بأقلامهم (حول منجزه)

كلما سُئلت عن أهم كتاب قرأته حتى الآن تكون إجابتي كتاب "الفقيه والعقل التراثي" للأستاذ "ماجد الغرباوي". ثمة أسباب كثيرة تقف وراء تلك الإجابة. أو بالأحرى، وراء الحضور الدائم للكتاب في الذاكرة كأنه يتحين الفرص المناسبة للبزوغ أو الطفو على سطحها، إنه كتاب ضد النسيان، وبعيداً عن التفصيلات الشخصية، يمكننا تقصي عدة أسباب موضوعية تجعل من "الفقيه والعقل التراثي" واحداً من أهم الكتب "الفكرية" في العقود الأخيرة.

في هذا الكتاب طرح المؤلف اتجاه الخلافة / الإنسان في مقابل اتجاه العبودية، كإطار لفهم مغاير للدين ودور الإنسان في الحياة. يقوم على مركزية الإنسان ومصالحه، ويساهم في تجديد منهج استنباط الأحكام الشرعية. وتقديم رؤية كونية وفق أفق جديد لمفهوم الإله. كما قدم الكتاب تعريفا جديدا للسنُة النبوية وحدود حجيتها وفق ضابطة قرآنية، ودور الواقع في تشريع الأحكام. كما طرح المؤلف ماجد الغرباوي اتجاه التأصيل العقلي بديلا عن الاتجاهات المتداولة، والتي فشلت في تحقيق نقلة نوعية لفهم الدين، ودور التشريع. وأيضا طرح ما أسماه "مقاصد الجعل الشرعي" لتحديد ملاكات الأحكام والتعرف على مدى فعلية الأحكام الشرعية من خلال "مرتكزات مبادئ الحكم". وهو طرح غير مسبوق نظّر له الكاتب عبر منظومة مفاهيم جديدة، وإعاد النظر بمفاهيم النسق العقدي المألوف، فكانت نتائج البحث انقلابا في فهم الدين ومقاصد التشريع، ونظرة جديدة للإنسان ودوره في الحياة، وأثر الواقع في تحديد فعلية الأحكام. وقد أسس ماجد الغرباوي في كتابه الفقيه والعقل التراثي لمجموعة مفاهيم استدعتها فلسفة الدين وفقا لرؤيته الفكرية.

هذا الكتاب هو التجلي الأمثل للطريقة التي يمكن للفقيه من خلالها مواجهة العقل التراثي المستبد، وهو في نفس الوقت تحليل فذ للعلاقة بين الفكر والسياسة. وكتاب "الفقيه والعقل التراثي" هو درس في الاستقلالية، استقلالية المفكر وانحيازه للمعرفي على حساب الإيديولوجي وممارسته للفاعلية النقدية بلا توفيق أو تلفيق، أو تطويع الفاعلية في خدمة أي اتجاه من اتجاهات الخطاب الديني، سواء كان رسمياً أو معارضاً، يمينياً أو يسارياً، سلفياً أو تجديدياً.

وأسوأ قراءة ممكنة لكتاب "الفقيه والعقل التراثي"، ولمنجز "ماجد الغرباوي" عموماً، هي قراءته بوصفه " مانفيتسو"، نوع من القراءة الأيديولوجية المباشرة بهدف توظيفها في السجال المحتدم مع الخصوم الفكريين.

قد تشجع طبيعة الكتاب السجالية مقترنة بكتب أخرى لماجد الغرباوي، مثل تلك القراءة في هذا المقال، لكن تحويل الكتاب إلى "مانفيستو"، أو بيان، أو إنجيل شخصي، عملية لم يسع إليها ماجد الغرباوي بكل تأكيد. فالغرباوي هو الساعي إلى تحقيق وعي تاريخي بالعقل التراثي وتقديم نوع من القراءة العلمية للتراث دون اختزال أو تلفيق. تحليل ونقد الخطابين التنويري والديني، ودراسة الدينية في ضوء مستجدات الواقع المعاصر.

إن ما يعزز قيمة وأهمية كتاب " الفقيه والعقل التراثي"، هي الدراسة التي نشرت في الأيام الماضية للدكتور صالح عب حسن الطائي، وذلك في كتابه: "الإلهي والبشري والدين والتراث قراءة نقدية في مشروع ماجد الغرباوي" والذي صدر عن مؤسسة المثقف العربي، في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، في دمشق – سوريا.

تأتي أهمية القراءة التي قدمها الدكتور صالح الطائي لكتاب الإلهي والبشري والدين والتراث في مشروع ماجد الغرباوي في سعيها إلى احتلال مكانة خاصة، تميزها عن القراءات الحديثة الأخرى في الفكر العربي المعاصر، وذلك عبر اختزالها الإشكالية المطروحة ذات الصلة بنقد العقل الإسلامي. فمحور المشروع الغرباوي يتبنى العقل الإسلامي وكيفية تشكله، وهو يخترق كل المتن الغرباوية، ولا ينحصر في واحد من مؤلفاته كما يرى صالح الطائي (مع حفظ الألقاب) بهدف نقده، أي نقد ذلك الفهم الديني الجامد للنصوص الدينية التي لا تزال تسيطر على الفكر الإسلامي، والتي عادت اليوم بقوة لتشغل حيزاً مهماً من النقاش الفكري في الساحة العربية.

و"صالح الطائي" باحث وكاتب في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان، حيث نجد أن له في مجال تخصصه (57) كتاباً ورقياً مطبوعاً ومنشوراً، تولت طباعتها دور نشر عراقية وعربية، فضلا عن عدة كتب إلكترونية. ولديه مؤلفات مخطوطة.. اعتمدت بعض مؤلفاته مناهج مساعدة في الجامعات.. له اهتمامات أدبية ونقدية، وأصدر في المحور الأدبي عدة مؤلفات منها مجموعة شعرية.. له اهتمام في المناهج التربوية، وصدر له في هذا المجال كتاب إليك فقط just for you موجه إلى الشباب من الجنسين.. اشترك في العديد من المؤتمرات العلمية والتخصصية والفكرية والدينية داخل العراق وخارجه. ونشرت بحوثه ومقالاته في المجلات المحكمة والمجلات التخصصية والمجلات والصحف الورقية والمواقع الإلكترونية داخل العراق وخارجه. وله آلاف المقالات الدينية والتربوية والسياسية المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية والمواقع الإلكترونية.. كتبت عن تجربته البحثية والأدبية عدة دراسات تخصصية، منها: البحث الموسوم “صالح الطائي وآثاره في الفكر الإسلامي” مشروع تخرج الباحث سجاد ماجد، وإشراف الدكتور فوزي خيري التدريسي في كلية الإمام الكاظم الجامعة/ أقسام واسط، ونشر بتاريخ 1 نيسان/ 2018 في الجزء الثاني من العدد التاسع والعشرين من مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية المحكمة، التي تصدرها كلية الآداب في جامعة واسط. والبحث الموسوم “دراسة سوسيولوجية في مجموعة نوبات شعرية للدكتور صالح الطائي” للدكتور رسول بلاوي التدريسي في جامعة خليج فارس/ بوشهر/ إيران، ونشرت الدراسة في مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية ـ العدد الثاني والثلاثون / الجزء الأول ـ 28 تشرين الثاني 2018. ورسالة ماجستير للطالب جمال غافلي مقدمة لجامعة إيلام في إيران، ورسالة ماجستير للطالبة مينا غانمي مقدمة إلى جامعة خليج فارس في الأهواز ـ إيران.. حاز الكثير من الجوائز الدولية، وكرم من قبل جامعات ومؤسسات ووزارات وهيئات داخل العراق وخارجه.. ترجمت الكثير من دراساته ومقالاته إلى اللغات الأخرى مثل اللغة الإنجليزية، والفرنسية، والصينية، والفارسية.. ناشط في تحليل وحل النزاعات، واشترك في المؤتمر الذي نظمه معهد السلام الدولي الأمريكي في إسطنبول.

و"صالح الطائي" من الباحثين الإسلاميين الذين انطلقوا، من الإسلام؛ وخصوصاً المذهب الشيعي في رؤيته الكونية، وتفسيره للتاريخ والظواهر الاجتماعية. يدعو للوحدة والتسامح الشكلي، يدافع عن العقائد الشيعية كالعصمة والامامة والمهدي. ينتقد مواقف وسلوك الخط المعادي لأهل البيت، وكل من سلبهم حقهم في الخلافة..  تعرض للسجن في زمن صدام حسين بسبب تدينه كما تقرأ في أرشيفه. وتم اختطافه من قبل المليشيات المسلحة.. لا أدري إذا أي مليشيات في توجهها، هل سنية أم شيعية. ونجى من الموت بأعجوبة. وعيه جيد جداً.. توجد مقالات كثيرة في ارشيفه بإمكان معرفة توجهه الفكري.

94 salehaltaie600

ويعد كتاب (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي) لمؤلفه: "صالح الطائي" من أهم وأشهر الكتب المعاصرة في مجال نقد نقد العقل المستنير من وجهة نظر باحث  معروف بانتمائه الإسلامي، وذلك لأهمية موضوع الكتاب وجدته من جهة، وسعة اطلاع باحثه على الفكر والعلوم الإنسانية والقضايا المعاصرة من جهة أخري.

يقع الكتاب في 254 صفحة، حجم كبير، بغلاف جميل معبّر من تصميم دار أمل، وقد اشتمل على مقدمة وهي ست مباحث، هي: محاولة فتح الأبواب، جزئيات مشروع الغرباوي الإصلاحي، صفحات مشروع ساخن، التعميم والوعي التراث، مراجعة ثوابت الدين، خواتيم الكلام.

يلخص "صالح الطائي" مشروعه في هذا الكتاب، قائلا: نقف اليوم أمام شخص رسم لنفسه منهجاً نقدياً إصلاحياً، تبنى فيه نقد الفكر الديني تحت شعار الإصلاح الجريء؛ بعد أن درس الدين وأصوله وفروعه ومناهجه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكوَّن رؤية أصيلة عما يريد التحدث عنه، إنه الباحث والمفكر العراقي المقيم في أستراليا الأستاذ ماجد الغرباوي، الذي سنتولى نقد تجربته بعلمية وحياد.

والمؤلف لم ير ضيراً في ذلك طالما أن العالم بدأ يتقبل النقد بفعل التغيرات التي طرأت على الحياة، بما فيها العقائد والسلوكيات، فالمجتمعات كما يرى الطائي لم تعد كما كانت عليه من قبل، وقد انفتح الإنسان المعاصر على واقع جديد فيه الكثير من الغرابة، فلغاية عشرين عاماً قبل هذا التاريخ كان المجتمع العراقي على سبيل المثال ينبذ الشاذ جنسياً ويحتقره، والشاذ نفسه كان يغطي على سوء فعله، ولا يظهره للعلن أو يتفاخر به، أما المجتمع فكان يستقذر هذا العمل ويعده منقصة في السلوك والتهذيب والأخلاق.

ثم يؤكد "صالح الطائي" بأن وصول التبدل إلى هذه المرحلة، يعنى أن على الجميع الإصغاء للجميع، وعدم الاستهانة بأي طرح يدخل في باب النقد، سواء كان تحت مسمى الإصلاح أو تحت أي مسمي آخر، فالمهم أن لا تكون هناك قطيعة حتى مع وجود التقاطع بالأفكار، ولا أظن أننا سنتقاطع في الأفكار، فما طرحه ماجد الغرباوي من أفكار جاء منسجماً مع منهجه ومتبنياته الفكرية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيراً، لا سيما موضوع التأصيل العقلي أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلا من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، والإركيولوجيا، والأنثربولوجيا، وعلم النفس، والهرمنيوطيقا.

وفائدة هذه الملاحظة كما يري صالح الطائي هي لمعرفة أسباب اختلاف وجهات نظرينا حول المسألة الواحدة، رغم انتماء كلينا. هو وأنا. للفكر الإسلامي أو الديني العقلاني، فإن مناهج العلوم الدينية المتعارف لم تعد تشبع فضولنا المعرفي، للبحث عن الحقيقة وتقديم فهم جديد للدين، لا يصادر العقل ويساعد على تعزيز قيم الفضيلة.. لكن الاختلاف في المنهج يفضي إلى اختلاف الآراء والاختلاف لا يعني التهور أو التعميم غير المحسوب وهدم القداسة، أو الاعراض عن الدين. لكن طبيعة هذه العلوم منفتحة لا تقف عند أفق محدد، ولذا تثير بعض الحساسيات لدى التقليديين عادة. ونأمل كلينا، أنا لكوني باحث في الفكر الإسلامي، ولي أكثر من خمسن كتاباً في هذا التخصص، والأستاذ ماجد الغرباوي الذي يمتلك الأدوات اللازمة للبحث العلمي والتأمل الفلسفي بحكم دراسته، ومارسته الطويلة في هذا الاختصاص.

وبعد أن فرغ "صالح الطائي" من مقدمته للكتاب نراه في بداية الفصل المبحث الأول والذي عنوانه " محاولة فتح الأبواب، يعلن عن موقفه النقدي من مشروع ماجد الغرباوي فيقول: كنت قد عرفت الأستاذ ماجد الغرباوي منذ أقل من عقدين من الزمان، ولطالما تابعت طروحاته وآرائه ورؤاه التي تناول من خلالها نقد الفكر الديني، لأن موضوع الفكر الديني ونقده يشغلني بالذات، وهو من أكبر اهتماماتي البحثية، أمارسه من خلال مؤلفاتي، فاتفقت مع بعض ما تحدث عنه، وسكت عن بعضه، واعترضت بشدة على بعضه، وتغافلت عن بعضه، وكل ذلك لم يخدش علاقتي الأخوية به، وقد حاولت الكتابة عن هذا الموضوع، وهذا الاتجاه في البحث والأسلوب في العمل أكثر من مرة، وفي كل مرة كان هناك عارض طارئ يعرقل مشروعي، لكن لما تجمعت لدي أغلب مؤلفات الغرباوي، فضلاً عن مسلسل الحوار الطويل المفتوح معه على صحيفة المثقف، وجدت الفرصة سانحة لأمارس (نقد النقد) على ما بين يدي من عصارة فكره وأصول منهجه، طالما أنه منهج مثير للاهتمام والجدل.

ثم يؤكد "صالح الطائي" أن منهج نقد النقد الذي سيتبعه في تقييم مشروع ماجد الغرباوي يعتمد على مراجعة بعدية، وتحول معرفي لمفهوم قديم جعل من النقد نفسه موضوعاً للتفكير والتحليل، والتفكير، والمراجعة، أي جعله موضوعاً للنقد هو الآخر النقد. وهو يتقاطع في مباحثه مع جملة من السياقات المتصلة بالبحث في ميدان الإبداع بصورة عامة، مثل النظرية والتنظير النقدي. هدفه مراجعة القول النقدي ذاته، وفحصه...

وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

صدر عن مؤسسة المثقف العربي، في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، في دمشق – سوريا، كتاب جديد للدكتور صالح الطائي، بعنوان:

الإلهي والبشري والدين التراثي

رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي

يقع الكتاب في 254 صفحة، حجم كبير، بغلاف جميل معبّر من تصميم دار أمل، وقد اشتمل على مقدمة و(6) مباحث،هي: محاولة فتح الأبواب، جزئيات مشروع الغرباوي الإصلاحي، صفحات مشروع ساخن، التعميم والوعي التراث، مراجعة ثوابت الدين، خواتيم الكلام.

يلخص المؤلف مشروعه في هذا الكتاب، قائلا:

نقف اليوم أمام شخص رسم لنفسه منهجاً نقدياً إصلاحياً، تبنى فيه نقد الفكر الديني تحت شعار الإصلاح الجريء؛ بعد أن درس الدين وأصوله وفروعه ومناهجه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكوَّن رؤية أصيلة عما يريد التحدث عنه، إنه الباحث والمفكر العراقي المقيم في أستراليا الأستاذ ماجد الغرباوي، الذي سنتولى نقد تجربته بعلمية وحياد.

 

ويضيف: ولا أظن أننا سنتقاطع في الأفكار، فما طرحه ماجد الغرباوي من افكار جاء منسجما مع منهجه ومتبنياته الفكرية والعقدية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيرا، ولاسيما موضوع التأصيل العقلي. أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلا من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، الإركيولوجيا، الأنثربولويجا، السيسيولويجا، وعلم النفس، والأهم الهرمنيوطيقيا، 

وفائدة هذه الملاحظة هي لمعرفة اسباب اختلاف وجهات نظرينا حول المسألة الواحدة، رغم انتماء كلينا ـ هو وأنا ـ للفكر الاسلامي أو الديني العقلائي، فإن مناهج العلوم الدينية المتعارف لم تعد تشبع فضولنا المعرفي، للبحث عن الحقيقة وتقديم فهم جديد للدين، لا يصادر العقل ويساعد على تعزيز قيم الفضيلة. 

الكتاب سيتوفر في دار أمل الجديدة، وجميع المعارض والمكتبات التي تتعامل معها.

في الختام نبارك للأستاذ الدكتور صالح الطائي صدور كتابه الجديد، نتمنى له دوام العافية والعطاء، وألف مبروك.

 

مؤسسة المثقف – قسم الكتاب

11 – 2 – 2021م

 

لا شك أن المفكر العراقي الأستاذ ماجد الغرباوي، شكل ظاهرة مثيرة للجدل على مر السنوات الماضية، فلطالما فاجأ الجمهور (عامته وخاصته) بتأويلاته للعقل الفقهي الإسلامي تختلف بشكل كبير، وربما تناقض تلك السائدة، والمتعارف عليها، (كتأويله الحاجة إلى الفقيه، تداعيات تفاقم الفتوى، قداسة الفقيه، فهم النص الديني، نقد العقل الفقهي، مقدمات الاجتهاد، الفقيه ومضمرات الوعي، المسكوت عنه، الإمامة الدينية، التعارض بين العقل والنقل، العقل وملاكات الأحكام، شمول الشريعة، الفقيه واحتكار التفسير، وغير ذلك)، ورغم ما عُرف عن ماجد الغرباوي (مع حفظ الألقاب) من مواقف رآها البعض ثورية كموقفه من حرية المرأة، والحجاب، إلا أنه غالبا ما يُصنف كمفكر مجدد من خارج المؤسسة الفقهية (أي حداثياً من خارجها)، وكذلك هناك من يراه أيضاً (مثل كاتب هذا المقال) بأنه مجدد في الفكر الديني، يسعي من خلال مشروعه التجديدي إلي ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، وفي إطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب.

والسؤال الآن الذي أود أن أطرحه: تُرى كيف تنبأ ماجد الغرباوي لتأويلات لم تخطر على بال أحد غيره تقريبا للعقل الفقهي ؟.. هل نحن أمام مفكر حداثي؟ .. أم مجدد؟ .. وكيف يمكن فهم موقفه من تأويل مضمرات العقل الفقهي في تراثنا العربي- الإسلامي في ظل مواقفه المتقدمة في كثير من القضايا الفقهية؟ .. وكيف يمكن قراءة كتابه الأخير "مضمرات العقل الفقهي"، من خلال توجهات الغرباوي نفسه التي نقرأها له صباحاً ومساءً من خلال صحيفة المثقف الزاهرة؟

وسأرجئ الإجابة على تلك الأسئلة لنهاية المقال، وأكتفي هنا في هذا المقال بالإجابة على السؤال الأخير؛ فأقول : لقد كتب كثير من المفكرين العرب عن أزمة العقل العربي، معتبرين أنه عقل قديم، وغير متفاعل مع العصر، ولا ينتج المعرفة، رغم استهلاكه وتعاطيه لمنتجاتها وإنجازاتها، وقد ظل العقل العربي منذ أفول الحضارة العربية الإسلامية، خاضعاً لسلطة التراث، وربما الأصح أن نقول لسلطة تراث بدون ألف ولام التعريف، فتراثنا الفكري والديني فيه المستنير، كما فيه الظلامي، المارد المتحرك وكذلك الجامد الثابت .. أخذنا من التراث كل ما يصلح لتثبيت وتمكين حالة التخلف، واستبعدنا كل ما من شأنه التأسيس لحالة نهضة .. ما الذي جعل العقل العربي سجين الماضي؟ .. غير تواق للحرية والانعتاق؟ .. بل قانم بقيوده؟ .. ومدافع شرس عن تلك القيود؟ .. ما الذي يمنع العقل العربي من التفكير والتفكر ويكتفي بالنقل والحفظ؟ .. هل الأموات يحكمون الأحياء في مجتمعاتنا؟.. لماذا ما زلنا ننتمي عقليا وفكريا ونحكم من المقابر؟.. ما السبيل لعقل عربي مفكر؟.

هذه الأسئلة وغيرها نناقشها من خلال هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو كتاب "مضمرات العقل الفقهي" لماجد الغرباوي، حيث يعد هذا الكتاب امتداداً للحركة العلمية المعاصرة التي يشهدها علم مقاصد الشريعة، والمقاصد هي مجموعة من الغايات الإلهية والمفاهيم الخلقية التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، مثل مبادئ العدل، وكرامة الإنسان، والإرادة الحرة والمروءة، والعفاف، والتيسير على الناس، والتعاون الاجتماعي . فمثل هذه المفاهيم والغايات تشكل جسراً بين التشريع الإسلامي والمفاهيم السائدة اليوم عن حقوق الإنسان، والتنمية، والعدالة الاجتماعية.

وقد كانت مقاصد الشريعة تمثل الحركة التي قادها ورفع لواءها من قبل عدد من رواد الإصلاح والنهضة في عصرنا الحاضر، مثل الإمام محمد عبده،، ثم محمد الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، وغيرهم من قادة الإصلاح في مشرق العالم الإسلامي ومغربه؛ إذ كانت العناية بمقاصد الشريعة من أبرز مقومات ومرتكزات دعوتهم الإصلاحية . وقد كان الأثر الأكبر في تتابع الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية المعاصرة في علم مقاصد الشريعة، وهي التي آذنت بدخول هذا العلم حقبة جديدة، يمكن أن نطلق عليها حقبة "الإحياء والتميز" .

أما الإحياء؛ فلأنه قد مضى على علم المقاصد حين من الدهر توقفت فيه حركة العطاء والبحث؛ فبعد كتاب أبي إسحاق الشاطبي الموافقات، مرت على علم المقاصد حقبة طويلة من الزمان ساد فيها الركود والتراجع، وتعطلت عملية الاجتهاد والبحث، وقد امتدت هذه الحقبة ما يقارب ستة قرون!.. وأما التميز؛ فلأن مقاصد الشريعة قد أصبحت اليوم علماً قائماً بذاته، له مقو ماته وخصائصه الذاتية التي يستقل بها عن بقية علوم الشريعة الأخرى، كأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والعقيدة، بعد أن كان هذا العلم منثورا في مضامين، ومفردات غيره من علوم الشريعة الأخرى.

ولعل غياب الفكر المقاصدي عن مجالات: التعليم، والتصنيف، والبحث، والتوعية، والدعوة، والاجتهاد، كان من أبرز أسباب تردي أحوال الأمة وتراجعها، ووصولها إلى ما صارت إليه اليوم، من عجز عن أن تنهض بمسؤوليتها الحضارية التي أناطها الله بها في الشهود على الناس وقيادة الأمم نحو الخير والعدل والحرية . واليوم تتابع الدراسات العلمية المقاصدية مبشرة بنهضة مقاصدية معاصرة، تشكل بمجموعها ركيزة أساسية من ركائز مشروع نهضة الأمة، واستئناف دورها، وإصلاح أحوالها، عن طريق إبراز القيم العليا التي يجدر بجميع المخلصين من أبناء الأمة العمل على تفعيلها، والجهاد في سبيل تحقيقها وإقامتها.

وتأتي هذه الدراسة التي قدمها الأستاذ ماجد الغرباوي عن " مضمرات العقل الفقهي"، حلقة في سلسلة هذه الحركة المباركة، ومواصلة للجهود الفكرية الأصيلة التي يقدمها المخلصون من أبناء الأمة؛ لإظهار ريادة الإسلام في تحقيق مصالح الإنسان، وسبقه في إرساء القيم الإنسانية التي تمثل أعظم مقاصد الشارع وأهم أهداف التشريع، حيث جاء الكتاب مكملا للكتاب السابق (الفقيه والعقل التراثي)؛ حيث يحفر داخل البنية المعرفية للفقيه وما تشتمل على مضمرات عقدية تساق كمسلمات ينحاز لها الفقيه لا شعوريا في فتواه ومواقفه.

90 majedalgharbawi 600

يقع الكتاب في 236 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب الجميلة غلاف الكتاب.

وقد جاء الكتاب كما يقول الغرباوي في سياق الكتاب السابق: الفقيه والعقل التراثي، لمواصلة نقد بنية العقل الفقهي ودور النسق العقدي والاتجاه الأيديولوجي للفقيه في انحياز الفتوى، والموقف السياسي، وتكريس قيم العبودية والانقياد. فثمة مضمرات خطيرة تتوارى في ظل مفهوم الاجتهاد الذي يعني منهجا علميا في استنباط الأحكام الشرعية، غير أن الكلام حول يقينياته التي يستند لها في استنباط الأحكام، فثمة نهائيات هي ليست كذلك، وهناك بداهات لا يصدق عليها عنوانها.

لذا تناول الكتاب مجموعة قضايا أخرى قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الحاجة إلى الفقيه، تداعيات تفاقم الفتوى، قداسة الفقيه، فهم النص الديني، نقد العقل الفقهي، مقدمات الاجتهاد، الفقيه ومضمرات الوعي، المسكوت عنه، الإمامة الدينية، التعارض بين العقل والنقل، العقل وملاكات الأحكام، شمول الشريعة، الفقيه واحتكار التفسير، وغير ذلك.

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية - سياسية.

ويستهل المؤلف الكتاب بالحديث عن الفقيه والفتوي، حيث رأى أنه بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى عصر التشريع واكتمل الدين، ثم غدا كتاب الله وسيرة نبيه مرجعية لمعرفة الأحكام الشرعية، تخللتها بشكل تدريجي بعض الآراء الاجتهادية، ثم يؤكد المؤلف بعد ذلك إلى أنه مع تجدد الحاجة للفتوي بناء على مرونة الشريعة وقدرتها على تلبية الحاجات الفعلية للفرد والمجتمع، بدأت مرحلة الاجتهاد، واستنباط الأحكام الشرعية؛ ففتاوى الفقهاء وجهات نظر اجتهادية، ليست ملزمة باستثناء من ألزم نفسه بها (المقلد)، وبالتالي الفقيه في نظر المؤلف لن يكون له دور واحد، ألا وهو تبليغ رسالات السماء، وبيان الأحكام للناس، وتعليمهم من الحكمة ما لا يعلمون؛ وأما في مجال التشريع في نظر المؤلف، فالواقع متجدد، ومتغير، وملاكات الأحكام واضحة بينة ومقاصد الشريعة يمكن إدراكها .

ومن هذا المنطلق وجدنا المؤلف يتوجه لاستخدام منهج الحفر الأركيولوجي عند ميشيل فوكو داخل الينية المعرفية للفقيه وما تشتمل على مضمرات عقدية تساق كمسلمات ينحاز لها الفقيه لا شعوريا في فتواه ومواقفه؛ فوجدنا المؤلف يحفر في هذا الكتاب لمناقشة قضايا كثيرة مثل : تداعيات تفاقم الفتوي (12-14)، وقداسة الفقيه (15-18)، وفهم النص الديني (19-20)، ونقد العقل الفقهي (21- 22)، ومقدمات الاجتهاد ( 23-25)، والفقيه ومضمرات الوعي (26-33)، وإفرازات البعثة (34-35)، وحديث الغدير وملابسات الصدور ( 36- 39)، وحديث الغدير (40-58)، وآية التبليغ ( 59- 68)، ومعنى المولى ( 69- 74)، ودلالات الإمامة ( 75- 94)، والدولة بين ضرورتين ( 95- 123)، والصحابة والبيعة ( 140- 157)، والمنطق القبلي للحاكم (158-167)، والإمامة ولاية الفقيه (168-179)، والعترة والرسالة ( 180-193)، ومرجعية الإمام (194-197)، والتعارض بين العقل والنقل (198-200)، والعقل وملاكات الأحكام (201-204)، وشمول الشريعة (205-209)، والخلافة والاستخلاف (210-214)، والفقيه واحتكار التفسير ( 215-219)، والمنجز البشري (220-223)، والرق ومبررات التشريع ( 224-230)، وخطابات التبرير (231-232).

ومن خلال تلك القضايا المتشبعة التي ناقشها الأستاذ الغرباوي، يمكن أن نستنبط بعض النتائج التالية :

1- إن الدين نفسه في نظر الغرباوي لا يتجمّد، لكن الذى يتجمد هو عقول فسرت النصوص القرآنية والنبوية الواضحة والمباشرة، بأيديولوجيات عقيمة تجمدت معها المنظومة العقائدية والتشريعية فى كهنوت بشرى يتخفى فى ثوب إلهى.

2-لقد كان التأويل – والتأويل النقدي تحديداً – هو منهج الأستاذ الغرباوي في هذا الكتاب، ولكنه لم يكن تأويلا خالصاً، ولكنه كان تأويلاً خاصاً اصطنعه الغرباوي لنفسه وسار به – فيما بعد- في معظم كتاباته، إنه التأويل المفتوح على المناهج الأخري، الذي يستطيع أن يستخدم أي منهج في أي موضع من أجل خدمة أغراض الغرباوي البحثية؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أن التأويل عند الغرباوي هو منهجه الأوحد، إذا فهمناه على أنه القدرة على التلاعب الحر بالمناهج.

3- لقد كشف لنا الغرباوي على أننا لا نستطيع أن نبنى بناء جديداً على بناء قديم، وبالتالي فلا بد قبل الشروع فى تكوين وبناء خطاب دينى جديد، أن نقوم أولاً بعملية تفكيك علمى للخطاب الدينى القديم الذى أوصل أمتنا إلى ما وصلت إليه من خلل فى التصورات والرؤى الحاكمة، ليس للوجود والعالم فقط، وإنما للواقع المعيش وحركة التاريخ ومنطق التقدم.

4- إن التفكيك الذى يحتاجه الخطاب الدينى في نظر الغرباوي كما ظهر لنا في هذا الكتاب، ليس تفكيكاً يتنكّر لكل «مركز» مثل التفكيك الجذرى فى مرحلة «ما بعد الحداثة»، وإنما هو تفكيك يريد العودة للمراكز الأولى للعلم والفكر والدين، وبهذه العودة سوف يتم الالتقاء مباشرة مع الدين الأول الخالص فى نقائه وخصوبته الأولى.

5- إن الغرباوي في هذا الكتاب لم يدخر وسعاً في الإسراف في القول بأن الفقيه إذا أراد أن يساير مستجدات واقعنا المعاصر، فعليه التخلص من كل التأويلات المغرضة والجهولة بطبيعة النص، والتى حوّلت القرآن عن معناه الأصلى إلى أداة سياسية أحياناً وإلى غطاء للأساطير أحياناً أخرى، وهذه التأويلات -سواء كانت مغرضة أو جهولة- فى «بعض» كتب التفسير الذائعة تجدها مستندة إلى إسرائيليات ومرويات موضوعة أو ضعيفة.

6- إن مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي كشف لنا بما لا يدع مجالا للشك أن أغلب الفقهاء في تعاملهم مع النص يعطون له معانى لا تعكس مقاصده، ولا تبالى بسياق آياته، ولا تفسر الكتاب بالكتاب، ولا تراعى قواعد اللغة والأساليب العلمية لفهمها واستنباط الأحكام منها. إنهم يختزلون النص فى مجموعة من آياته معزولة عن مجموع النص، ويأخذون حرفياً بالحدود والغنائم، عازلين السياق التاريخى والثقافى، ضاربين بالمقاصد العامة للنص عرض الحائط.

7- لقد كشف لنا كتاب مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي أنه ينطلق من مشكاة واحدة من نفس المشكاة التي انطلق من خلالها الدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه "نحو تأسيس خطاب ديني جديد"، فكلاهما يسعيان إلى تجاوز “عصر الجمود الديني” الذي طال أكثر من اللازم في تاريخ أمتنا العربية، من أجل تأسيس عصر ديني جديد، وتكوين خطاب ديني من نوع مختلف.

8- أجمل ما في كتاب مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي هو الدعوة إلي العودة إلى “الإسلام النقي المنسي”، لا الإسلام الذي نعيشه اليوم بسبب الجماعات الارهابية ومجتمعات التخلف الحضاري، وبالتالي فإن المشكلة في نظر الغرباوي ليست في الإسلام، بل في عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهي والفكري التي يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون.

9- إن أهمية محاولة الغرباوي في كتابه مضمرات العقل الفقهي؛ هو كونه يمثل نقلة نوعية في الدراسات العربية حول الدين ومقاصده، ولا تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يمثل فتحاً جديداً للدراسات في هذا المجال المعرفي المهم الذي تندر فيه الكتابات العربية؛ بقدر ما تتمثل في الأساس العقلاني المتين الذي اعتبره الغرباوي أساساً يمكن إقامة هذا الصرح، أعني الدين عليه.

10-إن كتاب مضمرات العقل الفقهي كشف لنا على أن الأستاذ الغرباوي هو واحد من مفكري العربية القلائل الذين تعاملوا مع التراث الفقهي بروح تجديدية متفتحة، وهو من الفلاسفة الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلى التأمل . للغرباوي شخصية أريحية متصالحة مع نفسها ومع الآخرين ومع العالم.

وحتى لا يطول بنا السرد في إبراز النتائج، إلا أنني في نهاية هذا المقال لا أملك إلا أن أعود لأجيب بنفسي وباختصار عن تلك الأسئلة التي أرجأتها في بداية هذا المقال؛ فأعود هنا فأقول : لقد كان للغرباوي مواقفه الفكرية والعقدية الواضحة التي تمثل سنداً قوياً استند إليه في تحليل مختلف الآراء والأفكار الدينية والفلسفية والسياسية التي انتهجها .. لقد أراد الأستاذ الغرباوي فلسفة بنكهة تنويرية تقوم على القضاء على الاستبداد في الحكم، والقضاء على الاستبداد في الرأي، مع الاستناد إلى مراعاة الظروف والمتغيرات التي طرأت على عصرنا والقضايا وثيقة الصلة بالعصر، والتي تعد من المستحدثات التي طرأت على الساحة الفقهية، وفي حاجة إلى ردود شافية تمنع الناس من التخبط، كل ذلك في إطار التمسك بأصول الإيمان، وهي تلك الدعوة الفقهية التي اصطدمت بما هو عليه واقع المسلمين من : ضعف الأخلاق وانتشار الرذيلة، والاختلاف، والشقاق بينهم، والتخلي عن مبادئ الإسلام الخالصة بالنظر الفكري والأخذ بأسباب العلم أياً كان مصدره النافع، كذلك اصطدمت بما عليه المسلمين من أمراض نفسية تتمثل في اليأس والجبن والتواكل وغيرها من الصفات الذميمة والمنهي عنها في الإسلام.

لقد كان الأستاذ الغرباوي في كل دراساته يحاول – موفقاً-نقدها على أسس عقلية امتدحها القرآن والسنة النبوية؛ إذ ما تزال مسألة العقل والتنظير العقلي من أهم المبادئ التي يستند إليها الإسلام في حواره مع الأديان الأخري، ونحن نستطيع بسهولة اكتشاف علاقة واضحة بين النقل والفلسفة على كافة مستوياتها العقدية منها الميتافيزيقية والسياسية.

وفي نهاية هذا المقال أقول مع الدكتور صالح الرزوق بأن الأستاذ الغرباوي هو بحق يمثل : نموذج للمفكر الموضوعي الذي لا يخرج على دائرة وعيه بأهمية الروح. فهو يحاول بكل ما أوتي من عزم أن يتحرى حقائق الذهن البشري وطرق الاستجابة للواقع، وبشرط لا يحيد عنه وهو أن يكون داخل شبكة العلاقات الإسلامية. ويمكن أن تقول إنه ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة كالحال عند عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كشأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها.

فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

..........

1- ماجد الغرباوي: مضمرات العقل الفقهي، مؤسسة المثقف ودار أمل الجديدة، 2020.

2-الكيلاني، عبدالرحمن إبراهيم زيد: قراءة في كتاب مصالح الإنسان : مقاربة مقاصدية، تأليف عبدالنور بر، إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي - مكتب الأردن، المجلد 14، العدد 55، 2009.

3- د. صالح الرزوق: موت الحقيقة.. الإسلام والتأسلم في فكر ماجد الغرباوي.. مقال منشور بصحيفة المثقف، على الرابط أدناه .

https://www.almothaqaf.com/a/tanweer/952065

 

 

لا أعتقد أن الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الدين ولكنه مفكر إسلامي. وهناك فرق واسع بين الدروس والعظات الدينية وبين تحليل أساليب واتجاهات المعرفة. وهذا لا يعني أنه مفكر محايد. فأي إنسان مرتهن لمعتقدات معرفية جاهزة وهي على أنواع.

جزء منها ينتقل بالتلقين وأساليب التربية والبيئة أو كل ما يعرف عادة باسم القانون والسلطة. وغالبا ما يأخذ شكل رهاب يفرض نفسه على الوعي. ولهذا المستوى من المعتقدات عدة أسماء اقترحها الغرباوي خلال محطات مشواره الطويل مع تحليل النص ومنها: الأنساق الثقافية المضمرة، قبليات الكاتب، مخزونه الثقافي اللاواعي وسوى ذلك. وكما قال في مستهل كتابه “مضمرات العقل الفقهي” هي المسؤولة بشكل مباشر عن انحياز التشريعات والأحكام. ويعزو لها كل أشكال النشاط السلبي في الاجتهاد والقضاء (مضمرات العقل / ص 6). بالإضافة لعدم التفريق بين البشري والإلهي (مضمرات العقل / ص 6 أيضا).

وما تبقى يتشكل بالاختيار والإرادة الذاتية. ويعبر بنفس الوقت عن متطلبات الوعي الباطن والرواسب التي تعمل فيه بتوجيه مباشر من صراع الرغبات والضرورة. وإذا كنت أفضل أن أسمي هذا الجانب بـ “الإدراك”، يسميه الغرباوي “ثقافة الفرد”. ويرى أنه تعبير عن نزاع بين الحياة وأساليب تجلياتها. ويقصد بذلك: اتصال المتشابهات في حقل الإدراك رغم الاختلاف بالجذور المعرفية. فالثقافة، برأيه، نتيجة معارف ميتافيزيقية وأحكام. (ص 22/ الفقيه والعقل التراثي).  

ولطالما كنت أعتقد أن الغرباوي نموذج للمفكر الموضوعي الذي لا يخرج على دائرة وعيه بأهمية الروح. فهو يحاول بكل ما أوتي من عزم أن يتحرى حقائق الذهن البشري وطرق الاستجابة للواقع، وبشرط لا يحيد عنه وهو أن يكون داخل شبكة العلاقات الإسلامية. ويمكن أن تقول إنه ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة  كالحال عند عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كشأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها. ومن المعروف أن قراءة الإسلام تنطوي على تيارين.

بالإضافة للمبشرين بالشريعة (بمعنى قوانين تفسير وعينا بمفهوم وهوية الإيمان)، هناك محور تكويني يتابع ظواهر المعرفة بالمقدس من خلال الوعي بها. ومحور ديالكتيكي يطبق نتائج الوعي بالتاريخ على  تطوير أساليب وقوانين المعرفة. وربما لذلك هو ينظر بعين الشك للانتقائية في تأويل المعنى، وبالأخص بعد هذا الفاصل التاريخي بين أسباب النزول والواقع الراهن. ففقد بلغ ما يزيد على خمسة عشر قرنا تراكمت خلالها عمليات إلغاء وتثبيت، وعلى الأرجح أنها أدت في النهاية لعزل الأسباب عن النتائج وزيادة مساحة الإجبار أو الإكراه في الدين. ومن الطبيعي أن يسيء أنصار الظاهراتية فهم معنى الحرية أو ضرورته. فلا حرية في الاختيار أمام أوامر الخالق. لكن هذا لا يعني أن الخير مطلق والفضيلة ثابتة على الدوام. فالغايات هي الثابتة لكن أدواتها دائما تتعرض للتطوير والتعديل. وغني عن القول أنه لا يوجد معنى دون أساليب للتعبير عنه. وفي هذه المساحة يبدأ النزاع التقليدي بين النص وخطابه. وتجد تفصيلات وافية عن أهمية الحرية في الخطاب الديني عند برديائيف وكركيغور. فبالبديهة أنت تنحاز للخير، ولكن بملء إرادتك. لأن الخير هو العلة الأولى لاستمرار الحياة. ولا يمكن لأحد أن ينكر أنه يفضل البقاء على العدم. وهذا وحده يحسم مسألة الجهاد والسياق الطبيعي لاستعمال العنف في الإسلام كما وضح الغرباوي في كتابه “تحديات العنف” ثم في “مدارات عقائدية ساخنة”. فقد بذل في هذه المؤلفات ما بوسعه لينظر إلى الفكرة الإسلامية من خارج ثقافة الحداد والقطيعة مع الشريعة (بتعبير رجاء ابن سلامة)، ولكن من داخل شبكة العلاقات بين الإنسان و دينه الاجتماعي (هذا إذا قبلنا أن الدين موجود لكن بصور تشبه التخزين السحابي). بلغة أوضح ضمن تيار متصل خارج البنية الفردية.  ولقد رأى أن التحديات تتكاثر وتتوسع يوما بإثر يوم، ولا سيما بعد اتساع رقعة الاحتكاك مع بقية أرجاء العالم، وما يمثله ذلك من تحديات في تعيين مجال أشياء تبدو متشابهة، لكن لكل منها مساره الخاص كالضمير والوعي والروح والإحساس والعاطفة إلخ...

وهذا يعني أنه اهتم بالسياق والظواهر. وليكون لكلامنا معنى لا بد من أمثلة. لقد درس حروب الردة بالانطلاق من الأسئلة والمنغصات التالية:

ما هي الدواعي؟.

ومن أشعل الفتيل؟.

وكيف كانت طبيعة العلاقة بين الأطراف المتنازعة؟.

ووضع هذه المشكلة ضمن إطارين. داخل دورات التاريخ، وفي سياق أساليب التعبير. وقد أولى كل عنايته للمدونة وللنص. بتعبير آخر نظر للمشكلة كأزمة طرأت على علاقة الحاكم بالمجتمع، أو المركز بالأطراف. وخلص إلى نتيجة مفادها أنها فتنة عسكرية. وكانت الغاية منها أن يفرض الخليفة أبو بكر سطوته على كل أجزاء شبه الجزيرة العربية. بمعنى أنها حرب للسلطة ضد الشعب، ولإسكات أصوات المعارضة، ولإخضاع الجميع لتوجهات القيادة الجديدة. واستطاع الغرباوي بهذا المنهج أن يرسي الأساس لحدود أو معرّفات تفرز الإلحاد والكفر من الخلافات السياسية. واختار لهذه الحدود عنوانا عريضا هو (فعلية النص). وشرحه كما يلي: مادامت أسباب النزول قائمة النص واجب، وبزوالها يجب تعطيله، أو اعتباره في عداد المنسوخ بوجوب تبدل الأسباب. وأصلا إن فكرة إبطال الأحكام والأوامر الإلهية، التي جاء بها الوحي، كانت تهدف إلى الارتفاع بالواقع إلى واقع أفضل منه. وهذا يختلف عن الإلغاء والإزالة. وله معنى التكيف والتطوير كما قال أحمد عبدالرازق في كتابه (فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي – ج2). فالنبوة وسيلة وليست غاية، والوحي أسلوب أو طريق كما يقول عبد الرازق أيضا (ص943)*.

وقد ناقش الغرباوي باقة من الأحكام التي تندرج في هذا المضمار. بالإضافة لحروب الردة (التي أنكرها في وقت مبكر الشيخ علي عبد الرازق) توقف عند الجزية والفتوحات الإسلامية. ثم أعاد التأمل في حدين من حدود المذهب الشيعي وهما فريضة الخمس والإمام الغائب. بالإضافة لدور الشفاعة وكيف انتشرت بين البسطاء حتى أنها سيطرت على أفكارهم، ولعبت دور قيد أو رباط بشري يحل محل العناية الإلهية. وبالتالي عطلت الثواب الذي يمكن أن يناله المؤمن من التفكير والاجتهاد. وكأن هؤلاء الوسطاء نسوا أن الإسلام هو دين معرفة وثقافة أولا. وأن العقيدة في عصر العلم وفلسفة التنوير لا تبنى بالتأويلات ومراكمة الخرافات والاستجارة بالتراث كما ورد بالحرف الواحد في كتابه الإشكالي (مدارات عقائدية ساخنة) (ص88)** والذي اتصف بقدر لا يستهان به من الشغب والممانعة. وأعتقد أن هذا الكتاب، الذي أصدره بالاشتراك مع طارق الكناني، مخصص بمعظمه لتفنيد الأساطير والخرافات التي دخلت على المذهب الشيعي، وتسببت له باختناقات اجتماعية. وكانت حجته الأساسية أن الإسلام جاء لينظم علاقة الإنسان بالله أولا (معرفة) ثم علاقة الفرد بالمجتمع (سياسة). والدين لم يأت ويبذل كل تلك التضحيات ليضع الإنسان المسلم في زاوية تمنعه من التفاهم مع واقعه ومع العالم الذي يحيط به. وقد استطرد لاحقا لموضوعة الصلاة، باعتبار أنها ركن أساسي من أركان التثبيت، أو العقيدة (إن استعملنا مفردات كاتب لاهوتي هو الشيخ علي الطنطاوي). و لا جدال بوجود فرق واسع بين المنهجين.

88 majedalgharbawi600

فالطنطاوي يوجب الأداء أولا ثم التفكير ثانيا. مثل القانون المعمول به في الجيش: نفذ ثم اعترض. لكن الغرباوي يستحسن بيان حقائق الأشياء أولا قبل فرضها. ويؤكد أن خصائص الأشياء، وهي موضوع الإيمان، عبارة عن نشاط ذهني سواء كان للشيء وجود خارجي أم لا. ويترتب على ذلك أن مصادر الأحكام سابقة على النص. وأي نص لا يمكن أن تفسر مضمونه دون العودة لمصادره أو علته. وهذا لا يمكن أن ينطوي على أي شبهة بالممانعة لأن العلة شمولية والمصادر متحققة بالعلة الأولى وهو الخالق (كما ورد في موسوعته: متاهات الحقيقة/ فصل العبادات والأخلاق). ولا يوجد في الإسلام تشريع جامد. ويذكر مثالا عمليا وهو الصلاة. ويشترط أن تكون صلة روحية مع الخالق من طرف ومع جماهير المؤمنين من طرف آخر. بمعنى أنها ذات وجهين، روحي ومادي. أو أنها جسر للعبور من الذات الإلهية نحو الذات البشرية، وإلا لاكتفى الله بفرض حركات رياضة أو جمباز. والصلاة أيضا بتعبير القرآن “كتاب موقوت”. بمعنى أنها نشاط له علاقة بدورة التاريخ، أو كما يمكن أن تجد في معاجم اللغة: هي عمل تتصل به الحقيقة المكتوبة مع الحقيقة المطلقة. وبلغة أوضح: هي إسقاط للحقيقة على الكون (بلغة محمد شحرور). ففي كل نشاط ديني لا بد من أن يتصل الجسم وحركاته مع الذهن وتفكيره ثم مع الروح واستعداداتها. وهكذا تستكمل الروح دورتها الفطرية: بين الطبيعة والعقل والله.  أو المادة والوعي والذات الكلية. وكان بودي لو أضاف حسين مروة لكتابه (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) فصلا خاصا عن المعنى الدرامي للصلاة. فهي الفقرة الوحيدة من بين كل مدونات أركان الإسلام والتي يمكنها أن تتأقلم مع الواقع المعاش. ومن المؤكد أنها لم تكن في بواكير ولا فجر الإسلام تفرض نفسها على الواقع. بل العكس هو الصحيح. كانت تضطر للاستسلام لتيار الحياة الجارف في الحرب وفي السلم. ويمكن أن تقول كانت حريصة على تسهيل معاناة الإنسان وتخفيف درجة إحساسه بضغط الحياة من خلال إجراءات تطبيقية كالاختصار وتبديل الموعد لو أنك مسافر أو حتى بعدد الركعات ونوع التلاوة. 

ويلاحظ على الغرباوي أن أمثلته بمعظمها تهتم بنفي الحدود الوضعية. وبرأيه إن معظم الممارسات في الوقت الحالي لا تكلف نفسها نفض غبار السنوات، من جهة، ولا تحاول التعالي على سياسة التبرير لخدمة مآرب الحكام. ويؤكد أن مبدأ ولاية الفقيه هو مبدأ إيديولوجي وضعي (بمعنى إجرائي)، ونجم عنه انحدار مستوى فهمنا للشورى، وعدم إمكانية تحويلها إلى ديمقراطية متطورة حسب سلم القيم والمعايير الغربية. وفيما أرى اشترط الغرباوي على الدولة الإسلامية والحاكم الصالح عدة شروط استمدها من أحكام وفقه الشريعة (الكتاب والسنة). وهي نشر روح التكافل الاجتماعي والنفسي بين كل الفئات. ونزع الفتيل من الشكل العسكري للدولة.  بمعنى آخر، على الحاكم أن يكون مدنيا، وعلى الحكومة أن تتحلى بالوعي الإداري. ودون هذين البندين كان لا بد من تفكك الدولة وانحدارها لشكل متخلف وبدائي من أشكال الهيمنة والتسلط. وعليه إن تعويم فكرة الجهاد واعتبارها فرضا والتمسك بمفهوم الجزية والنظر إليها كأنها ركن سادس في الدين قاد إلى تسريع تحويل الإسلام من دين إلى إدارة. ومن علاقة مع الوحي لعلاقة بين المركز والأطراف. ويبدو أن هذا الضرر بدأ من انقلاب السقيفة الذي تورط بعدة أخطاء.

الأول هو الاقتراع العلني على الخليفة وتشكيل لوبي ضاغط.

الثاني اقتصار التمثيل على حفنة من الصحابة.

والثالث هو إهمال الأقليات والتقليل من شأن الأنصار.

ولا يمكن لأحد أن ينكر غياب أي تمثيل للعشائر النائية، ومنها عشائر عسير ونجران بالإضافة لمناطق قريبة من الرياض (أو حجر اليمامة حسب الحفريات والتي تعود لأيام طسم وجديس). ولنأخذ مدينة اليمامة كمثال حيث انتشرت أولى حركات التمرد. أيضا لم يتم دعوة مراقبين عن الديانات الأخرى. فالدولة ليست خاصة بأكابر قريش، والشعب لم يكن كله من عرب الحجاز. إن عدم وجود مثل هذه الضمانات مهدت الجو لتقليص الاختيارات المتاحة أمام المسلمين، ثم لإقامة ثيوقراطية ملكية ظالمة، وانتهت بكونتونات هيمن عليها الجيش، وتبعها أوليغارشيات لا ترتبط بالخليفة. وقد رأى الباحث خليل أحمد خليل في كتابه الكلاسيكي (العرب والقيادة) أن معيار الولاء كان يقتصر على رفد خزينة الدولة بالنقود السائلة والثروات، ثم على بروتوكول شكلي بحت.

وأنا لهذه الساعة لا أفهم كيف تنازل الأنصار عن السلطة للمهاجرين. ناهيك عن غياب أي مؤسسة وطنية يشاركون بمجلس الإدارة فيها. ولنأخذ مخيمات الفلسطينيين في لبنان كمثال. لقد نجم عنها أكبر فتنة دمرت بيروت ورسمت خطين في أنحاء البلاد. خط بالطول قسم لبنان إلى دويلتين، وخط بالعرض أعاد رسم الخريطة الطبقية بين السكان. بمعنى آخر انطلقت الشرارة من الكامبات وأدت لتحول سياسي واقتصادي. والآن يواجه حزب الله نفس الحالة الوجودية بالرغم من التضحيات في حرب 1996. فهل كان مجتمع المدينة طوباويا ويعيش فوق المنطق الذي يقبل به البشر؟. بالمنطق إن تدفق المهاجرين على المدينة أدى إلى اختناقات يمكن أن تسميه اقتصاد الحرب. وإذا أضفت لذلك الزيادة غير المسبوقة باليد العاملة، تستطيع تصور الأزمة التي أتت، كما تشير المصادر، في فترة من الركود والبطالة. فكيف تسنى لهؤلاء الضعفاء أن يكسروا شوكة مكة؟..

حتى الجهاديين الذين تدفقوا على سوريا في أزمة الربيع العربي، تحولوا لقوة احتلال، واغتصبوا بيوت السكان الفارين من أذى الحرب. وقد تصرفوا لاحقا على أساس أن الأرض وما عليها هي غنيمة حرب. ويشمل ذلك المتعلقات المادية والمعنوية، يعني الممتلكات والنساء.

وأن تخلو كل السجلات من صورة واضحة للمدينة جعلها أشبه بفانتازيا لأنه لا يعقل أن لا تتبلور في تلك الفترة الحاسمة أية دائرة أو مؤسسة أو دار لفض النزاعات. ولو كانت موجودة ما هي هيكليتها؟. وبالأخص أننا نتكلم عن حكومة طوارئ تحارب على أكثر من جبهة.

في الداخل الأحياء اليهودية. وفي الخارج طبقة النبلاء ومن يواليهم من المشركين. حتى أن عثمان، أحد المبشرين بالجنة، لاقى حتفه لاتهامات طبقية، وتحول لاحقا لمنعطف أساسي بدّل وجه التاريخ. ناهيك عن دور أبي بكر الضعيف والذي أشبهه بدور محمد نجيب في ثورة يوليو. لقد دامت له مقاليد الحكم لسنتين ثم اضطر للتنحي، ولو لا وفاة أبي بكر لكبر سنه لأجبره الصحابة على التقاعد.

لم يناقش الغرباوي هذه الحلقات الضعيفة من التاريخ الاجتماعي لبواكير الإسلام، غير أنه أسهب في الولاية التكوينية (حسب المفهوم الذي استشرى في السنوات الأخيرة)، وأنها تعني التصرف بالكون. وأكد أن هذه المهمة ربانية صرف، وإلا دخلنا في الشرك (ص 300 / مدارات)، فالله ليس كمثله شيء، وهو متفرد بالوجود، ولا يقبل أية شراكة أو نيابة (المصدر السابق).

90 majedalgharbawi 600

وبرأيي إن ما تعرضت له حركات التنوير والإصلاح، وبلغة أوضح: المذاهب والفرق الباطنية، من دس وتحوير وتحريف وإضافات، يحتاج لعمل شاق في سبيل التنقية وتقريب وجهات النظر. فقد تحولت هذه الاتجاهات إلى حضارة جريحة، ولا سيما بسبب الاستبعاد المقصود من المشاركة في بناء كيان الدولة. وتهمة التكفير والإشراك التي تعرضوا لها في عدة عهود، منذ تأسيس الدولة الأموية وليومنا الحالي، هي المسؤولة عن رابع أزمة عسكرية تعصف حاليا بالخليج (وهي حرب اليمن). ولدي شبهات أن الإبادة الجماعية التي طاردت حركات الإصلاح (كالشيعة والمتصوفة والأدباء المستنيرين)، في غضون حرب المائة عام، لا تختلف بشيء عن المحرقة النازية. ويمكنني أن أرى في عقوبة الصلب والحرق التي اتبعها الأمويون والعباسيون لتصفية خصومهم محرقة يندى لها الجبين. وقد وصل التشويه ذروته في عصر التنوير والنهضة، واتهم كل صاحب رأي جريء أو مستنير بتهم كاريكاتورية تدعو للهزء. وبهذا الخصوص تساوى المتنبي والحلاج والنفس الزكية وزرادشت وقرة العين الداعية لسفور المرأة.  وأقرب مثال على ذلك كتاب (العقائد) لعمر عنايت (صدر عن دارالعصور عام 1928). وكتاب (الدعاة) لوجيه فارس الكيلاني (صدر عن دار المطبعة العربية عام 1923). فقد اعتبر الكيلاني أن زرادشت (ص 38) ومسيلمة (ص 50) والحسين (ص 92) وجان دارك (ص 95) كانوا على قدم المساواة، ومن بين الشخصيات التاريخية الشاذة أو المارقة.

وطاردت تهمة مماثلة الإمام الأفغاني، وأدانته بالانحراف عن أصول الدين. ولا تزال كل الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية تطعن بتفسيره للقرآن وتشوه أهدافه السياسية، وترى أنه لا يجد فرقا بين مفهوم الوحدة ومفهوم الأمة، أو بين الجامعة الشرقية والجامعة الإسلامية، كما ورد في (الدرر السنية) بتحريرعلوي بن عبدالقادر السقاف.

وبناء على ذلك أصبحت أمام الغرباوي مهمة مزدوجة.

وهي الكشف عن المبالغات الدينية التي يرعاها الوعي الباطن، وإعادتها إلى مكانها في سياق تطور التاريخ والأحداث. وهكذا تطور أسلوبه من مجرد الوصف والتحليل إلى التفكيك وإعادة التركيب. ويتضح ذلك في كتابه (مضمرات العقل الفقهي، 2020)***. فقد واتته الجرأة ليقول عن كثير من العتبات الدينية أنها رواسب من التخلف والجهل وسوء التربية. ثم ليردف إنها منحنيات أسطورية تثقل على وعي الإنسان المسلم وتخنقه وتكبت حرية السلوك والتصرف الإيماني النابع لديه من الفطرة والبديهة . ولا يسعني أن لا أرى أن جهود الغرباوي تشير بجلاء وبكل وضوح لموت وجه آخر من وجوه تاريخ المعرفة وهو الحقيقة. لقد تحولت لقطاع صامت نغتاله يوميا بإضافاتنا الأسطورية غير المنزهة عن أغراض الإيديولوجيا وأطماعها في السلطة.  وتبدو لي أن هذه المشكلة تؤزم ذهنية الغرباوي مثلما أزمت سابقا تفكير رائد من رواد نقد المعرفة وهو جلال صادق العظم. فأن تموت الحقيقة على يد من سبقها بالموت، وهو الإيديولوجيا السلطانية، يضعنا أمام عالم غامض لا يمكن التعامل معه إلا بمقاربة جرئية لا تخشى من بنية الوعي الراهن ومقولات العقل الجماعي (كما ورد في كلمة الناشر على غلاف كتابه: مضمرات العقل الفقهي). 

 

د. صالح الرزوق

......................

* المعهد العالمي للفكر الإسلامي. د. محمد أحمد جاد عبدالرازق. فرجينيا. الولايات المتحدة الأمريكية. 1981.

** دار الأمل الجديدة. ماجد الغرباوي وطارق الكناني. دمشق. 2017.

*** دار الأمل الجديدة. ماجد الغرباوي. دمشق. 2020.

 

 

لا شكّ إنّ الذي ينعم النظر في نصوص الكاتب ماجد الغرباوي يجد أنّ هناك مساحةً واسعةً من الجذب الجمالي بين النصّ والقارئ، وخير مثال على ذلك القصة القصيرة جدّا التي بين أيدينا، والجذب الجمالي يتحقق في أمرين:

الأوّل أنّك يمكن أن تقرأها بصفتها نصّا قصصيا، فهي على وفق المقاييس الأدبيّة قصة قصيرة جدا.

الثاني: أنك يمكن أن تقرأها بصفتها خاطرة أدبية أو فكرة جاءت بهذا الشكل الفني الرفيع.

الثالث: يمكن أيضا أن تُقْرَأَ بكونها مزيجا بين القصة والخاطرة حسب ذوق القارئ.

أي أن الكاتب وضع المتلقّي بين أمرين وخيّره أيهما يفضّل، قصة اللمحة أم النصّ وتخيير القارئ معناه مشاركته الجماليّة وتحفيزه على التفاعل مع النص بعدّ المفهوم الوارد فيما هو مكتوب يُعدّ همّا مشتركا بين المؤلّف والمتلقي.

لقد ورد في البداية: تمرّدت ذاكرتي فساورتني شكوك بلهاء.. جملتان جاءتا بتفاوت واسع مركزه ضمير المتكلّم

الذاكرة + التمرد + ياء المتكلّم

في البدء كان التمرد الذي يأتي هو السبب وهو النتيجة. والذاكرة مركز وسبب للشكوك. والشكوك تتساوى في قوتها الوجودية مع أسلها الأوّل التمرد فهي قوة فاعلة موازية

شكوك + تساور + بلهاء + ياء المتكلّم

أربع كلمات تقابل ثلاثة في حركة متوازية ليكون عدد الكلمات في التركيبة المتوازية سبعا  والكلمة التي صاغت التفاوت وميّزت الحركة القادمة هي الصفة (بلهاء) والحقّ أنها ليست تُعنى بالبله إنها صفة إيجابية وردت بصيغة سلبية فلو وضعنا بعدها أية صفة لصحت أن تكون:

شكوك عارمة

شكوك خلاقة

شكوك صامتة قديمة.. ناطقة.. لماحة..

لأنها احتلت قمة الرقم الهرمي وحرّكت الحدث الذي هو التمرد. إنّ التمرد حدث فاندفعت الشكوك التي ترتدي ثوب البله بعنف وبلهها هو عين الذكاء والتخمين والعبرة والاستنتاج والتأمل والتفاعل.

لكن كيف حدث التمرد؟

من خلال عمق النص وتراصّه المتين ندرك أن التمرد حصل في اليقظة والمنام وفي النهار والليل وفي الحاضر والماضي في الوقت نفسه يصبح الفرد ذاته هو الكون في لحظة انفجاره العميقة وقد استند النص الى الترادف الفعلي المتمركز بقوة عند الحركة وتداعياتها

وتسللتُ خلسة أطوف

أتصفح عوادي

عبر هذه الأفعال الثلاثة وهي التسلل والطواف والتصفح  يصل إلى هدفه حيث بدأ بحركة بطيئة يتطلبها واقع التسلل ثمّ تزداد الحركة شيئا ما بالطواف وهو أسرع لتحلّ بعدئذ حركة موضعية أبطأ من الفعلين السابقين وهي حركة التصفّح التي لا تعني أن نقلّب كتابا أو ورقة بل تحتلّ محل التأمّل العميق والتفكّر والبحث عن خلق وابداه وهو ما حدث من أجله التمرد الذي بدأ به النص

حتى نجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة جديدة نعرفها ولا نعرفها:

دنوت حذرا يستبد،

باغتني

 حاولت تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة

الأفعال السابقة تثبت نفسها من دون حرف عطف فلا الواو ولا الفاء ولا ثمّ الترتيبية إنها تترادف وتتوالى كأنها تكمل بعضها بعضا بشكل دوائر وهنا يأتي هذا الفعل الرابع ليصل بنا إلى القمّة. لاشك أن هناك أفعالا أخرى تداخلت لكنها أفعال مساعدة اشتركت لتضفي على تلك الحالة بعدا أعمق حتى نجد أنفسنا عتد ذروة الحدث. إن نفس المتكلّم تناثرت في دوائر ورسمت ذاتها  فانقسمت إلى عدد والمعرفة الحق تكون حين نتذكّر أن الدائرة هي الشكل المتكامل لذلك نجد أن الكون نفسه يتخذ وضعا دائريّا فقد انشطرت تلك النفس أو الذات على وفق الفعل الأخير بالرسم إلى سبع دوائر، ونذكّر أن أجدادنا السومريين اكتشفوا علّة الكون في الرقم (7) بينما يرى الفيثاغوريون أن العالم عدد ونغم والذي يطّلع على الديانات التوحيدية يجد أن العوالم السبعة من أراضٍ سبع وسماواتٍ سبعٍ تكاد تشغل مساحة واسعة من الفكر القلسفي والروحي والصوفي لأتباع هذه الديانات.

أقول الذي  يطلع على ذلك يدرك من النصّ أنّ الانشطار حدث في الواقع وفي الحلم أي في الزمن واللازمن هو ليس بواقع ولا حلم فقد تجردت الحالة عن كلّ مدلول ولم تته ولم نته فيها لأن المتكلّم بوعيه تجاهل الدوائر الأخرى وانشغل بالدائرة السابعة. فهل كانت الدوائر بمستوى أفقي واحد أم أنها عموديّة مثل برج بابل أو القبالة اليهودية أم بعموديّة إسراء النبي محمد (ص)

أيضا في هذه الحالة يتحقق التوازن

ممكن جدا أن تتبادل الدوائر حسب الترتيب من الرقم (1) إلى الرقم (7) في الموقعين الأفقي والعموديّ من غير ما نشعر بالزمن نفسه والمكان، أهم ما يميّز الحالم الواعي النائم الصاحي أنه لم ينشغل قط بالدوائر من (1) إلى (6) بل كان مشغولا ومندمجا بالدائرة السابعة (ربما وفق القراءة الصوفية تلك التي عندها سدرة المنتهى) ومن خلال هذه العبارة عبارة الانشغال ندرك أن الدوائر انقلبت بعد عمليّة الرسم من وضع أفقٍ متساوٍ إلى وضع ٍعمودي فالضمير المتكلّم في حالة ارتقاء لقد تركنا نحن المتلقين في أية دائرة كانت وغادر إلى الأفق الواسع حيث الدائرة الأخيرة التي تتموضع في القمّة. تأتي بعد ذلك أفعال التفاعل مع المرحلة السابعة. لقد كانت ثلاثة أفعال تمثل في البدء الاقتراب وهناك أفعال الاندماج التي تتحقق بأربعة فنجد التفاعل وفق الترتيب التالي:

 شغلتني السابعة ..

راحت تطوف ببطء،

 تأخذني نحو عوالم غريبة،

ثم تقودني الى نفق مجهول،

تسرح فيه بقايا ذكريات،

 تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس،

 فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها

كلها أفعال منسوبة إلى الضمير المؤنّث التي راحت تنشطر إلى أشلاء والتي رسمت دوائر فكان الجزء السابع أو الأخير وفق التسلسل الرقمي هو المحرك كونه دائرة احتلت رقما خلّاقا فحركت الأشياء، الدوائر بلغتنا أناث وأقواهن أثرا وفق الموروث الديني والفلسفي السابعة ولعل الدوائر درجات ولعلهن أرواح لكن الذي يميّز الأخيرة هو تلك الحركة الفعالة أنها تستأثر بالخلق الفعلي والأبداع لتترك لنا أثرا يخص نمط حياتنا المادية والروحية:

تسرح مادة

الذكريات معنى

وتسرح مضارع ومستقبل

والذكريات ماض، اسم ماض

وفي ذلك جمع للتناقض وهو دمج الفعل بالاسم والماضي بالحاضر وفق ما ترتأيه حركة الكون الأفقية والعموديّة.

هناك ملاحظة مهمّة بقيت حول النص وهي أنني قلت :

إننا يمكن أن نقرأه كونه قصة قصيرة جدّا لها مقومات الومضة الجميلة. ويمكن أيضا أن نقرأه بصفته نصا مركبا من أنواع أدبية مندمجة مع بعضها أما أنا فأنصح القارئ أن يقرأ هذا النص قراءتين: الأولى قصة لمحة والثانية قراءة نص مفتوح .

***

د. قصي الشيخ عسكر

................................

تمرّد

ماجد الغرباوي

 تمرّدت ذاكرتي، فساورتني شكوك بلهاء، أناخت بأحلامي المتعبة .. ليلا عقدتُ العزمَ وتسللتُ خلسة أطوف في أرجائها .. أتصفح عوادي الأيام حتى عثرت على أشلاءٍ موشّاة بحمرةٍ، أو بقايا بقع دمويةٍ .. أشلاء تعلوها ابتسامةٌ بليدة، بينما تَمَوَّجَ ظلُها فوق أرض رخوة، تصافح مطرا غاضبا.

كأني أعرفها، او التقيتها على قارعة الحياة. لا أدري أين؟ .. حاولت جاهدا لعلي أتذكر أطراف الحكاية.. هل قابلت تلك الأشلاء حقا؟ متى وكيف؟

دنوت حذرا يستبد بي رعبٌ مزلزلٌ، كأني على مشارف كابوس باغتني وأنا في نشوة حلم جنوني. حاولت ألمس تلك الأشلاء، تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة، ثم رَسَمَتْ سبعَ دوائر تدور حول بعضها .. شغلتني السابعة .. لماذا راحت تطوف ببطء، تأخذني نحو عوالم غريبة، ثم تقودني الى نفق مجهول، تسرح فيه بقايا ذكريات، تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس، فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها .. أي حزن يراود عينيها؟ كيف تجمّدت فوق شفتيها الباردتين ابتسامة باهتة؟ أي خطب ألمّ بها؟ أي فقدٍ أصاب أوصالها الممزقة؟.

حالت ظلمة الليل دون معرفة تفاصيلها، وظلت دوائرها السبع لغزا محيرا، أقترب في حلها تارة وأخرى أتيه في دلالاتها. وكلما دَنوتُ من السابعة شعرتُ بثقل جسدي يترنح على أرصفتها، حتى نفد صبري، وخارت قواي، وتبددت طاقتي، فرحتُ أندب حظي، لعل أحدا ينتشلني .. لكن أين التقيت تلك الأشلاء؟.

فقت قليلا ، أو كدت ..

ثم تذكرت فصرخت في عمق الليل

.

.

.

إنها أشلائي !!!!!

***

5 – 12 0 2013

سيدني – أستراليا

.................

يمكنكم الاطلاع على القصة والتلعيقات على الرابط أدناه

https://www.almothaqaf.com/ac/nessos-10/81802

 

        

        

العديد من الموبقات تُرتكب تحت ستار الدين، بدءًا من موجة الإرهاب التى تضرب العالم وتتخذ من نصوص دينية ذريعة لجرائمها ومرورًا بقدسية تُضفى على شخصيّات تتحدث باسم الإله ووصولًا إلى التشبث بقراءات دينية تجافى الواقع ومتغيراته. لتلك الأسباب مجتمعة ولغيرها يصير البحث فى الفكر الدينى السائد وتفكيك مُسلماته حاجة يفرضها العصر.

عبر سلسلة من الكتابات جاءت بعنوان «متاهات الحقيقة»، عمد الباحث والكاتب الأسترالي من أصل العراقى ماجد الغرباوى إلى مساءلة تلك الأنساق الدينية الراسخة.

يوضح الغرباوى فى حديثه مع «الدستور» أنه عمد من خلال تلك السلسلة إلى «التوغل عميقًا فى بنية الوعى ومقولات العقل الجمعى، واستدعاء المُهمّش والمُستبعد من النصوص والروايات، وتكثيف النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطاق دلالات الخطاب الدينى، بعد تجاوز مسلَّماته ويقينياته، والسعى إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان فى الحياة، فى ضوء فهم مختلف للدين.

يأتى كتاب «الفقيه والعقل التراثى» الصادر حديثًا عن «مؤسسة المثقف العربى بأستراليا ودار أمل الجديدة» لتفكيك منطلقات العقل الفقهى القائمة على العديد من المغالطات، فى إطار سلسلة كتابات تهدف إلى نقد النسق العقدى المألوف وسلطة القداسة وغيرها الكثير من الموضوعات بدأت بكتاب «الهوية والفعل الحضارى» ثم «مواربات النص».

يقول الغرباوى لـ«الدستور»: السلسلة تنتمى إلى تراكم معرفى امتد لأربعين عامًا، سبقته أسئلة أبت مغادرة الوعى تبحث عن أجوبة تعالج إشكالية التخلف برؤية مغايرة تمارس النقد وتكف عن منطق التبرير، بعيدًا عن رهاب القداسة ويقينيات العقل الدائرى.

جهود عدة فى الإصلاح والتجديد للفكر الدينى لم تؤتِ ثمارها فى ظل سطوة العقل التراثى الذى جعل الدين دافعًا باتجاه العنف والإرهاب تارة والخرافة والسحر تارة أخرى، وظل السؤال حول إمكانات النهوض من كبوة أبقت المسلمين فى كنف الماضى دون القدرة على مسايرة العصر وإشكالياته مستمرًا مع بقاء اتجاهات إسلامية قابعة فى سجون معرفية مرتهنة لسلطة التراث ومنطق العبودية.

ونظرًا لأن الخطوة الأولى لإصلاح تلك الحالة تبدأ من النقد الجذرى لمرجعيات التفكير الدينى، يسعى الكاتب فى هذا الكتاب إلى تفكيك العديد من المقولات التى اكتسبت قدسية على مدار عقود الممارسة الدينية ليشدد عبر ذلك على أهمية بناء معرفة مؤسسة على الدليل والبرهان ومرجعية العقل، وهو ما يمكن من خلاله التغلب على التحديات التى تواجه الدين على صعيد حقوق الإنسان والتطور الحضارى.

89 majed 600

يرى «الغرباوى» فى كتابه أن ربط الإرادة الإلهية بالمرجعية الدينية للفقيه من أبرز النقاط التى تحتاج إلى مراجعة جادة وجريئة، فالوعى الجمعى للمسلمين احتفظ بصورة مثالية للفقيه، جعلته فوق النقد والمُساءلة باعتباره مصدرًا للمعرفة الدينية وأحكام الشريعة وموضع أسرارها، وأسهم الصراع السياسى فى ترسيخ علاقته بالسلطة وتعزيز خطاب رسمى عزز من الالتباس لدى قطاعات جماهيرية بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه التى هى اجتهادات ووجهات نظر وفهم للنصوص المقدسة.

ويشير الكاتب إلى أن «الفتوى تجل لوعى الفقيه وانحيازه اللاشعورى لقبلياته ومصالحه، ومن الخطأ وصفها بالموضوعية والتجرد التام بل ولا علاقة لها بالتقوى ومراعاة القواعد العلمية والمنطقية دائمًا، لأن المعرفة البشرية تخضع لنظام اللغة، وآلية اشتغالها داخل فضائه المعرفى، وفهم النص يتأثر بثقافته ومستوى وعيه ويقينياته، لذا يتعين تحرى بدايات وعيه ونقد مقولاته التى ترسبت لا شعوريًا ضمن أنساق مضمرة يصعب اكتشافها وتقويضها إلا بالنقد والتفكيك».

تسهم تلك النظرة النقدية لحدود دور الفقيه وعلاقته بالنص الدينى فى نزع القداسة التى تضفى على مقولات فقهية بالية هى بالأساس انعكاس لاستقبال الفقيه الخاص للنص الدين بما يتماهى مع بيئته الثقافية والاجتماعية، فقد يأتى العقل الفقهى ازدواجيًا فى معاييره، أو منغلقًا على نسقه العقدى بما ينتج فقهًا مُستلبًا يفرض قناعاته على النص الدينى، ومن هنا تأتى خطورة الانقياد الأعمى للأطروحات الفقهية وإضفاء القداسة عليها.

ويلفت الكاتب إلى أن «التباس القبلى بالفقهى والسياسى بالشرعى الذى كان الفقيه وراءه كان السبب الأساسى وراء تزوير الوعى الدينى وتكريس الاستبداد والعبودية والطاعة والانقياد، فالنظام الدينى للمسلمين مهما اختلفت صيغه هو حكم ثيوقراطى يكرس سُلطة الحاكم الأعلى ويُحرِّم الخروج عليه ويمنحه سلطات واسعة، وهو نظام ينسجم مع القيم القبلية ويتناغم مع وعى الفرد فى نظرته وتقديسه بشيخ العشيرة».

يُشدّد الكاتب على أهمية إعادة النظر فى الأحكام المتعلقة بقضايا المرأة والجهاد والقتال، وتحرى أسباب العنف وجذوره وكوامنه فى الفكر والفقه. فرغم أن الأحكام الشرعية لا تلغى ما دام مصدرها النص القرآنى، إلا أنه من الممكن ألا تكون فعلية بسبب عدم فعلية موضوعها فتسقط عن التكليف استنادًا لكون الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق المصالح وليس المفاسد.

ويُبيّن الغرباوى أن «صدقية العقائد التى ظهرت بعد وفاة الرسول تتطلب معرفة ظروف نشأتها ومسارها التاريخى وفلسفتها والأجواء الثقافية والسياسية والدينية والفكرية المحيطة بها، فالعقائد والمفاهيم لم تأت من فراغ بل مهدت لها ضرورات مذهبية وسياسية»، وذلك بهدف نزع قدسية مقولات فقهية جاءت لتحقيق مكاسب وقتيّة لا يمكن أن تكون مطابقة لكل واقع.

وينطلق الكاتب من حديثه فى تلك المسألة من خلال نقطة ارتكاز مُحددة، إذ يشير إلى أن ثمة قاعدتين أصوليتين: الأولى حق الطاعة والثانية قُبح العقاب بلا بيان.

تعتقد القاعدة الأولى بشمول الشريعة لكل صغيرة وكبيرة وتسمح للفقيه بتشريع أحكام واسعة النطاق، وتنعدم فيها مساحة الحرية. أما القاعدة الثانية فهى: قبح العقاب بلا بيان، والتى تنطلق من قناعة بأن الحكم الشرعى الصادر عن الله يواكب حركة الإنسان والمجتمع ضمن دور الدين فى الحياة، وعليه لا يجوز تقديم الرواية على الآية.

وحسب رأى الكاتب، التعامل مع النص الدينى يخضع إما إلى منطق العبودية أو منطق الخلافة. ففى منطق العبودية، تأتى فتاوى الفقهاء مُتخمة بالتحريم والاحتياط الوجوبى بما يختزل دور الإنسان بالفتنة والاختبار ويقتصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية وسلبه حرية الحركة خارج ما هو مشرع منها، فى اتجاه يضع النص فوق العقل ولا يؤمن بأى فلسفة وراء الأحكام الشرعية.

فى مقابل منطق العبودية، هناك منطق الخلافة الذى يختلف فى رؤيته للإنسان والدين وأحكام الشريعة، فيعزز من مركزية الإنسان ودوره فى استخلاف الأرض، وتأتى الغاية من تشريع الأحكام وفق هذا الاتجاه لتحقيق مصالح الاجتماع البشرى وليس لقياس درجة طاعة الإنسان ومستوى عبوديته.

وانطلاقًا من تلك الرؤية، يشير الكاتب إلى أن معالجة «روح العبودية» سيحد من تضخم الفتاوى والأحكام، «فما جاء فى القرآن من تشريعات تكفى حاجة الإنسان ليواصل حياته اعتمادًا على عقله وقيمه ومبادئه الإنسانية التى تحفظ له كرامته وتحقق شروطه الحياتية، فهو فهم مختلف لا يسمح بتضخم الأحكام الشرعية، لكن الفقهاء لم يلتزموا به لأنه لا يحقق سلطتهم ومركزيتهم، فالأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون فى الكتاب الكريم مشكوك فى حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآنى، وعند الشك فالأصل حاكم وهو الأحكام الشرعية القرآنية».

وفى إطار نقده الأحكام المُطلقة التى ترسخها فتاوى دينية بالية، يتحدث الكاتب عن كثير من نقاط الالتباس المتعلقة بالسنة النبوية ليشدد على أن الشرط فى حجية السنة هو وجود جذر قرآنى للحكم النبوية، وهو ما يفترض توظيف مناهج حديثة فى دراسة حيثيات الحكم الشرعى قرآنيًا وتفكيك المنهج النبوى فى التفصيل والبيان لمعرفة خلفياته ودوافعه والكشف عن بشريته.

ورغم أن «علم الجرح والتعديل» فى السنة جاء لتدارك الضعف فى فرز الأحاديث وتمييزها، فإن الكاتب يرى أنه كرّس الاستبداد السياسى والدينى وتمت صياغته بما يخدم الفرق الدينية المتصارعة، ومن ثم جرى أدلجته بما يوافق رؤية الفقيه وأهدافه السياسية، ولكن فى الآن ذاته ثمة حاجة لدراسة الأحكام النبوية ذات الجذر القرآنى ومعرفة دوافعها وضروراتها.

