاهيم العلمية الحديثة.. وأما علي شريعتي فيعد نموذجاً فريداً من مفكري إيران، فعلى الرغم من أنه فارسي العِرق لكنه لا يتوقف عن نقد النزعة الشعوبية لدى الإيرانيين، كما أنه يعتبر من المفكرين القلائل الذين استطاعوا التجرد من هوى المذاهب والتمذهب فانتقد ما أسماه التشيع الصفوي، والتسنن، ودعا إلى التمسك بما يعرف بالتشيع العلوي والتسنن المحمدي .. كما يعد عبد الكريم سروش الذي ظهر منذ أوائل الثمانينات واحداً من أهم الكتاب البارزين في إيران، حيث عالجت كتاباته النظريات الماركية وموضوعات فلسفة العلم، وأثارت كتاباته وخاصة ما يعرف بنظرية (القبض والبسط للشريعة) جدلاً واسعاً ونقاشاً حاداً بين مؤيد ومعارض لها، كما تميز سروش بجمعه عددا من العلوم حيث درس الكيمياء والصيدلة وأحب الشعر وقرأ كثيراً عن العرفان بالإضافة إلى ذلك هو ناشط ثقافي، وسياسي ومتبحر في علم الكلام .. وأيضا تشهد للشيخ مجتهد شبستري جهوده الفكرية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.

وكل هؤلاء وغيرهم من أصحاب المشاريع الفكرية العربية استفاد منهم صالح الطائي ونهل منهم، واتضح ذلك حين رأيناه يتحدث عن فلسفته في التصحيح والإصلاح، حيث يقول صالح الطائي: "ليس من قبيل المصادفة أن تعطي اللغة الإنكليزية لمصطلحات (التصحيح) و(التصليح) و(التعديل) معني مشتركاً واحداً (correction)، وتعطي لمصطلح الإصلاح الذي هو من سنخها معني مغايراَ (repair)، فالتصحيح والتصليح والتعديل تجتمع سوية لتعطي معني : محاولة تقويم حالة دون النظر إلى أصولها، فهو من حيث الشمول يعني تصليح الشئ العاطل، كأن يكون سيارة، أو جهاز كهربائي في المنزل أو أوراق امتحان، وهو يحتاج إلى الخبرة والتخصص والممارسة العملية . على خلاف الإصلاح، الذي يشمل عدة تغييرات وإجراءات وقوانين لإصلاح قطاع معين، أو إصلاح منهج، أو جيل من شئ خطأ ملازم له، بمعني أنه يسعى إلى إعادة الأمور إلى نصابها وأصلها الصحيح، أي التغيير نحو الأحسن والقضاء على المساوئ التي تنشأ نتيجة خلل في أنساق الفهم ومناهج التطبيق، وهو بالتالي يحتاج إلى الفهم، والوصف، والإبداع، والإرادة، واستراتيجيات مبتكرة، وسعة الأفق، والقدرة على اتخاذ القرار الجرئ، والقدرة علي تحمل النقد". الكتاب: ص 23.

ويستطرد صالح الطائي فيقول: .. وهدف الإصلاح هو إحداث تغيير نوعي في نمط الإستجابة للمؤثرات المحيطة بالفرد سواء كانت المؤثرات داخلية أم خارجية، وهذا التغيير النوعي في الإستجابة يتبعه تغيير في نمط سلوك الفرد وتصرفه حيال المثيرات والمحذورات، ويتحدد نوع هذا التغيير في نمط الإستجابة، وفي نوعية السلوك، وفي مقاييس وقواعد الآداب والسلوك المتبعة في المحيط الاجتماعي، فإصلاح سلوك الفرد وتقويمه في نطاق علم الإجرام يتحدد في أحداث تغير يتحول في نمط الإستجابة وبالتالي نوعية السلوك، من السلوك المضاد للمجتمع إلى السلوك المنسجم مع قوانين المجتمع وقواعد السلوك والآداب السائدة فيه". الكتاب: ص23.

والسؤال الذي أود أن أتساءل عنه هنا: هل صحيح كما يقول صالح الطائي ص 20 أن مشروع التنويري عند ماجد الغرباوي، والذي يدعو إلي الإصلاح لا يمكن أن يتحقق على الأرض أو في حياتنا؟: (والمدهش في الأمر أن الباحث الغرباوي كان يتحدث عن فرضيات من وحي الرغبة في الإصلاح، فهو مثلنا على يقين أن ذلك لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، ويعلم أن ذلك هو المستحيل بعينه مهما كانت مبرراته، لكن الأمل يحدوه عسى أن تتحقق المعجزات، معتقداً أن هذه الاستحالة لا تمنع مقاربة وإعادة النظر في هاتين المسألتين من أجل وضعٍ فكريٍ أفضل لعالمنا الإسلامي). وكان هذا تعقيبا على قوله: (وأنا من خلال تفكيكي لنتاجه [الغرباوي] وجدته يتحرش بالممنوع الحقيقي والأسطوري بشكل لا يصدق، ويقتحم الخطوط الحمراء دون سابق إنذار، ولا يخشى لومة لائم حينما يحمل سيفين واحد باليمين وآخر بالشمال، فيطلب من السنة ـ على سبيل المثال ـ أن يعيدوا النظر بنظرية عدالة الصحابة؛ التي تسببت بالكثير من الشغب التاريخي، ويطلب من الشيعة أن يعيدوا النظر بموضوع عصمة الأئمة؛ الذي سبب الكثير من الخلاف). وهذا مبرر قوله الأول وهو محق كباحث مثابر، يعرف أن هذا مستحيلا، والقضية ليست أماني، خاصة بالنسبة للمذاهب الدينية، لكن الرجل طرحه كمثال. وهنا بودي أن أعقب:

