بأقلامهم (حول منجزه)

ـ عندما تعي الذات العربية سر تخلفها ستضع التسامح في سلم أولوياتها.

- الثّقافة والفنّ رسالة إنسانيّة، عليها تقع مسؤوليّة تطوير وعي الفرد والنّهوض به إلى مستوى أرقى  

هو كاتب وباحث عراقي يعيش في أستراليا، مؤسس ورئيس تحرير صحيفة «المثقف» الإلكترونية، ومؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني/ استراليا www.almothaqaf.com.

- شارك في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية.

- مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لعدة سنوات.

- حاز على عدد من الجوائز التقديرية على  أعماله العلمية.

- رئيس تحرير ومؤسسة سلسلة رواد الاصلاح.

- رئيس تحرير مجلة التوحيد (فكرية - ثقافية) الاعداد: 85-107

- عضو هيئة تحرير كتاب التوحيد

- صدر له 14 عملا مطبوعا (تأليفا وتحقيقا وترجمة) إضافة إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث.

- من كتبه «إشكاليات التجديد» و«التسامح ومنابع اللاتسامح... فرص التعايش بين الأديان والثقافات» و«تحديات العنف»

 معه كان لنا هذا الحوار:104 tasamoh2

•عني الكتاب «التسامح ومنابع اللاتسامح...» بإرساء فكرة التسامح، فكيف يتجذر التسامح ثقافيا في ظل صراع الثقافات، ومحاولة تحويل الذات العربية الى الهامش الذي يدور في فلك الآخر؟

ـ عندما تعي الذات العربية سر تخلفها ستضع التسامح في سلم أولوياتها. لأن تعدد الثقافات أمر طبيعي، فتارة تتصارع وأخرى تتحاور أو تتكامل، والثقافة القوية في أنساقها المعرفية تؤثر بالثقافة الضعيفة. بمعنى هناك ثقافة فاعلة قادرة على  التأثير وأخرى منهزمة. مع التأكيد أن الأولى لا تؤثر ما لم تكن للثانية قابلية على التأثر. فمهما تكن الثقافة المقابلة قوية وفاعلة، إلا أنها ستنهزم أمامي عندما أكون متماسكا، قويا وفاعلا. وبالتالي فأسس المشكلة في ضعفنا، واستعدادنا للفرار عند أول منازلة ثقافية. ومن هنا فإن محاولة تحويل الذات العربية إلى الهامش الذي يدور في فلك الآخر (كما جاء في السؤال) نحن أحد أسبابه الرئيسية، وتارة يكون السبب محصورا بنا. وإذا أردنا النهوض وتجاوز محنتنا علينا العودة إلى الذات لنقدها بعنف كي تتحرر من أنساقها المعرفية، وإعادة بنائها بشكل آخر.

المشكلة الأساس في نظري هي الروح الاقصائية الثاوية في لا وعينا، فرغم حاجتنا للتسامح وقبول الآخر، لتعدد ثقافاتنا وخلفياتنا الدينية والمذهبية، إلا أننا مازلنا وسنبقى نتقوقع في حلبة الإيديولوجية، ونتحصن بها ضد الآخر. فالآخر بالنسبة لنا إما أن يشبهني وإلا فهو عدوي وإن لم أصرح، ويكفي دليل على ذلك انطباع كل دين عن دين، وكل مذهب عن آخر، وأيضا الصراعات السياسية المستشرية. فلغة التكفير والتنابذ سلاحنا في التفاهم مع أبنائنا وإخواننا، فكيف بالآخر البعيد؟. لذا تأصل فينا الضعف، وأصبحنا أجزاء متناثرة، تتشدق بعناوين فارغة لم تستطع الصمود في مواجهة التحديات الثقافية. وعليه يجب التخلص من الروح الإقصائية كشرط أساس لنهوضنا، والارتقاء بنظر الفرد العربي من مستوى الايديولوجيا إلى مستوى قيم الإنسان، ومن ثقافة الاقصاء والتنابذ الى  ثقافة التسامح، كي توحدنا الإنسانية، ونكون كتلة متماسكة في بنائها الثقافي والمعرفي. وهذا لا يتحقق ما لم تنتشر قيم التسامح، ويتبنى الجميع ثقافة قبول الآخر، بعيدا عن خصوصياته.

يجب أن يفهم الإنسان العربي أن الخصوصيات وجهات نظر لا تمثل الحقيقة المطلقة، وما دامت وجهات نظر فهي تحتمل الصواب والخطأ. وعليها تقبّل المراجعة والنقد.

إذن أعود للسؤال وأقول أن إرساء قيم التسامح ممكنة في ظل الصراع الثقافي (مع تحفظي على  الإطلاق في السؤال) شريطة أن تعي الذات العربية سر تخلفها، وتنوي التخلص من الروح الإقصائية، حينئذ سيكون التسامح الثقافة الأساس في  عملية إعادة بناء الذات العربية. 

هل ترى أن التسامح نسق ثقافي، وفكري، وعقيدي مغاير وليس مفهوما إيديولوجيا؟

ـ لا شك أن التسامح نسق ثقافي وفكري وعقيدي مغاير لمفهوم الإيديولوجيا. بل يتقاطعان، فالايديولوجيا ترتكز إلى تنزيه الذات، والشعور بالتفوق والفوقية، وامتلاك الحقيقة المطلقة، كما يرتكز الوعي في الايديولوجيا للعواطف والمشاعر والحماس، والدفاع عن العقيدة، وعدم مناقشتها فضلا عن نقدها. كما ان الايديولوجيا تحتكر الحقيقة وتحرم الآخر منها تماما، فلا تتوانى في اضطهاده، وتكفيره كمقدمة لاستباحة دمه. والتاريخ يعج بالصراعات الايديولوجية، وعدد ضحاياه يفوق التصور. لأن الفرد الايديولوجي مؤمن بما يعتقد إلى درجة يحرّم على نفسه قبول أي ملاحظة فضلا عن النقد العنيف، ومستعد للتضحية من أجل ما يحمله من أفكار مؤدلجة. فالحكم في الايديولوجيا ليس للعقل والمراجعة وإنما للعاطفة والمشاعر فقط.

أما التسامح، فيختلف جذريا عن الحس الايديولوجي، ويرتكز أساسا إلى العقل والنقد والمراجعة، ويرفض احتكار الحقيقة المطلقة، ومستعد للمراجعة والنقد، وتغيير وجهة نظره، إذا ثبت العكس بأدلة قاطعة وصريحة، ومستعد للتعايش مع الآخر على أسس إنسانية بعيدا عن الخصوصيات. من هنا صار التسامح نسقا فكريا وعقيديا وثقافيا مختلفا.  

• كيف ترى الثقافة والفنون دون نسق قيمي وأخلاقي؟

ـ الثقافة والفنون تجليات لنسق فكري وعقيدي وثقافي، ودائما تعكس في طياتها شحنة فكرية وثقافية عالية. فهي بالتالي تحمل نسقا قيميا وأخلاقيا ولو بنسب متفاوتة، إلا أننا نختلف في تحديد تلك القيم. هل القيم والأخلاق قضايا مطلقة أم نسبية؟، فمثلا ما نراه محرما قد لا تراه ثقافات أخرى كذلك. ويبقى كل إنسان وما يحمل من خلفية، وهناك من يقول بالفصل بينهما، وآخر لا يطيق ثقافة وفنونا بعيدا عن الأخلاق والقيم سواء الدينية أو الإنسانية والاجتماعية. وهناك من يتحدث عن الجنس أدبا وثقافة وكأنه يلهو بملهاة، لا يهتم لأحد. وآخر يتعفف في منطقه ويكتفي بالإيماء والرموز ان أراد التطرق للجنس.

ويبقى المجتمع هو السلطة التي تقيد منطق الفرد، لولا انهيارها في فضاء الانترنيت. أما بالنسبة لي، فأنا تهمني التداعيات الخطيرة المترتبة على ذلك، لأن الثقافة والفن رسالة، وإن لم تكن مؤدلجة، إلا أنها رسالة إنسانية، عليها تقع مسؤولية تطوير وعي الفرد والنهوض به إلى مستوى أرقى، وما لم تشتمل الرسالة على نسق قيمي وأخلاقي، سوف تفضي بالمجتمع إلى  الانهيار.

وربما تسألين: ولماذا لا تنهار المجتمعات الغربية الحرة؟ أقول المقارنة خطأ، ولكل مجتمع خصائصه ومصادر تماسكه. فمهما تحرر الفرد المسلم والعربي، إلا أن المجتمع بشكل عام ما زال يزخر بالقيم، يتبناها وتعهدها ويحافظ عليها، وهي سر تماسكه. 

• ظهرت ثقافة العنف وفنون العنف في مجتمعات القانون والمؤسسات، وخاصة ثقافة العنف التي تبخس المرأة كقيمة، والتي ترسي التوتر بين طرفي المجتمع، ما هي منابع العنف في المجتمعات المنظمة في رأيك؟

ـ في كتاب تحديات العنف (للكاتب نفسه) الذي صدر مؤخرا هناك فصل يتقصى علاقة الذات الإنسانية بالعنف، هل هي ذاتية أم لا؟ وهناك قلنا أن العنف ثانوي في اعماق النفس البشرية، وينتظر شروط فاعليته. فهو موجود سواء كانت الذات عربية مسلمة أو أجنبية غير مسلمة. كل إنسان يحمل استعدادا كامنا للعنف، متى توفرت شروطه يتحول الى  فعل خارجي. ومناشيء العنف متشابهة في  أغلب مصادرها. فالروح الاستعلائية لدى  الرجل والشعور الذكوري موجود، يلازم الإنسان، لكن يختلف من شخص إلى  آخر كلا حسب ثقافته وخلفيته. فهناك كبح مستمر للعنف في دول القانون فلا يظهر إلا نادرا لكنه غير معدوم تماما. وعندما أقول نادرا   أعني ما أقول باعتبار أنا أعيش في تلك المجتمعات، وأتابع مساراتها. وإنما يسلط عليها الضوء في أعلامنا لأسباب أيديولوجية، كي نثبت للمخاطب درجة انحطاط تلك المجتمعات من الناحية الأخلاقية، فيهول الخبر، لكن عند دراسة النسب المعلنة مقارنة بعدد السكان وطبيعة المحيطات الاجتماعية نجد النسب عادية. ولم يقتصر العنف في تلك الدول على  الرجل، بل المرأة أيضا تمارس العنف في حالات خاصة. ولو لا شدة القانون ورفد الوعي باستمرار ثقافيا وفكريا، ربما كانت الممارسات أكثر شيوعا فيها. لكن مهما كانت النسب لا تقارن بالنسبة في بلداننا العربية والإسلامية للأسف الشديد على الضد من قيمنا الدينية. 

