بأقلامهم (حول منجزه)

احيانا لا ننتبه لاهمية الاسئلة رغم ان البحوث والدراسات المتخصصة تبدأ بسؤال او بشكل ادق اجابة عن سؤال، يشمل ذلك البحوث المتعلقة بنيل درجات علمية عالية كرسائل الماجستير او اطروحات الدكتوراه . وهذه في الحقيقة عبارة عن اجابة عن سؤال او عدة اسئلة تنتظم حول محور واحد تتشكل منها الرسالة او الاطروحة .اذن السؤال يعتبر محفزا بشكل اساسي للبحث لذلك فان له اهمية استثنائية في العوالم الاكاديمية او البحثية الحرة غير الملتزمة بقوانين البحث الاكاديمي .

استوقفتني اجابات الباحث المستنير الاستاذ ماجد الغرباوي لكتابة هذه المقدمة او متابعة حواره مع نخبة واسعة من المثقفين والكتاب والباحين العراقيين والعرب، وبسبب ما يتعرض له الباحثون العرب من تهديدات يومية من قبل دعاة الاسلام السياسي، هؤلاء يعتبرون ان كل نقد للاسلام السياسي اواحزابه هو نقد للاسلام كدين،ولكن شتان بين احزاب الاسلام السياسي وبرامجها التي هي في جوهرها فاشية واقصائية الى ابعد الحدود وبين الاسلام كدين، ودليل معرفة الجوهر الفاشي والاقصائي لاحزاب الاسلام السياسي غياب مفهوم التسامح وقبول الاخر اوالتعايش معه رغم ادعائها للاسلام او تمثيله .

تخلل الحوار مصطلحات كثيرة ادت احيانا الى تشتت الموضوع او مضمون الحوار وهدفه مفهوم 'التسامح' ومنه 'العقلانية الشاملة' وقد اوضح الباحث الغرباوي نقطة مهمة مشيرا الى مسيرة تطور المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة، فقد بنيت من الاساس على 'التسامح' و'العقلانية' لان الدين كما اشار الباحث يختلف عن الدولة . الدولة باعتقادي لا دين لها لانها تمثل الجميع بشكل متساو في الحقوق والواجبات، ورغم ان بعض دول الغرب تعترف بمسيحية الدولة علنا، ولكن الواقع او دساتير هذه الدول تنفي ذلك .ودور الكنيسة بهذه الدول يكاد يكون بلا تأثير يذكر، رغم حضورها رمزيا واعلاميا، فبالنتيجة القانون والدستور هما من يحكم المجتمع وليس اللاهوت او المعتقد .

أردت ان اشير الى نقطة مهمة لو يولها الباحث الاهتمام المناسب او تبيين مدى تأثيرها التاريخي في المجتمعات الغربية ربما لالتزامه بحرفية الاجابة على الاسئلة، فعصر الانوار الاوربي ما كان له ان يظهر للوجود لولا مظالم وجور حكم الكنيسة في اوربا، ومفهوم التسامح من ابتكارات عصر الانوار ارتبط بالمسيحية بشكل خاطيء لانه كمفهوم وجد قبل عصر الانوار وربما قبل المسيحية والاديان،ويمكن العودة بهذا الصدد الى الفلسفة الهندية القديمة او الصينية .