إن المشاريع التنويرية وفقاً لمناهج العلوم الانسانية الحديثة ومعطيات العلوم الأخرى مشاريع جديدة نسبياً على الساحة، خاصة أن بلادنا المسكونة بالغيب والمقدس والدين (كما يؤكد الغرباوي في كتاباته دائما)، تتوجس من كل جديد وتشكك بمعطيات العلوم، ومازال هناك من يعتبر الفلسفة هرطقة، والتنوير جريمة أو خيانة للتاريخ. الناس تخشى مقاربة مقولاتها العقدية والأخلاقية، اعتزازا بدينها وخوفا على عقيدتها. وهذا يشمل جميع المشاريع الفكرية، وآراء الغرباوي تمس المحظور والمقدس، فتارة تجدها مرعبة بالنسبة لبعض الناس، ويتقبلها أخرون، والمسألة عادية. لكن هذا لا يفرض علينا الكف عن مقاربة العقيدة ونقد مقولاتها، والاكتفاء بالاصلاح والتجديد والترميم. وأقصد بالنسبة للغرباوي، الذي بات مشروعه واضحا، وراح صداه يلفت الانتباه. وما تأليف كتاب من قبل باحث بوزن الدكتور صالح الطائي سوى شاهد على ما أقول. وعندما أعلنت مؤسسة المثقف عن صدور طبعة ثانية خلال سنة من الطبعة الاولى لكتاب مدارات عقائدية ساخنة، لفتت انتباهي في حينها، خاصة مع كساد سوق الكتاب وخمود الاقبال على قراءة الكتاب الورقي. فلم أجد ما يفسر هذا سوى تقبل الناس لأفكار الكتاب، وتقبلهم فكرة مناقشة المقدس، وهو تطور. أو وجدوا فيه آراء جديدة جذبتهم. وعليه هذا مؤشر لا على أهمية الكتاب بل مؤشر على وجود تقبل للكتابات النقدية الحديثة، وتقبلهم لتفسير النصوص بمناهج جديدة، وهذا ما أتوقعه لكتاب الدكتور صالح الطائي: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي). من خلال متابعتي أجد هناك تعطش لمعرفة الحقيقة في عصر الانترنيت. بينما كانت مناقشة المقدسات خطا أحمر، فالمراحل القادمة سيتقبلون كل شيء. وعليه ربما يحصل انقلاب جذري في العقائد وفهم الاديان. فالأمر عندي يتوقف على وعي المسؤولية الدينية، ومدى علمية وقوة الطرح البديل. واستشهد هنا بنص في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص199: (.. التحرر العقلي إذاً يتطلب مرانا على النقد والمراجعة وطرح الأسئلة والاستفهامات وتقويض المألوف والمتعارف ومطاردة ألاعيب الخطاب. من هنا ينزعج الناس حينما يستفز الخطاب النقدي عقائدهم ومورثاتهم، ويربك استقرارهم النفسي القائم على تلك الموروثات الدينية. فهي أساس وجوده وكينونته الاجتماعية، يستميت في الدفاع عنها والتضحية في سبيلها، عندما يتعلق الأمر بالهوية والانتماء الذي يزعزع الاستقرار والطمأنينة. فالدفاع عنها دفاع عن وجوده وهويه وانتمائه، فلا يسمح بهدرها ما لم يتولى نقد الذات بنفسه، ويبدأ بمراجعة قبلياته، ويسمح للعقل بالنقد وفقا لمبادئه. أي أنه يرتكز لأنساق عقلية ومعرفية مغايرة تتصدى لنقد مقولاته الأساسية. في هذه الحالة فقط تبدأ عملية التنوير).

لا شك أن الأمر يختلف عندما ادعى الغرباوي استحالة التخلي عن عدالة الصحابة من قبل أهل السنة والتخلي عن العصمة بالنسبة لأهل الشيعة، وهو ما أكده الباحث الطائي أيضا، فلان كلا المذهبين سينهار بانهيارهم، ولا معنى لوجودهما، فهي قضية حياة وموت بالنسبة لهما، وغن كان في الحقيقة ليس كذلك. لكن الأمر بالنسبة لى على الأقل ليس مستحيلا. وأنا مع مواصلة النقد، وإعلان النتائج مهما كانت خطيرة. فليس المهم مشاعر الناس، فإنها مؤقتة وتذوب، وهذا هو العقل الجمعي. المهم نأمل في مشاريع تساهم في تحريك عجلة النهضة التي انتظرناها طويلا. ماجد الغرباوي كتب كثيرا في كتبه القديمة عن الاصلاح والتجديد ككتاب إشكاليات التجديد، لكن وجدناه في حواراته يدعو لرؤية مغايرة للدين. وهو يقصد إعادة النظر بما يسمه: (النسق العقدي المألوف). يقول صريحا في كتاب: الفقيه والعقل التراثي، ص111: (ما لم تجدد عقيدتك باستمرار، سيركنك التاريخ في إحدى زوايا الغلو. وبالتالي ينبغي لنا مغادرة النسق العقدي المألوف، واستبداله بنسق معرفي له قدرة على مواكبة الحياة وفهم الدين وحاجات الإنسان). ويقول أيضا في ص302: (نؤكد لا أمل في الاصلاح للوضع الإسلامي عامة، والوضع الشيعي خاصة سوى إعادة النظر في النسق العقدي المألوف والمتداول، وبناء مبادئ عقدية تنسجم مع فهم متجدد للدين، وتأخذ بنظر الاعتبار مركزية الإنسان، ودوره الاستراتيجي في الحياة الدنيا).