• هل ترى أن الحداثة تحمل بين طياتها خطاب العنف، بما أنها تذيب الذات العربية والإسلامية وتهمشها وتهشمها؟

ـ لا أدري بالضبط إذا كنت الحداثة تحمل بين طياتها خطاب العنف، وحبذا أمثلة أخرى لتوضيح الصورة (إلا إذا رافق دخول الحداثة قوة عسكرية أو مخابراتية)، وأما الاستدلال بأن الحداثة تذيب الذات العربية والإسلامية وتهمشها وتهشمها، فهذا يحتاج إلى دليل. وأنا هنا لست أدافع عن الوافد الغربي، ولا أقوم بحمايته، وإنما أتسلح بالموضوعية للرد على  السؤال، لأني أشرت في الجواب الأول إلى  أن السبب الأساس في هزيمتنا مقابل الوافد الغربي هي القابلية على  التهميش والتهشيم، بسبب الروح المفككة والمتصارعة في داخلنا. ولولا ذلك لكانت لدينا حصون تقاوم الاختراق، إذ من الطبيعي أن تحمل الحداثة في طياتها انساقا ثقافية مغايرة، وقد أثرت بالفعل في جانبيها الإيجابي والسلبي. إلا أننا نحن المسؤولون أولا عن الشق الثاني.

 ***

حاورته: هيام الفرشيشي 

.................................

هذا الحوار خاص بصحيفة الحرية التونسية (عدد: الخميس 8-4-2010)، وقد تمت الموافقة على اعادة نشره في صحيفة المثقف، فيرجى ملاحظة ذلك.

تفكيك خطاب سوء الفهم، هو ما يطمح إليه ماجد الغرباوي في كتابه "التسامح واللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات" الذي صدر أخيرا في بغداد عن معهد الأبحاث والتنمية الحضارية بالإشتراك مع المعارف للمطبوعات الحضارية، وكان قد صدر سابقا في طبعته الاولى عن: مركز دراسات فلسفة الدين / بغداد ضمن سلسلة "ثقافة التسامح" .

يتعمق الكاتب في مفهوم التسامح مقِرّاً بأنه يفترض يداً أعلى من يد لكنه في آن واحد مقيّد بالفهم المعاصر لناحية قبول الآخر كما هو، وعلى ما هو، ومن يكون، وأينما يكون، وعدم الإنقطاع في الحوار من مدخل التكامل وليس من مدخل الهداية التي تفترض أن الواقف على الضفة الثانية هو كافر، وليس إذا اهتدى فله، وإذا لم يخلع عنه الضلال فليس هو على ما لم يخلع، وحسابه هو في العالم الآخر كما جوهر الكتاب، بل يجب أن يستعد لحرب ضروس تسيل فيها النفوس.

يطل الكاتب على مفهوم المواطنة الذي يليق بالوطن الحق حيث الناس كأسنان المشط في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أي هوية أخرى بالوراثة أو بالإختيار، أي على عكس القبيلة مثالاً لا حصراً، التي لا تقيم وزناً للكفاءة وتُقدّم اعتبارات لا سلطان فيها لكي يتصدر المتصدرون، ومنها اللون والعرق أو الدم أو النسب.

يقف الكاتب من حديث "الفرقة الناجية" موقفاً، فهو لا يراه إلا موضوعاً ولا سوية فيه ويؤسس لاحتراب ظالم لا نهائي، وهو الحديث الذي لم يرد لا في خزنة صحيح الإمام البخاري ولا في خزنة صحيح الإمام مسلم، ويتطير منه العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله الذي يقول في معرض التطرق إليه: "لم يثبت عندنا صحة هذا الحديث من جهة السند فلا مجال للإعتماد عليه كما أن دلالته قد تخلق بعض المشكلات المعقدة باعتبار كل فرقة ذاتها بأنها الإسلام وغيرها الكفر أو أنها الهدى فيما الآخرون هم الضلال".

زبدة كتاب "التسامح واللاتسامح" هي نبذ العنف بكل أشكاله، وأخصّه الدموي. والحق أن الكاتب راسخ في ثقافته الإسلامية التسامحية حتى أبعد آفاقها ولا يخشى معها ومع الإسلام الحضاري ومع الله تعالى لومة لائم، ويقارب موضوعه بجلاء من أكثر من ناحية ولا تعوزه كفاءة الإستشهادات من الكتاب الكريم والسنّة النبوية الشريفة والصحابة رضي الله عنهم والتاريخ والوقائع ومنطق العقل المعاصر. إنما تبقى ركائز: هل النزاع هو حول النص المقدس أم في ما يمكن أن توضع اليد عليه؟ هل هو في التفسير والتأويل أم في تضاد المصالح؟ ما هو دور الإحتلال في تأجيج الفتن وانقلاب الحال إلى أسوأ منقلَب؟ وأسئلة أخرى يكون الجهد معها أيضاً في المحل العالي.

 ***

شوقي مسلماني     

تكمن اهمية هذا الحوار رغم مرور اربع سنوات على اجرائه، ان الاستاذة القديرة الاعلامية والاديبة بريهان قمق قد اجرته مع رئيس التحرير، بعد عام على صدور المثقف، وحاورته من خلال منجز صحيفة المثقف، دون سابق معرفة بالمحاور حتى اسمه. لذا أرتأينا اعادة نشره لاهميته .. المثقف

- المثقف: يجب ان يحل التسامح بدلا من التعصب، ويسود منطق نسبية الحقيقة، ويتلاشى منطق احتكارها.

- ان صدور الصحيفة مجردة عن الاسماء ترمز الى تجرد المثقف وتعاليه عن كل خصوصية سوى بعده الانساني.

** يؤثر المثقف ان يكون فكرة لا شخص بعينه، لذا يبدو اللقاء غريبا ..وفي يوم "المثقف" تملكني الفضول، واجتاحتني حمّى الاسئلة .. ربما هو شيء من طبيعتي كمذيعة محاورة معجونة خلاياي بالتساؤلات، فها أنذا أحملها عبر الأبعاد السيبيرية ليتم التعرف على "المثقف" أكثر ونحن نحتفي بكل حميمية بمضي عامه الأول ونخطو معه عامه الثاني ..

المثقف: بالتأكيد، وبدوري اشكر مبادرتك الواعية للتعرف اكثر على صحيفة المثقف، واهلا وسهلا بك.

**كيف جاءت الفكرة ما هو المشهد الذي أصاب المثقف رعشة الحلم لانشاء موقعه.. ؟؟

المثقف: ثمة شعور عميق لدى المثقف (سيما المثقف المهمش) بالحاجة الى فضاء يوفر له هامشا حقيقيا من الحرية. فضاء يعبر فيه عن افكاره وارائه ومعتقداته بعيدا عن مقص الرقيب، ويمارس النقد دون اضطهاد او تعذيب. يصرخ ويفضح لا يطاله سوط السلطة او ملاحقة اجهزتها الامنية. انه حلم حرية التعبير التي عانى بسببها المثقف، دخل السجون، ارتقى المشانق، عاش مشردا، فقيرا، مهمشا، منبوذا. حلم حرية الاعتقاد ومناقشة العقائد، والوقوف ضد التزييف وقتل الانسان باسم الدين والاله ظلما وعدوانا. حلم التحرر من ايديولوجيا السياسة، والفهم المبتسرللدين، الذي قمع الرأي الاخر، واستأثر بالحقيقة، وشوه معالم المختلف ثقافيا ودينيا.

ففكرة الصحيفة –اذن- هي التوفر على فضاء يستوعب احلام المثقف في التحرر من ربقة الاضطهاد والاستبداد والتهميش، كي يكون وفيا لوظيفته، وتنطلق ابداعاته، وتتفتق قابلياته، وتتحرر انساقه الثقافية والفكرية، ويتمكن من خلق راي متميز يمثله ويعكس وجهة نظره، بعيدا عن اكراهات الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي.

ولما اطلت الشبكة العنكبوتية، وصيرت العالم قرية صغيرة، وجد المثقف ظالته في التوفر على فضاء سليم يستوعب احلامه، ويلبي حاجته في التعبير والنقد. ثم ان الانترنيت وفر له فرصة التواصل مع جميع مثقفي العالم. فبينما كان المثقف يعجز عن ايصال صوته الا لمساحة محدودة، وهي البقعة الجغرافية التي يمكن للمطبوعة الورقية وصولها، صار صوته يخترق الحجب والاسوار ويدخل كل زاوية على الارض ما دامت متصلة بالشبكة العالمية. وايضا كان لا يمكنه الاطلاع على الافكار والثقافات سيما المعارضة والتي تحمل وجهة نظر اخرى الا بقدر ما تسمح به الظروف السياسية والاجتماعية، غير انه وجد في الشبكة العنكبوتية امكانيات هائلة، فكان من الطبيعي ان يستثمر هذا التقدم التقني لخدمة اهدافه الثقافية، وينطلق من جديد خارج سلطة الاسوار الحديدية، التي كبلت ابداعه ورؤيته. وبالفعل راح المثقف، في جميع المجالات يقدم جديدا متميزا بفضل ما يتمتع به من هامش حرية كبير، وامكانيات عالية للتوفر على المعلومات والاحصائيات والبيانات من خلال محركات البحث التي تضع كل شيء بين يديك خلال ثوان.

من هنا وجد المثقف فرصته في تأسيس صحيفة ثقافية، تمثل صوته، ورأيه، وتوفر له هامشا كافيا من الحرية، وتحول دون اضطهاده او قمعه، وتجنبه سلبيات المواقع الالكترونية الاخرى. وبالفعل نجحت الفكرة ومر على الصحيفة عاما كاملا بدأت تظهر معالمها واضحة جلية.

فالفكرة ليست آنية وانما وجدت مناخا مناسبا لتتجسد عبره، حيث اتخذ المثقف من الانترنيت موقعا جديدا لمواصلة مسؤولياته التاريخية، وينطلق في مراكمة ابداعاته ونتاجاته الفكرية الادبية، من خلال الانفتاح والتفاعل مع الآخر بجميع اتجاهاته.

كانت الصحف الورقية تضيق بالمثقف وآرائه واحتجاجاته ومعارضته وتطلعاته الواسعة، كما كان المثقف يتذمر من سلطة الرقيب وقيود الرقابة وضوابط النشر التعسفية، وكثرة الخطوط الحمراء،وتزايد المحرمات، فتحرر دفعة واحده عبر فضاء الحرية على الشبكة العنكبوتية، وصار يؤسس لنفسه مواقع ثقافية وفنية وادبية تلبي كل حاجاته وضروراته، وقد تشجع اكثر عندما وجد اعداد المتصفحين والمتابعين في تزايد مضطرد، واتخذ التفاعل مسارا تصاعديا.