ويوضح: «ثمة ضرورات موضوعية لتجديد مناهج علوم الحديث تفرضها نظرة مغايرة للدين تحد من إطلاقات الأحكام عندما ترتهن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، وهذه الضرورات هى عدم الاعتناء بحديث يخالف العقل والمنطق والقوانين الكونية والقيم الإنسانية أو يُكرّس الظلم والاستبداد والاستهانة بالإنسان وعقله ووعيه أو يؤسس لمذاهب تنأى عن هدف الدين».

ويشدد «الغرباوى» على أن علوم الحديث «لا يمكن التعويل عليها مطلقًا»، لا سيّما بعد أن اختلف المسلمون حول القيم العلمية لأحاديث الصحاح وحول عدالة أو وثاقة عدد كبير من الرواة وشروط التحديث، فضلًا عن تسقيط بعض الرواة لأسباب طائفية، «فحينما تتحكم منطلقات الفقيه الأصولية والفقهية بهذا العلم وتتأثر بخلفيته العقيدية فلا يمكن الاعتماد عليه فى جميع الأحوال، مما يبعث الريبة فى قيمته المعرفية».

 

حنان عقيل - القاهرة

نقلا عن صحيفة الدستور المصرية

 ليوم 26 – 11 – 2020م

https://www.dostor.org/3272279

 

 

نعود ونكمل عوصنا في بحار كتاب الفقه والعقل التراثي لماجد الغرباوي، وليسمح لي عزيزي القارئ أن أستأنف غوصي في رياض هذا الكتاب القيم؛ فهو بلا شك من الكتب التي تركت بصمة واضحة في فكرنا الفلسفي المعاصر، حيث يشرع الغرباوي في هذا الكتاب بمقدمة عامة تتناول العناصر الخمسة لضوابط الرواية الدينية: معرفة الروايات، وشواهد الوضع، ومناهج التوثيق، وحجية السنة، ثم أخيراً القيمة المعرفية.

ومن المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له أنه ليست المسألة هي رغباته أيديولوجية أو مذهبية، فقد كان أحد أهداف الجهاد أن يكون الدين كله لله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) بمعنى تحريره، وسلب شرعية الأديان التي تتحكم بمصائر الإنسان ولو بالقوة . والدين هو العقيدة والشريعة . فالرهان على ما طرحته يتوقف على تسوية إشكاليات، ترتبط بفهم الدين، ودور الإنسان في الحياة، وتحديد مهمة الأنبياء الرسالية، وحدود تأثر الفقه بالمتغيرات الزمكانية. ومدى وعيه بها، وقدرته على التحرر من قبلياته التي تفرض محدداتها وسلطتها. فرغم دعاوى الإجتهاد، غير أن الفقيه أسير قواعد تم تأصيلها عقلياً لضبط منهجه في استنباط الأحكام الشرعية، فهو يخضع لها ويقدسها وينسى أنها صنيعته، المرتهنة في صدقيتها لقبلياته، وما يؤمن به من يقينيات دينية وعقلية وفلسفة . فهي قواعد تم تأصيلها لتلبي رغباته التي تنسجم مع عقيدته وفهمه للدين والتشريع، يظهر هذا واضحاً من خلال استدلاله عليها، فبعض يميل بطبعه للاحتياط فينعكس على موقفه الأصولي من القضايا المشكوكة، بينما يميل الثاني للبراءة والسعة .

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أن الرهان في بعده الآخر، يتوقف على نقد المرجعيات الفكرية والعقيدية والأصولية للفقيه، وتشكيل وعي جديد وفق فهم مختلف للدين، وإعادة النظر بالمقدس، وقدسية التراث والسلف الصالح، والعودة المباشرة للكتاب الكريم، نتدبره وفقا لحاجاتنا وتطلعاتنا، كمرجعية نهائية في مجال تخصصه . فهو " تبيان كل شئ"، وفيه " تفصيل كل شئ"، و" وما فرطنا في الكتاب من شئ" . وهو أمر ممكن، رغم وجود روايات تشترط وساطة التراث والسلف في فهمه وتفسيره . لكنها روايات ضعيفة، لأنه بيان للناس، فلا يمكن احتكار فهمه وتفسيره، فيكون القرآن حاكماً عليها حتى وإن كان بعضها صحيحاً .

أما التوجه الثالث فيتمثل في نظر المؤلف على أنه ثمة فرق جوهري بين اتجاهين ومنطقين في فهم الدين وفلسفة الأحكام الشرعية، منطق العبودية، ومنطق الخلافة . يتوقف عليهما فهم أسباب تضخم الأحكام، وطوفان الفتاوى الشرعية. إن فلسفة الحكم تكشف عن سبب التشريع وحكمته ودواعيه وطريقة تأثيره، كما أن تاريخ الحكم يكشف عن البيئة الاجتماعية والدينية والثقافية التي انبثق عنها السؤال . حيث جاءت الأحكام الشرعية في الكتاب الكريم ردا على أسئلة السائلين، ولا يوجد حكم ابتدائي أو لم يكن مسبوقا قبل البعثة، كالعبادات وتفصيلاتها، سوى بعض الاختلافات. فالحكم مرتبط بموضوعه . غير أن جل الفقهاء إن لم يكن جميعهم يعتقدون أن فعلية الأحكام منقطعة عن اسباب تشريعها، فلا يدرسون تاريخها وفلسفتها . بينما تاريخ التشريع يؤكد وجود أسباب وراء تشريعها، وقد تنتقي فعليتها بانتقائها.

على أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: احداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولى من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن: الأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون في الكتاب والسنة مشكوك في حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآني، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية . غير أن الفقهاء اضطروا لشرعيتها من خلال قواعد عقلية، يمكن مناقشتها وتفنيدها . وليس هذا محلها . كما وظف الفقهاء خطاباً أيديولوجياً صارماً، يقمع أي تمرد على سلطتهم . بشكل أصبح الفرد لا يفرق بين الحكمين الشرعي القرآني، والحكم الشرعي الفقهي. فالجميع بالنسبة له مقدس، رغم تداعياتها على حرية الفرد .

وأما التوجه الثاني فتتبدى لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب في دعوته لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء، حيث يقول الغرباوي:" ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الإسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع فيها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم .. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيداً عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرس اللامعقول وتحرض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والإرهاب، أو يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلب الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الإرهاب ديناً، والخداع ديناً، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلاً عن الكراهية والتنابذ والاقتتال " .

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والإنغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلى ما هو أفضل .

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤى المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية "الفقه والعقل التراثي" خلال محاور وقضايا هذا الكتاب، منهجا تحليلياً – نقدياً في كل محاور وقضايا الكتاب، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلى دراسة النصوص الفقهية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة الفقهية التراثية. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى تفكيك العقل الفقهي، الفقيه ومنطق العبودية والخلافة، غير مكترث لأى ممنوع أو محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص الفقهية. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة العقل التراثي، بعد تكفير المختلف والمعارض.

1912 الفقيه والعقل التراثي

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 408 صفحة موزعة على مجموعة من القضايا والمحاور، وذلك على النحو التالي: بدأ المؤلف بالحديث عن الفقيه ومنطق العبودية، حيث تناول منطق العبودية بأنه ضد الحرية والاستقلال، وأن منطق العبودية دينياً هو اتجاه يختزل دور الإنسان بالفتنة والامتحان والاختبار ويقصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية، مع سلبه حرية الحركة خارج ما هو مشروع منها . ثم تحدث المؤلف عن بعد ذلك عن ملاكات التشريع، فلا يحق في نظره لأي شخص كائن من كان تشريع الأحكام سوى الله تعالى لأنه القادر على إدراك الملاك الحقيقي، وليست الملاكات الظاهرية، كالفوائد الاجتماعية مثلاً. كذلك يتحدث المؤلف عن الفقيه ومنطق الخلافة الذي يختلف جوهرياً في رؤيته للإنسان وللدين وأحكام الشريعة، حيث يؤكد هذا الاتجاه على مركزية الإنسان، ودوره في استخلاف الأرض، وبقيم علاقته بالخالق، وفق ثنائية الخالق والمخلوق، فتاتي علاقته مع الله منسجمة مع فهم مختلف للدين والحياة، بشكل يشعر الإنسان باستقلاليته، وتمكنه من وعي الذات.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن مهام الرسالة قرآنياً، حيث رأى أن رسالات السماء تواكب مسيرة الإنسان حتى بلوغ هدفه، فهي من جهة تربطه بالخالق، ومن جهة أخرى تخوله خلافة الأرض، فدور الأديان هو دور حاضن للإنسان، حتى يتقوم عوده، فلا يعقل أن يطارده من خلال الفقيه وفتاواه التي تنأى من المشاعر الإنسانية حينما تتعامل معه كآلة تقتصر مهمته على تطبيق ما يملي عليه من فتاوى وأحكام اجتهادية . وهذا دليل آخر على عدم حجية أي حكم ليس له جذر قرآني، ما لم يدل الدليل الشرعي الصريح، وهو مفقود بالضرورة.

كذلك ينتقل الغرباوي للحديث عن كون " الحرية قدر الإنسان "، حيث إن الحرية في نظره بمعنى الاستعداد فتكون سابقة على التفكير بمعنى وعي الذات، ولو من حيث الرتبة لا من حيث تعدد العلل، أي أن لحظة وعي الإنسان لذاته هي لحظة وعيه لإرادته، فتكون الأصالة لحريته دائماً .

ومن جهة أخرى يتحدث الغرباوي عن الفقيه والعقل التراثي من خلال قضايا كثيرة يطول شرح تفاصيلها هنا في هذا المقال؛ مثل: الأحكام والاعتقادية وشمول القاعدة، والإيمان والعقيدة، والعقيدة الضابطة، والعقيدة والمعجزات، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث عن تجديد مناهج التوثيق، ومصداقية علوم الحديث، وتجديد المنهج، وخشية الراوي وضعف الرواية، كما يناقش أيضا الفارق بين العقدية والدين، وتعدد الأديان، واتجاهات الإصلاح، حيث يرى أن تلك الاتجاهات تحتوي علي ما هو سلفي وإصلاحي، وسياسي وتجديدي وتنظيري، ثم التأصيل العقلي .. ثم يتحدث عن مقاصد الشريعة فيبين أنها تشمل مركزية العدل، والسعة والرحمة، والواقع الموضوعي .. مقتضيات الحكمة في التشريع .. ملاكات الحكام .. مبادئ الحكام الشرعية .. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي .. علاقة الواقع بالتشريع .. حدود الشريعة في القرآن .. مفهوم الحدود .. ملاكات الأحكام القضائية.. الاجتهاد تاريخياً .. والتشريعات الإلهية وخصائصها .. الفقيه وجذور الاستبداد .. والفقيه واستلاب الوعي.. والفقيه والتكوين العاطفي .. الفقيه وقيم التفاضل.. الفقيه والاصطفاء.. الفقيه والولاء.. الفقيه ومبادئ الحكم.. الفقيه ومفهوم العصمة .. تفكيك العقل الفقهي .. النص والاستبداد .. وهلم جرا..

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " الفقه والعقل التراثي" لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع الغرباوي على تلك الأجوبة التي جاءت من خلال موسوعته الحوارية المسماه بـ (متاهات الحقيقة)، التي تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية، ومذهبية - سياسية.

فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي استطاع أن يعيد لنا كتابه العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد لنا أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا أطر جديدة لمفهوم الفقيه والعقل التراثي من خلال مشروعه الفكري في تجديد "العقل الديني" والقائم على مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في عصر جديد وايقاع التجديد فيه سريع، وفي زماناً مختلفاً عن زمن الفقهاء الأوائل الذين كتبوا وأبدعوا مدونات فقهية بلغة عصرهم وأولوياتهم . في زمناً مختلفاً في المأكل والمشرب، والملبس، وفي علاقات الإنتاج، وفي نمط التعليم، والخدمات الصحية، والعلاقات الاجتماعية، في السفر والمواصلات، حيث إيقاع الزمان اختلف، فهل اختلف فهمنا للزمان وأحواله؟، وهل نحن بحاجة إلي فقه جديد غير ما كُتب وُدون في القرون الماضية؟، وإذا اعتمدنا علي ذلك وحده فكيف، نجيب عن أسئلة زماننا التي لم يعرفها راود تلك العصور ولم يشهدوها؟ .

إن سؤال الفقه الجديد سؤال قديم جديد كلما مر الزمان ظهرت أسئلة جديد، وأحوال جديدة وتحديات جديدة، وليس أكثر من زماننا اختلافاً عن أزمنة القدماء، وليس أكثر من إجاباتنا على هذه الاختلافات تنوعاً واختلافاً قد يصل إلى حد التضاد .

في هذا المقال نحاول أن نعرض إجابة الأستاذ المبدع "ماجد الغرباوي" من خلال كتابه الذي صدر خلال الأيام القليلة الماضية وهو بعنوان " الفقه والعقل التراثي"، وفي هذا الكتاب أراد ماجد الغرباوي أن يجيب عن إجابة أبناء الفقه القديم على أسئلة العصر الجديد لنرى مدى استجابة ذلك الفقه لتحديات العصر والمتمثلة في : هل التجديد يكون في القوالب والأساليب والأمثلة ؟، أم أنه تجديد في مناهج النظر والاستنباط ؟

في هذا الكتاب وجدنا الغرباوي يحاول أن يقيم فرضية مهمة كما اعتقد، تعول على أن الفقه هو الفهم، ومنذ لحظة الوحي الأولى بدأ الفقه ومعه الخلاف . بيان النبي صلوات الله وسلامه عليه واجتهاده، وفقه أصحابه وتابعيه وتابعيهم، أجيال من العظام، تركوا لنا ميراثاً ضخماً من الفهم والوعي، ثروة من التجارب، وتفاعل فريد بين النص والواقع، حيث تغير الزمان، وتغيرت لغته ومفرداته، فماذا نفعل بميراثنا، هل نجدده أم نبدده؟!، نتجاوزه أم نتجاوز به؟! .

في القرن التاسع عشر كان أول لقاء بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، حيث الصدمة الأولى عندما اكتشف العرب أنهم بعيدون عن زمانهم، غارقون في ماضيهم، كانت البداية عند الشيخ "حسن العطار"- ( شيخ الأزهر الشريف وشيخ المجددين ورائدهم )، أول من نادى بتجديد الخطاب الديني، وأول من نادى بتجديد العلوم الإسلامية، كما ساهمت علاقته الوطيدة بمحمد علي باشا، في أن يكون أول صحفي في تاريخ مصر، والمؤسس الأول لتاريخ أول جريدة رسمية؛ وهي جريدة "الوقائع المصرية"، والدافع الرئيس لمحمد علي لتبني حركة التحديث والترجمة عن الغرب في كل العلوم ؛ يقول حسن العطار :" إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سمت همته به، إلى الامتناع عن غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة، من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم .

أودع العطار ثورته في تلاميذه، وكان أشهرهم وأقربهم إليه " رفاعة الطهطاوي"، الذي سافر بدوره إلى فرنسا، وألف عنها، واهتم بتجديد منظومة التعليم، ثم تلاه آخرون في شتى أرجاء الأمة العربية والإسلامية من أمثال : جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض، والعربي التبسي، وأبي اليقظان .. وغيرهم كُثر؛ جميعهم تركوا سؤال التجديد والتحديث، وحاولوا فهم دينهم بدنياهم، وإصلاح دنياهم بديهم، سواء بسواء .

والآن فالقرن الحادي والعشرين ما زال السؤال مطروحاً، فقهاً جديداً لعالم جديد ولكن كيف؟!

البعض يرى قراءة توفيقية بين زماننا وأزمنة القدماء، يعتمد أصولهم، ويجدد في فروعهم ( يوسف القرضاوي ومحمد عمارة )؛ وآخرون ينتقلون مباشرة من النص إلى الواقع بلغته وتحدياته ومناهجه العديدة (حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد)، وفريق ثالث يحاول التوسط بين هؤلاء وهؤلاء والإجابة أيضاً في ضوء مستجدات واقعنا المعاصر (ماجد الغرباوي) .

89 majed 600

حاول ماجد الغرباوي في كتابه الذي بين أيدينا، وهو كما قلت كتابه الأخير الذي صدر منذ أيام قليلة وهو كتاب " الفقيه والعقل التراثي"، الذي صدر في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، 2020م، حيث يقع الكتاب في 408 صفحة من الحجم الكبير، وقد تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الفقيه ومنطق العبودية، فلسفة التشريع، منهج التأصيل العقلي، الذي طرحه الكاتب بديلا للاتجاهات الاصلاحية الخمسة المعروفة، والتي لم تحقق شيئاً ملموساً. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي، وهي رؤية للباحث لمعرفة ملاكات الأحكام ومدى فعليتها للخلاص من جمود المدونات الفقهية. علاقة الواقع بالتشريع، والأهم دور مضمرات العقيدة، والنسق العقدي المألوف في استنباط الأحكام الشرعية، حيث ركز البحث على مجموعة مقولات كالعصمة، والولاية، وغيرها للخروج من متاهات العقل الفقهي وتداعياته الخطيرة، إلى رحاب العقل، واشراقة الدين بآفاقه الإنسانية والرحمانية.

وقد جاءت إجابة ماجد الغرباوي في هذا الكتاب ليؤكد أنه ما كان للفقيه أن يحقق مركزيته، ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، والمقدّس بغير المقدس، والإلهي بالبشري، فالتبس على الناس التمييز بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه، التي هي اجتهادات ووجهات نظر، وفهم للنصوص المقدسة، وقراءة تتأثر بقبلياته ومرجعياته وثقافته وبيئته ومصالحه. فتسبب انعدام الفواصل بين المتعالي والمحايث في تعميق مركزية الفقيه وفرض سلطته، باعتبارها تجلٍ لسلطة الدين أو سلطة الشريعة التي هي سلطة إلهية، فترى المكلّف هلعا يخشى مخالفة الفقيه حتى وهو يستهزئ بعقله، ويسلب إنسانيته. فهيمنة الفقيه التفصيلية تركت تداعيات خطيرة، نشير لها لاحقا. تداعيات لا يمكن تداركها ما لم نتحرَ أولاً مدى صدقيته وحدود شرعيته. وما لم نتقصَ جميع العوامل التاريخية والسياسية والطائفية التي ساعدت على تعضيد مركزيته وفرض سلطته .

وهنا يتساءل ماجد الغرباوي : هل الفقيه ضرورة؟، وهل يتوقف على وجوده شيء من الدين ومصير الإنسان؟، ومن أين استمد شرعيته وشرعية سلطته وولايته؟، ومن أضفى صفة القداسة على فتاواه وآرائه؟، وأساسا هل من حقه أن يصف الشيء بالحلية والحرمة أو الجواز وعدم الجواز، ونحن نعلم أن الأحكام توقيفية. أي تتوقف على وجود دليل صريح من الله تعالى؟. وهل صدر ما يؤكد سلطة الفقيه، واحتكاره للحقيقة الفقهية؟. وأسئلة جديرة تمس واقعه، ضمن سياقاته التاريخية والمعرفية. فنبدأ بتفكيك العقل الفقهي لتقصي جذوره، ويقينياته، ومدى تأثره بنظام القيم، ومنظومة الأخلاق التي كانت سائدة قبل وبعد البعثة. فثمة سياق تاريخي مهّد لدوره الخطير يجب مقاربته لفهم الحقيقة.

لم يكتف الغرباوي بذلك، بل أخذ يلح في السؤال فيقول فمن هو الفقيه إذن؟

وهنا يجيبنا فيقول الفقيه، بدأ من الصحابة، سليل نظام اجتماعي، يكرّس روح التبعية والانقياد لشيخ القبيلة، ويمنحه سلطات مفتوحة، فهو نظام طبقي بامتياز، يصادر حرية الفرد ويختزل وعيه إلى طاعة مطلقة للقبيلة وشيخها. فهو يلغي خصوصية الفرد، ويمنح الأب / الشيخ ولاية وقيمومة، يعتبره الجميع ضرورة لضمان وجود القبيلة ككيان يخضع الجميع لقوانينه وأعرافه وتقاليده. فثمة تماهٍ تام بين الفرد ومنظومة القيم القبلية، وهناك أخلاق تستبد بوعي الفرد وتلازم سيرورته، تمهّد لقبوله، مهما اختلفت تمظهراته. فالنظام القبلي ساعد لا شعوريا، على قبول النظام الديني، المتمثل بالنبوة آنذاك، حيث فرض الكتاب الكريم للرسول سلطات، أعادت لمنظومة القيم الجاثمة في أعماق الفرد العربي توازنه واستقراره. فثمة ولاية مطلقة للنبي هي ذات ولاية شيخ العشيرة وفقا لنظامها، وكرست روح التبعية والانقياد في نفوس المسلمين، وهو جوهر النظام القبلي. لذا حسمت رواية الأئمة من قريش الموقف السياسي لصالح قريش نهائيا وإلى الأبد بمساعدة قيم النظام القبلي، وقد مرّ بنا مفصلا بيان هذا النظام ودوره الخطير في مصادرة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تجلت بإقصاء الأنصار من السلطة رغم مكانتهم في الإسلام وعند رسول الله. ولا ميزة للشيعة عن السنة فكلاهما ينشدان نظاما قبليا قائما على قدسية شيخ العشيرة. ويؤمنان بالوراثة نظاما للسلطة والحكم، هذه هي الحقيقة التي يتستر عليها الجميع بواسطة مصفوفة روايات لا يمكنه الاستدلال على صحة صدورها، أو يلزم منها الدور، فتفقد قيمتها الاستدلالية .

ثم يستطرد الغرباوي فيقول : فالفقيه يحمل في أعماقه نواة النظام القبلي، ويقوم بتعزيزه لا شعوريا بعد اكتسابه صفة دينية وقدسية. وطبيعة النظام القبلي نظام عبودي، سيّد يخطط ويأمر، وعبد يتلقى وينفّذ. وكلاهما لا يحقق وجوده إلا من خلال الآخر، فيكون بالنسبة له ضرورة يتوقف عليها وجوده وتحققه خارجا، بمعنى رسم حدوده من خلال وعيه ومشاعره. لا من خلال كينونته. فلا يوجد صراع طبقي، ولا توجد إمكانية للثورة على أساسه، لتوقف تحقق وجوده على الآخر / السيد / الشيخ. فأغلب قادة الانتفاضات عبر التاريخ الإسلامي شخصيات قبلية قوية، لا تنتمي لطبقة العبيد. ولا أقصد بالعبيد العبودية الظاهرة أو الرق، وإنما أقصد به روحا ووعيا ونظاما أخلاقيا جاثما في أعماق الفرد، ومهيمنا على العقل الجمعي. فلا وجود لقاعدة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) فعلا، بل الأحكام محدودة، غير أن متطلبات النظام القبلي يستدعي الاستغراق في التشريع، لضبط سلوك الفرد، والإمساك بوعيه، مع تعزيز مكانة الشيخ / الخليفة / الإمام / السلطان / الفقيه. وبالتالي فدراسة جذور الوعي لدى الفقيه، وتحديد منحدراته يساعد على فهم سيرورة سلطته. فالدين الجديد استبدل الاسماء من شيخ القبيلة إلى نبي / خليفة / إمام / فقيه. وهذا قد لا يكون واقعا بالنسبة للنبي، لكنه استقر في وعي الناس، أن سلطة النبي هي سلطة شيخ القبيلة زائدا قدسية إلهية وأسطورية. لأن معنى الشيخ في الوعي الجمعي، هو صاحب السلطة، المتسلط، الذي يحتكر الامتيازات بفعل خصائصه العنصرية، فهو من طينة أخرى، ومن أقوام وسلالات بشرية خلقوا ليكونوا أسيادا على العالمين، وبهذا المنطق خضعت جميع القبائل لسلطة قريش، وتسيد رجالها على مقدرات المسلمين، بذات السلطة هيمنة الخلافة الراشدة ومن بعدها سلطة الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، ولما وصلت النوبة للسلطة العثمانية استعانت بالفقيه ومنصب مشيخة الإسلام. ولعل هدف الآية الآتية تذكير الشخص العربي بقيمه التي على أساسها منح شيخ قبيلته ولاء مطلقا، فأرادت أن تقول له أن الأنبياء أحق بالولاء إذا كنت تنظر لنقاء العنصر البشري: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

ما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين.

 ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

 ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

 ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن: ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة؟ وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية.

***

ا. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة، وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

* مقدمة كتاب: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي، د. محمود محمد علي، ط 2020 م، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا ودار الوفاء لدنيا، الاسكندرية – مصر.

 

النظرية الغرباوية في الميزان "نماذج"

ماجد الغرباوي قامة إعلامية وإبداعية في ساحة الفكر والثقافة العربية دون منازع، فقد استطاع بفكره أن يخصص له مساحة واسعة لنشر أفكاره والمتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي مفكرا، مُنَظِّرًا وناقدًا في نفس الوقت فقد ارتكزت ابحاثه على الخطاب الديني وتحرير العقل البشري، مسلطا الضوء على كثير من القضايا التي نالت حظا من النقاش لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر والإستبصار، كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني ولماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، وما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأيّ نهوض حضاري، ويمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه وأبحاثه متتبعا الواقع الراهن.

في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" وما قدمته من أفكار ورؤى حول الإنسان في تقدمه تارة وتأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، وماهي عوامل تراجعه عن مواكبة العصر والحداثة، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية والفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي وما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية والسياسية والثقافية، فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري وتحريره من القيود عن طريق الحوار مع الآخر وممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي والرأي المخالف/ المختلف، وبالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي، ومن جهة أخرى حول مسألة الطائفية، وفي كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا والآخر، الثابت والمتغير، المقدس والغير مقدس، يراجع فيها المفاهيم والأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ ويُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت وقوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة.

 وقد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ورغم ان اسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه لا يعتمد أحيانا على الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين، فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره ورؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" والتحدي من أجل كشف الحقيقة ورفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الإرتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتاب د. صالح الرزوق (جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي)، الذي ناقش فيه كتب الغرباوي: "إشكاليات التجديد"، و"جدلية العنف والتسامح " خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، وفي كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون وينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، وقد يتأخر لظروف إجتماعية تؤثر عليه ومحيطه والبيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي وما تحويه نظرياته من أطروحات.

التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟

1853 اشكلات التجديدفكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن اسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي اسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين والمفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع وأبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بانجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، وكما جاء في الصفحة رقم 11 من الكتاب يرى ماجد الغرباوي ان التبعية إحدى مظاهر التخلف لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة، ومكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية، ويشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الإستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي وقمع المعارضة وتلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الإعتقالات.

 ويربط ماجد الغرباوي الإستبداد الديني في العالم العربي والإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة وهذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن وتأويلاته والفتاوي التي أباحت قتل الآخر، وهتك عرضه وحرمته، ومما زاد في تفافم الحالة تعدد الخطابات، بين الدينية، الطائفية والقومية، ولا ينفك ماجد الغرباوي ان يقحم المرأة في أطروحاته، كما جاء في الصفحة 19، عندما اعتبر المرأة مقياسا لتطور المجتمع، وقمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والإختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق والواجبات، ولذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء، الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف والإتهام والطعن في الأعراض.

والتجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعادة ووضع آخر في مكانه، وإنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين ومقاصده وغاياته ..الخ، في ضوء تكون وعي الإنسان، وهذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت والفكر والثقافة، رفع الجمود على النص وتقليد السلف، والإنتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات تمتص طاقتنا ولا تساهم في إثراء النهضة، للإشارة أن كتاب إشكاليات التجديد طبع مرتين، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة والثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، وهذه الطبعة الثالثة، مع مقدمة بعنوان: التجديد والفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي والفكري.

و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، وقارن بين الثقافة المنغلقة والثقافة النقدية الجادة (المنفتحة)، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، وينتقد ماجد الغرباوي الحكم الأموي الذي مارس تزييف الوعي، إذ اتخد بعض علماء السوء بطانة تزور الحقائق وتضلل الأمّة التي هي بحاجة إلى وعي رسالي، ويشير ماجد الغرباوي في الصفحة 24 كيف واكبت الدراسات سير الرجال والإهتمام بأئمة أهل البيت في مكافحة الغلو والتطرف الفكري، في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث والدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث ولا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، والثالث عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في اعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي، ولذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع وتشخيص أخطائه، وإعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا وفي تجديد هويته الثقافية.

تحديات العنف

1854 تحديات العنفوتشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، ولا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال ارهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا، ما يلاحظ أن ما داء في هذا لكتاب عبارة عن تقرير، تحدث فيه تحدث ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.

يطرح الغرباوي مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور والتفاقم؟ وهل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة والإنتروبولوجيين، مستعينا بحوار الإنتربولوجي المغربي عبد الله حمودي وذكر رد هذا الأخير في الصفحة 96، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك وحضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال ومن ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث في الصفحة 32 عن حادثة ابني آدام (قابيل وهابيل) التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، وهذا يعني كما يقول الغرباوي أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، كما يقدم الغرباوي صورة واضحة لفكرة "الجهاد" إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية باسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية.

 يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها والتنقيب عنها في اعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، اذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ذلك يكون عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة الارهاب المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الاخيرة مرجعية يرتكز اليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، ويقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ ويرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها وتدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.

جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي

 هل الغرباوي رجل إصلاح؟ ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحديد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري وله قيمة فوق تجريدية وهو مرتبط بالتجديد، حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا وأردفه بالتجديد وفي جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح والعكس، كما أن جل رجال الإصلاح من المشرق العربي إلى المغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد والإصلاح والتسامح والتعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات والتهم، وهذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، ولذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني، إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي وكان مجددارغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين.

1855 التسامح ومنابع اللاتسامح

أما مسألة النهضة فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء وبعث الدين بلا انحرافات، والثانية ربط السياسة والأفكار بالعقائد، كما يرى الغرباوي أن شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الإستراتيجية، فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، ويلاحظ أن الغرباوي كما جاء في القراءة التي أجراها الدكتور صالح الرزوق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح والإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين ومنهم باقر الصدر وروح الله الخميني وأفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، ولذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الإجتهاد حتى في الثوابت، ومن هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي وعقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية، فهو يرى الحرية مطلب ديني وحاجة غريزية.

 

متابعة علجية عيش

 

حينما يكون حاضرنا محتلاً من قبل الماضي السحيق، بكل ثقله الدموي وإرثه العنيف وانشقاقاته البغيضة، لابد أن يتكرس هذا الاحتلال أغلالاً فكرية تلجم العقل وتجمده وتجعله من تبعيات ذلك الماضي. ولهذا فإن العقل قد يعيش في عصره الحاضر وفي ألفيته الثالثة إلّا أن أدواته الفكرية وأساليبه التحليلية لازالت خاضعة إلى ذلك الماضي. ذلك الماضي الذي لاينفك يجر العقل إليه ويسحره بسحر الطهورية الافتراضية والمجد الخادع. ومن هنا فإن العقل يعيش مأسوراً مصفداً في ظلمات الإنجماد التأريخي بعد أن ضلّ طريق التنوير (السير مع التاريخ) فاقداً لبوصلته الفكرية رازحاً تحت تخدير عام يسلبه كل قواه ويمنعه من الحركة. في حين تمكنت عقولٌ أخرى مماثلة، مرّت بذات التجربة، من الإنعتاق من ماضيها الثقيل والإنفكاك من إرثها وتراثها الدموي فانطلقت في مسيرات التنوير الفكري تكسب الوقت وتتماشى مع التأريخ لكي تتناغم فكرياً مع عمر العقل الإنساني، ولو نسبياً.

إن الظلمات الفكرية التي تتولد من زواج العقل مع الماضي السحيق وعشقه له واقترانه به وذوبانه الأبدي فيه كثيرة لا تعد ولا تحصى. وهي ظلمات ينتج بعضها بعضاً تفرّخ وتنتعش وتتكاثر وتزدهر وتترعرع وتتفرّع في متواليات هندسية، خصوصا في بيئات الجهل. تلك البيئات التي لاينكرُ منكرٌ أنها أطبقت على الواقع الإسلامي لمدة ألف عام على أحسن التقادير. ومن أبرز نتاجات هذه الظلمات هو التيه العام؛ تيه العقل وتيه الفكر وتيه الهوية وتيه الذات وتيه الموقع الحضاري وتيه النظرة الى المستقبل.

ومن هنا فإن حجم التنوير المطلوب لتبديد هذه الظلمات، أو لكشفها على الأقل، يكون بحجم الجبال ويحتاج إلى همم عالية ونفوس كبيرة وشجاعة فائقة وفروسية منقطعة النظير. ذلك إن سحر الظلمات الواهم وما ألقاه من رعب في قلوب المسلمين، أو ما صنعه من ألفة وحميمية نتيجة طول فترته معهم، عطّل عقولهم وجمد أفكارهم وأقفل أذهانهم بأقفال القداسة المتمددة على عرض الفكر الإسلامي. ومن ذا الذي يحطّم تلك الأقفال غير المقتدرين من ذوي الهمم العالية ومن فرسان الفكر والشجعان والمصلحين الذين لا يقدسون غير الحقيقة؟

وفي هذا الصدد يمثل كتاب إخفاقات الوعي الديني شمعةَ ضوءٍ وضياءٍ يحملها الأستاذ المُتنور والمُنوّر ماجد الغرباوي في محاولة جريئة لكشف الطريق نحو الخروج من التيه العام. وأولُ ما يُسجَّلُ فيه للغرباوي في هذا الكتاب هو قدرته الواضحة على التحلل والإنفكاك أو الإنعتاق من عُقد الخوف والحذر من مناقشة مواضيع حرجة وحساسة ربما تجنبها غيره لاعتبارات معروفة. هذا بالإضافة الى إيمانه، الذي يبدو متزايداً، بالنقد الذي يعتبره الغرباوي من أبرز مقومات التغيير والنمو والتطور الفكري‘ الذي من شأنه أن يحقق طفرات باتجاه المشروع الحضاري.

1628 اخفاقات الوعييتكون الكتاب من مجموعة من الأسئلة القوية والمهمة والجريئة وهي في مجموعها كانت ستة وعشرين سؤالاً. هذا بالإضافة الى كم وفير من التعليقات لمجموعة من الكُتّاب والباحثين والناقدين والأدباء والشعراء والقاصّين والمتابعين الذين أطْرَوا على الكتاب وأثنوا على مؤلفه، كما قدّموا نقوداتهم عليه أيضاً. ويشعر القارئ للكتاب بسلاسة كبيرة وهو ينتقل من سؤال إلى سؤال في حوارية فكرية موضوعية عميقة وهادئة تمكّنَ فيها المحاور السيد سلام البهية السماوي من أداء واجبه الحواري بشكل ملحوظ تمثل في إستخراج مكنونات الغرباوي ومتبنياته الفكرية بشكل واضح دون لبس وكامل من غير نقص. ولقد تنوعت المواضيع والأفكار في خضم الأسئلة التي طرحها السماوي على الغرباوي لتشمل التاريخ والسياسة الفكر والعقيدة والفقه المجتمع والمرأة بالإضافة الى مواضيع أخرى.

يجيب  الغرباوي على سؤال فيما إذا كان الإسلام يشكل نداً للغرب في الوقت الراهن بقوله (النديّة تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين. أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما. فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم. فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء)1. وهو بهذا يشير بوضوح إلى غياب القابلية الإسلامية الآنية على الوقوف بِنِدّية حقيقية مع الطرف الحضاري الآخر (الغرب) بعد أن فقد العالم الإسلامي مقومات الندية والتكافئ. فما عدا وجود البنية القيمية الأخلاقية النظرية عند المسلمين، لا يملك المسلمون اليوم شيئاً من مقومات الحضارة التي تؤهلهم لخوض الصراع مع الغرب بتكافئ نسبي مقبول. وهو واقع يصعب دحضه إذا ما لاحظنا التبعية المخجلة، بل المهينة، التي تكبل العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه وتجعله تابعاً للغرب ومعتمداً عليه في أبرز الإحتياجات وفي كل مناحي العلوم بما فيها العلوم الإنسانية. لذلك يقول ماجد الغرباوي: (لا أنكر أن بعض الدول الإسلامية حققت نهضتها بالاستفادة من المنجز الغربي، ثم بناء حاضرة تفاعلية، كما بالنسبة إلى ماليزيا، حيث تعد من الدول المتقدمة الآن. لكن هذا لا يكفي، ونحن بحاجة إلى مزيد من العمل بعد ممارسة النقد والمراجعة والاعتراف بالخطأ، بعيدا عن أي تحيز طائفي أو أثني)2. فهو يرى إن جزءاً كبيرا من عملية إصلاح هذا الخلل وفك التبعية والإعتماد على النفس يتمثل في الإعتراف بالحقيقية والإجابة على الأسئلة التي أطلقها المفكرون المسلمون، كجمال الدين الأفغاني والكواكبي وغيرهم، في البحث عن أسباب تخلف المسلمين وفشل النهضة عندهم. ولا يجب أن يخاف المسلمون، إن أرادوا الإصلاح، من نقد تراثهم و الإعتراف بأسباب الفشل مهما كانت لأنها السبيل الوحيد للتشخيص قبل تقديم العلاج. وعندها سيكونون قادرين على فهم ما أسماه الغرباوي ب "الفاجعة الحضارية" التي تتمثل في إمتلاك المسلمين لثروات هائلة وطائلة فوق الأرض وتحتها بينما تتصاعد في بلدانهم معدلات الفقر والتخلف والبطالة والجهل والأمية وتنخر في أجسادهم آفات الحروب والأزمات وتفتتهم الصراعات والإنقسامات .

ولم يزل الغرباوي معتزاً معتداً بتراثه الإسلامي بما يمثله من قيم حضارية إيجابية يمكنها أن تشكل علامة فارقة في الصراع الحضاري مع الند الغربي وبما تمثله من مناطق غنية لا تزال قابلة للكشف والإستثمار، خصوصا في حب العلم وطلبه والحث عليه وإعطائة منزلة الجهاد. ولا يهمل الغرباوي ولا ينسى ولا ينكر أيضا أن مشاعل النور الأولى ومنائر العلوم التي أهتدى بها الغرب لها صلات لا تنكر بجذور المسلمين الأوائل الذين ظلت كتبهم مراجعاً فكرية وعلمية في معاهد الغرب ومؤسساته العلمية والاكاديمية لقرون طويلة، (وتؤكد الوثائق أن الغرب بنى حضارته ونهضته على علوم المسلمين. وظل كتاب القانون لابن سينا مثلا يدرس في جامعاتهم لا سيما الفرنسية إلى وقت متأخر)3. ولكن التباهي اليوم والتفاخر بذلك الإرث لايجدي نفعاً والمسلمون فقراء في غناهم.

وفي ردٍ للغرباوي على السؤال العاشر صفحة 33 حول إمكانية حصول حوار حقيقي بين الإسلام والغرب، لا يستبعد الغرباوي إمكانية حصول هذا الحوار خصوصاً في ظل التطور الهائل للوسائل التقنية والثورة المعلوماتية العامة والشاملة التي تعززت وترسخت في أول عقدين من الألفية الثالثة. إلا أن الغرباوي يشترط وجود بعض الممهدات التي من شأنها أن تُفضي إلى إمكانية حصول الحوار. ومن بعض هذه الممهدات هو وجود جوٍ سياسي واجتماعي هادئ خالٍ من التقلبات والعنف والفوضى بالأضافة إلى وجود بيئة مستقرة نسبيا يمكن للحوار العقلي أن يكون فاعلاً ومسموعاً فيها. ومن أبرز ما يعكّر صفو هذا الحوار بحسب رأي الغرباوي هو انتشار موجات التطرف الفكري عند جماعات كثيرة من المسلمين ومن أبرزها حركات القاعدة وداعش ومن يسير على نهجهما. فلا يمكن للحوار العقلاني الهادئ أن ينطلق ضمن بيئات موبوئة يختفي فيها التسامح والمقبولية والتعايش و ينتشر فيها القتل والذبح والسبي التهجير والعنف والدماء.

كما ويعتقد الغرباوي بشكل قد يكون جازماً أن الغرب بشكل عام بات، وربما لا يزال، مهووساً بنظريات الصراع بين الحضارات ومنها ما أسس له الكاتبان صموئيل هنتغتون في كتابه الموسوم بـ (صراع الحضارات) وفرانسيس فوكوياما الذي كتب نظريته في ما أسماه بـ (نهاية التأريخ والرجل الأخير). فتراه يقول: (إن الغرب مسكون بنظرية هانتغنتون في صراع الحضارات، وأن نقاط اللقاء بين الطرفين ستكون نقاطا حمراء، وصراعا ثقافيا دمويا؟ أنا شخصيا ضد هذا التنبؤ إلا في حالة تمادي المتطرفين الإسلاميين. الشعوب الغربية باتت تعي حجم تداعيات الحروب والصدامات، وقرارات الدول الغربية رغم أنها قرارات مؤسساتية لكن تراعي مشاعر شعوبها وتوجهاتها. والشعوب ترفض الصدام)4.

 إن هذه المتبنيات الفكرية التي وجدت صدىً عريضا في المؤسسات الفكرية والأكاديمية وحتى السياسية والإقتصادية تشكل ساتراً كثيفا عند فئات غربية كثيرة وتحول دون إيمان حقيقي بمبدأ أو بقيمة الحوار الإنساني (أو حوار الحضارات كما أسماه الرئيس الإيراني السيد محمد مهدي خاتمي). وهو ما ينذر باستمرار التناوش والصراع الذي قد يفضي في لحظة ما إلى صدامٍ عنيف وربما يقود الى حرب كونية.

 ولا يقف الغرباوي معصوب العينين أمام تشخيص دقيق واضح وصريح للإزدواجية الفكرية والنفاق السياسي عند الغربيين في تبنيهم لخطين/ فكرين متناقضين في فهم وتطبيق القيم الديمقراطية والليبرالية. وتتمثل هذه الإزدواجية أو هذا النفاق في وجود خط/فكر محلي ختص ببلدانهم وفكر تسويقي خارج حدودهم. وهذه الإزدواجية في نظر الغرباوي تقف حاجزاً قويا متينا عند كثير من الجماعات والمجتمعات الإسلامية في مقبولية إستيراد وتبني الصالح من قيم الغرب الحضارية، في مختلف المجالات.

ولكن، وكعادته في توخي الموضوعية والواقعية، يميط الغرباوي اللّثام عن عقدة مشتركة تتميز بها الثقافتان الإسلامية والغربية، وإن كانتا متباينتين، تتمثل في تبني النظرة الدونية للآخر. إذ كانت إجابته تقييما حقيقيا للواقع بقوله: 

(للأسف ما زالت الأرضية غير مؤهلة لاحتضان الآخر، لا لهم ولا لنا. فهم يعتبروننا "أقصد الشعوب وليس الحكومات" شعوبا متخلفة تقتات عليهم في كل ما يحتاجون، وهم أرقى جنسا. هذا الشعور موجود لدى شريحة واسعة منهم، خاصة العنصريين منهم. ونحن أيضا ما زلنا نعتبر الآخر كافرا، نفتي بنجاسته، وتجنب الاختلاط به. وما زلنا نتحدث بلغة أرض الكفر وأرض الإسلام)5. ففي حين تعتبرُ الثقافة الغربية العنصر الأبيض عنصراً سامياً متفوقاً وتعتبر الآخر جاهلاً متخلفاً أمياً لا يستحق الا أن يكون تابعاً ومحكوماً، ينعكس ذات الشيء في أفكار المسلمين "وليس بالضرورة الإسلام" وخصوصا الأفكار الدينية التي تنجس الآخر وتكفره وتحط من قيمته الإنسانية. وفي ذات الوقع هناك طيف واسع من العرب والمسلمين يرى في الغرب النموذج / العدو. فهو العدو الذي تسبب في انحطاطنا وإقصائنا، وفي ذات الوقت هو النموذج الحضاري الذي يسعى الجميع للاقتداء به، بل والعيش في ظل نظامه الديمقراطي، ورفاهية مجتمعاته.

وعلى الرغم من ذلك يعترف الغرباوي بمتانة النظام الديمقراطي في كثير من الدول الغربية التي سخرته، في العموم، لتحقيق مصلحة الشعب وتحقيق منجزات الرفاه الإجتماعي للإنسان عن طريق إحترامه واحترام حاجاته وحرياته. فقد ترغب الحكومات الغربية أو تتمنى أن تستخدم سلطتها ونفوذها وتفوقها العسكري والعلمي والتكنولوجي من أجل إستغلال موارد الشعوب الفقيرة، إلا أن ذلك ليس ممكناً على الدوام خصوصاً إذا ما قوبل بمعارضة شعبية قوية عريضة وواضحة.

ثم يتناول الغرباوي مواضيعاً مهمة وأكثر جرأة لها مساس بالواقع المعاش قد انعكست آثارها وتأثيراتها على العامة في كل مجتمع إسلامي منذ العصور الأولى للإسلام من قبيل الجهاد العنفي ونقد السلف واهمية القرآن والوحدة الإسلامية. إذ يرى الغرباوي أن لا حاجة ولا ضرورة أصلاً للجهاد بمعناه القديم (حمل السلاح والغزو) خصوصاً بعد أن أعلن الوحي فتح مكة ودخول الناس أفواجاً في دين الله. فهو يعتقد أن (الجهاد لم يعد فعليا بعد انتصار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا.. وما بعد الرسالة مختلف لا يصدق عليه جهاد في سبيل الله. إنه دفاع عن النفس وردع العدوان. لكن فقهاء السلطة عبأوا الناس للجهاد إرضاء لهوى الخليفة والسلطان)6. فما بقي حينذاك هو بناء مادي ومعنوي وحماية بلدان والدفاع عنها ولا حاجة ولا ضرورة لاستمرار الغزو أو ما يعرف بالفتوحات. عوضاً عن عدم وجود تفويض أو تشريع يبيح هذه الأعمال التي أكسبت الإسلام صفة العنف (السيف). ولكن هذه الأعمال استمرت بمباركة فقهاء السلاطين إرضاءاً لشهوة الخليفة والأمير في كسب الشهرة وبسط النفوذ والتمدد الجغرافي فضلا عن جني المزيد من المغانم الإقتصادية من خراج ومداخيل وغلال ونساء وأراضٍ الخ.

ولقد تكرست هذه الصفات والمظاهر (الجهادية) في الفكر الإسلامي عند المسلمين بعد أن أعطوها غطاء شرعياً من خلال تأويلٍ مطاطٍ للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وزادوه بإضفاء العصمة على السلف من الصحابة وآخرين حتى أصبحت جزءاً لا يتفكك من فكر المسلمين وتراثهم. يبقى القرآن عند الغرباوي مركزاً مهماً وفريداً من مراكز إعادة إنتاج وعي جديد للأمة الإسلامية من خلال البناء على ما تقدم أعلاه ومن خلال إيجاد أدوات وأساليب عصرية علمية جديدة ومختلفة يمكنها استخراج ما استودع فيه من فكر ووعي وثقافة وعلم وهذه الأشياء طبعاً تشكل المقومات والمكونات الأساسية لكل حضارة. يظهر ذلك جلياً  في إجابته حينما قال: (القرآن محور الفكر الإسلامي، ومرجعيته، فهو يدخل عنصرا أساسا في فكر المسلمين، من حيث وعيهم للحياة، ودورهم على الأرض. فقدم القرآن تصورات كافية، ورسم أهدافا مفتوحة، عززها بمحفزات مادية ومعنوية)7.

ومن أبرز الكنوز القرآنية ومستودعاتها القيمية والفكرية التي تحتاج التركيز عليها من أجل خلق الوعي الحضاري، كما يرى الغرباوي، هي قضية الوحدة الإسلامية، والتي تشكل حجر الزاوية في أي مشروح حضاري يهدف إلى البعث والنهضة. فبدون إعادة البحث والنظر في إيجاد فهم حقيقي وجديد لمفهوم الوحدة الإسلامية في القرآن لن يستطيع المسلمون من الإنطلاق في مشروع النهضة الحضاري. وكيف لهم ذلك وهم اليوم يمزق بعضهم بعضاً وينحرُ الأخ أخاه بدوافع مذهبية أو طائفية أو عرقية أو قومية أو مناطقية الخ؟ وكيف للوحدة أن تتحقق دون وجود فهم متبادل بين المكونات الإسلامية ودوت الإيمان بالمشتركات؟ يكثف الغرباوي من تركيزه على أهمية مفهوم الوحدة ويستشهد لذلك بالقرآن الكريم: (إذاً وفقا للمنطق القرآني التمسك بحبل الله يضمن وحدة المسلمين، بينما التنازع يمزقهم. وهذا منطق لا يستقيم إلا بشرطه، وشرطه هو التمسك وعدم التنازع. فالقرآن من حيث المبدأ قادر على تماسك الجماعة المسلمة، بمعنى أنه قادر على تأسيس وعي كامل لمسألة وحدة المسلمين، من خلال حثه على الأخوة، والإيثار، والتسامح، والعطاء، إلى آخره، وكلها عناصر تساهم في وحدتهم)8.

وبينما يسير الغرباوي بين ألغام الفكر الإسلامي ويحاول أن يفجرها عن بعد، أو عن قرب أحياناً، لا ينسى أن يحيل القارئ إلى المظاهر المدنية في الإسلام والتي يمكن اكتشافها وإعادة إنتاجها عن طريق تبني بعض القيم الحضارية التي يهتم بها المسلمون بكل أطيافهم، والتي لا تتعارض مع قرآنهم، وإن أخفوا ذلك الإهتمام. ومن بين تلك القيم قيمة الحرية التي يعتبرها الغرباوي من القيم الجوهرية للإنسان والتي يعدو الأنسان من دونها مسخاً دون روح. فقيمة الحرية تعتبر من القيم المهمة التي لا يستطيع الإنسان أن يكتشف مواهبه الذاتية التي يحتاجها في حياته العملية أو أن يطلقها من دون الحرية. وكذلك لا يمكنه أن يتعرف على ما أودع الله فيه من قابليات ومواهب وقدرات تتعلق بمسؤليته الكونية وهو يفتقر الى بيئة متحرررة من القيود بكل أنواعها. إن أهمية الحرية تكمن في كونها وسيلة يستطيع الإنسان من خلالها أن يتحمل مسؤوليته الكونية بإعتباره خليفة في الأرض يسعى إلى فك ألغاز الكون في الآفاق والأنفس، وهل تكون هناك مسؤولية دون حرية؟ وهل يكون هناك عقاب أو حساب أو ثواب دونما وجود الحرية؟

وبعد بلوغه الى هذه القمم، يصل الغرباوي إلى فصل الخطاب ويقترب من نهاية المطاف في رحلة "الإخفاقات" إذ يسعى جاهداً للمناداة بتحرير العقل الإسلامي من القيود التي تحاول شده الى قيمها البدوية والقبلية والعشائرية وإعادة إنشاء قيم بديلة تتمثل في الأيمان بالمجتمع المدني الذي يؤمن بسيادة القانون، والذي يمثل بدوره مدنية العقل ويضمن حريته وحرية أفكاره بغض النظر عن الإعتبارات العنصرية أو القبلية أو العرقية وغيرها. فهذه الحرية التي تكون في ظل هذا المجتمع تكون كفيلة بخلق جو عام تسود فيه القيم الإسلامية الكبرى التي تتمثل بالعدل والإنصاف والمساواة.

وكغيره من المفكرين المعاصرين، يدعو الغرباوي الى التوازن في فهم أسباب التخلف والتراجع (النكوص) الفكري ومن ثم الحضاري عند المسلمين وتشخيصها بشكل علمي تجريدي، كما ويدعوا الى التحلي بالعقلانية في ردود الأفعال لهذه الأسباب. فبين الإفراط في كره الذات وجلدها عند البعض ومن ثم الهرع الى الضفة الأخرى والإرتماء في أحضان الخصم وتبني قيمه عن طريق الإستنساخ الثقافي المطلق، وبين الإنكفاء على الذات وحجبها ومنعها وحرمانها من التواصل مع الآخر ورفضه كلياً، يقف الغرباوي موقفاً وسطياً يلتزم فيه بنداء العقل بالإضافة إلى ما يفرضه الواقع: (الاخلاق والممارسات العبادية لا تتنافى مع العلم والمعرفة، وانما تسددها وتؤطرها، كي لا توظف لتحقيق غايات دنيئة. وبهذا يكون الدين والأخلاق أمرين ضروريين للحد من تمادي استخدام التطور التكنلوجي، سيما على صعيد الاسلحة الفتاكة، ووسائل الاتصال الحديثة)9. إذ يرى الغرباوي إن الرصيد الأخلاقي القيمي الذي يمكن للعبادة الدينية أن تنتجه على المستوى العملي لاينبغي له أن يتنافر مع العلم وتطوره المتسارع وغزوه لمناحي الحياة وتشعبه في كل تفاصيلها. بل يشدد الغرباوي على أن للأخلاق ومنظومتها القيمية، المجمدة، في الفكر الإسلامي أهمية كبيرة في رفد الحضارة الإنسانية. فهذ المنظومة يمكنها أن تلعب دوراً مهما في ترشيد الطيش التكنلوجي والحد من تماديه الغريزي الذي يؤثر سلباً على المشروع الحضاري الكوني الكبير للإنسان ويجره بعيداً الى مناطق الذاتية والشخصانية والأنوية.

ويختتم الغرباوي الحوار مع السماوي بصوغه لمصطلح "اليقين السلبي" الذي يراد منه ما ينعكس من إعتقادات إسلامية مشوهة متراكمة نتيجة الفهم الخاطئ، أو الغير صائب للتعاليم الدينية. واليقين السلبي عند الغرباوي (ما يعيق الفعل الحضاري من جزميات وقناعات راسخة". ويقع على الضد من اليقين الايجابي. فايمان الفرد بوجود خالق ويوم حساب بعد الموت يعد يقينا ايجابيا لانه يعزز التقوى ويعضّد وازع الخوف، ويحول دون ارتكاب المحرمات والموبقات)10. هذه الإعتقادات، كالإعتماد المطلق على الغيب في مثلاً في صنع المستقبل دون السعي إلى كشف الأسباب، تقود الإنسان الى التعاسة بدلاً من أن توفر له الراحة والاطمئنان النفسي والسعادة. في حين إن اليقين الحقيقي الخالص هو الذي يقود الى السعادة وذلك بما يقدمه من فهم واقعي وعلمي للأشياء وبما يوفره من دافع روحي لتجنب الأخطاء والمضرات والآثام.

ألف شكر للأستاذ والمفكر ماجد الغرباوي والشكر موصول للسيد سلام البهية السماوي على هذه الحوارية التنويرية الممتعة.

 

إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري

حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي

عدد الصفحات: 120

الحجم: متوسط

الطبعة: 2016 م

اصدار: مؤسسة المثقف ودار العارف

***

قراءة: أحمد راضي الشمري 

........................

هوامش

1- كتاب إخفاقات الوعي الديني، ص: 18

2- المصدر نفسه، ص: 23

3- المصدر نفسه، ص: 26

4 - المصدر نفسه، ص: 33

5 - المصدر نفسه، ص: 34

6- المصدر نفسه، ص: 36

7- المصدر نفسه، ص: 39

8 - المصدر نفسه، ص: 41

9 - المصدر نفسه، ص: 54

10 - المصدر نفسه، ص: 58

 

 

يطرح نص الشاعر: ماجد الغرباوي مقولته انطلاقاً من الواقع الذي يبدو مثالاً يستقي  الشاعر منه معطيات قراءة بصرية تنعكس في لغته التي تتمرأى أبعاد التجربة بما فيها من آمال وآلام، وإذا  كان الأدب بشكل عام يبني اشتراط رؤيته بما يستطيع التعبير عنه؛ فإن الشعر يبدو وفق هذا الفهم أكثر قدرة على نقل الواقع، وتجلية إرهاصاته، ويظهر في شعر: ماجد الغرباوي  أنَّ النص الشعري يجسّد تمثلات الواقع وفق بعدين بعد الواقع الحقيقي، وبعد الواقع المثال، وهو ما يتبدّى في قصيدته الموسومة بــ: (يتهادى حُلماً) التي يعلن فيها العنوان عن أولى تبديات تلك العلاقة في بعدي الواقع المثال، الواقع الحقيقي، فقد جاء تريب العنوان على النمط الفعلي، وهذا البناء يرمي إلى تأكيد الحركة التي تتولّد عبر صيغة الزمن للفعل الحاضر يتهادى، وما يحمل هذا الفعل في بنيته الصرفية من إيحاءات دالة على الحركة التي تتشكّل وفق نمط يقوم على التدرّج والمتابعة وهو ما يتساوق دلالياً مع حالة الارتقاء التي تستبطن دال (حلماً)، والحلم هنا دال تعبيري على العلو، ورغبة في تحقيق مأمول بعيد المنال .وبهذا يُؤسّس العنوان لعلاقاته البانية للمتن في السياق النصي الذي يبدأ بالحالية يقول:

نافرةً هوتْ زنابقُ البحرِ

توقاً الى رَعشةِ اندهاشٍ

سَرَقَتها آلهةُ النارِ

فَطافَتْ بها سبعةً ..

تَتَهجد ...

تُرتّـلُ قداساً مكتومةً أنفاسهُ

وتَطوفُ حولَ مَدارٍ

مشدودٍ لذلك الفجر

لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ

تُشاكسُ دَمدَمات المَطر

وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً

لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير

يكشف عن  مثال الواقع  والواقع المثال؛ فمثال الواقع  يتمظهر بدوال: (البحر، النار، المطر، الريح، العصافير، جاءت هذه الألفاظ واقعية مرتبطة بالحالة الحسية للإنسان؛ فهي مما يرى ويُسمع) فيما يتجلى واقع المثال بدوال: (توق، اندهاش، طافت، تتهجد، الفجر، عشة، ترتل، قداس،) فهي ألفاظ ترتبط بالجانب المعنوي للإنسان ومشاعره السامية ، وفي هذا الجمع بين طرفي الواقع والمثال يبدو النص الشعري مرتهناً للحظة إبداعه التي تتشوّف إلى رؤية خاصة تُمكّن من الجمع بين الواقعين في إطار العاطفة التي تجمع الشاعر بالمرأة الحبيبة يُماهي بين الجسد والروح في لحظة توهّج عاطفي:

يبدو الواقع المثال والمثال الواقع واقعاً يمازج فيه الشاعر بين الممكن والمستحيل، والأمنية والحقيقة، وهو ما يتكشَّف بإظهاراته اللغوية التي جاءت في الزمن الحاضر عبر ترداد أربعة أفعال: (يتوهَّج، يُغازل، تراود، تُطارد) وإحالات هذه الأفعال غير خافية في دلالتها الزمنية التي تعني الاستمرارية في الحدث المستقبلي، وعلى الحركة المتنامية على المستويين الحسي الانفعالي  ولنتأمل قول الشاعر:

أَغدو وأنا المُتَيمُ ... شفقاً

يَتَوهجُ فوقَ شَفَتَيكِ

يُحيل الفعل الأول:  يتوهَّج على التألق والإشعاع، وإضفاء النور على المدى المؤطّر للحالة الموصوفة، وفي قوله:  حينما يُغازلُ دفؤكِ لهاثَ أنفاسي نلحظ أنَّ الفعل يُغازل يشير إلى اللغة، (كلام الحب)، وهذا الكلام هو من أجمل أنواع الحكي؛ لأنه من أكثر الفنون جاذبية للإنسان،وأكثرها قدرةً على منح المتحدّث طاقة خلَّاقةً مُضافةً، إنها تعبير عن تشظّي الدلالات القادرة على تطييف ألوان اللغة بإشاراتها الرامزة التي تنهض باللغة وفق مستويات من التشكيل الذي ينحرف عن مسارات اللغة بمواضعاتها المعجمية المألوفة إلى انزياحات تُسهم في توليد لغةٍ من اللغة:

تُراودُ أَحلامي جَمراتُ شَوقٍ

وحَفنةُ آهاتٍ تُطاردُ ظِلاً

يُسابقُ البَنَفسَجَ عطرُهُ

إنَّها لغة تنداح في مساقات لا متناهية من الرؤى والأخيلة التي تتفتّق عبر موشور رؤيا الباصرة والبصيرة، وقدِ اقتنصتْ منَ التَّزامن الحسيّ عبر تبادل وظائف الحواس، وأدوارها تقنيةً أسلوبيَّة فالبنفسج المرئي بالبصر يسبق رائحته، وهي من حاسة الشمّ، وحفنة الآهات، وهي من دائرة الصوت، وتقع في حيز حاسة السمع تطارد الظل، وهو من معطيات حاسة  البصر .

إنَّه الواقع المثال الذي يُحلّق الشاعر في آفاقه عبر مرجعية لغوية مستعادة على شريط الذاكرة التاريخية، وتراثية الحالة الواصفة، إذْ يستعيد عيون المها التي ذكرها الشاعر: علي بن الجهم  باستهلال قصيدة له:[1]

عيون المها بين الرصافة والجسر      جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

" ضاحكةً عيونُ المَها

تُلامسُ شغافَ قلبٍ

يَسهو في مِحرابهِ

يتبتلُ ساعةً وأخرى

يَعكفُ "

ترمز مرجعية تمّوز أو دموزي في الواقع المثال إلى الأساطير السومرية،، وهو إله الزراعة والرعاة والخصب، وتُشير الأسطورة إلى أنَ تمّوز أو دموزي هو خامس ملوك مدينة باد تييرا قبل الطوفان، وقد اقترن بفصل الربيع، ونمو  النباتات وإله الرعاة، وتروي الأسطورة أنَّ عشتار: (إلهة الحب والحرب) أحبَّتْه ثمَّ قتلته وأعادتْهُ إلى الحياة، وبهذا أصبح يُجسّد انبعاث الطبيعة في فصل الربيع، [2] " وتعتقد شعوب الشرق القديمة أنه مات في الصيف نظراً لجفاف الأرض، وزوال الخصب، ولهذا يُعلن الحداد في سومر على وفاة دموزي في شهر (تمّوز) الذي يقع في منتصف فصل الصيف؛ وتُشير القصيدة السومرية إلى المنافسة بين دموزي والفلاح أنكيمدو  لكسب ودّ عشتار التي فضّلت تمّوز في نهاية المطاف، وتنتهي القصة برغبتها بزيارة العالم السفلي، وتعرضها للموت هناك بمكيدة أختها التي تقبل بإحيائها بعد تدخّل إنكي  إله الحكمة والذكاء والحِرف ، وتوسّطه الذي ينتهي بإحيائها وإعادتها إلى عالمها بشرط  إيجاد بديل لها يحلُّ محلها في العالم السفلي، وهو ما وجدته في تمّوز الذي وجدته سعيداً بغيابها، وقد جلس على كرسيها ما أثار غضبها، ودفع بها إلى إنزاله مكانها إلى العالم السفلي، غير أنها تعود وتُشفق عليه؛ فتمنحه فرصة العودة إلى العالم الحي كل سنة مرة، وهكذا تتناوب دورة الطبيعة والفصول حسب الأسطورة بعودة تموز أو نزوله إلى العالم السفلي .

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنَّ أسطورة تمّوز قد حظيت باهتمام الشعراء كثيراً، ويأتي الشاعر: بدر شاكر السيّاب في طليعة شعراء الحداثة العرب احتفاءً بتوظيف الأسطورة التموزية إلى جانب الشاعر السوري أحمد علي سعيد إسبر  الذي لقَّب نفسه بأدونيس، وهو الاسم الإغريقي لـ: (تمّوز) في قصيدته البعث والرماد [3]  حتى إنه سُمّي به . وقد نوّع الشعراء في تكنيك استخدامهم الأساطير ما بين الرمز العام العابر، والرمز المستثمر للمغزى: " لما تتصف به الأسطورة من حيويّة قادرة على إكساب الشاعر مجالاً أوسع  للتعبير؛ ليُفصح عمّا يجول في ذهنه من فكر، وما يعتمل في نفسه من رؤى وأفكار في إطار جمالي، يُحلّق بالنصّ الشعري بعيداً عن التقريرية والسرد والمباشرة، ويعصم نفسه منَ المساءلة،  ويتجنّب أذى المتابعة  . ووفق هذا الوعي للأسطورة؛ فإنَّ إفادة الشعراء من تلك الأساطير تجعلنا نتلمَّس المنابع الأصلية لإنسانيتنا، إذْ إنهم ربطوا ماضي الإنسان بحاضره في حيويّة تحفّل بالتدّفق، وتتخطّى العادي؛ لتقيم علاقة مع الأبدي ". [4]

وهو ما يُشكّل علامةً فارقةً في نمطية التكنيك التي لجأ إليها الشاعر الحديث الذي   " يفترق عن الشاعر الكلاسيكي في استخدام الأسطورة؛ فالشاعر الكلاسيكي استخدمها لمجرد مغزاها الذاتي، أو كلصق استعاري في أدنى مراتبه، بينما نجد الشاعر الحديث يستخدم الأسطورة والدلالة الميثولوجية كنوع من التوحّد بين الرمز الذي تهيّئه الأسطورة وبين ما يرمز إليه " كما أنّ استغلال أسطورة تموز في الشعر العربي الحديث يُعدّ من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثاراً حتى اليوم؛ لأنّها تٌؤسَّس على  استعادة للرموز الوثنية، وتوظّفها في مفهوماتها الإشارية للتعبير عن أوضاع الإنسان العربي في هذا العصر، أضف إلى ذلك أنَّ لهذه الأسطورة جاذبية خاصَّة، لأنّها تصل بين الإنسان والطبيعة، وحركة الفصول وتناوُب الخصب والجدب"[5]،

أما في المثال الواقع؛ فإنَّ لتموز ارتباطه بالزمن الذي يُحيل على استيلاء داعش على بعض مدن  العراق، وإعلان البغدادي نفسه خليفة للمسلمين في دولته الجديدة، وكان ذلك بتاريخ 29 يوليو 2014 م . وهو ما يقابل تسميته تموز في بلاد الشام والعراق،

كما يرتبط  الواقع المثال بالزمن الماضي الذي لا يُمكن أن يعود إلا بالذكرى،آية  ذلك أننا  نجد أفعال الحاضر التي احتشدت في لحظة الذكرى بكثافة: (يُلامس، يتبتل، يسهو، يعكف، يُرتّل) جاءت مُكتنزةً بإلماحاتها التعبيرية الفائضة بتجليات السموّ والتجلّي والتلّذذ، وسرعان ما تنداح في مثال الواقع الذي يُغيّر تلك الحالة  في واقعيّة المشهد الذي يُرجع الشاعر إلى أرض مثاله المُشاهَد، إذْ يبقى الواقع المثال مُجرّد قراءة مُستعادة يقوم بها الشاعر، وهو:

يُرتّلُ آياتٍ ..

مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ

فظلّتْ مَركونَةً في زوايا ذكرياتٍ

وبقايا أُمنياتٍ تَسربلتْ

ويقوى المثال الواقع بكلّ ما فيه من عتمة، وانسداد أفق؛ فيأتي:

حُزناً سَرمدياً

جادَ به تَموز

فما عادَ لنا فرحٌ

والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود

فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به

نفوسٌ أدمنتْ الغدر

وفي هذه النهاية تتبدّى لنا قصيدة السيّاب: "أغنية في شهر آب" التي يقول فيها: في شهر آب يمّوز يموت على الأفق وتغور دماه على الشفق في الكهف المظلم والظلماء " [6]

فأية أقدار تلك التي تُعيد الزمن في دورته ؟! وكأنَّ التاريخ يُعيد دورته الزمنية من جديد؛ ليلتقي تاريخ السيّاب وتاريخ الغرباوي في إطار المأساة الجامعة الدامعة .

ويُوحّد اللون الأسود تلك الثنائية: بين الواقع المثال، ومثال الواقع؛ ليُصبح واقعاً أوحد؛ فاللون الأسود في إحالته المرجعية يشير إلى الرايات السود التي ترمز إلى قيام الخلافة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وما في هذا التحوّل من تغيير للتاريخ، والمصير العربي في تلك الحقبة من الزمن، ويُشير تموز الواقع المثال إلى الأسطورة المرتبطة بـ دموزي أو تموز، وهو إله الخصب او اللون الأسود في إحالته النصية ترميز إلى شعار دولة الخلافة الإسلامية في بلاد الشام والعراق التي عُرِفتْ باختصار: (داعش) وهو ما حوّل مصير الدول التي وقعت تحت سيطرتها في تلك المدة من التاريخ، وجعلها تعيش واقعاً يُمثّل أسوأ حقبة في تاريخها ربّما ــ رغم أنَّ الخلافة الداعشية الزائلة لم تختلف كثيراً عن الخلافة الداعشية اللاحقة لها إلا بالتسمية، والتوصيف، واكتسابها شرعنة؛ فالخلافة التالية لخلافة الداعشية لم تختلفْ عنها بالممارسة الأدائية إلا من حيث المظهر، إذ استبدلت العمامة والعباءة والكوفية بالبنطال والقبعة الأجنبية، وعلى ما تأسَّس نجد القصيدة التي كُتبتْ عام 2016 م إنما كانت بوصلةً حدَّدت سمت رؤية ورؤيا الواقع من خلال الحقيقة والرغبات، ولذلك بدا الواقع مُتشظّياً بين واقعين يُجسّدان: واقع الحال البشري ، وواقع الخيال الشعري .

للاطلاع على القصيدة في المثقف

يتهادى حُلماً / ماجد الغرباوي

 

د. وليد العرفي

  ............................

هوامش

[1] ــ ديوان:علي بن الجهم، تح: خليل مردم بك، دار صادر، بيروت، ط 3، 1996 م  .

[2] ــ يُنظَر: موسوعة المورد: منير البعلبكي،  دار العلم للملايين، بيروت، 2005 م، ص 167.

[3] ــ الأعمال الشعرية الكاملة: أحمد علي سعيد إسبر (أدونيس)،ج 2، ديوان أغاني مهيار الدمشقي، دار العودة، بيروت، 1988، ص  331.

[4] ــ يُنظَر: لغة الشعر  ــ قراءة في الشعر العربي الحديث ــ : رجاء عيد، منشأة المعارف، 1998 م، ص 229.

[5] ــ يُنظر: اتّجاهات الشعر العربي المعاصر: إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مايو / 1978 م،   ص 65.

[6] ــ  المجموعة الكاملة: بدر شاكر السيَّاب، دار العودة، بيروت، 1971 م،  1/ 328 .

 

 

ما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ  يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث  مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين .

ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد ... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن : ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة ؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية ؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي ؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام ؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة ؟   وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي ؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام  الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

................................

يمكنك الاطلاع على الكتاب من خلال الرابط أدناه 

 

الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري

 

بقي عنوان النظر والتجديد في التراث الديني من أبرز العناوين التي تتحرك في فضائها مشاريع وأعمال عدد من الباحثين من دعاة الإصلاح والنهضة، ولا تزال قرأتهم قائمة في تكشيف المرجعيات الإسلاميَّة، بمقرراتها واداواتها، وفك التباساتها التاريخية مع معطيات الزمن الذي ولدت فيه وأثرت به وتأثرت، لتنمية وإرساء معطيات ونصوص ورؤى حضارية تنسجم مع تحديات الزمن الراهن، المتدفق بكل عناصر التغيّر والسرعة.

والموقف من المرأة كما يرى الدكتور عبد المجيد الشرفي يعد اليوم أفضل معيار يمكّننا من تصنيف المفكرين والمشتغلين بالمعرفة الدينية، ومعرفة مدى بقائهم عالة على بعض القدماء من الذين يكرّسون التمييز الذي كانت النساء ضحيته، أو انخراطهم في مقتضيات عصرهم بالنسبة إلى سائر القضايا. وهذا المعيار هو الدليل في الحكم على المصداقية التي يمكن أن يتمتع بها أي موقف، باعتبار أن حقوق الإنسان كل لا يتجزأ ولا يجوز اختزالها. فإذا وجد من ينبذ الأحكام الفقهية التفصيلية التي تفرق بين المسلمين على أساس الانتماء المذهبي –مثلًا- ثم وجدتهم يقرّون بفرض أحكام فقهية ولدت ضمن الاشتراطات التاريخية بتعللات واهية، فلا نستبعد أن ذلك النبذ منقوص ومعتل، يحمل في طيّاته تناقضًا داخليًا، وأنه غير مبني على أساس متين.(1)

وقد شهد المسار التاريخي لموضوع المرأة سجالات فكرية حادة في داخل الوسط الديني، في العصر الحديث من رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، والطاهر الحداد ومرتضى مطهري، ونصر ومحمد مهدي شمس الدين وو.  وقد تمخضت عنها اتجاهات معرفية متعددة، يمكن حصرها في ثلاثة، لنتلمس من خلالها مشروع الأستاذ ماجد الغرباوي في مقاربته لهذه القضية الحرجة، وأين يمكن أن يصنف؟ وما هي أبرز محدداته وأدواته؟

وبإيجاز، فان هذه الاتجاهات الثلاثة، هي:

أولا: الاتجاه التقليدي النصوصي (الأصولي):

ومن أبرز معالمه الحفاظ على أصالة المعارف والتعاليم الإلهية، ومواجهة جميع الأفكار التي تستعين بالمعارف والمنهجيات الحديثة في فهم وتفكيك التراث الديني. فؤلاء يقدسون الماضي. حتى ان بعض اتجاهاته المفرطة، تعتقد أن الله يريد حفظ الظروف الموضوعية والعلوم والفنون التي كانت موجودة في ذلك العصر، ويعدون كل التحولات اللاحقة بعيدة عن المجتمع الإسلامي المرجوّ. (2)

الاتجاه الثاني: الاتجاه الكلامي (العقلاني):

وهو اتجاه برزت فيه شخصيات كبيرة في القرن العشرين كالشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحمد حسين الطباطبائي، ومرتضى مطهري، ومصطفى السباعي، وغيرهم، وقد ركز هذا الاتجاه نشاطه على صعيدين(3):

أحدهما: تقديم صياغة علمية داخلية لموضوعات المرأة غلبت عليها، سمة إعادة إنتاج من دون تغيير في النتائج غالبا، أي إعادة صياغة وتشكيل للنظم المفاهيمية مع الأخذ بعين الاعتبار ثبات النتائج.

ثانيهما: تقديم تفسيرات عقلية للنتائج المفروغ منها، يمكنها عقلنة معطيات النصوص، أي تقديم تفسيرات لقضايا الحجاب وعلاقته بالحرية، وتعدد الزوجات وعلاقته بالحقوق وو. وقد ساعدت التركيبة الذهنية – الاجتماعية في المجتمعات الإسلاميَّة، على نجاح هذه التفسيرات ومعقوليتها لدى الرأي العام، وهو ما قد ينذر بفشل الديمومة، نتيجة التغيرات التي حدثت في العقديين الأخيرين.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الفقهي الحضاري:

 وقد تبلور هذا الاتجاه في كتابات الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف صانعي، والشيخ مهدي مهريزي، والشيخ مجتهد الشبستري، غيرهم. ويحكي عن نمط من التفكير والتعاطي مع النص (القرآن والصحيح من السنة) المحتكم إليه في القراءة والتأويل، تمثل في أمرين(4):

الأمر الأول: آلية الحفر خلف الجانب الصدوري للنص، وهو أمر يتسنى في السنة الشريف، ويستحيل في القرآن الكريم. إن هذا الحفر الذي يهدف إلى تقويض النص من خلال نفي صدوره، وجد لنفسه في هذا الاتجاه فرصة ملائمة جدًا. والسبب في ذلك هو ان مجموعة تصورات اجتماعية عن المرأة لم يعمد الفقهاء والمتكلمون المسلمون السابقون إلى تحقيقها اتكالًا على الوضع العام في الوعي والعقل الجمعي المسبب عن بنية خاصة للمجتمع القديم.

الأمر الثاني: إلية تكوين قراءة جديدة للنص تدخل في الحساب التاريخي، والمكسب الذي سيتحقق حينئذ يقوم على محاولة عزل النص عن الواقع الاجتماعي الحالي من خلال وصله ببنى وهيكليات اجتماعية – سياسية سابقة لم يعد بالإمكان تحققها اليوم.

هذه هي أبرز الاتجاهات الدينية التي عاشت السجالات الفكرية لوضع المرأة الحقوقي والحضاري، وقدمت تصورتها وقناعاته فيه، ولكل منها كما شاهدنا أدواته المعرفية وسماته وتجربته.

ومن ثَّم، نعود ونسأل أين يمكن أن نصنف مجهود وعمل ماجد الغرباوي من هذه الاتجاهات من خلال كتاب (المرأة والقرآن) ؟ علمًا ان كتابه عبارة عن حوار أجرته معه الدكتورة ماجدة غضبان، وكان الحديث في عمق التشريع وفلسفته ومرجعياته وأصوله، والواقع ودلالاته في النص وفهم النص. مع النظر في المنهج البحثي والعقل الاجتهادي الإسلاميَّ في محاولات التأصيل والتعميق.

ويبدو لنا من خلال المطالعة انّه ينتمي إلى الاتجاه الحقوقي الحضاري، الذي يسعى إلى قراءة مضامين الأدلة الشرعية من جديد، وفك النصوص من اشتراطاته الزمانية. ويمكن تلمس أبرز أدواته في الفهم والتفكيك والمعالجة بالاتي:

أولًا: التفريق بين النص وفهم النص وتفسيره، فهو يرى ان القداسة أو الحجة الشرعية-كما يسميها- لا تتجاوز القرآن والصحيح من السنة، وحتى هذا السنة فبعضها تدبيري (أو ولائي، تقتضيه المصلحة العامة)، والآخر مطلق يحمل على نحو القضية الحقيقية. فهو يقول: (اذاً الحجة الشرعية هي الكتاب المبين والحديث الصحيح الذي يفسّر النص "في تفصيلاته التشريعية وبعض جوانبه". وما عدا ذلك يقبل النص الديني أي تفسير ضمن ظرفه وشروطه. ولا شك ان النفوس الذكورية والاعراف والتقاليد، لعبت دورا في تفسير النص لصالح الذكر ضد الانثى، وهي تفسيرات وليدة عاداتها وتقاليدها وفهمها، وليست بحجة علينا. ويجب ان يكون لنا تفسيرنا ضمن ظرفنا التاريخي. وهذا الكلام لا يعني الشمول ابدا، فهناك كثير من التفاسير الموضوعية، لكن قد نراها تجافي المرأة على خلفية فهم المفسّر، ومبناه في توثيق الروايات، ومدى قبوله لها. او مدى تأثّره بالتراث او بواقعه. او بسبب خلفيتنا نحن، واختلاف الزمان، ورؤية الرجل مطلقا للمرأة ودورها في المجتمع. فالقياس هو القرآن وليس قول المفسر او الفقيه، ومتى ما انتابنا الشك في اقوالهم نعود للقرآن نستنطقه كي نتعرّف على الحقيقة.."(5) وعلى ذلك فهو يرفض النصوص والتفسيرات التي تصف النساء بناقصات العقول، أو ما ينسب  للإمام علي(ع) من : " كن من خيرهن على حذر"

ويعتقد انها نشأت في ظروف سياسية خاصة، كحرب الجمل وخروج السيدة عائشة على الإمام علي (ع) وتزعمها لجماعة من المسلمين. (6) ووفقًا لذلك لا يمكن أن يشكل ذلك مدركًا للأحكام الشرعية أو لرسم صورة عن المرأة. نعم هي رأيٌ سياسيٌ شخصيٌ، لا رأيٌ اجتماعي عام تبنى عليه الأحكام.

ثانيًا: ان حصر مقاصد الله بالدلالة الحرفية للنص، وعدم مراعاة الدلالات الأخرى كالدلالة العقلية أو الدلالة المقاصدية، أو الدلالة الواقعية (التاريخية) قد أثر سلبا في تفسيرها، وجرد النصوص من قرائن مهمة قد تقلب العام إلى خاص، أو المطلق إلى مقيد والعكس صحيح. وعليه، فان الحل يكمن في تتبع المجتهد واستقرائه لجميع الدلالات الداخلية والخارجية لخلق وعي أعمق وأشمل للنص.