ولا يخفى على القارئ اللبييب أن إعادة النظر في النسق العقدي المألوف كما يدعو لذلك الغرباوي، يعني إعادة النظر في العقيدة ذاتها، بدءا من صفات الخالق، وعلاقته بالمخلوق (كما في ص15 من كتاب الفقيه والعقل التراثي)، معنى الوحي والنبوة ووظيفة النبي، وتمتد على الرأي الشيعي للإمامة وأدلتها ودورها ومدى قدسيتها، فمشروع الغرباوي مشروع فكري وعقدي شامل. لا يتوقف على الاصلاح روبما لا يؤمن بالاصلاح، ويطالب بفهم جديد للدين. وهو ما يرددها بكثرة: (فهم جديد للدين يأخذ بنظر الاعتبار دور الإنسان في الحياة)، كما يطالب في مشروعه الفكري بمركزية الإنسان. وهو وإن لم يصرح لكن العبارة واضحة، يريد طرح مركزية الإنسان في مقابل مركزية الله. التي هي أساس الفكر الديني عامة، بلا استثناء. ومن يخرج على هذه الفهم يرمى بالانحراف وربما الكفر. وعليه فمشروع الغرباوي يقع في موازاة المشاريع الاصلاحية والتجديدية، ولا يمثل امتدادا لها. يضع العقل فوق النقد، ويركن للبرهان والدليل، ويحد من دائرة حجية السنة، وغير ذلك كثير بحاجة الى دراسات مفصلة. فمنهجه يختلف جذريا عن منهج الدراسات الدينية والحوزوية التي تتمسك بالنص وحجيته مادامت سند الرواية صحيحا.

ولكي نكون موضوعيين، لا ننفي عن مشروع الغرباوي الاصلاح والتجديد نهائيا، لكنه كما مركوز في ذهني من خلال مطالعاتي يعتقد أن مشاريع الاصلاح والتجديد بات بلا جدوى، ويعتقد بضرورة تقديم فهم جديد للدين والنص الديني ودور الإنسان في الحياة. فهو ليس مع التصليح ولا الإصلاح، وإنما هو مع تقديم فهم مغاير للدين، يأخذ بنظر الاعتبار دور الإنسان في الإرض. ولازمه مركزية الإنسان ومصالحه، لذا طرح الغرباوي اتجاه الخلافة / الإنسان في مقابل اتجاه العبودية، وقد بين معالمه وركائزه في كتاب الفقيه والعقل التراثي، بهذا أخرج الإنسان من كونه كائنا مخلوقا للطاعة والانقياد، يملي عليه الفقيه ما يريد إلى كائن عاقل، يعي ذاته، يشهد لذلك كتاب الله: وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. فالإنسان خليفة في هذه الأرض، لاستخلاف الأرض وإعمارها. فرؤيتته للدين تختلف عن الرؤية المتداولة، التي تختزل الإنسان. وعلى هذا الأساس أصل الغرباوي للاتجاه العقلي. ارجو الاطلاع على نظريته في ص 63 من كتاب الفقيه والعقل التراثي، فيه من المعلومات ما يكفي لبيان كل شيء.

وبالتالي فثمة اختلاف منهجي على جميع الأصعدة بين الرؤيتين وهذا ما أريد قوله والتأكيد عليه من خلال الشواهد والأمثلة. هو ذات الفارق بين التحرر من الأحكام المسبقة والإنقياد المطلق لها. لذا وجدنا الغرباوي قد ناقش مقولات النسق العقدي المتداول كحجية السنة في أكثر من كتاب، خاصة كتاب الفقيه والعقل التراثي. وعدالة الصحابة في كتاب: النص وسؤال الحقيقة. العصمة في كتاب الفقيه والعقل التراثي. الإمامة في كتاب مضمرات العقل الفقهي، والمهدي في كتاب مدارات عقائدية ساخنة، إضافة للشفاعة وغيرها من مفردات عقائد المسلمين. فاكتشف كما يقول الغرباوي بشريتها وتاريخيتها، وتعامل معها على هذا الأساس. وبذلك انهارت أمامه كثير من اليقينيات والمقدسات السابقة. وهذا لا يفعله باحث ديني أو إسلامي ما لم يتسلح بمشروع تنويري متكامل، وقد تستفزه هذه الطريقة جدا. كما أن انهيار تلك اليقيانيا لم يؤثر على تماسك الغرباوي، وهو يطرح بدائل قائمة على الدليل والبرهان والتأمل العقلي، وعدم الانصياع للخرافة والطائفية والبحوث الكلامية القديمة.

***

سجل الباحث الدكتور صالح الطائي ملاحظة منهجية على كتابات الغرباوي، هي صعبة خاصة كما يقول في ص 21 (ونظرا لكثرة نتاج الباحث الغرباوي لا ضير في أن تتكرر الرؤية الواحدة من رؤاه في أكثر من كتاب وبحث ولقاء ودراسة ومقال، ولكن هذا سيزيد من صعوبة تقسيم الكتاب على فصول أو مباحث او الاكتفاء بالعنوانات الرئيسية والفرعية). وهي ملاحظة صحيحة بشكل عام، غير أن الكتب الحديثة باتت لا تعتني كثيراً بالتبويب الأكاديمي رغم أن بعض كتب الغرباوي مبوبة على أبواب وفصول. أو فصول وحدها. ولعل العناوين الرئيسية تكفي لمن يريد الاشتغال في مشروعه الفكري.