**المثقف عيناه ذكيتان ومكسورتان ايضا، تنمان عن رغبة في توليف الروحي والواقعي بهدفية احتضان الانسان في مطلق فوارقه ونتوءات سلبياته، ولكن ورغم محاولاته المضنية كي يكون ضد النسيان والتهميش إلآّ أن مرحلة ما بعد الحداثة التي راحت الى الإطاحة بمفاهيم كثيرة بما في ذلك مفهوم المثقف ..! فما رأي " المثقف " ..؟؟

المثقف: اذا كان المقصود ان ما بعد الحداثة اطاحت بوظيفة المثقف الايديولجي الذي لا هم له سوى شرعنة السلطة السياسية المستبدة وتبرير ممارسات السلطان، وتزوير الوعي، فالكلام صحيح، فلم يعد هناك مكانا لمثقف السلطة، سيما في الانظمة الديمقراطية، التي تعيش التعددية وتمارس النقد علنا. كما ان حرية الرأي عبر شبكة الانترنيت اخترقت كل التابوات والاسوار الحديدية، وباتت تسمى الاشياء بمسمياتها، وتغور في النقد حتى تصل الى عمق بنى الافكار والثقافات، وتمارس التفكيك بحرية، لا تتهيب مقدسا، ولا يصدها تقليد او عرف سياسي او اجتماعي. وبات كل شيء على المكشوف، بل بات مثقف السلطة يبحث عن مأوى في الارض او السماء فلا يجد سوى رشقات النقد تلاحقه في كل مكان. بهذا المعنى ما ذكرتموه صحيح.

واذا كان المقصود اضمحلال وظيفة المثقف بشكل عام، بسبب تطور المجتمع ودخوله مراحل حضارية راقية، فانا ما زلت اعتقد (والواقع يؤكد ذلك) بدور المثقف حتى في المجتمعات الراقية حضاريا فضلا عن مجتمعاتنا التي ستموت بموت المثقف، او عزلته. (ولا شك ان المقصود هنا المعنى العام للمثقف، فيشمل كل نخب المجتمع). بل لا يمكن ابدا ان تنتهي وظيفة المثقف، ما دام هناك ثقافة ووعي، وما دام هناك ابداع وتطور.

فوظيفة المثقف في النقد والتقويم لا تنتهي في المجتمعات الديمقراطية، بل ان قوام هذه المجتمعات هو النقد والشفافية والحديث علنا عن الاشياء مهما كان درجة خطورتها، وهي وظيفة المثقف بامتياز، لانه الاكثر وعيا، والاقدر على التضحية. واما في مجتمعاتنا التي ما زالت تعاني سلطة المستبد وتعيش احادية الفكرة والرأى، فما زال امام المثقف شوط طويل من اجل تعميق الوعي وتحريره من سطوة الايديولوجيا والخوف والانكفاء او الانزواء. والتصدي لكل ممارسات التزوير والخديعة تحت أي عنوان او لافتة، سياسية او دينية.

و ما زال للنخبة المثقفة دور الريادة، وما زالت قادرة على التغيير، وتوجيه المجتمع وتطويره، سيما اذا سمحت لها الظروف وتوفرت على قدر مريح من الاجواء الحرة، من هنا نحن نعول على المثقف وامكانياته.سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار جدوى التحولات الديمقراطية المنشودة فيالمنطقة، ورفض الشعوب لمنطق المؤامرة والانقلاب العسكري، والتحالفات العسكرية. وبالتالي ما زال للمثقف دور كبير في مستقبل التحولات السياسية والاجتماعية.

**الحزن منثور على الجغرافية العربية دون استثناء، بالإضافة إلى شرخ حاد بين المختلف أو المؤتلف بين الهويّات والمذاهب والأطياف والإثنيّات والأعراق ...هل يشكل ذلك عبئا على موقف "المثقف" أم العكس هو مصدر تنوع وإثراء ..؟؟

المثقف: احد اهدافنا هو ان تكون الصحيفة مساحة تلتقي عليها كل الاتجاهات الفكرية والثقافي والسياسي، باعتبار ان التنوع مصدر إثراء وتراكم وتثاقف يفتقر اليه الجميع. فنحن ضد المنحى الايديولجي الذي يفرض لونا واحدا من الثقافة، ويصادر الرأي الاخر. نحن جعلنا الاعتراف بالرأي الاخر احد مبادئ الصحيفة الاساس، اذا نعتقد ان الرأي لا يكتمل ويكتشف حقيقته الا بجوار الرأي الاخر. وان العلاقة بين الانا والاخر، علاقة تثاقف وتكامل، وليست علاقة عداء واحتراب، وهذا هو المنطق القرآني ايضا، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم). فوجود الانسان يتوقف على الاختلاف وتعدد وجهات النظر، ولولا هذا الاختلاف لكان مسار البشرية شيئا اخر.

ان مبدأ رفض الاخر، ينتهي بنا – كما هو الحال – الى تفشي ثقافة الموت والعنف والاحتراب، بعد كراهية الاخر، وتكفيره. وعليه يجب التحرر من سطوة قبلياتنا من اجل الحفاظ على حقوق الانسان، ويجب ان يحل التسامح بدلا من التعصب، ويجب ان تتحول نقاط الخلاف الى مادة للحوار، ويسود منطق نسبية الحقيقة، ويتلاشى منطق احتكارها، الذي كلفنا باهظا على يد الاتجاهات الايديولجية، التي سمحت لنفسها بقتل الاخر بعد اقصائه وتهميشه وفق تضخم الذات وشعورها بالفوقية والتعالي على اساس استئثارها بالحقيقة دون غيرها. فكل ما عداها خطأ مطلق، منحرف، زنديق، كافر، يجب قتله وتصفيته، وللاسف وفق هذه المعادلة تسير العلاقة بين الاطراف المتناحرة، رغم انها من دين واحد، وربما مذهب واحد، او قومية واحدة، او هدف واحد.

نحن نؤسس في الصحيفة لمنطق نسبية الوصول الى الحقيقة، فلكل فهمه ورؤيته، ومن حقه التعبير عنها ونقد الاخر على اساسها، وفق منطق عقلي لا يجانب الاطار العام للاخلاق والقيم البشرية. وندعو لتحييد الخصوصية، وعدم صيرورتها سلطة فوقية تعيق التعايش بين الثقافات والاديان، ونؤكد الاساس الانساني في التعامل، مع احترام خصوصية الفرد، مادام يحترم الاخر ولا يصادر حقه في حرية التعبير والنقد.

**العرب ما زالوا على علاقة سيئة بالكمبيوتر والتكنولوجيا، ويرى البعض انها تتعارض مع الكتابة الإبداعية وما زال هنالك من ينظر اليها شزرا وتعاليا،وثمة ضعف شديد بالثقافة المعلوماتية حتى لدى المتعاملين معها، فهل كل هذا يسبب " للمثقف" أي اشكالية أو ارباك ..؟؟

المثقف: ابدا، لقد بات التعامل الصحيح مع الكامبيوتر والتكنلوجيا معلما حضاريا، سيما ان الشبكة العالمية وفرت امكانيات للكاتب والباحث لا تتوفر عبر أي آلية اخرى. والتراكم المعلوماتي يفوق التصور، ومن يجيد التعامل مع الانترنيت والحاسوب يمكنه الاستفادة منها في تطوير ثقافته وفكره وبحثه العلمي، كما يمكنه الاستفادة منها لتسويق افكاره ورؤاه ونظرياته، بالاضافة الى انه اسهل الطرق للتواصل مع العالم اجمع. فمثلا بات من السهل جدا متابعة بحوث الجامعات ومواصلة الدراسة والبحث عبر الانترنيت، كما بات من السهل الاشتراك بالندوات والسمينارات والقاء المحاضرات ومناقشتها عبر الشبكة العنكبوتية. وفي كل هذه مجال واسع للتطور، فكيف تتعارض مع الابداع، وكيف ينظر لها شزرا او تعاليا..!!

اعتقد ان سبب النظرة المتعالية هو الجهل كما تفضلتي والضعف الشديد بالثقافة المعلوماتية، وهو ديدننا مع كل وافد علمي، ومن كل جديد، (ولنا مع الاسف مواقف مخجلة من دخول المطبعة، والمذياع، ثم التلفزيون .. الى اخره). لكن ستتغير نظرة الناس اليه بشكل تدريجي سيما اذا اعتمدت مدارسنا وطلابنا عليه وارتكزت الى المناهج الرقمية، كما هو الحال في الدولة المتقدمة، التي تعتمد الانترنيت احد وسائل العملية المدرسية، فالطالب في الدول المتقدمة يعتمد في بحثه اليومي او الاسبوعي على الانترنيت بنسبة 90%. لكن للاسف ما زالت المشكلة في حواضرنا العلمية في مناهج البحث وطرق التدريس، واسلوب التوفر على معرفة صحيحة وعملية ونافعة.

واما عن النقطة لاخيرة، فان هذه الحالة لا تشكل لنا أي ارباك في الصحيفة، وبامكانك مطالعة التقييمات، التي كانت احدها لك انت، وانظري لمصداقية الصحيفة في الوسط الثقافي على لسان الاخوة الاساتذة الكتاب والباحثين، ممن ادلوا بشهاداتهم مشكورين، بحيادية وموضوعية عالية، لسبب واحد، هو ان علاقتهم كانت مباشرة بالصحيفة، منقطعة عن القائمين عليها.

ثم ان حالة الجفاء بالانترنيت ستتلاشى بمرور الايام ما دام هناك انفتاح على العلم والتطور التكنلوجي. فكم من نظام استبدادي دكتاتوري مقيت حرم شعبه من نعمة الانترنيت والفضائيات، لكنه في آخر المطاف فشل فشلا ذريعا، واستطاع الناس التحايل بفضل الامكانيات العالية، على مقررات الامن وسلطة الدولة واخترقوا الاسوار ووصلوا على الشبكة العالمية واطلعوا على ثقافات اخرى، واراء اخرى، وشاركوا اخوانهم في العالم بما جادت به امكانياتهم المطوقة.

**كثيرا ما لاحظنا ان بعض المواقع الثقافية الجادة الملتزمة الرائعة تعرضت الى هاكرز وتخريبات للملفات.. فما خطواتكم لحماية الموقع وتوفير الأمان للمتصفح وللمواد الإرشيفية التي باتت مرجعا عبر محركات البحث ..؟؟

المثقف: نحن على اتصال مستمر مع المهندس المختص ومع الشركة المضيفة لتأمين اكبر قدر ممكن من الحماية للصحيفة وملفاتها، لكن تارة يكون التخريب خارقا لا تنفع معه الاجراءات الاحترازية، ومن الله نستمد الامن، فهذه مشكلة ما زالت تؤرق العالم اجمع. بل كلفت البنوك العالمية مليارات الدولارات المسروقة بسبب الاختراق.

ثم لدينا بعض الاجراءات التقنية اعتقد ستساعدنا على الاحتفاظ بقدر كبير من الارشيف فيما لو تعرضت الصحيفة لعمل تخريبي.