ثالثًا: من خلال إيمانه بلزوم فهم الأسبقيات والقبليات التي ينطلق منها المجتهد في معالجاته فانه يرى ان الفرضيات المعرفية المسبقة عن هوية المرأة وقدراتها هي من أثرت بشكل كبير في استنباط العديد من الأحكام المتعلقة بالرجل والمرأة. فيقول في ذلك: "لا إشكال في ان الحس الذكوري هو بوصلة الفهم والتفسير لدى بعضهم.. فكانت الذكورية حائلًا بينهم وبين التفسير والقراءة الصحيحة، حتى ان بعض الآراء الفقهية ما زالت قاصرة وقد تصنف جائرة بحق المرأة، وسببها كما تقدم النظرة الذكورية." (7)

رابعًا: فحصه للنصوص وإعادة قراءة مضامين الأدلة لا تمنعه من قبول مسوغات فكرية قدمها علماء الإسلام بخصوص تعدد الزوجات- مثلًا-، وصلته بالحقوق من أجل مجتمع نظيف، عفيف، ما دامت هذه المسوغات أو العلل لا تصطدم مع الواقع الضاغط بضرورياته ، مثل: كون الرجل لا يكتفي جنسيًا بزوجته، أو أن زوجته لا تطيقه جنسيًا، أو ان التعدد قد يساعد في القضاء على مشاكل العوانس، وقلة الرجال بسبب الحروب، أو الأرامل في ريعان الشباب، ونحو ذلك. والتعدد عنده من حقوق المرأة وليس الرجل فقط.

خامسًا: من الأدوات المنهجية عنده هو معيارية الفهم القرآني، وحاكميته على مجمل النصوص الأخرى، ولا يتأتى ذلك إلَّا من خلال النظر إلى القرآن ككل لا إلى جزء منه فقط.

وتشير الدراسات القرآنية الحديثة إلى ما يقارب من مئتي آية تتناول المرأة وعلاقتها بالرجل. ومن هذه النقطة في ينطلق إلى رفض الآراء التي تجيز زواح البنت بتسع سنوات!! معتمدًا على علامات البلوغ التي ذكرته النصوص كـ " بلوغ الحلم "، أو " بلوغ الرشد " فلا يمكن استفادة إطلاق الحكم بتسع سنوات من دون أن تكون حائضًا وبمستوى الرشد.

سادسًا: تحت عنوان "الإسلام والرق" يكشف ماجد الغرباوي عن أبرز أدواته المعرفية وهي التمييز بين الأحكام التدبيرية الزمنية التي تصدر من النبي (ص)، وبين الأحكام التبليغية التعبدية، فكما ان النبي يمارس أحكام التبليغ فانّه يمارس أحكام الولاية العامة في إدارة شؤون المسلمين، وهذه الأخيرة توقيتية لا تلزم المجتمعات اللاحقة. وعليه، فان أحكام الرق ومشروعيته إذا كان لها ما يبررها في ظروف وقواعد الصراع التاريخي، فان هذه القواعد قد تبدلت بعد أن اتفقت جميع المجتمعات على نبذ الرق بإشكاله المختلفة.

وأخيرًا، من حقي أن أسجل ملاحظة نقدية يمكن أضعها بصفه سؤال أمام منهج وتعاطي الأستاذ ماجد الغرباوي في تفريقه بين النص وفهم النص، وقد ذكرتها في كتابي:" مسألتان شائكتان في قضايا المرأة " وهي: ان معالجة القرآن لقضايا المرأة هل قائم على أساس تكويني في طبيعة المرأة بحيث يتصف بالثبات، أم قائم على أسس وحيثيات اجتماعية متبدلة ؟ وبالتالي يخضع النص القرآني للتبدل في معالجاته؟.

 

سُميَّة إبراهيم الجنابي/ باحثة إسلاميَّة.

الحلة/ العراق.

.............................

(1) ينظر: عبد المجيد الشرفي، عبثية الصراع المذهبي، كتاب: الصراع المذهبي فصول في المفهوم والتاريخ، الناشر: جامعة الكوفة، الطبعة الأولى- بيروت-2018م، 65.

(2) ينظر: الشيخ محمد تقي سبحاني، شخصية المرأة – دراسة في النّموذج الحضاري الإسلامي، ترجمة: علي بيضون- شاكر كسرائي، الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- الطبعة الثانية - 2013م، 29-33.

(3) الشيخ حيدر حب الله، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر، الناشر: دار الهادي- بيروت، 2008م، 14.

(4) الشيخ حيدر حب الله، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر،12.

(5) المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، الناشر: العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى- 2015م، 16.

(6) ينظر: المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، 24.

(7) ماجد الغرباوي، المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، 25-26.

 

أهدي هذا المقال لكل قراء صحيفة المثقف احتفالا بمرور العام الثالث عشر من تاريخ صدورها

يعلم كل من يتابع كتاباتي ومقالاتي وكل من هو قريب لشخصي إنني متحرر تماماً من أية تبعية تقودها أهوائي لمصلحة ذاتية أرغب في تحقيقها، فقلمي متجرد من كل قيود ولا يستقي كلمته إلا من محبرة تراب الوطن فقط، ومن ضمير الحق الذي يسكن بداخلي ويقود كل كلماتي.

ومن تلك المحبرة وضمير الوطن والحق الذي يسكن بداخلها، غمست قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي الوطني والإنسان.. وما دفعني لذلك هو تلك المناسبة العطرة وهو الاحتفال بالعيد الثالث عشر لإصدار صحيفة المثقف والتي من خلالها تمكن ماجد الغرباوي أن يجمع العديد من الكتاب والمثقفين في مؤسسة فكرية ثقافية فتحت قلبها لكل الأقلام بمختلف جنسياتهم، ورحبت بالذين يحملون بداخلهم طاقة ذهنية وفكرية وإنسانية متوقدة يحطمون بها كل التناقضات ويواجهون بها  الزيف الثقافي (حسب ما أخبرتنا الأستاذة الفضلة "علجية عيش" في مقالها الصادر بعنوان في عيدها الثالث عشر.. المثقف نافذة تطلُّ على العالم).

ولذلك بسبب هذه المناسبة انتفض قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي للمرة الثانية، وهذه المرة بمناسبة وما أحلاها من مناسبة، فهي مناسبة شكر له علي ما تفضل به من خلال إنشائه لتلك الصحيفة الموقرة والذي لولاها  لما استطاع الكثير من الكتاب والمفكرين أن يحلقوا بعيدا عن أوطانهم أو يقفزوا إلى ما وراء البحار (هنا في أستراليا)  ليصنعوا ذواتهم، بعد أن مُورست عليهم ثقافة الإقصاء في بلادهم وليقولوا بصوت مرتفع "نحن هنا" في صحيفة المثقف نعبر عما يجيش في صدورنا وقلوبنا وعقولنا .

ومن هنا كان اللجوء الإعلامي.. الإبداعي والثقافي (في صحيفة المثقف)، والتي وجد فيها العديد من الكتاب والمثقفين ملجأ لهم،  ففتحت قلبها لكل الأقلام بمختلف جنسياتهم، ورحبت بالذين يحملون بداخلهم طاقة ذهنية وفكرية وإنسانية متوقدة يحطمون بها كل التناقضات ويواجهون بها  الزيف الثقافي، وهي تجربة مرت مع كل من تواصل مع مؤسسة المثقف برئاسة الاستاذ ماجد الغرباوي، ليس كمسؤول، وإنما كمبدع يعيش الواقع الثقافي العربي ويغوص في أعماقه،  فقد استطاعت المثقف أن تفتح آفاقا جديدة أمام كل الأقلام بمختلف جنسياتهم من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وتحقق الانفتاح، واستطاعت بفكرها الواسع أن تقضي على الفوارق الثقافية، فلا تفرق بين كاتب كبير وكاتب مبتدئ، بل جعلت من الصغير كبير، واحتلت مساحات جديدة في النفوس بعمق وحرية من أجل إيصال الفكرة وتوضيح الرؤية، وتنوير العقول، فكانت نافذة تطل على العالم، وهذا هو الوعي الثقافي في كل تجلياته. (حسب قول الأستاذة "علجية عيش" في مقالها السابق).

كتاب: تحديات العنف

967 tahadiyatalonf

كما قلت في الفقرات السابقة انتفض قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي ولكن بشكل مختلف عن المرة الأولي، حيث أخترت إحدى كتاباته المهمة والتي تعالج الواقع الحالي، وهو كتابه الشهير " تحديات العنف"؛   لأعرض له وأحلله وأنقده،  وهذا الكتاب كان قد صدر للمرة عن دار الحضارة للأبحاث ودار العارف في عام 2009م، وفي هذا الكتاب قدم لنا المؤلف من خلاله خلاصة مقطرة ومركزة لكنها بالغة التعبير والدلالة لحقيقة اكتشاف البنية المعرفية للممارسة العنف من قبل المتطرفين الإسلاميين، أي محاولة اكتشاف المفاهيم والمقولات والفضاءات الفكرية والعقيدية التي تدفع المتطرف نحو قتل الإنسان لا لشئ سوي إنه يختلف معه عقدياً أو دينياً أو فكرياً، كما يحاول المؤلف التعرف علي الخطاب الديني التكفيري الذي يمارسه الفقهاء المتطرفون ضد الآخر المختلف دينياً أو عقدياً .

لقد أراد ماجد الغرباوي في هذا الكتاب أن يعطينا خطاباً تجديدياً، حيث حاول أن يحرر الفكر الإسلامي من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. من مفارقات السجالات الفكرية المعاصرة حول ضرورة تجديد الفكر الإسلامي وتطوير آليات علمية جديدة لدراسة فقهه وتوظيفه من أجل مواكبة مسار الحضارة والتجاوب مع متطلبات العولمة وتعقيدات الحداثة، أن معظم المفكرين الإصلاحيين والتجديديين المسلمين يحظون باهتمام عامة الجمهور في دول العالم الإسلامي وباهتمام الرأي العام الغربي ليس بسبب اجتهاداتهم الفكرية وإنجازاتهم العلمية المميزة، بل بالدرجة الأولى لأنهم يعايشون محنة العالم الإسلامي وعواقب العنف، حيث حاول الغرباوي أن يحدد شروط ممارسة القوة في الإسلام، فليس العنف مرفوضا مطلقاً، وإنما له مبرراته الموضوعية، ولاسيما مع المعتدي الرافض للحوار أو في حالات الدفاع عن النفس أو غير ذلك بامتلاك القوة أمراً ضرورياً جداً، لأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة المجتمع.

لقد تناول " تحديات العنف " بعض الحركات الأصولية المتطرفة التي مارست العنف بشكل مريب ومكثف، متخطين بذلك كل القيم الدينية والخطوط الحمراء التي أرستها الشريعة المحمدية، ولم يتوقفوا عن إرتكاب مجازر العنف حتى مع المسلمين، ممن يختلف معهم مذهبياً أو فكرياً أو عقدياً، كما يكشف كذلك علي أن وتيرة العنف والعمليات الارهابية في العالم في تصاعد ما دامت بؤر التوتر لم تلامس حلولاً موضوعية ولا يقابل العنف إلا بعنف مضاد، سرعان ما يتحول هو الآخر إلى سلطة فوقية تمارس العنف والاضطهاد . ولذلك يعالج الكتاب طبيعة الصراع بين الأديان والمذاهب علي حقيقة العنف، حيث يتساءل المؤلف : ما الهدف من هذه الممارسات؟ هل هي حرب ضد إرهاب الدول الكبرى كأمريكا وحلفائها، فلماذا يقتل الأبرياء؟ هل هي جهاد في سبيل الله، فلماذا يتقاعس العلماء؟ هل هناك ما يبرر أعمالهم شرعاً فلماذا لا تستجيب لهم الشعوب المسلمة؟ من الذي يجيز لهؤلاء قتل الرجال والنساء في كل مكان؟ ومن المسؤول عن فتاوى التكفير ورمي الآخر بالردة والانحراف؟ وهل الرأي الآخر مبرر للقتل والعدوان؟ ولماذا لم يقتل الرسول صلي الله عليه وسلم جميع اليهود والنصارى بل من لا دين له من العرب وغيرهم؟ وهل الحرب والسيف الوسيلة الوحيدة لنشر الإسلام وبيان الحقيقة؟ لماذا لا يتمكن المسلمون مقارعة الكلمة بالكلمة؟ وهل صحيح إن الإسلام عاجز عن ممارسة الديموقراطية واقناع الآخر بوسائل وآليات حديثه؟ هل حصلت للمتطرفين شبهة عقدية؟ هل يتلقون توجيهاتهم من جهات أعلى؟ من هي هذه الجهات؟ هل هم فقهاء؟ وأي فقهاء؟ هل يفقهون الحياة؟ وهل يدركون مقاصد الشريعة وغاياتها؟ وهل يعترفون بدور الزمان والمكان؟ أم فقهاء متحجرون، متغطرسون؟.

ولعل من المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أن دراسة "تحديات العنف " يمثل أمراً هاماً، لدراسة اسباب العنف واكتشاف بنيته المعرفية، من مقولات ومفاهيم وفضاءات فكرية وعقيدية، ومحاولة للتعرّف على الخطاب الديني التكفيري الذي يمارسه الفقهاء المتطرفون ضد الاخر المختلف دينياً وعقيدياً. واكتشاف الأدلة التي تبرر للإنسان منطق العنف والاقصاء والكراهية والتنابذ، وفهم طبيعة الثقافة التي تشبع بها الإرهابيون الدينيون فاستساغوا الموت وكرهوا الحياة، وامتلأت قلوبهم حقداً وبغضاء.

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أنه إذا أمكن تحديد وسائل العنف، حيث يقول في مقدمة كتابه:" ليس العنف طارئاً، أو غريباً على سلوك الانسان، فماضي البشرية حلقات متواصلة من الحروب، وتاريخها مشهد تراجيدي موشح بالدماء، ونكبات الموت ترسم صورة قاتمة لمستقبل الحضارة الانسانية. وليس في الحياة سوى نكبات متوالية، وكوارث مرعبة. إنها ثقافة العنف الذي شكل تحدياً خطيراً لوجود الانسان منذ القدم، فراح يهدد أمنه وسلامته واستقراره. ويهوي به عميقاً في لجة التوحش والانحطاط. وهو اليوم أحد أخطر التحديات وأكثرها تعقيداً، وقد امتدت تداعياته إلى أغلب المدن فسلبتها أمنها واستقرارها. واختلطت الأوراق بشكل متشابك وملتبس بسبب ما أحدثته تلك العمليات من رعب واستفزاز إجتاح الساحتين الدولية والاقليمية، وبات من الصعب العثور على واحات سلام تسمح بالمراجعة والنقد، وتحري الخطأ وتشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، إذ ارتكز الجميع إلى فوهات البنادق لتصفية الحسابات، والتشبث بالعنف لتسوية الخلافات.

أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط المؤلف دراسة العنف بالإعلام، حيث يقول :" إن التكثيف الإعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديث، بطريقة متهورة  أحياناً، ليس أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، أو هكذا يحلو لتك الوسائل أن تصفها. حتى تنبـّه ساسة بعض الدول إلى خطورة النتائج المترتبة على الأسلوب الاستفزازي للإعلام المضاد. فمثلاً دعا توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في حينه وقبله جورج دبل بوش الرئيس الامريكي إلى توخي الحذر في إثارة حفيظة المسلمين والتمييز بين ما هو إسلامي ينتسب للدين الحنيف وما هو إرهابي يرتكبه بعض المتطرفين باسم الدين، مخافة أن ينقلب المسلمون أشد عنفاً إذا ما تمادت وسائل الإعلام في سياسة الطعن والتشويه، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعوب في صراعها مع الدول المتسلطة، وحقها في التعبير عن ارادتها. وهكذا وضع الإسلام في قفص الاتهام حتى في حالات الدفاع الشرعي عن الذات والهوية.

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية، والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن :" ويكفي لتأكيد ذلك مسلسل الاعمال الطائفية التي ارتكبها هؤلاء في باكستان والعراق وأفغانستان ضد إتباع المذاهب الإسلامية، بل وابناء المذهب الواحد والدين الواحد والوطن الواحد كما في كثير من البلدان الإسلامية مثل الجزائر ولبنان حتى (أدى التوسع العنيف لادعاءات الهوية التي تستبعد الآخرين إلى كثير من المعاناة والتضحيات. ويقدر أن الصراعات بين الدول داخل العالم العربي تسببت بين 1948 و 1991 في مقتل ما لا يقل عن 1.29 مليون نسمة وتهجير نحو 7.3 مليون نسمة) . ناهيك عما حدث بعد هذا التاريخ من مجازر في المنطقة ذاتها. فقد كان ضحية الموجات الإرهابية (نفذها الإسلاميون ام غيرهم) في مصر بين 1992- 1995 مالا يقل عن 984 شخصاً، كما عاشت الجزائر اضطرابات إرهابية دامية، وقد اعتبر جل الملاحظين أن حصيلة الهجمات بلغت ما لا يقل عن أربعين ألف وربما أكثر . كما حصدت الأعمال الإرهابية في أفغانستان وباكستان والهند والسعودية ودول أخرى الآلاف من الضحايا، وعندما نصل إلى العراق نجد الاعمال الإرهابية حولته بعد سقوط التمثال حتى موعد تشكيل الحكومة الانتقالية الى لوحة متشحة بدماء الاطفال والنساء، ومطرزة بجماجم العزّل والابرياء. فلم يبق جزء بما فيها الأماكن المقدسة لدى الشعب إلا واستباحته الموجات الإرهابية المعادية للسلام والحرية...الخ.

وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها المؤلف لحن عظمة الإسلام في شجب العنف، حيث  يقول الغرباوي :" إن ممارسة العنف واستخدام القوة في الإسلام تجري وفق ضوابط خاصة تطوقها خطوط حمراء ومساحات محرمة واسعة، فهي قوة للدفاع عن النفس والحقوق المشروعة، لا يسمح معها بالاعتداء والتجاوز على العزّل والأبرياء من الناس، أو الإطاحة بالممتلكات العامة، تحت أي عنوان كان ما لم يجد العنف مبرره الشرعي. كما أن القوانين الدولية الرافضة للإرهاب تلتقي مع الإسلام في استخدام القوة دفاعا عن النفس وردعاً لتجاوزات المعتدين، وترفض أيضاً استخدام العنف اللامبرر.

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والإنغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلي ما هو أفضل.

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية "تحديات العنف" خلال أبواب وفصول هذا الكتاب، منهجا تاريخياً- نقدياً  - مقارناً في كل فصول الرسالة، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي، بمعني أنه كان معنياً بتحليل أقوال توجهات القائلين بالعنف، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلي دراسة النصوص الدينية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى استفزاز الوعي، وفتح الأضابير المحرمة، غير مكترث لأي ممنوع او محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة التبشير الديني، بعد تكفير المختلف والمعارض.

كما اعتمد الباحث ماجد الغرباوي في دراسته لهذا الموضوع علي المصادر الأصلية التي اشتملت علي تعريف العنف وتاريخه وفلسفته وانواعه، ثم التحديات الكبيرة للعنف على جميع الأصعدة. إضافة إلى دراسة مسيرة الحركات الإسلامية المتزامنة مع ممارسة العنف. وقراءة في الآيات والاحاديث التي يرتكز لها خطابها التكفيري، ومناقشة الفتاوى الدموية وفقه الكراهية الذي يتشبث به بعض الفقهاء لاستباحة دماء الناس. ولم يقتصر العنف على الحركات الإسلامية وحدها فهناك عنف الدولة والسلطة وعنف الفرد والقبيلة وغيرها من الأنواع.

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 417 صفحة موزعة علي مجموعة من القضايا والمحاور وذلك علي النحو التالي : بدأ المؤلف العنف تاريخياً، حيث تناول دلالاته الاصطلاحية، ثم عرض بعد ذلك للحديث عن القوة كمفهوم مغاير، حيث تناول القوة والعنف، القوة .. التسليح والتعبئة، القوة .. المدويات والأهداف، القوة .. المحددات والضوابط . كما تناول بعد ذلك فلسفة العنف من خلال العنف ومصداقية السلم وسيكولوجياً العنف، ولم يكتف بذلك بل راح المؤلف يتناول التحديات المختلفة للعنف سواء فيما يتعلق بمشروعه الحضاري أو وحدة المجتمع والأمة، أو الحوار بين الحضارات، أو أمن واستقرار الجاليات الإسلامية، أو قيام المجتمع المدني . ثم انطلق المؤلف عقب ذلك للحديث عن أشكال العنف من خلال : عنف الدولة، وإشكالية الفكر السياسي، أزمة السلطة، فخ العنف، أو الشعب ضد الدولة أو الدولة ضد الدولة . ثم تطرق بعد ذلك لموضوع مهم جداً وهو الحركات الإسلامية والعنف، وذلك من حيث التعريف بها، والركائز الفكرية، والإنجازات، والنشأة، كما تناول في ذات الموضوع لحركات إسلامية أخري، مثل الإخوان المسلمون في مصر، وحزب الدعوة الإسلامية في العراق وحركات إسلامية أخري ببعض الدول العربية، حيث تمكن المؤلف من أن يكشف أسباب ظهورها من خلال حركة الإصلاح الديني وسقوط دولة الخلافة، والاستعمار، والاستبداد، وفشل المشاريع الوطنية...الخ. كما تناول المؤلف لقضية مهمة بعد ذلك ألا وهي التطرف الديني والعنف، حيث أوضح لنا بداية العنف وأسبابه وذلك من خلال : الحاكمية الإلهية، وجاهلية المجتمع، والجهاد وفتاوي الفقهاء وعنف السلطة وأمور أخري. ثم تناول المؤلف بعد ذلك للسيرة النبوية والعنف مع قراءة لبعض آيات القتال في القرآن الكريم كما جاء في سورتي (الأنفال ويوسف) مع تحليل لأدلة القائلين بالحرب الابتدائية : سواء فيما يتعلق بحكم المشرك غير المعاهد، أو حكم المشرك المعاهد الناقص للعهد، أو حكم المشرك المعاهد الذي لم ينقض العهد، أو حكم أهل الكتاب. وأخيراً تناول أهم المصادر والمراجع التي عول عليها.

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " تحديات العنف" لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع المؤلف علي استقصاء دوافع العمل الإرهابي، إلا أنها تأمل أيضاً في تحديد شروط ممارسة القوة في الإسلام. فليس العنف مرفوضاً مطلقاً، وإنما له مبرراته الموضوعية سيما مع المعتدي الرافض للغة الحوار ولا يفهم سوى منطق القوة والعنف. أو كما في حالات الدفاع عن النفس أو مباغتة العدو المتأهب لقتال المسلمين خشية الاحاطة بهم إذا كانوا قادرين على ذلك. إذن فامتلاك القوة أو أن تكون قوياً أمراً ضرورياً جداً، لأن امتلاك القوة لا يعني العنف وإنما ( أن تكون نفسك لا غيرك ... وأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة .. أن تعطيك الحياة طاقاتها وثروتها لتسخرها كما تريد، وتفجرها كما تشاء، وتصنعها كما يروق لك. إما أن تفقد القوة ..فتكون ضعيفاً ..  تفقد القدرة على الصراع وعلى الحركة ..  فمعناها أن تكون صورة غيرك.. وظله، كمثل الشبح الذي يبدو، ويزول، ليعود في بعض اللمحات، باهت اللون، ضائع الملامح .. وأنك لا تشارك في الحياة إلا من بعيد تماماً، كاللمحة الخاطفة من الضياء الخافت الآتي من مسافات شاسعة على خجل واستحياء، من أجل أن يخترق سواد الليل فلا يخدش إلا بعض حواشي الظلام، بكل هدوء) .

وأخيراً وليس آخراً أقول إنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب الجاد الذي رجع صاحبه لكل الأصول المتاحة، وهي هائلة كماً وكيفاً وتقصت حقيقة كل ما له علاقة بتحديات العنف في تراثنا العربي – الإسلامي، واجتهد في التأويل والتفسير، ونقل إلينا دهشته وشغفه فشاركناه مشواره، وأحسب أن هذا الكتاب فريدا في منحاه ومنهجه في كتاباتنا العربي، فهو ليس تأريخاً سردياً، وإنما هو تأريخ لحقبة من الفكر في تراثنا العربي – الإسلامي من خلال التحديات التي تواجه الجاليات العربية والمسلمة بسبب العنف، مستحضراً أمثلة كثيرة واجهت العرب والمسلمين كردود فعل سلبيه من قبل المتطرفين، كما قارن المؤلف في كتابه حال الجاليات قبل موجة العنف وبعدها، والإجراءات التي باتت تواجه العربي والمسلم في المطارات والأسواق، وتوجس الشعوب الأخرى من العرب والمسلمين تحديدا.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن هذا الكتاب كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت في عنوان الكتاب بأن ماجد الغرباوي - مؤلف الكتاب يعد بالفعل في مرحلتنا الراهنة "أيقونة التسامح في زمن العنف".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

قليلون أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعملون بما يؤمنون، ولا ريب في أن ماجد الغرباوي، والذي لم أعرفه شخصياً إلا من خلال عدة أسابيع فقط، حين طلبت من أخي الدكتور مجدي إبراهيم (أستاذ الفلسفة بجامعة العريش) أن يتوسط لي عنده بالنشر في صحيفة المثقف، وبدأت علاقتي به من خلال الماسينجر، حيث أهديته أول نسخة الكترونية من كتابي " حروب الجيل الثالث ونظرية تفتيت الوطن العربي"، ومنذ ذلك الوقت بدأت أتابعه عن كثب من خلال ما كتبه أو ما كُتب عنه، وسعدت كثيراً بالتكريم الذي حظي به في يوم الأحد الماضي من قبل منتدى الجامعيين وجمعية الاكاديميين بأستراليا.

وماجد الغرباوي من خلال قراءاتي له في تلك الفترة الوجيزة اكتشفت أنه مفكر جدير، إذ يُعدّ أحد القامات الفكرية العراقية - العربية التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقلية الغربية والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكرية، وهي تلك النظرة التي كشفت له عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكرية الآنية، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر، فهو الذي كتب عن نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الاسلامية، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية.

علاوة علي أنه متعدد المواهب فهو كاتب، وشاعر، وباحث دؤوب؛ حيث يسعي من خلال مشروعه في تجديد العقل الديني إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وقد بلغت إنجازاته العديدة في ميادين البحث والعقل والتنوير حوالي أكثر من ٢٥ عملاً ومؤلفاً، إضافة إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة المتعددة، فمن أعماله علي سبيل المثال لا الحصر : إشكاليات التجديد (3 طبعات)، 2000م،2001م و2017م، فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان)، 2006م و2008م، تحديات العنف، 2009م، الضد النوعي للاستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010م.، الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، 2015م، جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016م، الشيخ المفيد وعلوم الحديث، 1992م، ترجمة كتاب الدين والفكر في شراك الاستبداد، 2001م.، تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث.. وهلم جرا.  وقد نال الاستاذ ماجد الغرباوي عدداً من الجوائز التقديرية عن أعماله الفكرية والعلمية البحثية.

وتتميز كتاباته بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

ولقد أعجبني وصف الأستاذ "شاكر فريد حسن" في مقاله له بعنوان " ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء"، عندما قال :" ماجد الغرباوي: مثقف تنويري ومفكر مضيء"، (فهو يمثل) نخلة عراقية باسقة وشامخة في الفكر العربي الإسلامي، عانق نور الحياة في مدينة قلعة سكر، النائمة على نهر الغراف، وتتوشح بجمال طبيعتها وانسياب نهرها. نشأ بين أزقتها وحواريها، وتعلم الابتدائية في مدارسها، ثم انتقل وهو صغير السن مع أفراد أسرته إلى العاصمة العراقية بغداد، وفيها أكمل دراسته في إعدادية الكاظمية ثم الثانوية، لكنه تعرض للسجن مع ثلة من رفاقه، وبعدها واصل دراسته خارج حدود وطنه بموضوع الشريعة والعلوم الإسلامية، واستقر به الحال والمطاف في سيدني بأستراليا .

كما وصفه أيضاً بأنه يمثل رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب، وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله .

وإذا ما انتقلنا للحديث عن مشروعه في تجديد العقل الديني نجد أنه أعاد كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة علي أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتسامح في كتابه" التسامح ومنابع اللا تسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات".

ولما كان مقالي يدور حول جهود ماجد الغرباوي في تجديد العقل الديني، فلا أملك إلا أن أقول عنه من خلال ما قرأته في كتاباته ؛ وبالأخص كتابيه " إشكاليات التجديد"، و" تحديات العنف"، بأنه أحد أبرز المفكرين في الفترة الحالية الذين جمعوا علوم الدين من ناحية، والفلسفة من ناحية أخرى، وتقديمه المعلومة بلغة عصرية مفهومة عبر رحلة طويلة من الفقه إلي الفلسفة، حتى تؤدى إلي تكوين خطاب ديني جديد، رافضًا تجديد الخطاب الديني القديم.

لا شك في أن كتابا " إشكاليات التجديد"، و" تحديات العنف" لماجد الغرباوي يبرزان لنا كيف قدم الرجل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا علي العقلانية النقدية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلي نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهي، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلي تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلي تكوين خطاب ديني جديد في كتابه " إشكاليات التجديد "، وافتتح مشروعه بالتأكيد علي أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلي "الإسلام المنسي"، ولذلك رأي الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.

هذا بالإضافة إلي النظرة الشاملة لماجد الغرباوي من أجل الدخول بالأمة "إلي عصر ديني جديد"، يدعو فيها إلى العودة إلى أصول الفكر الإسلامي، من قرآن كريم وسنة نبوية صحيحة، ويدعو إلى التفاعل العقلاني لهذه الأصول مع الواقع.

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أن الاستاذ ماجد الغرباوي من خلال بقية كتبة الأخري اكتشفت أنه كان يسعي جاهدا من خلال مشروعه الفكري في تجديد "العقل الديني" علي مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب ؛ حيث أوضح لنا في فقرات كثيرة من كتاباته إلي أن ما نعيشه في العالمين العربي والإسلامي من انتشار ظاهرة الإرهاب والطائفية التي مزقت الكثير من مجتمعاتنا العربية، مرجعه إلي الفكر المتعصب الذي يرفض الآخر، ويتعصب لوجهة نظر سياسية توظف الدين لتحقيق غايات سياسية.

ولهذا سعي ماجد الغرباوي إلي تجاوز "عصر الجمود الديني" الذي طال أكثر من اللازم في تاريخ الأمة العربية من أجل تأسيس عصر ديني جديد، وتكوين خطاب ديني من نوع مختلف، ويرفض الغرباوي تجديد الخطاب الديني التقليدي، فهو يري أنه عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة وبمفردات جديدة، وتفكيك كل التأويلات المغرضة.

والاستاذ ماجد الغرباوي في مشروعه لتجديد العقل الديني أكد علي ضرورة تفكيك الفكر المتطرف، وهذا التفكيك يحتاج لخطاب ديني جديد وعلوم جديدة لمواكبة المناهج العلمية»، مشيراً إلى أهمية التمييز بين المقدس والبشري، ولفت إلى جهود السلف والعلماء من أهل الفقه والتشريع، موضحاً أنها جهود بشرية قابلة للصواب والخطأ.

وأوضح الغرباوي أن الفقهاء المسلمين أكدوا على فكرة الموائمة والنسبية وملائمة العصر والمكان والزمان، مؤكداً أن العمل البشري لا يمكن اعتباره مرجعية مقدسة كالقرآن والسنة، وأن من أساسيات الخطاب الديني الجديد تعددية الصواب، وأن الخطاب الديني الجديد يجب أن يقوم على العقلانية النقدية والتفكير النقدي بما يلاءم ظروف العصر»، مشيرًا إلى أن «مقياس الحقيقة وفق التفكير الديني الجديد، الصواب هو ما ينتج في الواقع؛ بمعني أن الحق ليس حق في ذاته ولكن الحق بالنتائج المترتبة عليه في أرض الواقع الخارجي».

وشدد الغرباوي على ضرورة توجيه النقد الشامل لكل التيارات أحادية النظر، سواء كانت إرهابية أو غير إرهابية، وأن ذلك لن يحدث دون تفكيك العقل الديني التقليدي وتحليله للتمييز بين المقدس والبشري في الإسلام.

وأخيرا أكد الغرباوي أن تجديد العقل الديني، مشكلته ليست في الإسلام، بل في عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهي والفكري التي يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون؛ لذلك يقترح الرجل «روشتة» لتأسيس خطاب ديني جديد منها الهدف منه: تفكيك الخطاب الديني الحالي، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الإنساني الديني المتصلب والمتقنع بأقنعة دينية.

وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول : تحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

حظي كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، للأستاذ الصديق ماجد الغرباوي، ومحاوره الاستاذ طارق الكناني، على اهتمام بحثي ونقدي من قبل المهتمين بالشأن الديني حاله حال اغلب الدراسات التي تتخذ من اللامعقول الديني محورا لها في محاولة منهم لإيجاد فهمٍ اكثر واقعية لموضوعات الدين او المذهب، وكونه بحثا شموليا يجيب على تساؤلات تحمل الكثير من الهمً الشيعي المعاش كقضية المهدي ونوابه الأربعة وما يتوقف على ذلك من مسألة الخمس وولاية الفقهاء .

ولعلنا نجد قارئا للكتاب مطلعا على محتوياته لا يرى فيه ايً جديد يستحق الإشادة  او حتى استعراض بعض من فقراته دراسة او نقدا، اذ ان الحديث عن الولاية التكوينية او الرجعة او الشفاعة او حتى قضية المهدي هو اجترار للكلام دون جدوى .

وقد اتفق مع هذا القارئ فيما ذهب اليه، نعم هو اجترار للكلام دون جدوى، فعقيدتي ان بعض مما يسمونه عقائدا و متبنيات او حتى أصول مذهبية لا تناسب فكر وتطلعات المتلقي اليوم، وانها كانت تحاكي عقلية وسذاجة أبناء ذاك الزمان، ولذا النقاش في العقائد لا يستهويني كثيرا واراه مضيعة للوقت والجهد. غير أن الكتاب يعالج قضايا هي من صميم العقيدة، والناس بأمس الحاجة لمعرفة الحقائق الدينية، فاكتسب من هذه الجهة أهمية خاصة. كما أن الغرباوي كان بصدد الإجابة على أسئلة محاوره الاستاذ طارق الكناني.

لكن ما دعاني الى تسجيل بعض الملاحظات على كتاب مدارات الصديق ماجد الغرباوي رغم انه يدور في ذاك المدار هو بعض ردود الأفعال المتشنجة على الكتاب واتهام الكاتب بركوب موجة الإصلاح، وان كتابه يفتقر الى المنهج في دراسة الثوابت العقائدية .

ليس انتصارا للكاتب كصديق ونصرته ظالما اومظلوما، وانما لألفات النظر الى المنهج الذي اتبعه الأستاذ ماجد الغرباوي في مناقشته قضية المهدي والسفراء الأربعة الذي يجعل من الوقائع التاريخية حاكمة على صحة الواقعة وليس الرواية والخبر رغم ان قصة النواب الأربعة لا تسعفها لا رواية ولا خبر.

وهذه من أمهات المصائب التي ابتلي بها الفقهاء سنة وشيعة؛ اذ جعلوا استدلالاتهم مبتنية على الروايات واستنطاقها وقصر النظر عليها دون غيرها؛ فكل ما يحتاجونه يجدونه مسطورا في الروايات، حتى تعدى ذلك الاحكام الشرعية الى العقائد والتفسير، ودليل ذلك: ان القرآن لو اختفى عن الوجود  سوف لن يختفي الفقه بل يبقى كما هو بتفاصيله وتفريعاته طالما البخاري والكافي بين أيديهم .

ينقل الدكتور سروش حوارا دار بين الشيخ الصادقي ـ وهو من دعاة الاستناد الى القرآن في الاستدلال على الاحكام الشرعية ـ وبين السيد الخميني ، يعترض فيه الشيخ الصادقي على فتوى الخميني حول جواز الزواج بالمرأة الزانية وانها لا تناسب  الآية ٢٦ من سورة النور وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ، وفي الجواب يقول السيد الخميني انه لم يلحظ هذه الآية اثناء الفتوى .

وهذا الامر واضح جدا لمن خبر مجالس الفقهاء فالكتاب الوحيد الذي بين أيديهم هو وسائل الشيعة للحر العاملي .

وعلى الرغم من ان المنهج التاريخي في مناقشة ما تسالم عليه في العقائد على الخصوص في الوسط الشيعي ليس بالأمر الجديد، فقد دعى اليه الدكتور على شريعتي في الستينيات واتخذه منهجا في دراسة الاثمة الاثني عشر تحت عنوان "الامام التاريخي لا الروائي" فكان ينظر الى الامام من خلال الوقائع التاريخية وليس من خلال بحار الانوار، فالإمام التاريخي بشر ضمن حقبته الزمانية، وامام بحار الانوار كائن خارق للعادة، يتمتع بمعجزات تفوق معجزات الأنبياء.

وبقي منهج شريعتي هو السائد لمن جاء بعده فتبناه عبد الكريم سروش ودافع عنه اشد الدفاع وكذلك شبستري وملكيان وغيرهما من المفكرين الإيرانيين، وذهبوا به بعيدا حتى أصبحت الدراسات المذهبية لا تعنيهم كثيرا بقدر ما تعني رجال الدين ووعاظ المنبر ممن يعتاش على تلك التصورات ، فالمهدي انما يعني شيئا لرجل الدين وحده ولا يعني شيئا للفرد الشيعي.

وعليه فلإصلاح في المذهب الذي رفع لوائه شريعتي اصبح عند المفكرين المنتمين الى خطه مجرد ديكور على نافذة الاطلال .

يذكر أن المعروف عن ماجد الغرباوي أنه يوظّف مجموعة مناهج نقدية في بحوثه ودراساته، قد يغفل عنها غير الخبير، كالمنهج التحليلي، المقارن، الوصفي، والتأمل الفلسفي، ويرتكز دائما للتفكيك والحفر المعرفي. اضافة للمنهج التاريخي، وارتكازه للعقل قبل النقل، والقرآن دون الحديث في الاستدلال على آرائه في هذا الكتاب. 

75 madarat2 600

احمد الكناني

 

المهيمن الرمزي: في الفصل الخامس من الباب الثاني يتطرق الباحث الغرباوي إلى مسألة (المهيمن الرمزي) في النص التراثي، وهي مسألة على درجة عالية من الأهمية والخطورة معاً، على اعتبارها تشكل البعد السياسي في الخطاب التراثي منذ وفاة الرسول حتى اليوم. ممثلة في قضية الإمامة والخلافة. متكأً في رؤيته هذه على مقولة للشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، حيث يقول: (وأعظم خلاف بين الأمة هو خلاف الإمامة، إذ ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان.). (33). وهو الخلاف الذي مزق الأمة كما يقول الباحث، وقطع أشلاءها، حتى ضمرت معالم الدين، وتعددت قراءاته وفهمه تبعاً لهذا الانقسامات. علماً أن هذه الانقسامات والصراعات لم تزل حتى هذا التاريخ تحكم سلوكهم وثقافتهم وموقفهم من الحياة والدين معاً. بل وستبقى الفرقة الناجية بعد أن اكتسى هذا الصراع لباس الدين، وانقلبت وجهته من صراع سياسي على السلطة إلى صراع ديني، بكل مفرداته الطائفية والمذهبية، كدليل على صحة هذا الصراع أولاً كونه مشروعاً ضد من حرف الدين برأي كل فرقة اتجاه الأخرى، وثانياً كدليل على احتكار الحقيقة عند من يدعي الحقيقة من هذه الفرق، مهما تظاهر المختلفون وعقدوا الندوات لتجاوز هذا الخلاف في عصرنا الحاضر. وبناءً على هذه المعطيات سيظل النقد العقلاني وحده هو من يستطع مواجهتها وتحطيم بنيتها الملغومة بكل مبررات الصراع وعرقلة تقدم هذه الأمة وإعادة بنائها من جديد على أسس الدولة المؤسساتية والمواطنة، أو ما يمكن تسميته بالدول المدنية.

كما يتطرق الباحث في هذه الفصل إلى مسألة (الرسالة والسلطة) محاولاً أن يبين عجز الدين بكل ما يحمل من قيم إنسانية نبيلة أن يحطم سلطة العشيرة والقبيلة، التي باسمها تجلت إشكالية من هو الأحق بالخلافة، فقبيلة قريش وانتساب الرسول لها، أخذت السلطة أو الخلافة لها. وباسم الدين نفسه فيما بعد انشقت قريش إلى بيوت وكل بيت يدعي بأنه هو الأحق بها، كالبيت الأموي والعباسي والعلوي. وهكذا يتبين لنا كيف أن السلطة بُررت دينياً وبالنص الديني، وباسم الدين نفسه ظهرت الصراعات الطائفية والمذهبية، وكل الحروب التي بدأت مع حروب الردة وصولاً إلى الحروب التي تجري اليوم على الساحة العربية في العراق واليمن وسورية. وإن الإسلامي السياسي المعاصر نفسه في أحزابه وفرقه قام على الدين والحاكمية الله بدل حاكمية الكفر الوضعية. (34).

النص وأدلجة الخطاب:

في الباب الثالث من الكتاب يتناول الباحث والمفكر الغرباوي قضية (النص وأدلجة الخطاب) حيث يرى هنا: بأن (الطقوس ممارسة رمزية تجري في أجواء خاصة، تعبيراً عن مشاعر تضيق بها اللغة، فتلجأ إلى حركات وإيقاعات، ترافقها انفعالات رمزية، تعطي للحدث قيمة قدسية، وهي إحدى تجليات الروح الاجتماعية عند الإنسان، ابتدأت عفوية، ثم مع مرور الأيام اكتسبت دلالات دينية واجتماعية وثقافية، وراحت تؤدي وظيفتها من خلال رمزيتها وايحاءاتها. ثم ترسخت بقوة حضورها، وحجم التفاعل الشعبي والرسمي معها. وهي في أحد أبعادها الدينية ملاذ خلاص، والمعنى الذي يضفي الطمأنينة والاستقرار النفسي، ويعمق شعور الانتماء.). (35).

يقوم الباحث هنا بتفكيك حمولة هذا المفهوم إلى مفرداته الروحية والاجتماعية والبيسكولوجية، وإلى دلالاته وأهدافه وتأثيراته على الفرد والمجتمع عندما يوظف أيديولوجيا من قبل السلطة، أو من قبل قوى اجتماعية محددة تجد فيه مصالحها، أو إلى تنوع الطقوس ورمزيتها لدى الشعوب. وذلك يأتي كله في مطالب عدة حازها هذا الفصل مثل: (العمق الروحي للطقوس) و(الآثار الدلالالية للطقوس) و(الخطاب الطقوسي) و(الطقس والمعبد)، حتى يقف أخيراً في هذا الباب عند (طقوس عاشوراء) وما لها من دلالات سياسية واجتماعية ومذهبية، دون أن يغفل ما لبعض الطقوس من تأثيرات على اللحمة الاجتماعية والوطنية، كونها تحمل بين طياتها روح التمايز عن الآخر، ومحاولة استفزازه، وهذا ما جعل الباحث يطلق على مثل هذه الطقوس إسم: (طقوس الكراهية). (36).

في الفصل السابع من الباب الثالث يبحث المفكر الغرباوي في (أدلجة الخطاب). فبعد أن يعرف الأيديولوجيا على أنها (منظومة أفكار ومفاهيم منحازة يراد بها تفسير جميع الظواهر، وإعادة صياغة الواقع وفق قناعاتها وتصوراتها كحقائق ثابته لا يمكن التراجع عنها.). (37). إلا انه منذ البداية يحاول أن يفرق ما بين الأيديولوجيا كموقف معرفي ذا بعد إيجابي على اعتباره علم الأفكار ودراسة مساراتها وتطورها والأهداف التي ترمي إليها الأيديولوجيا ممثلة بحواملها الاجتماعيين. وبين الأيديولوجيا في بعدها السلبي عندما تتحول النظريات إلى بنى فكرية مغله على نفسها مفارقة للواقع المعيوش ومتعالية عليه، وعاملة دائماً على لي عنقه كي ينسجم معها.

وبعد أن يبين الباحث خطورة الأيديولوجيا في اتجاهها السلبي على المتلقي، عقلاً وسلوكا في بعد العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، كونها تقوم على اعتبار الحقيقة واحدة ومطلقة وليست نسبية، الأمر الذي يساهم في خلخلت البنية الاجتماعية وفرض صراعات بين مكونات المجتمع غالباً ما تعمل على تدمير الأخضر واليابس، وهذا ما يجعلنا نؤكد في المحصلة على إدانة الأيديولوجيا السلبية في أي صيغة كانت، وضعية ام دينية، من هذا التشويه للحقيقة وممارستها في الواقع. نقول: بعد تناول الباحث لهذا الدور الذي تتركه الأيديولوجيا السلبية على المجتمع، ينتقل الباحث لدراسة الأيديولوجيا الدينية، مركزاً على مسألة (مرونة النص الديني)، فمرونة النص الديني الذي اتكأت عليه الأيديولوجيا قد فتحت آفاق النص على التفسير والتأويل تبعاً لتعدد المقاربات الفكرية والعقيدية، ولتأثر قراءة أي نص بقبليات المقاربة وقدرة القارئ على استنطاقه وتأويل كما يقول الباحث. وهنا يعود بنا الباحث مرة أخرى إلى العقل النقدي ودوره في إعادة قراءة النص والأيديولوجيا معاً بحيادية، والبحث في حمولتهما عن القضايا الايجابية التي يتقبلها العقل ومصالح المجتمع، محاولاً بهذا العقل النقدي إقصاء كل القضايا اللاعقلانية التي تحاول الايديولوجيا السلبية الاشتغال عليها من الناحية الأسطورية كانت أو الخيالية أو التحريضية التي تساهم في خلق الفتن والصراعات داخل مكونات المجتمع وتغييب مصالح الناس. وبالتالي ضرورة العمل من خلال النص القرآني ذاته على تعزيز كل ما يساهم في ترسيخ السلم الأهلي، والتسامح والمحبة والوحدة الوطنية ونبذ الطائفية والمذهبية كما بشر بها النص التراثي العقلاني. (28).

إن هذا الموقف العقلاني النقدي، ينسحب على بقية مفردات هذا الفصل أيضاً مثل: (الموقف من الآخر).ص (29).

أما في مطلب (جاهلية المجتمع): فيتناول الباحث في هذا الجانب كتاب سيد قطب (معالم في الطريق)، نقداً وتفنيدا. إن كان على مستوى الموقف الأيديولوجي الذي يعتبر فيه قطب أإن الواقع للدين وليس الدين للواقع، حيث يريد قطب هنا أن يجعل من أيديولوجيا الحاكمية نصاً مقدساً صالحاً لكل زمان ومكان، وعلى الواقع أن يرتقي للنص دائماً، مع رفض لأي فكر أخر وضعي يضعه الإنسان من عنده للوصول إلى الحقيقة. كما ينتقد الباحث وفق هذا العمق النقدي مواقف قطب في مسائل الجهاد والطليعة المسلمة المعول عليها تفسير النص والعمل به .. الخ. (30).

النص وفتاوى الفقهاء:

في الفصل الثامن من الباب الثاني للكتاب يتناول المفكر الغرباوي النص وفتاوى الفقهاء، مبيناً في البداية مفهوم الفتوى وعلاقتها بالنص حيث يقول: (إن علاقة النص بالفتوى علاقة مرجعية، وما الفتوى سوى فهم للنص وتطبيق لكلياته. ورفع ما يبدو متعارضاً بين نصوصه، وتحديد ما هو عام وخاص ومطلق ومقيد. وما أخذ من أحكامه على نحو القضية الحقيقية أو الخارجية، وتحديد شروط فعلية الحكم وموضوعه. والتمييز بين الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية. هذا من حيث علاقتها بالنص. وأما اصطلاحاً فيراد بالفتوى رأي الفقيه المستند إلى دليل. حيث يعمل رأيه في استنباط وبيان الحكم الشرعي بناءً على مصار التشريع المعترف بها عندهم.) (31). أما مصادر التشريع فهي الكتاب والسنة والاجماع والقياس كمصادر أساسية عند السنة، إضافة للمصادر الثانوية كالاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة وقول الصحابي وغير ذلك. علماً أن للشيعة مصادر تشريعهم أيضا إضافة للقرآن والحديث المتواتر والمشهور المتعالق بآل البيت، هناك ما روي عن علي وآل البيت .

بيد أن ما يميز الباحث هنا هو موقفه العقلاني من هذه المراجع من حيث مشروعيتها وصدقها وطريقة الحصول عليها، ومن المناهج المتبعة للحصول على الحكم من خلالها. وهو في المحصلة يؤمن بدور العقل النقدي في تحليل هذه المرجعيات أو المصادر، فالعقل عنده هو الحكم في ذلك، ولكنه ليس العقل الذي يعمل على تثبيت النص كما يفعل الأشاعرة، وإنما النص الذي يحكم على النص من حيث صحته او خطئه ومدى استجابته لقضايا الواقع، وهذا كله يرجع عنده إلى جوهر النص الديني المقدس وهو القرآن.. فكثيراً ما يعود الباحث في عرضه لرؤيته العقلانية هذه إلى الآيات القرآنية التي تقر بالعقل والتطور والتبدل في هذه الحياة، إي إلى النص الديني بعد أن يفتح على كل مخزونه المعرفي الذي يسمح بمواكبة التطور والتبدل في حياة الإنسان. وعلى ذلك فالدين أو النص الديني عنده ليس ثابتاً أو جامداً ووثوقياً، بل هو متحرك في دلالاته، وقابل لمجاراة قضايا العصر. (32).

وعل هذا الموقف العقلاني من النص التراثي يطرح الباحث أسئلته المشروعة هنا وهي: من أين اكتسبت فتوى الفقيه سلطتها ومشروعيتها؟. ومدى علاقتها بالنص المقدس تحديداً. وهو يعتبر هذه الأسئلة محرمة ومسكوت عنها في جميع المذاهب الإسلامية. (33).

فعلى هذه الأسئلة يبين الباحث كيف أخذ النص الفقهي قدسيته أيضاً وتحول إلى مقدس راح الناس ينجرون وراءه كالأنعام. ويقول المفكر الغرباوي: إن الفقها اعتمدوا في تحقيق شرعية فتاواهم على قول مشهور مفاده: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم.) وهذا يتنافى مع صريح القرآن كما يقول الباحث: (اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.) سورة المائدة الآية 3. ولكن من يطلع على تفسير الآية عند الباحث يرى أن الباحث يؤكد تلك المقولة التي اعتمد عليها الفقهاء في اعتبار القرآن أو الدين لم يفرط في شيء. هذا مع اعترافنا للباحث في إقراره بأن المصالح الأنانية الضيقة لدى الناس هي التي دفعتهم لوضع أحاديث كاذبة على لسان الرسول، وهي التي دفعتهم لتأويل النصوص القرآنية كما يشتهون.. وبالتالي التلاعب بالنص المقدس كما يريدون. وهذه المسائل كلها يتناولها الباحث وبشكل دقيق في مطالب هذا الفصل مثل: (سلطة الفقيه) و(يقينيات الفقيه)، (أسباب تفاقم الفتوى) و(أسيجة القداسة). (34).

النص وميثيولوجيا التراث:

في الفصل التاسع يقف الباحث عند مسألة النص وميثيولوجيا التراث، حيث يقول: إن للتراث فهم بشري يمكن تفكيكه وتحليل مكوناته، أو مقولاته، لكن الضرورات المرجعية للمذاهب المتصارعة نأت عن النقد والمراجعة والتشكيك، عندما احاطته بأسيجة مثيولوجية (أسطورية) ورسخته في اذهان الناس عبر هذه الأسطورية والغرائبية. وبذاك حولته إلى أيديولوجيا متعالية على الواقع حازت على التعالي والوثوقية والقداسة بعد أن جردت التراث من بشريته وتاريخيته.

إن هذا الموقف من الثقافة التراثية الذي رمز الأحداث وأسطرها ومنحها القداسة، خلق حالة لا شعورية تجاه الحداثة ومعطياتها، فمع عملية الانحياز هذه نحو الماضي ضد الحاضر، فقدت المعرفة العقلانية حضورها ومكانتها أمام الايمان والتسلم المطلق .. فالمعرفة العقلانية لا تقوم عند الباحث إلا على الشك للوصول إلى اليقين، والشك لا يمكن أن يستكين ويهدأ إلا مع نسبية الحقيقة، فالحقيقة لا تعطى كاملة، بل هي تقوم دائماً على معرفة ناقصة، والشك هو من يساهم في خلق استمرارية البحث عنها: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). البقرة 260.

إن العقل العلمي القائم على البرهان والاستدلال والاستنباط والاستقراء، هو المنطلق الأساس عند الباحث للوصول إلى الحقيقة المعنية هنا بصدقية النص التراثي من جهة، وهو المنطلق الأساس أيضاً في الوصول إلى الايمان الحقيقي بهذا النص بعد الكشف عن كل دلالاته الإنسانية أو مقاصده الخيرة التي هي في الأساس جوهره وهدفه .

إن كل ما جاء في هذا الفصل لا يخرج في قراءته أو دراسته ونقده عن عملية البحث والنظر وفقاً للمنهج العلمي الذي يتكئ عليه الباحث، وهو المنهج القائم على البرهان ورفض الاستسلام للواقع أو الفكرة معا. وهذا نجده هنا في مطلب (قوة حضور النص) التراثي لدى كلا المذهبين الشيعي والسني معاً. حيث استطاع الباحث أن يقدم أدلة قاطعة على وجهة نظره وموقفه المنهجي العلمي تجاه ما جاء من أوهام وأساطير وإطلاق في الرأي والممارسة، فرضتها قوة النص وحضوره. محاولاً الاثبات في المنهج ذاته، أن التراث تراكم بشري، ينفع في دراسة العقل وتطوره تاريخياً، وهو نتاج محترم لا يتعالى على النقد والمراجعة، وليس لديه أية سلطة معرفية، ولا يستطيع أن يكون مصدراً معرفياً إلا بحدود. والغرباوي في موقفه الرؤيوي هذا يصل بنا إلى درجة عالية من النقد العقلاني للتراث، فهو لم يسخف التراث ولم ينل من مكوناته سخرية أو استهزاءً، بل هو يريد الوصول بنا إلى أن كل ما جاء في هذا النص التراثي هو من جهة شكل أو درجة من درجة تطور العقل العربي والاسلامي في تلك المراحل التي وجد أو أنتج فيها هذا النص عبر سيرورته التاريخية، وهو نص لم ينكر الباحث أيضاً بأن السياسة والمذهبية والمصالح الأنانية الضيقة أدخلت فيه الكثير من الكذب والتزوير والتشويه للحقيقة. من (35).

النص وشرعية السلطة لأليات التأسيس:

في الباب الرابع من الكتاب يبحث المفكر الغرباوي في طبيعة النص وشرعية السلطة لأليات التأسيس. حيث يقول: إن ثمة أسباب ودوافع وراء تدفق النصوص والروايات في القرون الأربعة الهجرية الاولى، ويأتي في مقدمتها إشكالية مشروعية السلطة أو أزمة مشروعية السلطة، ممثلة بالدولتين الأموية والعباسية، اللتين اشتغلتا على ظلم الناس والاستهتار بمصالحهم، واضطهاد كل من يعارضها، والعمل على تصفيته جسدياً أفراداً كانوا أم جماعات. وعلى أساس هذا الاضطهاد استمرت الخلافة. فهذا الخلافة الأموي ممثلة هنا بـ "مروران بن عبد الملك" على سبيل المثال لا الحصر، يقول مخاطباً رعايا الخلافة: (أما بعد فلست بالخليفة المستضعف، ولا الخليفة المداهن، ولا الخليفة المأمون، ألا أني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم...ألا أن الجامعة (القيد) التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي والله لا يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه، والله لا يأمرني بتقوى الله أحد بعد مقامي هذا إلا قطعت عنقه.) (36). وعلى هذا الأساس استمرت ولاية السلطان مباركة من مشايخ السلطان الذين شرعوا ولاية الفاسق منهم، ومن يأتي بالغلبة، وأن الخليفة لا يسأل يوم القيامة ولا يحاسب، وأنهم سكتوا على فساد الحاكم ودعارته، واعتبروا الرضوخ للحاكم المستبد أمراً أقره الله كونه خيراً من الوقوف ضده وحدوث الفتنة بين المسلمين.

كل هذه المبررات وجدوا لها أحاديث عن الرسول وروايات وإن استطاعوا تفسير النص المقدس لمصلحة الحاكم لما توانوا في ذلك. وعلى هذا الأساس رسخت أيضاً هذه النصوص التراثية تاريخياً ونال بعضها صفة التقديس، كأقوال وأحوال أهل السلف والصحابة الذين قيل فيهم بأنهم كالنجوم بأي منهم اقتدينا اهتدينا.

يحاول البحث في هذا الباب أن يبين إشكالية السلطة ما بين الشورى والنص من جهة، وما بين الملك العضوض الذي كرسه معاوية من جهة ثانية، معطياً الكثير من الأمثلة والأدلة على هذه القضية التي ظلت محط صراع مادي وفكري بين المسلمين طوال تاريخ الخلافة الإسلامية منذ السقيفة حتى سقوط الخلافة. وما جرى من قمع وتشويه للحقيقة الدينية من أجلها.

ولا يفوت الباحث أن يقف من الناحية السياسية عند النظريات السياسية التي وضعت عبر تاريخ الخلافة حيث قسمها إلى:

1- النظرية الثيوقراطية، التي تحيل السلطة إلى أمر متعالي عن الواقع وخارج نطاق البشر، وتشمل:

آ- الطبيعة الإلهية للحكام.

ب – الحق الإلهي المباشر.

ج – الحق الإلهي غير المباشر.

2- النظريات الديمقراطية. التي تحيل مرجعية السلطة إلى الشعب. (37).

وعلى هذا الأساس تأتي دراسة الباحث في كل مفردات هذا الباب هي للنظر في طبيعة السلطة الاستبدادية عبر الخلافة الإسلامية، وآلية عملها وحواملها الاجتماعيين وشرعية وصولهم إليها، وبالتالي الصراعات والدسائس والمؤامرات التي حيكت حولها وداخلها، وتوظيف النص الديني المقدس وأدلجته من أجلها.. وغير ذلك نجده في مفردات هذا الباب ونصوصه مثل: (النص والتاريخ) و(الدين والسلطة)، (الإسلام السياسي). و(رواية الإمامة أو الخلافة في قريش. والتطور التاريخي لهذه الرواية)، و(من بدل دينه فاقتلوه)، و(تاريخية النصوص)،. و(النص ومراوغات المفهوم)، و(مفهوم الخلافة)، و(مصداقية القداسة)، و(مفهوم الخلافة)، و(مفهوم الرشد)، و(الدلالات السلبية لمفهوم الخلافة لدى الدولتين الموية والعباسية)، و(مفهوم العصمة)، و(الألقاب)، (38).

النص واتجاهات المعارضة:

في الباب الخامس من الكتاب يقف الباحث والمفكر الغرباوي عند النص واتجاهات المعارضة. فهو يرى أن وضعية النص التراثي بالنسبة للمعارضة السياسية لا تختلف في الحقيقة عن وضعيته عند القوى السياسية الحاكمة. حيث يقول في هذا الاتجاه: إن ما جرى على النص من تزوير وتأويل وتفسير ساهم في إعادة صياغة هذا النص بصورة تخدم مصالح القوى السياسية المعارضة، وذلك كله جرى منذ وفاة الرسول مروراً بالخلافتين الأموية والعباسية، وصولاً إلى سقوط الخلافة الاسلامية.

إن كل ذلك جرى من أجل تبرير الوصول إلى السلطة، أو دعم بقائها. وهذا الذي جرى على النص استطاع في الحقيقة أن يساهم في خلق وعي كاذب، راح ينتشر كالسيل الجارف عند اطراف المعارضة، كما راح يتجذر شيئاً فشيئاً في وعي وسلوكيات الناس الذين تحولوا إلى شيع وفرق ومذاهب، اتخذت من الدين ذاته هذه الوضعية الاجتماعية المأزومة والملغومة بكل أشكال التناقضات والصراعات والكره والحقد بين مكوناتها، وصولاً إلى تأسيس الفرقة الناجية وامتلاك الحقيقة المطلقة التي على أساسها قامت حروب راح ضحيتها الكثير من المسلمين منذ صراع السقيفة حتى اليوم. كل هذه القضايا نجدها قائمة أيضاً في مضامين مفردات هذا الباب مثل: (اتجاهات المعارضة)، و(عناصر المعارضة الناجحة).، و(الاتجاه التنظيري – لدى المعارضة)، أو (النص وفتنة الشعار)، و(النص والتأصيل الكلامي – علم الكلام القديم). (39).

النص والغلو:

في الباب السادس يتناول الباحث النص والغلو. حيث جاء تعرف الغلو عنده بأنه: المبالغة والخروج عن الحد... والتعصب والتطرف والارتفاع.. وفي التاريخ الإسلامي لازم مغالات الناس بأنبيائهم ورموزهم حد التأليه عند البعض بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو في بعض معانيه أيضاً سلب بشرية الإنسان ومنحه قدرات خارقة. (40). هذا وقد بين الباحث أيضاً الموقف الحقيقي للدين من الغلو، وهو موقف رافض له بناء على نص الآية: (لا تغلوا في دينكم غير الحق). (وما جعل عليكم في الدين من حرج).

إن هذا الغلو جاء أساساً كما يرى المفكر الغرباوي للتعبير عن مواقف تخدم قوى اجتماعية محددة سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية. والغلو اشتغل عليه كتاب التاريخ الإسلامي مثلما اشتغل عليه الفقهاء وعلماء الكلام، وهو لم يترك مسألة في حياة المسلم إلا وكان له حصة فيها. لذلك نجده في التشريع وفهم العقيدة، الأمر الذي أوجد من يقف ضد هذا الغلو من فقهاء وعلماء دين. فالكثير من مصادر التشريع الفرعية كسد الذرائع والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها، كلها جاء خدمة للخروج من هذا الغلو. وكذلك التأكيد على أن الأصل في الأشياء الإباحة. وتغير الأحكام بتغير الأحوال .. الخ.

إن كل هذه المصادر التشريعية جاءت أصلاً لهذه الغاية. هذا وقد اتكأ الذين يمارسون التطرف (الغلو)، أو ممن يدعون إلى تشغيل العقل ومراعاة خصوصيات تطور أحوال الناس في مواقفهم الفكرية على النص التراثي بشكل عام، والنص المقدس بشل خاص، من خلال البحث في الآيات المحكمات الواضحات التي تدعوا إلى التسامح والمحبة وقبول الرأي والرأي الاخر، أو الأخذ بالآيات المتشابهات التي غالباً ما أولت وفسرت من قبل الذين في قلوبهم زيغ .

في المحصلة في هذا الباب ومفرداته، لا يخرج الباحث في موقفه المنهجي العقلاني الذي يشتغل عليه، من الاستناد على العقل وحريته وعلى العلم وقوانينه وطرق وصوله إلى الحقيقة عبر الاستنتاج والقياس والاستدلال والبرهان إلخ. فالباحث هنا يعمل بجهد عال المستوى في تقصي أسباب هذا الغلو ومراجعه وأسبابة ونتائجه المدمرة على الدين والدنيا معاً، مؤيداً في ذلك كل من حارب الغلو في تاريخنا الإسلامي وعلى مستوى الطوائف والمذاهب والفرق.، مبيناً بالمثال النتائج المدمرة في التاريخ الإسلامي لهذا الغلو.

نجد كل ذلك في مفردات هذا الباب مثل: (الغلو والنص.)، و(اتجاهات الغلو المذهبي)، و(الغلو السني)، والغلو الشيعي والولاية التكوينية.) (41).

معرفة الروايات) في التراث العربي الإسلامي:

في الفصل الساس ذاته وهو الأخير في كتابه، يقف الباحث الغرباوي عند مسألة على غاية من الأهمية أيضاً وهي (معرفة الروايات) في التراث العربي الإسلامي، حيث اعتبرها تمثل قوام مرجعيات التفكير لدى المسلمين، لأنها تكتسب أهمية كبيرة لدى المتلقي. كما يرى الباحث مرجعيات التفكير هذه، ليست سوى نصوص متراكمة تتحكم بمرجعيات الوعي وضبط أداء العقل، لذا يجد الباحث من الضروري والمناسب إضافة ضوابط علمية لتمييز الصحيح من الغلط في هذه الروايات للتخلص من ثقل التراث وتبعات النصوص، وذلك بسبب ما حققته هذه النصوص لنا من إرهاق، وخاصة الأحاديث الصحيحة منها قبل الضعيفة، لأن النصوص في ثقافة المسلمين تمثل مرجعية نهائية لجميع تفصيلات حياتهم. بدءاً من النظر إلى الطبيعة في كيفية خلقها وإلى نجومها وكواكبها، وصولاً إلى النظر في حياة الفرد والمجتمع من إدارة أمور حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وصولاً إلى دخول بيت الخلاء. وهنا يقدم في هذا الفصل الكثير من الأدلة والوثائق على ما جاء إليه في هذا الاتجاه من حيث سيطرة النص التراثي بشكل عام والمقدس منه بشكل خاص على حياة العرب والمسلمين حتى اليوم بكل مكوناتهم الطائفية والمذهبية. وهذا ما نجده في مفردات هذا الفصل مثل: (شواهد الوضع)، (مناهج التوثيق)، و(حجية السنة)، وأخيراً في (القيمة المعرفية) (42).

في نهاية الكتاب يصل الكاتب والباحث والمفكر الغرباوي إلى نتائج على درجة عالية من الأهمية في كيفية التعامل مع التراث وما هي القضايا التي يجب على الباحث أن يتكئ عليها كي تخرج الأمة من هذا المأزق التراثي والتاريخي معاً، وذلك من خلال المنهج العلمي الذي أشرنا إلى العديد من مفرداته عند قراءتنا السريعة لهذا الكتاب، والتي أهم ما فيها هو اعتماد العقل وبرهانه أولاً، ثم الدليل القائم على الشك والاستنتاج والاستقراء والاستدلال ثانياً. فالغرباوي بالرغم من محاولة ابتعاده عن البعد الطبقي في قراءة التراث إلا أن تركيزه على العدل والمساوة والمحبة والتسامح من خلال إعادة قراءة النص التراثي يدخله هذا التركيز بهذا الشكل أو ذاك في البعد الطبقي. وانطلاقاً من موقفه هذا، فهو يقول: لا يمكن الوثوق بنص تاريخي سوى القرآن الذي تعهد به جميع المسلمين، على أن يقرأ ضمن شروطه التاريخية ومنطقه الداخلي، ومنهجه في المحكم والمتشابه من الآيات، ومعرفة تاريخ الآية وأسباب نزولها وظروفها، وما علاقتها بالهدف الأساس من الدين وبخلق الإنسان. ثم ما رسبته الروايات والأحاديث من مفاهيم كرست الجهل والتخلف وروح التنابذ والانقياد والتبعية، وشوهت معالم الدين وهدف الإنسان في الحياة. وهذا كله يتطلب إعادة النظر في منظومة القيم المعرفية والأخلاقية، وجميع قَبْلِياتِ الفرد ويقينياته بما يتيح تأسيس العقل بأسس جديدة. (43).

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

.......................

المرجع.

1- النص وسؤال الحقيقة – نقد مرجعيات التفكير الديني، تالف ماجد الغرباوي، الطبعة الاولى 2018 إصدار مؤسسة المثقف العربي، سيدني – استراليا. نشر وتوزيع دار الأمل الجديدة، دمشق سورية: ص7.

2- المرجع نفسه ص8.

3- المرجع نفسه. ص 8.

-4 المرجع نفسه.ص 9.

5- المرجع نفسه .ص 13.

6- المرجع نفسه. ص13.

7- المرجع نفسه. ص13.

8- المرجع نفسه . ص 13.

9- المرجع نفسه. ص 13.

10 – المرجع نفسه. ص 15.

11- المرجع نفسه. ص 16.

12- المرجع نفسه. ص 16.

13- المرجع نفسه. ص 16.

14- المرجع نفسه.ص 18.

15- المرجع نفسه.ص 19.

16- المرجع نفسه. ص 20.

17- المرجع نفسه.ص 22.

18 – المرجع نفسه. ص 23.

19- المرجع نفسه. ص 33.

20- المرجع نفسه. ص 35.

21- المرجع نفسه. ص من 40 إلى 43.

22- المرجع نفسه.ص من 43 الى 48.

23- المرجع نفسه. ص من 49 الى 56.

24- المرجع نفسه. ص 56.

25- المرجع نفسه. ص. 59 وما بعد.

26- المرجع نفسه.ص 64.

27- المرجع نفسه.ص 65.

28- المرجع نفسه. ص 67.

29 – المرجع نفسه.ص 72.

30- المرجع نفسه. ص 72.

31- المرجع نفسه. من ص 76 الى 78.

32- المرجع نفسه. ص 79.

33- المرجع نفسه. ص 83.

34- المرجع نفسه. من ص 79 الى 102.

35- المرجع نفسه. ص 105.

36- المرجع نفسه. نت ص 105 الى 122.

37- المرجع نفسه. ص 123.

38- المرجع نفسه. ص 124.

39- المرجع نفسه. من ص 128 الى 133.

40- المرجع نفسه. من ص 133 الى 134.

41- المرجع نفسه. ص 135.

42- المرجع نفسه. من ص 135 الى 139.

43- المرجع نفسه. ص 139.

44- المرجع نفسه. من ص 139 الى 150.

45- المرجع نفسه. من ص 150 الى 160.

46- المرجع نفسه. ص163.

47- المرجع نفسه. من ص 165 الى 2006.

48- المرجع نفسه.من ص 167 الى 184.

49- المرجع نفسه. من ص2007 الى 236.

50- المرجع نفسه. ص242.

51- المرجع نفسه. من ص 237 غلى 286.

52- المرجع نفسه. ص 297.

53- المرجع نفسه.296.

ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في العلوم الشرعية والإنسانية، يسعى من خلال مشروعه الفكري هذا إلى ترشيد الوعي عبر تحرير العقل من سطوة سلبيات التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك عبر قرأة متجددة للنص الديني المقدس بشكل خاص والنص التراثي بشكل عام، تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري يساهم في ترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة، بغية التأسيس من وراء ذلك إلى إقامة مجتمع مدني خالٍ من العنف والتناحر والاحتراب. وهذا ما يجعله من أحد كبار مفكري النهضة في تاريخنا الحالي الذين يشتغلون على الفكر النهضوي العربي، من خلال تركيزه على نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الإسلامية، والمرأة والإصلاح والتجديد. وهي من القضايا الأكثر أهمية وحساسية في الخطاب الفكري السائد حالياً.

صدر للغرباوي العديد من الكتب وبطبعات متعددة، منها:

إشكاليات التجديد، والتسامح ومنابع اللاتسامح، وتحديات العنف، والضد النوعي للاستبداد، والشيخ محمد سعيد النائيني، والحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، والنص وسؤال الحقيقة، والشيخ المفيد وعلوم الحديث، وترجمة الدين والفكر في شراك الاستبداد، وتحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث.

كما صدرت عنه مجموعة من الدراسات والبحوث والكتب تتعلق في فكره ودور هذا الفكر في إمكانية تجديد النص التراثي وإعادته إلى طريق الصواب. أي طرق تحقيق النهضة.

بوب الكاتب والمفكر الغرباوي كتابه بستة أبواب، وستة عشر فصلاً، والعديد من المطالب في كل فصل من فصول الكتاب.

أما عناوين أبواب الكتاب فهي:

الباب الأول:النص والخطاب .. المفهوم والدلالة.

الباب الثاني: النص والحقيقة.

الباب الثالث: النص وأدلجة الخطاب.

الباب الرابع: النص وشرعية السلطة – الآليات والتأسيس.

الباب الخامس: النص واتجاهات المعارضة.

الباب السادس: النص والغلو.

قراءة اولية في مضمون الكتاب:

تطرق الكاتب والمفكر الغرباوي في مطلع كتابه عن أهمية الجهود الفكرية والفلسفية التي طُرحت على الساحة الفكرية العربية من أجل معالجة التفكير الديني والعقل التراثي. وما تمتعت به هذه البحوث والدراسات من حيوية في المناهج، وطرح الأسئلة واختراق الممنوع واللامفكر فيه، حيث شكل ما اشتغل عليه هؤلاء تراكماً معرفيا ورغبة في ترشيد الوعي، بغض النظر عن اتفاق الغرباوي أو عدمه اتفاقه مع ما كتب في هذا الاتجاه، مسترشدا كدليل على هذا الموقف أو الرأي مما كُتب، من حالة الجدال الذي دار بين محمد عابد الجابري في كتابه مشرع (نقد العقل العربي)، ورد جورج طرابيشي ونقده لمشروع الجابري في كتابه (نقد نقد العقل العربي). (1).

منذ البداية يؤكد الغرباوي بأن مشكلة التخلف عنده لا تعتبر في الدين كوحي إلهي. ولا لكونه إيمان يثري التجارب الروحية. بل المشكلة في تحري وفهم مقاصد هذا الدين وغاياته ووظيفته. وبالتالي دور العقل في الاشتغال على توظيف هذا الدين خدمة للإنسان ومصالحه في حالات تطوره، والوقوف ضد الفهم الوثوقي الاستسلامي من هذا النص التراثي، والمناهج الفكرية الجمودية واللاعقلانية التي تعاملت مع هذا النص عبر التاريخ الإسلامي حتى جردته من إيجابياته، لعدم تمييز من اشتغل على هذه المناهج بين الثابت والمتحول فيه، وبين الخاص والعام، وبين الايجابي والسلبي، وبين النسبي والمطلق. وهذا ما ساهم في تجريد النص من مقاصده الحقيقة المشبعة بالقيم الإنسانية النبيلة وتاريخيته، ثم تحويل ما توصل فهمهم له من النص الترثي بمجموع مفرداته إلى أيديولوجيا دوغمائية تسلط السيف على عقول ورقاب المختلف. (2)

كما يؤكد الكاتب والباحث على علاقة الفكر في حالات تطوره بالإشكاليات القائمة .. دون أن يبين طبيعة هذه الاشكاليات، عدا إشكالات الفكر الديني ومرجعياته ومناهج التفكير فيه، حيث يقول بأن مرجعيات التفكير الديني ليست سوى مصفوفة تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. ومن خلالها يفسر ظواهر الأشياء ويفرز الحق عن الباطل حتى لو كانت هذه الروايات ضعيفة وهي الأكثر قدرة على تزييف الوعي وتكريس الجهل والأمية. مستغلين قوة بيان النص المرجع ومجازيته الموظفة داخل النسق اللغوي، إضافة إلى تعدد الاحالات المرجعية وقدرتها في السيطرة على عقل القارئ او المتلقي للنص، وهذا ما يعطي النص صرامة وقوة ليس من السهولة اختراقه وتفكيكه ثم إعادة تركيبه. إن كل ذلك يعطي النص الترثي قداسته وصلابته وعدم القدرة على نقده أو مراجعته أو تعديله. (3)

إن الاشتغال خارج وعي المتلقي في مثل هذه الحالة يعني بالنسبة للباحث والمفكر الغرباوي، أن الفرد سيتأثر بالنص الملقى عليه، وهذا يتطلب إعادة دراسة النص بالضرورة إعادة معرفية والقدرة على التفكيك والتنقيب ومراعاة قابليات المتلقي، وكيفية وعيه للنص، ومدى تأثير البيئة الثقافية عليه. وهذا ما قام عليه كتاب (النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني).(4)

وظيفة الكتاب: (يمثل مشروعاً نهضوياً لاستعادة وعي الفرد بعد نقد العقل الديني ومرجعياته المرتهنة لقدسية التراث وأوهام الحقيقة التي ابتعدت عن المناهج العلمية والكشوفات الحديثة، وكذلك الحفر بعيداً في بقع معرفية مستبعدة ومهشمة تقع ضمن المتواري واللامفكر فيه. وبالتالي مدى مطابقة البنية المعرفية لهذا النص التراثي والمنهج الذي اشتغل عليه رجال الدين تاريخياً للعقل وللواقع معاً.

إن هدف الكتاب في المحصلة هو الطموح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة والأسطورة وأوهام الحقيقة بإسم المقدس من أجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهضة حضارية لهذه الآمة المفوّته حضارياً، قد يساهم في رسم ملامح عالم جديد يطمح للحرية والعدالة والمساواة، ضمن إطار مجتمع يرفض العنف وإقصاء الاخر .(5)

في الباب الأول من الكتاب (النص والخطاب – المفهوم والدلالة)، وعبر كل عناوين فصوله وأبوابه يبدأ الفصل الأول من الكتاب بتعريف النص بشكل عام لغة ومجازاً، حيث يأتي النص لغة عند الغرباوي على أنه: (ما لا يحتمل إلا معنى واحداً أو لا يحتمل التأويل) أي هو كما يشير إليه علم الفقه بأنه: (ما كان نصاً في معناه، في مقابل ما كان ظاهراً). (6)

اما النص اصطلاحا او مجازاً فهو عنده: (ما تعددت دلالاته بتعدد قراءته وتأويلاته المتعددة).

فالنص هنا ثري في دلالاته أو ايحاءاته، ويتوقف الكشف عن هذه الايحاءات إن كان في الظاهر او المخفي او المضمر بناءً على مرونته وأسلوبه في التعامل معه. أي المنهج المتبع في قراءة النص. فالنص ليس أكثر من حقل معرفي قابل للحرث والتنقيب المعرفي في أعماقه .

أما السلطة فهي عنده لغة: (تأتي من التسلط والسيادة، والحكم ويراد بها اصطلاحا، السلطة المعرفية). (7). كما يراد بها هيمنة النص ومحدداته حينما يحتكر الحقيقة أو جزءاً منها. ضمن آلية التفكير وإنتاج المعرفة سواء كان النص موافقاً للواقع أم لا، المهم قيمة النص الذي يتعامل معه المتلقي بغض النظر عما يحمله هذا النص من أوهام وحقائق مطلقة يخضع لها عقل المتلقي. (8)

يؤكد الكاتب والمفكر الغرباوي على أن المراد بحثه أو التركيز عليه هنا، هو النص الديني خصوصاً، والروايات الموضوعة. ومدى تأثير الظروف المحيطة بالنص والمتلقي معاً على سلطة النص، وكيف أثبتت النصوص والروايات الموضوعة سلطتها حاضراً رغم تأريخيتها وتقادمها الزمني؟.(9)

أما أهم العوامل أو العناصر المؤثرة بالنص والتي يستمد منها سلطته، فهي متعددة ومختلفة قوة في تأثيرها النسبي من قارئ لآخر، وعلى هذا الأساس يجد الغرباوي أن النص يستمد سلطته ومركزتيه وتأثيره من مؤلف النص أولاً وأسلوب الخطاب ومضامينه). (10). كما يرى الغرباوي في الوقت نفسه إمكانية إهمال مصدر النص عندما يتعلق بمسائل أخلاقية ما دامت هذه القيم إنسانية مطلقة، كقولنا (النجاة في الصدق). ولكن لا يمكن تجاهله عندما يتعلق الأمر في حالات التعدد القيمي بين أصحاب الحضارات والديانات والثقافات المختلفة، فالقضية هنا نسبية. كما لا يمكن تجاهل مصدر النص عندما يؤسس لأية سلطة دينية كانت أو سياسية أو ثقافية أو معرفية. لآنه المعني بتحديد مستواها، فيكون المصدر هنا جزءاً من النص ذاته. كآية قرآنية أو حديث. كقول الحديث (الخلافة في قريش)، أو (إن الإمامة نص وتعيين) حيث ترتب على هذين النصين تأثير على مجرى التاريخ وصراعاته بين السنة والشيعة لم تزل حتى اليوم قائمة. (11)

إن ما يدلي به النص القرآني أو الحديث أو أي فرمان سلطوي، يعتبر عند الباحث الغرباوي إلزاميا إذا كان يتعلق بقضايا ذات طابع سلطوي. وما عدا ذلك فيعتبر النص حتى لو كانت هذه مصادره فهو نص إرشادي لا أكثر.