ثم ضرب لنا الباحث الطائي مثالا على ذلك من دراسة للغرباوي عن الشيخ محمد حسين النائيني منظر الحركة الدستورية. لم أفهم ما هو الربط بين كلامه والشاهد، لكنها التفاتة ذكية من باحث دقيق لهدف الغرباوي من الكتابة منذ كتاباته الأولى، وهي نقطة يشكر عليها الاستاذ الدكتور صالح الطائي. قال: (للوهلة الأولى وكأن الباحث الغرباوي أراد من خلاله التحدث عن الشيخ النائيني حاله حال المؤلفات الأخرى التي تكتب عادة عن أشخاص أحياء أو متوفين، وعن مشاريعهم ورؤاهم، بينما استغل الباحث الغرباوي الفكرة العامة للكتاب لتمرير الكثير من رؤاه الفكرية وتحليلاته المنطقية والبحثية، وقد أشار في المقدمة إلى ذلك بشكل غير مباشر من خلال قوله: "وفي حياة الشيخ محمد حسين النائيني كثير من المواقف والظواهر المفتوحة على أكثر من تفسير ورأي، ولكن تجد كل باحث يختص برؤية مستقلة. بل هو تحدث صراحة وبوضوح عن الهدف الحقيقي من وراء مثل هذه الكتابات بقوله: "تتلخص فكرة مشروع رواد الإصلاح في تلمس المشروع الإصلاحي لكل رمز من الرموز للتواصل معه، والبحث عن نقاط الضعف لتداركها، وتأسيس وعي جديد يرتكز إلى العقل ضد الخرافة والقداسة، وضد الاستبداد بنوعيه السياسي والديني، فهذا الكتاب في واقعه يمهد للدخول إلى المنهج العام للباحث. والظاهر أن الكتاب صدر ضمن سلسلة (رواد الإصلاح) التي تعنى بدراسة مشاريع الإصلاح التي نهض بها الرواد المسلمون، وتطمع إلى رقي وعي الفرد والأمة إلى مستوى المسؤولية الرسالية، وهذا يدل على وجود فكرة مسبقة هدفها التمهيد لمشروع كبير، لم تكن غايته تمجيد الرواد، وإنما استغلال عملهم للتأسيس لمنهج إصلاحي جديد، وحسنا فعل الباحث، فهو فتح الباب على مصراعيه وسمح لكل من يرغب بالدخول أن يدخل بلا استئذان). (الكتاب: الصفحتان: 20 – 21). إضافة لكلام الباحث الطائي لقد ذكر الغرباوي في مقدمة الطبعة الاخيرة من كتاب النائيني انه كان محاطا بظروف لا تسمح بأي حديث، فكان النائيني وسيلة للحديث عن الاصلاح وضروراته وفضح الاتجاه السلطاني لدى الفقهاء، وما أفرز تعاون الاستبداديين الديني والسياسي.

وهنا ملاحظة قد يواجه القارئ صعوبة في فهم آراء الغرباوي، وهذا واضح، غير أن  كتاباته بشكل عام واضحة، ولغته مشرقة، تنساب على الورق، ويرق لها السمع، غير أن طبيعة الأفكار تفرض مصطلحاتها ومفاهيمها فتتطلب خلفية تساعد على فهمها. كما أنه طرح افكار جديدة، تحتاج لتأن في فهمها وإدراك مقاصدها. وأما الجرأة فتتسم بها جميع كتاباته وفقا لمبدئه: الحقيقة تستدعي النقد الجريئ.

***

ملاحظة أخرى سجلها د. صالح الطائي في ص 41: حيث قال:

السؤال المهم: اين نضع المفكر ماجد الغرباوي وتجربته في نقد الفكر الديني في هذه المعادلة الصعبة جدا؟ والجواب على هذا السؤال يدفعنا للبحث في مشروعه والتنقيب في رؤاه، طالما أنه يعتقد أن ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الإسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم، أزمة حقيقية تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتعيد النظر في ثوابت الشريعة أي أنه يريد التعامل مع الثوابت، والثوابت تُقَرُ بنص، وقاعدة الفقه المتفق عليها بين المدارس الإسلامية تقول: "لا اجتهاد قبالة النص". وهو في نيته هذه يسعى إلى التحرش بالحافات الخطيرة جدا). وأضاف: (وأؤكد هنا أن غايتي القصوى هي الإيضاح والنقد البناء لبعض جزئيات مشروعه، وليس التخريب والهدم، فما قدمه الغرباوي للدين وللأمة كثير جدا ولا يمكن انكاره تحت أي تعليل، بل هو قد يفوق كثيرا ما قدمه رجال يرتدون الزي الديني، وينهجون نهج الدعاة للدين. والجزئيات التي سننقدها قد يكون هو الذي أثارها، أو أن ما طرحه شجع الآخرين على إثارتها، أو أن هناك من استغل إثارته لها ليدخل من خلالها ويدلي برأيه الذي قد يكون في منتهى الغرابة). بهذا النص يوضح الباحث صالح الطائي منطلقه في تفكيك وفهم مشروع الغرباوي الفكري. وهي نقطة مهمة تبعد عن الناقد الشك والتأويل البعيد، فالأمر بات واضحا، وقد بين رأيه عندما قال: (أي أنه [الغرباوي] يريد التعامل مع الثوابت، والثوابت تُقَرُ بنص، وقاعدة الفقه المتفق عليها بين المدارس الإسلامية تقول: "لا اجتهاد قبالة النص").

بما أن الحديث عن الشريعة فيقصد الباحث الطائي من الثوابت ثوابتها. وهي: النسق العقدي، إضافة إلى النص المقدس، الآيات والروايات، وعند الشيعة روايات أئمة أهل البيت أيضا. فهل الغرباوي مؤهل لهذا العمل؟ يقول د. صالح الطائي في بداية الكتاب، كما أشرت له سابقا: (نقف اليوم أمام شخص رسم لنفسه منهجاً نقدياً إصلاحياً، تبنى فيه نقد الفكر الديني تحت شعار الإصلاح الجريء؛ بعد أن درس الدين وأصوله وفروعه ومناهجه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكوَّن رؤية أصيلة عما يريد التحدث عنه، إنه الباحث والمفكر العراقي المقيم في أستراليا الأستاذ ماجد الغرباوي، الذي سنتولى نقد تجربته بعلمية وحياد). إضافة لما هو مدون في سيرته العلمية، فهو إذا يمتلك الأدوات اللازمة لاستنباط الأحكام الشرعية، وتقديم أدلة تدعم آرائه. وما دونه من آراء تكشف عن آراء اجتهادية واضحة، وهو يناقش الأصوليين مثلا. فالرجل مؤهل لهذا. بقي ما هو منهجه؟