لا اكتمك سرا، عندما علمت ان بعض الدول ارعبتها صحيفة المثقف وحجبت الموقع عن مثقفيها انتابني خوف شديد، وبت قلقا جدا، فربما تسول لهم انفسهم عملا تخريبيا، وللاسف راح بعض الكتاب يستغل هامش الحرية الكبيرة ليستفز بعض الحكومات، دون نقدها بشكل موضوعي علمي. نحن مع النقد الموضوعي العلمي المنطقي، ونعتبره حقا طبيعيا لنا ولكل الناس، غير ان بعض الكتاب لا يفهم منطق التعامل الا وفق رؤيته ومنهجه، التي غالبا ما تتعارض مع ضوابط النشر عندنا، بل بعضها يخرج عن اطر الاخلاق العامة، ونحن لا نسمح بتراشق الالفاظ، واستخدم الكلمات النابية والتجريحية، واذا حصل شيء فانا اعتذر للجميع عن ذلك، واؤكد انه لا يمثلنا، ولا يمثل مواقفنا، وانما هو استغلال لهامش الحرية، ساعده عليه ضغط العمل وتواضع الامكانيات.

** بالمناسبة .. شعار الموقع قلم وورقة، هل في ذلك رؤية ما أم انها رحلة البدء وثمة مساحة للتغيير واتجديد ..؟؟

المثقف: لا شك نحن نطمح دائما لتحديث الموقع وشعاره، نواصل التجديد ولا نتوقف عند نمطية خانقة. اما بالنسبة للشعار الحالي فاعتقد (وهذه وجهة نظر) انه يعبر عن اشياء تمت الى المثقف بصلة وثيقة، فالقلم والكتابة احدى ادواته التي لا يستطيع الانفكاك عنها، لكنها ثقافة غير منعزلة عن الواقع (وهذا ما نؤمن به) لذا كانت هناك مساحة شاسعة الى جانب القلم تمثل الواقع بامتداده العميق، ثم ان اللون الازرق يرمز الى صفاء الانسان عبر صفاء الماء والسماء، كما انه يرمز الى زرقة اثار التعذيب، وما يتحمله المثقف في مساره التغييري، فالتعذيب داخل سجون الطغاة والمستبدين يترك بقعا زرقا. ودائما هناك املا في الوصول الى الهدف من خلال البياض المتناثر على اللوحة، وتبدو اللوحة متموجة ومتدرجة لترمز الى صعوبات الحياة، وتحث المثقف على العمل ومواصلة الدرب، وليس الانزواء والتعالي، والاكتفاء بالخطابة والكتابة واللقاء الشعر. وايضا فان التغير مراحل ودرجات ولا يتحقق دفعة واحدة.

وربما لدى الاخوة والاصدقاء وجهة نظر اخرى او تصميم اكثر تعبير يتناسب مع مهمة ومصداقية المثقف، نحن نرحب بكل مقترح، ونطرحه للمدارسة والنقاش.

**هل هنالك رصد لطبيعة ونوعية واتجاهات المتصفحين والمتفاعلين مع الموقع ..؟؟

المثقف: اعتقد ان طبيعة المقالات والنصوص المنشورة تفرض لونا معينا من المتصفحين، فهي لا تستهوي سوى المثقف الباحث عن الحقيقة، والمتابع للمعلومة، ولديه توق للتطور، وايضا من يعشق الكلمة الصادقة، التي تستنبت قيم الانسان، والتحرر، وتنزع عن قلوبنا الاغلال والاحقاد. وهذا واضح من خلال التعليقات فانها تشي بصنف خاص من المتصفحين، فنحن ربحنا النوعية على حساب الكمية. فمثلا تارة الاحظ بعض المتصفحين يمكثون في مطالعة المواد المنشورة عدة ساعات، وهذا بحد ذاته شيء عظيم لا يقدر عليه سوى المثقف الذي أدمن المطالعة، ويهمه الوصول الى المعرفة. او ان بعض المعلقين يؤكد في نقده وتعلقه، انه ينتقد من باب الحرص على الصحيفة ومستواها الادبي والثقافي، وهذا شيء مفرح، ان تجد من القراء من يحرص على الصحيفة، وليس هناك تبرير سوى ان الصحيفة باتت تمثل طموح المثقف ولو بمستوى محدود نأمل في تطوره ان شاءالله تعالى.

لكن قبل ذلك علينا ان نحدد مستوى الصحيفة وتجاهها من خلال ما يكتب فيها، فان المستويات الراقية للباحثين والكتاب والشعراء والادباء اعطى للصحيفة رونقا وطعما خاصا وجعلها تتميز بنوعية الطرح العلمي والثقافي والادبي. ولا شك ان عددا كبيرا من الكتاب والادباء لهم حضورهم في مجال تخصصهم، وهذا بلا شك ينعكس على عمل الصحيفة ومستواها.

واجد من خلال الرسائل ان الصحيفة تطالع حتى من قبل مسؤولين على مستوى وزراء او مستشارين كبار في بعض الدولة، فيبعثون برسائل تهنئة وتشجيع، وانا بدوري اشكر جميع الكتاب ممن ساهموا حقا في رفع مستوى الصحيفة، واشكر جميع المتصفحين ممن احتضن الصحيفة وشجع على استمراراها.

** مَن هو " المثقف".؟؟ ومن هو المنشغل بالموقع متحملا مسؤولياته ...؟؟

المثقف: لا شك ان المنشغل بالموقع ومن يتحمل مسؤوليته قد امن بالفكرة، فكان مستعدا للتضحية، والصبر، وفاء لقناعاته وتطلعاته.

لا تحسبين سيدتي ان العمل هين، او سهل، انما جهد متواصل، وعلى مدار اليوم، وتواصل حميم مع الكتاب، ومتابعة يومية لكل شيء، اضافة الى نفقات العمل الباهضة. بل ان الصحيفة كانت على حساب مشاريعنا الكتابية الاخرى، للاسف الشديد، غير ان ثمار عملنا عوضنا الكثير، فقد ربحنا القارئ النبه، والكاتب الواعي، وتمكن المثقفون من بلورة تجاه ثقافي متميز من خلال الصحيفة. وصاروا يشعرون انها احدى منابرهم الثقافية والادبية.

تعلمين نحن لم نفرض أي ضابطة على الراي، وانما هناك ضوابط تحريرية، وتركنا مسار النشر يحدد تجاه الصحيفة، والحمد لله رب العالمين، اجد ان الصحيفة خطت لنفسها عبر كتابها وباحثينها وادبائها وفنانيها مسارا ثقافيا، وهو ما نطمح له من خلال هذا المشروع.

كم هو مفرح ان يتعامل المثقف مع الافكار مباشرة، بعيدا عن الاسماء وخلفياتتها؟ ويبقى متوازنا ضمن سياق البحث والتقرير. لذا رغم اصرار الاخوان على تثبيت الاسماء لكن ما زلت اعتقد ان التجربة ناجحة، ويبقى المسؤول الاول عن الصحيفة هو المثقف، مجردا عن أي خصوصية، وان احب الامتياز هو المثقف نفسه، فهو المسؤول وهو الكاتب وهو القارئ.

ان صدور الصحيفة مجردة عن الاسماء ترمز الى تجرد المثقف وتعاليه عن كل خصوصية سوى بعده الانساني، كما انها ترمز ايضا الى ان المثقف قد نزل عن عليائه، وصار يتنازل عن كل شيء من اجل الحقيقة، وتخلص من تضخم الذات، وبات يفكر بواقعية، ويلامس قضايا مجتمعه وشعبه، ويشاركهم آلامهم وافراحهم.

** قد أشاطرك ببعض الأفكار لكنني أظل أتساءل حول جوهر انكار الذات في سياق إبراز الفكر، وهذا يأخذني الى قلق الإنسان فيما هو وهم أو حقيقي، هي إشكالية معرفية جدلية في الفلسفة الوجودية والتصوفية.. ويبقى الهاجس أين الحقيقي في الذات، الذي يعبرنا بغية تطور الوعي الكوني أهو عبر الفكر أم هيكلنا وصورتنا من لحم وعظم ودم ..!! وبالتالي يصير السؤال كيف نزيل الوهم كي نتعاطى عبر الحقيقي فينا، ولكن يبدو ان الانسان يبقى ملتصقا الى حد كبير بهذا الهيكل وان تجاوزه ويصر على ذلك .. ولكن ليس بالامر السهل أبدا انكار الذات انحيازا لحيادية المعرفة، ويبقى علينا احترام هذا الاختيار.. ولكن ماذا يقول" المثقف" بعد مضي عام .. وأين وما هي أغصان الأمنيات للمرحلة المقبلة .. ؟؟

المثقف: هذا العام هو عام التأسيس، لذا لم نأسف اذا لم نستطع تحقيق كل ما كنا نصبو اليه، من برامج وخطط، وما زال الامل معقودا على همم المثقفين لمواصلة العمل مستقبلا لاكمال ما تبقى من برامج وخطط، مع الاقدام ان شاء الله تعالى على برامج جديدة، في تبني مواقف المثقفين والتعريف بهم وبنتاجاتهم و اعمالهم، والدفاع عن مواقفهم ازاء الاحداث والتحديات. واما مسألة الاسماء فالامر فيها سهل، وربما نعلن عنها او بعضها مستقبلا.

*قطعا الثقافة الحقيقية ليست عملا وثوقيا يقتنع ويجمد عند مرحلة، انها ابداع وعمل غير متناه ودائما وجوده، يتحدد فيه بل بما هو انتقال لولادة خصبة مفتوحة، أشكر البروق التي أضاءت عتمة أسئلتي .. وكل الود والورد للمثثقف ولأسرته الكبيرة في العالم السيبري ...

المثقف: بدوري اشكر الشاعرة والكاتبة المتألقة بريهان قمق التي سجل انضمامها الى الصحيفة اضافة حقيقة، فلها منا كل الود و الاخلاص..

 ***

حاورته: بريهان قمق

شاعرة وكاتبة واعلامية

تمور - 2007م

.............................

السؤال حول شعار الصحيفة، اشارة الى اللوحة الرئيسية القديمة.

- كنا نغرّد خارج «السّرب».. فطالتنا فتاوى التكفير

في الجزء الثاني والأخير من الحوار مع الباحث العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي، يطال الحديث ظواهر التطرف والتسامح وتراث الكراهية، ويطرح الغرباوي تقييمه لبعض نماذج الإسلاميين في الغرب وإيران، ويقول أن ‘’العراقيين الموجودين في إيران كانوا أكثر التصاقا بالواقع الشرق أوسطي، فهم أقرب لإدراك حجم الهوة بين القيم الغربية والأبعاد الثقافية التي نعيشها’’.

ويضيف بأنهم ‘’عاشوا الاستبدادين الديني والسياسي، واكتووا بناريهما، وخبروا الفكر الديني، والتنظير المثالي البعيد عن الواقع’’.

مضيفاً بأنهم ‘’شاهدوا عن قرب تلوّن المسارات وفق إرادة رجل الدين. وكيف يُعاد تشكيل الواقع ضمن منظومة قيم معينة’’.