أما بالنسبة للنص وأهمية مصدره في عصرنا الحالي، فيجد الباحث أن مسألة التطرق للمصدر منذ العقد السابع من القرن الماضي، راحت تخف، وخاصة مع أدب وفلسفة وفن ما بعد الحداثة. حيث بدأت تطرح نظرية موت ا(المؤلف). (12). بل أننا نرى في نظرية الواقعية الجديدة في صيغتها الأمريكية برأيي هي من أخذ يمثل هذا التوجه المعاصر الذي أشار إليه الغرباوي، حيث تأخذ هذه المدرسة الحداثوية النص من مصدره وتقوم بنقد مضمونه دون التطرق إلى كاتبه. فما يهمها هنا هو دلالات النص وليس مصدره أثناء نقده. فيكون النقد أقرب للموضوعية والحيادية.

أما الأكثر خطورة هنا بالنسبة للنصوص كما يراها الباحث، فهي النصوص التي تخاطب العواطف الإنسانية أكثر من مخاطبتها عقولهم. كونها خطابات تعبويه تثويريه طقوسية تلهب حماس المتلقين من قوى اجتماعية معينة. كالخطابات الطائفية والأيديولوجية أو الاحتفالية سياسية كانت أم دينية (13)

إن النص كما يقول الغرباوي يظل: (مستغرقاً في صمته. يخفي دلالاته وأسراره ورمزيته، لا تستنطقه سوى القراءة الموغلة في نقدها وتفكيكها لتراكم طبقاته المتوارية. والنص الميتافيزيقي يخشى فضيحته المعرفية حفاظا على سلطته وهيمنة مفاهيمه). (14)

والنص الديني يرتكز في أدائه وسلطته على بنيتين هما: ظاهرية تستمد وجودها من تعدد دواله، وأسلوبه اللغوي كلمة وتعبيراً ومجازاً ورمزاً وتمثيلاً، وبنية مضمرة يرتكز عليها النص لتمرير ما يريده دون البوح بها.

74 majed600

أهمية قراءة النص ودلالات هذه القراءة:

يقول الباحث والمفكر الغرباوي: (لا توجد سلطة للنص ومصدره خارج فعل القراء، والمتلقي هو الذي يخرجها من القوة إلى الفعل من خلال منظومته المعرفية القابعة خلف قابلياته ويقينياته). (15). والمؤمن أو من يمتلك عقلاً تراثياً يخضع للنص الديني المقدس أو لنصوص مشبعة بالغيبيات، (أساطير وكرامات وغيرهما) دون مراجعة أو نقد، إنما هو يستسلم له، في الوقت الذي نجد المحايد والمتمتع بعقل برهاني يقرأ النص المقدس وغيره من نصوص التراث قراءة تحليلية وتركيبية، ويتوغل فيه معتمداً على العقل والمنطق والاستنتاج والاستقراء والقياس الجمعي. والسبب في وجود هذين الموقفين هو درجة وعي وثقافة المتلقي، وطبيعة المنهج الفكري الذي يشتغل عليه، والبيئة والعادات والتقاليد والشعائر والطقوس والخطاب الديني والنفسي والتراثي والظروف التربوية التي يعيش فيها، إضافة إلى طبيعة ودرجة وعيه واستعداده لتقبل ما يقدم له من نصوص دون أي رد فعل نقدي.

ينتقل الباحث بعد ذلك إلى دراسة النص والخطاب: حيث يأتي عنده الخطاب: (مخاطبة بين طرفين، وحديث موجه يحمل رسالة بقصد إقناع المتلقي بها مباشرة أو عبر تقنيات لغته أو أساليب تعبيره،. ساعياً لفرض سلطته على مشاعر المتلقي.). (16)، معتمداً عبر حوامله على المتلقي وظروفه ودرجة وعيه وثقافته وانتمائه الديني، أو الطائفي والمذهبي، .. الخ . وهو يتكئ على علاقاته بالعلوم الأخرى من أدب وفن وموسيقى وغناء وأخلاق ورموز.. الخ. والخطاب التراثي عادة هو خطاب قراءاته كما يقول الكاتب مواربة ومليئة بالرمزية والأسطورة المجردة العابرة للزمان والمكان، ويسلم نفسه بسهولة للمتلقي الحاذق.

أما الخطاب الأيديولوجي فهو خطاب تعبوي يقوم على إثارة مشاعر المتلقي، والتغلب على وعيه من أجل تحقيق أهدافه أو رسالته. وبالتالي نجاح الخطاب العلمي يعتمد على الاستدلال والبرهان والقياس المنطقي والاقناع، كما يعتمد على ثقافة واسعة وموقفاً منهجياً صارما لا يدخل العواطف والأهواء. (17)

وتظل المشكلة قائمة عند الباحث بالنسبة لعلاقة العقل بالخطاب. حيث يجيب عن هذه العلاقة بقوله: (كما أن الخطاب يتحرى وعياً ملائماً لدى المتلقي، كذلك العقل يطمح في خطاب ينسجم مع ثقافته وقابلياته، وبناءً على ذلك تنشأ علاقة جدلية بين الخطاب والعقل..).(18)، كل منهما يغني الاخر من أجل التأثير على المتلقي. فالنصوص وخاصة التراثية منها التي يعمل الخطاب على إغفال مرجعياتها ويتعامل الناس معها كحقائق ثابته، نهائية ومطلقة، تساهم في توجيه العقلين المتلقيين الفردي والجمعي وتستنزف طاقاتهما، كما تستنزف طاقات حواملهما الاجتماعيين وثرواتهم وتعطل جهدهم الحضاري وتعمق الشعور بالتفوق والعزلة والتعالي وكراهية الآخر المختلف.

من هنا يأتي النقد العقلاني كي يعري النص والخطاب معاً ويفضح دورهما وأهدافهما.

النص وحرية النقد:

في الفصل الثاني من الباب الأول يتطرق الباحث إلى (النص وحرية النقد). وهي قضية على درجة عالية من الأهمية والحساسية لما لها من نتائج تدميرية علي وعي الحامل الاجتماعي للخطاب وعلى المتلقي معاً. فالغرباوي يعالج مسألة قدسية النص (قرآن وحديث) ومدى قدرة نقده أو تعديله أو مراجعته. فالنص المقدس يفرض نفسه على الفقيه بشكل خاص ويقيد إمكانيات النقد العقلاني لديه. فالفقيه يعتبر النص عنده حالة مقدسة، وكل الذي يستطيع عمله هنا هو إعادة تفسير النص وتأويله كما ورد في العقل التراثي. وإذا كان النص القرآني يفرض قداسته ورهابه على الجميع، فإن المشكلة هنا تكمن بالحديث، وكتب التاريخ تبين كيف وضع الحديث خدمة للسلطة السياسية الحاكمة وخاصة في العصرين الأموي والعباسي حتى عصر التدوين. فالحديث في العقل التراثي وحتى في عقلنا المعاصر هو نص مقدس كما يقول الباحث متكئاً هنا على نصوص قرآنية (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب). (سورة الحشر الآية 7.). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). (النساء – الآية 59.). وبالتالي (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.). وعلى هذا الأساس فعقل الفقيه يظل هنا عقلاً مغلقاً غير قادر على الخروج من قدسية النص وسحره. وهذا سينعكس سلباً على الخطاب وتأثيره اجتماعيا وسياسياً وقيمياً وأخلاقياً ونفسياً، وعلى المتلقي أيضاً الذي غالباً ما يدخل في صراعات دامية مع الآخر المختلف معه في مرجعياته الفقهية. (19).

القراءة والسلطة:

يريد الباحث أن يقول في هذا الاتجاه بأن للنص التراثي المقدس سلطته على الفقيه أو المفكر أو المفسر، وهو محكوم بقداسته. على عكس القارئ المتحرر من قداسة النص، حيث يتعامل معه بشكل محايد، وهو قادر أن يعيد قراءته من جديد، واخضاعه لمختلف المناهج الحديثة والمعاصرة تفكيكاً وتركيباً ونقداً بغض النظر عن قائله بغية الوصول إلى فتح كل دلالاته الإنسانية والوصول إلى مقاصده المضمرة أو المسكوت عنها بعقلية حيادية. هذا وقد جئنا على هذه المسألة في موقف سابق من قراءتنا للكتاب. (20).

الموقف من الحريات:

يتناول الباحث في هذا الفصل ايضاً الموقف من الحريات. فثمة أسئلة يطرحها الكاتب تتوقف عليها حدود حرية الاعتقاد والتعبير في الإسلام. مثل هل الدين يعتبر نموذجاً نهائياً، يصادر حرية الرأي والاعتقاد والتعبير؟. ويفرض رؤية أحادية تلازمه مدى الحياة؟. أم الدين نسق قيمي يستجيب لمتطلبات الزمان والمكان ويتجدد مع كل قراءة له في شروطها الموضوعية؟.

يقول الباحث الغرباوي مجيباً على اسئلته بأن الإسلاميين (وأعتقد يقصد السلفيين السكونيين منهم)، من فقهاء ومفكرين يقولون في الرأي الأول. حيث يعتبرون أن أي قراءة أو مراجعة أو تعديل على أي ضرورة من ضرورات الدين، أو النص التراثي هو خروج على قيم الدين وأسس عقيدته. وبالتالي من يقوم بذلك هو زنديق أو كافر أو محرف لنصوصه.

أما الكتاب الإسلاميون والمحايدون بشكل عام، فيقولون عكس ذلك، بناءً على نصوص القرآن بالذات، وهم فقهاء وعلماء علم الكلام الذين آمنو بالعقل ودوره في قراءة النص الديني وتفسيره وتأويله.. (21). فهم يعترفون بأن في القرآن آيات محكمات (بينات) وآيات متشابهات (غامضات / متشابهات). والله نهانا عن الأخذ بها، مثلما نهانا عن تأويل النص القرآني كونه وحده هو الذي يعلم تأويله.. كما آمنوا بأن الدين للواقع، وبالتالي علينا أن نخضع دلالات النص ومقاصده الخيرة لهذا الواقع في حالات تطوره وتبدله، ولم يكن الناسخ والمنسوخ في القرآن إلا تأكيداً على ذلك. كما قالوا بأن (الأصل في الأشياء الاباحة) وبالتالي علينا أن لا نحرم ما حلل الله ولا نحلل ما حرم)، والحياة دائما تطرح علينا الجديد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية امتحاناً للنص المقدس، ولا بد من النظر فيها وفقاً لمقاصد الدين العامة وليس وفقاً لموافقة هذه الظواهر مع ظواهر عصر السلف الصالح. لقد أراد الله في سورة الكهف أن يعلمنا أن كل شيء يتغير ويتبدل، ولكن تظل المقاصد الإنسانية العامة في الدين ثابته، كحق الحياة والرأي والعقيدة والدفاع عن العرض والأرض والمال. وكل ما يتعلق بذلك من مفردات التطبيق والوصول إلى تحقيق هذه المقاصد، هي من اختصاص الإنسان.. كونها شؤون حياة، والناس أدرى بشؤون دنياهم كما يقول حديث الرسول الكريم.

النص وخطابات النفي:

في الفصل الثالث ذاته يشير الباحث هنا إلى تعدد الخطابات الموجهة للجمهور، دينية وغيرها، ولكن الهم الذي يركز عليه الباحث هنا هو الخطاب الديني. هذا ويعتبر هذا الخطاب من أهم الخطابات التي تساهم في التأثير على المتلقي، وخاصة مع تطور الوسائل التي يستخدمها هذا الخطاب، بعد أن تطورت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ودور المواقف السياسية في توظيف هذا الخطاب على الوعي الجمعي، فإضافة لوسائل إعلام الدولة ومؤسساتها الدينية، هناك منابر المساجد وحلقات الذكر والمناسبات الدينية، ومواقع التواصل الاجتماعي على الأنترنيت وغير ذلك الكثير. فالعقل الجمعي هنا تؤثر فيه الكلمة، حيث يصبح للكلمة سحرها وللرواية مفعولها، فلكل مكان قدسيته ودوره في تأثير الخطاب، حتى يتعذر على المتلقي تمييز وفرز الضعيف من هذا الخطاب نصاً أو رواية بفعل روحانية الأجواء وتأثير الكلمة على العقل الجمعي الذي هو جاهل بالأصل، وبالتالي هو يتعامل مع الخطاب بعاطفته أكثر من عقله، خاصة وأن الواعظ يعتمد على روايات أسطورية في الغالب، يصعب عليه تحديد مرجعياتها، فيعطي كما يقول الباحث إشارات بسيطة لإقناع المتلقي بما يقال له، وغالباً ما تكون هذه الاشارات لها مرجعية مقدسة في النص التراثي، لا يمكن الشك في مصداقيتها. وهي بالغالب ذات طابع مذهبي، وهي أيضاً مصادر شوهت الدين في الحقيقة وقسمت المسلمين وأضعفت انتماءهم للدين الحقيقي، دين الوحدة والمحبة والعدالة والمساواة واحترام الرأي والرأي الآخر وغير ذلك من مقاصد إنسانية يدعو إليه الدين. (22).

خطاب التنافي:

على هذا الموقف المذهبي والفرقي في الخطاب التراثي الديني، يبرز مفهوم الفرقة الناجية كما يقول الغرباوي، فالمذاهب والفرق في الحقيقة تكفر بعضها، وتصنف من هي الفرقة النارية، ومن هي المرضى عنها يوم الحساب، وعلى أساس هذا الموقف يدخل المجتمع والعقل الجمعي معاً في صراعات تعمق الاختلاف والتفرقة والكره والضغينة، وهذا ما حدث عبر التاريخ، حيث لم تزل الصراعات الدينية القائمة على مفهوم الفرقة الناجية حتى الآن. وعل هذا الأساس راح الكاتب انطلاقاً من هذه المواقف التراثية العدائية يعمل على إعادة قراءة النص الديني نفسه (قرآن وحديث)، إضافة لدراسة كتب من اشتغل على هذا النص المقدس من فقهاء وعلماء كلام مرتبطين بهذه المذاهب والفرق لتبيان مواقع الكراهية والحقد فيها اتجاه المختلف، وتبيان المقاصد الحقيقية للدين، كما جاء في كتابه (التسامح ومنابع التسامح) وغيرها من كتبه التي أشرنا إليها في بدء هذه الدراسة.(23).

الباب الثاني: النص والحقيقة:

في الباب الثاني من الكتاب يتناول الباحث موضوعاً على درجة عالية من الأهمية والحساسية معاً، وهو موضوع (النص والحقيقة)، حيث (يعتبر النص الديني طريقاً للحقيقة، وكاشفاً لها. وهو يستقل بوجوده وكينونته وقيمته. بينما تتوقف صدقية النص على دليله ومدى كاشفيته).(24) وعلى هذا المنطلق تكون مصداقيته أمراً عقلانياً عندما يرتبط بالواقع. أو يرتبط بصحة المصدر أو المرجع كالحديث المتواتر مثلاً. أما عندما تكون صدقية النص الديني قائمة على الظن، فغالباً ما نجد من يرفضه في الوقت الذي نجد فيه أيضاً من يأخذ به من باب التدين. وهذا ما نجده عند فقهاء السنة مثلاً، فالحديث الظني عند ابن حنيفة لا يعتد به كثيراً، بينما هو عند الحنابلة حتى ولوكان ضعيفاً له مصداقيته المطلقة، وهو عند ابن حنبل أهم من الرأي. وإذا كانت قضية القبول أو الشك أو الرفض، واردة في قضايا الشريعة عند المتدينين، فهي غير مقبولة في العقائد، كما يقول الباحث. أما عند الباحث العقلاني المحايد. فالحقيقة نسبية مالم يبرهن على صحتها الواقع.

إن المنهج الديني في تقصي الحقيقة لا ينتج حقيقة كاملة، فالحقيقة تظل نسبية مالم يبرهن عليها. وما دامت مقررة سلفاً في ذات النص، فهو منهج قائم على الايمان والتسليم لا على الدليل والبرهان. (25).

الحقيقة والايمان:

يقول الباحث في هذا الاتجاه: (ثمة نتيجة مهمة تترتب على ثقافة المتلقي وقابلياته في وجود الحقيقة النسيبة). (26) . بل إن النتيجة هذه تترتب على درجة إيمان المتلقي والظروف المحيطة به، والموقف المذهبي والسياسي الذي ينتمي إليه. ومع ذلك فوحدة الايمان لا يمكن أن تشكل دليلاً على صدق الايمان ومطابقته للواقع. بل تكشف عن بنية العقل ومشتركاته في مدى صدق هذه القضية أم لا. فالإيمان المشترك لا يدل على مطابقته للواقع. بل تحتاج صدقيته كما أشرنا أعلاه إلى أدلة وبراهين. وهذا ما يؤكد الفهم العقلاني للآية الكريمة. (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) الفرقان – 73.

إن القرآن في جوهره يحث على البرهان والنظر وتحكيم العقل واستدلالاته. (27).

الحقيقة الدينية ونسبية الهداية:

ما أكد عليه الباحث إذن، هو أن إطلاق الحقيقة بشكل عام يتوقف على مدى مطابقتها للواقع ووجود الأدلة وبراهين حسية وعقلية عليها.

أما الحقيقة الدينية فتستمد وجودها من إيمان الفرد ومستوى وعيه وثقافته التي تختلف باختلاف منشئها. ومع ذلك هي نسبية باستثناء ما دل الاستنتاج المنطقي على وجود خالق لهذا الكون. وكل ما عدا ذلك كعوالم الغيب والمعاد . والكرامات. ويقدم الكاتب الكثير من النماذج الروائية دعماً لموقف الفكري والمنهي هنا. (28).

إن إيمان الباحث بنسبية الحقيقة، يدفعه لتأكيد نسبية الهداية. والهداية عنده (تعني الإرشاد. هديته أي أرشدته. دون تحديد الغاية او القصد) .(29). وقد جاءت الهداية في النص الديني مطلقة (إهدنا الصراط المستقيم)، وهي توحي بدلالات خطيرة في الكثير من مواقعها في العقل التراثي. كقول الحديث: (فإنما أصحابي مثل النجوم، فبأي اقتديتم اهتديتم). فالرواية هنا أعطت مصداقية تصل إلى درجة العصمة للبشر، والنص القرآني لم يمنحها لأحد. وعلى هذا الأساس جاء الموقف السلفي من التراث فيما بعد، حيث اعتبرت المرحلة التاريخية للصحابة هي مرحلة مقدسة وصادقة بكل ما فيها فكراً وممارسة، وبالتالي كل جديد يخرج عن معطيات هذه الفترة هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهذا الموقف القائم على الهداية المطلقة نجده عند الشيعة أيضاً عندما اعتبروا أن الولاية بالنص اولاً، وإن آل البيت معصومون ثانياً.

الحقيقة العقائدية ودور التراث في ترسيخها:

بقول الباحث والمفكر الغرباوي لقد لعب التراث دوراً هاماً وخطيراً في تشييد وبنا الهيكل العام للمسألة الطائفية والمذهبية الدينية بشكل عام، والإسلامية منها بشكل خاص. حيث انتشرت وبعمق في بنية السلطة والمعارضة معاً. (30).

إن النص القرآني واضح في مقاصده العقيدية والتشريعية. فهي مقاصد عامة ترتكز كما بينا في موقع سابق على الايمان بالله وكتبه ورسله واليوم الاخر ونشر العدل والمساواة وإحقاق الحق في الدفاع عن العقيدة والأرض والعرض والنفس والملكية. بيد أن هذا النص عبر وجوده التاريخي راح يؤول ويفسر وفقاً لمصالح السلطة والمعارضة معاً، وهنا راح النص يميل في دلالاته كما يريده ألذين في قلوبهم زيغ. حيث لم يتوان الكثير من الذين اشتغلوا على الدين أن يضعوا الكثير من الأحاديث التي تمجد هذا الخليفة أو ذاك، أو هذه القبيلة أو تلك. بل إن الكثير من الآيات القرآنية راحت تؤول وتفسر للخدمة ذاتها. بل تفاقم الأمر عند بعض المذاهب إلى اعتبار قول الإمام ذاته نصاً مقدساً (العصمة) لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه. وعلى هذا الأساس يركز الباحث على أهمية إعادة قراءة التراث ونقده والعودة به إلى مربعه الأول بعد أن استطال وأصبح وسيلة أكثر من كونه غاية تهدف إلى مقاصد الدين الحقيقة. وعلى هذا الأساس خصص الباحث عنوانا خاصاً بأهمية النقد العقلاني ودوره في الوصل إلى حقيقة التراث وغربلته من كل الشوائب التي علقت به تاريخياً بسبب مصالح الفئات الحاكمة أو المعارضة معاً. (31).

ونظراً لخطورة التأويل في النص التراثي يركز الباحث على خطورة هذه المسألة منطلقاً من منهجه الفكري العقلاني النقدي الذي يعتبر أن القراءة التأويلية للنص تقيم علاقة جدلية بين معرفة النص ذاته بكل حمولته ودلالاته، وبين القارئ لهذا النص، أو المؤول لهذه الحمولة المعرفية ودلالاتها. وعبر هذه العلاقة لا يستطيع النص التراثي أن يحافظ على مركزيته وقوته وسيطرته ومعرفته المطلقة، وإنما أمام سلطة معرفة القارئ أو الناقد تنهار هذه السلطة المركزية للنص، وتتفتت كما يقول الباحث الغرباوي، وبالتالي أمام هذا التحطيم لمركزية النص المعرفية، تتشكل معارف جديدة ربما تناقض تلك المعارف الكامنة في النص أو جزءاً منها بما يتفق ومصالح المؤول والمتلقي معاً وفقاً للمرحلة التاريخية المعيوشة. وهذا هو دور النقد في الحقيقة للنص التراثي ووظيفته. فالنقد العقلاني المحايد وحده هو الذي سيعيد قراءة النص التراثي وتخليصه من كل الشوائب التي علقت به تاريخيا، من أوهام وأساطير واحتكار للحقيقة وتقديس، وبالتالي تحرير كل العلقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وخاصة في شقها الديني المتعلقة به.(32).

يتبع في الحلقة القادمة

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

الغرباوي والتنظير التجديدي: من خليط اشكالية معقدة طرح ماجد الغرباوي مشروعه النقدي الجريء كما لم يفعل من سبقه، في اصلاح الفكر الديني التنظيري المعتمد على المرتكز المنهجي التالي: (لست مع متاهة التفكيك) - يقصد بمعناه الفلسفي الذي يعتمد تفكيك النص لغويا تجريديا صرفا - غير اني والقول للغرباوي، (أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة) – التي اضفاها عليها الفهم السطحي الجمعي في اداء طقوس التدين، وفي تلقيهم الايمانية الدينية في منتهى التسليم العفوي وما يرافقه من سلوك خاطيء تضليلي وتجهيلي زائف يأتي ضخّه الدائم من بعض رجالات الدين، الذين يرتبط عندهم المفهوم التضليلي الديني باجندة يقف على راسها توجيهات ومصالح السياسيين والحكام – (ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. يتمثل قيم التسامح والمواطنة، ويعترف بالآخر اعترافا حقيقياً. فالمشكلة الأساس تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي، ونوع المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، وطبيعة الثقافة التي تنتمي لها. فنحن بحاجة مستمرة لنقد جميع الثوابت والقناعات. فالفهم المبتسر للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء التخلّف الحضاري) ص9. وهذا يتطلب نقد مرجعيات الفكر الديني بمنهج عقلاني جريء. "الاضافات المحصورة بين شارحتين نسبتها لي وليس الاستاذ الغرباوي".

 هذه المعلومة المعقّدة كنا اشرنا مناقشتها في الجزء الاول من قراءتنا في فكر الاستاذ الغرباوي، وهي تحتاج جهود باحثين متخصصين يعملون جاهدين فك ارتباط التخلف المجتمعي الحياتي على الارض، عنه في المسايرة المطردة المعاكسة في جعل التنظير الاصلاحي الديني في الكتب والمؤلفات معلقا في السماء، وتعويضا وهميا لما هو مطلوب تنفيذه في اصلاح مناحي الحياة اليومية التي نعيشها عصريا، وعزل وتعقيم مجهودات الفكر التنظيري في التاثير بواقع الحياة ومحاربة التخلف على الارض.

لاحظنا وقاسينا بما يتعذر وصفه ان اعمال سطوة السيف في اعناق الابرياء من قبل حثالات التطرف والتكفير والارهاب في ابشع اشكال الذبح الهمجي الوحشي تسبق الف باء اية معلومة علمية او حضارية او تحاورية بالضد من تفكيرهم المتدني الى اسفل درجات الانحطاط والغباء، وكل ذلك يمارس بقوة السيف على ان ما يقومون به هو تجديد الدين وبناء دولة الخلافة على منهاج النبّوة. فهل منهاج النبوة اصبح لا يحتاج غير السيف وسيلة لتجديده في جزّ رقاب الابرياء؟.

التحديث النقدي في الفكر الديني الذي نعيد تداوله العقيم باستمرار، لا يستهدف النص القدسي الثابت بل يستهدف في اكثر حسن الظن به تنظيف النص القدسي من جميع المتراكمات التحريفية حوله التي اضاعت صدقيته المقدسة في النص الديني كفكر حيوي في الممارسة، ليكون زيف النص ياخذ مكانة المقدس الحقيقي في اصالته الدينية ان يكون التدين الهمجي فيه لا في غيره يمثل عندهم رضا الباري الخالق دنيا واخرة، والى كسب زائف في ارضاء حاشية المنتفعين من الدين والمتاجرة باسمه. بمعنى ان الاصلاح الديني التنظيري المزعوم لا يحقق تنظيف حقيقة الدين مما علق به من خرافات واكاذيب ووحشية وتخلف في ميادين الحياة، على الاقل في الفترة الممتدة لقرن كامل من صحوة اهمية مواكبة الحياة المعاصرة في تعالقها مع الديني، وفي وجوب مراجعة ونقد الفكر الديني، الذي سادت خلاله دعوة الاصلاح تنظيرا في الكتب والمؤلفات المركونة فقط .

ان منهج الغرباوي كما اشرنا له بسطور سابقة في نقده و دراسته الحقيقة الدينية بمنهج عقلي علمي وتدعيم افكاره في استقدامه مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والاكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القارالثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي اعلان هذا التزييف نفسه فكرا مضللا، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الاسلامية في عهد النبوة.

هذه النكبة التضليلية الدينية التي يسيّجها نفاق الرعب والخوف في تداوليته القطيعية وتعطيل فاعلية العقل في نقد ابسط المظاهر التي يرفضها المنطق الفكري السليم، هي دعوة جوهرية، وطرحها اشكالية تركيبية زائفة في رواج تضليل الانسياق العاطفي المتزمت الجمعي. اشكالية يقر بتخطيئها بعد مرارة الواقع التطبيقي لها في العراق وفي سوريا ومصر وليبيا، وفي بلدان عربية واسلامية افريقية اخرى، المجموع المتدين الذي في قرارة نفسه يقر ان هذه الخلافة المزعومة هي والدين الحقيقي السماوي لم ولن يلتقيا ابدا، لكنه يتعامل بها المجموع في غالبيته في ازدواجية تدينه مع الله، ونفاقه مع ضميره، ونفاقه في تدينه، ونفاقه مع امثاله في مجتمعه.

السؤال هل يصح الدين في صلاح القلة الذين يفهمون الدين على حقيقته في مسؤوليتهم عن الفرد دنيا واخرة ايضا، في تامين احتياجاته المنوطة بالتدين على الاقل، ويعجزون هؤلاء القلة عن اصلاح المجموع وتخليصهم من ضلالهم؟ ام يتركون حقيقة الامور يحسمها بالآخرة رب العالمين الذي لو شاء لجعلهم جميعا امة واحدة مؤمنين على الصراط المستقيم في فهمهم دينهم في دنياهم وفي آخرتهم.

هل من الصحيح ان مرضاة الله يمكن ان تكون في ايمان قلة قليلة تفهم حقيقة الدين وتترك المجموع الضال يسير مسار القطيع في ممارستهم انحراف الدين باسم التدّين الباطل؟ هذا التفسير الحربائي ينسف الاقرار بقدسية تكليف الله للانبياء في القيام بمهامهم الارشادية وابطالها في حياتهم. اذ لو ارتبط فهم الدين من غير تكليف الانبياء والرسل بمسؤوليتهم الاصلاحية الهادية، لما كان فهم الانسان الدين غير مكتمل، ولا كانت هناك طقوس دينية خاصة ومتباينة بكل ديانة في زمن ومكان ظهور الانبياء على الارض. وهذه النظرة لو كانت صحيحة لترتّب عليها ان الدين سابق على وجود الانسان على الارض، ويرتّب ايضا ان التوحيد الديني سابق ايضا على تدرج الدين وفق نظريات التطور الطبيعي في ان الدين مرّ بمراحل من التدين السحري والخرافي والطوطمي والوثني وتعدد الالهة الى مرحلة وصول التوحيد بظهور الديانات السماوية الثلاث .

ليس الاستاذ الغرباوي وحده وجد نفسه امام الاشكالية في تغييب حقيقة الدين باسم تفكير وممارسة التدين الخاطيء، قال كلمته التي كما فعل غيره قبله في محاولة اقناع النخبة، و بذل في مؤلفاته وكتاباته اقصى ما يستطيعه ان تصل حقيقة ما يكتبه الى الجمع الضال باسباب يحتاج شرحها مؤلفات من ذوي الاختصاص كل في مجاله لنزيد في رفوف المؤلفات والكتب العاجزة عن تغيير حالنا او حتى مجرد الرغبة بذلك.

عندما يكتب المفكر الملتزم بدينه ونظافة ضميره ان يقول كلمته بما يرضي الله، فهو ليس مسؤولا عن نتائج تفكيره في هداية الناس من عدمها في مهمة عجز الانبياء عن تحقيقها (وما انت عليهم بمسيطر) (ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). وكان عقاب الله حسب الديانات قاسيا لمن لم يفهم التدين على حقيقته كما جاء بها الرسل والانبياء.

بعض معوقات الاصلاح الديني

ان عدم سهولة تحمل مسؤولية نقد الفكر الديني الاسلامي وليس الدين بثوابته كما اشرنا له، وانما نقد واصلاح بعض مناحي الانحراف ومنطلقاته التي تدور حول حقائق الامور الدينية، وتحجبها وتحجمّها وتمنعها من الحراك التوعوي في وجوب ان يكون النقد الزائف في الدين، هو نقد الجمود والتخلف وتراجع الحياة في جميع مناحيها المتعالقة بالتدين. ان في افتراض تحقيق الاصلاح الديني من معرقلات وتشويه قدسيته الالهية المعصومة، لا يجدي ولا يكون فاعلا مالم يؤثر في تغيير مجمل مناحي الحياة في السياسة والمجتمع والاخلاق والقيم والاقتصاد وغيرها. المرتبطة جميعها في تحقيق نقلة اصلاحية في الوصول الى حقائق الدين في انسانيته غير المحدودة. ان تعالق الدين بالحياة عندنا لايختلف عن تعالق الدين بتدهور الحياة في اوربا العصور الوسطى. ومرحلة الاصلاح الديني عندهم ارست بداية نهضة اوربا علميا وعلمانيا ثم في وصول مرحلة كتابة الدساتير وتشريع قوانين تنظيم الحياة على اساس من الديمقراطية والعدل والمساواة وكفالة الحريات الشخصية السائدة في تطور مستمر مع ضرورات ومستجدات الحياة عندهم الى اليوم.

لقد اكتسبت عندنا المخادعة الدينية التزييفية حسب مقتضيات توظيف الدين بمرور الوقت وتوالي العصور، اكتسبت يقينيات التزييف الديني الجمعي، صفة اليقينيات المسّلم بها جماعيا استسلاميا لمنطقها المنحرف، بمعنى ابطال اعمال العقل في مراجعتها ونقدها لاستجلاء حقيقتها، قبل التسليم يقينيا بزيفها ومقولاتها الخرافية، على نطاق جماهيري مسطّح الفهم النقدي العقلاني. وتمييز حقائقها المغيبة بالدخيل الذي اكتسب صفة القداسة والتبجيل والتسليم بها، بحكم العادة وغلبتها في تبني المتوارث السهل الاستيعاب في تغييب العقل النقدي.

من المقر المسلم به ان تتحاشى نقد مرتكزات الدين الثابتة المعروفة، بقدر حاجتنا نقد ظواهر التدين الزائفة وتعديل مفاهيمها الكاذبة المضللة. وهناك من يرى مصالحه كفرد او جماعات، هو في بقاء نفاقه على الناس في خلط الاوراق بالغاء الفروقات البينية بينهما، بين الدين القدسي والتدين المصلحي المؤدلج سياسيا.

ان مرتكزات الدين تمتلك خصائص المقدس والاصالة التي تقود الى ارساء التدين الذي لا يطاله التحريف ولا تنال منه نوايا النفاق، الذين ارادوا ان يجعلوا من الاصل الدين في صفائه، ومن التدين بكل صفاته وممارساته الخرافية المنحرفة كلاهما شيء واحد، واسطة مشتركة لتكريس حكم الطاغية السياسي وسفك الدماء بلا وازع اخلاقي ولا مانع من ضمير. هكذا جرى في الماضي ويجري اليوم خلط اصول الدين وحقيقته الايمانية مع مخطوء التدين في الفكر والممارسة.

الغرباوي كغيره من المفكرين واجه اهم مشكلة في محاولة التنظير للاصلاح الديني كوقائع تاريخية لها ترابط في الحياة المعاصرة نتيجة تعميق التثقيف التناحري في امتلاك الحقيقة الدينية لطرف واحد دون غيره، انه كما ذكرنا في سطور سابقة يريد معالجة كم كبير جدا من المتراكم الخرافي المخطوء الذي اصبح وقائع تاريخية اكتسبت على مر الايام والعصور كل قطائع التخلف الاسطوري في تداولياته، واصبح يمثل ويحتكر لنفسه كامل الحقيقة الدينية في زيفها وتداوليتها الساذجة البعيدة عن الايمان الصحيح. فاصبح لدى عامة الناس ان حقيقة التدين في استمرارية تداولية المخطوء السطحية الساذجة التي لا يتعدى فهمها ان الدين هو في اداء اركان الدين الخمسة في اسقاط فرض التدين وليس في اسقاط فروض الدين. وليس مهما ان الدين في جوهره وربما لايعرف البعض او لا يريد ان الدين في جوهره واصالته ليس ما ابتدعه ويبتعده رجال الدين، بشر لا يختلفون عن غيرهم من البشر، وانه يتوجب على المؤمن الحق ان يحاكم كل اجتهاد في عصمة وقدسية الدين وليس في عصمة وقدسية افكار وفتاوى اناس مثلنا. لا يمتلكون ادنى عصمة ان افكارهم حقائق دينية صحيحة يجب التسليم بها والانقياد الاعمى لها من دون احتكامها مع اصول الدين.

ان الاحترابات الدينية المذهبية بين المسلمين او الطائفية مع غير المسلمين باتت تحمل صفة القداسة الزائفة التي لا رصيد حقيقي لها في فهم الدين وانما تستمد كل مقومات وصايتها على امور الدين من التسليم القطيعي الذي تحركه اما العواطف، واما جعل افكار الاجتهاد الديني في منزلة المقدس الذي لا يخطأ. وجعل الدين المسيس في خدمة ووصاية انحرافات وتسويقات رجال الدين للحاكم.

اذن بمختصر العبارة ان مهمة الاصلاح في الفكر الديني كما فهمته من كتابات الاستاذ الغرباوي، هي في اصلاح التدين الخاطيء المصادر عليه سياسيا بما يخدم شلة من الناس على حساب ضخ التخدير في وجوب الصبر على مكاره الحياة بانها امتحان ونتيجة الصبر ليس في هذه الدنيا الفانية بل في جنان الخلد السماوية . وليس هناك مايجيز عدم اطاعة اولي الامرمنكم او محاولة الوقوف في الضد من فساده في الارض وخيانته في توّلي امر المسلمين.

امام هذه الاشكالية التراكمية المعقدة والحساسة والصعبة التي تحفّها وتدور في فلكها منزلقات وممارسات تقف امام كل رغبة، تحاول اجتثاث كل متراكمات التدين غير الحقيقي. في وجوب ان تاخذ مدياتها بلوغ نوع من التحديث في مناحي الحياة. وفي اجتثاث التدين المخطوء الذي اكتسب اليقينية الدينية الزائفة بحكم العادة والتوريث التضليلي جيلا بعد جيل.

الاصلاح الديني بين الممكن والمستحيل

ان مهمة اي مفكر اسلامي منذ بدايات القرن 19 والى يومنا هذا، وصعوبة بل واحيانا استحالة تحقق وعي ديني مجدد له فاعلية او يمتلك حضورا، كما يشير الغرباوي يتطلب ضرورة اعمال ووجوب حضور العقل النقدي في كشفه حقائق الامور الدينية من زيفها، وتعرية الفكر الديني الطاريء في انحرافاته السياسية الخطيرة في تعطيل، اي نوع من نهضة حضارية، ويدعو الغرباوي اهمية : نقد مرجعيات الاعاقة امام علمنة وديمقراطية الحياة، ولكن مع كل هذه الاجتهادات التنويرية فان المهمة شاقة وصعبة وتنطوي على جملة معيقات ليس سهلا تجاوزها. وجميعها مبثوثة في ثنايا كتابات الغرباوي :

1- ان المتراكم الفكري التديني المخطوء التداولي عبر الاجيال اكتسب ممارسات يقينية وفكرية راسخة، لا يسمح بسهولة مرور الفكر التنويري التحديثي عبره، الكشف عن حقائق هذا الموروث، وتعرية الدخيل الطاريء المضلل المتقاطع مع حقيقة الدين الانسانية ومنطلقاته في خدمة الانسان ووجوده على الارض وليس ان يعيش جميع حرماناته وعدم تحقيقها في الموعود به الحصول عليه في السماء. وهي اعاقات نجدها في السياسة وفي رجال الدين وفي المجتمع الذي اعتاد الاملاءات.

2- لا بد من الاقرار باصعب اعاقة تجديدية يواجهها الفكر الديني في وقوف ما يسمون رجال الدين القائمين على امور الناس في دنياهم، المتمسكين بالاجتهاد في تضليل الناس ان دينهم هو في مرضاة سياسييهم اولي الامر. وهذا التزييف الايديولوجي التديني السياسي، يتم في وضع التدين المساق بهيستريا العاطفة في خدمة بقاء الحاكم الفاسد والنظام المنحرف عن حقوق وتلبية احتياجات الناس.

3- تضليل رجال الدين للناس ان اي اقتراب من قدسية الفكر الديني المسيس، مرجعيته الحادية تنفي الايمان بالخالق الذي ليست بحاجة الى اثبات، لذا تكون كل المتعالقات الطقوسية انما تفترض اولوية الحفاظ على النص الفكري الديني من تشويهات واكاذيب العلمانيين والملاحدة والكفرة، من التجديديين التنويريين.

4- ان اعمال العقل في نقد ومراجعة الزيف في النص الديني الذي بات مسلمات يقينية لا تقل عصمتها عن المقدس الالهي، لا يعني ضمنا، تجديدا في الوعي الديني المتخلف المتناسل زمنيا في توارث الضلالة، وفي بعض الاحيان يصل الايمان الخرافي المضلل ان ينسب لنفسه امكانية حتى تحقيق خرق قوانين الطبيعة باشبه بالمعجزات، بوجوب التسليم ان لا حرمة دينية في البحث عن حقائق الظواهر الدينية كما تدعو منهجية الغرباوي او غيره من المفكرين الاسلاميين.

5- لذا يكون لا حقيقة دينية فاعلة جديدة تاتي نتيجة نقد النص الديني، كما يمارس الغرباوي نقده العقلي في حقائق التدين المتوارثة، ومحاولاته وضع هذه الحقائق تجديدا بوجوب فهم الحقيقة الدينية بما يجمع ولا يفرق، ويبني لا يهدم، لاصطدام هذا التجديد كما ذكرنا في اكثر من موضع في هذه الدراسة، هيمنة سلطة التدين السياسي، وسلطة التخلف الاجتماعي والمعرفي والديني لدى المجموع.

6- ما يشتغل عليه الغرباوي هو السعي لبلوغ حقائق دينية في تغيير قناعات دينية خاطئة ليس على صعيد الفكر، بل وايضا على صعيد الممارسة الحياتية، وفي تاكيد هذه الحقيقة يقول الغرباوي (نامل ان تكون افكار هذا الكتاب اضافة حقيقية تساهم في فتح افاق رحبة لمعرفة مستنيرة تزعزع يقينيات العقل الدوغمائي، وتجريد رجل الدين من سطوته، ليستعيد الفرد وعيه ومكانته الحضارية) ص10.

7- ان المتراكم التديني المخطوء الموروث التداولي جيلا بعد جيل حول محاولة الابانة والكشف عن حقائق هذه الاشكاليات والقضايا الدينية، في تعرية الدخيل المتقاطع مع الدين كجوهر انساني ثابت، لا يتقبله التفسير الذي يتماشى مع تطور الحياة جماهيريا، التي يقوم تفكيرها الديني على يقينيات خادعة تقاطع نزعة التجديد خاصة في مجال التدين. وتصطدم حتما مع ايديولوجيات سياسية لا مصلحة لها بالتغييرالحداثي .

خلاصة

اشرت في مقالاتي الاربع المنشورة في المثقف، اني لم اتناول الجهد الفكري للاستاذ الغرباوي الذي يتضمنه كتابه (النص وسؤال الحقيقة) في محاولة نقدية تناقش تفاصيل مواضيع الكتاب النظرية، التي يقرنها هو في تطبيق ميداني لافكاره مأخوذ ليس من التاريخ المدون الموروث وحسب، وانما ربط جهده النقدي في محاججة الوضع المعاصر دينيا فكريا سياسيا. وان اطلاعه المتمكن في معالجة اشكاليات دينية تاريخية او معاصرة يختارها استشهادات لتنظيره الفكري، لا تجعل القاريء للنص يستطيع التعليق عليها باكثر مما هي تعرض نفسها في الكشف والتوضيح، واستدراج القاريء الى تفعيل النقد عنده، ومن المتعذر اعطاء كتاب فكري مميز في عرض مقالات لايتسنى لها تغطية العديد من مواضيعه .

من خلال متابعاتي لسلسلة اجوبة الغرباوي على اسئلة الاساتذة الكتاب على صفحات المثقف، خلصت بنتيجة مباشرة انه رغم كل الجهود الصعبة التي بذلها، والامكانات المتاحة له التي استخدمها بتدعيم حججه الاقناعية في هدف تحقيق اهدافه في نقد الحقيقة الدينية، يمكن ان نطلق عليها اقصى ما يستطيعه مفكر لا يمتلك غير فكره وقلمه وضميره ان يقول كلمته للتاريخ ويمضي غير منتظر ما تحققه من نتائج او لا تحققه فهي ليست من مهامه فهو لا يمتلك الهدف والوسيلة معا.

ان عدم سهولة مهمة نقد الفكر الديني واصلاحه من خلال نصوصه التي اخذت طابع اليقينيات المتوارثة في الغائها نقد العقل وفاعليته الواقعية التحديثية، في تصحيح تاريخ تديني اكتسب كل قطعياته التداولية عبر العصور بانه يمثل كامل الحقيقة الدينية التي تدعمه كامل القداسة الوهمية.

ان ازدواجية التنظير الفكري الديني الاصلاحي كنموذج مثالي لا صلة له بالتاثير الواقعي في كل محمولاته التصحيحية في توافق المادي مع الروحي، في عطالة او تعطيل تطبيق حتى الجزئي بعيدا عن الانحراف والفساد الذي اشار له الغرباوي في تداخل التبادل التوظيفي بين الدين والسياسة في نشر التجهيل الممنهج المدروس بعيدا عن فهم حقائق الامور، وفي تسييس الدين يكمن الخطر الاكبر في الغاء تحديث الحياة.

العقبة الثانية التي اشرنا لهاعلى انها مرتكز تغييب العقل النقدي الجمعي التديني، الذي يتغاضى عن اقصاء التدين السياسي لحياة التجديد وتلبية احتياجات الانسان الضرورية العصرية، بارجاع حسب توجيهات رجال الدين كل الاشياء ومسبباتها الى ابسط التاويلات التي تعفي العقل عن التفكير الصحيح بانها حادثة بقدرة الله ومشيئته وما على المتدين غير الصبر. وليس الى ظلم وجبروت السلطة السياسية في غبن حقوق الانسان. اشرنا مرات عديدة ان المتراكم المخطوء الذي تلبّس كيان الدين الصحيح، من قبل اناس لا تمتلك افكارهم واجتهاداتهم الدينية وفتاواهم اية عصمة لا توضع تلك الاجتهادات تحت مجهر المراجعة النقدية وابطال زيفها في خداع الناس.

انه من التبسيط المخل ان نتصور ان المتراكم المخطوء الذي يدور في تسييج الحقيقة الدينية، لا يمتلك ادوات مقاومة وبقاءه في وجه تيارات الاصلاح وتحديث الحياة. كما ان نص الفكر الديني المجتهد هو من صنع انسان لا يمتلك هو وافكاره اية معصومة قدسية تبطل مساءلته. ومررنا ايضا الى ان الانحراف الفكري ليس اعزلا من امتلاكه تنظيمات سياسية تدعمه ايديولوجيا وتضع كل امكاناتها الحزبية تحت تصرفه، كما ان المجتمع المعبا بايديولوجيا التجهيل الممنهج يستهدف اية بادرة اصلاحية بشعارات وممارسات قمعية باسم الوصاية على الدين والحفاظ عليه.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

تعريف وتقديم اولي: ان قراءة تفكيك النص الديني عند المفكر الغرباوي سواء في عرضه، او في محاولة توضيح منهجه التاريخي بوقائعه في التفكيك لاستخلاص نتائجه الحقيقية، اجدها شخصيا وربما لأني غيرمتابع متخصص في الامور الدينية وقضاياها المعقدة تاريخا موروثا او عصريا، حيث اصبحت مجتمعاتنا العربية والاسلامية تتقاذفها الاختلافات الدموية التصفوية جسديا في فهم الفكر الديني ليس على اساس محاورة ونقاش في رغبة التوصل الى حلول تلتقي بجوهر الدين في انسانيته وتعايشه مع الاخر، التي يلعب الاجتهاد المذهبي او الافتاء الشرعي الصادر عن رجال الدين كمسلمات دينية مجتمعية مذهبية لا تقاطع القوانين الوضعية وحسب، وانما التشريع والافتاء يكون ملزما العمل به حتى لو كان الغاءا لقوانين تنظيم الحياة المستمدة من الدستور الوضعي او مايعبّر عنه اختصارا قوانين فصل السلطات الثلاث المدنية، لا ان تحميها هي ومصدرها، كذلك الافتاء الديني والاجتهاد الذي يمارسه البعض كمسلمة دينية لا نقاش يطالها، مستمدة من قدسية الهية تمتلك العصمة من الخالق ان لا تكون خاطئة ولا وجوب نقدها او تخطئتها، حتى وان جاءت بالانابة القدسية الانسانية غير المرخصة ولا المؤهلة ان تتكلم باسم الدين كله، او اختصاره في جنبة خلافية مذهبية اجتهادية واحدة ترى حقيقة الدين فيها وحدها.

كنت طرحت سابقا ان الغرباوي يختلف بمسألة جوهرية لم يتأكد لي يسبقه غيره بها هو التطرق لها بهذا الاسلوب الذي لا يتناول مسائل الاصلاح الفكر الديني (المعاصر) بالدوران حول المشكلة المصيرية الهامة، أو عدم الجرأة في تفكيك الحقيقة الدينية وتعرية معصوميتها ان كانت حقيقية ام زائفة منتحلة مهما كانت درجة حساسيتها التي يتجنب العديدين الخوض بمشاكلها والاجتهاد بطرح حلول مجدية لها. تجدها في مرتكزات لا يخطأها القاريء لدى الغرباوي :

- المنهج الفكري النقدي التاريخي، هو الذي يحدده موضوع البحث وليس العكس، ولا سبق منهجي مذهبي عقائدي يحكم الموضوع او القضية وناقدها كما يحصل اغلب الاحيان وفي مختلف القضايا. او سبق منهجي فلسفي لا يستمد حيويته من موضعة اية اشكالية لمنهج التناول التاريخي بصدقية تثبيت وقائعها الحقيقية وشخوصها،لاعلى حساب ابراز القدرات الفكرية الاستشراقية الغربية للكاتب، ام تكون الغاية هي في تعرية زيفها وقدسيتها المنتحلة باسم الدين من منطلق الاخلاص للحقيقة الدينية، وليس هناك من وقائع تاريخية تراثية تستمد مشروعية الاخذ بها في تناولها الاسلوبي المذهبي او الفلسفي المعاصر الذي يملأ مكتبات لا نفع له سوى ان تكون مراجع منح شهادات جامعية او حوزات دينية او اقسام دينية جامعية تطبع وتصطف مع الاصل في كسب العيش والاعتياش على نص الدين، هذا النهج القاصر اصبح مصدرا مهما في عدم تناول الفكر الديني بالنقد البناء، كما اصبح سببا متعذرا تطبيقه في نقد ومراجعة تراثنا الذي يمتلك خصائصه التاريخية واللغوية وحيثيات بروزها الاجتماعية او الاقتصادية، من نقطة شروعه في اتباع اسلوب الانحياز المذهبي او التجريدي الفلسفي بنيويا ولا تفكيكيا ولا عدميا الخ.

المذهبية في المنهج او الفلسفة المستمدة استشراقيا ان تناقش وتبحث عن حلول دينية بوسائل فلسفية تجريدية يحكمها منطق اللغة وليس منطق اهمية حقائق تاريخية الموضوع كوقائع بما لا يزال يمتلكه من حيوية في تحريك الحاضر و في ترسيم مستقبل وجودي حياتي تعيشه الناس.، بات امرا لا فائدة منه.فاليوم لا نشكو قلة التاليف في قضايا الدين لكنا نشكو من انعدام التطبيق على الارض.

يستطيع اي قاريء احالة نفسه لاحصائية مئات المؤلفات من المفكرين المحدثين والمعاصرين الذين ورطّوا انفسهم وقراءهم معهم في مراجعة مؤلفات تراثية بمجلدات بمنطق الصح والخطأ المنحاز اجتهاديا، او كذلك في استعراضه تطويع وقائع التاريخ العربي الاسلامي بمنطق واسلوب التفلسف المعاصرالتي لا رابط لها مع قضايا تراثنا الديني او اللاديني.، وانا متقبّل اي قاريء لتلك المؤلفات ان يقول لي انها خدمت او تخدم واقعنا العربي الحضاري البائس باسم مراجعتنا تصحيح تراثنا وبعثه من جديد وغالبيتها حشو سردي لم يساهم في حل بعض اشكالياته كموروث.وتصفيف كلام متراكم بعضه يعيش على بعضه الاخر في مجلدات !!

علينا الان التنبيه ان خلل موروثنا الجامد المعاصر اليوم ليس مصدره وقائع التاريخ المتوارث الزائفة الكاذبة التي نقلها لنا الموروث التدويني. انما يكمن الخلل الاكبر في مناهج التوثيق والتدوين في مراجعة تلك الوقائع و تورخة الموروث على وفق مصالح وامزجة وغايات رخيصة حتى في منظور كتابة التاريخ، وانما يمتد بنا النقد في وجوب ازاحتها عن الطريق، كل المؤلفات التي جعلت من هرائها التراثي مهزلة بحجة تحصّل الشهادة الجامعية الذي لا يعرف حاملها المشكوك بتزويرها كتابة مقالة مقبولة في التاريخ.مكاتب ومئات الالوف من العناوين التي تعنى بنقد ومراجعة موروثنا الحضاري العربي الاسلامي لا تساوي ثمن الورق والحبر الذي كتبت به. وليس لها وقع تغيير قناعة خمسة قراء مضللين.

نفهم ان بناء امجاد تاريخية زائفة لسياسيين عرب ومسلمين هو عار، وامر مفروض بقوة سلطة الحكم الجائر وفساد الدولة بكل مفاصلها، لكني لا اجد مقبولية ان يكون تاريخنا المعاصر في اشكالياته هو لغاية بناء امجاد فكرية او فلسفية فارغة او غيرهما بذريعة كتابة مؤلفات تتبعها اطاريح جامعية ورقية توضع على رفوف المكتبات وعزوف واشمئزاز المثقف الجاد منها، اصنام لم يعد امرعبادتها او التسليم بها مقبولا، وبقاء تناسلها مرحبا به مسكوتا عنه لانه وسيلة ارتزاق مالي وخواء ثقافي. فهي بلا فائدة تفيد بناء تجديد او اقامة صرح حداثي، نتشدق في السير الحثيث من اجل تحقيقه.هذه الحقيقة تتجنب طرحها حتى النخب الثقافية او الفكرية وحتى بعض النخب السياسية المعتاشة على متناقض قطباه شخص دعي في كل اختصاص فارغ من جهة، وشعب لا يهمه من امر تراثه ولا حاضره الا توفير لقمة العيش لعائلته واطفاله.

مسخرة بطلها اسطورة ملابس عاهل الامبراطور الجديدة لا تبوح بها براءة صرخة طالب جامعي لئلا يلبسوه ثوب الجنون الجاهز قبل ان يبوس اللحى متعهدا ان لايعود لمثلها، ويتناسى الجميع من رعاع الاعتياش باسم الشهادة الجامعية الدينية او الحوزوية ولا اقصد الشيعية منها فقط، غباءهم ان الجميع عراة والامبراطور في ملابسه الانيقة. وليس المقصود هنا الملك الامبراطور الواحد كما في الاسطورة وانما كل شلّة الاعتياش الثقافي الاكاديمي باسم امتلاك شهادة لا قيمة لها اكثر من قيمة غباء حاملها، وان كانت تحمل رصيدا فهي مجموعة من المؤلفات المستنسخة مئات المرات عن الاصل الجامد غير المتغير الثابت في محافظته على الزيف. .

- يوجد فرق كبير بين مناقشة مسائل تراثية خاطئة لا فرق بها اليوم ان يحدث تصحيحها تاثيرا تحتاجه الحياة وانت تعيش ومحاط بحضارة القرن 21 بكل مشاكلها العصرية، مثلا ما أهمية تصحيح اخطاء بني امية ومعاوية في تصحيح واقعنا التاريخي الذي يقوم اليوم على المنازعة والاختلاف المذهبي الذي لا يتوقف بمجرد تصحيح خلاف او خلافات عمرها مئات السنين لا من اجل اللقاء في تصحيح الاوضاع بل من اجل ادامة الاحتراب المذهبي الى يوم القيامة او احتراب العلماني مع الديني السياسي الى اجل يريده الحاكم ويرفضه الخالق. ما تأثير مناقشة واقع حال تاريخي لم يعد مهما ان يكون فيه اليوم المعتزلة على حق والاشاعرة على باطل، في وقت مثلا تحضر فيه مسالة مناقشة اهمية توحيد المذاهب الاسلامية وجعلها على السكة الصحيح في اختلافاتهم المعاصرة وليس في اعادة قراءة تاريخهم الموروث في نزاعاتهم التي ورثناها من كتب التراث والتاريخ الذي كتبه مجهول النسب في صدقية التوثيق او التدوين ونواياه. هل في حل مثل هذا الاشكال تنحل قضايا اختلافاتنا المعاصرة؟ افضل واكثر قيمة واهمية لمستقبل اجيال من بعدنا؟، اكتفي بمثل مئات من مشاكل موروثنا التي تحفظها بطون الكتب سواء اكانت منحازة لهذا الطرف او ذاك لا يتوقف حلها على حل مشاكل تهم حاضرنا ومستقبل اجيالنا وينطبق عليها ان تاريخ الاموات يصنع تاريخ الاحياء. ما اهمية ان تكون افضلية منهج السلفية او منهج القومنة العروبية او منهج الماركسية،او منهج الاستشراق التي ملأت كتبهم ومؤلفاتهم مكتبات ربع الكرة الارضية وتتداولها اجيال من الطلبة والمثقفين وغيرهم ولم تسهم في حل اشكالية اختلافية واحدة على صعيد الواقع والتطبيق في حياتنا، اوتنقل الامة العربية خطوة واحدة الى امام.باسم قراءة التراث ونقده وتجديده.

- لنلاحظ فرق الطرح الغرباوي لقضيا اشكالية متصارعة هي ابنة وزمان تاريخيتها التي نعيشها بما يتوقف على حلها صراع اجيال في مستقبل حياتهم قوله، (تكيّف المجتمع مع ارادة الفقيه ورجال الدين عامة من الاسلاميين، وانصياعه لتعاليها، تكون الاخطر في علاقة الفرد بالفقيه، هي روحية الانقياد والتبعية التي اختزلت حرية المجتمع، واعادت تشكيل وعيه على الضد من قيم المجتمع المدني الذي نطمح اليه).- في تعقيب اراه مفيدا، هل ان مراجعتنا ونقدنا وقائع التاريخ القديمة الموروثة في سمات صراعية واختلافات لا نهاية لها، هي الطريق الوحيد امامنا لنقد فكرنا الديني المعاصر الذي نعيش اشكالياته الجديدة، وهل يكمن حل كل قضية خلافية في تراثنا القديم كفيلة ان تجعل كل خطوة في حاضرنا تسير على الطريق التحديثي التقدمي وتخدم مستقبل اجيالنا؟ ان الذي يسترشد طاعته عن الفقيه قوله ان هارون الرشيد الذي قتل احد اأمة الشيعة (ابو جعفر الصادق) او غيره يجب ان يكون سببا كافيا كما يجري اليوم في اختلافاتنا المذهبية على ابسط من هذه الامور التي تحرك الاحياء من قبورها في تاجيج خلافاتهم. وهل على حل مثل هذه الاشكاليات البسيطة، التي نترك التاريخ المنصف يقول كلمته بها وكفى وتكف ان تكون سببا نتطاحن من اجله مذهبيا اليوم . هذا غباء حضاري عندما يطلب نائبا بالبرلمان العراقي ازالة نصب الحرية من وسط العاصمة بغداد، وآخر يأمر اتباعه قص يد تمثال الشاعر ابي نؤاس التي تمسك بكاس الخمرة وآخر يريد قلع تمثال الشهيد من بغداد او تمثال ابو جعفر المنصور، او تمثال عبد الكريم قاسم، هذا تخلّف وغباء حضاري وليس تديّن يخدم وحدة العراق واجياله، ومسخرة ان يخلو تاريخ امة من الامم او الشعوب من الاخطاء القاتلة التي يعني عندنا الحفاظ على نظافة تاريخنا اليوم منها هي لانصاف تاريخ كتبت حوادثه قبل سبعة قرون اكثر او اقل لم ينصف المذهب الفلاني. ما مدى تخلف المانيا اليوم عندما تحتفظ بتمثال هتلر وتعتبره رمز مرحلة تاريخية انتهى تاثيرها على الاجيال الحاضرة الالمانية، ومثلها في وجود تمثال ستالين في جورجيا او موسكو مثلا، وامثلة بالمئات كلها تشيرعلى قذارة تاريخ تلك الامم وادعاءنا نظافة تاريخنا الذي يجب علينا استكمال نظافته في ازلة تمثال الرصافي او ابي جعفر المنصور من بغداد ونضع تمثال قرد بدلا عنها كي يقف تاريخنا العراقي على رجل من ذهب واخرى من فضة في ادعاءاتنا المسخرة.

- يقول تجديد الغرباوي: عندما يكون الفرد تابعا لفقيه الدين ورجاله الموكيلين انهم وحدهم يمتلكون حقيقة الدين .فان في هذا تصبح استحالة اصلاح الدين بادوات مرتهنة في جعلهم مرجعية وفتاوى الدين ثوابت لا يحق ولا يجوز للفرد الاخذ بغيرها او من غير مصدرها. ان في تحنيط الدين عند المجموع حين يكن بيد رجال الدين في كل المذاهب الاسلامية، وبهذا تتراجع هيبة القانون المدني والقوانين الاخرى المستمدة من الدستور الوضعي.كما تصبح مثل هذه القوانين لا اهمية واقعية تطبيقية لها، عندها يصبح الدين ووصاياه المستمدة مذهبيا او اجتهاديا بديلا عن قوانين تنظّم المجتمع والحياة .

- كما ان الغرباوي يشخص اخطر اسباب انحراف الدين في قصديته الايمانية، وبذلك يصعب علينا اصلاح الدين قوله: انه لم يكن للفقيه او رجل الدين ان يحقق مركزيته ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، التي تجعل من الاجتهادات ووجهات النظر الخاصة، لها فهمها الخاص للنصوص المقدسة وخدمة اغراضها السياسية .

- ويقول الغرباوي ايضا : ولكي نجعل من الاصلاح الديني اصطلاحا حقيقيا، ابن زمانه ومكانه، هو في كشف الزيف وكشف الحقيقة في محاكمة الافتاء الشرعي المتعدد المذاهب، والمتعدد ايضا بوجهات النظر المختلفة مذهبيا في وجهات النظر الانفرادية ودوافعها.

تنظيرات الاصلاح الديني وعقبات التغيير الواقعي

اشكالية منهج معالجة النص الديني الاسلامي يتوزعه تقاطع مرجعية و مركزية قطبين فقط، المقدس الالهي الثابت (القران والحديث المسند منه والسنة النبوية)، وبين نصوص الديني الدنيوي المدني الوضعي المتغيّر حسب مصالح الحكام السياسيين المهيمنين على تديّن المجموع المساق بهيستيريا العاطفة الدينية الخرافية. الفكر الديني والاجتهاد الفقهي المذهبي وانتحال الحديث والقصص الخرافية والفتاوى، في مجمل تفاصيل الحياة العربية الاسلامية التي يحكمها ويمنعها زيفها التدينّي من الوصول الى ادنى مراتب التحديث في حياة الناس.

وبقيت هذه الاشكالية تحكم الدين في قدسيته المتقاطعة مع الفكر التديني الزائف منذ وفاة النبي محمد، اشكالية مستحكمة بدايتها خلافات السقيفة، غير محسومة خاصة عندما فرضت هذه الاشكالية المتناقضة نفسها على الامة العربية الاسلامية طيلة الفي عام من بعد تاريخ ظهور الاسلام، وبالحاح شديد ضاغط على الحياة العربية المعاصرة منذ اكثر من قرنين في العمر التاريخي للامة العربية الاسلامية المعاصر. عندما اصبح تقاطع التراث الديني ضد المعاصرة العلمانية وتاثيراتهما على منع تقدم الحياة بما لا يطاق. في وجوب مراجعة ونقد النص الديني الزائف الطاريء على حقيقة الدين. لكني استدرك ان تاريخ مدوّن يحمل كل سلبياته التي ندينها بحجة وجوب اصلاحها، ولا يعطل تقدمنا الحضاري افضل من كتابة مجلدات تملأ مكتبات تمجد تراثنا بكل سماجة عاطفية، وتكون سببا في تردي احوالنا لاسباب سياسية تتباهى بمجد زائف كاذب ولا يهمها اعدام حياة الناس على الارض في دنياهم.لم يعد اليوم الغني يستغل الفقير في بشاعة غياب الضمير والتفاوت الطبقي، وانما الاهم من كل هذا الاستغلال هو اضطلاع الجامعات بتخريج مئات الالوف من الخريجين في علوم الانسانيات والتاريخ واختصات دينية وغيرها مختلفة ورميهم امام الحكومة يملاون الشوارع في ايجاد وظائف حكومية لهم.؟

ورغم غياب المعالجة الواقعية اليقينية العقلية القطعية الحضارية في حسم هذه الاشكالية الملازمة كظل ظلامي معرقل يغذّي وجود الامة المتخلف حضاريا، تشعبت عنه المذاهب و المناهج والاجتهادات التي رغم الجهود الجبارة الكبيرة في تنظير مفكرين ومصلحين بذلوا محاولاتهم في وضع حلول الاصلاح الديني موضع التفكير الاصلاحي وليس التطبيق التحديثي على وجوب حضوره واهميته في تحديث وتقدم حياة الناس، في هدف وضع رؤى التنظير الاصلاحي تطبيقا علاجيا على ارض الواقع لتغييره نحو الاحسن والافضل، وفي عدم تطابق اشكالية التنظير في تقاطعها مع اشكالية انعدام الاثر والتطبيق على الواقع، وجدت رؤى الاصلاح التنظيري نفسها مغيبّة تماما و غائبة طيلة قرون وعاجزة في ملامسة وتوظيف تنظيراتها الدينية اصلاح الواقع المعيشي العياني المتردي في تراجعه المستمر.،لانها تنقد وتراجع مجلدات من كتب التراث التي عفا عليها الزمن، في محاولتهم استغفال الناس ان في تصحيح تلك المجلدات من قبل العلامة او الفيلسوف الفلاني كفيل في جعل الامة العربية الاسلامية تنافس حضاريا كوريا الجنوبية او اليابان ونترك الصين من الاستشهاد لئلا نتهم بالترويج للبروليتاريا العالمية .

هنا اجد كم كانت عبارة ماركس في منتهى العبقرية والذكاء قوله متهكّما على الفلاسفة والمفكرين الذين يريدون تغيير واقع الشعوب بالافكار العزلاء عن مهمتها الحقيقية في واقع الحياة :( لقد عمد جميع الفلاسفة قبلي تفسير العالم فقط، في حين عملت على تغيير العالم وتبديل الحياة). ونفس هذا المنطق تبنته البراجماتية الواقعية العملية الامريكية حين نادت لا قيمة حقيقية للافكار مهما كانت مقنعة ومتسقة نظريا، مالم تحقق لنا منفعة بالحياة وتقدما في المسار التاريخي الحضاري.

واجهت اساليب الاصلاح الديني التنظيرية، اساليب وموجات العداء الاجتماعي المتخلّف، ضد اصلاح الفكر الديني الذي كانت تحمله النخبة المفكرة على اكتافها وهمومها الفكرية الثقافية التي تثقل كاهلها وحدها فقط، ولا يناصرهم سوى قلة قليلة من المثقفين والمتنورين، الذين كانوا منفردين يتلقون وحدهم نتائج افكارهم التجديدية في شتى انواع الاعتقالات والسجون والنفي والتعذيب والصاق التهم التكفيرية والشائنة بهم التي تثبط هممهم وتبعد الناس اتباعهم. وكل هذا الاحتراب نتيجة وهم ان التنظير الاصلاحي الديني الفكري سيحل مشكلاتنا على الارض. المفكر الحقيقي ليس ذاك الشخص الذي يرغب تبديل قناعة مفكر او مثقف مثله مهما كانت اهميتها يقدر حاجتنا الى مفكرين يجهدون في تغيير قناعات المجتمع الضال .

تمّثلت هذه المعضلة الاشكالية بحقيقة صادمة ان الفكر النخبوي التنظيري لوحده حتى على افتراض توفير حرية التعبير له وصواب وصحة منطلقاته، لا يمكنه تغيّير الواقع ولا اصلاح الامة في تدينّها الساذج السطحي الذي تسوقه عاطفة التدين الوهمي وليس عقلية واقع التدين النقدي، بل بقي الواقع الاجتماعي المتردي المنحدر باستمرار نحو الجمود والتخلف، يجعل الفكر التنظيري عاجزا وعقيما عن احداث التغيير وايقاف تراجع او حتى سبقه التراجع الاجتماعي الغارق بالتخلف الثقافي والسلوك القطيعي المذعن لتلبية المخطوء بالحياة، ولو بالفكر التنظيري الثقافي وحده، وتحشيد محاربة جهود الاصلاحيين، بما يماشي الواقع المتراجع باستمرار رغم كل جهود التنظير التحديثي له في الكتب والمؤلفات ومنح الالقاب والشهادات فقط.

لا اعتقد كقاريء ليس اكثر ان قرأت عن سابقة في نهضة الامم والشعوب، انها اكتفت نهضتها وقامت بمن كتب لها من الاختصاصيين مؤلفات ورقية نهضوية، من دون وضع كل نظرية او اجتهاد تحت مجهر التجربة العلمية والتطبيق على الارض وفي حياة الناس وفي التاكد جيدا من قراءات النتائج المطلوبة المتوخاة متحققة ام لا .ان الحقيقة التاريخية قبل وبعد الدينية اكدت ان الاصلاح الديني على امتداد التاريخ لم يكن يمتلك سيفا في نشر افكاره التجديدية الاصلاحية في اصطدامه بجدار التخلف الاجتماعي المستمسك بالقديم الخاطيء، بل كان يمتلك كلمة الحجّة والموعظة الحسنة الى جانب اعمال القانون المدني في تنفيذه الاصلاح بدلا من السيف. ماجعل برنارد شو يصرخ بعبارته الميكافيلية: الانبياء غير المسلحين يخفقون دوما. وتنبه دعاة التديّن الزائف في فرض الواقع المتخلف القديم المطلوب امام فكرة التجديد بالعودة الى سلاح السيف والعنف والرعب والذبح والتكفير وقتل النفس البشرية بدم بارد وروح شيطانية لا تمتلك الحد الادنى من الرحمة وحصل من الوحشية الدموية مايأنف التاريخ تدوينه، وتأبى الانسانية المعاصرة تسجيله وتذكير الناس بمآسيه، باسم فرض وصاية الدين على كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس في ابسط معانيها.

ما حصل لدينا في انفصالية و انفصامية الاجتهادات الاصلاحية الدينية الحقيقية، عن الواقع الميداني المجتمعي الحياتي المتخلف ومنظّريّه الذي ظل محتفظا بثباته الرجعي المتردي، ما جعل من التحديث النظري فكرا مدونا بالكتب متعالقا بالتضاد مع سلوك الحداثة في الحياة في انفصال واستقلالية كلا منهما، يشتغلان بالتضاد كلاّ على جنبة وحده ولا تربطهما علاقة جدلية في التاثير المتبادل في التغيير المستمر نحو الامام في قيادتهما الحياة الاجتماعية ومجمل تكويناتها المتخلفة في قبول وتقبل الصحيح التديني ليعقبه الصحيح في التقدم الحياتي كما هو شان غيرنا من الامم في تجاربها، التي وجدت ومنذ بداية القرن التاسع عشر، انه بعد الاصلاح الديني يجب ان يعقبه الاصلاح المدني في الديمقراطية، لا كما هو الحال عندنا انه لا تجديد يكتب له النجاح الا بعد مروره من تحت قنطرة المهيمن الديني ووصايته على ختم جواز مرور كل نزعة اصلاحية .

وجدنا ان الفكر التنظيري المتقدم تحديثيا على السائد المجتمعي في اشتمالاته ومحاولاته تغيير الواقع والحياة في عدد قليل من المتنورين، انه لا تاثير له مطلقا في تبديل الواقع المتردي الذي يستمد كل تخلفه من مسارات الحياة المادية والاجتماعية والثقافية العامة من فكر ديني يقاطع اي فكر تحديثي يستمد مقوماته من اختلالات الفكر الديني في النص الزائف المعادي لكل شيء ينطوي على علمانية حداثية ومتابعيه ومناصريه في مجتمع يمارس فهمه الدين طقوسيا ويستبعده ممارسة وفهم معاصر للحياة.. بل نجد العكس ان ظاهرة فهم الحداثة في مجتمعاتنا العربية مقلوبه معكوسة، فهي بدلا من قابليتها المفترضة الثورة على الواقع المتخلف و تغييره في اعتماده اصلاح التنظير الديني للواقع الحياتي المتخلف، نجد عوامل الاعاقة وتردي الاوضاع تخدم واقع التراجع وتغذّية التخلف في توظيفها مكامن الجمود العقائدي في الديني. بدءا من محاربة تحديث النظام التربوي والتعليمي في مجمل مراحله وصولا الى منع اشاعة فكر ثقافي تنويري يشكل حصيلة وعي ثقافي ديني متعايش مجتمعيا بكل تياراته الدينية، ويتقبل تبديل جميع نواحي التردي بالحياة. وكانت اسباب هذه الانفصامية بين التنظير الاصلاحي الاعزل في غير المؤلفات والكتب وافتقادها وسائل التغيير الواقعي الميداني اجتماعيا، تكمن وراءه عوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.يمكننا التدليل مثالا بسيطا عليها ان الوضع التربوي التعليمي الابتدائي ومراحله التدريسية وصولا الى التعليم العالي في الجامعات العراقية، كانت قبل اكثر من 70 سنه افضل مما هو عليه الحال اليوم في العراق تربويا ومناهج علمية حديثة واساليب وطرق تدريس، وقس على مثله في كل جوانب الحياة..ان من الثابت ان مصدر ضخ الفكر التديني التعصبي التكفيري الى اليوم يكون في بعضه يصدر من الكليات والجامعات التي يقوم عليها اساتذة ينعتون انفسهم والى اليوم حملة شهادات دكتوراه او بروفيسور يجاهر على تلاميذه وسط قاعات التدريس الجامعية بفكر ديني (ملائي) كما كنا نتلقاه قبل فتح مدارس التعليم الحكومية من قبل اوصياء الاستعمار القديم على مقدراتنا !!!، في هذا المثل لا يكون مرتع تنامي الفكر الديني الرجعي هو تدني مستوى قبول الوعي التحديثي في الوسط الاجتماعي وانما في وسط ما يطلق عليها وسائل تدريس العلم والتنوير وطرق ومضامين رجعية المواد التي يتلقاها التلميذ والطالب. ونتيجة ذلك لم يتبق كفاءة علمية واحدة الا وهاجرت وعادت تقدم خدماتها العلمية للبلد الذي يستحقها، وفي تركها تفشي الرجعية الدينية في الجامعات من حملة كتب التدين الذي يجعلنا نضحي بالدنيا في كل مرارتها وعذاباتها من اجل جنة موعودين بها في السماء.

هنا يتبادر الى الذهن عن مصدر تغذية التطور الحاصل في السلوك الاستهلاكي المجتمعي تقدميا لما يطلق عليه البعض حداثة من نوع استهلاكي بدءا من السيارة الى اخر تسريحة شعر، مصدّرة لنا امريكيا واوربيا ومن مختلف دول العالم التي تقايضنا تصديرها لنا هذه الصرعات التافهة في تقليد استهلاك كل ماهو هابط ولا قيمة حقيقية له تربطه بالحداثة العصرية التي تنقل الشعوب من وهدة سقوطها المتخلف. نشتريه بعملة صعبة توظفها الدول المصدرة في الكسب الاستغفالي وفي العائد المالي والتجاري لها، بما يبقينا على سذاجتنا الفكرية، باننا لسنا بحاجة الى بذل مجهود اصلاحي يأتينا على طبق جاهز بحكم اننا نعيش من حولنا في عالم متحضر يتوجب علينا تقليده استهلاكيا بمدفوع الثمن وشرائه، بما ينفعه لا بما ينفعنا اكثر من سلة المهملات. والى متى نستطيع شراء قشور الحضارة التي لانساهم بخلق ادنى صفحة منها؟؟ 

يتبع لاحقا ج4

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل

 

الجابري كما قلت صاحب مشروع عربي نهضوي افنى عمره في الاشتغال عليه، وقال كلمته للتاريخ بضمير نقي وقلب نظيف، ولم يكن ناقدا ادبيا او ثقافيا مثل طرابيشي الذي لم يتحمّل اية مسؤولية فكرية نهضوية في معاداته الجابري كمفكر موسوعي وليس مشروع الجابري فقط، ولا بد لي مضطرا ان اعرض بعض السمات الفكرية لمشروع الجابري التي سبق وان ذكرتها في مقال نشرته لي المثقف بعنوان (نحن وسؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر، الغرباوي نموذجا) اعرضه هنا في تلخيص شديد بالتالي ارجو ان لا يكون مخّلا :

 مرتكزات مشروع الجابري الثلاث هي:

1- المراجعة النقدية الصارمة للمشروع العربي الذي بدأه جمال عبد الناصر بداية عقد الخمسينات من القرن20، وانتهى سياسيا في ثورات ماسمي بالربيع العربي 2011م الذي بعد التخلص من الدكتاتورية تم تسليم الحكم في البلدان العربية المحررة من الاستبداد الفردي الى منظمات الارهاب الاسلامي على طبق من ذهب، لتقوم بكل وحشية في تجميد الفكر الديني اكثر واذاقة الشعوب العربية من الظلم ما لم تره عين ولا سمعت به اذن التي تنفذت فيها قوى الظلام والتكفيرالارهابي ولا تزال في بعض الاقطار العربية تامل في اقامة دولة خرافة تقوم على جماحم الابرياء وسبي النساء، وترمل النساء وتشرد العوائل والايتام والكثير بما لايسعه المقال.

الجابري في العودة الى مراجعة ونقد تجارب ايديولوجيا المشروع العربي القومي الفاشل الذي بدأه عبد الناصر وقامت عليه القيامة ولم تقعد في التآمر الامريكي – الصهيوني عليه ومعهم غالبية الحكام العرب، لم يكن يتطلع الجابري الى نشر الغسيل المؤلم في التاريخ العربي ولم يتشفّ بتذكير العالم بنكسة المشروع العربي النهضوي في العام 1967، كما فعل معظم مفكري و ادباء ومثقفي وشعراء الشام سوريا ولبنان بلا استثناء، ان يلعب الجابري لعبتهم ويبني لشخصه امجادا زائفة كغيره، في التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم القومية في محاولة تعميق نقمة لاتجدي او تمجيد حقبة تاريخية مدانة في حكامها وسياسييها وليس في مبادئها واهدافها، وكان الجابري يرى اكثر مما لا يعدّون انه لا مشروع نهضوي حقيقي غير افتعالي ولا استهلاكي لا يقوم على نهضة الامة العربية الاسلامية في مجمل خصوصياتها ومميزاتها، الا بالتسليم بحقيقة تاريخ العرب المسلمين، انه كما كان فيه مكامن ضعف وعيوب كبيرة ومتعددة، كان هناك ولا يزال ايضا فيه تاريخيا وتراثيا مكامن قوّة ومخزون حضاري يصلح اعتماده في تحقيق نهضة عربية معاصرة.وان المشروع العربي الاستبدادي اذا ما انتهى كتجارب حكم فاشلة فهو لم ينته كطموح عربي شامل في وجوب تحقيق نهضة عربية رشيدة حتى ولو بعد اجيال من تاريخ نضوب النفط العربي وانتهاء التمايز والتفاوت المالي بين اقطار عربية متخمة واخرى تتضور جوعا، ولا بد ان يعود العرب الى تحقيق نهضة تقدمية تجمعهم بحكم التاريخ اكثر من فرض تنفيذ رغبة او عدم رغبة الحكام العرب في مستقبلهم المنظور او غير المنظور، فلا يشهد تاريخ شعوب العالم موت تطلعات امة تريد العيش بكرامة ان دفنت احلامها، بدفن بعض قادتها ممن لم يحسنوا قيادة امتهم واضاعوا عليها فرص اقامة نهضة حداثية خاصة بهم .

1- دعوة الجابري في مشروعه النهضوي العودة الى التراث العربي تحدوه غاية وهدف انصافه لا زيادة تجريحه واماتته لما يحتويه من ذخائرحيّة فيه لم تمت بعد ولن تموت لان هذه المميزات تمثل الوجود المادي للامة قبل الوجود المعنوي الحضاري لها، وقال الجابري في احد عباراته الشهيرة ما معناه :علينا ان نكون اصحاب تراث نملكه و نقوده نحن ونعدّل به ونضيف له، وان لا نكون كائنات تراثية يسحبها الدين وراءه تابعين في تمجيده والسير خلفه كعبيد . اراد الجابري تأكيد ان الامة العربية تمتلك ارثا حضاريا واسعا جدا، ولا يمكن ان تفقد ثقتها بنفسها، وليس الاسلام عماد ذلك التراث الغني وحده، بل تصل جذوره الى حضارة وادي الرافدين في العراق، وفي مصر الفرعونية وحضارة سبأ في اليمن ودلمون في البحرين. ونحن مع كل هذا وكما يذهب له الغرباوي لاننقد الدين بما هو مجرد تكوين اصيل في تشكيل الوجود العربي، لكننا نركز اهتمامنا بنقد وتخليص الاسلام مما الحق به بعض المنحرفين من عنف وهمجية وتدمير هي ليست من صنع فكر النص الديني المقدس، وانما هي من تراكمات الانحرافات الموروثة المتجذرة في العقلية والسلوك الفكري الديني المنحرف، ومثلها في الاجتهادات المتزمتة التي عفا عليها الزمن وحان وقت تنظيف الجسم الاسلامي منها.