يخالف الغرباوي الفقهاء حول مفردات العقيدة. يقدم القرآن على الروايات. الصحيح من الرويات بالنسبة له كما ذكر في كتاب الفقيه والعقل التراثي، شروطها صعبة. وتاتي في طول القرآن، وليس في عرضه. كما يقدم العقل في فهم النصوص الدينية، وهم يتعبدون بها مطلقا. له رأي مخالف في حجية السنة والعصمة والإمامة وغير ذلك. وعليه هو يختلف معهم في الاصول والمتبنيات. ويتحفظ على مقولة لا اجتهاد مقابل النص للاسباب التي ذكرتها سابقا. وهو يفهم القداسة بشكل مختلف عما هو متعارف. ويرفض الاحتجاج بالنصوص بعيدا عن تاريخها وفلسفة صدورها. ودأب منهجه على تقديم الدليل العقلي ثم القرآني. او القرآني بجانب الدليل العقلي. فهو لا يجتهد أمام النص بمعنى رفض النص، ولكن يناقش في حجيته وفهمه في ضوء الظروف المحيطة به والإطار العام لرؤيته ونظريته. وهذا مرفوض بالنسبة للاتجاهات التقليدية، فنعود ونقول ان الخلاف سببه المنهج والمباني التي يؤمن بها كل طرف. وأقول وهذا رأيي الشخصي ان: لا اجتهاد مقابل النص، كانت عبارة صلبة لا يمكن مخالفتها، لكن فهمت من تفاصي لمشروع لغرباوي ان فعلية كل حكم منصوص تتوقف على فعلية موضوعه. لا اعيد ما تقدم.

وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

من الواضح جدا الجهد الفكري للدكتور صالح الطائي في كتابه: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي)، وقد تناول بالنقد مجموعة آراء لماجد الغرباوي، كما قارن بين رؤيتيهما حول جملة موضوعات. وسلط الضوء على أبعاد مجموعة ثالثة، إضافة لمقدمة وافية عن نقد الفكر الديني وتاريخيه وأهميته. ولا يخفي المؤلف مشاعره واحترامه وتقديره لجهد الغرباوي، يقول في ص19 من الكتاب: (أما من حيث العموم فيبدو أن الأستاذ الباحث ماجد الغرباوي يحمل مشروعا لا يتبناه سوى من يحمل صليبه على ظهره ويجول بين صحارى الفكر يبحث عمن يُعلقه عليه، وهو لا يملك سوى إيمانه بنفسه ومشروعه، فالرجل رفع شعار إسقاط الساتر الفاصل بين الأمة ووقائع التاريخ ونقوله، ودعا إلى تحطيم أسطورة المعبد ليكتشف الناس وجه الله ويهتدوا إلى طريق الصواب). لهذه الأسباب وغيرها، استحق الكتاب الإشادة والمراجعة والنقد. فالطائي كما تقدم باحث قدير في مجال تخصصه، وجاء كتابه بالمستوى المطلوب. ويمكن الإشارة لجهد الكتاب بمايلي:

- قدم المؤلف استعراضا لمساحة واسعة من أفكار ماجد الغرباوي، وهو أمر يتطلب جهدا ومتابعة، لكثرة كتاباته وتعدد موضوعاتها. وبات لدينا الآن كتاب يعرف بمشروع الغرباوي، ووجهات نظره، قد يكتف به القارئ. وهذه مهمة بحثية يشكر عليها المؤلف، أكيد كلفته جهدا كبيرا لمراجعة كتبه وحواراته ومن ثم استعراض آرائه ونقدها.

- قدم لنا الكتاب وجهتي نظر حول بعض الموضوعات، وباتت لدينا أكثر من زاوية نظر، نستطيع بهما تقييم الآراء المطروحة. وإذا كان كل من الطائي والغرباوي ينتمي للفكر الإسلامي فتزداد أهمية الكتاب. فقد يعتقد البعض أن الانتماء الواحد ينتهي إلى نتائج واحدة. لكن بعد مراجعة الكتاب يجد القارئ اختلافا حول بعض الموضوعات.

- سلط الدكتور صالح الطائي في كتابه: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي)، الضوء على قضايا مهمة في مشروع ماجد الغرباوي، وبين مدى عمقها وقوتها، ولولا هذا الجهد قد تفوتنا ونحن نتابع ما يطرحه الغرباوي من أفكار. فنجده يتوقف عندها ويتأملها.

- استطاع المؤلف المحترم لملمة جهد الغرباوي بعد اتساعه، وقد اتضح من الكتاب سعة مشروع الغرباوي على مستوى الاصلاح والتجديد والتسامح، إضافة لمشروعه الفكري العميق في موسوعة متاهات الحقيقية. وهذا بحد ذاته جهد مهم يشكر عليه، وعملية ليست سهلة لولا أنه باحث ممارس.

- فتح الدكتور صالح الطائي آفاقا واسعة لنقد المشروع الفكري لماجد الغرباوي من خلال تسليطه الضوء على آرائه. وباتت لدى الباحثين فرص جديدة لمتابعة النقد والقراءة. وهذا يدل لا على سعة الباحث فقط بل على قدراته في البحث والنقد.

أعود لمتابعة قراءتي للكتاب، وهو الأهم في هذه المقالات، والغاية منها التكامل والإثراء، وبيان أسباب الاختلاف والتباين بين الآراء، في ضوء خبرتي واطلاعي على المشروع الفكري لماجد الغرباوي، وما هي أهدافه. وكيف يمكن لنا مقاربتها من خلال متبنياته النظرية. فهو يسر وفق رؤية متكاملة، وإطار نظري يحكم آراءه.

ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضى بأن السلطة السياسية تلعب الدور الأساس في إطلاق أي مشروع نهضوي؛ إذ لم يسجل التاريخ الحديث ولمعاصر ولادة حركة تحديثة ناجحة في أي من المجتمعات البشرية لا تنسب إلى شخصيات سياسية متنورة شكلت مركز استقطاب للغالبية الساحقة من المثقفين المبدعين الذين وضعوا عصارة أبحاثهم؛ ولا تستقيم إشكالية الحرية والإبداع في علاقاتها المتشابكة والمعقدة بالدولة والمجتمع إلا عن طريق مؤسسات ثقافية عصرية أو مناخ ثقافي حر يساعد على الإبداع بمختلف أشكاله، ويقيم تواصلاً ما بين الثقافة والمثقفين المبدعين من جهة، ومع الدولة العصرية الديمقراطية والعادلة من جهة أخرى.

انطلاقاً من هذه الرؤية المنهجية يمكن القول بأن القراءة التي أقدمها لكتاب صالح الطائي (السالف الذكر) لا تدعي الشمولية، ولا الإحاطة، بل هي قراءة اجتزائية، وربما كانت أحياناً مبتسرة، لكن الغاية المتوخاة منها هي إثارة الفضول لدى قراءنا الأعزاء في الشرق والغرب، واقتراح أرضية للنقاش علي هامش هذا المؤلف الهام؛ شعارة "الاختلاف لا يفسد للود قضية" .

وهنا أستطيع أن أقول (كما تبين لي من قراءتي العميقة للكتاب) أن ما فعله "صالح الطائي" في كتابه، إضافة لما تقدم من نقاط مهمة، أنه دافع عن معتقداته من جهة، وهذا حق مشروع، ومكفول لكل شخص، وكان ينبغي له أن يفعل ذلك. وأكد في ذات الوقت أنه في ذات المسار الفكري للغرباوي، ولهما  نفس التطلعات، وهذا أيضا سيدلنا على نقاط الالتقاء والافتراق، يدلنا عليها نفس الكتاب.

بيد أن الحقيقة كما ذكرنا في المقال السابق بأن الدكتور صالح الطائي باحث إسلامي، كما هو مثبت في سيرته، وأكده في هذا الكتاب ص13. ولكل باحث متبنياته العقدية ومنهجه العلمي. ولا ريب أن اختلاف المنهج قد يفضي لاختلاف النتائج.. كما أن الأطر الفكرية، وأفق المعرفة، وطبيعة الوعي تفرض محدداتها. واعتقد أن قراءة الباحث الإسلامي، أياً كان،  منحازة بالضرورة، يقتصر فيها على اقتناص مداليل تجدد رؤيته وفهمه، والبحث عن مبررات كافية لمواجهة التحديات.

من هنا يصدق أن وعي الباحث الديني / الفقيه / المفكر وعي مغلق، دائري، يستفزه نقد المقدّس. ويرابط داخل مدارات النص، مهما كانت قصية، إلا أنه لا يخرج عليه، ولا يشك بصدقيته. فالمعرفة الدينية محدودة الخيارات، لا تخضع للتجربة ومحاكمات العقل. وهذه هي قوة المقدّس وقوة سلطته المعرفية، فهو مجموعة تابوهات، تحد من حرية القراءة. وعندما يعلن أي باحث اتجاهه الفكري، يمكننا فروا التعرف على منهجيته، بل وربما نتائج مقارباته، لأنه سيكون محكوما لانتمائه. وهذا لا يعني التشكيك، والكلام حول سعة الأفق ومددات القراءة، التي ستكون خارج محكومة لخلفياته، خاصة النص المقدس. فتارة رهاب القداسة يحول دون التعرف على تاريخ النص وفلسفته وشروط فعليته، مخافة المساس بقدسيته، فَيُؤثر الباحث التمادي بالتبرير على خدش حصانة النص. ويغفل أن النصوص جاءت لمعالجة الواقع، وفعليتها ترتبط بفعلية ظروفه، وليست أحكاماً مطلقة تتعالى على شروطها التاريخية وفلسفة تشريعها. (أنظر: كتاب النص وسؤال الحقيقة لماجد الغرباوي، ص33 – 34). لا يمكنه مغادرة منظومته العقدية فضلاً عن نقدها. وهذا ما أكده صالح الطائي: أن ما طرحه ماجد الغرباوي من أفكار جاء منسجماً مع منهجه ومتبنياته الفكرية والعقدية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيراً، ولاسيما موضوع التأصيل العقلي. أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلاً من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، الإركيولوجيا، الأنثربولويجا، السيسيولوجيا، وعلم النفس، والأهم الهرمنيوطيقيا، (كتاب: الإلهي والبشري والعقل التراثي للدكتور صالح الطائي: ص13. فثمة اختلاف جوهري في المنهج. وهذا يعني أن كل باحث أيديولوجي يبقى سجينا داخلها، إلا إذا تحلل من قيودها وسلطتها. فالباحث الديني محكوم لقدسية النص مثلا، ولعقيدته. وهذا حقه خاصة عنما يبنعي على عقيدته على الدليل والبرهان. وكلامنا عن الفارق بين الباحث المتحرر، بلا قيود، وكل شيء أمامه قابل للنقد والمراجعة دائما، وبين باحث ملتزم بيقينياته. فالمسألة في دائرة المعرفة، وحدودها وآفاقها.