أما الإسلاميون العراقيون في الغرب فيقول بأنهم ‘’يعيشون ضمن شرائح اجتماعية بعضها مولود هناك، وقد تربّى على القيم’’ نفسها معتقدا أن ‘’مشاروعاتهم ناجحة في حدود المكان الذي يعيشون فيه’’ ولكنه يستدرك ويقول ‘’أشك بنجاح تجاربهم عندما يراد تطبيقها ضمن شروط ثقافية شرق أوسطية، لأن الواقع غير الأحلام الوردية الحالمة’’. وفيما يلي نص الحوار:

* ظاهرة اللاتسامح والتطرف والغلو الديني من الأمور التي تُطرح في مقام تشويه الإسلام وتقديم قراءات مبتسرة لمفاهيمه. على أي نحو تموضع ظواهر التطرف والغلو ومشابهاتها في العصر الحديث؟

- هناك أكثر من منشأ لظاهرة اللاتسامح والتطرف الديني، أهمها راهناً، كما في السؤال، الفتاوى التكفيرية التي تصدر من هذا الطرف وذاك، ففقهاء التطرف لا يتورّعون عن إصدار الفتاوى الواحدة تلوى الأخرى، وكلها تبعث على العنف واللاتسامح، وتدعو إلى تكفير الطرف الآخر، وجواز قتله وتحطيمه. وقد ساعد على انتشار هذه الفتاوى سعة وانتشار وسائل الإعلام الحديث من جهة، وتدني مستوى وعي الناس، الذي عمل رجل الدين على تحجيمه وشلّ فاعليته، حتى بات الفرد لا يعي من الدنيا سوى ما يقوله رجل الدين.

تراث الكراهية

كذلك هناك التراث الروائي المثقل بالعنف وتوليد الكراهية والحقد، وتلك النصوص التي تبيح قتل الآخر، وتصفيته فكريا وجسديا، ابتداء من حديث الفرقة الناجية وانتهاء بنصوص وفتاوى الفقهاء السلفيين وغيرهم. كلها ساهمت في تعميق الهوة بين أبناء الدين الواحد، وخلقت حواجز نفسية وشعورية بين أبناء الأمة الواحدة. وكل فرقة أو مذهب صوّر الفرق الأخرى على أنها ضالة، كافرة، تستحق العذاب، ومرتدة عن الإسلام، وَجَب قتلهم وتشريدهم وإبادتهم. فهي نصوص عبأت الأمة بعضها ضد بعض، وما فتئ رجال الدين وكتب التراث تتناقل هذه النصوص وتتباهى بها، لتثبت أحقيتها على الآخرين. تتداولها الأوساط العلمية وتعمل على تنقيحها وتثبيتها تاريخيا، سندا ودلالة، غير عابئة بتداعياتها. للأسف لقد ابتلت الأمة بتراثها، وتحوّلت الكتب الصفراء وباء عليها، لا تستطيع التحرّر من سلطتها، ولا تقدر على تحديها ومخالفتها، على رغم ما فيها من تناقض وتضارب، ورغم كثافة الأبعاد المدمرة.

* هذه دعوة مباشرة لإعادة النظر في التراث؟

- عندما ندعو إلى إعادة النظر بالتراث، والتحقق من تاريخية كلّ نص يرد فيه، ودراسة ظرفه الذي صدر فيه، فبلا شك نحن لا نقصد الدين والنص الديني الذي هو نصوص الذكر الحكيم وما صحّ من السيرة المفسّرة لآيات أحكامه، أو السيرة التي ترسي قيم المحبة والإخاء والصدق والتسامح، أو السيرة التي تدافع بجدٍّ عن قيم الإنسان، وتدعو إلى إحياء روح الإنسانية لدى الجميع.

نموذج الإسلاميين في الغرب

* ما هو تقييمكم للنموذج الإسلامي الذي قدّمه نجاح كاظم وليث كبه وغيرهم من الإسلاميين العراقيين في الغرب خلال العقدين الماضيين (بالمقارنة مع نموذج العراقيين الإسلاميين في إيران مثلا)؟

- لستُ مع استنبات قيم ومفاهيم وأنظمة تنتمي إلى واقع آخر، ما لم تُخترق ويُعاد تكيّفها ضمن الواقع الجديد. فمثلا عندما أدعو إلى المواءمة بين الديمقراطية والإسلام فيجب الأخذ بنظر الاعتبار الواقع الذي وُلدت فيه الديمقراطية، والأجواء الثقافية التي أحاطت بها، وإلا عند استنبات الديمقراطية في أجواء لا تنتمي إلى الثقافة والقيم نفسها، سوف تكون ديمقراطية شوهاء. أنا لستُ ضد الديمقراطية بل من دعاتها، وإنما أرفض طريقة الأخوان في استعارتها، ومحاولة فرضها بالقوة ولمّا نستكمل شروطها الثقافية والاجتماعية والسياسية.

* هل من الممكن الإتيان ببعض الأمثلة التوضيحية في هذا الجانب؟

- أضرب لك مثالا عندما يحتكم الرجل الغربي للانتخابات في فرز المرشح الأصلح - شخص أو حزب -، فإنه يحترم هذا الخيار ويدافع عنه، لان ولاءه للقانون، وليس لحزب أو شخص. ولا يهمه ماذا يكون موقف رجل الدين والكنيسة. لهذا تعمل الديمقراطية ضمن هذه الأجواء وتؤدي دورها. لكن هل ولاء الفرد في مجتمعاتنا للقانون؟ وماذا لو تحرّك رجل الدين أو رجل السياسة أو شيخ العشيرة ضد العملية الديمقراطية؟ هل سينحاز الفرد للقانون ويدافع عن الديمقراطية، أم ينصاع لفتوى الجهاد ويعلن براءته من الحكومة والقائمين عليها؟ بل لا يتردد في إشهار سيفه، والتضحية في سبيل الله والدين لإجهاض المشروع العلماني الكافر؟

أمة مغلوبة

أقدّر جهود العاملين المخلصين في الغرب، وأثمّن انجازاتهم، إلا أن تلك النماذج للأسف تواجه صعوبات شتى في عالمنا الشرق أوسطي. نحن أمة والحمد لله متدينة!، ملتزمة لا تخالف علماءها!، وتستجيب لرجل الدين فيها!، والديمقراطية التي يدعون لها تفترض شروطا لا تتوفر عندنا، ونحن بحاجة إلى ديمقراطية مفرغة من كل حمولتها الإيجابية، لتبقى إطارا نتحكم فيه متى شئنا! نحن نريد ديمقراطية متى ما كانت معنا، ونرفضها حينما تتصادم مع مصالحنا الحزبية والفئوية! نحن أمة لا يحترمنا حكامنا، ولا يخشون تمردنا، أمة مغلوب على أمرها، متى اعترضت توجّهت ضدها فوهات البنادق، أُبيدت عن بكرة أبيها إلى جهنم وبئس المصير! بينما تلك أمة حية، محترمة، يخشاها الحاكم، ويحسب لها ألف حساب، ويسعى لإرضائها بكل الوسائل والطرق.

التلقي الأسترالي للإسلام

* بالمناسبة، أنتم تقطنون حاليا في بلدٍ (أستراليا) ينتمي إلى الإطار الغربي من الناحية الحضارية، فكيف تقارنون بين التلقي الغربي للإسلام كما هو الحال في أوربا وأميركا وبين التلقي الأسترالي له، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر أيلول وما تلاها من حوادث تفجيرية لبِس أصحابها العنوان الإسلامي؟

- الفرد الأسترالي غربي في ثقافته وسلوكه، وإن احتفظ ببعض الخصوصيات، فهو لا يختلف عن أي مواطن أميركي أو أوربي في نظرته للإرهاب، أو للإسلام الذي ينتمي له الإرهابيون، ممن تشبعوا بثقافة الموت، وكراهية الحياة، والحقد على الآخر، فشوّهوا سمعة الدين، وأطاحوا بقيمه الإنسانية الرفيعة. لقد دمّر هؤلاء كل الجهود الخيرة التي قام بها المسلمون في الغرب وأستراليا، تلك الجهود التي عكست وجها ناصعا نقيا عن الإسلام. ثم جاء هؤلاء ليقيموا ‘’دولة إسلامية’’ في سيدني، فبدأوا بمحاسبة النساء، كخطوة أولى على طريق إقامة الدولة المنتظرة! وعجبي أن هؤلاء من أي طينة خلقوا؟ والى أي ثقافة ينتمون؟ فكانت تداعيات تصرفاتهم أن خلقت فجوة كبيرة بين المسلمين وغيرها. وتبددت كل الجهود الخيرة، وأصبح المسلم مشبوها متهما أينما ولى وجهه.

تحوّلات جيل

* كيف ترصد التحولات الفكرية التي مرّرتم بها مع نخبة من جيلكم العراقي، خاصة صديقكم عبدالجبار الرفاعي، حيث كنتم قريبين من الفهم الأيديولوجي الديني أثناء عملكم الفكري والتحريري في منشورات إيرانية، فيما يبدو لاحقا أنكم - والرفاعي في مشروعه الجديد وآخرين - بدأتم تمارسون فعلاً نقداً من الداخل الديني)؟

- امتاز بعض الأخوة العراقيين في المهجر الإيراني بحس نقدي، قاومَ كل ألوان الضغط الأيديولوجي، ولم يفتّ في عضده الوعد والوعيد الذي يقدّمه الخطاب الديني. فلم يتحرّج من مقاربة الممنوع أو التحرّش بالمقدس، بل راح يغور بعيدا في آفاق قصيّة، سبّبت له تراكمات نقدية اجتاحت كل المنظومة القيمية بل والفكرية. وهذا لا يعني التنصل أو البراءة من كل شيء، وإنما خضع كل شيء لميزان العقل والتعقل، فكنا حالة نشاز، ضمن الأجواء الثقافية التي اعتادت التسليم والتلقي والانفعال مع حركات عيون وشفاه الخطيب المنبري. فكنا نتحدث همسا ونتناجى سرا، لا يمكننا البوح بكل قناعاتنا، وكنا نجبر على التماشي مع الوضع الاجتماعي، الذي نرفضه في أكثر تفصيلاته.