2- دعا الجابري في مشروعه النهضوي الاستفادة من مناهج الحداثة الفلسفية الغربية المعاصرة، و كيف استطاعت اوربا الخروج من ظلمات القرون الوسطى، لكن دونما اهمال الحذر ان لنا خصوصيات كأمة عربية اسلامية، ربما يجهلها الغربيون او يتجاهلون عنها، وفي خير تحذير طبقه الجابري على نفسه قبل غيره هو رفضه البنيوية ان تكون منهجا فلسفيا ومعرفيا مسعفا وملائما لنا في مراجعة ونقد تراثنا، وبقي امينا حريصا في كل مؤلفته على الاصالة العربية الاسلامية كجوهر لا يندثر ولا يموت في ضمير ووجدان العرب يتوحب عليهم وحدهم ايجاد حلول مشاكلهم الكبيرة التي تعيق وجودهم العصري الحضاري.

جورج طرابيشي ونقد النقد

ارى ان مصطلح نقد النقد في كل مجالات الادب والمعارف هو وسيلة ارتزاق ثقافي لمن لايمتلك شيئا جديدا يغني اصل النص المنقود برؤى تضيف له تخليقا ابداعيا يثريه. فنقد النقد ليس تفنيدا سلبيا لمقولات نصّية بحيث لا يجشم الناقد نفسه اكثر من تسجيل هوامش سطحية في تخطئة بعض فقرات النص الاصل وسحب سلبيتها التلفيقية على الكل.واجد في نقد النقد المتطّفل المتسوّل على من كتب وقال الكثير مثل المفكر الجابري، وهذا مدخل ينطبق على جورج طرابيشي الذي لا يمتلك شيئا غير النقد الادبي، وسوى اعادة قراءة الجابري ومؤلفاته من مصطلح نقد النقد في بناء امجاد فكرية زائفة لم يفلح النقد الادبي تحقيقها له.، وهو غائب في محل اقامته بباريس متناسيا هموم سوريا ولبنان ولا نقول هموم الوطن العربي الذي ربما كان تمذهبه الديني المسيحي يجعله خارج الانتماء الوطني العروبي بعكس الملايين من المسيحيين الشاميين وغيرهم من الذين وجدوا وطنيتهم العربية الحقيقية في تعايشهم مع جميع اديان وطوائف الوطن العربي معتبرين انفسهم اصحاب وطن لهم ماعليه وله ماعليهم سواء مع المسلمين او الدروز او غيرهم.

على كل حال ماقام به طرابيشي في التطفل الكتابي على مؤلفات الجابري يدخل في باب الاعتياش السلبي على مؤلفات وكتابات الجابري تعليقا وتجريحا في استعراضه قوة ليس في وقتها ولا في مكنها ولا حتى في ادنى اهدافها الوطنية، وليس لديه اي اضافة فكرية تحسب له في باب النقد على النقد، اوالتجديد وتقديم الافضل في نقده مؤلفات الجابري في نقد النقد. وفي مثال كتاب طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) جال وصال طرابيشي في استعراضه عضلات النقد الاعتياشي التسوّلي في محاولته تهديم المشروع النهضوي العربي الذي وضعه الجابري في مؤلف واحد من سلسلة مؤلفاته تجاوزت خمسين مؤلفا هو (نقد العقل العربي) تناولت جميعها محورا مركزيا غاية في الحيوية هو مراجعة مسؤولة وثقافة بحثية موسوعية يعود الفضل لمن ابتكرها وقدمها في مجلدات في التاليف هو الجابري وليس كتّاب هوامش نقد النقد.

 ان الذي يضع على النقد نقدا اولى به ان يعطي البدائل التي تفتح امام القاريء افاقا او رؤى اهملها المؤلف صاحب النص المنقود وليس صاحب النص الهامشي لناقد نقد الاصل النصّي، ولا يهدينا غير معاول الهدم لكل بنيان مهما كان كبيرا او حتى متواضعا يضعه المفكرون العرب للخروج من حجرهم الحضاري الغربي الاستشراقي عليهم، و في محاولة الافادة من اخطائهم وبناء مرتكزات نهضوية لهم.

ادعو كل مثقف عربي اطلع على خرابات معاول الهدم الطرابيشية في مؤلفاته النقدية وكتابته هوامش استهدافه مشروع الجابري العربي النهضوي، وتسخير كل امكانات داعميه من دار نشر الساقي الى الداعمين خلف الستار في تجييشهم كل الامكانات المتاحة لديهم في النيل من الجابري كمفكر ولمشروعه العربي النهضوي، كمشروع تحديث عقلاني متزن بطروحاته التي أجمل الجابري في بحوثه ومؤلفاته ومقالاته وندواته كل مناحي التردي في الحياة العربية، مع اعطاء بدائل حلول للمشاكل التي يطرحها.الجابري في مجموع انجازاته الفكرية الموسوعية والفلسفية كان صاحب رسالة تاريخية اراد توصيلها بكل مسؤولية ونظافة ضمير لكل عربي على الارض العربية، الجابري لم يكن مثل غيره يتفلسف على لا شيء في محاولة استعراض سعة فكره والمامه بالتاريخ العربي ودقائق الفلسفة العربية الاسلامية.

من يقرأ مؤلفات طرابيشي في ممارسته التهديمية نقد النقد في استهدافه تقويض وتشويه ما اراد الجابري اقامته وتشييده، يجد ان مرجعية منهج الهجوم على منجز الجابري يغتذي من خلفية استشراقية تبناها والى اليوم من المفكرين العرب غير المسلمين العديدين، في دأبهم الذي لا يكل ولا يمل من تأجيجهم عقدة النقص التي تلازمهم انهم اقليات دينية مهمّشة، مظلومة وينبري من بينهم المتشّفين في انتكاسات العرب التي سببها نعرة اسيادهم المستعمرين من الفرنسيين والانكليز واخيرا الامريكان واسرائيل، الذين يجعلوهم يضعون قدما على الارض العربية، واخرى في بلاد المهجر الوطن الام وخدمة مراميه واهدافه الخبيثة المريبة بكل راحة ضمير وانتساب يقوم على دعارة الفكر والجسد.

ان ابسط مقارنة بين الرجلين الجابري وطرابيشي، وان كنت اراها مجحفة بحق الجابري تظهر مدى قوة وايمان وصبر الجابري في عدم الرد على جورج طرابيشي في ممارسته نقد النقد الاستفزازي له شخصيا كمفكر، نقد تجريحي تهكمي غير منصف بحق مفكر لم يستجد الاقامة السياحية لافي فرنسا ولا في اي بلد عرضت عليه استقباله بتكريم، ورفض كل الجوائز المالية من البلدان العربية وغير العربية وعاش الرجل الفيلسوف ومات ودفن في بلده المغرب العربي، ليكون بذلك من قلة من المفكرين العرب الذين تطابقت حياتهم مع افكارهم في ضمائرهم وفي سلوكهم المشرّف الممتليء عزة نفس وكرامة، ليس كما فعل جورج هو وامثاله من عرب الكدية والتسوّل في مسح اكتاف من يذكرهم عند ولي نعمة يكرمهم بزاد المهانة، وسلخ معظمهم اكثر من ربع قرن من اعمارهم مغتربين بعيدين يسمعون اخبار وكوارث بلدانهم كغيرهم من الاجانب. وينظّرون من اجل انقاذهم من مرابع الحضارة الاوربية.

بين اركون والغرباوي

كنت اشرت في مقالة لي على صحيفة المثقف، ان المفكرين محمد اركون وماجد الغراوي يلتقيان في معالجتهما اشكالية الفكر الديني الاسلامي وتعالقه المعيق المعرقل لحداثة عربية منشودة، وان الاصلاح الديني يعتبر المرتكز والمحور الاساس، في اقامة نهضة عربية اسلامية مستدامة ارادها الغرباوي كما سلفه الجابري عربية اليد واللسان.

لا شك ان الاصلاح الديني كان الشغل الشاغل لرواد مفكري عصر النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، في التزامن مع الانبعاث العروبي القومي للتخلص من هيمنة الاستعمار الكولونيالي الغاشم وقبله الهيمنة العثمانية التركية على حكم الوطن العربي والنزاع بينهما للسيطرة على ثرواته.من هؤلاء المفكرين الاصلاحيين نذكر : (الافغاني، الطهطاوي، محمد عبدة، علي عبد الرازق، رشيد رضا وغيرهم من مفكري مصر لوحدها) يشاركهم مفكري المغرب والمشرق العربيين بما لايمكن حصر اعدادهم من القدماء والمحدثين المعاصرين.

اركون كمفكر معاصر وضع اصبعه على الجرح القديم الجديد في وجوب اعطاء الاصلاح الديني الاولوية في وضع نقطة ارتكاز انطلاقة نهضة عربية حضارية واسلامية في الوطن العربي. واشتغل بخلاف الجابري على اهمية (نقد العقل الاسلامي) وليس العربي، في تحقيق انبعاث نهضوي. وبحكم الاقامة الدائمية لاركون في باريس على العكس من الجابري طرح اركون مبتدأه في الاصلاح الديني كما فعلت اوربا في سلسلة ومراحل بناء نهضتها بداية القرن الثامن عشر لتحصد اولى ثمار نهضتها في القرن التاسع عشر بفصل وصاية الكنيسة الكاثوليكية عن التدخل في الحكم والعلم وشؤون الحياة المجتمعية للناس. بمعنى ادق ان اركون اراد تطبيق التفكير الاستشراقي الاوربي وتحديدا الايطالي في ارهاصات النزعة الانسانية التي انطلقت منها في القرن الرابع عشر قبل انتقالها الى فرنسا ومن ثم دول اوربا قاطبة. وكذلك منهج الاستشراق الفرنسي ايضا كمنهج دلالي تاريخي متدرج مرت به انطلاقة الحضارة الاوربية في الثورة الفرنسية 1789م. في محاولة اركون معالجة اشكالية الفكر التراثي الديني عندنا وتقاطعه في كل شيء تقريبا مع معطيات العصر والحضارة العالمية.

في هذا التمّفصل طرح الغرباوي مشروعه في نقده الفكر الديني واصلاحه كمحور ارتكاز في تحقيق انطلاقة تحديثية لكنه باختلاف ان المنهج الاستشراقي لا يقود الى اصلاح فكري ديني عربي مشبّع باشكاليات تدفن معها منهج الاستشراق والهدف الفلسفي منه في مقبرة المحاذير العدائية الاجتماعية والفكرية المتجذرة عند العرب نتيجة مممارسات الاستعمار القديم بحقوق شعوبهم الانسانية المشروعة. ومن جهة اخرى ان شعار علمنة الحياة العربية برمتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، ليست من السهولة مقارنتها مع علمانية الغرب التي حققتها فرنسا منذ عام 1905م. لذا وجد الغرباوي نفسه وكذلك مؤهلاته الفكرية الدينية التخصصية بحثيا واكاديميا اقرب الى اتباع منهج يقوم على (اهل مكة ادرى بشعابها) في نبذه المنهج الاستشراقي في تنفيذ نقده الفكري، وفي تحاشيه اللقاء غير المجدي مع مشروع الجابري القومي العربي الذي تمليه على الغرباوي مشروع الاسلامية الحضارية من خلال اصلاح الفكر الديني اولا وقبل كل شيء. بعيدا عن كل من نزعتي القومنة العروبية ونزعة التمذهب الديني السياسي.

 من الحقائق التي ارساها اركون بوضوح ان بداية النهضة العربية تنطلق من انجاز مهمة الاصلاح الديني، كانت موفقة في تشخيصه الداء ولم يوفق في ايجاد منهجا سليما يحقق به غرضه. هذه فرادة فكرية تحسب لاركون لكنه اعدم هدفه الحضاري النهضوي في تمسّكه بمنهج ومصطلحات الفلسفة الفرنسية في البنيوية والتفكيكية في محاولته الباسها مشكلات الوطن العربية بهدف معالجتها. بل اركون كان مخلصا ومقتنعا ضرورة مرور الامة العربية بنفس المسار التاريخي المتدرج الذي مرت به اوربا وحققت بالتالي نهضتها الحضارية بداية القرن19. وهو ما افاد الغرباوي منه كثيرا في تقاطعه مع اركون في هذه النقطة تحديدا.

 الغرباوي وتفكيك النص

على العكس من متبنيات عديد من المفكرين العرب المعاصرين الذين يتلقفون منتجات الفلسفة الاوربية في معالجة النص العربي عموما فلسفيا، وتحديدا في تكريسهم ما يطلقون عليه اشكالية اصل النص في تكريس البنيوية له كسلطة ومرجعية لا قيمة لها من بعدها لأية مرجعية انسانية او ميتافيزيقية او تاريخية وغيرها، بخلاف ذلك جاءت تفكيكية دريدا مصادرة ان اصل النص الذي عماده (اللغة) لا يمتلك اية مرجعية تجعله مصدرا في محاكمة الافكار الفلسفية والجدوى المعرفية منها.

عمد الغرباوي كي لا تكون منهجيته في تفكيك النص الدينية نتيجته الخروج كما في التفكيكية عن اية حالة ثبات مرجعية يتطلبها البحث في تكريس منطلقات فكرية جديدة واجب اعتمادها. لذا اعلنها صريحة: (اني لست مع التفكيك – يقصد في مفهومه الفلسفي- غير اني اسعى لاقصى ممكنات الغوص في اعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لا دراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية تناى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلف) ص10 من كتابه.

المتابع لكتابات الغرباوي يجد ان فهمه لتفكيك النص الديني لا تقوم عنده على التزام فلسفي سوى دأبه المتواصل وتنقيباته الحفرية في بطون التراث الاسلامي لوصول هدف حقيقة الاشياء والحوادث التاريخية، لا كما حدث ووصلنا تاريخيا مدرسيا تراثنا العربي الاسلامي خاليا غالبيته من كل صدقية يحكمها العقل النقدي التاريخي، وكذلك نقد الفكر الديني الحصيف، ولا من حيث كان يتوجب ان تكون معظم مواريثنا الحضارية في مسارها الصحيح وتجنيبها المجتمعات الاسلامية تبعات الاخطاء المتراكمة المبنية على وقائع زائفة كلفتنا دماءا وكوارث لم تكن لتحدث لو كانت الشخصيات المسؤولة عنها تاريخيا التزمت حقيقة الدين وليس شهوات الحكم والسلطة، وتغليبها امور دنياها على موعود دينها.

الوجه الّآخر الذي ابتغاه الغرباوي في نقده النص الفكري الديني وتفكيكه ليس في الوصول الى فائض قناعات اخرى بديلة تمتلك مصداقية قبولها العقلاني والمنطقي حاضرا بما يلغي اصل النص بالتعبير الفلسفي، وانما كان اهتمام الغرباوي منصبا لاعادة حضور جوهر النص الديني في قدسية بكارته من التحريف، قبل تدنيسه وتشويهه بالاكاذيب والدسائس والحيل التي جعلت من اصل النص مدفونا بالحياة قبل الممات مجردا من كل فاعلية او حضور ديني مجتمعي اخلاقي .اراد الغرباوي اعادة حرمة وقدسية النص الديني المستمدة من وحي النبوة المؤمن بها، الى حضوره الفاعل في الحياة العربية الاسلامية التي تفهم التدين اليوم اسلاميا قائما بالاسم، ومغيّبا غائبا في التجنّي عليه في ممارسة العنف والقتل والذبح والسبي والهمجية التي تغذي الاختلالات العقيدية والدينية والاخلاقية التي تسوس و تسود مجتمع قطيعي لا يفهم من الحياة اكثرمن مفردتي جنة ونار.

الغرباوي لم يقم بتفكيك النص الديني من اجل تحقيق غايات فكرية فلسفية تضاف الى اصل النص، وتكون قراءة جديدة تضيف هوامش عليه لا في رغبة محاولة تفكيك النص من اجل كشف اللامعلن المستور فيه، كما ان اختلاف تفكيك النص عنده، في التزامه حكمية النص الديني عليه دون النص الادبي ولا الايديولجي او الفلسفي لا تماهيه رغبة اعدام النص الاصل كما في فلسفة التفكيك. بل يعمد تفكيك الغرباوي للنص الديني ليس كتابة هوامش نقدية له ولا في محاولة اغتيال اصل النص كما في الفلسفىة في تعطيل مرجعيته الفكرية التداولية، بل في محاولة تثبيت اصالة النص الديني المقدس بيقينيات عقلانية نظيفة، وليس محاولة تفكيك النص فلسفيا بغية تضييعه في تضاعيف الالغاءات المتتالية عليه.

ان مشكلة الغرباوي مع الفلسفة في التفكيك ان النص الادبي او الفلسفي او المعرفي يتقبل القراءات الصعبة اللغوية التجريدية التفكيكية التي تتربص به في تعطيل فاعليته التداولية كمرجعية وثوقية ثابتة. بينما يكون تفكيك النص الديني لا يلتقي مع هذا النهج من الالغاء الفلسفي، لان الناقد هنا تحجّمه قدسية النص الديني موضوع البحث امامه، بانه نص غير وضعي يطاوع الالغاءات المستهدفته.

هنا التفكيك في مفهومه العابر للتفلسف تنحصر كل محولاته ومجهوداته في الوصول الى قراءة جديدة للنص له بعد تخليصه وتشذيبه من جميع المراكمات التي استهدفته بالتغييب ليس اللغوي كما في الفلسفة، بل بتغييب وعطالة دوره في الفهم العقلاني الصحيح غير المّحرف له، في فهم المسيرة التاريخية الدينية في حقائقها المغيّبة.

مشكلة النص الديني الذي يتأبى على التفكيك الفلسفي تتأصل مرجعيته التي يرفضها التفكيك اللغوي، من طبيعة النص الديني المضمونية كمقدس ديني وليس في مشكلته الشكلانية اللغوية فيه، النص الديني قدسيته المستمدة من معصومية القران لغة ومضمونا تحديدا، لا يمكن ان يطاله التفكيك بالتغيير او التلاعب به لغويا ولا مضمونيا، بل يطاله التفكيك بمعنى حاجته الى التحرر من سجن الخرافات والاوهام والانحرافات التي طرأت عليه باسم الحفاظ عليه.ولا اعتقد هذه الحقيقة البحثية غابت عن تفكير الغرباوي وفهمه لمعنى واختلاف التفكيك في النص الديني عنه في النص الادبي او اوالفلسفي السردي.

استطيع الجزم ان تطبيق هذا المفهوم البجثي الفكري عند الغرباوي حاضرا، انه ليس سهلا نقد النص الفكري الديني من دون استحضار حذر مبدئي ان هذا النص يمتلك خصوصية او اكثر، فهو يمتلك (قدسية) الهية لا يمكن للباحث الاقتراب من النيل منها، لكن الاهم هو ان النص الديني استقطب يمرور الوقت وتوالي العصور، تراكمات من الخرافة والتشويه والانحراف الايديولوجي القصدي، في تداول المخطوء الدخيل عبر عصور التحقيب الزمني الطويلة في مرافقة اصل النص الديني الصحيح مع التنامي الذي اصبح تنامي هذا المتراكم الطاريء المضلل يخلع على نفسه يقينيات كاذبة على انه اصل ومرجعية النص الديني الواجب تقديم الطاعة العمياء له في تغييب وتناسي استحضار واحياء حراك النص القدسي الحقيقي في تصحيح المسار التاريخي المخطوء. ببسيط العبارة لم يعالج الغرباوي فكر النص الديني من منطلقات فلسفية تفرض نفسها على النص وهو في عدم حاجته لها لا شكلانيا نقديا ولا مضمونا فلسفيا كموضوع.بقدر حاجة الغرباوي كباحث نفض جميع المتراكمات الزائفة المغيبّة لاصالة النص الديني.

تجديد الفكر الديني لدى الغرباوي، ليست غايته خلق تنظير نسقي فكري ديني متجدد، لا يعتبر اصل النص الحقيقي وقدسيته مرتكزا محوريا وحيدا في ايجاد تفكير ديني محايث العصر والحداثة، ولا علاقة لهذا الفكر غير دوره في تحرير المنطلقات الفكرية القدسية الاصيلة من راهنية الحجر عليها بالزائف والخرافي والايديولوجي.

ان الاتيان بفكر تجديدي ديني يتحاشى المساس اصل النص المقدس، وانما التجديد كان عند الغرباوي التجديد في استهداف موروثات التداول الانسي الذي اتخذ صفة المقدس، لابل احيانا اخذ يزاحم التنزيل النصي المعصوم، وعن هذه الحقيقة يقول الغرباوي ص 16.

(لا يمكن اهمال مصدر النص عندما يؤسس لأي سلطة سياسية او دينية او اجتماعية او معرفية، لانه هو المعنى حقيقة لتحديد مستواها، فيكون جزءا من النص، وليس خارجا عنه، اي يجب قراءة النص بما انه كلام الله او قول النبي ليستمد منها حقيقته وسلطته. كما بالنسبة لرواية الخلافة في قريش او الامامة في قريش. التي غيرت مجرى الحداث يوم السقيفة، فما كان لها ان تؤثر كل هذا التاثير لولا نسبتها للرسول، لذا قلبت موازين القوى باعتبار قدسية النبي ووجوب طاعته قرآنيا).

والتاكيد الاهم في ذلك على لسان الغرباوي: (ان سلطة النص المؤسسة تتوقف على مصدرها ومدى صلاحيتة الوثوقية وقدسية ووجوب طاعته). ص17

اكتفي بهذا القدر على امل تناوله في مقال لاحق.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

تلخيص وتعريف اولي: كتاب المفكر الاسلامي ماجد الغرباوي (النص وسؤال الحقيقة / نقد مرجعيات التفكير الديني) هو من سلسلة كتب المرحلة العربية الضاغطة على حياتنا المعاصرة في وجوب استنطاق النص الديني من اجل الوصول الى الحقيقة المغيّبة وراءه في مراكمة التخلف عبر العصور والتاريخ، ومن قراءتي غير التخصصية الدينية في قضايا الفكر الديني الاسلامي مضمون الكتاب، استوحيت الملاحظات التوضيحية التي ارجو ان اكون موفقا بها، وابدأها بالتالي:

1- لا اعتقد اكون مصادرا متسرعا أن لا اشير الى جهد الكاتب المميز، ان الكتاب هو واحد من سلسلة مؤلفات بدأها الغرباوي في تأسيسه مشروعا منهجيا نهضويا عربيا اسلاميا نقديا جريئا، يفرضه واقع الامة العربية والاسلامية المتراجع باستمرار. ويبتعد المؤلف في نسبة كل تلفيق وهمي يبّرز تاريخنا الموروث والديني تحديدا انه نموذجيا في معالجته كل مشاكلنا المعاصرة في الحياة. وكذلك في دأب غالبية كتابنا الاسلاميين في اعادة وتكرار سرديات التاريخ التراثية في نقد الفكر الديني الذي اعتاد ملامسة قشرة الاختلالات الواقعية التاريخية فيه، بعيدا عن تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، وطرح الاشكاليات التناقضية فيها على بساط المناقشة الجادة في تعرية الاكاذيب وابراز حقائق الامور المغيّبة.

كما استبعد- الغرباوي في كتابه - الشد والجذب المذهبي الطائفي المتوارث المتجّذر في عمق الخلافات الطائفية اليوم، في نقده الفكر الديني وقضاياه، لا بما يتوخاه غيره ويسعى له من المؤلفين الاسلاميين الايديولوجيين في تأجيج صراع الاجيال المذهبي الديني والطائفي وتعميقه اكثر، والذي بات معه التعطيل المذهبي للحراك الديني المطلوب خارج التطرف المذهبي، مغيّبا في صرف النص عن مهمته حراكه التجديدي الى امام، ومنذ زمن ليس بالقصير يأخذ هذا المنحى التصادمي صفة الانفرادية القسرية التي تحاول فرض هيمنتها السلطوية او الايديولوجية في احتكارها الدين والفكر الديني بها ولها من جانب المذهب الاسلامي الواحد، الذي يصادر اصل النص الديني في جوهره و براءته الموحى به تنزيلا مقدسا، في رفض كل قراءة نقدية مغايرة تجديدية للنص الديني، وفي تغييب اجلاء عصمتة المذهبية الوحيدة الروحية المستمدة من احتكار اصالة الايمان السماوي، وتمذهبه المتزمت في المذهب الواحد أوفي فئة ممن يطلقون على انفسهم الفرقة الناجية في تكفير اجماع المسلمين المدينين لضلالهم، وفي اغتيالهم هذه الاجماعية الايمانية الطبيعية البعيدة عن الكراهية والعنف، المترعة بحقيقة ارتباط العابد بالخالق بعلاقة روحانية متفردة في قيمتها الدينية، فقاموا بالتحريف العمد والانحراف المقصود، في نزع أصالة هذه الحقيقة الايمانية من عصمتها الالهية واستبدالها بفكر ديني بديل وتفكير ايديولوجي سياسي متخلف مخادع كاذب محتواه وقوامه المغالطات في ازاحة اصل النص الديني الموحى به واضاعتهم قداسته خلف حجب المتراكم من الاكاذيب و الخرافات والاجتهادات الفقهية الدخيلة، والتعصّب الاعمى في الاختلافات السائدة في تحريف الفكر الديني سياسيا، وتبني العنف واقصاء المسلمين من غير المذاهب في مصادر الحقيقة الدينية لحسابه وحده دون غيره، وتكفير غير المسلمين ومنع حقهم بالمشاركة في وطنهم . ومنع مهمة الاسلام المتعدد المذاهب من التعايش الديني مع الاخر، والاسهام المشترك في تحديث الحياة العربية الاسلامية. كل هذا وغيره وراءه دوافع ايديولوجية سياسية جعلت من النص الديني سلعة تباع وتشترى في اسواق ومزادات التخلف والتجهيل العام، وفي جعل هذا المتداول الفكري الديني الخرافي المتخلف العابر لانسانية جوهر وصدقية الدين في انسانيته ونقائه، المصدر الغالب والمعتمد في تعميم هذا التفكير الديني الضال والمضلل ايديولوجيا سياسيا في لجمه اية محاولة مراجعة ونقد وتصويب له تقتضيه الحياة العصرية بما يجعل من التديّن يماشي روح الحداثة ويبعث التجديد المتحضر في مناحي اجتهاداته التكفيرية العقيمة .

2- ان سلسلة المفكرين العرب والاسلاميين من الذين تنبهوا اهمية معالجة انحرافات الفكر الديني الايديولوجي وتكبيله ومنعه لأي تقدم في الحياة العربية الاسلامية، كانت بداياتهم مع مفكري بداية القرن التاسع عشر، مع العشرات من مفكري مصر القدامى والمحدثين، وغيرهم على امتداد الوطن العربي بما لايمكن حصرهم، ومن مفكري المغرب العربي خير الدين التونسي، ومحمد عابد الجابري، والجزائري محمد اركون، وعشرات آخرين ولن يكون مشروع الغرباوي آخرهم او الوحيد مع مفكري العراق وبلاد الشام، من الذين وجدوا ان تحقيق نهضة الامة مبتداها ومنتهاها يكمن بتحقيق معالجة اعاقة الفكر الديني الوضعي الرجعي واصلاحه امام تغييبه انطلاقة نهضوية علمية حضارية تنشدها الامة العربية الاسلامية. وفي هذا المنهج نجد الغرباوي يلتقي مشروع محمد اركون وعدد كبير من المفكرين الاسلاميين قبله الذين اجمعوا على اهمية واولوية الاصلاح الديني كبداية ومحور ارتكاز تقوم عليه حلول عوائق التخلف الاخرى المتفرعة عنه والمرتبطة به.واعتبارهم اعادة نقده و كتابته وتجديد النهج الاصلاحي الديني خط شروع اولي في تحقيق نهضة عربية حداثية. هنا يلتقي الغرباوي مع اركون في اولوية الاصلاح الديني كمرتكز نهضوي اصلاحي كما فعلت اوربا، لكن باختلاف (المنهج) الذي كان دعا له العديد من المفكرين الاسلاميين، في انجذابهم نحو منهج الاستشراق ربما كان ابرزهم اركون من المفكرين المحدثين، والذي لم يعتمده الغرباوي واستبعده في جميع كتاباته ومؤلفاته.

3- هل نحن محقّون في تساؤلنا لماذا لم يطرح الغرباوي النص وسؤال الحداثة بديلا عن النص و سؤال الحقيقة؟ وهل يوجد فرق تحقيق اسبقية بين الاثنين؟ ام ان الوصول الى تحقيق قيم الحقيقة يعني استيعابا ضمنيا في تحقيق قيم الحداثة على اعتبارهما اهم افصاحات العصر عن ذاتيته الحقيقية وترسيخ حقائق الامور في حداثة الحياة وفي معاصرة حقائقها العلمية السائدة عالميا. اجد ان لا اختلاف بين تحقيق الحداثة وتحقيق كشف الحقيقة انهما مرتكز واحد يجمعهما الهدف الواحد المنشود في تحقيق المشروع النهضوي، لكن يبقى الاختلاف في منهجية التناول وفي أسبقية هدف التحديث مجتمعيا في تخّلف تحققه عندنا قرونا طويلة بسبب تغييب الحقائق العلمية التاريخية والحقيقة الدينية حصرا.

الغرباوي كرّس جهده البحثي في التزامه منهجا (تاريخيا) يفرضه عليه هدف البحث وموضوعه لا وسيلته الثانوية التي اعتبرها بعض المفكرين العرب والمسلمين (هدفا ووسيلة) معا في كتاباتهم. وبما يفرضه مصدر النص القدسي كموضوع بحث ودراسة ومراجعة نقدية، يختلف عن مصدر النص الفلسفي في معالجته مباحثه فلسفيا منطقيا تجريديا مختلفا عنه في منهجية معالجة الفكر الديني، في ابتعاد المنهج الفلسفي عن منهجية التفكير الواقعي التاريخي الذي فرض نفسها على الغرباوي، فالمنهج عند الغرباوي لم يعد يشكل طموحا او هاجسا يراوده امام مهمة سعيه تحقيق تغييرا مفاهيميا في فكر ديني بات لا يماشي العصر ويتقاطع معه، وليس في اهتمامه مناقشة مباحث فلسفية يقتضيها ويفرضها منهج منطقي تجريدي يعتمد مركزية اللغة، ولا يعير اهتماما لحقيقة مشكلاتنا، ولا لمصدرية ثيولوجيا النص او تاريخيته، ولا مبتغى نقده فلسفيا، فما يعنى به نقد الفكر الديني تاريخيا عندنا يمثل بالنسبة لقيم الحداثة الغربية التي ارستها الفلسفة المعاصرة، مع تعاون تداخل العلم وايديولوجيا التحديث الديمقراطي عندهم منذ عصر النهضة والانوار، لم تعد تمثل عندهم اشكالية ذات حضور مصيري هام يهّم حياتهم كما هي حالنا.

فالبحث عن الحقيقة الدينية المفروضة علينا حداثيا عصريا لا تشكل لدينا ترفا فلسفيا يقبل المناقشة الزمنية الطويلة وتاجيل حسمها، انما هي عندنا تقوم على تصحيح مسار تاريخ خاطيء زمني طويل للفكر الديني لدينا كوقائع واحداث ومعارف موثقّة تاريخية تشكل ركيزة مفصلية مهمة من تراثنا العربي الاسلامي، وهذه الحقيقة التي نحياها وتؤرقنا لا تشكل مشاكلها اي اهتمام في مباحث الفلسفة الغربية المعاصرة فلا التاريخ ولا الديني ولا الحضاري ولا حتى العلمي يهم شعوبها اليوم كمشاكل تدخل صميم حياتهم المعيشية او مستقبلهم الحضاري في تقدم الحياة، فلكل من هذه المسارات المصيرية في حياة شعوبهم اخذت طريقها الصحيح المستقر الذي لا تحيد عنه ولا تسمح للانحرافات النيل منه واستهدافه.

4- اننا حسب ما اعلنه المفكر الغرباوي يهدف تحقيق (قيمة الجهود المبذولة المكرسة لنقد مرجعيات التفكير الديني واشكاليات العقل التراثي.). ص8

بضوء ما اشرنا له سابقا الغرباوي في مفارقة منهجية لا تقاطع هدفه التحديثي النهضوي، يعتمد المنهج الفلسفي البنيوي واحيانا التفكيكي في مراجعته النقدية الصارمة للنص بغية تصحيح اخطاء الفكر الديني واعاقاته الحضارية، وقراءته قراءة جديدة معاصرة كنص تاريخي وليس نصا فلسفيا لغويا مجردا، ولا يستحضرالغرباوي امامه كشف وتصحيح ونقد مسارات ومباحث الفلسفة المعاصرة في محاكمتها النص تجريدا (لغويا)، فالفلسفة وقضاياها لا تشكل عند الباحث العربي التاريخي اولوية بحثية قبل اولوية وتراتيبية هدفه المنشود في نقده الفكرالتراثي بضمنه الديني كتاريخ وتجارب واقعية، وكمعرفة واساليب حياة متجذرة مجتمعيا فقط، التي أخرجت عدم الاهتمام الغربي بها منذ استبعاد الميتافيزيقا عن مباحث الفلسفة المعاصرة في القرن السابع عشر. باختصار شديد جدا لا يصبح المنهج او الاسلوب الفلسفي غاية في ذاته لدى الغرباوي الذي لم يستغن عن الفلسفة كمنهج بحثي في نقده نص الفكر الديني، واصلاح يقينياته الزائفة المهيمنة والمكبلة لكل مناحي حياتنا ومنعها من التقدم الى امام بفارق جوهري مهم انه لم يطوّع حقائق الفكر الديني لمنطق الفلسفة.

من اهمية المشار له سريعا ان الغرباوي الذي وجد الفلسفة المعاصرة اليوم تقوم على محورية واولية دراسة النص (لغويا) تجريديا، من غير موضوع او محتوى متعّين واقعيا يفرض حضوره واهمية معالجته فلسفيا لا سرديا فكريا، نجد الغرباوي لجأ قسرا مضطرا بحكم واقعية النص الديني التاريخية التقديسية، الواجب مراجعته في تغليب اولوية مراجعته النص الفكري الديني ونقده تاريخيا في مضامينه كاحداث واقعية تاريخية حدثت وشكلت موروثنا الحضاري او جزءا مهما منه اختلط فيه الديني والسياسي والمجتمعي.اي انه لم تستهوي الغرباوي تفريغ مبحثه الفكري الديني تاريخيا فلسفة محورية اللغة الغربية المعاصرة.

ما فعله الغرباوي في مؤلفه بخلاف غيره، وحضور هدف التحديث المجتمعي امامه، وجد ان مناهج الفلسفة المعاصرة التي يقوم مرتكزها على معطيات واهتمامات هي غيرها عندنا، فاستبعد الفشل الذي كان ينتظره لو انه اعتمد منهج التجريد الفلسفي القائم على مركزية محاكمة النص لغويا التي اوقعت العديد من المفكرين العرب في حبائل المنهج الفلسفي الذي يدور حول المشكلة ولا يقترب من تصحيحها او حلّها، وعلى حساب اضاعة الموضوع، كي لا يتهموا بالكلاسيكية التنظيرية فابتلع جهودهم الفكري الافتتان بمناهج الفلسفة تاركين معالجة المواضيع والاشكاليات التاريخية في تراكمها الاعاقي تضيع خلف ظهورهم في ركضهم التمّكن من التفلسف المعرفي غاية بذاتها وليست اداة معرفية لتغييرمشاكل الحياة العربية، اذ ان هذا النوع من الآلية الفلسفية القائمة على تحليل وتفكيك النص لغويا، كان ممكن ان يسقط جهد الغرباوي النقدي التاريخي ويضيّعه في حال استهواه المنهج الفلسفي قبل هدف نقد النص موضوعيا وتاريخيا للخروج بنص متجدد يخدم غرضه البحثي، ولوقع كما اشرنا في فخ مباحث الفلسفة التي تتعامل بتجريد لغوي وليس مع وقائع تاريخية تفرض معالجتها كنصوص يحكمها التاريخ والجغرافيا والزمان والمكان، ويستشهد الغرباوي بشخوصها ودورهم في صناعة وكتابة التاريخ التديني الاسلامي الصالح او الطالح، وهذه جميعها لا تشكل اليوم اهتماما فلسفيا وبخاصة دراسة النص الديني والكشف عن تخلفاته وانحرافاته القاتلة بضوء مدارس التفلسف الغربية. من الملاحظ في دراسة اشكالية التراث العربي الاسلامي مع المعاصرة والحداثة ان غالبية المفكرين العرب الاسلاميين يبتعدون نهائيا عن تدعيمهم الافكار التنظيرية الفكرية باستشهادات يستحضرها الغرباوي من بطون التاريخ بشخوصها المتنغذة ويضعها بكل جرأة وشجاعة امام محاكمة النص الحداثي وكشف حقيقته كما هي تاريخيا وليس كما تلقيناها تلقينيا كمسلمات يقينية لا تحمل ادنى درجات المناقشة.

هذه المباحث الفلسفية الغربية التي يضيع فيها الموضوع في الركض وراء المنهج الفلسفي الشكلاني حتى المدارس والتيارات الفلسفية الغربية المعاصرة بدأت التململ للخلاص من شراك اللغة التي اصطادت مباحث الفلسفة وادخلت الفلسفة في نفق التجريد اللغوي العدمي والضياع الذي يستطيع قول كل شيء ولكنه لا يعطيك نتيجة اي شيء. لان الاسلوب او المنهج لا يحدد لك ولا يعطيك موضوع البحث، وانما العكس هو الصحيح فالموضوع هو الذي يحدد لك اسلوب وطريقة معالجته. في النقد التاريخي الوثائقي الواقعي لا يستطيع الباحث الدوران في فلك التجريد في اضاعته الموضوع، في وقت يتسنى مثل هذه المراوغة المخاتلة في الدوران التجريدي في المنهج الفلسفي الذي يهتم بالاسلوب في الصيغة اللغوية الشكلانية في محاولة معالجته امورا لا علاقة لها بالتاريخ ولا تجد من يسأل الباحث ماذا حقق من جديد في تغيير القناعات الفكرية قبل تغيير واقع الحال.

واذا كان الغرباوي يلتقي الفلسفة انه بحسب قوله (يسعى وراء اختراق الممنوع واللامفكر به، اذ جميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة وترشيد الوعي ضمن مشاريع هادفة فاعلة) ص9. من هنا جاء انشداد الغرباوي كما ذكرنا الى محاكمة النص الفكري الديني الاسلامي تحديدا بمنهج تاريخي محدد الهدف واسلوب واقعي مباشر في المعالجة وفي جرأة استقدامه شخوص اسلامية تاريخية لعبت دورا مصيريا في صناعتها تاريخا عربيا اسلاميا منحرفا و مفاهيم خاطئة كانت ادوات تنفيذها شهوة الحكم وتسمية اشخاصها وتحميلهم مسؤولية الانحرافات التي عمقت الفجوة المذهبية الاختلافية التي وصلت ومنذ العصر الراشدي الى حدود التكفير وشن الحروب والاقتتال والدسائس في الدين الواحد. هذه الانحرافات الخطيرة والتي كانت سابقا تسيّجها اسلاك شائكة من الاضاليل السياسية الباطلة، أو خطوط حمراء في دواخلها ونواياها تحريم وتجريم يصل الى حد التكفير والزندقة. تناولها الغرباوي ووضعها تحت حكمة ومنهج القراءة العقلانية الجديدة، بغية الوصول الى قناعات يقينية لوقائع تاريخية تحمل حراكها التضليلي، وتشكل موروثا فاعلا في صنع العقل المستقيل والمغّيب عن فهمه واقعية الامور وحقائقها المطمورة تحت تراكم تداول المخطوء المكتسب قدسيته الزائفة المستمدة من لا اصالته المغيّبة قسرا وحسب، بل من معالجة تراكماته التي ضاع معها الكثير من الحقيقة والاصالة التي لا غنى لنا عنها الا في احيائها ان تاخذ دورها الحقيقي في بناء نهضة عربية اسلامية حضارية معاصرة.

5- اشار الغرباوي في لمحة سريعة للفيلسوف محمد عابد الجابري، انحيازه، للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه نقد العقل العربي، مما اضطر جورج طرابيشي – والكلام للغرباوي –تاليف كتاب(نقد نقد العقل العربي) او (رهان مشاريع انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة في مجتمع يستأثرالتراث بمعظم مرجعياته العقيدية والثقافية، بل وحتى السياسية في رهانات خاسرة). مقدمة كتاب الغرباوي.

لا اريد مناقشة الاستاذ الغرباوي، رأيه في الجابري، التي عالجها بذكاء ليس ادانته الجابري في تكملة عبارته رفض (انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة ) وهو مانجده اهتماما محوريا في فلسفة وفكر الجابري.

الجابري عنده العقل العربي الاسلامي في المغرب هو امتداد النزعة العقلية التي اخذها بن رشد عن ابن سينا والفارابي والكندي والمعتزلة، وارساها في المغرب العربي كعقل نقدي انصار بن رشد في الاندلس والمغرب من الذين جاؤوا بعده مثل ابن ماجة وابن طفيل، الذين اعتمدتهم اوربا دعاة العقل في الحضارة العربية الاسلامية. واتهم الجابري في انحيازه البحثي هذا ابو حامد الغزالي في مناوئته لابن رشد في الدعوة الى الصوفية وفي كتابه تهافت الفلاسفة التي ناصره به الاشعرية ضد المعتزلة، في معاداتهم العقل الايماني، بدلا عن الايمان الصوفي المعتمد وجدانية القلب قبل العقل. كما ان الجابري برر اتخاذه مثل هذا الموقف الموضوعي المناويء، ان الغزالي لم يفت (يفتي) في الجهاد ابان الحروب الصليبية، وقد اتخذ جورج طرابيشي موقفه المضاد لما ذهب اليه الجابري في منحى لا يخلو من تأليب مبطن ضد عقلانية المغرب العربي القريب من اوربا بما ساوضحه لا حقا.

لا اعتقد جازما ان الجابري اراد تحميل عطالة نهضة التاريخ العربي الحضاري ومنع امتداده التقدمي على عاتق فلاسفة اهل المشرق العربي وتقصيرهم انهم ورثة التاريخ الصوفي في الدين وقضايا الحياة العربية الاسلامية، ناعتا اياهم انهم كانوا بلا (عقل) حضاري وبغداد ملأت الدنيا وشغلت الناس ومثلها حاضرة البصرة والكوفة وسامراء. الجابري مفكر وفيلسوف نهضة عربية اسلامية عاشها في ضميره وحملها في فكره وقلبه، تعتمد قواها الذاتية ومخزونها من التراث الحضاري، اما جورج طرابيشي فهو ناقد ادبي متشفّي في مراوحة العرب المسلمين في اماكنهم التاريخية المتخلفة، ولم تستطع جعجعة طرابيشي في (نقد النقد) الذي استهدف الجابري ومشروعه من تقديم ادنى اسهام حقيقي بديل يساعد الامة على نهوضها الحضاري، ومتابعاته النقدية حملت الكثير جدا من التجّني التيئيسي ليس في محاولته الاجهاز على مشروع الجابري النهضوي، وانما تشفّيه وهو مقيم مخضرم بباريس على تضييع العرب مراحل تاريخية زمنية في تأخير نهضتهم المنشودة وتخبطهم في تاريخ من الضلال الذي يقوده المهيمن الفكري الديني الاسلامي بكل تسمياته ومذاهبه ومخرجاته. وهو ما ساوضحه اكثر لا حقا على قدر اهميته.

التمس العذر من المفكر الغرباوي ارجائي عدم التركيز عرض بعض افكاره في كتابه تفصيلا فهو خارج اهتماماتي في الكتابة الدينية ومباحث الاجتهاد الفقهي لها، قبل مغادرتي هذا التوضيح الاشكالي الذي اراده طرابيشي في محاولة النيل من الجابري كمفكر و من الجابري كصاحب مشروع نهضوي عربي، لا ضير في مناقشته وفي اعطاء البديل لما ذهب الجابري له في مؤلفاته اذا وجدنا فيه تقصيرا او ضلالة، استطيع القول ان قراءة طرابيشي للجابري ليست بريئة لا في شرح حمولة النص الفكري الديني الاسلامي، ولا في مغالطاته التاريخية الفلسفية والمعرفية التي الصقها بالجابري.كما اهمل طرابيشي دراسة النص الجابري في تشخيص الخطأ فيه وتقديم البديل ان كان يتمكن منه، اراد طرابيشي اغتيال التفكير الجابري وحلمه بمشروع عربي نهضوي يكون الاسلام فيه فاعلا داخل منظومة عربية حداثية، يمكن للعرب تحقيقها، الجابري نقد الفكر الديني من خلال نقده العقل العربي عامة، وهو بهذا يقاطع اركون في اقتصاره على نقد الفكر الاسلامي، وتناول الجابري نقد العقل العربي من خلال انضواء الدين كمكّون اساس داخل المنظومة العقلية الحضارية العربية الاسلامية الذي يبدو طرابيشي يرغب استئصال مبحث الاسلام منها حتى من دلالتها كعنوان يهم امة عربية اسلامية. كما تناول الجابري كل مفردات الحضارة العربية الاسلامية وتكوينها ومكوناتها، وليس الدين وحده بمسؤولية تاريخية حضارية لم تقفز فوق الواقع ولا في منهجه النقدي المتزن، بينما بقي طرابيشي ينبش التاريخ الاسلامي بحثا عن كل مواطن الاعاقة والانحراف والتخلف فيه، بصيغة الدفاع عنه وتبيان عجز الجابري صياغة مشروعه العربي النهضوي، ما اضطر الجابري اصدار كتابين له (نحن والتراث) والاخر عن (القران) قبل وفاته، معتبرا وبتاكيد سليم ان الدين الاسلامي في جوهره واصالته وقيمه ليس من السهل ابدا على احد شطبه من تكوين وجود العرب كأمة من تاريخهم الحضاري ماضيا ولا حاضرا او مستقبلا باسم انه يتقاطع مع علمانية الدولة المعاصرة العربية الاسلامية الحديثة المنشودة المرغوب بها في ابتداء سلوك طريق نهضة جديدة للامة، تبدأ من رفض الفكر الديني لا في اصلاحه.

يتبع في القسم الثاني

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

النص من نتاج مُبدعه، إن كان مُبدعه بشر مثلنا أو ما أوحى به المُبدع الأول لرُسله وأنبيائه، وسؤال الحقيقة هو سؤال الفلسفة في سعيها للبحث عن الحقيقة الضامرة خلف الوجود، أو في ميتا النص القُدسي، بل وحتى ميتا النص الابداعي للبشر.

في كتاب ماجد الغرباوي "النص وسؤال الحقيقة" جرأة قلَ نظيرها في البحث عن (المسكوت عنه) في تراثنا الإسلامي وتماهينا مع تفسيراته (الدوغمائية) وكأنها سُبل النجاة وسفينتها.

لا أدري لماذا يُحيلني الغرباوي في كتاباته ومنها كتابه هذا إلى تذكر كتابات (نصر حامد أبو زيد) لا سيما في كتابه (النص، السلطة، الحقيقة)، لربما لأنهما يشتركان في ذات الهم، ففي كتاب (أبو زيد) إشتغال على نقد القراءة الأيديولوجية (العقائدية) للتراث، وذات الهم في كتابات الغرباوي، وفي كتاب (أبو زيد) نزوع نحو تبني النزعة التاريخية، وكما عرفها أبو زيد أنها "تعني الحدوث في الزمن، حتى لو كان هذا الزمن هو لحظة إفتتاح الزمن وابتدائه، إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المُطلق المُتعالي ـ الوجود الإلهي ـ والوجود المشروط الزماني، وإذا كان الفعل الإلهي الأول ـ فعل إيجاد العالم ـ هو افتتاح الزمان فإن كل الأفعال التي تلت هذا الفعل الافتتاحي تظل أفعالاً تاريخية، بحكم أنها تحققت في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية "مُحدث" بمعنى أنه حدث في لحظة من لحظات التاريخ"1 .

اشتغل الغرباوي على النص ومُشكلات السياق، وكذا الحال مع (أبو زيد)، فقد حاول الغرباوي الكشف عن الدال في النص الذي ظل يُستخدم في حقله الدلالي واللغوي الأصلي و"التاريخاني" بعبارة عبدالله العروي من دون المساس به، وكأنه نص لا يقبل التأويل، أو من غير المسموح لنا تأويله!.

شارك الغرباوي علي حرب في تمييزه بين النص والخطاب، فالنص بحسب علي حرب "لا يحمل دلالته في ذاته دلالة جاهزة ونهائية، بل هو فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ولذا، فهو لا ينفصل عن قارئه" (ص9، نقد الحقيقة).

"النص ـ بعبارة علي حرب ـ ينص على المعنى الجوهري الأصلي" (ص24، نقد الحقيقة)، و"الخطاب حجاب" (علي حرب: نقد النص، ص8) لأن "الخطاب يُمارس بطبيعته حجباً للواقع" (نقد النص، ص13)

كتب الغرباوي في نقد مرجعيات الفكر الديني في مُحاولة منه للعب على (المسكوت عنه) وكأنه لاعب سيرك يمشي على حبل شبيه بالأعراف، ألا وهو الخيط الرفيع الذي يمشي عليه بعض السالكين بين الجنة والنار، فم يُتقن منهم اللعب سيعبر ليكون من أهل الجنة.

مثل ماجد سينجو ونحن القراء الفقراء (المُشاهدين) نلحظ مهارته وقلوبنا تدق وكل منا يُخاطب نفسه بالقول: إنه سيقع، وحينما ينتهي العرض نجد أن الغرباوي سار على الحبل ولم يقع.

ربما يُنتقد وتلك من ميزات الكتابة المُميزة إن كان صاحبها مُتمكن من أدواته، ولا أظن أن هُناك من يختلف معي من الذين قرأوا كتابات الغرباوي فيقول غير ما أقول في أن الغرباوي ماهر في نقده وغوصه في مرجعيات الفكر الديني التي هي في الأصل مرجعياته.

يبحث الغرباوي في مقاصد الدين وغاياته، وينتقد توظيفه الرجعي (الآثم) وما يعيشه دعاة هذا التوظيف من العيش فيما أسماه الغرباوي "أوهام الحقيقة".

رغم أن الغرباوي يعترف بـ "أن لكل نص سلطته" إلَا أننا نجده مُتمرداً لا يرتكن لسلطة نصية بقدر ما يرتكن لسلطة العقل.

عودته للنص بوصفه نتاج معرفي يستمد منه رؤيته لفهم جديد يُقوض الفهم القديم أو السائد، لذا نجده لا يهمل النص حينما يؤسس الآخرون لهم سلطة يدعون أنها من أصل من أصول وجود النص.

لم يكن الغرباوي سوى قارئ للنص أو مُتلق يعي ما يقرأ، فضلاً عن وعيه بحيثيات نشوء النص وشروحه وهوامشه، لذا نجده يكتب في نقد النص بوصفه مُتلق واع يعرف أن قيمة النص تزداد أو تنقص بمقدار ثقافة ووعي قارئه.

إن كل فهم إرتكاسي أو نكوصي للنص إنما هو نابع من ثقافة القارئ (المُتلقي) وبيئته، وكذا الحال مع القارئ المُتلقي (التقدمي) وهنا نقصد بهذا المفهوم هو مقدار ما يمتلك القارئ من شغف في القراءة وقبول التنوع والإختلاف الفكري والعقائدي بوصفه إضافة معرفية لما تختزنه الأنا.

يُميز الغرباوي بين النص والخطاب، فالنص عنده "مُغلق على منطوقه مهما بلغ من ثراء في مداليله".

"وأما الخطاب، فمُتحرر نسبياً بما تقتضيه تقنيته، لكنه مُغلق حول رسالته، لا يُمكنه التلاعب بها، بل تقتصر مهمته على إقناع المُتلقي وترسيخ إيمانه".

وهنا نجد أن الغرباوي يرى أن مهمة الخطاب هي مهمة رسالية أو عقائدية، بل وحتى أيديولوجية، وينبغي لمن يؤمن رسالية الفكرة تصديرها والدفاع عنها لا نقدها وتحليلها.

أما النص فهو كما صرح بذلك من قبل أستاذنا حُسام الدين الآلوسي أنه نص (استاتيكي) وكل ما فيه من حيوية و "ديناميكية" إنما تأتيه من القارئ أو المُتلقي، فإن كان ذلك القارئ ذا ميول "دوغمائي" ستجد أن النص مُقفل لا مساحة فيه ولا قبول لكل مُختف أو مُغاير، ولكن إن كان القارئ (المُتلقي) يعيش في مُجتمع مدني ويمتلك ثقافة فيها قبول للآخر فستجد يفك إنغلاقية النص ليجعله ناطقاً بالمحبة والمودة والدعوة للتسامح والتعارف.

لا يدعو الغرباوي لنقد النص لأنه يرى أن النص القدسي عصي على النقد، ولكنه يدعو للكشف عن ثراء المعنى الظاهر للنص أو الكامن فيه.

حاول الغرباوي في كتابه هذا الدفاع عن حرية المُعتقد، ونقد الفهم الفقهي القاصر للنص.

يرى الغرباوي أن سبب ما نعيش فيه من بؤس وتخلف ثقافي وفكري إنما هو نابع من "إمعان المذاهب الإسلامية في تشويه معالم الدين".

إن الدين برأيه له حقيقة واحدة، ولكن سُبل الوصول لها تتعدد بعدد أنفاس الخلائق كما يقول ابن عربي.

لا يختلف الخطاب الديني عن الخطاب الطائفي أو المذهبي، لأن في طبيعة التكوين فيهما نفي واقصاء للآخر، والخطاب الديني ليس الدين، بل هو فهم الدين كما يرى (عبدالكريم سروش).

74 majed600

في باب الكتاب الثاني (النص والحقيقة) أحالني الغرباوي لكتابات علي حرب "نقد النص" و"نقد الحقيقة" ولا أدعي تطابقهما بقدر ما أرى تناغمها وإنسجامهما في تبني لازمة أثيرة في سمفونية النقد للنص والإنشغال في "سؤال الحقيقة".

فالغرباي يرى في الخطاب نزوع نحو تبني موقف عقائدي أو أيديولوجي ما والدفاع عنه والترويج له، فالخطاب فيه استحضار وتغييب، والنص أداة بيد من يرم استحضار أو تغييب.

يبحث الغرباوي في نص القرآن عن آيات بينات تدعونا للتعقل وتبني الإيمان وفق منطق عقلي برهاني، والجميل البهي في كتابه هذا أنه لم ينشغل بأقوال الصوفية والعُرفاء وصيغ كتاباتهم الإنشائية بقدر ما كان مُنشغلاً باثبات عقلانية النص الديني، أو ما قال عنه بأن "القرآن يطمح لإيمان برهاني"، ولا تقدير عندي لمقصده لأنني أعرف أن خطاب القرآن فيه مقبولية لمن آمن على الفطرة أو آمن وفق مُقتضيات الخطاب الجدلي، وهناك بعض من البشر خصهم القرآن بقولة "الراسخون في العلم" وربما يكون هؤلاء هم الفقهاء، أو ربما يكون الصوفية وبلحاظ الآية "وإدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" ومن يدعو لسبيل ربه بالحكمة هم الفلاسفة، وربما يكونوا هم من قصدهم النص.

"الناقد هو الوحيد القادر على تحدي النص في مراوغته"، والمراوغة يعني بها الغرباوي "مراواغات الخطاب الديني" و "تزوير الوعي".

الإيمان خطاب عاطفي بحسب ما يرى الغرباوي، ومهمة "القراءة التأويلية" هي الحفر في "اللامُفكر فيه" ونقد ما أسماه الغرباوي "قبليات الوعي التراثي" وتجاوز تداعيات "المُهيمن الرمزي" الذي ظل عقلنا يستكين لمعطياته، وأظن أن في رؤيته هذه توظيف لمفهوم (بورديو) (الرأس مال الرمزي)، أو الإفادة من توظيف أركون لمقولات (بورديو).

"إن أزمتنا الحضارية أزمة عقل أولاً، فنحتاج لتفكيكه واعادة تشكيله وفق مبادئ ومناهج مُنتجة للمعرفة والقيم الحضارية".

كان جرأة الغرباوي في تفكيكه وتحليله وهو الخبير بمُضمرات النص وتفسيراته الفقهية تتجاوز في جراءتها بعض من أطروحات المُناهضين لسلطة النص والقبول بنزعته التسليمية.

في كتاب الغرباوي هذا كشف وتعرية للخطاب بوصفه "وعي زائف" بعبارة الماركسيين، ليحفر في (المسكوت عنه) في النص بوصفه (بنية معرفية) همهما نقد الوعي السائد للانتصار للوعي العقلاني المُضمر الذي لا تروم تفاسير المُفسرين الكشف عنه، ولا فقهاء الأزمان المُتعاقبة يرغبون بذلك.

من ميزات نتاج الغرباوي (العقلنة)، ونقصد بالعقلنة هنا هي محاولة الغرباوي مُقاربة النص مع الواقع، أو (التفسير الواقعي للنص) للخلاص من يقينيات التفسير الفقهي للنص.

سؤال الحقيقة هو سؤال الفلسفة التاريخي، ولكن هل تمت الإجابة عنه؟، بالتأكيد ستكون إجابتنا (كلا)، لأن في حال وجود إجابة يقتنع بها البعض سيتحول سؤال الحقيقة من كونه سؤال معرفي ليصير جواب لتفسير نزوع أيديولوجي، وذلك ما يبغيه الغرباوي.

كان جُل هم الغرباوي في كتابه هذا هو مُلاحقة سؤال الحقيقة وتشريح استفهاماته، كي لا تضيع في راكد القول، بقدر ما يُصيره أسئلة أخرى تستفز العقل النقدي وتفضح مراواغات النص.

رغم أن الغرباوي يرتكن بكتابه هذا لدحض الحجة بالحجة العقليق، وهو كتب في في تعلم طُرق (الحجاج)، إلَا أنه يرغب بأن يكون قوله شبيه برمية هدَاف في مرمى الخصم.

الخصم عنده ليس هو الحكم، لأنه يُفكك مقولات الفكر الديني بوصفه حكماً لاخصماً، فهو من نمت معرفته داخل فضاء هذا الفكر، ولا زال يعشقه ويرغب بالانتماء له، وإن صنفه من لا يفقه بأنه خارج عن النسق الموروث في تبني المُعتقد والدفاع عن مذهب.

ميزة الغرباوي أنه لا يخشى نقد ما سُميَ بـ "الخطوط الحمراء"، فهو يشتغل في الكشف والتعرية لخطاباتها لا لأنه يروم الكشف عن زيفها الضامر في أقوال وكتابات أصحابها، بل لأنه مُحب للحكمة، لذلك نجده يهيم في نقد الوعي (اللاتاريخي) السائد في فهم المُقدس سعياً منه لتصحيح مسار (المعرفة الدينية) وتجاوز أسطرته في المخيال (الشعبوي) والتغني بـ (اللامعقول الديني) لجعله مُنساباً ومُتسقاً مع الفهم (التاريخي) للنص في زمانيته ومكانيته.

لم يكن كما ظن بعض مُنتقدي الغرباوي أنه يبغي التقليل من قيمة المُقدس والديني في الإسلام (السُني أو الشيعي) اللذن نالا حظهما من نقد (الغلو) في دفاعهما الأعمى عن مُتبنيات يرتكنون إليه من دون دليل عقلي.

في كتابات الغرباوي جرأة المُفكر والكاتب الحُر الناقد للتمذهب بكل توجهاته المؤسطرة والمؤطرة، إسلامية كانت أم دينية مُغايرة، لأنه يرى أن جُلَ من يدَعون التدين لا يهمهم دين الله بقدر ما تهمهم مذاهبهم.

ما يخلص له الغرباوي في كتابه (النص وسؤال الحقيقة) هو أن كُل مُتبنيات التفسير الفقهي للدين إنما هي من مُتبنيات الفُقهاء، فلم يكن مُحمداً سوى بشر (وما أنا إلَا بشر مثلكم)، فكفى بنا فقداً لأنسنتنا ورمي أنفسنا ببراثن الجهل والأسطرة، ولنكف ولو قليلاً عن خُرافاتنا وإمعاننا في تجهيل من لا يعرف مضامين (النَص).

لينتهي بنا أن سؤال الحقيقة محاولة للتنشيط الفكر لا الاتيان بأجوبة جاهزة (مُعلبة)، وسيبق سؤال الحقيقة من مرامي من ينحو نحو الفلسفة، ولكن هذا لا يعني أن من ينحو نحو الإيمان أن يتخلى عن مساعي (النَص) في التماهي مع العقل وموافقته، وإن كان الإيمان أمراً شخصياً، فلا يعني ذلك تخلي العقل النقدي عن سعيه في كشف وتعرية المقول التسليمي المؤسطر (الخارج نصي) كما يفهمه دُعاة العقيدة من الذين لايقبلون سوى بتقبل النقل كما يراه من وثقوا به من أصحاب الدراية والرواية.

إنه استقالة العقل التي لا تنسجم وسؤال الحقيقة الذي يرنو للكشف عن زيف الخطاب ومراوغته في تجميل القول لخداع الآخرين من الذين لا يفقهون البنية اللغوية والحجاجية، بل وحتى البرهانية للنَص.    

 

 - الكتاب: النص وسؤال الحقيقة .. نقد مرجعيات التفكير الديني

- تأليف: ماجد الغرباوي

- 304 صفحات، حجم كبير

- الطبعة الأولى: 2018م

- إصدار مؤسسة المثقف – استراليا، ودار أمل الجديدة – سوريا

 

ا. د. علي المرهج – استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية

.......................

1ـ نصر حامد أبو زيد: النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1995، ص71.

 

تعيش المجتمعات العربية والاسلامية المعاصرة حالة من الجمود والتخلف والركود الفكري والعلمي والمعرفي، الا ما ندر من صيحات حداثوية بسيطة هنا وهناك، واذا وجدنا بعضاً من مجتمعاتنا تمارس الحداثة في مجالات الحياة اليومية والبيت والمؤسسة فان ذلك لا يتعدى تلك الحدود ولا يمس العقل والتفكير بشيء، فتفكيرنا تقليدي بامتياز وعقولنا لا تتجرأ على طرح الأسئلة والنقد والتفكيك، لوجود موانع وتابوات تعيق التفكير وتحرمه، فأغلبنا يغادر التفكير الفاعل ويعيش التفكير المنفعل، نسلك طرق ببغاوية في طريقة تفكيرنا ونقلد الآباء والأجداد في ذلك الطريق.

لقد استطاعت المجتمعات الأوربية والغربية الحديثة الخروج من نفق الظلام والجمود والركود من خلال تغيير نمط التفكير السائد في مجتمعاتها، مما ساعدها على دخول عالم الحداثة والتجديد بشكل منتظم وسليم، أي ممارسة الحداثة والتحديث في نفس الوقت، على مستوى الفرد والمجتمع، مما جعل عملية الاصلاح والتغيير تمارس يومياً كسلوك فردي وجماعي يضمن النجاح للجميع، سواء في المؤسسة السياسية أو الاجتماعية أو التربوية والتعليمية أو الدينية، وهذا ما جعل لحظة الحداثة الغربية لحظة واقعية معاشة لا مجرد صيحات وشعارات فارغة يرفعها دعاتها بصورة فردية هنا وهناك. ولذلك كانت ثورة الاصلاح والتغيير في الغرب منذ قرون ثورة اصلاحية عامة شملت جميع المجالات الفكرية والحياتية والمؤسساتية والدينية والمعرفية، ثورة أقترنت بالنقد والتقويم والتفكيك، وهذا ما أدى الى نجاح تلك المجتمعات عملياً ورقيها وتقدمها في مجالات عدة بخلاف مجتمعاتنا العربية والاسلامية التي ترزح تحت أقدام الظلم والتعصب والكراهية والتخلف والجهل، مجتمعات لا تريد مغادرة تلك الأزمنة المتعفنة، وما يشجع على ذلك هو هيمنة السلطة السياسية من جانب والسلطة الدينية من جانب آخر، وبتزاوجهما وسطوتهما معاً على الفرد والمجتمع يحصل ما لا يحمد عقباه على أرض الواقع، وهذا ما لاحظناه على مر التاريخ البشري لكثير من المجتمعات، في حين أن العالم الغربي اليوم يسير بمنأى عن ذلك التفكير وتلك الهيمنة بنسبة ما تختلف عن طبيعة مجتمعاتنا المتشنجة، وهذا ما تكفله الحرية والتعبير عن الأفكار والآراء بصورة نقدية حرة لا تخضع لسلطة القمع والاستبداد والقتل والتعذيب.

74 majed600

ومن خلال تلك الأجواء الحداثوية والغربية الحرة نجد دعوات فكرية نقدية وثورية واصلاحية حرة ومتحررة تصدر من عقول مفكرين ومثقفين وكتاب عرب ومسلمين تنفسوا وعاشوا الحداثة بشكل يومي في الغرب، على مستوى البيت والمجتمع والمؤسسة والحياة والتفكير، وعلى أساس ذلك يحاولون نقل تلك الأجواء والأصداء الحرة الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، من خلال طرح مشاريع فكرية وثقافية تجديدية تحاكي الغرب وطريقته في التفكير والسلوك والنقد والثورة، ومن هذه الشخصيات والاسماء الفكرية المجددة يبرز المفكر والمثقف التنويري ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف العربي في أستراليا، وهو مفكر اسلامي تجديدي اصلاحي يبرز على الساحة الثقافية العربية والاسلامية اليوم، وذلك من خلال مشاريعه الفكرية الجديدة وطروحاته الفكرية المتنورة وكتاباته النقدية الجريئة، التي تحاول تفكيك التراث ونقده بآليات عقلية وفكرية حداثوية أقتبسها من محيطه وبيئته التي يعيشها في الغرب اليوم، وما كان للغرباوي أن يمارس النقد والتفكيك والتحليل والدعوة للإصلاح والتغيير لولا أجواء الحرية والحداثة والتغيير التي يتنفسها يومياً وهو في أرض الغربة، غربة عن وطنه وأرضه وأهله ومحبيه، ولكنه أستطاع بفكره ونقده وصبره تحويل تلك الغربة الى وطن، وتحويل هذا الوطن الى مؤسسة حرة وحيوية فاعلة يستظل فيها جمع من الكتاب والمثقفين والمفكرين التنويريين الذين يؤمنون بقيمة النقد ونقد النقد، والايمان بالآخر كقيمة الايمان بالانا والذات، وهذا ما أستطاع الغرباوي العمل عليه وتكريسه في مشروعه الفكري التنويري من خلال مؤسسة المثقف العربي الرائدة، التي استطاع من خلالها الغرباوي نشر طروحاته الفكرية من جانب، وتسويق فكره وكتاباته من جانب، وتأثيره على الكتاب والمثقفين من جانب آخر، وهذا ما يحسب له بصورة واضحة جداً، اذ كان بحق مؤسسة في رجل، واستطاع تجسيد تلك المؤسسة والافكار والنشاطات في سلوكه اليومي والثقافي ويشهد على ذلك الكثير، هذا من جانب غربة الوطن والمكان الذي أستطاع كسره وتجاوزه وتشييده لوطن يليق به ويعشقه، أما من حيث غربة الزمان والتاريخ، فأن الغرباوي لم يحاول الهروب من تاريخه وتراثه العربي والاسلامي والتمسك بتاريخ غربي جديد يريد تقليده وتمجيده، ولكن تاريخه ظل يرافقه طوال حياته منذ اللحظة الأولى لتشكيل وعيه وثقافته الى يومه هذا، ولكنه والحق يقال والذي يتضح من خلال سلسلة طروحاته وكتاباته الفكرية أنه نظر لذلك التاريخ والتراث بعين ثانية غير التي كان ينظر بها اليه وهو يعيش في البلاد العربية والاسلامية، فالفرد منا حين يفكر ويكتب يكون أسير المكان والزمان الذي يعيش فيه ولا يستطيع تجاوزه والقفز عليه بجرأة وجدية.

لقد استفاد الغرباوي من الأجواء الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها في مجتمعه الغربي وحاول الاستفادة من تلك الأجواء للتفكير بهدوء في نقد المنظومة الفكرية والدينية الاسلامية ومحاولة تهذيب وتشذيب الكثير من الافكار والآراء التي علقت في فهم تراثنا، ونزع القداسة مما لا يستحق التقديس، وكشف الأقنعة والزيف المحيطة بكثير من النصوص والمعتقدات، وتعرية الخطاب الديني والسياسي، وبيان مدى التشابك الحاصل بين الأثنين لعقد الصلة بينهما لتحقيق المزيد من الهيمنة والتسلط، وتحقيق عوائد وأرباح طائلة من تصالح السلطتين معاً، وهذا ما أدى الى وجود دكتاتوريات فكرية وثقافية ودينية لا تقل عن الدكتاتوريات السياسية الحاكمة، بل للأولى قصب السبق في تأييد ودعم دكتاتورية الحكام والاحزاب والسلطات الحاكمة، من خلال تقديم سند ديني وشرعي لاستبداد الحاكم والسلطة السياسية المهيمنة، وقد لعب وعاظ السلاطين دورهم الكبير على مر التاريخ لتحقيق ذلك الهدف المقيت.

لقد عمل الغرباوي في العقود الأخيرة من فكره وحياته على زيادة مستوى النقد والثورة على الخطاب الديني والسياسي المهيمن على الساحة الاسلامية، وذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة في هذا المجال، ونذكر منها على سبيل المثال : (اخفاقات الوعي الديني) و (الضد النوعي للاستبداد) و (جدلية السياسة والوعي) و(مدارات عقائدية ساخنة) وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني)، وغيرها من الكتابات، وفي هذه الكتب والحوارات نجد الحضور الكبير للمشروع النقدي للغرباوي، والذي يفكك فيه الكثير من قضايا التاريخ والتراث والدين والسياسة والأيديولوجيا والمعرفة، ويكشف عن مستوى التحريف والتزييف في مستوى الوعي الديني للجماهير، من خلال سلطة الفقهاء وزيف التراث، والمنهج اللاعلمي السائد في سرد الروايات والنصوص وفي معالجة الافكار. وهناك وعي جديد ومتقدم في كتابات الغرباوي الأخيرة تختلف عن وعيه السابق في كتاباته الأولى، وهذا ما يلاحظ على فكره وكتاباته المتأخرة. 

وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة) لا يختلف الغرباوي عن سابق مؤلفاته ومنهجه وطروحاته، بل جاء الكتاب ليكمل مسيرته ومساره في عملية النقد والتفكيك الجريء الذي مارسه على نصوص وقضايا تراثنا الاسلامي، ويعمل الغرباوي على معاملة التراث الاسلامي عامة (بشقيه السني والشيعي) معاملة واحدة، بل تجده يُشرّح الفكر الشيعي قبل تشريحه للفكر السني، كي لا يؤخذ عليه أي نظرة للتعصب أو للنيل من تاريخ وتراث غيره، بل ويعمل على كشف عورات التراث الشيعي بقوة، ويعري الخرافات والأسطرة الموجودة في تراثه وتاريخه المشحون بالكثير من العثرات والمثالب.

يهدف الغرباوي في كتابه هذا الى وضع خط فاصل بين ما لله من (دين) وما للبشر من (فكر ديني)، وتحقيق الفصل بين الأثنين ولا يجوز الخلط بينهما وتشويه الأثنين معاً بأن نعطي ما لله للبشر، وما للبشر لله، وهذا ما أدى الى تشويه النصوص والافكار والتاريخ والتراث، وتم منح القدسية للكثير من الأفكار ورجال السياسة والدين مما وصل الامر الى حد الالوهية، وهذا ما أدى الى الغلو في الكثير من الأفكار والمعتقدات، والخروج عن الحد، كما في قضية الولاية التكوينية التي تطرف فيها الفكر الشيعي بشكل كبير ليتم منح الائمة صلاحيات مطلقة يشاركون الله في صفاته وأعماله، أو في تطرف الفكر السني في تقديس الصحابة، أو الهبوط بصورة الله الى مستوى الانسان، ففي الفكر الشيعي تم أعلاء مرتبة الأئمة الى مستوى الاله، وفي الفكر السني تم هبوط الاله الى مستوى الانسان، وهذا ما أدى الى تشويه الكثير من الافكار من خلال التلاعب بالنصوص وتفسيرها وتأويلها حسب متبنيات ومرجعيات الفقيه وأيديولوجيته، يقول الغرباوي : (المشكلة ليست في الدين كوحي الهي، وايمان يثري التجارب الروحية، بل في تحري مقاصده وغاياته وتوظيفه، وفهم دور الانسان في الحياة، وقيمة العقل في تطوره حضارياً. فثمة فهم أفقد الدين بعده الايجابي، وقدرته على تهذيب النفس وتنمية روح التقوى وكبح دوافع الشر. سببه فهم مبتسر لا يميز بين القضايا المطلقة والقضايا النسبية في النصوص المقدسة. ولا يميز بين الدين والفكر الديني، ويصر على تجريد التراث من تاريخيته والاذعان لسلطته وأحكامه). الغرباوي. النص وسؤال الحقيقة. ص 7.

ويعمل الغرباوي كما قلنا الى بيان قيمة النقد في كشف الحقيقة وتعددها، والعمل على ملاحقة المرجعيات والمصادر المعرفية والأيديولوجية لقارئ النص، فلا يوجد نص بريء ـ بعبارة التوسير ـ  فكل نص وقراءة وفهم وتأويل ذلك النص له أيديولوجية متبناة من قبل صاحبه، ولذلك يقول الغرباوي:  (ان نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه هي احدى مهام الكتاب وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثاً عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي واعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفه وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها انسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيداً عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية) الغرباوي. النص وسؤال الحقيقة. ص 9                       

ان محاكمة النصوص والتراث بعقل نقدي متحرر قد يعجب جماعة ويرحبون به، ولكنه قد يزعج جماعة آخرين ويقلقهم، وبالتأكيد المجدد يرحب بالتجديد، والتقليدي والمحافظ يرفض ذلك تماماً، مدعياً أن كل منهج تجديدي حداثوي لا ينسجم ونقد الدين ومرجعياته، وكيف يتم نقد اللاعقلي بمنهج عقلي، وأدوات المنهج الحداثوي علمانية لا تتفق ومنهج الدين وافكاره ورجاله، هكذا يتم معاداة كل منهج أو مشروع نقدي يريد تغيير ادوات المنهج وتوعية الناس بكل ما هو جديد من العلوم والمعارف، وهكذا يكثر الظن السيء بين اتباع المنهج والفكر التقليدي تجاه أي تحديث يمس الحياة والدين والواقع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن رجال الدين والناس يتعاطفون مع الكثير من الافكار التي ينتسبون وينتمون لها ومن الصعوبة اقناعهم بخطأ البعض من هذه الافكار، لأنها في عرفهم وعقولهم مسلمات ويقينيات مطلقة لا يمكن التشكيك بها، وقد أيد مقولاتهم تلك روايات تاريخية مهمة صدرت عن أئمتهم ورجال دينهم ومذهبهم وهي مطلقة لكل زمان ومكان فكيف تكون على خطأ وتتعرض للنقد والتضعيف؟ متناسين أو معادين لمسألة تاريخية النص وزمكانيته، من خلال ايمانهم بمطلقية الاحكام وعالميتها.

لعل الغرباوي والكثير من المفكرين المجددين على الساحة العربية والاسلامية يتعرضون للنقد والطعن والرفض من جهة المحافظين والمنتفعين من عامة الناس ورجال الدين، وتلك مأساتنا في واقعنا التقليدي المتردي، ولكن ستثبت الايام والسنوات القادمة ثبات الافكار الجريئة وصدقها وتهافت الكثير من الافكار التقليدية التي تخشى النقد والتجديد وتعاديه.  

من الأهداف التي سعى الغرباوي الى تحقيقها في تأليف كتاب (النص وسؤال الحقيقة) ما  يأتي:

1ـ محاولة النقد والاصلاح في منظومة الفكر والمعرفة والتراث الاسلامي والكشف عن النزعة الأيديولوجية السائدة في خطاب الفكر الديني الاسلامي.

2ـ محاولة تشكيل العقل الاسلامي وفق نظام معرفي يخضع لسلطة العقل والبرهان وبعيداً عن نزعة الأسطرة والتخريف الديني والفكري.

3ـ ملاحقة مرجعيات التفكير الديني بحثاً عن المضمر والخفي وراء تلك المرجعيات والنصوص، وبيان ما هو نسبي في معرفة وقراءة النص والحقيقة و(فضح مراوغات النص وتقنياته).

4ـ فهم متجدد للدين، من خلال الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية، والبنية الثقافية والمعرفية، بعقل نقدي وموضوعي متحرر من نزعة القداسة وسلطة اللامعقول، لبيان الوجه المشرق من الدين، وبناء مجموعة من القيم الانسانية المحترمة بين الشعوب والأمم.

5ـ زعزعة اليقينيات والمسلمات الدوغمائية التي يتمسك بها الفقيه ورجل الدين لدعم فكره ومعارفه، وإعطاء الاهمية للفرد وعقله في محاكمة الكثير من الافكار من دون خضوعه لهيمنة الروايات والتاريخ والمؤسسة الدينية المؤدلجة.

6ـ رسم صورة واضحة لدور النص وخطورته على وعي الفرد والمجتمع، كمرجعية معرفية وثقافية للعقل الديني، (فثمة مصفوفة يقينيات لا دليل على صدقيتها سوى روايات موضوعة).

هذا ما سعى اليه الغرباوي في كتابه ذي الصفحات (304) وفصوله الستة عشر، الصادر عن مؤسسة المثقف في استراليا ودار أمل الجديدة في سوريا عام 2018. وفق منهج نقدي تجديدي يحاكم النصوص والافكار ويكشف عن ما وراء النص وما قبله من أيديولوجيا وسلطة في بنية المنظومة الفكرية والمعرفية والدينية الاسلامية.

والمأخذ على رواد التجديد ـ ومنهم الغرباوي ـ أنهم يحرثون بأرض بكر في مجتمعاتنا المنفعلة من خلال مناهج معرفية وفلسفية عقلية متقدمة، لا تنسجم وعقول ونفوس الكثيرين من المتلقين والمخاطبين، أي عدم وجود الأهلية المناسبة لتقبل هذه الرؤى والافكار المتقدمة، فالعامة يحركهم من يستغل عواطفهم ومشاعرهم الطيبة البسيطة من المنتفعين من جهلهم وبساطتهم، ويحذروهم من مخاطر الحداثة والتجديد، ويؤلبون هؤلاء البسطاء والعامة على الافكار الجديدة ومواجهة تلك الآراء بالعنف والتطرف والارهاب.

وما يؤخد على رواد التجديد الديني الاسلامي ايضاً، منذ رفاعة الطهطاوي والافغاني وعبده واقبال الى يومنا هذا من المفكرين المعاصرين، أنهم يكتبون في فضاء فكري وسياسي واجتماعي غير الفضاء الذي يعيشونه ويحيونه، فالحرية الفكرية والاجواء الاجتماعية والسياسية وقيم التسامح والمحبة والاحترام والمدنية في الغرب هي غير التي عندنا من قيم، ولذلك فالمجدد والمفكر التنويري عندنا كثيراً ما يقع ضحية النقد المتعسف وفريسة الطعن والتشويه، وهذا ما يؤدي الى اغتراب المثقف وعزلته عن المجتمع تارة، وأن يكتب بلغة مغايرة عن المجتمع تارة أخرى.    