وفي اعتقادي أن ماجد الغرباوي (كما أعرفه شخصياً وعشته فكرياً) يشعر بحرية تامة بلا أي تحيز في قراءته للنص، والنص المقدس خاصة، لأن مفهوم القداسة عنده يختلف في معناها: القداسة تعني عنده، صدور النص عن مصدر متعالٍ محيط بكل شيء، فيشرّع ويهدي وفقا لملاكات ومصالح، يمكن للإنسان إدراكها لتحديد مدى فعلية النص المقدس. وقد ذكر تفاصيل، كيف يمكن تحديد الملاك من خلال مبادئ الجعل، والقضية تخصصية، والتفصيل في محله. فالقداسة عنده ثراء النص وتعاليه، وهذا يختلف عن معنى هدر القداسة (أنظر الحلقة 154 من الحوار المفتوح). وهذا يعني كما أفهم من منهجية الغرباوي في قراءة النص المقدس، حرية النقد والمراجعة، بمعنى فهم كل الظروف المحيطة بصدور النص، مهما كان مقدسا، وسياقاته الفكرية والثقافية والاجتماعية المحيطة به. فيكون الواقع شريكا في فهمه، لذا يختلف فهم النص باختلاف الواقع، وهذا ما أشار له مرات عدة، خلال كتاباته. فهو يشترط في استباط الحكم الشرعي دراسة تاريخ الحكم وفلسفة صدوره، كما في تعريفه لمفهوم الفقه: (هو إدراك فلسفة التشريع في ضوء فهم متجدد لدور الدين والإنسان في الحياة، وتحري مقاصد التشريع، وغايات الشريعة خلال عملية استنباط الحكم الشرعي). (كتاب: الفقيه والعقل التراثي: ص79) لتحديد مدى فعلية الحكم الشرعي، حينما يفقد الموضوع صدقيته أو بعض شروطه. لأنه يؤمن بقاعدة أصولية: أن فعلية الحكم الشرعي ترتهن لفعلية موضوعه، التي تتوقف على تمام شروطه وقيوده، ومع عدم فعليتها، فلا فعلية للحكم الشرعي. وهذا ليس خروجا على قدسية النص، قدر فهمه واستنباط رؤى جديدة. (وهذه القاعدة طالما ارتكز لها الباحث، أنظر على سبيل المثال، المصدر السابق، ص113). مما يعني، مهما كانت قداسة النص لا يمنع من مقاربتها بمناهج علمية حديثة، حينما اعتبر اشترط على الفقيه فهم تاريخ الحكم وفلسفة صدوره، وتاريخ الحكم يتطلب تقصي سياقاته التاريخية.

بينما القداسة في المفهوم المتداول، دوغمائية، وجمود على حرفية النص، تقتصر مهمة الباحث اتجاهها على الشرح والتبرير. فالمنهج النقدي بالنسبة للغرباوي منهج موضوعي يأخذ بالدليل والبرهان، ومناقشة الأفكار بعيداً عن قدسيتها، وطالما صرح الغرباوي أن العقل فوق النص. فكيف نفهم كلام صالح الطائي في الصفحة 13 من الكتاب: (وهذا لا يعني أننا نجتهد قبالة النص المقدس بقدر كوننا نريد لهذا النص أن يحافظ على قدسيته بعد أن تعرض للتشويش بسبب الآراء الجامدة والفهم الأسطوري التراثي)؟. شخصيا ومن خلال متابعتي لكتابات الغرباوي، لا يتفق مع هذا الكلام، كليا، رغم اتفاقهما حول قدسية النص، لكن كما تقدم يختلفان حول مفهوم القدسية، والغرباوي يذهب بعيدا، عندما يضع العقل فوق النص، ويظهر بنتائج مختلفة وفقا لما حدده من شروط استنباط الأحكام الشرعية، والتي بناها وفقا لمنطق الخلافة في مقابل منطق العبودية، والذي فصله كثيرا في كتاب الفقيه والعقل التراثي.

والنتيجة هل الغرباوي يجتهد قبال النص، الذي نفاه عنه الطائي؟. الاجابة ليست جاهزة، وصريحة، وتتطلب فهم منهج النقد واستنطاق الحقيقة عند الغرباوي، وقراءة كتاب الفقيه والعقل التراقي بإمعان وتدبر. فالنص عندما يفقد الموضوع فعليته، بناء على رأيه، ستنتفي فعلية الحكم الشرعي. فكم من حكم شرعي سيفقد فعليته وفقا لرأي الغرباوي؟ وهل هذا اجتهاد مقابل النص أم لا؟. الباحث أكد على نقطة مهمة. ان عدم فعلية الحكم لا تعني إلغاءه. وهي نقطة مهمة في نظري، لنفهم نحن أمام اجتهاد جديد، ورؤى عميقة تتطلب التاني والتأمل في قراءتها. فأتحفظ على التعميم في كلام الاستاذ صالح الطائي ليشمل رؤية الغرباوي حول قدسية النص للأسباب المتقدمة. لكن أيضا يجب التأكيد على موقفهما الموحد من النص المقدس.

لقد استطاع الغرباوي  التحرر من قبلياته وأحكامه المسبقة والتحرر من كل سلطة فوقية تتحكم بتفكيره، وهو يقارب النص الديني، وهو واضح للجميع، وهذا سر ما توصل له من نتائج خاصة على صعيد العقيدة، يشهد لذلك كتابه: "مدارات عقائدية ساخنة"، وكتابه "الفقيه والعقل التراثي"، وكتابه "مضمرات العقل الفقهي". حيث قارب قضايا تعد محرمة، واخترق مقولات على درجة عالية من القداسة، ليكشف لنا عن بشرية مجموعة مقدسات عقدية. بينما لا يمكن التحرر من النسق العقدي المتداول، ولا يمكن للباحث الإسلامي أن يخرج بذات النتائج. فالاختلاف في المنهج وزاوية النظر، وهذا يضع مسافة بين الرؤيتين.