اختراق المسموح

لكن الشيء الجميل أن هذا الهم النقدي تحوّل إلى مشروعات ثقافية وفكرية، سواء كانت مستقلة، أو كانت ضمن المؤسسات الإيرانية. وهي نقطة إيجابية يجب أن تُذكر باستمرار للأخوة العراقيين في المهجر الإيراني. وأمامنا مركز دراسات فلسفة الدين، برئاسة الأخ عبدالجبار الرفاعي، الذي أصدر مجلة قضايا إسلامية معاصرة، وإلى جانبها سلسلة كتب منوعة. كما كانت هناك جهود أخرى فردية أو مؤسساتية، مستقلة أو ضمن المؤسسات الإيرانية، إذ إن المثقفين العراقيين تغلغلوا داخل الوسط الثقافي والإعلامي العربي الإيراني، وقدموا إنجازات مهمة وكبيرة، بل بعض المؤسسات يرجع الفضل فيها إلى الكادر العراقي. كنا في مجلة ‘’التوحيد’’ نسعى لتقديم رؤى نقدية متجاوزين في كثير من الأوقات حدود الهامش المسموح به من حرية الرأي، لكنها كانت مجازفات موفقة، وإنْ كانت محدودة، كما أصدرنا سلسلة رواد الإصلاح، وهي مشروع شخصي، أنفق عليه المتحدّث معك من ماله الخاص، وأشرف على تحريره وإصداره، كما ساهم في كتابة أحد كتبه.

العمل في جو تراجيدي

* ولكن ما هو تقييمك النقدي لجهدك في إيران؟

- التقييم الصحيح لجهود العراقيين لا سيما الدائرة الخاصة يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار الاتجاه العام فكرا وعقيدة وسياسة، فقد كنا نغني خارج السرب، وأنت تعلم مسؤولية منْ يغني خارج السرب في الأجواء المغلقة! تعلم حجم المعاناة عندما تطرح رأيا يخالف الاتجاه العام عقيدة وفكرا. لقد أصدرتُ عددا خاصا عن الشعائر الحسينية في إيران، وفي قم تحديدا، تناولنا فيه الشعائر من زاوية نقدية. لا أحد يُقدّر قيمة هذا العمل إلا منْ عاش تلك الأجواء. إنها أجواء تراجيدية! في كل يوم تظهر لك بدعة جديدة، وتُؤسّس قداسة دينية جديدة، والاتجاه العام نحو اتساع الشعائر وممارسة كل الطقوس وبإشراف رجال الدين، حتى أصبح كل شيء مقدّس لا يمكن التشكيك فيه، ثم تأتي وتصدر عددا كاملا في مجلة إسلامية تنتقد فيها الشعائر الحسينية! هل تعلم ماذا يعني ذلك؟! حدّثني صديق فاضل ويحمل شهادة دكتوراه في تخصّصه، قال: عاتبني فلان عندما شاهدني أمشي معك في أحد شوارع مدينة قم، وقال لي كيف تمشي مع إنسان كافر؟ فقلت (والكلام للأخ الدكتور) معاذ الله، منْ هو الكافر؟ فأجابه: فلان رئيس تحرير مجلة التوحيد، الذي ينتقد الشعائر الحسينية؟ وهل تعلم تداعيات تهمة التكفير؟ إنها هدر الدم بلا تردد. ولا شك أن هذا الإنسان لا ينطلق من فراغ لو لم يستفتِ رجل دين بذلك؟ إننا متدينون، ملتزمون لا نخالف رجل الدين.

* أخيراً، أشكرك شيخ ماجد على هذا الحوار الممتع.

- وأنا أشكر جريدة الوقت على إتاحة هذه الفرصة.

 ***

الوقت - نادر المتروك:

 .............................

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=17171

15/9/2006

- لا تجديد في الفقه بمعزل عن تجديد مقولات العقيدة

في هذا الحوار؛ لربما يقع بعضهم مصدوماً وهو يقرأ آراء الباحث العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي، 

إلا أن الأخير اُشتهر باجتهاداته الجريئة حتى وهو يمضي ما يقارب الربع قرن في الدراسات الاسلامية ويشرف على دوريات شبه رسمية، وقد صدرت له مجموعة مؤلفات وترجمات وتحقيقات، وفي كلّ ذلك يعبّر عن هاجسه الكبير في إصلاح النظام التقليدي للتعليم الديني. في حواره مع ‘’الوقت’’ يقول الغرباوي إن ‘’آفاق التجديد واسعة، وإمكاناته متاحة، لكن الأهم من كلّ ذلك هو المنهج في التجديد’’، فهذه هي نقطة الانطلاق كما يقول، لأن ‘’كلّ مشاريع التجديد للأسف ما زالت تحوم حول البناء الفوقي، وتتعامل مع الأسس كمسلمات وخطوط حمراء’’، ولهذا السبب لم تولد علوم دينية جديدة، لأننا ‘’لا نقارب الأسس المعرفية لها، وننشغل بالبناء الفوقي القائم ربما على أسس وهمية’’، وهذا ما جعل خطوات التجديد في نظر الغرباوي، ورغم أهميتها، ‘’غير كافية ولم تسد حاجاتنا الضرورية’’. وفيما يلي نص الجزء الأول من الحوار معه:

* هل لازال التجديد في السياق الإسلامي يأخذ مدى واسعاً؟ ما هي الآفاق الممكنة لحركة التجديد الإسلامي المعاصر؟

ـ أعتقد أن جميع الآفاق ما زالت مفتوحة أمام التجديد الإسلامي، وثمة مهام كبيرة تنتظر المفكرين والعلماء، وهو أمر متاح وليس مستحيلا أو متعذرا عندما يتوفر الباحث على منهج صحيح، وأدوات علمية ناجحة، لأن التجديد عملية منضبطة، وتحتاج إلى عدة معرفية كافية. التجديد لا يقتصر على حقل دون آخر، لأنه قراءة وفهم في ضوء العصر وحاجاته ومتطلباته، وهو عملية هدم وبناء، لا تقف عند حدود العمارة الفوقية، وإنما تغور في عمق الأسس والمقولات، لمعرفة حقيقة المسلمات والثوابت، التي هي محدّدات العقل الإسلامي وأسس بنائه الفوقي. هذا ما أفهمه عن وظيفة التجديد.

أنا لا أتفق مع المرابطين في دائرة البناء الفوقي، ممنْ تعتريهم هواجس غير طبيعية عند مقاربة الأسس والبنى التحتية. ودليلي هو جمود الواقع وعدم حصول النقلة المتوخاة من عملية التجديد، مما يعني أننا نختلف في تحديد دلالة المفهوم، ومصاديق الموضوع. كان التجديد يتحاشى التحرش بالأسس والبنى التحتية مخافة انهيار العمارة الفكرية والعقدية، لكن من خلال الاستكشافات المعرفية والمناهج العلمية الحديثة تبيّن أن مصداقية التجديد تتوقف على تجديد الأسس أولا وقبل كل شيء. فكثير من المسلمات في شتى العلوم الإسلامية بات من الضروري إعادة النظر في حقيقتها، ومدى صدقيتها، وإلا سيبقى الاشتغال المعرفي قائما وفق تزويرات علمية تعيق حركة التقدّم والتجديد.

تحليل مفهوم ‘’السّيرة’’

* هل يمكن تقريب الفكرة من خلال الأمثلة والتطبيقات العملية؟

ـ أضرب لك مثالا من خلال عينة في منتهى الحساسية كي تكون الفكرة واضحة جدا، ولكي يتحوّل التجديد والإصلاح الديني هماّ عاما وفاعلا. سوف لن أتطرق إلى أمثلة الفقه والأصول والتفسير والحديث وعلم الكلام، وكلها مجالات بحاجة ماسة إلى التجديد المتواصل، وإنما أذهب مباشرة إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها هذه العلوم وغيرها، وهو ‘’السيرة’’ (قول المعصوم، وفعله وتقريره)، سواء كانت سيرة الرسول وفقا للرؤية السنية، أو سيرة الرسول وأهل بيته الكرام كما لدى الشيعة الإمامية.

السيرة كما تعلمون هي إحدى مصادر التشريع الإسلامي، إضافة إلى القرآن والعقل والإجماع، وإن كثيرا من الأحكام والتشريعات تعتمد السيرة مصدرا لتشريعها، بل حصرت بعض الفرق والمذاهب الإسلامية مصادر التشريع بالسيرة، وقالوا بعدم جواز الأخذ بالقرآن منفردا، مع التنكّر للعقل والإجماع، كما يقول الإخباريون، وأهل الحديث أو السلفيون مثلا. فلو أعدنا النظر في مفهوم السيرة، وفقا لرؤية قرآنية أيضا، فلا شك أن كثيرا من الأحكام ستتأثر بالفهم الجديد، وسنخرج بنتائج أكثر رحابة وسعة ورحمة.

إعادة بناء «السّيرة»

* نظراً لحساسية الموضوع؛ هل يمكن إعطاء صورة أكثر تفصيلا حول هذا التطبيق؟

ـ تعلمون أن للسيرة ما للقرآن من حجية، فهي (وفقا للفهم السائد) تخصّص آيات الأحكام وتقيّدها، بل إن خبر الواحد الثقة قادر من الناحية الأصولية على تقييد وتخصيص القرآن، مما يكشف التماثل في الحجية. فلو أعدنا النظر في مفهوم السيرة في ضوء الآيات الكريمة وبعيدا عن الصناعة الأصولية والمنطق الأيديولوجي، فإن وظيفتها ستنحصر في التفسير والبيان والتوضيح والشرح والتفصيل (كما هو منطوق مجموعة من الآيات: ‘’وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون’’). وبالتالي ستفقد السيرة قابليتها على التخصيص والتقييد، و تبقى بعض الآيات على إطلاقاتها، لنتوفر على مساحة أكبر من الحركة في إطار نصوص آيات الأحكام. وأيضا سيخرج من دائرة الحجية عدد كبير من الأحاديث، التي ليس لها علاقة بوظيفة السيرة الجديدة، إذ ليس كل ما صدر عن الرسول كان مرتبطا بالأحكام الشرعية الموجودة في القرآن الكريم، وليس في هذا إنكار لحجية شيء من سيرة النبي (معاذ الله) أو تحجيم لدورها (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وإنما يجب التمييز في سيرته بين أقسام:

أقسام السيرة الأربعة

القسم الأول: ما هو مختص ببيان وتفصيل الأحكام الواردة في الكتاب العزيز، فهي حجة ولا يمكن التخلي عنها. كما بالنسبة إلى العبادات، فبدون السيرة لا يمكننا معرفة عدد الصلوات وكيفيتها مثلا. والقسم الثاني: ما هو شأن شخصي للنبي الكريم، كأن يحب هذا اللون من الطعام، أو يرغب بذلك النوع من اللباس. ولا شك أن هذا القسم ليس أحكاما شرعية، وإنما تصرفات بشرية، (قل إنما أنا بشر مثلكم)، فالمثلية تقتضي أن يكون له (ص) رغبات خاصة وله ذوق مميز. فما يكرهه النبي من طعام أو شراب ليس محرّما أكله، وإنما هو شأن شخصي، فربما هناك طعام يتلذذ به النبي بينما لا نرغبه نحن أو بالعكس. فما لم يرد فيه نص قرآني أو تصريح بالحرمة الشرعية فليس بمحرم (قل لا أجد علي محرم ...).