لقد أراد الكثير من رواد التجديد العربي والاسلامي نقل مجتمعاتنا الى مصاف الدول المتقدمة في الوعي والفكر، ولكن نسي هؤلاء أن طبيعة مجتمعاتنا تختلف تماماً عن المجتمعات الغربية في عاداتها وتقاليدها وثقافتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعاشي قد طال الغرب وواقعه ومؤسساته منذ عصر النهضة الأوربي، أما نحن فنعيش حالة من التخلف والانحطاط والفقر والمرض على كافة المستويات، فالفكر مرهون بواقعه ومجتمعه، فكيف نتقدم ونزدهر ونتحضر من دون وجود أرضية مادية مناسبة تؤهلنا لذلك الرقي والصعود بين المجتمعات والأمم المتقدمة.

وما أخشاه من مشاريع التجديد وعليها هو الخوف من محاولة فرض المفكر المجدد لأيديولوجيته على عقول الناس وفرض وصايته وهيمنته عليهم والوقوع في فخ الأيديولوجيا بدلاً عن الخروج منه، تحت ذريعة وصاية المثقف وسلطة النص وممارسة الحداثة والتنوير وتخليص الناس من الأوهام والاصنام، وهذا ما يعمل على مواجهته والاذاعة له أعداء التجديد في مجتمعاتنا اليوم، وتحت ذرائع شتى ومنها محاولة الدفاع عن المقدس والحفاظ عليه، ومن الخطاب الفكري التجديدي الذي يؤجج الجماهير ويلهب حماسهم تجاه المفكرين، دون اعتماد منطق الحوار والنقاش الحر الهادئ، وتلك هي مشكلتنا المستمرة، لا توجد مناطق حرة ومتعددة لممارسة النقد والوعي، ولا توجد مناطق ثالثة ورابعة خارج منطق أرسطو الذي يهيمن علينا، وعدم اعتماد منطق العلم في تحليل ومناقشة الافكار، وهذا ما يعمل عليه الغرباوي في كتابه من خلال بيان الأوجه المتعددة للحقيقة وليس الوجه الواحد المنفرد، ومواجهة (اليقين السلبي) كما يسميه، بمنطق متعدد الحقيقة والقيم. 

 

د. رائد جبار كاظم - أستاذ فلسفة / الجامعة المستنصرية

 

يدخل كتاب: النص وسؤال الحقيقة - نقد مرجعيات التفكير الديني (1) للمفكر الإسلامي ماجد الغرباوي في مضمار موجة التنوير الثانية التي بدأها الكواكبي وتابع معها علي عبدالرازق وآخرون. فهو لا ينكر الوحي ولا الكتاب المقدس (القرآن) كما هو حال صادق جلال العظم وطيب تيزيني ومحمد أرغون مثلا*، ولكنه يشكك بطرق انتقال وتداول الأفكار الدينية، وبهالة التقديس التي أضفاها أنصار الظاهراتية في التفكير والتفسير. بمعنى أنه يحتفظ بالعقل الإسلامي في موضعه من تاريخنا الروحي والحضاري،  ولكن في نفس الوقت يدعو للالتفاف حول تنظيم الأفكار وأدواتها وأساليب إنتاجها.

* الأحاديث الموضوعة

ويبدأ من ضرورة إعادة التفكير بما ينسب للرسول من أحاديث وأفعال. ويؤكد إن الجانب الأسطوري من أي قائد روحي يكون مفيدا أحيانا لأغراض التعبئة، ولكنه يتحول مع الزمن لعبء يمنعنا من التطور وإدراك الواقع. ولهذه المشكلة عدة جوانب أهمها: الوضع والإضافة أو الاختلاق. وسوء الفهم. فالنص لا يرتبط آليا بمعناه والعلاقة بينهما ليست أتوماتيكية وتخلو من المشاعر والخلفيات. والذي يبدأ بالوحي يجب أن ينتهي بالعقل. أو كما قال بالحرف الواحد: لنعرف الواقع لا بد من معرفة الحقيقة (ص9). ولا يتردد لحظة واحدة عن مهاجمة القراءة السكونية. فالحقيقة ليست مطلقة وأمامنا طرق لإدراكها. حتى أن الشخص الواحد قد يختلف مع نفسه. ولنأخذ الإمام الغزالي على سبيل المثال. فقد بدأ من الفلسفة وانتهى إلى التصوف. ومثله المفكر مطاع صفدي فقد  انتقل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وكان لمثل هذه التحولات نتائج حاسمة بدلت وجه العالم. فتحالف ستالين مع هتلر لم يصمد أمام المعطيات وانقلب لحرب دموية ومدمرة قسمت أوروبا لمعسكرين.

* تأويل النص

يحدد الغرباوي شروط معنى أي مدونة بثلاثة عوامل أساسية هي: مؤلف النص، والسياق، والقارئ (أو المتلقي بلغة دو سوسير). ولكنه ضمنا يشير لشرط رابع وهو علاقة اللغة باللغة. أو ما يسميه فوكو (التمثيل المضاعف). فالكلمة لها قيمة بسيطة أو تركيبية، وهذا يتحدد بواحد من إثنين، شاقولي وهو عنصر متبدل حسب الاستعمال، وأفقي وهو ما اصطلحنا عليه.  ولنأخذ كلمة نص الإنكليزية Text  فقد تطورت من كلمة  نسيج  اللاتينية   textus. وإذا فتحت معجم فاولير على أية صفحة لا على التعيين، لتكن ص614، ستجد أن كلمة talus  لها معنى يدل على كاحل، وجاء من اللاتينية. ومعنى يدل على منحدر، وجاء من الفرنسية (2). وللعرب خصوصيات باستعمال اللغة أيضا. ولا سيما بعد منعطف القرن العشرين ودخول الصناعة ومنتوجاتها لحياتنا. إن الإشارة، حسب تعبير فوكو، داخل المعرفة. وتنطوي على فكرتين: إحداهما عن الشيء الذي يمثل غيره، والأخرى عن الشيء الممثل. وطبيعتها تقوم من تحريض الأولى للثانية (ص180)(3). وهو ما يسميه لاكان في علم النفس بالآخر الحقيقي والآخر المزعوم. ولهذا السبب هناك ميول قوية للتفريق بين حالتين من حالات المدونة، وهما: النص والخطاب بحيث يختص الأول باحتكار الحقيقة (ص21)، ويختص الثاني بأساليب توصيل الحقيقة (ص22). وأهم ما في هذا التمييز أنه يأتي من خارج الثنائية الكلاسيكية، ويضيف إليها تحصيل حاصل الجدل الهيغلي. ولذلك نحن لسنا أمام خيارين فقط لفهم المدونة. وإنما لدينا خيار ثالث، أو منفذ نجاة يخفف من غلواء التعصب والتمسك الأعمى بحرفية الكلام. وكما ورد على لسان الغرباوي: النص بحد ذاته عديم الأهمية إن لم تفهم ما بين السطور (ص31).

* الفراغ التشريعي

ومن هذا المدخل يبدأ الغرباوي بمناقشة مسألة "منطقة الفراغ التشريعي". وتعني  كل موضوع لم يرد فيه حكم شرعي (ص34). وحسب هذا المفهوم يقسم مصادر الدين الإسلامي لنص مقدس ولتفسير هو نتيجة للجهد البشري (ص34).  ولكن يجب علينا أولا أن نثبت صحة هذه النصوص وأنها موجودة وثابتة فعليا. ويضرب لنا مثلا حول هذه المشكلة وهو عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة. فهي تبلغ 5374 حديثا مع أنه لم يرافق الرسول غير عامين. فكيف تسنى له رواية هذا العدد الكبير ومن المعروف عن النبي صمته وقلة حديثه (ص28). لقد تحولت حالة أبي هريرة لبالون اختبار سياسي في وقت مبكر من عمر الصراعات على الدولة. ويمكنني القول إنه تحول لما يشبه وزير إعلام أو ناطق رسمي باسم اتجاه من هذه الاتجاهات المتحاربة. وتذكر كتب السيرة أن عدد مريديه بلغ ما ينوف على ثمانمائة. ويمكنك التفكير بما تفعله هذه الشبكة بعد أن تتوسع بمتوالية هندسية. لقد كانت الأحاديث والمرويات بمثابة أناجيل تعيد بناء السيرة النبوية. وهذا يعني أن ما ورد فيها هو الرواية الإسلامية لواحدة من أكبر السرديات المعاصرة. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما علاقة هذه المروية بالواقع الإسلامي؟.

إنها علاقة شائكة وتحمل أوضار وشوائب المعاناة والشك وضرورة التجديد. لكن للأسف كان الرهان على التجديد هو في نفس الوقت رهانا على استعادة الماضي لا نقده وتفكيكه. ولذلك تدين الدراسات والبحوث الحالية للصبغة القاتمة التي ورثناها في الناحية العسكرية من الخليفة عمر، وفي الناحية الإعلامية من أبي هريرة و الصحاح، وفي الوضع الإيديولوجي أو بيان خطاب الدولة والدستور من ابن تيمية. ويعزى للأخير مبدأ الوسطية في الإسلام.

ومثل هذا الرضوخ الأعمى للماضي وأشباحه قادنا للاختلاف مع أنفسنا، وعدم الاعتراف بمنطق صراع الأجيال، واستبداله بتوريث الأفكار وحقنها دون مواءمة بشروط تعمل من فوق التاريخ. وأدى ذلك في النهاية، كما يقول الغرباوي، للمصادرة على حرية الرأي، وتوسيع نطاق المحرم والممنوع (ص41)، حتى أصبحت الحياة مجرد سلة للممنوعات والمكروهات أو حزمة عقوبات نفرضها على أنفسنا. ولكن حتى في مسائل الحلال والحرام دبت خلافات استوجبت إصدار فتاوى إما تذكي من شعلة الخلاف أو أنها تبرر أساليب الإدارة والحكم.  ويرى الغرباوي أن شعار التسامح لم يكن رادعا للاضطرابات الاجتماعية. بمعنى أنه لم يلعب دوره كمهدئ أو دواء ناجع. بالعكس استغلته كافة الأطراف لأغراض دعائية. وأشد ما يأسف عليه المرء في سياسات الشرق الأوسط أنها تفرز باستمرار حلولا عسكرية لقضايا المجتمع المدني، وتزيد من سعار العداوة والبغضاء. وكل ما جنيناه في النتيجة شعارات دون رغبة أو إرادة بالتطبيق. وأوضح مثال على ذلك تصريح لوليد جنبلاط. فقد أعلن أن حزبه يهدف لتوفير مؤسسة لأتباع الخيار الاشتراكي على الساحة اللبنانية. لكن الواقع (والكلام لا يزال لجنبلاط) أنه تحول لكيان خاص بالدروز. ويبدو لي أن النزوع العشائري والطائفي هو الذي يعمل شاقوليا في بنية معظم أحزابنا. حتى أننا أضفينا على الطوائف والمذاهب صفات سياسية. وقد تحول ذلك بمعجزة من معجزات التخلف إلى اعتبار انتفاضة الزنج والقرامطة من بين الحركات التي تبشر بالفلسفة المادية. بينما هي في حقيقة الحال محاولة لفك الالتزام بمركز الخلافة ثم محاولة الاستيلاء عليه. إنها انقلابات عسكرية بلا أي محتوى إيديولوجي، إلا إذا اعتبرنا الانتماء العرقي إيديولوجيا. ويمكن مقارنتها مع الانقلاب الفاشل الذي قاده سبارتاكوس، أو الانقلاب الذي وضع المماليك على رأس السلطة في مصر حتى عام 1952. لقد كانت الغاية مختلفة تماما عن ثورة الضعفاء التي قادها بنو هاشم ضد أغنياء قريش. وبنقد الفكر اليومي (والتعبير لمهدي عامل) ستلاحظ ارتفاع وتيرة التأليب والتعبئة على أساس المذهب. حتى أن الحلول الدولية لنزاعات الربيع العربي لم تكن تخلو من فيدراليات على أساس الطوائف. وأتساءل: أين ذهبت جهود وثمار حركات التحرر التي قادت المنطقة بعد نكبة فلسطين وحتى عام 2010. أين تبدد خطابها المدني والدولاتي، ولماذا تبخر مثل الكحول بعد أول نسمة هواء؟؟. وما هي الآلية التي تسببت بسقوط تلك الحركات وتعريتها من ثيابها البراقة ونياشينها، ولماذا اختفت الطبقة المتوسطة وسقطت إلى أسفل لتوفر الوقود اللازم لهذه الانتفاضات؟.

إن التوازنات التي تتحكم بمصيرنا السياسي ومستقبلنا يمكن أن تجد أثرها أيضا على تسليح الجيش. فالعتاد في الخليج أمريكي، بينما هو في سوريا إيراني وروسي. ويمكن أن تفهم من هذه الصورة طبيعة التنافر بين البلدين. إنه يدل، شئنا أم أبينا، على واقع الحرب الباردة وتطوراتها ومآلها، ولا يعكس رغبات أو ميول الشارع. وقد عبر الغرباوي بشكل بليغ عن هذه الظاهرة حين ربطها بسلطة الدولة. فالنشاط السياسي لدينا تحتكره نخبة لا تزيد على 5% وما تبقى إما يتعايش مع ظروف المعارضة أو العمل في الظلام.  وهذا يفسر لماذا توجد للنص الواحد عدة قرءات. فكما للإدارة السياسية أحكام ونقاط ارتكاز، للمعارضة أيضا مرجعيات تعيش وتتطور في عزلة تامة عن السلطات. والمشكلة أن الطرفين يعتمدان على سياسة الاتجاه الواحد ونبذ الحوار والتعصب، وبلغة الغرباوي: على الإيمان والتسليم لا على الدليل والبرهان (ص61). وهذا لا ينتج معرفة علمية كما يقول أيضا (ص61)، وإنما لا معقولا دينيا (ص62) أو قيادات وزعامات سياسية خارقة. ويلعب هذا التوجه دورا هداما لأنه يوظف الانتماء باتجاهين: داخلي لتعميق الأواصر، وخارجي للتحريض على الخصم (ص56). ولذلك نحن لدينا عدة مجتمعات في قالب اجتماعي واحد. وخطوط العزل ليست طبقية ولا سياسية، وإنما تحركها خيوط المذهب والمصلحة. وكل جماعة تتكفل بإنتاج نصوصها.

74 majed600

* حدود المعنى

وهنا لا بد من توضيح.

للنص عندنا سلطة توازي معنى الحقيقة كما يقول الغرباوي (ص61)، والمدخل لعالم الحقائق يكون عن طريق حراستها بنصوص جاهزة، مسبقة الصنع، وموجهة لخدمة جانب من الفكرة، وليس الفكرة كلها. لكن لأغراض الأمانة العلمية ولتنظيف الدين من الشوائب لا بد من الانتباه لمحددات تبدل المعنى أو المبنى أو كليهما في النصوص الدينية، وهي:

1- مقولات البنية المعرفية في بدايات تشكل الوعي عند الأفراد. فهي تصورات ومفاهيم تستمد وجودها من أعماق البنية المعرفية ويستحسن قراءتها بضوء معارف وتصورات العقل الجمعي (ص62).

2 – دور الوسيط أو المتلقي لأن الحقائق التراثية غير موضوعية، ولا يوجد لها طريق غير النص (ص63).

3 – الخلفيات الثقافية. وهي قبليات مكتسبة وتبدل من طبيعة إدراكنا لفضاء المفهومات في البنية المعرفية للأفراد والجماعة (ص67).

وأصلا حض القرآن، لتلافي هذه التحديات، على الإيمان البرهاني واستعمال العقل ومتابعة الأدلة وعدم التوقف عند الانقلابات الثقافية لتدارك الشكوك والمتغيرات (ص67).

إنه من الضروري التمييز بين الشريعة باعتبارها جملة أحكام وروحها التي هي الأهداف الأساسية للدين (كما يقول شكري المبخوت). وتنزيل الأحكام في التاريخ للنظر فيها باعتبار الأهداف وتحولات المجتمع مسألة ملحة بحيث يجري تطبيق المبدأ الأصولي القائل بأن الحكم يدور مع علته إيجابا وسلبا. ولنأخذ دور ميراث المرأة كمثال. فعلة الإنفاق على العائلة كانت هي الموجب وراء الحكم، وهو إسناد انتفى بدليل ما نشهده في الواقع، وعليه صار تبديل الحكم دون نقض للإسلام ممكنا. لأنه يحافظ على شرط تحقيق العدل والمساواة(4).

وعلى هذا الأساس يعرّف الغرباوي الحقيقة على أنها ما يطابق الواقع بدليل حسي أو برهاني دون الدليل الحدسي أو الظني ما لم تكن مقدماته يقينية (ص69) إلا الحقيقة الدينية فهي نسبية وتستمد صدقيتها من النص، وتتوقف على إذعان المؤمن وشروط تحقق النص وسلامته من التحريف أو الوضع (ص70). وهنا تواجهنا مشكلة النص الديني. فهو جزء خاص من التراث، ولا تجوز مساءلته، لكن هذا لا يمنع إمكانية إدخالات ظنية عليه، كما حصل بعد إضافة النقطة والهمزة للكتابة.  وقد سبق للغرباوي أن تناول إمكانية التصحيف في القرآن وضرورة الإجماع عليه بثبوت الأدلة، مع التدخل كلما اقتضى الظرف بالشرح والتفسير. ومن الأمثلة على ذلك قتل من أذعن. وهذا غير ممكن لأن الأساس في الإسلام هو التسامح والمغفرة وتوسيع أبواب التوبة.  وربما المقصود هو قتل النوايا الشريرة أو منعها. فالتعبير مجازي إذا لم نكن جاهزين للاعتراف أن الكلمة الصحيحة ليس "اقتلوهم" ولكن "أقيلوهم".  وكل ما حصل هو التباس في التنقيط.       

يمكن لأي إنسان نبيه يتحلى بقدر قليل من الذكاء أن يلاحظ تراكم المعرفة ثم انفصال أساليب الإدراك عن المعاني. فالفكرة تحتاج لنظام للتوضيح والتعبير والتداول، ومع التقادم تتحول إلى تراث. وهذه هي أول مراحل تشكيل العلوم. ثم نبدأ بالمرحلة الثانية، وهي تأويل ما لدينا من مخزون معلومات وأنباء وحوداث. ويمكن في بناء المعارف ثم في إدراكها أن تحصل تحولات، وستكون بالتدريج مسؤولة عن إلغاء حقيقة واستبدالها بحقيقة بديلة. حتى أن معاني الرموز يمكن أن نعقلها بطرق مختلفة، تبعا للمرحلة التاريخية وأساليب التداول المتبعة.

وبهذا الخصوص تكلم الغرباوي عن الهالة التي نعزوها لشهيدين من شهداء الإسلام على حد تعبيره وهما سيد قطب وباقر الصدر. فكلاهما من موقعه أسس لوعي حركي معارض، وكلاهما لفظ أنفاسه الأخيرة بعد محاكمة صورية وقرار بالإعدام (ص87). لكن لم يوضح الغرباوي لماذا استشرت شهرة قطب وبقيت سمعة الصدر محدودة ضمن جيوب صغيرة. لقد تحول قطب لأسطورة نضالية ولرمز، ولا يمكن أن يدانيه أحد فيما وصل إليه غير غيفارا. ولحد ما تروتسكي. وأستطيع أن أضع قطب بين التروتسكيين الإسلاميين لأنه بدأ من فكرة مجسدة، وانتهى بمجموعة أوهام روحية وميتافيزيقية تحيط بها هالة من النور الساطع، إن لم نقل شعلة مضيئة تحرق من يقترب منها. لماذا يكون سيد قطب من المبشرين بجنة تتخيلها المعارضة الإسلامية.  ولماذا يتحول اسمه لصورة إسلامية وكأنه سيزيف مسلم يدحرج صخرة العقيدة والإيمان، بينما يسدل ستار غير شفاف على أطروحة الصدر؟.

أعتقد أن النهاية التي كتبتها ظروف المنطقة لعبد الناصر ثم صدام يمكن أن تفسر لنا ذلك. لقد خرج عبد الناصر من السلطة بجنازة وطنية، بينما لا يعرف أحد مكان دفن صدام بالتحديد. وصفة زعيم وطني لا شك هي غير صفة طاغية ودكتاتور. وحتى إذا تساوت الشخصيتان من ناحية الحقيقة السياسية، فالرمز المرتبط بهما له سياق تأويل آخر، ناهيك عن أن السنة من يخطط لتعويم سمعة قطب، بينما الشيعة هم المسؤولون عن الصياغة النهائية لشخصية الصدر. وكما هو واضح للحركات السنية إمكانيات دعائية أقوى، وتفرض نفسها بعدة أساليب جهادية. في حين أن راعي الشيعة وهي إيران عجزت عن طرح بديل اقتصادي إسلامي، وعادت بعد 9 سنوات من المعاناة إلى الاقتصاد العالمي وحركة السوق بمسحة شرعية بسيطة جدا (كما يقول الغرباوي بالحرف الواحد) (ص87). فقد تراجعت إيران عن أسلمة العلوم الإنسانية واستسلمت لمنافسيها من الدعاة للعلوم الإنسانية الغربية (ص87). ويذكر مثلا عمليا على ذلك وهو انسحاب رضا داوري أردكاني من المشروع. وبعده بقليل حسن روحاني. وعلى هذه النتيجة يبني موقفه من نفي مطلقات الوعي الديني أو الثقافة الدينية. فهي نشاط اجتماعي مرموز، ويحمل كل نكهات ومقويات الأجنحة السياسة الداعمة أو المناوئة. وهذا برأيه يعكس مشكلة البشري والإلهي. فقد تساوى قطب مع الصدر من ناحية إلهية، لكن بشريا رجحت كفة قطب، وتحولت لأسطورة نكتب على هديها تاريخ صراع الإسلاميين مع السلطات. وإن لم نحاكم آلية ترويج هذه الصور النضالية (بين قوسين) سنقدم حسابا مشوها ومنحازا لمعنى الحقيقة (ص88). وإذا كانت هذه هي الصورة حيال مشاكل عاصرناها جميعا، فما بالك لو أنها عن مشاكل تراثية من فترات مبكرة في تاريخ الإسلام. لماذا لا نتوقف عند خروج طلحة مثلما نتوقف عند مقتل عثمان، وكلاهما من الصحابة الأوائل؟..

يجيب الغرباوي عن هذا السؤال أوتوماتيكيا بقوله: إن الصراع كان في سياسة الدين وليس في الدين بحد ذاته. ولذلك كان الجناح السياسي المنتصر والأقوى هو الذي يحدد من يستمر ومن يطويه النسيان (ص88).

إن حالة سيد قطب تعكس مشكلة المصادرة على الحقيقة بأمر إلهي يستند على وساطة بشرية أو على الإفهام وتفريعاته، وبلغة أوضح على الاجتهاد وما بني عليه. ودعوته لتجديد الدين وإصلاح العباد هي بطريقة من الطرق دعوة إلى الحداثة بدورتها العضوية المغلقة وبمركزيتها العدمية والمعادية للحس التاريخي. وكما يقول أرنست غيلنر: إن نشأة أي إيمان ديني تنطوي حكما على توجهات حداثية تعيد تفسير علاقة الإنسان بالإله (ص19). أو بلغة أوضح: تعيد إنتاج النص وتركيب السردية مع تحديد التزامات جديدة (ص20). لكن غيلنر سرعان ما يحذر من استغلال الدين لغايات غير دينية، ويعتبر أن الطقوس هي احتفالات الغاية منها زيادة ولاء الفرد لجماعته (5). وربما كان أفضل مثال لهذه الفكرة هو احتفالات رأس السنة الميلادية. فمع أنها مناسبة خاصة بالسيد المسيح لكن تحتفل بها كل البشرية بغض النظر عن العرق أو الدين. وشعارات هذا الاحتفال موحدة، ولا سيما شجرة الأرز دائمة الخضرة وبلورات الثلج التي تنهمر عليها. مثل هذه اللغة العالمية هي رسالة مشفرة فقدت معناها الديني ودخلت في اللاوعي الجمعي كإشارة على حالة نفسية تشمل علاقة الإنسان بنفسه أكثر مما تدل على علاقته اللامتناهية والغامضة بالسماء. وإذا نظرنا لشجرة عيد الميلاد من زاوية دينية، إنها رمز توراتي ولم يرد ذكرها في القرآن. بالعكس، عند المسلمين توجد إشارة للنخيل وكثبان الرمل، وليس للمرتفعات والأشجار التي صنعت منها شعوب المتوسط سفنها التجارية والحربية. ولذلك يمكن القول إن اللاشعور الجمعي هو الذي هضم صورة أو تناساها لمصلحة صورة أخرى لها رواسب في الذاكرة الحضارية. بمعنى أن الواقع تغلب على الحقيقة وتخطاها.

* النظرية والتطبيقات

لقد كانت الغاية من الدعوة هي إنجاز شرطين: وضع حد لحياة التنافس على الموارد، وتحرير الضعفاء من هيمنة من أهم أقوى منهم بالسيف والثروة. ويمكن القول إن الإسلام حاول تقديم حلول ناجعة لثلاث مشاكل أساسية: الأولى حالة التنازع بين القبائل. والثانية قبول وصاية الأجانب أو الإمبراطوريات المجاورة. والثالثة ما يعرف الآن باسم التفاوت الطبقي، أو إن شئت التفاوت في الاستفادة من الثروات والمصادر. ولكن بعد تراكم مجلدات من الفتاوى والتشريعات، وبعد اكتشاف منابع النفط والثروات المعدنية، نبدو أبعد ما نكون عن الحل. ولا نزال نعاني من الثلاثي السابق ذكره. فاقتصاد الدول الإشتراكية قاد بلاده إلى الإفلاس وأنهكها بالحروب الداخلية. بينما اقتصاد الدول الإسلامية الغنية ارتكز على رضا واستحسان المستثمرين. وحتى في ظل الهدوء النسبي بلغت نسبة الفقر في السعودية  25%. وهناك أكثر من أربع ملايين سعودي من أصل 20.5 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر(6). في حين وصلت نسبة العاطلين عن العمل أكثر من 12% بين الذكور، وأقل بقليل من 33%  بين الإناث(7).

وإذا نظرت لواقع الحركات الإسلامية المعاصرة سيخيفك مقدار التراجع في الأهداف أمام شهوة التملك والسلطة. ولم تنج من هذه المجزرة الإسلامية النصوص المقدسة وكل ما يبنى عليها. فالفتوى بالأصل أن تعود للنص، يعني أن تفهمه (ص137)، وترفع ما يبدو متعارضا بين نصوصه (ص137). والفتوى بالتعريف هي: رأي الفقيه المستند إلى دليل (ص137). لكن إذا نقبت في التشريعات الدينية ستكتشف بكل سهولة انحيازها لمصلحة الواقع السياسي والاجتماعي (ص137). ومنها نشأت ظاهرة الحيل الشرعية التي تبرر ما هو في أساسه حرام أو لا يجوز، حتى أن التشريعات تحولت لقيود تكبل يد الإنسان. ففتاوى ابن تيمية طبعت في 20 مجلدا مع أن آيات الأحكام في القرآن بمجموعها هي 500 آية فقط (ص140). لقد تراكمت الفتاوى وتشكلت بنتيجتها حياة شرعية موازية للحياة التي نعيشها. وبعد الربيع العربي وانتشار ظاهرة الإمارات الإسلامية أصبح لدينا تشريعات غايتها استباحة المسلم في عرضه وماله، والتقييد عليه بكل شيء إلا بشبهة التكفير والردة. والمشكلة أن هذا التطور في الأحكام والتشريعات لم يقابله تطور في الموارد والتحضر. ولذلك يدعونا الغرباوي لا لفحص التشريعات، التي تتوالد كل دقيقة وساعة، ولكن للتثبت من آليات الإفتاء. فالفتوى تعبر عن وجهة نظر الفقيه حتى لو ارتكزت للنصوص. فهذا الارتكاز استظهاري استحساني وليس صريحا ولا مطلقا على حد قوله (ص144).

ومن أبرز عيوب الاجتهادات والفتاوى الحديثة:

- الانتقائية: فقد استبعدت أكثر من 60 آية تدل على التوسعة والرحمة وركزت على آيات السيف والتكفير. وقد ناقش هابرماز مشكلة الانتقاء التي تأتي بين طورين من أطوار السرد التاريخي. وهما الطفرة في التفكير وتثبيت هذه التحولات المنتقاة (انظر كتابه: ما بعد ماركس).

- الجمود: فالكلمات محدودة لكن المعاني مفتوحة ولا نهائية.  ولنأخذ كلمة سيف على سبيل المثال فهي تدل في معجم المعاني على أداة حربية وعلى ساحل البحر.

- إهمال السياق: وعدم ربط اللاحق بالسابق. وهذه مشكلة تسبب التسرع وأحيانا التهور والنقصان. كما في تفسير معنى القوة في آية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). فقد جاء بعدها ومن رباط الخيل. وعطف عدة الحرب على عدة الحرب ينتفي مع بلاغة وحكمة القرآن.

*الإسلام والحداثة

وبالنتيجة أصبح لدينا كم غير مسبوق من الأحكام السياسية التي جردت الدين من تاريخيته (ص144). لقد وضعتنا هذه التشريعات أمام أنفسنا وبمواجهة عدة تحديات لا يمكن إلا أن تتسبب للصورة والمرآة بشيء من التنابذ، فهي تشريعات توائم بين التراث والحداثة، وكأنهما علة ومعلول، أو طور يمهد لطور آخر من نفس الظاهرة. لكن الحقيقة هي شيء آخر. فالتراث هو ابن شرعي لمرحلته التاريخية، ولا يمكن تطعيمه أو تغليفه بمشاكل العصر الراهن. إنه موجود للإستئناس والقياس. ولكن ليس للتوليد منه حصرا (وهذه الحالة الإشكالية هي شرط مسبق ومعرفي عند مفكر إسلامي مثل طه عبد الرحمن)(8). فالمقاومة برأيه هي جزء من هوية مستمرة لا تعرف الانقاطعات أو التبدل. والحداثة ليست بالتخلي عن التراث ولكن بالسعي الدؤوب نحو الكمال. والحكمة من الفصل الحقيقي لا تكون بتفريق الأشياء ولكن بإنجاز آلية التكامل بينها (ص39). وحداثة المسلمين ليست حداثة غربية لأن الغرب حامل لمجموعة من الآفات بينها الفردانية والانفاصلية والمادية (ص42).

إنه من الطبيعي أن لا نعمد لأسلمة الحداثة، فهي من نتاج حضارة أخرى لها شرطها وظروفها، ولكن هذا ليس دليلا على الانتفاء وإنما اللزوم. وبلغة الغرباوي أيضا: لقد سقطنا (بسبب الهوية) في تناقض مروع ونجم عنه قلق حضاري يثبط العزيمة (ص154). وعلى ما أعتقد نحن لم نتخذ أي موقف من الماضي أو الآخر. وعلى الضد من ذلك، كنا نفكر بأنفسنا فقط، ونسعى لإيجاد طريقة للخلاص، وهذا هو الطابع العام لمعركة رواد التنوير في موجتين أساسيتين: الدفعة الأولى التي واكبت نهايات الحكومة العثمانية واختارت مصر لتنشط منها. واختارت تحرير اللغة من تركة العصر الوسيط (عصر الانحطاط العربي أو الإسلامي كما هو معروف) و تدعيمها بنظريات تدين لمنطق الكشوفات العلمية. والدفعة الثانية التي واكبت البيروسترويكا وسقوط الاتحاد السوفياتي (الزلزال السوفييتي بلغة حسنين هيكل). وكان رموز هذه الحركة من جيل الشباب، وقد نشطوا من عدة مراكز. والسبب برأيي مفهوم وواضح، فالحداثة التي بشر بها الرواد كاننت بحاجة لإعادة نظر وتوسع وتنقية، وبضوء من إنجازات فلسفة ما بعد الحداثة. وحتى هذه اختلطت بمصطلحاتها ووجهات نظرها مع ما قدمته اتجاهات ما بعد الكولونيالية. والفرق بين الجيلين مثل الفرق بين فلسفة الهجرة والنفي أو الخروج من المكان. فالهجرة فلسفة إلغاء، بينما المنفى فلسفة ترابط، لأنها تكون غنية بمشاعر النوستالجيا والرغبة النظرية بالعودة. وإذا كانت الثقافة الإسلامية هي الشعار الذي رفعه الجيل الأول، فالثقافة الغربية (تحرير وديمقراطية) هي شعار الجيل الحالي. وفي الحالتين يوجد فراغ بين الموضوع وأساليب علاجه. فالهداية ليست ذاتية، وتحمل إشكالات التجديد من مسافة (في المكان من الخارج، وفي التفكير من الأعلى).

ولذلك أجد أن دعوة الغرباوي لتخفيف القيود على العقل النقدي ومحاصرة عقل المحاكاة لها ما يبررها، لأن التراث نتاج بشري وليس له أي سلطة معرفية (ص162) حتى لو كان هذا التراث من المقدسات. وبهذا المعنى يسأل نفسه: لماذا نقتدي بسيرة وعهد الخلفاء الراشدين؟. ومن جعلهم مثلا أعلى في السياسة والحكم، ومعيارا للفضيلة والحكمة؟. هل ذات النموذج العملي لسلوكهم؟ أم الخطاب التنزيهي الذي تلى حقبتهم؟.

* الإسلام والسياسة

لقد كانت فترة الخلفاء الأربع فترة دموية مضطربة تخللها أكبر كم من الجرائم السياسية والاغتيالات والحروب في سبيل السلطة. وهذا البحر من الدم لا يمكنه أن يكون هو التفسير العملي المفيد لأحكام القرآن. وإذا كنا نعزو للخلفاء فضيلة توسيع الدولة وحراسة التركة التي تركها لنا الرسول فهم أيضا مسؤولون عن التحسس الذي نعاني منه وعن نموذج الاحتكام للسيف ليس لنشر الدين وحراسته وإنما لاغتصاب السلطة بطريقة حرق المراحل. فالظروف لم تكن ناضجة لتأسيس خلافات وإمارات حينما أصبحت الكلمة للسياسة وليس للدين، أو للإسلام الأموي لا النبوي. والأهم من ذلك أن الخلافة شأن سياسي، بينما النبوة شأن ديني، وصلاحيات الخلفاء بالتوافق. لكن صلاحيات النبي ربانية وإلهية (ص197). ولا يمكن جعلها لغيره إلا بنص صريح واضح وهذا غير موجود (ص198).

ويندرج نفس المنطق على مفهوم العصمة، ولا سيما خصوصها في أهل البيت. فكيف يكون ذلك مع انقطاع الوحي، والخلل في الإسناد لا تعالجه العصمة، ولذلك يجب النظر لهذه المسألة في إطار اللامعقول الديني (ص206). وتأتي في درجة تالية مشكلة الألقاب مثل الحاكم بالله وسيف الله، ثم العناوين مثل نهاية الأصول ونهاية الدراية ونهاية الفقه (ص207). وهذا يذكرنا بعناوين حديثة مثل: موت المؤلف وموت الإيديولوجيا والإنسان الأخير. إنها ألقاب وعناوين ذات إيحاء رمزي وبلاغي. وبسهولة تستطيع مقارنتها مع ألقاب وعناوين كانت شائعة قبل التوحيد وفي العصر الوثني مثل فارس بني عبس (عنترة)، الملك الضليل (امرؤ القيس)، الفتى القتيل (طرفة)، و(جمهرة أشعار العرب) وما شابه ذلك. فهي بنود غير فقهية ولكنها جزء من الذهن المجازي عند العرب. والغاية منها الاستيلاء على القلوب البسيطة بمكياجات لغوية معدومة من أي سند إلهي أو شرعي. وهو ما يسميه الغرباوي: سلطة النص على الوعي حتى لو أن الحقيقة تجافيه وتعارضه (ص208). فالوحدة الدينية ليست مشروطة بالوحدة السياسية (ص212). وكل هذا الخراب كان يمكن تجنبه باعتماد نظام غير ثيوقراطي وتعددي يضمن للمسلمين فرصا متكافئة في إدارة شؤونهم. إن الإنسان بحاجة لتعبئة وخلق فرص لتنشيط العقل، حتى لا يتعلم الكسل الذهني وتموت روح المبادرة والابتكار لديه. ويمكن للدين أن يلعب هذا الدور إذا توفر له إطار سياسي مناسب. وكما ورد في مناقشة الغرباوي لمشكلة الغلو (التعصب) إن الفهم الخاطئ للثواب والعقاب والصبر والتسليم يقود للحد من التغلب على الواقع. ثم يستشهد بمقولة ماركس المعروفة: هكذا يتحول الدين إلى أفيون (ص243).

ومع أن هذا الكلام لا غبار عليه، لكن منعا لسوء الفهم، لم يكن ماركس ضد الدين بحد ذاته، وإنما ضد أساليب تعبئة الدين. فقد مهد لتلك العبارة المجازية بقوله: إن التعاسة الدينية هي احتجاج على التعاسة الواقعية، والدين زفرة الإنسان المسحوق، وروح عالم لا قلب له،  كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح.

ومثلما نحن نجد فرقا بين الولاية الدينية والتولية السياسية، هناك فرق بين محاربة الدين والتعامل معه كنظام تفكير بشري يستند لسلطة لدنية (افتراضية).  فالماركسية كانت تقرأ قوانين الصراع بين طبقات المجتمع ومنهم رجال الدين (الإكليروس). وهي تجد أن إلغاء السعادة الوهمية التي تتوفر في الأديان هو المدخل لصنع السعادة الفعلية. إن معركة ماركس كانت مع ظروف الإنتاج المجحفة والأوهام المرافقة لها بصور ترفيهية رخيصة لا تساعد على تبديل واقع البؤس والحرمان. وهذا ينطبق على أي بيئة غير متوازنة سواء كان الدين موجودا أو غير موجود.

لقد كانت كل الروايات الأساسية في التاريخ هدفا للتجريح أو المبالغة. ولم تنج الماركسية من مؤاخذات مضحكة وتدعو للشفقة (بتعبير فراس السواح). ومثلها الرأسمالية، فهي بنظر كل حركات التحرر في العالم الثالث مصدرا للشر ولاستعباد واسترقاق الإنسان. ولكن المبالغة دائما تكون بالنص وليس في الحقيقة. فكل نظام لديه حسناته وسيئاته.

ويثبت الغرباوي هذه الفكرة من خلال الصور والبورتريهات التي رسمتها المذاهب لشخصية النبي. فقد وجد فرقا أساسيا بين ما ورد في الآية والرواية. كانت الآيات تؤكد على بشريته، في حين أن الروايات تعزو له العلم بالغيب وتميل للمبالغة وترفعه لصفات أسطورية (ص287). حتى أن الرواية صادرت على الآية، وبلغة الغرباوي حصرتها (اشترطت التمهيد للآية بالرواية). وهذا لا يختلف شيئا عن النكتة الماركسية المعروفة: أن هيغل جعل التاريخ يمشي على رأسه. والمنطق يعطي الأولوية لكلام الوحي لا للتفسيرات والشروح التي تترتب عليه.

ولذلك يتحتم علينا التدقيق في هذه الروايات. وإذا كانت من بين الأحاديث يجب التثبت من صحة صدورها، ثم مراعاة قواعد إضافية للتأكد من فعلية الأحكام وصحة المضامين (ص291).

ويختتم الغرباوي كتابه باقتراح عملي.

أن نقرأ النص ونعقله أولا، ثم نعود لمصادره. ففي زمن النقد الرجالي ورواية الآحاد لا تستطيع أن تضمن أن الإسناد ليس مزيفا. وكما قال جون ماكوري في كتابه (الوجودية): الوجود الحقيقي يفترض فك الارتباط مع الواقع الزائف والمشوه والذي هو نتيجة لاتفاقات يبرمها العقل الجمعي وانحرافاته (ص178)(9)..

 

كتاب: النص وسؤال الحقيقة.. لماجد الغرباوي

د. صالح الرزوق

....................................

هوامش:

1- منشورات دار الأمل الجديدة في دمشق، ومؤسسة المثقف العربي في سيدني. 2018/ 308ص.

2- Fowler’s Modern English Usage. Guild Publishing. London. 1985 

3- الكلمات والأشياء. فوكو. ترجمة بإشراف مطاع صفدي. مركز الإنماء القومي. بيروت. غاليمار. باريس. 1990.

4- شكري االمبخوت. الثورة الثقافية الثانية في تونس. ضفة ثالثة. 16 يونيو، 2018.

https://www.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2018/6/15/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3

5- أرنست غيلنر. ما بعد الحداثة والعقل والدين. ترجمة معين الإمام. دار المدى. دمشق. 2001.

6- مقالة في العربي الجديد لعلاء البحار. خريطة الفقر في السعودية تتّسع إلى 4 ملايين مواطن... وثروات النفط للأغنياء. مال و ناس. ص 12-13،عدد 19-8-2017.

https://www.alaraby.co.uk/economy/2017/8/19/%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D8%B3%D8%B9-%D9%88%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B7-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%BA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%A1

7- السعودية.. مملكة الفقر.

https://www.al-sharq.com/article/20/08/2017/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1

8- طه عبد الرحمن. الحداثة والمقاومة. معهد المعارف الحكمية. بيروت. 2007.

9- جون ماكوري. الوجودية. ترجمة إمام عبدالفتاح إمام. عالم المعرفة. الكويت. 1982.

* يجدر بنا تصنيف حركات التنوير في موجات. أول موجة هي التي مهدت للتخلص من سياسة الإمبراطورية العثمانية،  وثاني موجة هي التي تدعو للتخلص من حكم العسكرتاريا الوطنية (جنرالات المكاتب) لأن دورهم انتهى بانتهاء شعار تحرير كامل الأراضي الفلسطينية ومبدأ الكفاح المسلح. وضمن هذه الموجات توجد تيارات: أدبية (تهتم بتجديد اللغة والأسلوب)، وفكرية وحركية (وتهتمان بعلاقة المجتمع مع الحضارة والسلطة). وغني عن القول أن تأملات قاص وروائي مثل طه حسين، ستقود لتأملات كاتب مثل سعد محمد رحيم. بمعنى أن الليبرالية الوطنية ستقود المعركة باتجاه وطنية ليبرالية. وترتيب المفردات هنا يدل على أولوية في الاهتمامات. فالتيار الأول استعار أدواته من الغرب (طه حسين معروف باسم ديكارت العرب)، في حين أن التيار الثاني كان مهموما بتحرير أدواته من أي شبهات غربية. ولذلك كان اتجاه السهم متعاكسا. في أول حالة من الموضوع إلى الذات. بينما في الحالة الثانية من الذات إلى الموضوع. ولكن المشكلة الأساسية هي دائما في فرز التنوير من الإصلاح. وهنا تبدأ مشكلة التدين والخلطة العجيبة لمفهوم الإجبار في التكافل الاجتماعي مع المطالبة بمزيد من الحريات في مجال الحياة المدنية.  

 

.... من خلال تلك الأجواء الحداثوية والغربية الحرة نجد دعوات فكرية نقدية وثورية واصلاحية حرة ومتحررة تصدر من عقول مفكرين ومثقفين وكتاب عرب ومسلمين تنفسوا وعاشوا الحداثة بشكل يومي في الغرب، على مستوى البيت والمجتمع والمؤسسة والحياة والتفكير، وعلى أساس ذلك يحاولون نقل تلك الأجواء والأصداء الحرة الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، من خلال طرح مشاريع فكرية وثقافية تجديدية تحاكي الغرب وطريقته في التفكير والسلوك والنقد والثورة، ومن هذه الشخصيات والاسماء الفكرية المجددة يبرز المفكر والمثقف التنويري ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف العربي في أستراليا، وهو مفكر اسلامي تجديدي اصلاحي يبرز على الساحة الثقافية العربية والاسلامية اليوم، وذلك من خلال مشاريعه الفكرية الجديدة وطروحاته الفكرية المتنورة وكتاباته النقدية الجريئة، التي تحاول تفكيك التراث ونقده بآليات عقلية وفكرية حداثوية أقتبسها من محيطه وبيئته التي يعيشها في الغرب اليوم، وما كان للغرباوي أن يمارس النقد والتفكيك والتحليل والدعوة للإصلاح والتغيير لولا أجواء الحرية والحداثة والتغيير التي يتنفسها يومياً وهو في أرض الغربة، غربة عن وطنه وأرضه وأهله ومحبيه، ولكنه أستطاع بفكره ونقده وصبره تحويل تلك الغربة الى وطن، وتحويل هذا الوطن الى مؤسسة حرة وحيوية فاعلة يستظل فيها جمع من الكتاب والمثقفين والمفكرين التنويريين الذين يؤمنون بقيمة النقد ونقد النقد، والايمان بالآخر كقيمة الايمان بالانا والذات، وهذا ما أستطاع الغرباوي العمل عليه وتكريسه في مشروعه الفكري التنويري من خلال مؤسسة المثقف العربي الرائدة، التي استطاع من خلالها الغرباوي نشر طروحاته الفكرية من جانب، وتسويق فكره وكتاباته من جانب، وتأثيره على الكتاب والمثقفين من جانب آخر، وهذا ما يحسب له بصورة واضحة جداً، اذ كان بحق مؤسسة في رجل، واستطاع تجسيد تلك المؤسسة والافكار والنشاطات في سلوكه اليومي والثقافي ويشهد على ذلك الكثير، هذا من جانب غربة الوطن والمكان الذي أستطاع كسره وتجاوزه وتشييده لوطن يليق به ويعشقه، أما من حيث غربة الزمان والتاريخ، فأن الغرباوي لم يحاول الهروب من تاريخه وتراثه العربي والاسلامي والتمسك بتاريخ غربي جديد يريد تقليده وتمجيده، ولكن تاريخه ظل يرافقه طوال حياته منذ اللحظة الأولى لتشكيل وعيه وثقافته الى يومه هذا، ولكنه والحق يقال والذي يتضح من خلال سلسلة طروحاته وكتاباته الفكرية أنه نظر لذلك التاريخ والتراث بعين ثانية غير التي كان ينظر بها اليه وهو يعيش في البلاد العربية والاسلامية، فالفرد منا حين يفكر ويكتب يكون أسير المكان والزمان الذي يعيش فيه ولا يستطيع تجاوزه والقفز عليه بجرأة وجدية.

لقد استفاد الغرباوي من الأجواء الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها في مجتمعه الغربي وحاول الاستفادة من تلك الأجواء للتفكير بهدوء في نقد المنظومة الفكرية والدينية الاسلامية ومحاولة تهذيب وتشذيب الكثير من الافكار والآراء التي علقت في فهم تراثنا، ونزع القداسة مما لا يستحق التقديس، وكشف الأقنعة والزيف المحيطة بكثير من النصوص والمعتقدات، وتعرية الخطاب الديني والسياسي، وبيان مدى التشابك الحاصل بين الأثنين لعقد الصلة بينهما لتحقيق المزيد من الهيمنة والتسلط، وتحقيق عوائد وأرباح طائلة من تصالح السلطتين معاً، وهذا ما أدى الى وجود دكتاتوريات فكرية وثقافية ودينية لا تقل عن الدكتاتوريات السياسية الحاكمة، بل للأولى قصب السبق في تأييد ودعم دكتاتورية الحكام والاحزاب والسلطات الحاكمة، من خلال تقديم سند ديني وشرعي لاستبداد الحاكم والسلطة السياسية المهيمنة، وقد لعب وعاظ السلاطين دورهم الكبير على مر التاريخ لتحقيق ذلك الهدف المقيت.

لقد عمل الغرباوي في العقود الأخيرة من فكره وحياته على زيادة مستوى النقد والثورة على الخطاب الديني والسياسي المهيمن على الساحة الاسلامية، وذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة في هذا المجال، ونذكر منها على سبيل المثال : (اخفاقات الوعي الديني) و (الضد النوعي للاستبداد) و (جدلية السياسة والوعي) و(مدارات عقائدية ساخنة) وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني)، وغيرها من الكتابات، وفي هذه الكتب والحوارات نجد الحضور الكبير للمشروع النقدي للغرباوي، والذي يفكك فيه الكثير من قضايا التاريخ والتراث والدين والسياسة والأيديولوجيا والمعرفة، ويكشف عن مستوى التحريف والتزييف في مستوى الوعي الديني للجماهير، من خلال سلطة الفقهاء وزيف التراث، والمنهج اللاعلمي السائد في سرد الروايات والنصوص وفي معالجة الافكار. وهناك وعي جديد ومتقدم في كتابات الغرباوي الأخيرة تختلف عن وعيه السابق في كتاباته الأولى، وهذا ما يلاحظ على فكره وكتاباته المتأخرة.

*** 

ا. د. رائد جبار كاظم

أستاذ الفلسفة، الجامعة المستنصرية، بغداد

شهادة ضمن دراسة له عن كتاب: النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعية التفكير الديني، المنشورة في المثقف على الرابط أدناه:

https://www.almothaqaf.com/readings-2/932113

 

النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني، كتاب صدر حديثا لماجد الغرباوي رئيس مؤسسة المثقف العربي، يندرج كما يقول كاتبه ضمن مشروع نهضوي طموح لاستعادة وعي الفرد، بعد نقد العقل الديني ومرجعياته المرتهنة في معارفها لقدسية التراث وأوهام الحقيقة، بعيدا عن المناهج العلمية والكشوفات المعرفية الحديثة. فهو كما يقول يبحث في كيفية اشتغال النص وفرض حقيقته ومحدداته، خاصة التبسا المقدس بالمدنس، والديني بالبشري ، كما يهدف الموضوع إلى استعادة الوعي من أجل نهضة حضارية تستعيد بها الإنسانية قوتها ومن خلالها  تستنشق رحيق الحرية.

ليس  بمقدورنا الإطلاع على مضمون الكتاب ولكن من خلال العنوان نلاحظ أن المؤف سلك منهج العديد ممّن خاضوا في مثل هذه القضايا والإشكاليات، لاسيما مرجعيات التفكير الديني، والخطاب الديني، وإعادة قراءة النص الديني وتحليله، وقضايا أخرى تتعلق بتحرير العقل العربي والإسلامي، بعيدا عن سطوة التراث وسيطرة الرموز الدينية، هذه الإشكاليات قد تتحول إلى ثورة. نقول ثورة دينية لتنبيه البشرية كلها، لا نقول العرب والمسلمين ولا المسيحيين أو اليهود، لأن التفكير الديني مرتبط بالنص الديني، وهذا النص يختلف في مضمونه من دين لأخر، فما تراه اليهودية مثلا مباحا تراه الأديان الأخرى محرما. كما قد نجد في النصوص الدينية قاسما مشتركا في بعض القضايا، خاصة وفي ظل سيادة نزعة التديُّن، تواجه البشرية اليوم معركة العقيدة في عالم متحضر، أصبح الإنسان  (ا الغير متدين) لا يؤمن بالتراث ويرى أنه لا جدوى من الإنشغال بالأمجاد الضائعة، لأن العولمة تعمل على خلق شعوب عالمة، أي شعوب بلا هوية ولا انتماء وبلا عقيدة، قد تجبرها وبأسلوب حضاري على الإنفصال عن كتبها المقدسة .

74 majed600

الصراع اليوم ليس صراعا بين المثقف والسلطة، فقد اندمج هذا الأخير في السلطة، وأصبح ينفذ ما يمليه عليه أصحاب القرار، الصراع اليوم هو صراع بين المثقف والكنيسة، صراع بين المثقف والمسجد. هو صراع بين الديني واللاديني،  كيف نفهم هذا الأخير كيف يفكر وكيف يمكن إقناعه بوجود إله خلق هذا الكون، كيف يمكن أن نحاوره؟.

 إن رجل الدين أو رجل السياسة أو المثقف هو رجل يملك جانبا فكريا وثقافيا ودينيا، والأمر ليس بالسهولة والبساطة عندما يرتقي واحد من هؤلاء الثلاثة (رجل الدين ورجل السياسة والمثقف) في سلم الحقائق، وبخاصة الحقائق الدينية والإجتماعية والنفسية، وقد ذهب الدكتور محمد جابر الأنصاري في نقده واقع العقل العربي إلى أبعد الحدود، لدرجة أنه لامس الخطوط الحمراء، وكسر كل الطابوهات بجرأة وشجاعة عندما شرع يبحث عن الحقيقة والتعامل مع المنطق والواقع، وقد وضع كل أفكاره وتصوراته في كتاب تحت عنوان: "رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية"، أراد به أن ينير الطريق لفكر متنور وبعقلية المفكر العصري المفتوح.

 والساحة الدينية كما يقول المفكر الجزائري محمد أركون لا يمكن أن تنفصل عن الساحات الأربع وهي الساحة الفكرية، السياسية، الاقتصادية والثقافية، كون هذه الساحات الخمس تشكل كلية الفضاء الاجتماعي، والدين أو الأديان في مجتمع ما، عند محمد أركون هي عبارة عن جذور، فلا يمكن لأيّ باحث أو مفكر أن يفرق بين الأديان الوثنية وأديان الوحي، ويرى أن التفريق أو التمييز هو عبارة عن مقولة  تيولوجية تعسفية، كما يرى أن النظرة العلمانية للأشياء وللنصوص الدينية تعلن بأنها تذهب إلى أعماق الأشياء، إلى الجذور من أجل   تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلا ودقة، ويذهب المفكر الجزائري محمد أركون بالقول:  لا نريد أن نقلب كل شيء رأسا على عقب، وإنما نريد أن نعيد النظر والتقييم لكل شيء من خلال نظرة أخرى جديدة، ليس بالضرورة أن تكون هذه النظرة نقدا للمرجعيات، وإن كانت أفكار محمد أركون قد تختلف مع أفكار رجل الدين، فهو يؤكد موقفه بأن كل الأديان قدمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات، وإنما أيضا الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والاستخدام مباشرة فيما يخص علاقة الإنسان بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي.

 أما مالك بن نبي فكان له رأي آخر، فهو درس الإشكاليات من منظور هندسي إذ يقول: إذا رسمنا الخريطة ألإيديولوجية نجد عليها لون المجوسية أو لون الديانة الفارسية (إيران)، ولون البوذية والبرهمية أو الهندوكية كما يسمونها، والمسيحية واليهودية، ونقطة مغمورة في الكون هي مكة نقطة الإسلام، ويضيف: لو أردنا أن نرسم خريطة جديدة للإسلام، نجد أن البوذية قد شطب عليها قلم ماوتسي تونغ، فمحاها من الوجود، أما المجوسية فقد محاها عمر  يوم القادسية،  أما البرهمية فقد محتها ظروفها الخاصة دينا لا ثقافة، فهي كتراث ثقافي ستبقى إلى أجل لا ندرس مداه، مع تجنب التكهنات، وأما كدين فقد انتهت وانتهى دورها. والمسيحية مرت بتطورات غريبة وأصبحت تعاني  من مشكلات تعبر عن ظروف خطيرة، بمعنى أن المسيحية بدأت تفقد المبررات لمعتنقيها لاسيما الشباب والمرأة، يبقى اللون الإسلامي في الخريطة الإيديولوجية وهو يمثل الخط الموازي  كأنما الله يهيئ القاعدة التاريخية الإجتماعية لتحقيق الآية الكريمة من سورة الصف: (هو الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله.

***

قراءة: علجية عيش – كاتبة وصحفية جزائرية

................

للاطلاع

النص وسؤال الحقيقة.. لماجد الغرباوي كتاب جديد عن مؤسسة المثقف

 

 

 

 

مقدمة: إنّ الحديث عن فرص التسامح والتعايش بين الأديان والثّقافات والسعي إلى بعث قيم التسامح من جديد من بين المواضيع التي تشغل الساحة الثّقافية العربية والإسلامية بشكل كبير خاصّة في أيامنا هذه، بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، فقد أصبح هذا الموضوع رأيا عاما خاصّة في ظل تصاعد وتيرة الحروب الثّقافية وتفشي ظاهرة الخطابات التكفيرية التي أصبحت هاجسًا خاصّة للدول الضعيفة، وهذا ماحدى بالدول العربية والإسلامية إلى تكثيف الجهود أكثر سعيًا للحفاظ على الهوية الإسلامية وترسيخ قيم الفكر الوسطي وقبول الآخر بإقامة ملتقيات وعقد ندوات للبحث والتخابر في سبل إماطة اللّثام عن المخبوء في علاقته بالقوى العالمية الامبريالية التي تحاول إلصاق التهم بهويتنا الإسلامية، فالتحول الاستعماري اليوم أخذ سبلاً جديدة ووسائل عديدة مختلفة عن تلك التي عهدناها مع الاستعمار التقليدي المباشر.

لقد تغيّر السباق من مضمار التسلح إلى مضمار السيطرة الثّقافية، لتصبح الثقافة السائدة هي الثّقافة الغالبة، والثّقافة التابعة هي الثّقافة المستلبة من طرف الثّقافة الغالبة، وهو حال ما نراه اليوم من تلك العولمة الفكرية والاستلاب الثّقافي لبنية الهوية الإسلامية التي تشهد غزوًا رهيبًا لمقوماتها من طرف الثّقافة الغربية التي تحاول ربط الفكر التكفيري بتاريخنا، بطرق وأسالب متعددة ومتنوعة خاصة مع تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة الأمر الذي زاد من وتيرة هذا الغزو المنظم في نظامنا الاجتماعي والسياسي ناهيك عن نسقنا الثقافي الفكري المبثوث في نصوصنا التراثية، خاصة في ظل التحول العالمي إلى نظام القطب الواحد وبالتّالي الثّقافة الواحدة إثر بروز معالم النظام الدّولي الجديد بداية من تسعينيات القرن الماضي.

من خِلال ما سبق سنُحاولُ في هذه الورقة البحثية اماطة اللثام عن ما قدمه المفكر العراقي ماجد الغرباوي في هذا الاطار باعتباره مثقفا تنويريا درس التراث بطريقة جديدة، من أجل تحرير العقل الاسلامي من قيد التراث. وعمل على ارساء قيم التسامح والحرية وقبول الآخر. هذه الخطابات التي يفتقدها عصرنا اليوم خاصة ونحن في زمن الحروب الثقافية وسطوة المركزية الغربية الساعية بقوة إلى الفتك بتراث وتاريخ الهوية العربية والإسلامية وذلك من خلال أليات العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، والتي باتت تفرض علينا فرضا في اطار الحوار الحضاري وعمليات التّثاقف والاستيراد القسري لتلك الانظمة الفكرية التي لا تمت بأي صلة لهويتنا الحضارية والثقافية فضلا عن الدينية، وهو ما أحدث ردة فعل عنيفة تمثلت في تفشي الخطابات التكفيرية والغلو والتطرف. وهنا نسعى لبيان بعض الحلول التي قدمها ماجد الغرباوي والتي نرجو من خلالها بث روح التسامح ونشر الخطاب الفكري الوسطي الإسلامي الصحيح.

نحو طرح اشكاليات التّعايش بين الأديان والثّقافات:

يُعتبر الحديث عن التّعايش بين الأديان والثقافات أحد أبرز الاشكاليات التي باتت تطرح نفسها اليوم، خاصة وأن عصرنا أصبح يتخبط في نوع من التيه الكبير بسبب عدول الإنسان عن التمسك بالبوصلة الربانية، فضلا عن علو صوت الخطابات التكفيرية المنتشرة هنا وهناك وهو ما زاد من حدة الصراع بين الثّقافات والأديان، هذا الموضوع الذي أصبح يؤرق الحكومات ويقض مضاجع السياسيين فضلا عن المفكرين المشتغلين بهذا الميدان لعل على رأسهم المفكر العراقي ماجد الغرباوي، فأمام موجة الاختراقات الفكرية من خلال نظريات عنصرية تروج للعنف وتعمل على تفكيك أواصر قيم التعايش والتسامح تطرح العديد من الأسئلة كيف لنا أن نرسي قواعد التّسامح والتّعايش في عالم يسوده الكره والحقد؟ وما السبل والأدوات الكفيلة للتصدي للسياسات الغربية التي تتعامل بها مع الدول العربية والإسلامية والتي تسببت في ظهور موجة العنف والغلو؟ وهل يمكن الحديث عن نوع من التّوافق الحضاري والديني في كنف التعددية الثّقافية والإنسانية؟.

جميع هذه الأسئلة المثيرة تطرح نفسها وبقوة في فكر ماجد الغرباوي الذي عمل وبشدة على فك شفراتها وايجاد الحلول المناسبة لها لتحقيق قيم التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات.

الآخر في التراث ودوره في النهضة المنشودة

هل كان لتواجد الآخر في تراثنا العربي الإسلامي دور في النهضة وبأي صورة كان وجد هذا الآخر؟ وما الضوابط والمنطق الذي حكم تواجده؟. سؤال نستهل به سبر بحر آراء ماجد الغرباوي وحديثة عن التّراث ومكان الآخر فيه وفرص التعايش التي حضي بها وكيف كان دوره في بناء نسيج الحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يطرح أسئلة عميقة عن حقيقة تواجد الآخر في تراثنا العربي الإسلامي ودوره في النهضة المنشودة.

يعتبر مفهوم النهضة والفعالية الحضارية عموما وسبل قيامها أحد أبرز الموضوعات التي اشتغل عليها كبار مفكرينا بالوطن العربي والإسلامي ومنهم الغرباوي. فهذا المفهوم من المفاهيم الجدلية التي تستعصي على الباحث لتداخله مع العديد من العلوم خاصّة علم الاجتماع وتطرح العديد من الإشكاليات المتداخلة التي يتخبط فيها عالمنا العربي والإسلامي الذي يرزح تحت وطأة الفصل بين الحياة الاجتماعية وتوجيهات الدين وهو ما أكده ماجد في ارجاعه أن السبب الحقيقي يعود إلى "قطع خيوط التواصل بين العقيدة والحياة الاجتماعية. فعقيدة التوحيد التي كان يعيشها الانسان المؤمن في بدايات البعثة الشريفة ممارسة حياتية يومية تطبع سلوكه واخلاقه، صارت تدور في مدارات عقلية بعيدة عن هموم الحياة ومتطلباتها"(1).

أمام هذا الخطاب نتبين مدى الأهمية الكبيرة لأثر العقيدة في تنظيم سير حياة المسلم فما إن تهنا عن الطريق تاهت حضارتنا وأصبحت تحكمها الشهوات وابتعدنا عن روح الإسلام السمح الذي يحث على بعث روح التعايش ونبذ العنف، وهو ما جعل غياب الأفكار الداعية للتجديد والتسامح تغيب بشكل كبير لتحل محلها خطابات الغلو والتطرف وبالتالي فقدان روح الانبعاث النهضوي.

يعرف المفكر الجزائري مالك بن نبي الحضارة بقوله: "إن حضارة ما، ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج الأصلي لحضارته، إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي، يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى"(2) . وبتتبعنا لهذا القول المقتضب للحضارة يتبين لنا المرتكزات الأولية لبناء الحضارة من شروط روحية وأخرى مادية تحقيقا لتلك الفعالية المنشودة " مجموع منسجم من الأشياء والأفكار، بصلاتها ومنافعها وألقابها الخاصة وأماكنها المحددة، ومجموع كهذا لا يمكن أن يتصور على أنه مجرد تكديس، بل كبناء وهندسة، أي تحقيق فكرة مثل أعلى" (3) .

تجديد الخطاب الديني وفرص بعث التّعايش من جديد:

لطالما أكد ماجد الغرباوي على ضرورة تجديد الخطاب الديني الإسلامي فهكذا بوسعنا حسب ما ذكره أن نقيم نوعًا من الحركية الحضارية نحو تجديد بعث الخطاب الديني من جديد لتشمل النهضة جميع المجالات من فكر واقتصاد وسياسة وغيرها من المجالات، ليكون للفرد المسلم الدور الأبرز في هذا الحراك مستغلا الوسائل الضرورية لتفعيل حركة التاريخ وهندسة دورة الحضارة القائمة على التراث ومدى تواجد الآخر فيه بما يتلاءم والمعطيات الحضارية الموجودة بعيدا عن فكرة التكديس التي لم يكن لها وجود على مستوى الحضارة الإسلامية أيام الأندلس مثلا باعتبارها نموذجا تراثيا عالميا شهدت دورا كبيرا للآخر ومدى اسهاماته في قيام الحضارة الإسلامية، والتي ما كانت لتكون لولا فرص التسامح والتعايش التي قدمها الإسلام لهم، حيث كان التمازج الثقافي مع الآخر والعطاء العلمي والفكري في أوج ذروته وهو ما ذكرته المفكرة والفيلسوفة الألمانية زيغريد هونكه بعرضها لتلك النماذج التراثية العالمية التي قدمت الكثير للحضارة الإنسانية على اختلاف ثقافاتهم وتنوع مللهم ونحلهم.

ولكن بعد حين من الزمن انقلبت البوصلة الحضارية فلقد تعرض الإسلام والمسلمون في السنوات الأخيرة لحملة ظالمة من الافتراءات والمزاعم التي أرادت أن تلصق بالإسلام تهم التعصب والإرهاب، وترويع الآمنين، ورفض الآخرين، وغير ذلك من دعاوى لا أصل لها في الإسلام ولا سند لها من العلم ولا من الواقع التاريخي.

فالحضارة الإسلامية التي انطلقت من تعاليم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان قد ضربت أروع الأمثلة في التسامح والتعايش الإيجابي بين الأمم والشعوب من مختلف الحضارات والثقافات والأديان والأجناس، ولا تزال هذه التعاليم الإسلامية حية وقادرة على صقل عقل الأمة وتوجيه سلوكها وتعاملها مع كل البشر في كل زمان ومكان بعيدا عن خطابات الغلو والتطرف المقيتة وهو ما عبر عنه ماجد بقوله "خطاب الغلو نجح في ترسيخ بديهيات عقيدية، من خلال منهج مراوغ، يعتمد الاستدلالات الساذجة، ويستغل رثاثة الوعي، وانحطاط الثقافة، والبيئة المثيولوجية، فيشاغل وعي المتلقي بمضامين غرائبية خرافية عن الرموز الدينية، يغفلون معها سؤال الحقيقة. أي السؤال عن ذات الرمز وحقيقته قبل الحديث عن خصائصه ومعجزاته وكرامته. فعندما يشاغل النص الوعي الرث بأحاديث خارقة، مذهله، غرائبية لا يلتفت لسؤال الحقيقة، بل تصبح لديه منظومة بديهيات، ومبادئ عقيدية مسلّمة، تندرج ضمن اللامفكر فيه، والمقدس، الذي يحرم مقاربته، فضلا عن نقده. هذه البديهيات هي التي تمرر روايات الغلو، لتراكم مزيدا من المعرفة المشوهة، العقيمة"(4) .

فهذا هو الخطاب الديني المقيت الذي يدعو إلى ركود العقل والأخذ بالنص بكامل حذافيره دون إعمال للعقل أو الاعتناء بما يسمى بفقه الواقع ومتغيراته الثقافية والحضارية، وهنا يتم تغييب الدور الحقيقي للمثقف الحر الواعي وهو ما جعل ماجد يقول: "وباختصار إن الأمة بحاجة أولا إلى وعي رسالي تتجاوز به أزمتها، كي تتمكن من تحدي الممنوع، ولا يتحقق لها ذلك إلا بإعادة تشكل وعيها داخل فضاء معرفي، يستظل بمرجعيات تجدد باستمرار فهمها للنص الديني، في ظل المستجدات الحياتية المتأثرة بالظروف الزمانية والمكانية"(5).

فما إن تم تغييب دور المثقف برزت اثر ذلك خطابات الغلو والتطرف وانعدمت قيم التسامح والتعايش تلك القيم الإنسانية السامية التي لطالما دعا ديننا الحنيف وسنتنا النبوية إليها انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾"(6) فإذا ما تم تغييب هذا الشعار فإن الفوضى والتشتت والحروب والغلو وشتى أصناف التطرف سيكون سيّد الموقف ولذلك لابد من تجديد الخطاب الديني وبعث سبل التسامح و التعايش فيه من جديد بعد كل هذا السبات العميق الذي ميز خطابنا الديني وهو ما يجعلنا نبحث في سبل تجديد تراثنا وبشدة.

تجديد التراث وسبل بعثه من جديد عند ماجد الغرباوي

يولي ماجد الغرباوي موضوع تجديد التراث أهمية كبيرة لما للتّراث من دور كبير في حفظ الهوية العربية الاسلامية خاصة وأنه يمثل الانطلاقة الأولى لأي نهضة فقد كان ماجد الغرباوي يطمح إلى انشاء استراتيجية نهضوية نابعة من تراثنا الديني تعترف بأهمية تواجد الآخر ودوره في اثراء الحضارة الإسلامية النائمة على فكرة التعددية الثقافية فالتراث منبع وأصل الهوية بدونه نفقد مقومات وجودنا فالهوية هي: "مركب من المعايير، الذي يسمح بتعريف موضوع أو شعور داخلي ما. وينطوي الشعور بالهوية على مجموعة من المشاعر المختلفة، كالشعور بالوحدة، والتكامل، والانتماء، والقيمة، والاستقلال، والشعور بالثقة المبني على أساس من إرادة الوجود" (7).

ولعل هنا يبرز كنموذج كبير لخطاب التعددية الثقافية نموذج العصر الأندلسي ذاك العصر الذهبي الذي تميز بانتشار كبير لمختلف التيارات الفكرية والدينية ورغم ذلك سادت قيم التسامح وكان الحب والتّعايش سيد الموقف فكان يعيش المسلم جنب اليهودي دون ترهيب أو تقتيل وهو ما جعل ماجد الغرباوي يدعو وبشدة إلى ضرورة تجديد التراث قائلا "ينبغي اعادة النظر في الوعي الذي تكون في اطار بعض النصوص الدينية والمرويات التاريخية" (8). وقد ضرب ماجد الغرباوي في ذلك مثالا بارزا في خطاباتنا التراثية وهو نموذج ما يسمى بالفرقة الناجية الذي يشكك بصحته دائما. حيث يقول بأن هذا الحديث: "لعب دورا كبيرا في تشظي الأمة، والإصرار على احتكار الحقيقة ورفض كل الفرق والمذاهب التي تحتفظ بوجهات نظر اجتهادية مخالفة، حتى بات الجميع إلا ما ندر يعتقد بخطأ المخالف مهما كان نوعه"(9). وهذا ليس من روح الإسلام السمح الذي يحترم باقي الأديان أو مختلف التوجهات الفكرية ويدعو إلى تعددية ثقافية في كنف الامة الواحدة.

لقد كان ديدن الإسلام منذ ظهوره قبل أربعة عشر قرنا من الزمن يرغّب أهل الكتاب من غير المسلمين بالإسلام داعيا إلى مكارم الاخلاق ومثمنا إياها لذلك شاعت حينها خطابات تحث على افشاء الخير ودحر نوازع الشر وخطابات التكفير البغيضة فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الناس معادن في الخير والشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)(10).

يقول ابن حجر رحمه الله: قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)، وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته؛ فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفاً في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس؛ فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية (11). وفي هذا يقول الإمام النووي رحمه الله: ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس (12).

لكن عصرنا اليوم انقلبت فيه كل الموازين فخفت الوعي بمدى أهمية التسامح والتّعايش بين الأديان المختلفة وهذا ما يدعوا إلى ضرورة الوعي العميق بضرورة ابراز مثل هذه النماذج الدعوية لإعادة الأمور إلى جادة الصواب وحصر خطابات الغلو والتطرف فحسب ما ذهب إليه ماجد الغرباوي أنه "من دون الوعي لا يمكن تنطلي مؤامرات التزوير على الواقع والتاريخ والدين والحقيقة. ومن دون الوعي لا يمكن النهوض بمشروع حضاري مستقبلي يعتمد مرجعية فكرية وثقافية، مؤسس في ضوء المبادئ الإسلامية. إذن فالوعي أساس في نجاح المشروع الإسلامي، وهو من مهام المثقف الرسالي، الذي ينهض بهذا الدور، انطلاقا من مسؤوليته في تكوين عقل الأمة وتجديد هويتها الثقافية" (13) تلك الهوية الثقافية التي تعاني منذ زمن بعيد تيها كبيرا غياب العقل وسلب الإرادة وأفشى نوازع الغلو والتطرف، وهو ما جعلنا نغيب عن الساحة الحضارية بالعالم فلا دور لنا إلا تلقي الأوامر وتطبيقها بحذافيرها من طرف القوى العالمية فلا اهتممنا بتراثنا ولا بواقعنا الراهن فبتنا مأسورين مدحورين مقيدين لا حراك لنا وهو ما يدعونا إلى ضرورة التساؤل عن ما موقع المثقف الواعي من كل هذا.

دور المثقف الواعي في ايجاد فرص التعايش:

قديما قال الشاعر:

اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر... ظل قوم لا يدرون ما الخبر.

بيت شعري على قلة حروفه لكن معانيه تحمل الكثير من الدلالات والسياقات التاريخية والحضارية التي تختزل العديد من الملامح المشكلة لتطور الأمم، لتميط لنا اللثام مبرزة تلك الملامح الكاشفة لبواطن ما اكتنف التاريخ من أحداث

وصراعات بشرية، مشكلة بذلك منعرجات حضارية خطيرة رفعت أمما عاليًا في السماء وأسقطت أخرى أرضًا في حين أخرجت الكثير من سياقها تمامًا معلنة أن لا مكان لها على الركح الحضاري لتحولات العالم وسياقاته، فالركح يا سادة شعاره "كن أو لا تكن" حكر على الأقوياء لا مكان فيه للضعفاء والجدير فيه بحمل وسام البطولة الحضاري من يثبت وجوده لا استسلامه.

يقول ماجد الغرباوي "ثم إن المثقف الإسلامي وعى الإسلام وعيا حضاريا اعتمادا على التراث وليس منفصلا عنه، من دون أن يعيش وهم الماضي، بل ينطلق منه لبناء المستقبل، فيستمد منه القيم لتكون أساسا في ممارساته الاجتماعية والسياسية، فلا يشعر بالغربة من القيم السائدة، وإن كان من ضمن اهتماماته إلغاء ما هو غريب عن قيم الإسلام والإنسانية" (14). فهذا هو جوهر الإسلام القائم على الجد والاجتهاد والوعي العميق بالتراث ودوره في الحراك الاجتماعي القائم على التعدد والتنوع وهو ما يفتح اشكاليات قيم التسامح والتعايش على مصراعيها وهنا يبرز الخطاب الواعي للمثقف الإسلامي الذي يحسن التعامل مع هذه الإشكاليات.

إن تكريس مفاهيم وقيم التسامح والدعوة إليها منهج متأصل في نصوصنا القرآنية وسيرتنا النبوية وكان للمثقف الإسلامي الواعي الدور البارز فيه وفي هذا تحدث ماجد كثيرا عن فكرة التعددية الثقافية وفق الرؤية الإسلامية التي تختلف اختلافا كليا عن مثيلتها الغربية. فالتعددية الثقافية وفق النظرة الغربية كما يرى ماجد الغرباوي "قامت باختزال الدين إلى مجرد تجربة روحية باطنية بمعزل عن الحياة يستطيع أن يعيشها كل إنسان، وفصلت ما بين الشريعة والدين" (15) وهو ما يعترض عليه المثقف الإسلامي الواعي وبشدة فديننا يتدخل في كامل تفاصيل حياتنا اليومية بل هو البوصلة التي توجهنا وتسير حياتنا بوعي وتبين لنا سبل التعامل مع الآخر وكيفية التعامل مع اشكاليات التعددية الثقافية التي لطالما أستفاض ماجد الغرباوي بالحديث عنها في مختلف كتبه.

وهو نفس الأمر الذي ذهب له المفكر المصري محمد عمارة بحديثه عن التعددية الثّقافية ودور المثقف في ايجادها حيث يرجع محمد عمارة أصول قيم التعددية الثقافية إلى السنة النبوية بالضبط في ميثاق المدينة المنورة التي اعتبرها عمارة بمثابة "الإعلان الإسلامي عن شرعية ومشروعية التعددية الإسلامية في هذه المساحات من الفكر وتطبيقاته وفي الأدوات اللازمة لذلك ومنها التنظيمات . تلك هي سنة الإسلام التي شرعت وقننت لمبدأ التعددية في الفكر الإسلامي وفي الممارسات الإسلامية منذ صدر الإسلام والتي بناء عليها وتطبيقا لمنهجها كانت تيارات الاجتهادات الإسلامية مصدرا لثراء الفكر الإسلامي على عهد الازدهار الحضاري الذي سبق عصر التراجع والجمود" (16). ولعل هذا يحيلنا إلى تساؤل آخر أكثر عمق هو كيف لنا أن نخرج من شرنقة ذلك الجمود والانسداد التاريخي الذي جثم على صدر الأمة لمدة طويلة جدا خاصة في ظل التخبط الكبير الذي يعاني منه سواء العالم الإسلامي أو العالم أجمع لعل ذلك الترياق نجده في الهدية النبوي في سنة التخلية قبل التحلية، ففي الهدي النبوي يوجد ما يسمى بالتخلية قبل التحلية ومن ثم يتحتم علينا تنقية الجو الاجتماعي العربي والإسلامي من الشوائب التي تشوبه وتعكر صفو عالمية رسالتنا القائمة على التعددية الثقافية والإنسانية، ومختلف قيم التسامح والتعايش بين مختلف الثقافات والأديان كحق انساني مشروع، ومن ثم يأتي دور التحلية فيتم التركيز على بعض الأمور المهمة التي تستلزم منا زرع قيم فرص التسامح والتعايش من تعددية ثقافية ودينية في اطار الأمة الواحدة، علما أن مثقفنا الإسلامي الواعي يملك كل المقومات والأسس لذلك انطلاقا من البوصلة الربانية والهدي النبوي القويم.

ولذلك لما غاب الوعي الحقيقي لدى المثقف بمجريات فقه الواقع فغاب عنا الفقيه الرباني الذي يحسن التعامل مع متغيرات العصر ومتطلبات المعرفة الجيدة بخبايا متغيرات النص أمام الأسئلة الفقهية الجديدة التي تطرحها التعددية الثقافية حيث يقول ماجد الغرباوي "في ظل هذه الظروف تشكيل عقل المسلم، وأعيد فهم الدين من خلال قوالب جديدة، فأصبح الدين مجرد علاقة خاصة بين العبد وربه، لا صلة له بالحياة الاجتماعية. ولما سارت تلك النظرة إلى الفقه، تقوقع في دائرة الفردية، واخذ الفقيه يفكك بين الموضوعات ويفتي بمعزل عن مقاصد الشريعة وغاياتها، ففقدت الأحكام بالتدريج مداليلها الاجتماعية، بعد أن اعتبرت الفرد وحدة مستقلة لا تربطه أي علاقات أو وشائج اجتماعية. بل تطور الحال إلى حد عجز معه الفرد أن يحدد موقفه من بعض القضايا الحياتية المهمة في ضوء الشريعة، لأن الفقيه لم يتصد للفتوى في تلك المجالات" (17) وهنا يبرز لنا ذلك النموذج الرباني الامام الماوردي الذي عرف بمعرفته الشديدة كفقيه بمدينة البصرة المعروفة لتعدديتها الثقافية وتواجد مختلف الثقافات بها حيث كان الفقيه الوحيد تقريبًا من يحسن وفي ضوء الشريعة ايجاد الفتوى الملائمة لتلك القضايا العويصة الشائكة.

ولذلك فإن مسؤولية المثقف الإسلامي اليوم كبيرة تجاه المنظومة الفكرية الغربية التي تروج لنوازع العداء ونشر قيم التطرف من مثل قول برنارد لويس: "إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية الإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعات خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا" (18)

أمام هذا الخطاب الشديد العدائية فإنه يتعين على المثقف العربي والإسلامي العمل من أجل تغيير تلك الصورة النمطية لنا تجاه الآخر الغربي وإزاحة الغشاء الذي يعمي بصيرتنا عن انماط الاستعمار الجديد الساعي إلى نشر الفوضى بأوطاننا وجعلها معادلا موضوعيا لكل ما يمت للهوية الإسلامية بصلة .