المسألة ليست صوابا وخطأ بقدر ما هو اختلاف في المنهج والمتبنيات العقدية والفكرية. وعندما ينقد صالح الطائي آراء  ماجد الغرباوي وفقا لمتبنياته، فهو يعرض وجهة نظر مقابل وجهة نظر أخرى، ولا يصدق حينئذ مفهوم النقد. وهو حق مكفول له. النقد أن يشترط مناقشة الكاتب وفقا لمتبنياته، واثبات خطئها أو خطأ الاستنتاجات وفقها. وأما استعراض الأفكار فهو مقارنة بين رؤيتين حول موضوع واحد من زاويتين ومنهجين مختلفين. للأسف لم أجد في كتاب صالح الطائي أية مقاربة نقدية بهذه المواصفات؛ فأغلب الكتاب هي دفاعاً عن متبيناته العقدية والفكرية والإيمانية، وهذا حقه، ومقارنته بين فكرين.. إن ما يوجه عقيدة الغرباوي تمثل موقف الباحث المتأمل لمعرفة الحقيقية، بينما صالح الطائي ينبري لا شعورياً للدفاع عن عقيدته ومتبنياته فلا يصدق النقد، ويبقى محكوما لمنهجة وزاوية نظره.

ثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي تتعلق بما ذكره صالح الطائي في كتابه (ص 16) من أنه تابع أحد المواضيع التي نشرها ماجد الغرباوي حول مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي، فوجد أنه يبيح له ولغيره من الباحثين مهمة دراسة وتفكيك ونقد فكره؛ خاصة عندما رأى الغرباوي أن النص الديني ليس بريئاً، واتهمه بالمراوغة، وأنه يخفي أكثر مما يُظهر، ويضمر أكثر. كما استشهد صالح الطائي بمقطع من المقال: "القراءات التأويلية تطورت مستفيدة من التراكم الدلالي للنصوص خلال تفكيكها وفقاً لمنهج التفكيك الذي يحفر داخل طبقات النص ومخاتلاته في رحلة لاستكشاف أنساقه التي تتداخل تارة وتتعارض تارة أخري أو تتكامل وقد تشكل دوائر داخلية فنتنج معرفة جديدة حتي باتت المعرفة التأويلية واستنطاق النصوص أهم حينما تكشف مرجعياتها وطريقة أدائها داخل النص".

وأظن أن هذه حقيقة يعتقد بها الغرباوي، وبالضرورة ستشمل نصوصه.  وهي خاصية النصوص (ونحن خبراء بذلك تماما)؛ لكن ينبغي بيان نقطة مهمة وهي: أن تحيز الباحث لقبلياته تارة تحيز تفرضه قوانين المعرفة البشرية، وقوانين اللغة، وهذا لا جدال حوله، مادام يتوقف عليه ذات الفهم- (أقصد فهم النص)؛ أي نص كان يتوقف على قبليات المتلقي والقارئ. بل لولا هذه القبليات لا يمكن التفاهم بين بني البشر، فهذه قبليات تفرضه ضرورة الفهم.

وأما الانحياز المفروض أو الذي يقلب البحث إلى بحث أيديولوجي ممالئ، فهو الانحياز لقبلياته العقدية والفكرية التي يعتبرها نهائيات لا يطالها النقد والمراجعة؛ وقد ذكر ماجد الغرباوي في حواراته: "ثمة تأويل متاح شريطة أن يكون تأويلاً موضوعياً، غير متحيز، رغم استحالة عدم التحيز، وهي قضية مرتبطة بنظام اللغة، وكيفية إنتاج المعرفة، وكل إنسان يتأثر بقبلياته وثقافته. وما قصدته بالموضوعية هنا هو التأويل الناتج عن تدبّر وتأمل في أعماق النص، وتحري أنساقه وامتداداته ومضمراته، بعيداً عن أي اسقاطات عقدية أو فكرية. فيكون الفرق بين التأويل الموضوعي والأيديولوجي" (أنظر الحوار المفتوح للغرباوي الحلقة: 156).

وأنتقل إلي نقطة أخرى ذكرها صالح الطائي في كتابه (ص 19)، وهي أنه من خلال تفكيكه لمشروع ماجد الغرباوي أكتشف أن هذا المشروع يتحرش بالممنوع الحقيقي والأسطوري بشكل لا يصدق، ويقتحم الخطوط الحمراء دون سابق انذار، ولا تخشي لومة لائم، (خاصة) حينما يحمل سيفين واحد باليمين وآخر بالشمال، فيطلب من أهل السنة أن يعيدوا النظر بنظرية عدالة الصحابة، ويطلب من الشيعة كذلك أن يعيدوا النظر في عصمة الأئمة!

وهنا أقول عندما يمارس "ماجد الغرباوي" النقد على النص، فهو لا يتوقف عند حدود المقدس، بناء على مفهومه الذي تقدم بيانه، ويغور عميقا في أعمقه.. هو يدرس تاريخه ومبررات صدوره، وما يظهر ويخفي، وما هي مضمراته بالتحليل، والتفكيك، والحفر الإركيولوجي، والفهم الهرمنيوطيي.. ولا شك أنه عرف بكثرة استفزازاته للمتلقي؛ خاصة حينما يتوغل في أعماق المقولات العقدية، لاكتشاف بشريتها، مهما كانت مقدسة.. ولديه قناعة تامة ذكرها الغرباوي في موارد عدة من كتاباته وحواراته، بأنه :" لا تجديد ولا اصلاح ما لم نخرج من النسق العقدي المألوف، وذلك من خلال نقد مقولاته، وبيان بشريتها وحقيقتها ومدى قدسيتها".. وهذا أحد أسباب تخلفنا (كما يقول الغرباوي)، فهو يريد "النهوض حضارياً دون المساس بيقينياتنا ومقدساتنا، بينما ثمة تخلف خفي سببته تلك اليقينيات؛ فمثلا عدالة الصحابة عند السنة، وعصمة الائمة عند الشيعة كم أرهقت المسلمين ومازالت"، وحينما ينقد (الغرباوي) مقولاتهما فإنه يكتشف بشريتها، ومن ثم فإنه ( كثيراً ما يقول) بأنه "سيقوم بمراجعة شاملة لكل المقولات والآراء والأفكار والعقائد القائمة على هاتين المقدمتين. فالنقد العقائدي يوفر رؤية جديدة، تستمد شرعيتها من الأدلة والبراهين العقلية" ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

الصفحة 2 من 5