والقسم الثالث: الأحكام الولائية، وهي مجموعة الأوامر والنواهي التي صدرت عنه بما أنه حاكم وولي أمر المسلمين، وقد صدرت عنه لمقتضيات زمانية وضرورات وقتية، ويضرب الشهيد الصدر مثالا لذلك بالماء والكلأ، فإن أوامره في هذا الخصوص ليست أحكاما شرعية لها ما للقسم الأول من إطلاق زماني وأحوالي. وأخيرا: أن يصدر عنه سلوك بوصفه رمزا للقيم الإنسانية، ومثالا للخلق الربانية الرفيعة. فهي أيضا أحكام أخلاقية غير إلزامية ما لم تكن منصوصة أو مشرّعة. والتأسي مفهوم واسع ذو مصاديق متعددة.

اكتشاف تاريخية النصوص

* ما الذي يمكن استخلاصه مما سبق من نتائج علمية؟

ـ خلاصة هذا الكلام بطوله؛ أن الفهم الثاني للسيرة يجعلها مقتصرة على البيان والشرح والتفصيل، ويسلب عنها صلاحية التقييد أو التخصيص، فضلا عن التشريع لأنه منحصر بالله تعالى، وعلى النبي تقع مسؤولية تبليغه إلى الناس. وهذه فائدة كبيرة جدا في عملية تجديد الفكر الديني، وبهذا ستختلف النتائج، ونتوفر على مطلقات قرآنية، كانت مرتهنة لقيود الفهم الأول للسيرة، ويمكننا تفسير النصوص القرآنية وفقا لقبلياتنا، وحاجات عصرنا، وفي ضوء مقاصد الشريعة وغاياتها. نحن لن نخسر شيئا من السيرة لو اعتمدنا الفهم الثاني لها، غاية الأمر أننا سنتوفر على فرص أكبر لتجديد وفهم قضايانا الفكرية والعقدية. كما أن الفهم الثاني للسيرة يكشف لنا عن تاريخية جملة كبيرة من النصوص، التي كانت وما تزال تحجب عنا النص القرآني.

مثال تطبيقي آخر: العصمة

* هل يمكن التطبيق على مثال مفهومي آخر ومن الداخل العقيدي إذا أمكن؟

ـ نعم، هنا مثال آخر لا يقل أهمية وخطورة من ‘’السيرة’’، أقصد مفهوم ‘’العصمة’’. فالملاحظ أن أساتذة البحث الخارج في الحوزات العلمية يشرعون في تدريس الفقه والأصول ونحن لا نعلم عن رأيهم العقيدي أي شيء، بينما ينقلب الفقه رأسا على عقب لو كان للفقيه رأي آخر عن مفهوم العصمة. لا نعلم ماذا يفهم ذلك الفقيه من العصمة؟ ما هي حدودها؟، كيف استفاد ذلك؟ هل درس عصر تشكـّل فكرة العصمة بشكل نقدي؟ ما هو دور ‘’هشام بن الحكم’’ في بناء الفكر العقيدي، باعتباره من الآباء المؤسسين للفكر العقيدي الشيعي؟ هل فعلا يؤمن بالعصمة كما يطرحها في مجلس الدرس، أم يجامل ويخادع؟! هل العصمة في حدود التبليغ أم أوسع من ذلك؟ وما هو مقدار السعة؟ مطلقة أو مقيدة؟

* من الواضح أن هذه الأسئلة تتصــل مباشــرة بالــرؤيــة العــقدية للفقيه، فما هي النتائج المترتبة عليها؟

ـ أنت تعلم أن نتائج البحوث العلمية تتأثر سلبا وإيجابا بتغير الأجوبة العقدية في هذه المسألة بالذات. فمثلا إذا قلنا بالعصمة المطلقة بالنسبة إلى الأئمة فسنعتبر تعدّد النصوص الصادرة في مسألة واحدة، أمرا داخليا، فنضطر إلى قواعد الجمع العرفي لرفع التعارض إن وجد. بينما إذا قلنا بالعصمة السلوكية، وأن الأئمة يمثلون أعلى درجات الكمال الإنساني وأنهم مستحفظون من قبل النبي، وعندهم علم بالقواعد الكلية التي تحتاج إلى رأي واجتهاد في تطبيقها على جزئياتها، (وهذا لا يتنافي مع صدور السهو بل والخطأ)، فحينئذ سيتعامل الفقيه مع الروايات على أنها جهات متعددة ولا يضطر إلى القواعد الأصولية لرفع التعارض، وربما جاء فقيه آخر واعتبرها آراء اجتهادية يمكن مناقشتها، أو طرحها إذا اكتشف زمنيتها وتاريخيتها. وربما يأتي فقيه ثالث ليعتبر الأئمة امتدادا للنبي، لكن لا تشملهم أيِّ من صفاته الخاصة بما في ذلك العصمة. والنتيجة العامة؛ أن ثمة اختلافات كبيرة إذا أُعيد النظر في القواعد والأسس التي يقوم عليها البناء الفوقي للفكر والفقه الإسلاميين.

تجديد مقولات العقيدة

* يتضح من ذلك أنك لا تتردّد في تحريك التجديد باتجاه العقيدة، أليس كذلك؟

ـ وكيف يحصل تجديدٌ في الفقه ونحن لمّا نجدّد في مقولات العقيدة؟ لم نفكّكها، لم نحاكمها محاكمة نقدية؟! نعم ندافع عنها، ونراكم فوقها، لكن لا يمكن مقاربتها بتجرّد، وبعيدا عن البعد الأيديولوجي والحس الطائفي! وهذا يتنافى مع التجديد. والجو العام الآن باتجاه إضافات أيديولوجية لتضخيم الجانب القدسي في العقيدة، وأنت تعلم أن كل إضافة هي حجر في طريق التجديد والإصلاح، لأن كثيرا من القضايا مرتبطة بمسائل العقيدة ارتباطا عضويا، فمنذ عقدين بدأ التنظير للولاية التكوينية، فمن يجرؤ على مناقشة العصمة التشريعية؟!

العلوم الإسلامية

* ماذا هناك أيضاً من تطبيقات وأمثلة؟

ـ هناك المقولات المشهورة التي على أساسها تصدّى المفكرون المسلمون لتأسيس علوم إسلامية (اقتصاد إسلامي، علم اجتماع إسلامي، نظام سياسي إسلامي..). فهل ناقشنا تلك الأسس بمنهج نقدي صريح؟ هل تصدى الإسلام فعلا لوضع نظام اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، أو أن مهمة الدين شيء آخر، وأن الأنظمة المذكورة ما هي إلا تراكمات بشرية، تحكمها أطر أخلاقية ودينية؟ يجب أن يبدأ التجديد من الأسس التي يقوم عليها الفكر الإسلامي، يجب أن تُنقّح وتُصاغ وفق منطق عقلي، لا يحيل على المجهول، ويجافي منطق التسالم والإجماع والشهرة. وإنما أضرب هذه الأمثلة كي تتضح الفكرة، ونعرف ما هي الأسباب في عدم وجود تجديد حقيقي وفاعل. ونعرف أيضا أن ثمة آفاقا كبيرة ما زالت بكراً ولم تصلها يد التجديد وتنتظر جهودا موضوعية، غير مؤدلجة ولا ملوثة بالحس الطائفي، والتعاطف التاريخي.

زعزعة الثقة بالمسلمات

* يبدو أن جزءاً كبيراً من إعاقة التجديد يأتي مما تسمّيه بالتعاطف التاريخي. أليس كذلك؟

ـ يجب استدعاء التاريخ، لكن هذه المرة لفحص كلّ المقولات والمسلمات، بعد زعزعة الثقة بها، كي نتوفر على بناء فوقي يقوم على أسس معرفية لا تتقاطع مع العقل، وتمتلك أجوبة عقلانية لكل الإشكالات، دون مواربة أو خوف. كفانا إحالات غير مبرّرة، كفانا إحالات على اللامعقول، كفانا انكفاء إلى الخلف وتدحرجٍ إلى الوراء، يجب الاستفادة من معطيات العلوم الحديثة، ويجب تحديث وتجديد علومنا، ويجب علينا التحلي بشجاعة كبيرة لنعلن على رؤوس الأشهاد كلّ خطأ معرفي، حتى وإنْ كان يمسّ صميم العقيدة. ولنعلم أن المعيق الأول في عملية التجديد هو كثرة الثوابت والجزميات والنهائيات التي لا نعلم عن حقيقتها لحد الآن سوى التسالم والشهرة، حتى تحوّلت إلى بؤر حمراء لا يمكن مقاربتها أو التحرّش بها.

مشاريع الإصلاح والتجديد

* وماذا عن مشاريع الإصلاح والتجديد القائمة اليوم في أكثر من اتجاه ومكان؟

ـ المشاريع كثيرة، وقد سجّل بعضها إضافات حقيقة، وراكم رؤى وحلولا جذرية، وإنْ كانت محدودة. علينا ألا ننسى جهود السيد محمد باقر الصدر، الشيخ مرتضى مطهري، علي شريعتي، والشيخ مهدي شمس الدين، السيد محمد حسين فضل الله، محمد مجتهد شبستري، عبد الكريم سروش، مصطفى ملكيان، وغالب الشابندر وآخرين في الخط الشيعي، ويقع على رأسهم مشروع الشيخ عبد الجبار الرفاعي، أي مشروع مركز دراسات فلسفة الدين. كما يجب ألا ننسى جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي بما اشتمل عليه من علماء وأساتذة ومفكرين، إضافة إلى السادة طه عبد الرحمن، أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي، محمد أركون وآخرين. جميعهم يسعى لتجديد الفكر الإسلامي كي يستطيع مواكبة العصر ويلبي حاجات المسلمين. ولسنا بصدد جرد جمع الجهود، لكن علينا التوقف قليلا لنقارن بين منهج المفكر الإيراني عبد الكريم سروش مثلا، الذي يغور في أعماق العقيدة والفكر، ولا يتهيب من مقاربة الممنوع، ثم يخرج لنا بنتائج جديدة، وبين آخرين لا يغادرون العمارة الفوقية للفكر الإسلامي. أو بحوث محمد أركون وهو ينقب في باطن المسلمات والمقولات في ضوء مناهج العلم الحديث، لينتهي إلى نتائج جديدة.