فالخطابات الثقافية الغربية التي راجت أثناء وبعد ثورات الربيع العربي تكشف عن تلك الرسائل التي تمرر من خلالها تلك النظرة الفوقية المشبعة بالمركزية الغربية Central Western التي رسمها الاستشراق التقليدي، ويعمل الاستشراق الجديد على ترسيخها حاليا، لترتسم في أذهاننا بأن خلاصنا مرتبط ببرنارد ليفي ومن قبله لورنس العرب... وغيرهم، وكأن مجتمعاتنا العربية لا تتعلم من التاريخ، فإذا بنتائج ذلك انتشار رهيب لخطابات التكفير وشيوع الخراب والدمار بالكثير من هذه الدول، ولعلّ هذا ما جر المفكر الفلسطيني الأمريكي إلى القول في كتابه "تمثيلات المثقف": "من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر" (19) .

وبعودة قليلة عبر الزمن إلى الوراء بالضبط إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ذاك الحادث الذي أحدث بلبلة كبيرة بالعالم وغير مجريات وموازين كثيرة بالعالم وزادت من حدة الصراع بين الإسلام والغرب فانتشرت الإسلاموفوبيا إلا أنها علمتنا ان التعايش أمر ضروري ومطلب ملح لدى كافة الأديان وفي هذا يقول ماجد الغرباوي "نبوءة هنتنغتون فهي وإن قامت أساسا على رؤية لتاريخية الصراع بين الحضارات، إلا أنها انتهت بالعودة إلى الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من التاريخ، لابد من تعايش بين الحضارات، وفهم أعمق للفروض الدينية والفلسفية لكل منها، ودعوة لتحديد العناصر المشتركة بين الحضارات، تمهيدا للتعايش والتواصل الذي لا بديل له. إنه لدرس بليغ أن تنتهي أعتى النظريات التي تؤصل للصدام إلى التأصيل للتعايش وتحقيق القدر الأكبر من الوئام" (20).

ولذلك لابد على المثقف الإسلامي الوعي نشر اهمية منح فرص التعايش بين الأديان وتبني روح التسامح لدى المجتمعات المختلفة مهما وصلت حدة تلك الاختلافات فالتسامح tolerance يعني الاستعداد الذاتي لاتخاذ الموقف المتسامح دون أيه ضغوطات أو اضطرار، لا يمكن اعتبار التسامح فضيلة إلا عندما يمكن للشخص ألا يكون متسامحاً. فهو قريب من مفهوم "العفو". والقول المعروف "العفو عند المقدرة من شيم الكرام" يشير إلى المقدرة على العفو، وليس في مقدرتنا أن نتحدث عن موقف متسامح في تراثنا الإسلامي في حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفي موقف ضعيف، أن يتحمل الآخرين، وهذا الشخص الذي يتحمل الظلم فإنه، في حال الضرورة ووفقاً للعرف الاجتماعي، له الحق في المعارضة والحق في الدفاع عن نفسه في وجه الاضطهاد والتمييز العنصري.

خاتمة:

من خلال ما طرحناه آنفًا في ورقتنا البحثية هذه من إشكاليات وتساؤلات حول أحد أهم اشكاليات الفكر الاسلامي المعاصر التي تشتغل على خطابات قبول الآخر في تراثنا الإسلامي والتي عمل المفكر ماجد الغرباوي على ايجاد السبل الكفيلة بحلها، وسعيًا منا لإيجاد الحلول المناسبة للوقوف في وجه هذا التسونامي الاستعماري الفكري الجديد إن جاز التعبير الجارف للهويات الدينية والثقافات المتنوعة بوطننا العربي الإسلامي تحت أغطية كثيرة تختزل معادلة الصراع الحضاري العالمي، نطرح في خاتمة مقاربتنا هذه بعض الأفكار والتوصيات التي نرجو أن تسهم في ترميم التصدعات الجاثمة على الخارطة الهوياتية للتنوع الطائفي والديني والثقافي بوطننا العربي، لتحقيق سبل انعتاقنا من مد المركزية الغربية المحرضة على العنف والإرهاب والتكفير وويلاته، وإرساءً لدعائم سبل تحقيق التعايش الثقافي والديني وفق المنهج الإسلامي الصحيح الذي بينه محمد عمارة، نطرحها في النقاط التالية:

1- ارساء قواعد التعايش السلمي وتعلم سُبل التّعايش بين الثقافات والأديان المختلفة لن يكون برفع الشعارات الزائفة، وإنما يتحقق ذلك بتضافر جهود جميع الأطراف داخل العالم الإسلامي باستخدام لغة العصر وأدواته في نشر الفكر الاسلامي الوسطي، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، ونشر ما يحث عليه الدين الإسلامي من قيم التسامح والتعايش بين المذاهب، خاصّة في المناهج التعليمية تعليمًا وتربية لهم على اتقان فن حقوق الانسان، تحت اشراف مختصّين في المجال وليس مجرد درس يتم إلقاؤه وفقط لتنتهي المهمة عند ذلك، فالأمر أكثر من ذلك بكثير.

2- من الضّروري بعث سبل تجديد الثّقافة العربية خاصّة الخطاب الديني، وتفعيل دوره في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية بجميع طوائفها بعيدًا عن جدل التعصب للعرق أو المذهب...الخ، وقوفًا في وجه الخطابات الفلسفية الجديدة المغلفة بقيم الاستشراق ذات الطابع الاستعماري الجديد، وهذا كله تأسيسًا لنوع جديد من الاستشراف المستقبلي لأمة اسلامية جديدة ولدت من رحم الانبعاث الحضاري الإسلامي القويم، بعيدًا عن الصراع الديني المدعم من أطراف خارجية تكن الحقد والكره لكل ما يمت للإسلام بصلة.

3- لقد أنتجت فلسفة ما بعد الحداثة انسانًا غربيًا ثاناتوسيا، مخربًا للعالم ناسفًا للقيم حقوق الانسان وشتى أنواع التعايش الثقافي و الديني السلمي القائم على مبدأ قبول الثقافات والأديان ضاربًا بكل ذلك عرض الحائط، ومرسيًا بدل ذلك مفاهيم جديدة من قبل: الهدم، التشظي، المركزية الغربية، الإسلاموفوبيا...إلخ، ساعية إلى نشر هذه المفاهيم وترسيخها في الأذهان، تحت غطاء وأقنعة مختلفة تختزل معادلة صراع الأديان بمختلف أبعادها.

4- تعتبر أحداث 11- 09- 2001 بمثابة النبوءة التي أكدت نظرية صراع الحضارات الهنتنغتونية والتي اتخذت منها الولايات المتحدة الأمريكية مطية لشحذ الهمم وتفعيل الحراك العالمي ضد الهوية الثقافية الاسلامية، وهو ما جعلها تقرع طبول الحرب معلنة المعركة ضد محور الشر كما قال جورج بوش آنذاك، لتعلن بعدها عودة ما سمي بالحروب الصليبية من جديد ونتائج ذلك ماثلة أمامنا في كثير من الدول لعل على رأسها العراق وسوريا حاليًا من انفراط كبير لمد الصراعات الأيديولوجية المفتتة لكيان الدول والناشرة للفتن الطائفية، التي أصبحت تفتك يومًا بعد يوم بقيم التعددية الثقافية للأمة العربية والإسلامية .

5- فرق كبير بين نظرة الفلسفة الغربية الوضعية في نظرتها لقضية التعددية الثّقافية ووجهة نظر الهدي النبوي الذي بينه محمد عمارة في التأسيس لهذا الحق المشروع فالقوى الغربية انطلقت من اكراهات حتمتها عليها الشعوب ما اضطرها لوضع ميثاق عالمي لحقوق الانسان منها حق التعدد الثقافي و الديني، فضلا عن السياسات الاستعمارية في الاتخاذ من هذه الفلسفة مطية للسيطرة على الشعوب، اما الهدي النبوي فقد كان امرا تلقائيا تلبية لنداء الفطرة فضلا عن تنفيد أمر رباني صالح للتطبيق في كل زمان ومكان على اختلاف الثقافات وتنوع الأديان.

6- العنصرية والتفرقة بين الأديان والشعوب والأعراق والثّقافات في الدول الغربية نابع من فلسفة عنصرية متأصلة في الفكر الغربي بداية بأفلاطون وصولا لفوكوياما و هنتنغتون وغيرهم الكثير ترى أن الانسان الغربي أسمى وأعرق ثقافة وأرفع دينا وهو ما جعل العديد من الفلاسفة الغربيين المنصفين أمثال جان جاك روسو وايريك فروم وروجيه غارودي ونعوم تشومسكي... يوجهون نقدهم اللاذع لما وصلت له الحضارة الغربية من عنصرية تجاه الدين الاسلامي فهذا الأخير - نعوم تشومسكي- يعتبر أبرز المفكرين الذين يقفون في وجه السياسات الغربية التي تتخذ من فزاعة حفظ حقوق الأقليات الدينية والثقافية لتقسيم الشرق الأوسط وتفتيته مقيمة شرق أوسط جديد يخدم مصالها وفقط.

7- لابد من تضافر جهود جميع الدول العربية الإسلامية سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى الشعوب، وتُحدث فيما بينها تعاون وتنسيقات عالية المستوى، وتكثيف الجهود أكثر على مستوى النخب الثّقافية بما أنها فئة تنويرية بإقامة مؤتمرات وندوات للتباحث في سبل بعث الهدي النبوي في نظرته لفكرة التعددية الدينية والثقافية، إلى جانب العمل على دعم منظمات المجتمع المدني والعمل على تغلغلها داخل النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية والإسلامية حتى تنتشر التوعية أكثر بمخاطر الفتن الطائفية وأثر ذلك على الهوية الإسلامية ومدى تماسك المجتمع تجنبا للانزلاقات الوطنية نحو العنف والدموية.

8- انتشار دواعي حوار الأديان وتمازج الثّقافات وتلاقح الحضارات والمعرفة الكونية...إلخ، كلها تقريبًا صنعت لأغراض سياسية بحتة ساعية إلى إحكام السيطرة على العالم، ونشرًا للنموذج الثّقافي الأمريكي، بدعوى أنها هي الأجدر بقيادة العالم كما أعلن عن ذلك صامويل هنتنغتون على اعتبار أنها ثقافة مركز القوة في العالم، فهي مجرد شعارات رنانة زائفة مزركشة بصورة بهية من الخارج، في حين هي انتهازية استعمارية من الداخل.

 

بقلم الأستاذة: خولة خمري – الجزائر، تخصص تحليل الخطاب ومناهج النقد. مركز الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب – ماليزيا

بالاشتراك مع الاستاذ الباحث: عباس أعومري - الجزائر- باحث أكاديمي

.......................

* ورقة مشاركة في المؤتمر العلمي التاسع للنهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد. تحت شعار: "النهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد"... 2-3 شعبان 1439 هـ 17-18 نيسان 2018م، كلية المعارف الجامعة، كليةٌ أهليةٌ عراقيةٌ، بعنوان: (التّسامح وفرص التّعايش بين الاديان والثّقافات بين الواقع والمأمول.. دراسة نقدية في فكر ماجد الغرباوي.)

...............................

الهوامش

1 - ماجد الغرباوي :اشكاليات التجديد - سلسلة قضايا إسلامية معاصرة-، دار الهادي للنشر والتوزيع، ط1، 1421ه، 2001م، بيروت، لبنان، ص 37.

2 - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، سوريا، ط9، ص4 .

3 - المرجع نفسه:ص42.

4 - http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/925135

5 - ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد "، اصدار مؤسسة المثقف العربي، نشر العارف للمطبوعات، ط1، 2010م، ص 74- 75.

6 - سورة الحجرات: الآية 13.

7 - إليكس ميكشيللي : الهوية، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، ط1، 1993. ص 15.

8 - التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الأديان والثقافات-، الناشر الحضارية للطباعة و النشر، ط1، بغداد، العراق، 1429ه- 2008م، ص60.

9 - المصدر نفسه.

10- المصدر نفسه.

11- البخاري (3383)،كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى:{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين}، ومسلم (2378)، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف.

12- "فتح الباري" (6/529).

13- "شرح النووي لصحيح مسلم" (15/135).

14 - ماجد الغرباوي: اشكاليات التجديد، مصدر سابق. ص67- 68.

15 - ماجد الغرباوي :اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 67.

16 - ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد "، مصدر سابق، ص 152- 153.

17 - محمد عمارة : http://klmty.net/472766-%D8%AF-

18 - ماجد الغرباوي : اشكاليات التجديد، مصدر سابق. ص 110.

19- عبد الحكيم منصور: حكومة العالم الخفية - الماسونية والثّورات العربية بين الحقيقة والافتراء- دار الكتاب العربي، القاهرة، 2012، ص242.

20 - نجيب الحصادي: جدلية الأنا والآخر، الدار الدولية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 1996. ص 56- 57.

21 - ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الأديان والثقافات-، مصدر سابق ص9.

 

المصادر

1- القران الكريم

2- عبد الحكيم منصور / حكومة العالم الخفية / الماسونية والثورات العربية بين الحقيقة والافتراء/ القاهرة 2012

3- ماجد الغرباوي / اشكالية التجديد / دار الهدى للنشر / ط1 / 2001 : بيروت

4- ماجد الغرباوي / الضد النوعي للاستبداد / مؤسسة المثقف العربي / دار المعارف للمطبوعات /ط1 2010

5- مالك بن نبي /مشكلة الافكار في العالم الاسلامي / دار الفكر / سوريا /ط9

6- ماجد الغرباوي / منابع التسامح واللا تسامح / فرص التعايش بين الاديان والثقافات / الدار الحضارية للطباعة / ط1 بغداد 2018

7- نجيب الحصادي / جدلية الانا والاخر / الدار الدولية للنشر والتوزيع /ط1 : القاهرة 1996

8- اليكس ميشكيللي / الهوية / ترجمة علي وصفة / دار الوسيم / دمشق ط1 / دت / 1993

 

 

سؤال الحداثة التداولي: اينما نولّي وجوهنا، ومن أي موقع نكون، وفي أي مجال من مجالات الحياة، السياسة، الفكر، الاقتصاد، الاجتماع، التعليم، الثقافة، الادب، او الفنون، نصطدم بجدار الحقيقة الخاصة بنا كأمة عربية – اسلامية وحدنا من غير أمم وشعوب العالم الذين عبروا منذ قرون حواجز الاعاقة والتخلف في حياتهم وحسموا امرهم بشأنها وتجاوزوها الى غير رجعة ولا تشكّل اليوم عندهم اشكالية يتوقفون عندها في كيفية الخلاص منها كما هو حالنا اليوم ومنذ بدايات القرن التاسع عشر.

تلك الحقيقة الصادمة لنا التي نحمل أعباءها منذ قرن ونصف على أقل تقدير، هي أين الوطن العربي من الحداثة والعصر؟ ماذا نعتمد وماذا نترك؟ وكيف ومن أين نبدأ؟ تساؤل مهما حاولنا الهروب من مواجهته والتحايل على عدم دفعنا استحقاقاته بمزيد من التخلف والكوارث والمراوحة في الزمان والمكان، نجده يلازمنا ملازمة الظل في حياتنا بمجملها.

ماذا نحتاج للنهوض بواقعنا المتخلف عن ركب الحضارة الانسانية بمديات شاسعة؟

نفس التساؤل العقيم في عجز الاجابة المثمرة له، والذي ما فتئنا نتحايل في الهروب من مواجهته والاجابة عنه منذ ما يزيد على قرن كامل ونصف من محاولات رجال النهضة عندنا في اللف والدوران حول الاشكالية (الاصالة والمعاصرة) بما يضخمّها بمجلدات من الفكر التنظيري الذي يدور في فلك الاشكالية دونما الولوج الى جوهر المشكلة وتسمية الامور بمسمياتها الحقيقية التي نحاول باستمرار الاختباء خلفها وترحيلها اشكالية مستعصية عبر الاجيال.

الجواب المباشر الذي لم يعد بحاجة الى تهيئة ذهنية او مراجعة عقلية بعد أن أصبح مرتكز المعاناة التي نحياها، هواننا نحتاج مشروع نهضوي تحديثي متكامل ينقلنا من واقعنا العربي المثقل بالتخلف المستدام بعوامل الاعاقة، الى دخول عتبة عصر التقدم والحضارة من حولنا. جواب لم نلمس له تاثيرا واقعيا ملموسا في حياتنا رغم الكم الكبير من الكتب والتنظيرات والمنتديات الثقافية والفكرية التي حاولت معالجة الموضوع ولم تكن المهمة سهلة أبدا.

ثمة رأي يذهب الى عدم اضاعة الجهد في التنظيرالفكري الذي لم يستطع ان ينقلنا الى عتبة التمدن الحضاري، الذي ملأنا به عقول اجيالنا، بالمماحكات الفكرية والفلسفية والتفسيرات الاجترارية المعادة، التي تعيد نفسها باختلاف لغوي تعبيري فقط، راح ضحيتها العديد من المفكرين العرب الذين تمّت تصفيتهم في محاولة وأد افكارهم معهم، فلماذا لا نترك تطورات العصر من حولنا واستهلاكنا السلعي للحضارة العالمية، وانتشار وسائل الاتصالات التحديثية والتقنية العلمية المتطورة تأخذ دورها البطيء لكنه الحتمي آخر المطاف في نقلنا الى المدنية المعاصرة شاء بعضنا ام أبى معظمنا.

يوجد امثلة امامنا في تجارب مثل ماليزيا واندنوسيا وتركيا، وامارات الخليج فهذه التجارب التحديثية لم تقم تجاربها على نقد التراث، بل قامت على استهلاك الحضارة المعاصرة في تقنيتها الحديثة، ولم تفقد تلك المجتمعات هويتها ولا ذاتيتها في التراث.اذ لا زالت الكوفية او اليشماغ والعقال مع الدشداشة سارية المفعول في دول الخليج التي حققت لها طفرة حداثية في الاستهلاك الحضاري ولم تفقد هويتها الذاتية العربية التي لا ننام الليل من كثرة التحذير من فقدانها او تضييعها.

ورغم كل المجهودات الفكرية التنظيرية على مختلف مشاربها الا انها كانت تدور حول الاشكالية الحداثية، ولم تتمكن من الاسهام المطلوب في نقل المجتمعات العربية من وهدة التخلف والتردي المستمر وحصد الكوارث المتناسلة في الحياة، انه من المنطقي أن جميع الافكار التي كانت تروم احداث تغييرات حداثوية في مجتمعاتنا العربية كانت معطلّة ان تأخذ مدياتها المرجوّة لاكثر من سبب ليس سوء الحكام العرب فقط، ولا التخلف والفقر المجتمعي، وانما ان تلك الافكار كانت نخبوية في تداولها ومراميها التأثيرية والأقناعية، فالمفكر الحداثي عندنا كان ولا يزال، بحاجة الى صرف جهود مضنية لمحاولة الوصول الى أقناع مفكر آخر يناوؤه بالفكر من منطلقات رجعية الى تبديل قناعاته، ولا يسعى الى تبديل قناعة مجتمع متخلف بحاجة الى التنوير.وبعضهم يعتمد مناهج اوربية غريبة تماما في مخاطبته العقل العربي، لتبقى اشكالية التراث من حصة المفكرين القاطنين عواصم العالم لا من حصة الشعوب العربية صاحبة المصلحة الحقيقية في مشروعها التحديثي النهضوي.

المجتمعات العربية لم تعد بحاجة الى من يزقّها بالتنظيرات والشعارات الفارغة التفاؤلية النهضوية، وهو جالس في باريس او لندن او السويد، مكتفيا بمواعظه الانشائية بعيدا عن حقيقة معاناة شعبه بالاف الاميال.هذا لا ينطبق على المفكرالمغترب فقط بل على السياسيين والحكام واصحاب الشهادات العلمية والكفاءات المغتربة، (على سبيل الاستشهاد فقط ان عوائل جميع الساسة العراقيين الحاليين، لا يعيشون بالعراق، من عائلة رئيس الجمهورية، وعوائل نواب الرئيس، وعائلة رئيس الوزراء، والوزراء واعضاء مجلس النواب؟؟؟؟) فكيف تتوقع من هذه الشلّة الفاسدة التفكير بالفقير ومعاناة الانسان العراقي ليس لنقله حضاريا بل للايفاء بابسط مستلزمات حياته وعائلته؟؟؟. وهل يجدي مع امثال هؤلاء نقد التراث لتصحيح افكارهم وقناعاتهم في النهضة والتحديث او هل يعرف غالبيتهم الف باء الثقافة او تحديث المجتمعات؟

نماذج معالجات التحديث بالتنظيرات والمناهج

من المفارقة التي لا يرغب الاعتراف بها الجميع، ان الغالبية الساحقة وليس الكل من الذين كتبوا في الحداثة لشعوبهم لم يكونوا يحملون هموم شعوبهم بقدر اهتمامهم توفير راحة ورفاهية لوجودهم في اقامة دائمية خارج البلدان العربية والتمتع بالهالة التبجيلية لهم، واستثني منهم عديدين قلائل لم تغرهم لا الهدايا ولا اغراءات العيش في عواصم العالم، وحتى رفضهم للتكريم الذي كان يحاول شراء ذممهم واقلامهم.

لو عدنا الى مراجعة مسحية نقدية سريعة ومركّزة الى بدايات النهضة المطلوبة وغير المتحققة منذ القرن التاسع عشر الميلادي، لوجدنا اجابات التساؤل والبحث في نشدان نهضة تحديثية عربية اسلامية، لاتخرج عن هذه التيارات التي نستعرضها:

1. المشروع السلفي الديني والفكري الذي يعتمد التمسّك بالنص الاسلامي الفقهي والاجتهادات التشريعية الدينية في مختلف مشاربها، لتحقيق وبعث تراث الماضي الذي يحكم فيه الاموات الاحياء على حد تعبير اكثر من فيلسوف ليس آخرهم ماركس، ، أي حسب تعبير الجابري، (السلفية التراثية التي تبقينا كائنات تراثية وليس كائنات تمتلك تراثها).مشروع يجد النهضة في العودة الى ماقبل الف واربعمائة سنة كي نفهم كيف نعيش حياة العصر.وتمكين الماضي اكثر من مصادرة الحاضر والمستقبل باسم امجادنا التراثية الوهمية والخرافية الكاذبة، (الاسلام هو الحل).

ان اهم ميزات هذه السلفية التراثية كما يلخصها لنا المفكر محمد عابد الجابري:

- ان القراءة السلفية للتراث والماضي تنطلق من منظور(ديني للتاريخ يجعل التاريخ ممتدا في الحاضر منبسطا في الوجدان)1 بمعنى انتقال الوجدان الجمعي عبر الاجيال في (ان الذات تتحدد بالايمان والعقيدة، التي تجعل من العامل الروحي، هو المحرك للتاريخ، اما بقية العوامل الاخرى فهي ثانوية او تابعة)2.

- ان القراءة السلفية لمجمل تراثنا العربي – الاسلامي، هي قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن ان تنتج سوى نوع واحد من الفهم التراثي3، يقصد الجابري ان يعيد التراث نفسه تاريخيا بعصمة غير منقودة متعالية يتضّخم بالاكاذيب والخرافات المضافة له عبر العصور، وكماضي رجعي فاعل في ترسيمه الحاضر على وفق قناعات تراكمية، وهذه القراءة لا يمكنها احتواء التراث ولا التاثير به، لان هذه القناعات الجمعية التراثية التضليلية اصبحت على مر الاجيال والعصور في تراكمها المخطوء، تراث زائف يكرر نفسه وينتحل تمثيله التراث الحقيقي، بنفس الرؤى والمنطلقات الجامدة في الحفاظ على القديم التاريخي قبل اهمية الحفاظ على الانسان بالحياة المعاصرة. وقد تعمّقت هذه السكونية مع انبثاق ايديولوجيا الدين السياسي، التي اعادت الحياة الرجعية المتخلفة للتراث بكل مخزونه من الاعاقة والتقاطع مع العصر والحياة.ولا نقد او تجديد او مراجعة يفرضها العلم او الحداثة المدنية في ابسط اشتمالاتها.

2. المشروع العلماني – التغريبي الاستشراقي الليبرالي في نشدان تحقيقه نهضة عربية متقدمة ومعاصرة، ومرتكزه الاساس مناقضة المرتكز الايماني الروحي السلفي الديني تحديدا والاحتدام به، وهذا المشروع يقوم على انفصامية العلاقة الممتدة عبر العصور مع التراث الذي يتوجب نقده بعيون العصر ومحاكمته بضوئها واكثر من ذلك فهي تذهب الى قراءة التراث بعيون اوربية استشراقية، تعبر كل ما يعرف بالخصوصيات الهوياتية، وتعتمد النموذج الحضاري الاوربي مرجعية تحاكم بها الحاضر والماضي والمستقبل في تفكير وسلوك اوربي مستورد، مع احتفاظنا باللغة العربية الجامعة فقط. وهذا التيار يصفه الجابري:

(اجد المحاور الرئيسة في اشكالية الفكر العربي الحديث والمعاصر، وبالحوار مع المحور الليبرالي في التفكير ونظام العلاقات فيه هو بين الماضي والحاضر، ولكن لا حاضرنا نحن، بل حاضر الغرب الاوربي الذي يفرض نفسه كذات حضارية تستوعب العصر كله بل والانسانية جمعاء).4 ويطلق الجابري على هذا النموذج من القراءة التراثية مصطلح (السلفية الاستشراقية) أيضا في مقارنتها وتعالقها المنهجي بالتضاد مع منهج السلفية التراثية الزائفة.

السلفية الاستشراقية (تقوم من الناحية المنهجية على معارضتها الثقافات، وقراءتها التراث العربي بتراث مغاير خاص بها ومن هذا المنهج الفيلولجي الذي يجتهد برد كل شيء الى اصله، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الاسلامي، فأن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده – التراث العربي الاسلامي – الى اصوله اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية). 5

3.المنهج او القراءة الماركسية للتراث التي تعتمد الجدل كمنهج في البحث والتحليل، وان التراث العربي الاسلامي، كبنية تاريخية، يعتملها الصراع بين مصالح الطبقات المتناحرة، كما يجب محاكمة التراث بمعايير العلم المنهجية في تناولها جميع قضايا التراث، وبقي المنهج الماركسي في قراءته التراث متمسّكا بكلاسيكية ثنائية المادية بالضد من المثالية، وجدل الصراع الطبقي في بروز المراحل التاريخية، وهذا المنهج هو ايضا يقود الى سلفية ماركسية في محاولتها تطويع الواقع لمقولات التنظيرالجاهزة، وابرز ممثلي هذا التيار من المفكرين هم، حسين مروة، والطيب تيزيني، ومحمود امين العالم، ومحمد عيتاني وغيرهم عديدون.

4. المنهج التوفيقي الذي يحاول اعتماد (وسطية) تخدم نقد التراث بما يحتمله كي لا يضيع، وربطه بالمشروع النهضوي القومي (ايديولوجيا)، وهذا المنهج دأبت التنظير له غالبية القوى والاحزاب التي حكمت اقطار الوطن العربي بعد ثورات التحرر الوطني من الاستعمار، والتي رفعت شعارالوحدة و الاشتراكية العربية ايضا، ويعتبر المفكر محمد عابد الجابري بطروحاته النقدية الفكرية والفلسفية للتراث هو قمّة ما توصله هذا التيار فكريا - فلسفيا على يديه، بعد نهايته كانظمة حكم في ما عرف بثورات الربيع العربي 2011، انظمة مارست الاستبداد والاخطاء المصيرية القاتلة تحت شعارات الوحدة والاشتراكية التي كانت ابتذالا فكريا عاطفيا فاسدا لا يمتلك رصيدا من الواقع العملي التطبيقي غير الشعارات الفارغة التي الحقت الكوارث بالوطن العربي.

ورغم تبني مشروع الجابري النهضوي القومي، من قبل مؤسسة دراسات الوحدة العربية في بيروت، وهي مؤسسة غير حكومية مستقلة تتبنى ايديولوجيا القومية والوحدة العربية، الا ان هذا المشروع لاقى معارضة شديدة وصلت حد الشخصنة مع الجابري من قبل طيب تيزيني، كما لاقى نقدا لسنوات طويلة من لدن المفكر جورج طرابيشي في مسلسل تأليفي استهدف مشروع الجابري النقدي النهضوي بسلسلة من مؤلفات الرد على الجابري في جميع اطروحاته الفلسفية في مشروعه النهضوي العربي.

ماجد الغرباوي في مشروعه النقدي للتراث

مشروع المفكر ماجد الغرباوي الذي يعمل عليه بمثابرة هو مشروع ناشيء يحمل الكثير من افكار التجديد غير المسبوقة، ويمكننا وضعه بين مشروعي الجابري واراكون باختلاف منهجي عنهما.في نشدانه تاسيس مشروع نهضوي يتمركز حول نقد التراث الديني الذي يعتبر مجاوزة الانتهاء من حلّه كفيلا بوضع مسار النهضة على الطريق الصحيح في انطلاقته التحديثية.

مشروع الجابري الذي مررنا التعريف عنه قبل قليل، هو مشروع نقدي يتمحور فكريا على قراءة التراث ايديولوجيا من غير ابتذال، ينشد تحقيق ماعجزت عنه ايديولوجيا الاحزاب القومية وانظمة الحكم التي كانت ترعاه، في التثقيف على ايجاد وسطية توفيقية ناقلة لا تتنكر للتراث ولا تستهين بنقده ايضا، واعتبارها التراث ذاكرة تاريخية وهوية مميزة للامة، لا يمكن مجاوزته او الاستغناء عنه، كان المشروع هو ايديولوجيا البرجوازية الصغيرة في نشدانها تحقيق وحدة الامة واشتراكيتها، الذي انتهى مع سقوط انظمة الحكم الاستبدادية التي كانت ترعاه وتحتضنه، بعد احداث الربيع العربي الذي اطاح بتلك الانظمة الفاسدة. واعقبه بروز ما سمي حينها الصحوة العربية الاسلامية بكل تطرفها وهمجيتها وسفكها الدماء (صفحات القاعدة وداعش) وغيرهما من الحركات الدينية الارهابية المتطرفة. خلاصة ومرتكز مشروع الجابري هو نقد (العقل العربي)، معرفيا وفلسفيا وحضاريا.

اما مشروع محمد اراكون فمرتكزه الاساس يقوم على نقد (العقل الديني) الاسلامي، ومن هنا فهو لا يلتقي مع مشروع الجابري في النقد الايديولوجي العروبي القومي، وينطلق اراكون في نقده من منطلقات استشراقية صرف، ويدعو اعتماد نفس الآلية التي حققت اوربا نهضتها بها، في اعتماد اول مراحلها في حركة الاصلاح الديني التي ستكون مبتدأ ونهاية كل نهضة عربية منشودة.

نعتقد ان اراكون أصاب تشخيص الانطلاقة النهضوية بكل دقة ولكنه أخطأ المنهج، اذ كانت وسائل تحققها لم تكن موفقة في اعتماد المنهج الاوربي الاستشراقي النهضوي، وحتى في محاولته الاستفادة من المناهج الحديثة في المعرفة والفلسفة كما في البنيوية والتفكيكية وبعض اطروحات ما بعد الحداثة الاوربية والفرنسية منها على وجه الدقة.

اين موقع مشروع الغرباوي من هذين المفكرين؟

الغرباوي لم يعتمد المنهجية القوموية التراثية (الجابري)، كما لم يعتمد المنهجية الاستشراقية (اراكون)، بل طرح مشروعه في نقد العقل الديني الذي هو مرتكز ومفتاح الحل في اشكالية التراث مع المعاصرة كما سبق وطرحه اراكون، لكن الغرباوي تحاشى المنهج الاستشراقي الذي اعتمده اراكون، واعتمد نقد نص التراث الديني الزائف تحديدا، بوسائل فهم ومراجعة التراث بادوات الاصالة والانتماء الحقيقي للتراث غير المشوّه والمنحرف الذي يتوجب الحفاظ عليه كمرتكز نهضوي لا غنى عنه بعد ازالة الانحرافات والاعاقات التضليلية التي طرأت عليه، فكانت ابرز معالم تلك الرؤية النقدية كالتالي:

- التراث فهم بشري يمكن تفكيكه وتحليل مقولاته، غير ان الضرورات المرجعية للمذاهب المتصارعة نأت به عن النقد والمراجعة والتشكيك، عندما وضعت حوله اسيجة رسخته في وجدان الناس رغم غرائبية ومصادرة واسطورية قدراتها المعرفية، فكرست الايدولوجيا منطق الاستعلاء والوصاية، بعد ان جردت التراث من تاريخيته وبشريته، وابقت على تعاليه وقدسيته، رغم انه ليس مصدرا للمعرفة القائمة على الدليل والبرهان دائما.6

- وبالتالي لا معنى للحديث عن نهضة حضارية، وثمة من يكتفي بالتراث مصدرا مطلقا للمعرفة، ارتكازا لهيمنته السحرية التي تتجلى في ديمومة حضوره وقدرته على توجيه وعي الناس بعيدا عن العقل.... بل لا معنى للعقل مع وجود نص ينتمي لعقل اسطوري كامل مصون، فالنص فوق العقل وفقا للوعي التراثي.7

- اقتحام اسوار العقل التراثي ومرجعياته وتفكيك خطابه، وتحليل مقولاته ضرورة للحد من توسع سلطة التراث على حساب العقل والمعرفة الحقيقية، فالتراث بما فيه الديني بكل نصوصه ورواياته وفتاواه لا تشكل مصدرا معرفيا حقيقيا لانها نصوص تاريخية وفهم بشري.8

- نحن بصدد نهضة حضارية، والدين يشكل مقوما ذاتيا لثقافتنا ويفرض علينا النص الديني الاوسع من الآية والرواية بما يشمل فتاوى الفقهاء وتفاسير القران... ومطلق التراث هو نتاج ظرفه الزماني والمكاني ومحكوم لمختلف المؤثرات الدينية والسياسية والطائفية، فكيف يمكن معالجة واقع لا يعرف عنه شيئا.9

- المسلم يخشى عقله وحريته، ويتشبث بعقول تاريخية ليتحلل من مسؤوليته، ويقبل منطق الوصايا والتبرير دون النقد والمراجعة، بهذا الشكل فقط تستقر النفوس المهزومة التي ادمنت العبودية الفكرية والعقيدية والاجتماعية والسياسية، انها محنة العقل التراثي ورثاثة العقل.10

جديد المفكر الغرباوي انه يدخل عبر نسيج المداراة التي اعتادت الدوران حول اشكالية التراث والمعاصرة في تقليب صفحات كثيرة جدا من تاريخ المتراكم التراثي كما فعل العديدون في تسويد عشرات المؤلفات التي عالجت نفس المواضيع التاريخية بنفس التحليلات تقريبا، اي ان غالبية المفكرين الذين نقدوا التراث في العديد من المؤلفات التي لم تخرج عن دائرة النخبوية الفكرية في التناول البعيد جدا عن ضرورات تحديث حياة الناس مثلا في التعليم العلمي الحديث او في مجال الاقتصاد والاجتماع وغيرها، اذ لا زالت الجامعات تسودها السلفية الفكرية اساتذة وطلبة، ولا زالت دروس الدين في التعليم الابتدائي تفرض وتجري مباراة (التجويد) وتمنع دروس الموسيقى والرياضة، بموازاة اصدارات الكتب والمؤلفات في نقد ومراجعة التراث لما يزيد عن اكثر من قرن ونصف.

وعندما كان معظم المفكرين يتحاشون تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، ويدعون للكشف عن المسكوت عنه، او المحظور التفكير فيه، وغير المسموح مقاربته النقدية، نجد الغرباوي يضع عيّنات من تلك النماذج المحظورة على طاولة النقاش والمراجعة النقدية، بعيدا عن استقطابات الايدولوجيا والمذهبية الطائفية، وتيارات ومدارس الاستشراق الحديثة.

الحداثة والذات العربية

نستنتج مما مر بنا استعراضه، ان تحقيق مشروع الحداثة مرتهن بمركزية الذات العربية الانسانية ووجوب تعاليها النقدي على النص التراثي الديني والفكري، بمعنى تاكيد اولوية الحرية الفردية السابقة على فكرة التناول النقدي للتراث، وتاكيد اولوية واهمية الانسان العربي كغاية ووسيلة التحديث المنشود.

ان الذات العربية نجدها اليوم حالها حال ما قبل الف واربعمائة سنة خلت، عاطلة عن ممارسة الحس النقدي، مسلوبة الحرية في التفكير الحر المستقل، فاضاعت تعاليها المطلوب على الموروث الذي هو في غالبيته من صنع بشر سبقوا زمنيا، ولا دور للخالق فيه من حيث هو نصوص تشرح وتفسّر وتعتاش وفق مصالحها على الدين، وهذا كفيل في تغييب الشخصية العربية الناقدة لموروثها، وبمرور الوقت تجد هذه الذات نفسها، يخلقها الموروث الخاطيء ويعيد صياغة وتعليب افكارها كلما تقدم الزمن بها، فتصبح كائن تراثي حسب تعبير الجابري وليس ذاتا تمتلك تراثا لها حق التصرف به.

النص الديني الموروث متعال على الذات بقدسية زائفة يخلقها لنفسه ويخلعها عليه، وهو تعالي زائف لا يمت بصلة باصالة وفهم قيم الدين الحق.وتعود الاشكالية تتوالد من حيث انتهت وباستمرار في تغييب دور النقد والمراجعة بما يبطل في حال تحقق ممارسته سلسلة التساؤلات التي تفرضها ويتطلبها تقدم الحياة. ويكون غياب النقد الذاتي والقراءة المنفتحة وعطالته متشكّلا من القناعات في المتراكم المخطوء الجمعي الذي يجري في تشكيل الحياة سريان القانون المقدس، المترسّخ في العواطف والوجدانات والخرافات وحشو الاكاذيب.

ومن نتائج هذه الحالة اصبح عندنا نقد الذات للتراث تابو ومحرّم ليس بسلطة الحكم وايديولوجيته السياسية المتنفذة وحسب، ولا بسلطة التخلف والتضليل والتجهيل المبرمج، وانما من التلفيق المتراكم الذي جعل من الاكاذيب والخرافات باسم الدفاع عن التراث وحفظه، يقينيات مجتمعية لا يمكن تجاوزها وعبورها بسهولة، وارضية ترسيخ دائمي لكل ما يستحدث من الاضافات اليقينية الكاذبة على مر الايام.في تعطيل دور العقل في النقد الذاتي للتراث الزائف في المتراكم المتداول عبر العصور، والذي تشكلت الذات بموجبه، كملهم للتفكير المقيّد، في التوجهات والعواطف والاخلاق والسلوك المنحرف.

يمكننا القول ان المنقود الواجب اصبح اليوم ليس التراث بمقوماته الاساسية الاصيلة، وما يحمله من قيم معنوية تاريخية هوياتية تشكل مرجعية ثقافية حضارية لا غنى لنا عنها، بل انتقل النقد الى تفنيد وازاحة المتراكم الخرافي والتلفيقي الذي اصاب التراث باسم الحفاظ على التراث، اليقينيات التي اكتسبت صفة المقدس الطاريء في اللاعقلانية واللاتاريخية التي غيّبت كل القيم الاصيلة في التراث.

قناعات النص الديني المزيّف تستمد مشروعية سريانها الاجتماعي المضلل المتخلف بتعاليها باسم المقدس الديني في تحريم النقد في كل صوره واشكاله، فكيف يتسنى لنا دخول العصر والحداثة من غير تغيير واسقاط احد طرفي المعادلة الاشكالية التي تتقاذف مجتمعاتنا العربية عبر العصور، اشكالية غياب المنهج النقدي باسم تابو التحريم والتكفير من جهة، وحضور القناعات الخاطئة القاتلة اجتماعيا، القائمة على تسليم ايماني وجداني في غياب حياة الارض من اجل جنة السماء من جهة اخرى، وتبقى الاشكالية قائمة تتغذى الخرافة والتجهيل الايدولوجي المبرمج الذي لا يرى ولا يفهم الحياة بغير عيون الماضي وسلوكيات الانقياد له بكل رجعيته.

علي محمد اليوسف - الموصل

....................

الهوامش

1.محمد عابد الجابري، نحن والتراث ص9

2. نفس المصدر ص10 -13

3.نفس المصدر السابق ص11

4.نفس المصدر ص14

5. نفس المصدر السابق ص 15

6.ماجد الغرباوي، النص وميثولوجيا التراث، الحلقة 65 حوار مفتوح

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/925927

7.المصدر نفسه السابق

8. المصدر نفسه

9. المصدر نفسه

10. المصدر نفسه

إلتقيت بالدكتور عبدالجبار الرفاعي أواخر عام 2003 بعد سقوط نظام صدام، وغزو الأمريكان، قبل أن يحصل على الدكتوراه حينما عُرف بوصفه شيخ متفتح في الحوزة العلمية في قُم، وكنت فرحاً في التعرف به، فقد كانت مجلته "قضايا إسلامية" التي أنشأها مع الشيخ "مهدي العطار" صداها بين أوساط الإسلاميين قبل هذا التاريخ، وبعدها كان لمجلة "قضايا إسلامية مُعاصرة" التي ترأس تحريرها وأشرف عليها حضورها الفاعل في الأوساط الثقافية والأكاديمية العراقية.

كان للرفاعي وما يزال نشاطه المُلفت للإنتباه في النشر والكتابة وفي التعرف على شخصيات تمتلك رؤى نقدية وتجديدية لها تأثير وفاعلية في المشهد الفكري العام والمشهد الديني، بل وحتى الثقافي.

أصدر الرفاعي سلسلة كتاب "قضايا إسلامية مُعاصرة" وكان من ضمن كُتبه المُختارة كتاب "إشكالية التجديد" لماجد الغرباوي عام 2000م، ولم أكن قد سمعت عن هذا الكاتب من قبل، لتعتيم النظام على أغلب نتاج المُثقفين العراقيين المُعارضين في الغُربة، وبعد إطلاعي على كتابه هذا حاولت أن أعرف من هو هذا الكاتب، وبعد تقصٍ ليس بالطويل عرفت أنه رئيس تحرير سلسلة رواد الإصلاح التي صدر منها كتابه رقم (4) الشيخ النائيني مُنظّر الحركة الدستورية الصادرة عن مؤسسة الأعراف في عام 1999.

بعد تعرفي على الرفاعي،سألته عن الغرباوي، فتبين ليَ أنه من أقرب أصدقائه، بل هو صديق العمر، وهو من أبناء مدينته "قلعة سكر"، وقد عاشوا أيام الأفراح والأتراح معاً، ولربما يكونا هما تؤمان في الفكر.

مرت الأيام والسنون، وبعد تركي للنشر لأعوام في الصحف والمجلات الثقافية، نصحني أحد الأصدقاء المُقربين بضرورة نشر ما أكتب، وبعد تردد، لأنني لا أعتقد بجدوى الكتابة ولا أشعر بقيمة تأثيرها وفاعليتها بين وفي أوساط مجتمعاتنا، إلًا أنني رضخت لمطلبه، فنصحني بالنشر في صحيفة المُثقف التي تصدر عن مؤسسة المثقف في أستراليا بسدني، فأرسلت بعض المقالات لهذه الصحيفة وبمساعدة صديقي هذا (د.رائد جبار) تم نشرها في هذه الصحيفة، ولم أكن أعرف من هو المشرف على مؤسسة المثقف ولا رئيس تحرير الصحيفة، وبعد مدة من المُراسلة وفي حديث جانبي مع رئيس التحرير تبين ليَ أنه "ماجد الغرباوي" الذي أعرفه حق المعرفة ككاتب ومؤلف إسلامي له توجهاته النقدية التي أبان عنها في كتاباته الأولى، وهو صديق الرفاعي الذي أكن له كل الإحترام فكراً ومعرفةً، هو رئيس تحرير هذه الصحيفة الغراء.

كنت قبل ذلك أتحاور مع صديقي الأطيب "د.صائب عبدالحميد" المؤرخ المعروف عن كتابات وشخصية "ماجد الغرباوي"، فكان يُخبرني بحميمية العلاقة بينهما، وبمقدار ما يمتلكه الغرباوي من فائض الوعي النقدي، وهو ذات الأمر الذي أخبرني به الرفاعي.

وبرسائل عبر (الماسنجر)عرفته وعرفني وخبرته وخبرني، عرفت أنه مفكر لا يكل ولا يمل في البحث والتقصي عن الحقيقة وإن أخرجته عن بعض مُتبنياته العقائدية وفق ظن الساذجين ممن لم يعرفوه، وخبرته أنه ذو نفس زكية وروح صوفيه ألقها من ألق العارفين الذين تتجلى لهم المعرفة وفق تجليات الروح وتمظهرات العقل وفق الرؤية الهيجلية، فلا توجد حدود فاصلة بين تدين عقلي وآخر عرفاني "روحي" إلَا عبر تماهيهما مع الواقع، أي جعل الواقع روحاً ناطقة بتجليات الروح.

حوارتنا لها معنى وتجلٍ عبر توافق وتواصل يفصل الانطباع المُسبَق عن رفض وقبول. إنه حوار عن مُشتركات العقل الفلسفي بنزوعه المدني في قبول التعددية والإختلاف والتنوع الثقافي بوصفه من تمظهرات الوعي االمُختلف الرافض لمنطق "المُطابقة" و "التشابه" المُغاير للتوتاليتارية الدينية "الشمولية" بوجهها الإقصائي للكشف عن نزوع لاهوتي مُزيف، ليكتب "مدارات عقائدية" ينقد بها كل هذا الزيف الموروث من الماضي أو الذي يكتنف حاضرنا، في محاولة منه لتوصيف "تحديات العُنف" عبر إستنطاقه وتأويله للنصوص القرآنية، ومحاولة تفسيرها تفسيراً عصرياً ينقد الحركات الإسلامية "الراديكالية" ونقد فكرتي "الحاكمية" عند الأخوان المسلمين، و "ولاية الفقيه" عند أحزاب الإسلام الشيعي، وكلاهما وقعا ضحية رثاثة التفكير الديني، وخطاب التكفير، وإساءة فهم مفهوم الشهادة، والتعبئة المُستمرة ضد الغرب وعدم الفصل بين السياسة الغربية الأنكلوسكسونية وبين الحضارة الأنكلوسكسونية بكل ما فيها من قيمة أخلاقية وعلمية وتقنية. فضلاً عن الغباء المُفرط والجهل والأمية، والخلط بين المُقدس وغير المُقدس، وكراهية الحياة، وهجاء الدُنيا، وتمجيد الموت، ونسيانها وتغييبها عبر الطاعة لرجل الدين حتى وإن كان جهلاً لا يفقه من أمور الدين سوى التباكي وإتقان الإيقاع والنغم الحزين في البُكاء على الحُسين.

في حواراته فيما أسماه "مدارات عقائدية" إخترق الخطوط الحُمر، لينقر على ناقوس التطرف الديني، يُهدي كتابه إلى كل من علمه "أن يكون مُحباً لكُل الأديان والطوائف".

تجاوز الغرباوي في كتابه هذا كل "الخطوط الحُمر" فعلاً لا تجوزاً، فقد تناول بالنقد مفهوم الإنتظار في الفكر الشيعي، ومفهوم الخلاص، والشفاعة، ونقد فكرة "ولاية الفقيه" والربط بين الولاية والإستبداد، ونقد فكرة الخلافة التكوينية في الفكر الشيعي الذي خلص إلى أن الكون كله وضع تحت تصرف النبي والأئمة، رغم أنهم بشر، والنبي ذاته يقول "ما أنا إلَا بشر مثلكم"، والإمام في الفكر الشيعي يؤثر في الكون ويُمكنه التصرف به بإعتباره أحد علله.

لذلك يذهب الغرباوي إلى القول:" لا يُمكننا التصديق بمفاد أي رواية تُخالف القرآن والعقل أو الصحيح من السيرة بدليل قطعي السند والدلالة. كما أن "المُمتع عقلاً، لا يُحتمل وقوعه خارجاً، سواء كان الإمتناع ذاتياً، كشريك الباري، أو لعدم تحقق شروطه، كإقتراب النار من الورقة شرط لإحتراقها، أو لطبيعة الشيء وتكوينه، كامتناع صدور المُعجزات والخوارق الكونية على يد الإنسان حسب طبيعة تكوينه، وما أكد القرآن وقوعه، يُقتصر فيه على مورده". فالإنسان بطبيعته لا يُمكنه التصرف بالكون خارج نظامه القانوني، وهي قوانين ذاتية، وليست خارجية، وتختلف ذاتها عن الإرادة البشرية. فإرادة الإنسان ليست قانوناً كقانون العلية والسببية الذي هو ركيزة القوانين وترابطها الذاتي مثلاً.

هو ذا الغرباوي يستفز العقل السكوني والغيبي "المُستقيل" ليكشف عن عوراته وهناته الضامرة في طبيعة وجوده.

إنني فرح في التحاور والصداقة مع عقل "إشكالي" مثل عقل "ماجد الغرباوي"، وهو إضافة معرفية ليَ ولكل من يبتغي الخلاص من بديهيات العقل التقديسي والطقوسي.

في حواراته المنشورة في صحيفة "المثقف" تجاوز التابو، وإخترق "الخطوط الحمراء" و "الصفراء" فاختط بقلمه إن لم يكن بروحه بياضاً ينثره على بقايا الألم في عراقنا الملتهب بصرعات التمذهب، ليخترق شفق الصراع المذهبي وغلوّنا الراكس في غياهب عقلنا السكوني "المُستقيل"، سُنياً كان أم شيعياً، ليستنطق المسكوت عنه، كي يُخرجه أقحواناً في لوحة التشكيل الفسيفسائي العراقي، ليُعيد إنتاج الهوية الوطنية المفقودة في حواراتنا المتأزمة.  

 

د. علي المرهج  - استاذ فلسفة

جامعة المستنصرية - بغداد

.....................

للاطلاع على صفحة ماجد الغرباوي في المثقف

http://www.almothaqaf.com/k/majedalgharbawi

 

لا بد ان اقدم جزيل الشكر الى الاديب القدير الاستاذ سلام كاظم فرج، الذي فتح شهية تبادل الاراء والنقد البناء، الموضوعي، عبر تحليله النقدي بقلمه الثري والقدير لقصة (حافات قلقة) لماجد الغرباوي، والتي نشرت في صحيفة المثقف، بعنوان:  المفكر عندما يكون قاصا*.

وهذه القصة تستحق التوقف والتمعن وتحليل ادائها الفني والتعبيري، من خلال تقنيات السرد وتكتيكاته الفنية، وما فيها من حمولة التعبير الدلالي، والايحاء والمغزى والرمزية، المشبعة بإشعاعات متنوعة في رؤيتها الفكرية، وعملية تناص فعلي وملموس مع مسرح الحدث. وصياغة منطقية لثيمات الواقع. وكذلك لغة النص وحبكته المركبة، التي اعتمدت على تحريك الحدث وتصعيد انطلاقاته الفاعلة، من خلال براعة عنصر التشويق والاثارة، وهو يكتشف دواخل الشخصية المحورية (سعاد)، وسيكولوجيتها التي تدفعها للفعل والفعل المضاد. وقد اتصفت القصة بقوة التعبير عن الحدث المركزي، حدث القصة. وقد نهجت اسلوبية تركيبة، في ثنائية فعل السرد، والفعل الدرامي، لابراز قوامه، القائم داخل منصات التحليل والتمعن، حينما ينمو ويتطور الحدث خلال تحريك شخصية الفاعل، او الشخصية المحورية، وابرازها لمكونات صناعة البطل السلبي، الذي يتعامل بلا مشروعية بدلا من المنطق السليم. ويستغل ثقوب وثيمات الواقع الموجودة، ويتجنب التعامل الموضوعي والمعقول، في المنازلة والصراع والمنافسة . وما شخصية (سعاد) إلا مثالا للبطل السلبي، الذي يركض بلهاث وراء الوهم، ليصدقه كحقيقة قائمة بذاتها: (ما علينا إلا ان نصدق أوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس، أليس أصدق الحقائق أكذبها ؟؟)

لذلك سنتناول الشخصية المحورية في حدث النص القص (سعاد) في جوانب التعاطي، الذاتي والموضوعي، كحقيققة قائمة يتعامل معها الواقع بفعله المأزوم، المنحرف عن جادة الصواب، في كل الميادين ومنها الشأن السياسي والثقافي. ونتحدث عن لا شرعيته في التعامل والتعاطي، خاصة في المنازلة والصراع والتنافس الذي ينقش حروفه على ثوب الخديعة والمكر والاغراء بشراء الذمم، والدسيسة والخبث، عبر جوقة الطبالين الذين يعرضون بضاعتهم المنافقة، للبيع والشراء. لذلك نفخوا في اصنام الواقع، حتى دبت فيها الروح الالهية المزيفة، لتفرض وجودها على الواقع . ولكن حبل الزيف قصير، فسرعان ما تواجهه الحقائق الدامغة، لترجعه الى حقيقتها الصنمية الحجرية (لكن ... صعقها خواء حلمها) هذه الحقيقة المستخلصة من رؤى الحدث والنص، بأن الزيف سرعان ما يتهدم عاجلاً أم اجلاً . والتي عبرت عنها في دلالية البناء الدرامي، والمضمون الفكري، وتعاملت في توزيع فعل الحدث، بالفعل الصاعد بالتدرج نحو ذروة الصراع، ويمكن توزيع الفعل الدرامي على اللوحات التالية :

1 - اللوحة الاولى: ساحة العرض.. الكل في انتظار الى اعلان نتيجة. الفائزين او المتفوقين من قبل عميد القرية. وتحلم (سعاد) ان تكون في مقدمتهم .

2 - اللوحة الثانية: لحظة اعلان الاسماء، تصاب (سعاد) بالخيبة والاحباط والفشل، فلم تكن ضمن اسماء الفائزين والمتفوقين، كما كانت تحلم

3 - اللوحة الثالثة: تعود الى بيتها تجر اذيال الخيبة والحيرة والفشل .

4 - اللوحة الرابعة: تخطط للانتقام كرد فعل سلبي على الفشل والحيرة والخذلان، بأن احلامها تحطمت بالخيبة .

5 - اللوحة الخامسة: استلهام سلوك الخداع والمكر والخبث والدسيسة، حتى تجبر عميد القرية لتغيير قناعاته لصالحها .

6 - اللوحة السادسة: تتناول كيفية صناعة البطل السلبي والبطولة المزيفة والمخادعة، من خلال اغراء جوقة الطبالين ومدحهم المزيف، المدفوع الثمن، حيث الاغراءات وشراء الذمم بكل الحيل الماكرة، من أجل إعلاء بعض من لا يستحق المقام والشأن، إلا بالزيف والانحراف.

7 - اللوحة السابعة: نهاية المنازلة والصراع والمنافسة، التي أدت الى الخيبة والفشل (ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله . لكن .... صفعها خواء حلمها) .

إن الحكمة وراء فكرة القصة، هي ان الحقيقة والجوهر الاصيل لا ينهزم امام الاصنام المزيفة، عاجلاً أم اجلاً، هل تتنافس الزهرة الاصطناعية برائحتها البلاستيكية، الزهرة الحقيقية بعطرها الفواح الريحاني؟

 

جمعة عبد الله

..................

للاطلاع

المفكر يكون قاصا / سلام كاظم فرج

 

حافات قلقة / ماجد الغرباوي

 

 

قد يضطر المفكر أحيانا الى اللجوء الى تبني فن القصة القصيرة ممرا لتسريب بعض أفكاره الى الناس لما في هذا الفن من إمتاع وتشويق.. حتى افلاطون حين وضع كتابه الفلسفي الشهير (الجمهورية)..كتبه من خلال سرد ما جرى لسقراط وغلوكون ذات ليلة من ليالي الاحتفال بالعيد..برتراند رسل كتب مجموعة قصص قصيرة تناول فيها أحلام مجموعة من الرجال المشهورين في عالم السياسة وفي عالم الرياضيات والفلسفة.. المفكر غالب الشابندر له رواية قصيرة تنتمي الى هذا النوع من الفن الذي يحاول ان يمرر رؤية سياسية او فكرية...

ماجد الغرباوي مفكر إسلامي تقدمي.. ينتمي الى جيل المفكرين التنويريين المتأثرين بإطروحات عبد الكريم سروش وعلي شريعتي في الفلسفة والفكر.. إطروحاته في كتاباته الفكرية تتسع لتكون منظومة إنسانية شاملة تبتعد عن إطروحات الإسلام السياسي الشائعة والتقليدية.

ولكني هنا اكتب عن نص قصصي للأستاذ ماجد كتبه قبل سنوات.. تحت عنوان (حافات قلقة ..)..

من السهل الادلاء بشهادة نقدية بسيطة كالقول.. ان هذا النص رائع.. وذاك النص عميق.. فهذا الحكم وصفي بحت ليس فيه اية رؤية للتقويم.. ان وظيفة الناقد الحقيقية تشبه وظيفة الدليل السياحي.. لابد ان يكون الدليل على دراية بكل المثابات التي توصله الى اكثر الاماكن المثيرة للإبهار. فالقاريء العابر قد لايلتفت الى مطبات النص ومناطقه الممتعة والمخيفة معا. دون الاستعانة بدليل حاذق يرشده الى تلك المناطق..

والنص الحديث قد يحمل إنزياحات مركبة. ودلالات وإحالات متنوعة.. ولكي تصل كلها الى المتلقي.. لابد لها من كاشف مستكشف.. حاذق ونبيل. لا لكي يصحح مسارات الكاتب كما هو شائع او الاقتصار على الإشادة او الذم.. او المدح او القدح... بل للأخذ بيد المتلقي لاستكشاف الجديد والمثمر معا.إن كان في الأساليب السردية او المضامين الفكرية..

يثير نص ماجد الغرباوي مسألة قلما يجري الالتفات اليها من قبل كتاب القصة القصيرة الباحثين عن الجدة والابتكار. فتراهم يلوذون أحيانا بالغموض والتغريب حتى يستعصي فك ترميزات نصوصهم على كبار النقاد. ناهيك عن القاريء العابر.. وترى فئة غيرهم ما زالت تراوح في مضمار السرد التقليدي الذي تجاوزه كبار كتاب فن القصة في العالم..

نص الاستاذ ماجد واقولها بدون مجاملة.. حاول ان يضرب المثال لعبور هذه الاشكالية في طرائق السرد..فلم يركن الى الاسلوب التقليدي التعليمي الذي تجاوزه الزمن. ورغم حمولة النص باكثر من قيمة اخلاقية. لم ينسحب الى مطب الوعظ الاخلاقي الصريح والذي تحفل به بعض النصوص فيخرجها من دائرة الفن الى دائرة الكلام السائد..وهو بالمقابل . لم يقع تحت إغراءات التغريب الغامض العويص. ولم يجعل تأويلات نصه ممتنعة.. عصية..

أن جهدا نقديا بسيطا يمكن له ان يستكشف رسالة النص ..إن في المضمون. أو السرد...يمكن لما يسميه الناقد درايدن.. شهامة النقد.. (نقد الظاهرة) لا نقد النص او (شخوص النص..) الأستاذ ماجد هنا.. لم يفكر بإدانة بطلة نصه سعاد. رغم الصورة التراجكوميدي التي رسمها لها.. بل هو يضرب في عمق الظاهرة التي افرزت وتفرز عشرات الابطال السلبيين مثل سعاد. ظاهرة تحشيد الاتباع وإن بالمكر والخيانة والدسيسة والايقاع بالآخر.. كذلك نقد ظاهرة صناعة الاصنام في المؤسسة السياسية و الدينية والاجتماعية.. فهناك الاف الاشباه الذين يصنعون ما صنعته سعاد من خلال الزيف والتزييف لتوكيد سطوتهم. وتأثيث خرابنا..

قد تكون سعاد موهوبة وقد تستحق جائزة ما. وقد يكون المجتمع قد فرط بتقييمها..لكن اساليبها اللاحقة. قد تتحول الى وبال عليها.. قبل ان تكون وبالا على غيرها. عندها سيغادرها حتى هؤلاء الأتباع الذين انتفعوا مؤقتا من هداياها وإغراءها...

النص وفق رؤيتي.. ابعد ما يكون عن الشخصنة. بل هو يعالج ظاهرة. اجتماعية سياسية..موغلة في العمق تخومها..

هي بإختصار ظاهرة إختلاق الاتباع المزيفين في الفن والسياسة والمجتمع من اجل مصالح انوية عابرة تنتهي دائما بخراب روحي وحضاري وسياسي للفرد والمجتمع على حد سواء..

*** 

سلام كاظم فرج

 

"التسامح ومنابع اللاّتسامح: فرص التعايش بين الأديان والثقافات" كتاب لـ: ماجد الغرباوي، الناشر الحضارية للطباعة والنشر، إصدار معهد الأبحاث والتنمية الحضارية، الطبعة الأولى 2008، وعدد الصفحات 162 صفحة. يتناول فيه الباحث موضوعا مهمّا وهو: التسامح واللاّتسامح. في هذه القراءة سنبِّين أهم أفكاره الرئيسة مُبدِين رأينا فيها.

إنّ التسامح ضرورة حياتية تبقى الحاجة إليها قائمة ما دام هناك إنسان يمارس العنف والإقصاء والتكفير، ويرفض التعايش السلمي مع الآخر المختلف، بل الحاجة إلى التسامح تشتدُّ مع اتّساع التنوّع الإثني والديني، لامتصاص تداعيات الاحتكاك بين القوميات والثّقافات والأديان، والخروج بها من دائرة المواجهة إلى مستوى التعايش والانسجام. كما عبّر الكاتب عن الوضع الحالي بالقول: "إنّ ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميّات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح أو غيابه، فهو في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة أخلاقية تتحكّم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية، وهو في رأيها مِنّة وتفضّل مشروط، قد ينقلب إلى ضدّه إذا فقد رصيده الأخلاقي، وما نحتاجه فعلا لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهوم يرتكز إلى أسس متينة، تتفادى الاحتكاك على خطوط التماس".كما يرى الكاتب أنّ التسامح بمفهومه الجديد لا يتحقّق بسهولة، وأنّ تتوقف فاعليّته على حجم استجابة الأوساط الاجتماعية والدينية لضروراته، وهو في نظر الكاتب لأمر صعب، يحتاج إلى مران طويل يخفّف الإنسان خلاله من حِدّة غلوّه وتطرفه، وذلك يحتاج إلى عودة متأنّية للذات من أجل نقدها وتمحيص بناها الفكرية والعقيدية، وتأهيلها لتكون أرضية صالحة لاستنبات قيم التسامح الجديدة.

- التسامح ومنابع اللاتسامح: مقاربات تمهيدية

لا بدّ من التأكيد أنّه لم يبق أمام الشعوب الإسلامية خيار للحدّ من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشية في كل مكان سوى قيم التسامح، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر، وهذا صعب في نظر الكاتب لكونه "يستدعي جهودا يتظافر فيها الخطاب الإعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي، ويتطلب تعاون الفرد مع المجتمع، والشعب مع القانون، والدولة مع الدستور. إنّه عمل جذري يستهدف البنى الفكرية والعقيدية للمجتمع، وإعادة صياغة العقل والأولويات والوعي، وتقديم فهم عصري للدين والرسالة والهدف، ونقد للمفاهيم والقيم والسلوك".

لقد اعتبر الكاتب أنّ ما نشاهده اليوم من مظاهر عنف واحتراب يستدعي العودة إلى الذات لمراجعتها، ثم الارتكاز إلى قيم جديدة تستبعد الكراهية والحقد، وتنفتح على قيم الإنسانية والدين. وهذا "يتطلب الغوص في أعماق الفكر والعقيدة بحثا عن جذور المشكلة؛ أي ينبغي البحث عن الدوافع الحقيقة وراء ثقافة الموت والاستهانة بالحياة وتكفير المجتمع. وتقصّي المفاهيم المسؤولة عن صياغة البنى الفكرية والمعرفية لعدوانية المرء تجاه الآخر أيّا كان الآخر داخليا أم خارجيا، دينيّا أم سياسيا".

التسامح: الدلالات

ومن الحديث عن التسامح ومنابع اللاّتسامح، توقّف الكاتب كذلك عند دلالات التسامح؛ فبخصوص الدلالة اللغوية لمفهوم التسامح يرى الكاتب أنّها: تستبطن المِنّة والكرم، وتشير هذه الدلالة أيضا إلى وجود فارق أخلاقي بين المتسامِح والمتسامح معه. فليست هناك مساواة بين الطرفين، وإنّما هناك يدٌ عليا واهبة، ويد سفلى متلقّية، وهو مقتضى المنّة والكرم. في نظرنا نعتبر أنّ التسامح واجب علينا فلا هو مَنٌّ ولا كرم بل هو حقّ للآخر. وفي معناه الاصطلاحي يراد به الموقف الإيجابي الذي يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته. وفي علاقة بذلك، يتساءل الكاتب: ما هو المطلوب من الشخص المتسامِح؟ هل المطلوب التنازل عن القناعات الفكرية والعقيدية نزولا عند رغبة الآخر، أم إنّ ذلك ضرورة يقتضيها التسامح؟ أم إنّ التسامح يعني الانصياع والتبعية والرضوخ للآخر المختلف؟

انطلاقا من الأسئلة المطروحة أعلاه، يرى الكاتب "لا هذا ولا ذاك، وإنما التسامح يعني اعترافا بالآخر والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير، لا تكرُّما ولا منَّة، وإنما هو حق باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة، وعدم وجود حق مطلق لدى طرف دون آخر، وأنّ الحقيقة موجودة لدى جميع الاتجاهات الدينية والعقيدية على أساس وحدة الحقيقة وتعدّد التجارب الدينية". وثمة نقطة جوهرية، وهي أنّ التسامح لا يقتصر على الجانب الديني، بل يتعدّاه إلى ما هو سياسي وإيديولوجي واجتماعي، فالتسامح السياسي مثلا هو اعتراف بالآخر وحقّه في التعبير عن رأيه وممارسته. ونفس الأمر على مستوى التسامح الاجتماعي؛ أي الاعتراف بالآخر على أساس إنساني بعد تجريد مرجعية التفاضل من القيم العنصرية.

 

tasamoh2- منابع اللاتسامح

إنّ منابع التسامح - حسب الكاتب - تتعدّد تبعا لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وأيضا تبعا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية. ومن منابع اللاتسامح يذكر الكاتب ما يلي:

أوّلا: منطق العنف:

 إنّ العنف كان سائدا داخل المجتمعات غير المتحضّرة التي ترفض الاحتكام للقانون أو الأعراف، وبالتالي يبقى العنف السبيل لتقرير المصير. يقول الكاتب "لجوء الإنسان البدائي للقوة والعنف كان دفاعا عن النفس بسبب الأخطار المحدقة به، ولمّا ظهر التنافس بين المجموعة البشرية الواحدة واحتدم الصراع على المراعي والحقول، لجأ الإنسان إلى العنف للدفاع عن حياته وعائلته وممتلكاته"، وإذا لم تعمّ ثقافة التسامح اليوم ربما سيعود الصراع والعصبية، فيكون الفيصل لغة الدم، يقول الكاتب "ينبغي علينا أن نعي مهمّة ثقافة السلام والتسامح وضرورة انتشارها وتثقيف الشعب عليها عبر خطاب مؤهّل قادر على استنبات قيم جديدة، بدلا من النسق القيمي الذي نطمح لاجتثاثه، بمستوى يصبح التسامح مسؤولية تاريخية يتصدى لها جميع أبناء الوطن من أجل الوطن ووحدته وسلامته وأمنه ومستقبله، كي يلمس الشعب حقيقة التحوّل الذي طرأ على البلاد نتيجة التحوّلات التي مرّ بها".

ثانياً- الولاء القبَلي:

هذا الولاء يعدُّ من منابع اللاّتسامح، ونحن نعيش اليوم الولاء والتعصب إمّا للدين أو للمذهب أو للحزب، في غياب شبه تام لمقدّمات العيش في إطار الاختلاف، فالهوّة تتسع ويتسع معها العنف. ينبه الكاتب إلى خطورة الولاء القلبي بالقول "ليست العشائر في المجتمع القبَلي سوى خطر كامن يتفجر متى شاء، إذ أنّ قرار العشيرة قادر على تحريك كل أفرادها وبالتالي تعبئتهم ضد أية جهة، وحينما تتعرض مصالح العشيرة للخطر، حتى وإن كان ذلك على حق، فإنّها تتمرد على قرارات الدولة وإرادة القانون... فالمجتمع القبلي عبارة عن قنابل نووية مخصبة قابل للتفجير والانتشار الواسع. فتفكيك النسق القيمي وليس الاجتماعي للقبيلة وإعادة تشكيل العقل العشائري له الأولوية في عملية التغيير المرتقبة، ليصير إلى وسط اجتماعي يتقبل التحوّلات الجديدة ويتفاعل مع قيم التسامح".

ثالثاً- سلطة القيم:

يرى الكاتب أنّ ترزيق (تلقين) القيم إلى وعي الفرد يبدأ عادة في السنوات الأولى من حياته عندما يُلقّن بمفاهيم الخضوع والاستسلام للقيم، ويُلزم بقيم الاحترام والطاعة والخضوع، أي يُلقّن بمفاهيم قيمية يراد له الالتزام بها كي يكتسب احترام المجتمع. وهنا يعطينا الكاتب المثال التالي: فحينما يرتكز المجتمع إلى العنف في تسوية الخلافات وانتزاع الحقوق، فإنّ الاحتكام إلى العقل والتسامح، من قبل بعض الأفراد، يصبح جبنا. وهناك مثال آخر متعلّق بالعقلية الذكورية، فحسب الكاتب "تتصف مجتمعاتنا أيضا بأنها مجتمعات ذكورية، تمنح الرجل صلاحيات واسعة في مقابل تهميش المرأة وتحقيرها، وتلغي وجودها وتعتبرها أنثى يطأها الرجل حينما يرغب ويتخلى عنها متى يشاء"، وهذا فيه إقصاء للمرأة ومنعها من حقها في أداء رسالتها الحضارية إلى جانب أخيها الرجل.

إذًا لا بدّ من نسق قيمي يطال المشاعر والأحاسيس يؤهّل الإنسان لحياة جديدة قائمة على التسامح وإعادة وعي العلاقة بين جميع الأطراف، بشكل معقول ومنسجم مع طبيعة النفس البشرية الموغلة بالنقص والخطأ، يتفهّم الحالات المختلفة أو المتناقضة التي تطرأ على الإنسان.

رابعاً- الاستبداد السياسي:

 يؤكد الكاتب على أنّ الاستبداد السياسي يعدُّ خصما حقيقيا للتسامح؛ ففي الوقت الذي يعتبر فيه الاعتراف بالآخر جوهر التسامح الديني والسياسي والاجتماعي، يعتبر رفض الآخر وتهشيمه جوهر الاستبداد السياسي، لذا لا يمكن التوفيق بينهما. وبالتالي، لا يمكن إشاعة قيم التسامح في ظل أجواء التفرّد والاستبداد بالسلطة، لأنّ طبيعة الاستبداد تقتضي عدم الاعتراف بالحقوق السياسية للآخر، التي منها حقّه في ممارسة السلطة مع استكمال الشروط اللازمة لها.

خامساً- العنف الديني:

يعتبر العنف الديني أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبّسه ببُعد شرعي، وتوظيفه النص الديني، وسرعة تصديقه من قِبَل الناس، وقدرته على التخفّي تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح. فـ "عندما نعود إلى سياق التسامح ومنابع اللاتسامح نؤكد أنّ الفهم الذي يكرّس الأحقاد ويصرّ على تكفير الآخرين، من أجل شرعنة قتالهم ومطاردتهم، هو فهم لا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية، وبعدها الإنساني، وبالتالي فهذا الفهم يُعدّ من أخطر منابع اللاتسامح، لالتساقه بالدين الحنيف، فالمطلوب من أجل الرقّي إلى مستوى المجتمعات المتسامحة العمل على تفكيك الخطاب الديني المتطرّف، وتفتيت بناه المعرفية، وإشاعة وعي ديني قادر على فهم الحقيقة، كي يتوارى هذا اللون من الفهم ويحلّ محلّه خطاب متّزن يمهّد لاستنبات قيم التسامح والعفو والرحمة".

- التسامح: تأصيل الأسس

للتسامح أسس، وإرساؤها يعدّ مدخلا لجعل المجتمعات محتضنة لقيم التسامح ونبذ اللاتسامح، وهذه الأسس:

1- حقوق المواطنة: إذا كان الشعب غير مُهيّئ نفسيا وفكريا وثقافيا للاعتراف بالآخر، لأي سبب كان، فإنّ قبول الآخر وقبول التعايش معه أمر تفرضه وحدة الوطن، من أجل استتباب الأوضاع واستقرار الأمن والسلام. من هنا تكون حقوق المواطنة أحد الأسس الكفيلة بإرساء دعائم التسامح داخل المجتمع ولو بشكل مرحلي، وهي "قضيّة تمليها وحدة الوطن والحرية الشخصية والاعتراف المتبادل بين أبناء الشعب جميعا، رغم تنوّع خصوصياتهم؛ أي أنّ جميع الأفراد، وفقا لحقوق المواطنة، متساوون بالحقوق والواجبات على أساس التساوي في انتمائهم للوطن الواحد. مما يعني أنّ مقتضى حقوق المواطنة هو تقديم ولاء الوطن على غيره من الولاءات".

2- الحقوق الإسلامية لغير المسلمين: أي لا بدّ أن يرتكز المجتمع على قاعدة احترام الخصوصيات التي تنطلق من عناصر الالتزامات الدينية؛ بحيث لا يعتدي فريق على آخر، ولا يضطهده في خصوصياته. وفي ضوء ذلك "تتحدّد حرية المعتقد والتعبير في الضوابط القانونية الخاضعة للسلامة العامة للنظام والإنسان، على هذا الأساس ينفتح العيش المشترك في المساواة في الحقوق والواجبات في القانون العام. وفي الخصوصيات الشخصية، وفي مسألة الحريات في نطاق المسؤولية عن الفرد والمجتمع". ويبقى المطلوب حسب الكاتب هو الارتكاز إلى التسامح بالمعنى الاصطلاحي للكلمة لفاعليته وتجذّره وقدرته على ترسيخ قيم المجتمع المدني. أي المطلوب أساسا هو الاعتراف بالآخر وبحقوقه المشروعة، باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة على صعيد التجربة الدينية.

3- سيادة القانون: مثلما أنّ حقوق المواطنة هي الأساس الأول لإرساء قيم التسامح في المجتمع، فإنّ القانون وسيادته هو الأساس الثاني لها. بل لا يمكن للتسامح الاستمرار في تأثيره الاجتماعي ما لم يكن هناك قانون يستند إليه ويدافع عن قيمه، سيما إذا لم يتمثل الشعب بُعد التسامح إلى درجة الاعتراف بالآخر اعترافا حقيقيا. لذلك فإنّ وجود القانون ضروري. وفي هذا الباب يقول المؤلِّف: "مهما كان المستوى الثقافي للمواطن جيّدا غير أنّ نوازعه النفسية وطموحاته السياسية وقراءته المتباينة للأديان والحقوق القومية والطائفية، جميعها تساعد على زعزعة الأوضاع، وتخلق فراغا كبيرا إذا ما تفاقمت الحالة وتعذّرت السيطرة عليها. غير أنّ القانون سيلعب دورا أكبر، إذا توافر على قوة ردع عالية، مرتكزة إلى حرص السلطات التنفيذية والقضائية على تطبيقه، إضافة إلى حجم الحماية التي يمدّه بها الشعب". إضافة إلى ذلك، نؤكد على أنّ مشكلة الأمّيّة تعدّ السبب الخطير لانتشار اللاتسامح.

4- إعادة تشكيل قيم التفاضل: إنّ الناس في نظر الإسلام: إمّا أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق ومن ثم لا تفاضل بين الناس إلاّ بالتّقوى وهو ما تؤكّده الآية القرآنية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات13.

ويعلّق الكاتب على الآية أعلاه قائلا: "التقوى لا تعني كثرة العبادة، وإنّما خشية الإنسان من الله تعالى إبّان تعامله مع الناس، سلوكا وعاطفة؛ فربّما عابد لا يخشى الله في خلقه يمارس سلوكا لا أخلاقيا في تعاملاته اليومية، فيضرب ويقتل باسم الدين والقرآن والأخلاق، وهو بعيد عن كل ذلك. أو لا يتمتّع بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية التي أكّد عليها القرآن الكريم، فيتحايل عليها ويظلم الآخرين ويبخسهم حقوقهم بل ويتعدى على حقوق الآخرين. فالإنسان التقيّ من يخشى الله، سيما في موضوع استباحة الدماء، خصوصا مع المخالفين دينيا أو مذهبيا، فإنّ حرمة الإنسان عند الله كبيرة، فكيف إذا كان أخ لك في الدين والعقيدة ولا يعدو خلافه معك إلا في أشياء اجتهادية". إنّ الخطاب في الآية القرآنية تحدّث عن الناس ولم يقل المسلمين. ومن ثمة، فالآية العامة تتجاوز العبادة إلى المعاملة.

5- إطلاق الحريات العامة: الحريات العامة بدورها تلعب دورا كبيرا وفاعلا في ترسيخ قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد. وتعدّ حرية الرأي والعقيدة من وجهة نظر الكاتب إشكالية ملتبسة في الفكر الإسلامي، رغم وضوح القرآن الكريم في قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) سورة البقرة 256. فالطريقة المثلى حسب الكاتب ليست قتل المرتد وإنّما الانفتاح عليه بأساليب أخرى لتفهّم إشكالاته وشبهاته.

بناء على ما سلف، نؤكّد مع المؤلِّف على قيمة التسامح في شتّى تجلياته، ليتحقّق معه وبه مجتمع إنساني يؤمن بقيم الرحمة والاحترام والمحبّة دون بغض وحقد تجاه الآخر، سواء كان الآخر ابن الوطن أو الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا، فعصرنا عصر العولمة يفرض علينا السير مع مستجداتها وتجديد التراث بخطاب يسير ولغة العصر.

فغياب التسامح، إذن، يجعل العالم يعود إلى عهوده الأولى، حيث يسود الصراع القبلي والعنف، وهي نقطة جوهرية في الكتاب، وإننا نرى اليوم في كثير من البلدان مثل هذه الأمور، كتلك الصراعات القبلية الراجعة إلى قضية اللغة. وينطبق نفس الأمر على مسألة الاستبداد السياسي الذي أهلك ودمّر دولا عديدة.

ومن القضايا التي توقف عندها المؤلِّف بإيجاز، قضية العنف الديني، وفي الحقيقة موضوع العنف الديني بحاجة ماسة إلى المزيد من الكتابات، فالخطاب الديني اليوم يستلزم تعميق النظر فيه، وإنتاج خطاب يراعي التطوّرات، وإلاّ سيستمر خطاب العنف واللاّتسامح سائدا، وهو ما ينعكس أثرُه على البشرية جمعاء.

 

د. حفيظ اسليماني

باحث في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان - المغرب

..............................

الدراسة نشرت أيضا في موقع مؤمنون بلا حدود

 

لا أعتقد أن الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الدين ولكنه مفكر إسلامي. وهناك فرق واسع بين الدروس والعظات الدينية وبين تحليل أساليب واتجاهات المعرفة. وهذا لا يعني أنه مفكر محايد. إنه موضوعي.  ويحاول أن يتحرى حقائق الذهن البشري  وطرق الاستجابة للواقع. لكنه يعمل من داخل شبكة علاقات إسلامية.

فهو ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة كما هو الحال عند محمد عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كما هو شأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها.

ومن المعروف أن قراءة الإسلام تنطوي على تيارين. بالإضافة للمبشرين بالشريعة (بمعنى قوانين تفسير وعينا بمفهوم وهوية الإيمان)، هناك محور تكويني  يتابع ظواهر المعرفة بالمقدس من خلال الوعي بها. وديالكتيكي يطبق نتائج الوعي بالتاريخ على  تطوير أساليب وقوانين المعرفة.

لقد بذل الأستاذ الغرباوي ما بوسعه لينظر إلى الفكرة الإسلامية من داخل همومها. فالتحديات تتكاثر وتتوسع يوما بإثر يوم. ولا سيما بعد اتساع رقعة الاحتكاك مع بقية أرجاء العالم، وما يمثله ذلك من تحديات في تحديد مجال أشياء تبدو متشابهة، لكن لكل منها مساره الخاص كالضمير والوعي والروح والإحساس والعاطفة إلخ...

وهذا يعني أنه اهتم بالسياق والظواهر.

وليكون لكلامنا معنى لا بد من أمثلة.

لقد درس حروب الردة بالانطلاق من الأسئلة والمنغصات التالية:

ما هي الدواعي؟.

ومن أشعل الفتيل؟.

وكيف كانت طبيعة العلاقة بين الأطراف المتنازعة؟.

ووضع هذه المشكلة ضمن إطارين. داخل دورات التاريخ. وفي سياق أساليب التعبير. وهذا يعني أنه أولى عنايته للمدونة وللنص. بتعبير آخر لقد نظر للمشكلة كأزمة طرأت على علاقة الحاكم بالمجتمع، أو المركز بالأطراف. وخلص إلى نتيجة مفادها أنها فتنة عسكرية. والغاية منها أن يفرض الخليفة  أبو بكر سطوته على كل أجزاء شبه الجزيرة العربية. فالحرب كانت حربا للسلطة ضد الشعب، ولإسكات أصوات المعارضة، ولإخضاع الجميع لتوجهات القيادة الجديدة. واستطاع بهذه الطريقة أن يرسي الأساس لحدود أو معرّفات تفرز الإلحاد والكفر من الخلافات السياسية. واختار لهذه الحدود عنوانا عريضا هو (فعلية النص).

مادام ظرف النزول قائما فهو واجب، وبزواله يجب تعطيله، أو اعتباره في عداد المنسوخ بوجوب تبدل الأسباب. وأصلا إن فكرة إبطال الأحكام والأوامر الإلهية التي جاء بها الوحي كانت تهدف إلى الارتفاع بالواقع إلى واقع أفضل منه. وهذا يختلف عن الإلغاء والإزالة وله معنى التكيف والتطوير كما قال أحمد عبدالرازق في كتابه (فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي – ج2). فالنبوة وسيلة وليست غاية، والوحي أسلوب أو طريق كما يقول عبد الرازق أيضا (ص 943)*.

وقد ناقش الغرباوي باقة من الأحكام التي تندرج في هذا المضمار. بالإضافة لحروب الردة (التي أنكرها في وقت مبكر الشيخ علي عبدالرازق) توقف عند الجزية والفتوحات الإسلامية. ثم  أعاد التأمل في حدين من حدود المذهب الشيعي وهما فريضة الخمس، والإمام الغائب. بالإضافة لدور الشفاعة وكيف انتشرت بين البسطاء حتى أنها سيطرت على أفكارهم، ولعبت دور قيد أو غل بشري يحل محل العناية الإلهية. وبالتالي عطلت الثواب الذي يمكن أن يناله المؤمن من التفكير والاجتهاد. وكأن هؤلاء الوسطاء نسوا أن الإسلام هو دين معرفة وثقافة أولا.  وأن العقيدة في عصر العلم وفلسفة التنوير لا تبنى بالتأويلات ومراكمة الخرافات والاستجارة بالتراث كما ورد بالحرف الواحد في كتابه الإشكالي (مدارات عقائدية ساخنة) (ص 88)** والذي اتصف بقدر لا يستهان به من الشغب والممانعة.

وأعتقد أن هذا الكتاب، الذي أصدره بالاشتراك مع طارق الكناني، مخصص بمعظمه لتفنيد الأساطير والخرافات التي دخلت على المذهب الشيعي، وتسببت له باختناقات اجتماعية. وكانت حجته الأساسية أن الإسلام جاء لينظم علاقة الإنسان بالله أولا (معرفة) ثم علاقة الفرد بالمجتمع (سياسة). والدين لم يأت ويبذل كل تلك التضحيات ليضع الإنسان المسلم في زاوية تمنعه من التفاهم مع واقعه ومع العالم الذي يحيط به.

ويلاحظ على الغرباوي أن أمثلته بمعظمها تهتم بنفي الحدود الوضعية. وبرأيه إن معظم الممارسات في الوقت الحالي لا تكلف نفسها نفض غبار السنوات، من جهة، ولا تحاول التعالي على سياسة التبرير لخدمة مآرب الحكام. ويؤكد أن مبدأ ولاية الفقيه هو مبدأ إيديولوجي وضعي (بمعنى إجرائي)، ونجم عنه انحدار مستوى فهمنا للشورى، وعدم إمكانية تحويلها إلى ديمقراطية متطورة حسب سلم القيم والمعايير الغربية.

 وذهب لأبعد من ذلك ورفض أن يكون لأي إمام ولاية تكوينية (حسب المفهوم الذي استشرى في السنوات الأخيرة)، وذلك لأنها تعني التصرف بالكون. وهذه المهمة ربانية صرف، وإلا دخلنا في الشرك (ص 300)، فالله ليس كمثله شيء، وهو متفرد بالوجود، ولا يقبل أية شراكة أو نيابة (ص 300).

وبرأيي إن ما تعرضت له حركات التنوير والإصلاح، وبلغة أوضح: المذاهب والفرق الباطنية، من دس وتحوير وتحريف وإضافات، يحتاج لعمل شاق في سبيل التنقية وتقريب وجهات النظر. فقد تحولت هذه الاتجاهات إلى حضارة جريحة، ولا سيما بسبب الاستبعاد المقصود من المشاركة في بناء كيان الدولة. وتهمة التكفير والإشراك التي تعرضوا لها في عدة عهود، منذ تأسيس الدولة الأموية وليومنا الحالي، هي المسؤولة عن رابع أزمة عسكرية تعصف حاليا بالخليج (وهي حرب اليمن). ولدي شبهات أن الإبادة الجماعية التي طاردت حركات الإصلاح (كالشيعة والمتصوفة والأدباء المستنيرين)، في غضون حرب المائة عام، لا تختلف بشيء عن المحرقة النازية. ويمكنني أن أرى في عقوبة الصلب والحرق التي اتبعها الأمويون والعباسيون لتصفية خصومهم محرقة يندى لها الجبين.  وقد وصل التشويه ذروته في عصر التنوير والنهضة، واتهم كل صاحب رأي جريء أو مستنير بتهم كاريكاتورية تدعو للهزء.

وبهذا الخصوص تساوى المتنبي والحلاج والنفس الزكية وزرادشت.  وأقرب مثال على ذلك كتاب (العقائد) لعمر عنايت (صدر عن دارالعصور عام 1928). وكتاب (الدعاة) لوجيه فارس الكيلاني (صدر عن دار المطبعة العربية عام 1923). فقد اعتبر الكيلاني أن زرادشت (ص 38) ومسيلمة (ص 50) والحسين (ص 92) وجان دارك (ص 95) كانوا على قدم المساواة، ومن بين الشخصيات التاريخية الشاذة أو المارقة.

وطاردت تهمة مماثلة الإمام الأفغاني، وأدانته بالانحراف عن أصول الدين. ولا تزال كل الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية تطعن بتفسيره للقرآن وتشوه أهدافه السياسية، وترى أنه لا يجد فرقا بين مفهوم الوحدة ومفهوم الأمة، أو بين الجامعة الشرقية والجامعة الإسلامية، كما ورد في (الدرر السنية) بتحريرعلوي بن عبدالقادر السقاف.

وبناء على ذلك أصبحت أمام الغرباوي مهمة مزدوجة.

وهي الكشف عن المبالغات الدينية التي يرعاها الوعي الباطن، وإعادتها إلى مكانها في سياق تطور التاريخ والأحداث. وهكذا تطور أسلوبه من مجرد الوصف والتحليل إلى التفكيك وإعادة التركيب. ويتضح ذلك في كتابه (مدارات عقائدية). فقد واتته الجرأة ليقول عن كثير من العتبات الدينية  أنها رواسب من التخلف والجهل وسوء التربية . ثم ليردف إنها منحنيات أسطورية تثقل على وعي الإنسان المسلم وتخنقه وتكبت حرية السلوك والتصرف الإيماني النابع لديه من الفطرة والبديهة.

 

د. صالح الرزوق

................

*المعهد العالمي للفكر الإسلامي. د. محمد أحمد جاد عبدالرازق. فرجينيا. الولايات المتحدة الأمريكية. 1981.

** مدارات عقائدية.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، ماجد الغرباوي وطارق الكناني، دار امل الجديدة، دمشق. 2017.

 

 

 

النص وآليات القراءة والنقد: مثّل النص الديني اطارا مرجعيا عاما للفكر العربي الاسلامي، فكان له من حيث هو نص، دور محوري في توجيه التطور اللاحق لذاك الفكر. وشكل (القرآن والسنّة) سلطة فكرية حكمت منذ البداية مجمل عملية الإنتاج المعرفي الإسلامي في العصرين الأول والوسيط، وحددت أبعاده المعرفية والمنهجية وهيمنت على توجهاته المتعددة.

لم ينطلق القرآن من فراغ سوسيوثقافي وتاريخي، بل يبني على ما سبق تصحيحاً وإغناءً وتطويراً: «وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقرآن أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» [يونس:37]. وإذا كان القرآن يقطع مع ما سبق، فهي قطيعة نسبية، بمعنى النقلة النوعية من إطار معرفي إلى آخر، ليتحول بذلك الى تراث هويتة ثابتة لا يمكن زعزعته او المساس به بعد اكتسابه صبغة القداسة.

الواقع ان جل التيارات الدينية لا تكاد تميز بين التراث الديني والدين، رغم أن النص الديني نفسه بشقيه –القرآن والسنة- يحتاج هو الاخر الى قراءة موضوعية علمية، تخلخل الاساطير التي تشكلت حوله، وتزحزح كل قراءة او تأويل تصدى لتقديم فهم عن الدين. وهذا ما قام به بعض المفكرين حينما درسوا تاريخية النص ودعوا إلى إعادة قراءة وتأويل النص الديني بمنهج اسلامي جديد، كالمفكرين نصر حامد ابو زيد وماجد الغرباوي، مثالا، حيث عملوا على تأسيس رؤى ومنظورات من شأنها ان تشكل منهجا جديدا يتجاوز الفهم التقليدي .

سعى الباحث العراقي ماجد الغرباوي1، عبر مشروعه الفكري النقدي إلى تقديم فهمٍ مغاير ومختلف للدين ومفاهيم الفكر الإسلامي، من خلال تأويل نصوصه ونقد سلبياته، والتمييز بين ماهو إلهي وما هو بشري، باعتباره خطابا كغيره من الخطابات التاريخية، قد يطرأ عليه ما يطرأ عليها. فأنجز من خلال هذا المشروع قراءة نظرية ومنهجية نقدية لأصول هذا الخطاب لتعريته بعد إخضاعه للمراجعة والنقد، والكشف عن أبعاده التاريخية والايديولوجية النسبية والتي غالبا ما يتغاضى عنها الكثيرون.

قبل شروعه في ممارسته النقدية عمل الغرباوي على كشف أليات إشتغال النص والخطاب، بعد أن حدد أبرز منطلقاته الايديولوجية. فالمشروع النقدي لماجد الغرباوي مشروع نهضوي، يروم التطور الحضاري، عبر فهم متجدد للدين ونصوصه المقدسة، بمنهج نقدي – عقلي بعيدا عن الخرافة واللامعقول الديني. فهو لا يعتقد أن قداسة النص تفرض عليه التعاطي بذات مناهج الفقهاء والأصوليين أو أي اتجاه آخر. بل يرى الباحث أن متطلبات البحث تفرض عليه تجديد أدواته ومناهجه النقدية، في ضوء رؤى عقلانية فاعلة ومعاصرة تسمح بفهم جديد للنص الديني ودلالته.

من المناسب ونحن نتطرق لمشروع نقدي طموح ان نتساءل ماذا يُقصد بالدين، وكيف تفهم الناس الدين؟ هل هو مجرد مجموعة طقوس وشعائر تمارس يوميا، أم أنه يتعدى ذلك لينغرس في صلب الممارسة التاريخية والاجتماعية والايديولوجية والسياسية والتي تسعى كل طائفة وكل فئة أن تبرر بها مصالحها الخاصة؟ لا شك أن فهم الناس يقتصر على الفهم الطقوسي، الأشمل من العبادات والممارسات اليومية، غير أن الباحث الغرباوي يبغي بلورة فهم جديد للدين، من خلال منهج نقدي، يبتعد به عن التوظيف السياسي والأيديولوجي والطائفي. منهج يعيد للدين حيويته وفاعليته، كسمة إنسانية، تساهم في توحيد الناس وتزرع فيهم روح المحبة والوئام والتسامح، ويساهم في استقرار النفس الانسانية المتعبة. يذكر ان ماجد الغرباوي اشتغل كثيرا على موضوع التسامح والعنف. لذا يقدم فهما للدين بعيدا عن التراث وسلطته. فمشروعه النقدي يتجاوز القراءة الظاهرية للدين ويغور في اعماق الدين للبحث عن تاريخية نصوصه، ودراسة تاريخ الاحكام الشرعية وفلسفة تشريعها، فطالما يردد أن (فعلية الحكم الشرعي تتوقف على فعلية موضوعه الذي تتوقف على فعلية جميع قيوده وشروطه)2، لذا كتب دراسة بعنوان: "دعوة صريحة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء"3، اوضح فيها بصراحة كبيرة، وهو المعروف بجرأته الصادمة في كتاباته وأفكاره، عن عدم فعلية كثير من الاحكام والتشريعات، كأيات القتال والجهاد، وما يخص اهل الذمة، والمراة وحقوقها، وكثير من القضايا الاخرى. فالنص المقدس عنده مفتوح على جميع القراءات، ويمكن للباحث الوقوف على طريقة اشتغاله. كما بذل جهدا كبيرا للفصل بين الدين والفهم الديني، ورفض فكرة التقديس لدى جميع المذاهب الاسلامية، بل يرى فيها عبء فكري وعقيدي انهك الدين. كما يعتقد أن الاسلام الديني قد انتهى بعد وفاة الرسول مباشرة ليحل محله الاسلام السياسي، في اشارة الى لحظة انقلاب الوعي الديني، واعادة تشكيله، فما توراثه المسلمون ليس هو اسلام الكتاب بل اسلام المذاهب والفرق. يقول في حوار معه: (ما إن تنتهي مرحلة نزول الوحي بوفاة النبي، تبدأ مرحلة تأويل النص المقدس، وتزوير الوعي الديني، بدوافع شتى، أخطرها السياسة حينما تفرض نفسها على التأويل، فيغدو نصا جديدا، وتفسيرا رسميا يصادر النص الأول، ويعيد تشكيل الوعي. وتارة تدفع ضروراتها باتجاه وضع الأحاديث، ونسبتها للرسول الكريم. وثمة نصوص لا يمكن الجزم بصحة صدورها لعبت دورا خطيرا في عالم السياسة، سواء في عهد الخلفاء، أو في عصر الدولة الأموية. وكما أن ثنائية السلطة والمعارضة كانت وراء التمادي في تأويل الآيات وتزوير الوعي ووضع الروايات، فأيضا كانت السياسة سببا أساسا في نشوء المذاهب والفِرق، وتأسيس مرجعيات فكرية وعقيدية جديدة. فعندما دشن الخلفاء بنزاعهم على السلطة مرحلة الإسلام السياسي، وتسيس الدين. أبقوا على قدسية النص، لشرعنة التأويل، فهو طاقة، يستمد قوته من مرونة النص المقدس وثرائه ورمزيته، ويبقى القارئ ومهارته في توظيفه)4.

اما المفكر نصر حامد ابو زيد انطلق من خلال اطروحاته بتسليط الضوء على اشكالية المزج التلفيقي بين التراث والدين وبعبارة اخرى الكشف عن اللحظة التاريخية؛ التي وقع فيها الخلط بين ما ينتمي الى الدين الرسمي، وبين ما يدخل في مجال التراث بشكل عام، وهي اللحظة التى تتحدد في الخلط بين السنة النبوية والدين ومنه يطرح لمعضلة النص فهما اخر، ففتح بذلك المجال امام حوار مفتوح على الدوام بالانفتاح على جميع مصادر المعرفة، حتى مع تلك الوافدة الينا من الغرب، والتي باستمرار تضعنا امام موقف الصدمة، ثم الانفتاح على رهانات النص العرفاني فالامر عنده لا يتوقف فقط عند حدود النص القرآني فحسب ..بل حتى اشكالية كيف نقرأ العرفان الاسلامي؟ فالتجربة العرفانية تعتبر عنده محتوى انطولوجي ومعطى فينومينولوجي، وتأسيس تاريخي ينتج خطابات لها دلالاتها ونظام ظهورها وبالتالي الجمع بين الفكر والذكر، وبين التفكير والتدبير.

فالدعوة للبحث عن مفوم النص ليس في الحقيقة الا بحثا عن ماهية القرآن .. والدعوة الى فهم واقعنا في علاقته بالنص القرآني على وجه الخصوص. فيضعنا هذا البحث امام اشكالات جوهرية يبرزها فعل القراءة والتأويل .

ولا يفوت الغرباوي الحديث عن لحظة تداخل البشري بالالهي عبر روايات لا يمكن الجزم بصحتها كما يعبر مرات عدة، لكنها تركت بصمتها واعادت فهم الدين. فالحدث التاريخي الاول ونزاع الصحابة على السلطة بالنسبة له نقطة تحول كبرى، وسّعت من دائرة المقدس، وخلقت مرجعيات شرعية جديدة، اليها يعود فهم الدين بصيغته السياسية، فيصف تلك المرحلة: (عندما نجرد تاريخ الحقبة الأولى من قدسيتها، سنكتشف جذور العنف، أسبابه وشرعيته. فالصحابة أول من أسس له، وفق مصالح سياسية، تلبّست بأهداف دينية. وأول من وظّف الدين لصالح السياسة. وأول من أقصى المعارضة، وأول من خاض حروبا داخلية على السلطة)5.

إن تقديس الصحابة حد العصمة، ترك تداعيات خطيرة، جعلت منهم مرجعية فكرية وعقيدية وسلوكية، بل جعلت منهم سلطة، تحدد سلوك المسلمين. خاصة الحديث الذي يقول: "خير القرون قرني"، أو "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". الذي قتل روح النهضة، والمبادرة الحضارية. وقتل روح التنافس حينما اعتبر جيل الصحابة مثله الأعلى، والغاية القصوى التي يطمح لها الإنسان، ثم تأخذ الأجيال بالهبوط حضاريا. فانقلبت مهمة الفرد بسبب هذا الحديث من التطور حضاريا إلى تدارك الانحطاط الديني قياسا بجيل الصحابة. وهذا هو الوعي الارتدادي، العاجز عن مواجهة الواقع، والتأثير فيه. مشكلة الحضارة مشكلة فكرية – ثقافية قبل كل شيء، وما لم نَعد النظر بمرجعياتنا ووعينا، فلا نغادر بقعة التخلف، ونبقى نتفاخر بماضٍ جميل، لا يمكن استدعاؤه، أو تقليده، ونعيش حاضرا بائساً محطّماً6.

 من هنا نطرح الاشكالات التالية:

- هل يمكن التأسيس لقراءة نقدية جديدة للنص الديني باعتباره سلطة مقدسة؟ وكيف نؤسس لفعل داخل سلطة النص الديني؟

- الى اي مدى يمكن تعرية هذا النص والحفر فيه لتخليصه من كل الرواسب الايديولوجية والميثيولوجية؟.

الخطاب الديني المعاصر.. مفهوم النص "التأويل والنقد"

ان المراحل الاولى التي ارست سلطة التراث الشمولية، وشكلت الوعي الديني، هي المساحة المشتركة التي دشن كل من المفكر المصري نصر حامد ابو زيد، والمفكر العراقي ماجد الغرباوي مشروعه النقدي للمقدس وسلطته ونصوصه. داخل النص المقدس وفي صلب الفكر الديني.  

لا ينكر أحدنا عودة الدين من جديد ليشكل وبصورة مكثفة محورا للسجالات الفكرية داخل مجتمعاتنا المعاصرة، فالإسلام كدين وتراث فكري يسترد اليوم حيويته المطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات الإسلامية، فبات يلعب دورا من الطراز الأول في عملية انتاج الإيديولوجيات الرسمية، وراح يستلب وعي الناس لولا جهودا متميزة داخل منظومة العقل الإسلامي أمثال ما قدمه: محمد أركون ونصر حامد ابوزيد وحسن حنفي وطه عبد الرحمن وعلي حرب وماجد الغرباوي... حيث استطاعوا أن يحركوا من جديد إشكاليات النص الديني الكلاسيكية برؤية أكـثـر حداثية، وتوظيفهم آليات فعالة في إنتاج المعرفة حول النص وكشف اساليبه، وتعريته من سياجات الدوغمائية7

واذا ما انطلقنا في توصيف النص عند نصر حامد ابوزيد نجد ان هذا النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي8 ..تشكل في الواقع والثقافة منذ 20 سنة. ”ومن الطبيعي أن يكون المدخل لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة... الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص، وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة، بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة والواقع بمثابة بدء بالحقائق الإمبريقية9

وبحسب ماجد الغرباوي فانه يرى في النص بنية، تستمد وجودها من نسق دواله واسلوب ترابطه، وطبيعة مرجعياته الفكرية والثقافية، وبالتالي هذا النص له بعد باطني خفي، وسلطة تتوقف فعليتها على تحديد منبعه او مصدره ومؤلفه. ولكي يكتسب النص صفة القداسة يجب ان يصطبغ بصبغة متعالية عن كل ماهو ثقافي وتاريخي10. لكنه بنفس الوقت يحذر من رهاب القداسة في نقد النصوص، وهذه نقطة مهمة تعرض لها الباحث الغرباوي فالروايات الموضوعة قد تخدع الباحث باسم القداسة، خاصة الباحث الديني الذي يعتقد بقداسة النص، فهذا الاعتقاد ينعكس سلبا كما يرى ماجد الغرباوي: (تارة رهاب القداسة يحول دون التعرف على تاريخ النص وفلسفته وشروط فعليته، مخافة المساس بقدسيته، فيؤثر الباحث التمادي بالتبرير على خدش حصانة النص، رغم أن النصوص جاءت لمعالجة الواقع، وفعليتها ترتبط بفعلية ظروفه، وليست أحكاما مطلقة تتعالى على شروطها التاريخية وفلسفة تشريعها)11. وذلك لإن حصانة النص، كما يعتقد الباحث الغرباوي، تجعل منه فضاء معرفيا مغلقا، يحد من خيارات قراءته وتأويله. ومهما تمادى الباحث في نقده، لا يجافي منطق النص ودلالالته ولوازمه، فيعود لتلك الثوابت والمحددات، يتحرك في مداراتها، في تماهٍ مستمر مع النص، وفي دوامة المراجعة والنقد لقبلياته حينما تصدم مسلماته بمنطق النص أو تأويلاته. ولعل في النصوص الغرائبية مثالا واضحا للفرق بين القراءتين، حيث يتخلى العقل أمام انبهار الباحث الديني، أو لا أقل يلوذ بالصمت، ويبالغ في قداسة النص وقائله، هروبا من جحيم أسئلة العقل واستفهاماته. بينما يرفض الباحث المتحرر تلك الغرائبية حينما تناقض العقل والمنطق ويتعذر التأكد من صدقيتها تجريبيا. فالعقل لا يتخلى عن دوره، ولا يتوانى عن طرح الأسئلة والاستفهامات. فهو لا يتعقل وجود إنسان خارج الطبيعة البشرية مهما كانت قدسيته، أويكون  قادرا على اختراق القوانين الكونية12.

نفهم من كلامه المتقدم: أن قداسة النص سلطة موجهة لوعي الناس، ومرجعية معرفية نهائية. فالنص المقدّس هو الموجّه لحركة الفكر الإسلامي ومدياته عبر التاريخ. كما تبيّن أن النص المقدس لا يتحرك فقط بقيمته المرجعية، ولا بقداسته فقط، وإنما يتحرك ضمن منظومة معرفية، وجهاز مفاهيمي، تربطهما علاقة جدلية بالبيئة الثقافية والاجتماعية للمتلقي، الفرد والمجتمع. وكل واحدة من هذه المفردات هي سلطة بحد ذاتها، تعزز من قيمة المقدّس. فالفيلسوف واللاهوتي "المتدين" عندما يستغرق في تأمله النقدي، سرعان ما يعود لأحضان النص الديني تفاديا لأي فهم، يستفز يقينياته، وقد ينقلب على تفكيره حينما يتمرد، ويسعى لنقضه تماهيا مع عقيدته13.

الرواية ليست مجرد نص عادي، بل يعتقد ماجد الغرباوي انها: سلطة تحرك الفرد فور سماعه، وتفرض عليه موقفا وسلوكا يعزز قيمتها وسلطتها. وهي ليست مجرد نسيج لغوي بل يتلقاها المتلقي ضمن نظام معرفي متوارٍ، ومجموعة أنساق ثاوية في أعماقه، ودلالات تؤثر لا شعوريا، وبنية معرفية تتحرك في إطار مقولاتها. ويظهر هذا بوضوح على مشاعر المتلقي عندما تتحدث الرواية عن موضوع الآخرة أو عذاب القبر أو تحفز فيه روح النقد والندم وجلد الذات وطلب العفو والمغفرة والشعور بالذنب وتأنيب الضمير. أو التفاعل العاطفي مع المواقف التاريخية. كما أن تداعيات رفض النص أو التمرد على منطقه، لا تغيب عن ذهن المتلقي، فيندفع باتجاهه، من خلال حزمة مؤثرات، شعورية ولا شعورية. فعقوبة العاصي أخروياً يهتز لها جميع كيانه. فيكون تلقيه تلقيا مزدوجا. إيجابي باعتبار صدقية النص. وسلبي عندما يتمرّد عليه، ويرفض أوامره ونواهيه14.

والروايات خاصة الموضوعة كما اشار مرارا في كتبه وحواراته، ليس مجرد نص بل تتحول الى مرجعية فكرية وعقيدية، وهنا يتداخل المقدس بالبشري، ويأخذ الثاني صفحة الاول فيفرض هيمنته المرجعية، وهو ما يتوخاه الواضع من وضعه واختلاقه للرواية، وهذا هو الهدف الأساس وراء وضعها واختلاقها، لتكون أداة ماضية لاقناع الناس بمضمونها وقمع معارضيها. والنص المقدس هو الوحيد القادر على تحقيق هذين الهدفين معا، خاصة عندما يعتقد الناس بوجوب طاعته، امتثالا لله ولرسوله. وهذا هو سبب تقوّل بعض الرواة على الله ورسوله كذبا وزورا، خدمة لمصالح شخصية أو سياسية أو دينية. بل أن النصوص الموضوعة هي التي أدارت لعبة السياسة، وقلبت موازين القوى على طول تاريخ السلطة في الإسلام15.

لقد درس الباحث ماجد الغرباوي سلطة النص في الروايات وبحث قوة تاثيرها على المتلقي، ورصد كيف لعبت الروايات الموضوعة في تقديم فهم جديد للنص المقدس، بل وللدين كله، فالدين الان هو دين تراثي، وفهم بشري على قياسات الفترة الاولى، عصر الصحابة، ثم اخذت الروايات تزداد كلما ابتعدنا عن عصر النص كما يعبر الغرباوي. لذا يعبر عن قلقه بشان الروايات الموضوعة، فيقول: ورغم اكتشاف طيف واسع من الأحاديث الموضوعة، لكن بقي ما هو خطير منها عصيا على الكشف إلا وفق مناهج نقدية صارمة، قد تنفع نتائجها طبقة الواعين من الناس، لكنها لا تقنع الفقهاء، ومن يتعاملون مع النص بقدسية فائقة. سيما حينما تكون الرواية معتبرة صدورا، واضحة دلالة، وفقا لمناهجهم في نقد الحديث، بل حتى مع عدم وجود دليل على اعتبارها وصحة صدورها، يخشون رفضها، ويتعاملون معها برفق، كي لايتجرّأ، ويتخطى الخطوط الحمراء، أو يخترق مناطق محرمة، فتجد ديدنه الاحتياط في تعامله مع الروايات. لذا ما زالت سُنّة النبي توجه وعي الناس، رغم ما فيها من ضعف وتناقض مع آيات الكتاب الحكيم. ورغم تاريخيتها إلا ما ندر، وفقا لمسؤولياته كنبي ومبلغ وبشير ونذير16.

والخلاصة ان النص عند ماجد الغرباوي، ليس مجرد مفردات وجمل، بل هو نسق ثقافي، ونظام معرفي، وسلطة تستمد قوتها من أسلوب بنائه، وطريقة تركيب الكلام، وتشكيل دلالاته.  ففهم النص يتطلب عدة معرفية، تتنوع في أدواتها ومناهجها، تغور في أعماقه، لتكتشف طريقة اشتغاله وأدائه، والإطلاقات تعمق سلطته حتى لو كانت نصوص مكذوبة. فتارة لا يكفي التفكيك، بعيدا عن منهج التحليل، تبعا لقوة رمزيته وإيحائه. فالنصوص مخاتلة، مراوغة، تخفي أكثر مما تظهر، وتستدرج المتلقي بدلالاتها، لتخفي مدلولات لا تريد خضوعها لمنهج النقد، خاصة النصوص المقدسة التي اتصفت ببلاغتها، وقوة تعبيرها ورمزيتها. ففهم كل نص ينتج نصا جديدا، له معالمه، وأسلوب اشتغاله، في توظيف سلطته على المتلقي. ويتضح هذا جليا في فتاوى الفقهاء، واستنباطاتهم الفقهية. فالنص الجديد يتصل وينفصل عن النص الأول وفقا لخلفية القارئ / الفقيه مثلا، ومنهجه في فهم النص. وأكثر وضوحا في روايات تفسير القرآن، فإنها تحجب النص الأول وتحل محله، في سطوتها وسلطتها. سيما المنهج الأثري، الذي لا يجيز مقاربة النص القرآني مباشرة، بمعزل عن رواية تراثية تفتح مغالقه وأسراره (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). والراسخون بالعلم هم النبي وأصحابه. فيجب اعتماد الرواية في فهم آياته. وهذا الاتجاه لا يدرك أن النص الثاني يحجب النص الأول، ويغلق منافذ العلم والتأويل بسبب تاريخيته، وقبليات قائله. وهكذا بالنسبة للنص الثالث الفقيه / المفسّر17.

التأسيس لفعل النقد عند ماجد الغرباوي

 في الحقيقة ليس الدين في حد ذاته ما كان يسعى إلى نقده الباحث ماجد الغرباوي بل فهم معين وطريقة محددة في التدين. أي ذاك المعنى الذي رسخته الممارسة التاريخية والايديولوجية عبر عصور التاريخ الحضاري للشعوب الاسلامية، ويرى أنه ثمة حقيقة تاريخية وهي: أن النصوص المنسوبة للرسول لم تتوقف بعد وفاته، واستمرت تلبي حاجة المرجعيات الفكرية والعقدية والسياسية، فاشتملت هذه الاخيرة على اخبار غرائبية عن الخلق والموت، والحياة وحياة القبر والاخرة...، وراحت تفرض محددات وشروط للنجاة يوم المعاد. وذلك من خلال ما تقدمه من تفسيرات وتأويلات للكتاب الكريم، أو لتستقل عنه بتفصيلاتها فتؤسس لعقائد ورؤى جديدة فتفرض رقابتها على الحقيقة18.

فنجد أن هذه المذاهب والفرق لم تعد مجرد اختلافات إجتهادية حول المسائل الفقهية بل أصبحت تمثل قراءة وفهما للدين له خصائصه ومعالمه وقدرته على التنافس لاحتكار الحقيقة وسبل النجاة في الاخرة، فنجدان هذه الفرق اعادت قراءة الدين وفقا لرؤيتها، فأقر ماجد الغرباوي في حواره النص وسلطة النفي أن من يتابع تطور الفكر العقائدي عبر القرون الأربعة، و يدرس ظروف نشاتها، يصاب بالذهول حينما يكشف خداعها وأوهمها وبشريتها، فالعودة لتاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية بموضوعية وتجرد تام، يرصد بنفسه بشريتها وتاريخيتها واوهامها وخداعها من حيث التأسيس والوجود والإستمرار19.

وبإعتبار أن العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة وبسيطة وربما ساذجة ثم تتطور، فبعضها يموت وبعضها الأخر يقاوم التحديات عندما تجدد هذه الأخيرة خطابها فيصبح بذلك الدين نسخة مذهبية طائفية لا محالة20.

و لقد فحص ماجد الغرباوي هذا الخطاب في شكله التقليدي والمعاصر فوجده منغمسا في تصورات كلامية ايديولجية بعيدة كل البعد عن معاني الدين نفسه، من حيث كونها تكرس الجمود والجهل والتخلف بإسم قدسية مزعومة، وذلك ما يستوجب إعمال العقل للتأويل والنقد من جديد، فالدين بحد ذاته لا يقبل التشظي ولا الإختزال أو الإحتكار، له حقيقة واحدة وحقيقته الكبرى هي "الله"21.

 وبالتالي الدعوة للعودة إلى الدين بعيدا تمذهب الخطاب وطائفيته، فالخطابات الطائفية تشكل خطرا حقيقيا على المبادئ والقيم الإنسانية ولأن هذه الأخيرة تكرس الجمود والجهل والتخلف والدوغمائية وبالتالي يصف هذا الخطاب بأنه خطاب إقصائي ماكر، مخادع ينبذ الأخر ويتوارى خلف شعار التسامح22.

فنجد أن هذا المشروع النهضوي يؤسس لفعل النقد في صلب الفكر العقائدي الديني والذي لا يهدف إلى القطائع مع الموروث بل نقد عقلاني منهجي وأسلوب تأويلي فاحص تجاه ممكنات الخطاب الديني، والوقوف عند منطلقاته الايديولجية لفضح طريقة تأويل رواد هذا الخطاب من جهة وكذا تزييف آليات إشتغالهم وإستدلالهم عليها من جهة اخرى23.

فجاء هذا المشروع بغية تسليط الضوء على الطبيعة المنهجية إلى جانب الأفق النقدي في صلب هذا الخطاب، فنستشف انه مارس نوعا من الحفر في بنيته، فوجد أن الحادثة التاريخية بينت بوضوح تحول الصراع من المجال السياسي إنطلاقا من فكرة من الأحق بالخلافة شرعا إلى المجال الديني.

فعملت هذه المذاهب على تحطيم الدين وبنيته وهي ترفع شعاراته بما يخدم متبنياتها العقدية، و اختزلته في رموزها فتكون بذلك فهما جديدا للدين يصعب نقده او تفكيكه فاصبح من المواضيع المسكوت عنها أو من المستحيل التفكير فيها24.

فنجد ان عصارة هذا المشروع النهضوي للمفكر ماجد الغرباوي يتلخص في الدعوة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء والفرق المذهبية من جهة والتأسيس لفعل النقد داخل الخطاب الديني من جهة اخرى، وهذا النقد لا يمكن ان نؤسس له الا بمراعاة ماهو قابل للنقد وماهو ممتنع عنه، فهناك نص يتعالى على التاريخ، سرمدي، له قدسيته فيحتكر الحقيقة ويفسر الواقع، ألا وهو النص القرآني، وهو نص ينغرس في التاريخ وقد سبغت عليه المذاهب قدسية خاصة وهي السنة، وبالتالي فالنقد لا يكون نقدا للدين في ذاته، بل يكون النقد حول فهمه وقراءته في هذا الخصوص.

معضلة تأويل النص.. نصر حامد ابو زيد

 ان معضلة النص ترى فهما آخر مع قراءات نصر حامد أبوزيد، والشيء الذي أدهشنا في قراءاته، جرأته أولا، وكثافة معارفه لما تحمله من منابع متعددة ومختلفة، فحمولته المعرفية الكثيفة جعلت من تأويله تأويلا حيويا وغنيا، يفتح المجال أمام حوار مفتوح على الدوام ويرى أبوزيد أن قدرنا اليوم هو الإنفتاح على جميع مصادر المعرفة حتى مع تلك الوافدة من الغرب والتي باستمرار تضعنا أمام موقف الصدمة، ومن الضروري استثمار هذه الصدمة، خلافا لما حدث مع مفكري عصر النهضة، الذين غفلوا عن كيفية التعامل مع الراهن، فراحوا يضعون ثـنائيات تصادمية، جعلت من الفكر أكثر رجعية على الرغم من شعارات التقدم والطليعة… بحيث أنتج هذا الفكر صراعا كنا في غنى عنه، صراع ما هو قديم مع الحديث، والأصيل مع المعاصر، والسلف مع الخلف… لم نتعامل جيدا ولم نفهم واقعنا الذي كان نتاج الصدمة، لم نحاول فهمها فهما موضوعيا علميا "أو حتى فنيا" : مثل هذا الصراع ثبط عزائم العقل الإسلامي ومبادراته من أن يباشر في وضع مساهماته ومشاركته في بناء العالمية، وأجد تشخيص أبوزيد لمحاولات قراءته للتراث جد هامة فموقعنا في العالم، بالنسبة إليه هو موقع في حالة حوار جدلي مع الغرب، فسواء اخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم أصلا على الحوار الذي يدعم موقعنا وإدراكنا مثل هذه الجدلية تخلصنا من حالة الفوضى التي يعاني منها النص التنويري في قراءاته الفكرية المعرفية، فالمتمحص في حالتنا الثقافية لا ينكر مثل هذه الفوضى .

 إن معضلة قراءة النص القرآني أصبحت تثير حساسية مفرطة أكثر من أي وقت مضى لدى قراء الإيديولوجيات المنفعية التي أعتقد أن ما يهمها من وراء ذلك فهم جوانبه السطحية فقط أما القراءات المعاصرة للنص فصنعت الحدث التنويري حسب إعتقادنا، فجرأة ممارستها لآليات القراءة تعدت حدود النص لتغوص في أغواره وحاولت كشف طبقاته المتوارية لمدة طويلة من الزمن25.

يقف نصر حامد أبوزيد وهو ليس بعيدا عن محاولات أركون في ممارساته التأويلية، يقف موقفا أكثر إجرائية، يبادر بمساعدته التراث ليس في شروحاته وتفاسيره، إنه لا يقف عند مرحلة التدوين بما حملته من بداية للإبداع والخلق، ولا يحاول نَعْيَ مرحلة الإتباع والتقليد لواقع العقل الإسلامي، بل يسعى إلى تشخيص كليهما إنطلاقا من التجربة المعاشة، إنه يقرأ النص القرآني مباشرة يطرح معضلة النص بالشكل التالي : كيف يمكن الوصول إلى المعنى الموضوعي للنص القرآني؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى القصد الإلهي في كماله وإطلاقه؟ إن مثل هذه الأطروحات لا يمكن لأي معرفة معالجتها سوى القراءة النقدية وبآليات تأويلية وحدها بإمكاننا معالجة المعضلة، باعتبارها تقف بصورة جدية عند عناصر البنية المشكل منها فعل القراءة التي تطرح صعوبات حول (المؤلف / النص / الناقد) أو (القصد/ النقد/ التفسير)، ونلمح عبر هذه المعضلة الهاجس المؤرق لمفكرنا، كيفية الإسهام في بلورة وتأسيس معرفة عقلية بالنص القرآني (المقدس) إذ الملاحظ كما يقول أبوزيد : "أن ما يجمعنا نحن المسلمون موجود في النص، وينبغي التسليم بذلك، لكن الوصول إليه وبلوغه لن يكون إلا من خلال القراءة التأويلية، باعتبار التأويل العملية الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر"26.

 مقارنة واستنتاج

 ان ما يميز مشاريع القراءات التراثية الحداثية للنص على مستوى المنهج والتي يندرج ضمنها مشروع نصر حامد ابو زيد وماجد الغرباوي:

هو أن هذه المشاريع تسعى إلى إحداث قطيعة معرفية كلية مع كل الجهود التراثية السابقة للنص القرآني خاصة ما تعلق بمناهج التفسير التي سادت في التراث الإسلام، وهي مناهج كانت تحتكم للضوابط وتستند للشروط وتخضع للأصول والمرجعيات الحاكمة للتفسير، وعدم استثمار المداخل المنهجية التي جسدتها مقدمات كتب المفسرين القدماء، بحيث عكست هذه المقدمات جهود المفسرين المتمثلة في خدمتهم وقراءتهم للنص القرءاني تحقيقا وتفسيرا وبيانا.. وهي جهود جاءت نتيجة جهد متواصل وعمل مستمر وكبير وعناء طويل واستقراء مستمر ودؤوب ومتابعة مكثفة في تعاملهم مع النص القرآني في جميع مستوياته ومكوناته . وهو تعامل كان من آثاره وحصيلته وتجلياته تأصيل القواعد ووضع الأصول ورسم الضوابط لتكون منطلقا في التفسير ومسلكا هاديا لكل قاصد أو راغب في تفسير القرءان الكريم . وإبعاد كل القراءات التي لا تستند أو لا تحتكم إلى شروط وضوابط التفسير، ولا ترجع إلى الأصول الضابطة للفهم السليم، ولا تسترشد بالجهود العلمية الكبيرة التي بذلها علماء السلف وضعوها على شكل قواعد وكليات لتكون مقدمات منهجية ومداخل أساسية في تفسير القرءان الكريم . وهذه القواعد والكليات في مجملها تدعو بإلحاح إلى المراهنة على المنقول واعتباره هو الأصل والسند في التفسير، والاهتداء إلى المعقول واعتباره معينا في التفسير وتابعا للأصل وهو المنقول وخادما له......

 

 مشقق ابتسام – ماستر(2) فلسفة

جامعة باتنة - الجزائر

............................

1- ماجد الغرباوي: كاتب وباحث عراقي، رئيس ومؤسس المثقف العربي، اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الاصلاح والتجديد....يسعى من خلال مشروعه الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية، حاز على عدد من الجوائز، له 25 عملا، كتب عن منجزه الفكري والثقافي العديد من النقاد والباحثين العرب والاجانب .

نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010) أكاديمي مصري، وباحث متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخصص في فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية.

2- ذكر ماجد الغرباوي هذه القاعدة الأصولية كثيرا في بحوثه ودراساته وكتبه. ووظفها بشكل علمي لاكتشاف تاريخية الاحكام الشرعية، وهذا بحد ذاته انجاز علمي كبير يحسب له. فكثير من الباحثين يريد الغاء النص المقدس وهذا غير ممكن لكن ماجد الغرباوي ابقى على النص المقدس واكتشف عدم فعليته عندما يتغير موضوعه بسبب الزمان والمكان وتغير الاحداث.

3- هذا عنوان دراسة تفصيلية يمكن الاطلاع عليها على الرابط ادناه:

http://www.almothaqaf.com/a/b9/885973

4- حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي، الحلقة (50). على الرابط ادناه

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/923967

5- ماجد الغرباوي، الصحابة ولعبة السياسية، على الرابط ادناه:

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/923083

6- المصدر نفسه.

7- عثماني امال، تأويل النص الديني القرآني. مجلة الفتوحات، العدد2/2015

8- نصر حامد ابو زيد، مفهوم النص.. دراسات علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.المغرب، ط1، 2014.ص27.

9- نفس المصدر، ص28

10 - ماجد الغرباوي، النص وخطابات النفي، على الرابط أدناه:

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/92387

11- ماجد الغرباوي، النص وحرية النقد، على الرابط ادناه:

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/923539

12- المصدر نفسه.

13- المصدر نفسه.

14- المصدر نفسه.

15- المصدر نفسه.

16- المصدر نفسه.

17- المصدر نفسه.

18- ماجد الغرباوي، النص وخطابات النفي، مصدر سابق.

19- المصدر نفسه.

20- المصدر نفسه.

21- المصدر نفسه.

22- المصدر نفسه.

 23- المصدر نفسه

24 - المصدر نفسه.

25 - المصدر نفسه.

26- الحسين اخدوش، نقد الخطاب الديني المعاصر في ثوبه الاسلامي.. قراءة في تجربة حامد ابو زيد، يونيو 2016

 

 

حين أقدّم لكتاب من تأليف الدكتور صالح الرزوق يحمل عنوان "جدلية العنف والتسامح دراسة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي" فإني اعرف جيدا أني أجد نفسي بين دارس قدير وأديب في الوقت نفسه هو الدكتور رزوق وبين صاحب مشروع أومنظّر وأديب هو الأستاذ ماجد الغرباوي لذلك عليّ من باب الموضوعية أن أوجز قدر الأمكان بما يعنيه الإيجاز من معان جليلة في جمل قليلة تليق أن تصف كتابا من كتب الدارس الباحث د صالح الرزوق.

لقد اعتدنا أن نطالع في دراسات النقاد والباحثين من حيث اهتمامهم بالمنهج التفسيري على حساب المناهج الاخرى وفي ذلك عقدة وأيما عقدة دافعها التستر على عيب المؤلف وعجز الناقد أو الباحث. والذي لفت نظري في هذا الكتاب أن المؤلف لا يقف مفسرا فقط شأن بقية الدارسين بل يقارن ويستنتج ويستبطن. لقد شرح لنا في مواضع وفسر ثم قارن بين فكر الغرباوي ومَنْ قبله أمثال محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا وقاسم امين ثم استنتج أن الثلاثة الأول كانوا تنويريين لأنهم لم يقدموا حلولا ناجعة في حين أن هناك تقاربا بين خط قاسم أمين ومنهج الغرباوي من هذا ندرك جيدا أن الغرباوي هو إصلاحي حيث أن الإصلاحي يدعو للتغيير من خلال معالجة القضية أما التنويري فهو لا يصطدم وقد لا يجد حلا للمشكلة[1]

والحقّ أن المشكلة التي تناولها السيد الغرباوي هي قضية معقدة وحساسة تتمثل في كون الدين هو محورها الاساس حيث أشار الباحث الرزوق إلى أن هناك ثلاثة محاور عمل عليها الغرباوي في ترسيخ منهجه وهي:

- تجديد الفكر الديني.

- تحرير المرأة.

- وإنكار العنف ورفضه.

والحق إن هناك اساسيات في الدين يتفق عليها الجميع بخاصة في الدين الإسلامي وهي التوحيد والنبوة والقرآن والصلاة والصيام والحج.. أي الاصول والفروع التي يؤدي إنكار أحدها هدم الدين نفسه وتلك محاولة لم تقم من اي من المهتمين في الحقل الديني سواء الذين سماهم د. الرزوق بالتنويريين أمثال الكواكبي والإفغاني. أو من دعاهم بالمجددين كالسيد ماجد الغرباوي.

واللافت للنظر أن عمل الغرباوي وجهوده تنصبّ على ما نتمسك به نحن من إرشادات دينية وتوجيهات جعلها تزمتنا من حيث ندري أو لاندري بمثابة الأصول وتلك المعاني تتعلق بمسألة الديمقراطية والدين[2] أولا وقبل كل شيء. مع العلم أن الدمقراطيين الغربيين والإصلاحيين العرب لم يمسوا ثوابت الدين ولا علاقة لهم بها.إن جهود هؤلاء توجهت إلى قضايا فرعية تمثل أغلبها في الاقتصاد والمعاملات و لنا مثال واضح حول هذين الحقلين بقضية الإرث وإرث المرأة والزواج والطلاق وحق التعليم، وتولي المناصب، وولاية الأمر على المرأة.

1 salih

ومن خلال اطلاعي على بعض مؤلفات الباحث الغرباوي وكتاب د. الرزوق هذا الذي بين يدي أدركت أن البحث في الدعوة إلى التجديد تستند بالدرجة الأولى إلى عنصر الزمن الذي التفت إليه قبل أكثر اربعة عشر قرنا الإمام علي ع حين قال كما يروى عنه "لا تعلموا أبناءكم  على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم " ذلك العامل الذي يؤثر سلبا أو إيجابا في قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية. إن ثوابت الدين سواء الأصول أم الفروع لا يمكن أن تتأثر بحركة الزمن .لا أحد يدعو إلى التغيير في مفهوم التوحيد وجوهر الصلاة والصوم بل لا أحد يسأل لِمَ جاءت صلاة المغرب بثلاث ركعات أوالظهر بأربع  أو لم وجب أن تُقرَأ  سورة الحمد في كل صلاة كما لا نجدمن يطالب ان يتقلص رمضان إلى عشرة  ايام أو يصبح أربعين يوما هذه ثوابت يقرها الدارس د. صالح الرزوق والباحث الغرباوي، لكن هناك الكثير في الأوامر – من غير الثوابت- يمكن أن يطرأ عليها التغيير بخاصة المباحات بعض هذه المباحات تتعلق بقوانين محلية مثل مسألة تعدد الزوجات، الزواج من المباحات وتبدو القضية مباحة في الدين الإسلامي ومحددة بأربع[3]. إن قضية الزواج وملك اليمين وردت في باب المباحات التي يمكن أن تناقش حيث أن المجتمع أصبح أكثر تعقيدا في العصرالراهن. الزواج مسؤولية يحتاج إلى متابعة واهتمام ومراقبة بل إن القدرة المالية  لم تعد تكفي وحدها لذلك ظهر في العراق قانون الأحوال الشخصية عام 1959 الذي يبيح زواج الرجل بامرأة اخرى شرط موافقة الزوجة الأولى وفي هذا العام صدر قرار من البرلمان التونسي بمنع تعدد الزوجات.والحق إن تلك الإجراءات وفق وجهة نظري أو  نظر الإصلاحيين أمثال د. الرزوق والغرباوي هي لا تمس جوهر الإباحة الذي هو الزواج بل في تقنينه وتنظيمه وجعله بجزئياته مواكبا للعصر ومتكيفا مع حركة المجتمع.

ولكي نعزز رأينا نستطيع أن نضرب مثلا آخر ورد في القرآن هو ملك اليمين أو الرق. لم يحرم الإسلام الرق لكنه لم يشجع عليه، وهو من باب المباحات، لنفرض الآن أن هناك حربين – لا قدر الله _ وقعتا الأولى بين دولة باكستان السنية والهند والحرب الأخرى بين دولة إيران الشيعية والولايات المتحدة الأمريكية من حيث الدين يحق للباكستان أن تعد الجنود الهنود أرقاء تبيعهم أو تطلب فدية عنهم أو يكونون عبيدا عند الجنود الذين أسروهم وكذلك تفعل إيران زد على ذلك أنه في غير الحرب لو أن تاجرا من الجزيرة العربية ذهب إلى بلد فقير ووجد عائلة هناك تبيع ابنها فمن حقه أن يشتريه ليصبح عبدا له أو ان شخصا اشترى من تايلند عدة نساء وصحبهن إلى بلده ليكن أماء له خادمات يمارس معهن الجنس ذلك الأمر، في الحالات السابقة، لم يمنعه الدين  لكن الأمر أصبح من ا لمحظورات لأن هناك قرارا امميا يمنع الرق.

إذن هناك منع وامتناع في دائرة المباحات التي درسها لباحث الرزوق من خلال مؤلفات الغرباوي إذ جئت في مقالي الموجز هذا لأوضحها وأعقب عليها حيث نجد المنع يتجسد في الشكل التالي:

أولا إجراءات من قبل الدولة نفسها تحدد مباحات الدين الرسمي للدولة نفسها سواء منعا أو تقييدا إذ يبقى المباح كما أمر به الدين كالزواج مثلا والتقييدأو المنع يأتي في تفصيلاته[4]، والإرث الذي يحق فيه للأب أن يحرم أحدأبنائه منه لكنهلا يحق له أن يساوي بين ابنته فيه وابنه [5]

ثانيا إجراءات أممية تمنع المباح كما هو في الرق وملك اليمين الذي أباحته الديانات التوحيدية الثلاث وجاءت قرارات الأمم المتحدة لتمنعه، وقد وجدت شبيها لذلك في الفكرين الشيعي والسني، عند الشيعة العمل في " الباب الثاني"ويتجلى الأمر في مسألة قطع يد السارق إذ يرى الشيعة أن قطع اليد يأتي بعد خمسة وعشرين شرطا، وعند السنة أيضا وإن لم يعلنوا عن ذلك لكن الدول السنية – باستثناء السعودية فقط وداعش- لا تمارس قطع يد السارق عملا بالباب الثاني وتكتفي بسجنه فقط.

الواقع إن هناك أمورا حيوية وجادة طرحها الكاتب والمصلح السيد ماجد الغرباوي في مؤلفاته ثم جاء الباحث القدير الدكتور صالح الرزوق ليناقشها ويحللها ويمهد لها بدراسة تاريخية واجتماعية موثقة في كتابه القيم" جدلية العنف والتسامح دراسة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي" وهو كتاب جدير بالقراءة لا يمكننا أن نفيه حقه في مثل هذه العجالة بل أترك ذلك للباحثين والمختصين في هذا الحقل.

 

د. قصي الشيخ عسكر

...............

[1] في الأدب يذكِّرنا قول د. رزوق عن الفرق بين التنوير والإصلاح بمحاولة الزهاوي حين كتب قصيدة من البحر الطويل مختلفة حرف الروي فهو تنويري ظن المشكلة في العروض أما السياب فهو إصلاحي لانه غير في نظام العروض والتفعيلة.

[2] حاول المرحوم  د. مصطفى جمال الدين وهوعالم دين معمم وباحث وشاعر أن يدعو في ثمانينيات القرن الماضي إلى نظرية ذات ثلاثة اضلاع هي: العروبة والإسلام والديمقراطية، وهذا نجده في مقدمة ديوانه الضخم المطبوع حينذاك في دمشق، لكن الشاعر جمال الدين لم يدخل في تفصييلات وشروح عن تلك النظرية بل هي أقرب ما تكون إلى فكرة أو رأي مطروح.

[3] هذا للناس أما الأنبياء فيستثنون من القاعدة تلك فلهم خصوصية مثل داوود وإبراهيم ومحمد عليهم السلام. وأظن أن اليهود منعوا أنفسهم من حيث القانون وليس الدين  تعددالزوجات في القرن الثالث عشر تمشيا مع  قوانين الدول الأوروبية التي يعيشون بين مجتمعاتها  كما إن هناك طائفة صغيرة مسيحية في الولايات المتحدة تقر تعدد  الزوجات ويستثنيها القانون الأمريكي.

[4] مع ذلك نجد الكثير من المسلمين يتحايلون على قوانين الدول الأوروبية التي منحتهم الأقامة والعمل والتجنس تلك القوانين التي وقعوا عليها كأن يتزوجوا من مثنى وثلاث خفية دون أن يسجلوا ذلك خشية من العقاب وأغرب من ذلك أن بعض علماء المسلمين في مصر وغيرها من الدول السنية افتوا بإباحة  زواج المتعة للمسلم المقيم في دولة أوروبية منمسلمة وغير مسلمة!

[5] كنت قد ناقشت في الدنمارك مع شيخ دين متنور فقال إن الرجل ياخذ الضعف وعليه أن يبني بيتا وينفق على زوجته والبنت تاخذ نصف الحصة وعندماتتزوج يبني لها زوجها بيتا ويصرف عليها فهما متعادلان لكن هذا كان في الماضي الآن هناك فرص عمل للمرأة وقضية الضمان الاجتماعي وامور أخرى كثيرة !

 

يُعد ماجد الغراباوي أحد الكتاب العراقيين المهتمين بتجديد الفكر الديني. إنشغل بقراءة التراث منذ دراسته للعلوم الإسلامية وانتمائه الآيديولوجي والعقائدي في الدفاع عن التجديد بوصفه إتجاهاً دافع عن قيمة الإجتهاد بوصفه إنفتاحاً في الرؤية ويحمل بين طياته إيماناً بقدرة العقل الإنساني وفاعليته في مقابل النص لا سيما بعد توقف باب الاجتهاد في الفكر السني عند الفقهاء الأربع، الذي إعترض على توقفه جمال الدين الأفغاني في المذاهب الأربع بقولته الشهيرة:"من أوقف باب الإجتهاد، فنحن رجال وهم رجال"؟، يقصد بذلك الأفغاني الفقهاء الأربع "ابن حنبل وأبو حنيفة والشافعي والمالكي"، فهم رجال إجتهدوا، ولكل مجتهد نصيب، ونحن رجال يُمكن لنا أن نجتهد، ولنا نصيب في إجتهادنا، فنحن أيضاً بشر مثلهم منحنا الله عقولاً، لها مقدرة التفقه بعلوم اللغة والفقه والفلسفة، بما يسمح لنا بالإجتهاد، ومعرفة موجباته وشروطه مثلما فهمها الفقهاء الأربع في ضوء فهمهم لعلوم اللغة والفقه وأسباب النزول ومعرفة المُحكم والمتشابه من آي الذكر الحكيم. ولأن النص القرآني يُمكن أن يُصاب بأعراض كأي حقيقة من الحقائق - كما يقول مرتضى مطهري - وهو كالماء الذي ينبع من العين الصافية، بُيد أنه يتلوث بمجرد جريانه في الأنهار، بحيث يجب تطهيره وتعقيمه من الملوثات" . وتلك هي مهمة المجتهدين المجددين، مثلما هي مهمة الفلاسفة، لا سيما إبن رشد وهي تنقية فلسفة أرسطو مما علق بها من شوائب الشُراح.

لذلك كان دعوى الغرباوي مبنية على ضرورة تنمية الوعي وعدم تهيب الممنوع، "وإنما يتوغل في الشك حتى يفهم الواقع". متبنياً الدعوة لبتبني "الثقافة النقدية" وتجاوز الثقافة المنغلقة التي لا تُفضي إلّا لواقع سلبي يُغيّب الوعي ويُعتّم الرؤية.

تنمية الوعي النقدي عند الغرباوي يتم بطريقين:

1- تنمية وعي رسالي مُتجدد، يستطيع تحدي الممنوع، عبر إعادة تشكيل للوعي داخل فضاء معرفي، بمرجعيات تُجدد فهمها للنص الديني من خلال إدراكها للمستجدات الحياتية والواقع المُتغير بككل ديناميكيته وحيويته.

2- عدم التسليم بالفهم الساذج للخطاب الديني الذي يستغل عواطف الناس ويلعب على وتر الوجدان، لتغييب عقل الإنسان ووعيه.

يكمن تحقيق هذين الهدفين بقراءة التراث عند الغرباوي قراءة تاريخانية بعبارة عبد الله العروي وتجاوز "الفهم التراثي للتراث" بعبارة محمد عابد الجابري والقطيعة مع هذا الفهم للتراث، لا لرفضه، بل لإعادة الوصل به عبر فهم وظيفته اليديولوجية تاريخياً، كي نُعيد وصله بحاضرنا بما يُمكننا من توظيفه لتطوير مستقبلنا.

فالأمة تحتاج لخطاب ثقافي منفتح لا يتكور فيها الإنسان حول فهمه الترثي المؤطر بحمولة الماضي فقط بوصفه الخطاب الوحيد الناجع لحل مشكل "النهضة. لذلك ينبغي لنا الإنفتاح على كل الخطابات المغايرة، لأن خطاب الآخر المختلف، هو عين أخرى تُرينا عيوبنا التي ترفض أعيننا رؤياها، ومن عيوبنا توالد المقدس وتوليده المستمر في منظومتنا الدينية والاجتماعية الذي عطل هو الآخر كثير ممارساتنا الثقافية والنقدية التي يتوقف عليها تطورنا الحضاري والفكري وحتى الديني، ف "الذات عينها كآخر" بعبارة بول ريكور.

لذلك يحاول الغرباوي الخروج من التصنيف التقليدي للمفكرين العرب، المغتربين زمانياً والمنزوين في غرف "التراث" أو الماضي، أو المغتربين مكانياً، من "المتفرنجين" بعبارة علي الوردي المقلدين لثقافة الغرب، يسيرون معها تابعين، يحذون حذوها "حذو النعل بالنعل" بعبارة ابن سبعين في نقده لإبن رشد في إتباعه لأرسطو.

 

د. علي المرهج

أستاذ الفلسفة - جامعة المستنصرية / بغداد

.........................

يذكر ان لماجد الغرباوي 25 عملاً مطبوعاً، تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة.

وقد صدر له:

- إشكاليات التجديد (3 طبعات)، 2000م،2001م و2017م.

- التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان)، 2006م و2008م.

- تحديات العنف، 2009م.

- الضد النوعي للاستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010م.

- الشيخ محمد حسين النائيني .. منظّر الحركة الدستورية (طبعتان)، 1999م و2012م.

- الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، 2015م.

- جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016م.

- الشيخ المفيد وعلوم الحديث، 1992م.

- ترجمة كتاب الدين والفكر في شراك الاستبداد، 2001م.

- تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث

كتب حوارات معه

- المرأة والقرآن .. حوار في إشكاليات التشريع / حاورته: د. ماجدة غضبان، 2015م.

- إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري / حاوره: سلام البهية السماوي، 2016م.

- رهانات السلطة في العراق .. حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي/ حاوره: طارق الكناني، 2017م.

- مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في مُنحنيات الأسطرة واللامعقول الديني / حاوره: طارق الكناني، 2017م.

كتب صدرت عنه

- جدلية العنف والتسامح .. قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي/ د. صالح الرزوق، 2016م.

 

 للاطلاع

http://www.almothaqaf.com/k/majedalgharbawi

 

ماجد الغرباوي مفكر عراقي، شأنه شأن أي مفكر، دائم البحث عن الحقيقة بدليل صحيح، لا يركن لقول واحد، ولا يتوقف عند رأي خاص مهما كان قائله.. يسعى لاكتشافها بمعزل عن الغيبيات خارج حدود القرآن الكريم. فالعقل وكتاب الله ركائز ومرجعيات اعتمدها الغرباوي في هذا الحوار الذي دارت أسئلته حول العقيدة الإسلامية عامة والعقيدة الشيعية خاصة، لأنها الأساس الموجه لسلوك الإنسان، وما معاناة المسلمين اليوم مع الفئات الدينية المنحرفة إلا بسبب عقائدهم وسوء فهمهم لغايات وأهداف الدين الحنيف فتسببوا في تشويه معالمه .

قد يعترض البعض أن كتب الحديث تشتمل على تفصيلات يحتاجها المسلم ولم يفصّلها الكتاب الكريم، فتكون الأحاديث وسنة الرسول مكملة للكتاب الكريم. وهذه وجهة نظر صحيحة إلى حد ما ولكنها ليست حاسمة، فوجود نص نبوي لم يَحُل دون وجود الاختلاف في مجال العقيدة. فكثرة التفسيرات القرآنية التي وردتنا عبر كتب التاريخ والحديث جاءت متناقضة، يغالط بعضها البعض وفيها الكثير من الغلو والغيبيات التي لا تطمئن لها النفس. من هنا نجد أن الحوار الذي اعتمدناه مع الأستاذ ماجد الغرباوي جاء وفقا لمعطيات قرآنية – عقلية لا تجافي الصحيح من الأحاديث والسنة الشريفة، بعيدا عن التعصب والغلو، خاصة بالنسبة لمعتقدات الطائفة الشيعية حول أئمة أهل البيت ودورهم الرسالي. لهذا نجده يدعو في هذا الحوار إلى حملة توعية كبرى تناقش من خلالها كافة المعتقدات الموروثة منذ مئات السنين لتنقيتها مماعلق بها من خرافة وأسطرة جاءت بسبب السباق الطائفي المحموم الذي شهدته القرون الماضية لاثبات أحقية أشخاص دون سواهم فأورثنا هذا الفعل كثيرا من المعتقدات الخاطئة التي أصبحت الآن جزءا لا يتجزأ من فهمنا للدين والعقيدة الاسلامية. وأنا هنا لا أبرأ عقائد أية طائفة، ولكني أحيي الأستاذ ماجد الغرباوي في جرأته وقدرته على عبور كل الخطوط الحمراء التي وضعها رجال الدين، حينما تجاوزها بوعي بعيدا عن التعصب، فكان يرحب وهو يحاور بأية وجهة نظر لكنه يؤكد دائما: لسنا ملزمين بقبول كل ما يعتقده الآخرون، أو بعضه. لقد طرح آراءه بوضوح وشفافية مستدلا عليها بالقرآن الكريم، مرجعنا جميعا، وتبقى مسؤوليتنا مناقشة كل ما طرحه الاستاذ الغرباوي مناقشة هادئة شفافة بعيدا عن التعصب الأعمى والإنفعالات الطائفية التي أورثتنا الدمار والقتل.

هكذا كان هذا الكتاب نهاية حوارنا الذي كنا قد بدأناه مع الأستاذ ماجد الغرباوي وهو المحور الثالث ضمن ثلاثة محاور، تم نشر المحورين الأول والثاني منهما ضمن كتابنا الأول: (رهانات السلطة في العراق .. حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي) الذي صدر عن دار أمل الجديدة -سوريا، والذي تناولنا فيه موضوعات الفكر القومي ورهانات السلطة في العراق. وخصصنا المحور الثالث، أي هذا الكتاب، لمناقشة قضايا عقائدية مهمة، منها: المخلّص في الديانات الحديثة، والمهدي المنتظر في الدين الاسلامي، والمرجعيات الدينية والتقليد، والخمس، والرجعة، ولذلك تقرر إصدارها في كتاب مستقل لأهميتها. وقد تناول الكتاب أيضا قضايا خلافية، حيث ناقشها الباحث والمفكر ماجد الغرباوي بموضوعية وحيادية استند فيها على التحليل العلمي والنصوص القرآنية بعيدا عن التعصب والانحياز. فحاكم جملة معتقدات يعتبرها الكثير منّا مسلمات لايرقى لها الشك. ودليله في ذلك كتاب الله والعقل وما صح من الأحاديث النبوية الشريفة .

لقد أجاب المفكر ماجد الغرباوي في هذا الحوار عن تساؤلات تمثل نبض الشارع الباحث عن الحقيقة وسط زحام الأفكار المتوارثة والأحاديث التي لم تعد مقنعة لجيل يعيش ثورة فكرية وعلمية وتكنلوجية كبيرة، وفي كل يوم يصطدم بالإرث واللامعقول الديني. للأسف الشديد رغم هذا التنوير لكن مازال بعضنا يتقمص دور شخصيات القرن الأول الهجري ويقتدي بهم صوريا ويقلدهم بعيدا عن جوهر عقيدتهم ودينهم ومستوى إيمانهم وفكرهم وعقائدهم التي يمكنه الارتكاز عليها. لكننا اضعنا الكثير بسبب التقليد الأعمى لرجل الدين.

لقد ناقش الباحث ماجد الغرباوي فكرة المخلّص في الديانات المأخوذة عن البوذية، وتناولها باسهاب مبيناً مضمونها. كما تطرق الحوار لقضية المهدي المنتظر عند المسلمين وتداعيات هذا المعتقد بين كونها فكرة تبعث على الأمل في تحقيق العدل الإلهي وبين كونها فكرة مثبطة للعزيمة. ومن هذا المنطلق تدرج الحديث إلى تاريخ المرجعية والمباني التي ارتكزت عليها مسألة التقليد.

لقد فتح الأستاذ ماجد الغرباوي الباب على مصراعيه في هذا الكتاب من خلال طروحاته الجريئة، التي قد تحدث هزة في الفكر الجمعي العقائدي للمسلمين عموما والشيعة منهم على وجه الخصوص، وستكون هناك ردود أفعال متباينة في قوتها واتجاهاتها ولكنها بالنتيجة ستصطدم بالعقل والمنطق بعد أن يدافع كل فريق عن طروحاته العقائدية بل وسيستميت البعض ممن تؤثر عليهم هذه الطروحات في نفيها واثبات الأفكار القديمة بنفس الأسلوب وليّ عنق الآيات لتتلائم مع طروحاتهم، ومايهمنا وجود حراك فكري وإشعال جذوة الحوار البنّاء للوقوف على الحقائق وإحداث حالة من التحرر الفكري الذي يجعل هذه المجتمعات المنغلقة تنظر إلى أفق جديد وإلى عالم آخذ بالازدهار وفق رؤى حديثة ومتطورة وتجعل من الإسلام دينا لحياة قابلة للتجدد واحتواء كل ماهو نافع للبشرية. 

ماجد الغرباوي والاصلاح

هذا الحوار يقع ضمن المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، وهو باحث متخصص  في الدراسات الإسلامية، وأحد رجال الإصلاح الديني في العصر الحديث، من خلال كتبه وطروحاته الفكرية فيما يخص النهضة والتسامح الديني والثقافي، فطالما عالج موضوعات التخلّف الحضاري، العنف والإرهاب، الحركات الاسلامية ودورها السلبي في المجتمع، والعلاقة بين السياسة والدين. وأصدر سلسلة رواد الإصلاح للتعريف بمشاريعهم وأهدافهم الإصلاحية، ومدى تأثيرهم في النهضة الإسلامية.

ولم يقتصر الغرباوي على ما تقدم بل راح يدعو علانية الى إعادة فهم الدين وفقا لضرورات الزمان والمكان ومتطلبات العصر والمجتمع والإنسان، والاستفادة من معطيات العلم وتراكم التجربة البشرية، كما دعا بصوت مرتفع الى إعادة النظر في فعلية الأحكام الشرعية، ومدى صلاحيتها بعد انتفاء موضوعاتها، وحذر علنا من تزوير الوعي ومكائد رجال الدين، وتوظيف الدين لمكاسب سياسية وأخرى شخصية أو أيديولوجية.

***

 ماجد الغرباوي مفكر وباحث، يسعى من خلال مشروعه الى: ترشيد الوعي بعد تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، عبر قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، كشرط أساس لنهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وطالما أكد الغرباوي في تشخيصه لأسباب التخلف والسبل الكفيلة بالنهوض الحضاري: إن المشكلة الأساس وبالدرجة الأولى ثقافية، تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي لشعوب المنطقة، لأنها القاعدة التي ترتكز اليها النهضة، أية نهضة كانت .

ويختلف ماجد الغرباوي في تشخيصه لأسباب التخلف وعوامل النهضة الحضارية، حيث راح يتوغل في العقل والثقافة باحثا عن كيفية تكوّن البنى المعرفية وما هي المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، فكان وما زال يؤكد على نقد جميع الثوابت والقناعات واعادة تفكيك العقل وبنائه وفق قيم ومقولات حضارية، لهذا أكد كثيرا على فهم الدين كمكون أساس لشعوبنا، فاعتبر الفهم الخاطئ للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء تخلّف المسلمين حضاريا. وبهذا امتاز عن غيره من رواد النهضة بقدرته على التشخيص والنقد الذي يغور في أعماق الثقافة والفكر، فما عادت الأسباب المطروحة من قبل الرواد الآخرين كافية لوجود نهضة حقيقية بل ما زال الوضع ذاته اذا لم يكن أسوء مع ظهور حركات التكفير الديني .

***

طارق الكناني، كربلاء – العراق

  10 – 4- 2017م

........................

* مقدمة كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، ط2، 2017، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا.

الكتابة عن الكاتب والشاعر والباحث والمبدع والمفكر العراقي القدير والملهم والمضيء والاستثنائي ماجد الغرباوي هي مغامرة كبرى ..!

فحذار من الكتابة عنه والخوض في غماره، لأنك ستكون كمن يحاول القاء القبض على مجرة او سوق البحر الى السواقي، او رسم خريطة جامدة لتسونامي حي لا يهدأً ..!

اننا نحتمي بماجد الغرباوي، بفكره الراقي المتنور العقلاني، ورأيه السديد، وحضوره الكثيف بكتبه ومؤلفاته النفيسة، التي سنرفعها كالمتراس في وجهه المشرق لنحدق في وجهه الانساني والنقدي والبحثي والعلمي والفكري، وسنربض خلف عناوين منجزه الفكري والثقافي، لكن وجوهه الاخرى سوف تجتاحنا .

لا امتلك سوى الاعتراف بأن لا قدرة لي على اقتحام عالم ماجد الغرباوي والنفاذ الى كنوزه والواحه الماسية والذهبية، ولكن ساحاول قدر المستطاع .

ماجد الغرباوي رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيربن والنقديين المشتغلين  على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب، وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتع كله .

انه يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة، ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد .

وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي، والانسان العصامي، الصلب، المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم، والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي .

majed algharbawi1ماجد الغرباوي المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي، يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية، التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد .

ماجد الغرباوي كاتب وباحث عميق وجاد، صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض  حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

ماجد الغرباوي نخلة عراقية باسقة وشامخة في الفكر العربي الاسلامي، عانق نور الحياة في مدينة قلعة سكر، النائمة على نهر الغراف، وتتوشح بجمال طبيعتها وانسياب نهرها .

نشأ بين ازقتها وحواريها، وتعلم الابتدائية في مدارسها، ثم انتقل وهو صغير السن مع افراد أسرته الى العاصمة العراقية بغداد، وفيها اكمل دراسته في اعدادية الكاظمية ثم الثانوية، لكنه تعرض للسجن مع ثلة من رفاقه، وبعدها واصل دراسته خارج حدود وطنه بموضوع الشريعة والعلوم الاسلامية، واستقر به الحال والمطاف في سيدني باستراليا .

مارس ماجد الغرباوي التدريس بالمعاهد العلمية في اطار تخصصه لسنوات عدة، وشارك في العديد من الندوات والحوارات والمؤتمرات والحلقات والمواسم الفكرية والعلمية، واشغل رئيس تحرير مجلة " التوحيد "، واشرف على اصدار سلسلة رواد الاصلاح، وعمل على تأسيس صحيفة " المثقف " ومؤسسة المثقف العربي في سيدني باستراليا .

نال عدداً من الجوائز التقديرية عن اعماله الفكرية والعلمية البحثية .

له العديد من المنجزات في ميادين البحث والعقل والتنوير، بلغت حوالي ٢٥عملاً ومؤلفاً اضافة الى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة المتعددة، ومن اهم كتبه :

اشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، الضد النوعي للاستبداد، الحركة الدستورية، الحركات الاسلامية - قراءة نقدية في تجليات الوعي، جدلية السياسة والوعي - الشيخ مفيد وعلوم الحديث، المشروع الاصلاحي، المرأة والقرآن، اخفاقات الوعي الديني - حوار في تداعيات النكوص الحضاري، رهانات السلطة في العراق - حوار في ايديولوجيا التوظيف السياسي، مدارات عقائدية ساخنة وغيرها .

منذ عهده الاول بالحياة وتشكل وعيه، رسم ماجد الغرباوي خريطة المستقبل، وراح بصلابة المؤمنين وحبر الانسان ينحت في الصخر الحديد، وينهض بالبناء ضلعاً قاصراً حتى استوى على هذا الطراز من الاصالة والتجاوز، فلا عجب اذا اصبح المثال والنموذج الفكري الذي يضرب ويحتذى به بين حراس الثقافة وعشاق الابداع، عن تحديه العنيد لاقدار المرحلة وتمرد الشجاع على سلطانها الجائر . ورغم انه يعيش في الغربة الا ان روحه وقلبه وعقله مع وطنه بلاد الرافدين ودجلة والفرات، مع عراقاه وشعبه، مؤكداً حرصه الدائم وتمسكه بالسلم الاهلي والوطني والاجتماعي كخيار استراتيجي ومنطلق اساسي للتعايش السلمي بين كل اطراف واطياف وتشكيلات المجتمع العراقي .

 وهو يدعو في خطابه الى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى وعي ومصالحة شاملة بين مكونات المجتمع العراقي والعربي على حد سواء، ويرى ضرورة واهمية تقديم قراءة متأنية لاسس واصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في اخراج المجتمع من محنه وازماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية .

ماجد الغرباوي مثقف ومفكر مسكون بالأسئلة، يجيد علامات الاستفهام، ويبحث عن الحقيقة، ويطاردها في كل مكان، ويتوغل عميقاً في الجزر والمساحات المغلقة، رافضاً المسلمات، مؤكداً على ان كل شيء قابل للنقد والمراجعة، ولا فرق عنده بين المقدس واللا مقدس، يمارس النقد باوسع أبوابه، ولا يخشى دخول مساحات الممنوع والمحرم والمقدس المتستر عليه .

ماجد الغرباوي هو صاحب ومؤسس صحيفة " المثقف " التي ساهمت في نشر الوعي الثقافي والفكر الحر الديمقراطي  والليبرالي، وتركت صدى واسعاً، ولقيت تقديراً واحتراماً من الاوساط الادبية والثقافية والفكرية في مختلف اقطار العالم كونها منبراً حراً للكلمة والرأي والموقف، وبفضل ما تنشره من دراسات وأبحاث ومتابعات ومداخلات واضاءات أديية وفكرية واجتماعية وسياسية، وكتابات ابداعية، شعرية ونثرية، وهو ايضاً رئيس مؤسسة " المثقف " الرائدة في تكريم رجالات الفكر والأدب والأقلام الثقافية والرموز الادبية والفكرية، وتكريم كتاب وكاتبات " المثقف " ومنحهم الشهادات التقديرية، واسهامها في طباعة ونشر الكتب المتنوعة في جميع الألوان والأجناس الكتابية، وكل ذلك بفضل جهوده الطيبة المباركة .

ماجد الغرباوي، تلك الارادة الفذة القادرة على المجابهة والجدال والنقاش دفاعاً عن الحقيقة في سياق التخطي المستمر في تلك الحركة المجندة لتدمير اعمدة الهيكل الاجتماعي الثقافي الفكري الراهن، وانشاء تلك العمارة حلم البشرية جمعاء وغاية نضالاته المتواصلة عبر مسيرته الحياتية والثقافية .

وهو ذلك المتواضع النقي المستخفي الظل الذي لا يستمليه صخب الاضواء ولا تبهره الكاميرات ولا الميكروفونات ولا الفضائيات .انه النسر الجارح الآتي الناهض من ارض الرافدين، الذي تعاظم وجعه مع وجع العراق دون ان ينتابه الوهن او يصبه الفتور، ولم يستسلم لجبروت الراهن من الزمن العربي الرديء، حاشا، فاليقين لديه يتعزز بحتمية التغيير، ويغدو اكثر اطمئناناً كلما اوغلت قوى الثورة المضادة والجماعات التكفيرية المتأسلمة والقوى المتطرفة الوهابية في سفك الدماء والخرائب وتدمير التراث الحضاري العراقي والعربي واغتيال رموز الثقافة والفكر والادب بنهم وحشي .

ان مساهمات ماجد الغرباوي ومقارباته ومداخلاته الفكرية على جبهة الفكر النهضوي التنويري ليست من ذلك النوع المرحلي العابر، بل هي جذورية نفاذة ومستمرة في شعاع المراحل الراهنة واللاحقة، بمنهجية علمية واضحة،وتأتي لتصحيح النظرة الفكرية المعاصرة للتاريخ والتراث، مستمداً أدواته المعرفية من المنهج التاريخي المادي في تفسير التاريخ ومنهجه، وترشدنا عناوين اعماله من مؤلفات ومنجزات فكرية، الى مفاتيح أفكاره وتوجهاته، وتدل على مدى رغبته كمثقف عضوي مشاكس ومتنور ونقدي في التأسيس لفكر نهضوي حداثوي جديد، لا يساوم على الحقيقة، اذ انه منذ بداياته التفاكرية او التجادل الفكري قدم سجلاً جديداً للثقافة العربية والفكر الديني الاصلاحي قوامه نقد المحظور، لكنه لم يكن ولن يكون مفكراً للفرد، ولا يبحث في قضايا ومسائل من فوق المجتمع وخارجه، بل يستظل على مسائل فكرية تهم وتمس ثقافتنا وعقلانيتنا ووعينا الانساني .

ماجد الغرباوي علامة مضيئة كبيرة ومشرقة في الاجتهاد الفكري، وظاهرة مميزة ومتفردة في الشجاعة والجرأة الفكرية والتعفف الاخلاقي، تبدو غريبة في زمن الانحطاط والخواء والفقر الثقافي والتخلي عن الافكار والقناعات الايديولوجية .

انه مثقف طليعي ومفكر نظيف وعفيف قوي الروح، يشكل نموذجاً في الثبات على الموقف والمبدأ والطرح والاستعداد للتضحية، والتفاني لاجل ان تتصارع الأفكار، وتتحاور المواقف، وتتجادل وصولاً الى الحقيقة والاقناع واحترام الرأي الآخر .

 

شاكر فريد حسن – كاتب وناقد

.....................

العنوان الأصلي للمقال:

ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء

 

الصفحة 3 من 5