الفهم العصري للدين

* في سياق حديثكم حول نقد الذات ومراجعتها، لا تترددوا في طرح ما تطلقون عليه بـ’’الفهم العصري للدين’’. إلى أي مدى تنطوي هذه المقولة على قيمة أصيلة خالية من إشكال التلفيق أو الدمج التلفيقي؟

ـ عندما أدعو إلى فهم عصري للدين، أنطلق من الفصل بين الدين والفهم أو المعرفة الدينية. الدين هو النصوص المقدسة (القرآن وما صح من السنة المرتبطة به). وأما المعرفة الدينية فهي الفهم البشري للدين. الدين ثابت والمعرفة الدينية متغيرة متأثرة بظروفها الزمانية والمكانية. الدين ملزم لنا، والمعرفة الدينية غير ملزمة لنا. أنا غير ملزم بتقليد السلف الصالح رضوان الله عليهم، هم لهم فهمهم ولنا فهمنا، لهم ظروفهم وحاجاتهم، ولنا ظروفنا وحاجاتنا. معطيات العلوم اختلفت، والحاجات تبدّلت، والآفاق المعرفية اتسعت. فكيف أستفتي الموتى عن قضايا لا يعرفون حيثياتها؟ وكيف أجبرهم على فهم عصر لا ينتمون له؟ ما قام به السلف الصالح هو قراءة وفهم للنصوص، وها هي النصوص بين أيدينا، فما حاجتنا لماض مثقل بمشكلات لا تعنينا؟ لماذا نرتبط بوضع لم نسهم في تأسيسه ولم نكتوِ بناره؟

الفقهاء بين العصر والسلف

عندما ندعو إلى فهم عصري للدين؛ نطالب الفقهاء أن يعيشوا عصرنا، ويتفهموا مشكلاتنا، ويعوا التحديات المحدقة بنا. لكن للأسف ما زال الفقيه يلتفت إلى الوراء كلما أراد استنباط حكم شرعي، انظر إلى الفقهاء كيف يتبارون في حشد أقوال السلف الصالح لإثبات صحة أقوالهم. يثق بعقل المفيد والطوسي أعلى الله مقامهم، وهو عقل ينتمي إلى مرحلة مختلفة، بينما لا يثق بعقله الذي ينتمي إلى عصر المناهج المعرفية الحديثة. فهو متقوقع في اللا تاريخ، يطلُّ علينا عبر سدٍّ منيع من القرون، فكيف يفقه الواقع ويشرّع لمشكلات لا يعي ملابساتها، أو يعي حقيقتها وظروفها لكنه يستعير لها حلولا وُضعت وفق ظرف تاريخي مغاير تماما؟!

مخاوف استعلائية من التجديد

* وكيف تعلقون على المخاوف التي تُطرح بشأن التسرّب ‘’الحداثي’’ في أمثال هذه المقولات، مما باتت تتوجسّ منه المؤسسة الدينية اليوم؟

ـ أعتقد أنه خوف غير مبرّر، فهم يخشون من انهيار الأسس المعرفية للعلوم الدينية إذا قاربتها العلوم الحديثة، ويعتقدون أنهم بمنأى عنها لأنهم يرتبطون بالإلهي والغيبي، وهناك تسديد ولطف مستمر في فقه النصوص واستنباط الأحكام الشرعية، فهم في غنى عن كل تلك العلوم؟ وبالتالي فهي مخاوف استعلائية متغطرسة، سبّبت لنا كارثة داخلية وعزلتها عن المجتمع والحياة. أو أن التخوّف نابع من مصالح شخصية، إذ يختص الفقهاء بمصطلحات وخطاب خاص، ولهم أسلوبهم الذي لا يفهمه إلا من عاش وترعرع في تلك الأجواء، وباتت معرفة تفسير النصوص المغلقة سلطة يستأنس بها الفقيه ويتباهى بها على الآخر المختلف. سلطة توفر له مكانة اجتماعية وأخرى علمية، ويستطع فرض سطوته على الآخرين. سلطة يشيّد بها مملكته وعلياءه الملكوتي. ألا تنظر كيف يلجأ رجل الدين إلى مصطلحاته الخاصة حينما يعجز عن الرد أو الإجابة على إشكال ما؟ وبالتالي فرجال الدين يحتمون بتلك العلوم، فكيف يُسمح لعلوم أخرى أن تتسلسل إلى دائرة مشاغلهم العلمية وتفسد عليهم كل شيء؟ فدأبه الاستهزاء بتلك العلوم، وتقديس علومه، التي ما فتئ ينسبها إلى الشارع المقدس، وإلى الغيب واللطف الإلهي، ليطمس بشريتها، كي لا يتجرأ احد على مناقشتها أو التمرد على سلطة القائمين عليها، إنها نتاج بشري، واجتهادات تمتّ في ظل شروط تاريخية، ونحن لا نستهزئ بتلك العلوم والكتب معاذ الله، إنها جهد بشري محترم، ونتاج عقل إنساني، إلا أننا نعترض على التشبّث بها، نعارض التنازل عن عقولنا، ونرفض الرجوع إليها واستفتائها في شأن يخصّنا

 ***

الوقت – حاوره: نادر المتروك

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=16025

 ............................

تابع القسم الثاني من الحوار مع الكاتب والباحث ماجد الغرباوي

(هذه ترجمة لمقال منشور من قبل الكاتب الأمريكي جارلس بول فرويند، لمعهد ميمري، أنشرها كما هي بترجمة الأستاذ الدكتور بهجت عباس مع تحفظي على بعض آرائه حول الدعوة لحذف فصول من القرآن، لأنها غير موجودة في الدراسة الأصل المنشورة في إيلاف وفي المثقف. لذا اقتضى التنويه... ماجد الغرباوي)

الكاتب العراقي ماجد الغرباوي يدعو إلى إصلاحات كاسحة (جذرية) في الثقافة الإسلامية والحوارات الدينية. كاتباً للموقع العربي اللبرالي إيلاف (ترجمة ميمري – معهد أبحاث الشرق الأوسط  للميديا)، يحاجج الغرباوي في ذكرى تفجيرات لندن بأنّ الأسباب النفسية والسياسية والأقتصادية للارهاب مهمة، إلاّ أنّها "أسباب ثانوية ."

السبب الدافع هو الإيديولوجية الدينيّة، حسب رأي الغرباوي. " باسم الدين اندلعت الحروب؛ دماءٌ أُهرِقَـتْ؛ قتلٌ أُحِـلَّ؛ حقوق أُنتُهِكَتْ؛ أنظمةٌ سُيطِـرَ عليها؛ واتّهم مَنْ هم بآراءْ مختلفة بالالحاد؛ والمسلمون الذين هم بآراءأخرى أتّهموا بالبِدَع ...كان الدين ويبقى غطاءً لتبربر أعمال إرهابيّة ولسياسة استبدادية...."

إنَّ حواراً دينيّاً مشوَّهاً " أعاد صياغة مفهوم الحركات (الإسلامية)، مبنيّاً على الاستهزاء بالحياة وحبّ الموت، كراهية الآخر وتعظيم الذات، إهمال الدنيا و(التهيّـؤ) لما بعدها...." ذاك التحريف "لم يثقّف أناسَ الحركات الإسلامية ليتبنّوا التسامح، الرحمة وتقبّـل الآخر.. ولكنْ علّموا (أنفسهم) كراهية الآخر وخططاً لقتل الآخر واستئصاله... هذه الثقافة لا صلةَ لها مطلقا بالقيم الإنسانية التي دعا إليها القرآن ...."

الغرباوي هو واحد من كتاب مسلمين كثيرين يطالبون باستجابة دينيّة لمحنة الآسلام العالمية. إنّ كثيراً من هؤلاء الكتّاب يدعون إلى إصدار فتوى دينيّة ضدّ أعمال الإرهابيّين، ولكنّ الغرباوي يعتقد أن ذلك ليس كافياً. يريد إعادة تفسير الشريعة، فهماً جديداً لحياة النبيّ وحتّى أخذ يكتب " ثمة حاجة أن نبحث بتركيز مسألة إلغاء فصولٍ في القرآن."

إعادة كتابة القرآن ليس ممكناً، ولكن تغيير مفاهيم ظاهرة تاريخية معروفة. فالمعتزلة مثلاً الذين سطوْا على الأرثوذكسية في أوائل بغداد (الحكم العبّاسي - المترجم)، اعتبروا القرآن كتاباً مخلوقاً. يوجد كثير من أمثلة عدّة على تغيير فهم القرآن في التاريخ الإسلامي.

العملية تستمرّ. كما  أصدرت النيتNYT تقريراً في ديسمبر الأخير (2004 – المترجم)، فإنَّ كثيراً من المسلمين في هذه الأيام "يرتعبون من الصورة الّدموية للإسلام حول العالم. وهم عازمون على إيجاد طريقة لاسترداد  الدين من المتطرفين. فمن الناحية الجوهرية يتوخّى المتسامحون أن يخفّفوا الذي انتقدوه بأنه احتكار دينيّ للتفسيرات المنتشرة للنصوص المقدّسة." إنّ ثورة المسلم على المدى الطويل ضدَ الإسلاميّين الذي طالب به الغرباوي وآخرون حاولت ذاتها أن تبدأ .

***

جارلس بول فرويند

 30 تموز 2005

.............................

Nailed to the Mosque Door

Charles Paul Freund | July 30, 2005

The Iraqi writer Majed Al-Gharbawi is calling for sweeping reform in Islamic culture and religious discourse. Writing for the liberal Arabic-language Website, Elaph.com (translation viaMEMRI), Al-Gharbawi argued in the wake of the London bombings that while the psychological, political, and economic reasons for terrorism are important, "they are secondary reasons."

"The driving reason is religious ideology," according to Al-Gharbawi. "In the name of religion, wars have broken out; blood has been let; murder has been legitimized; rights have been revoked; regimes have been taken over; those with different opinions have been accused of unbelief; and Muslims with different opinions have even been accused of heresy . . . Religion was and remains a cover for justifying acts of terror and for arbitrary policies . . . ."

A distorted religious discourse "has reshaped the logic of the [Islamist] movements, based on mockery of life and love of death, hatred for the other and self-glorification, neglect of this world and [preparation] for the hereafter . . . ." That discourse "has not educated the people of the Islamist movements to adopt leniency, mercy, and tolerance for the other -- but rather has educated [them] to hatred of the other and plans to murder and uproot the other . . . This culture is completely unconnected to the human values to which the Koran calls . . . . "

Al-Gharbawi is one of numerous Muslim writers demanding a religious response to Islam's global crisis. Many of these writers are calling for religious fatwas against terrorist deeds, but Al-Gharbawi thinks that's not enough. He wants a re-interpretation of Shari'a, a new understanding of the life of the Prophet, and even writes that "there is a need to discuss intensively the issue of abolishing chapters in the Koran."

A revised Koran may be unlikely, but changing perceptions of the Koran are a known historical phenomenon. The Mu'tazilites, for example, who controlled orthodoxy in early Baghdad, held that the Koran was a created book. There are numerous examples of changing Koranic understanding in Islamic history.

That process continues. As the NYT reported last December, many Muslims today are "dismayed by the ever more bloody image of Islam around the world. They are determined to find a way to wrestle the faith back from extremists. Basically the liberals seek to dilute what they criticize as the clerical monopoly on disseminating interpretations of the sacred texts." The long-term Muslim revolt against Islamism that Al-Gharbawi and others are demanding has been trying to start itself.

...............

https://reason.com/2005/07/30/nailed-to-the-mosque-door/

....................

رابط مقال الحركات الإسلامية والارهاب في المثقف

https://www.almothaqaf.com/component/content/article/966317

 

 

الصفحة 5 من 5