ومفهوم التسامح في الواقع واحد من عدة محاور تناولها الحوار مع الاستاذ ماجد الغرباوي، انه حوار شامل ان جاز التعبير، ركزت في هذا التقديم او التعريف بمحتواه على مفهومي التسامح والعقلانية لانه لا يمكن تناول جميع ماورد في الحوار من افكار ورؤى ومناقشة احيانا بين المتحاورين في اكثر من نقطة او تعريف،ولكن الباحث يركز على نقطة مهمة لها علاقة مباشرة بمفهوم التسامح لتخليصه من استعلائيته ويضفي عليه انسنة عامة ليست له بمفهومه الاصطلاحي او اللغوي، وربما ينفرد الباحث في البحث او التبشير بمفهوم جديد للتسامح لتخليصه من سلبياته ودلالاته اللغوية ليكون مفهوما شاملا بقوله او توضيحه لمفهوم التسامح من وجهة نظره كباحث : 'التسامح كما أفهمه وادعو له: موقف إيجابي متفهم من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الاحتراب والإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا، وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته، ما دامت الطرق إلى الحقيقة متعددة، وليس لأحد الحق في احتكارها، فيكون التسامح اعترافا حقيقيا بالآخر، لا منّة ولا تكرما، فيسود المجتمع مبدأ المواطنة في المساواة والتكافؤ في جميع الحقوق والواجبات' نعم الدساتير جميعها تقر بالمساواة ولكن الواقع عبارة عن شيء مختلف تماما، لذلك فان دعوة الباحث من خلال مفهومه الجديد الذي يقدمه للتسامح، يحتاج الى ايضاحات اضافية او ان يفرد له بحثا خاصا لانه يختلف عن التسامح السائد او مفهومه المتداول والمعروف في الاوساط السياسية والبحثية وهذا سبب تخصيص التعريف بالحوار على التسامح لاعتقادي ان ما جاء به الباحث ماجد الغرباوي او تعريفه للتسامح يختلف تماما عما هو معروف عن هذا المفهوم حتى ان الكثير من الباحثين العرب عدوه متعاليا و'هشا' .

لذلك اقترح على الباحث ان يسميه تسمية اصطلاحية اخرى تتلائم مع مفهومه وتعريفه الجديد اي خلق مصطلح يلائم مفهوم الباحث لتمييزه عن التعريف المتداول . ك 'التسامح المتكافيء' مثلا . لتخليصه من التعالي او المنة الذي ينطوي عليه كمصطلح لغويا وبحثيا .ومع ذلك يبقى التسامح بمفهومه العام ضرورة لسلمية المجتمعات متعددة الاعراق والمذاهب وللتعايش السلمي والتدبير كما يقول او يؤكد الباحث : 'يبقى التسامح الحقيقي الإطار الجامع لوحدة الشعب رغم تنوعه القومي والديني والمذهبي' .

اما النقطة المهمة الثانية، اشدد على اهميتها كما جاءت في الحوار وتناولها الباحث في اكثر من محور على طول الحوار، ربط مفهوم التسامح بالمواطنة، باعتبارها المشترك بين الجميع، وخاصة في مجتمعاتنا العربية وفي العراق بالذات، ولكننا مع الاسف كما يؤكد الباحث لم نصل الى مستوى الوعي باهمية المواطنة التي تقوم على مبدأ التسامح وقبول الاخر على المستويين الثقافي والديني .التي قامت على اساسه الحضارة الغربية المعاصرة من خلال سن القوانين والتشريعات التي تحفظ حقوق جميع المواطنين .

وبين الباحث او حث بشكل واضح على التفريق بين النقد والتخريب المتعمد، فنقد البنيات الطائفية والعشائرية في مجتمعنا الموروثة من عصور وعهود سابقة واعادة ترسيخ مفهوم التسامح ومن ثمة المواطنة، تهدفان الى صيانة هذه المجتمعات اوتخليصها من الصراعات الطائفية والمذهبية اوالعرقية، حيث تصل هذه النزاعات احيانا لدرجة الحروب والتخريب المتعمد الذي يطال اقتصاديات وعمران مجتمعاتنا العربية والاسلامية وتهديد مسقبلها، كما ان مفهوم التسامح ليس من المفاهيم الاجنبية او الغريبة على ثقافتنا اومجتمعاتنا العربية والاسلامية .وهنالك وقائع معاصرة وتاريخية تثبت ذلك رغم انه لم يأت على ذكرها او ذكر بعضها او كشواهد منها في حواره، وربما نحتاج الى بحث اخر او الى بحث مستقل للتأكيد فيه التسامح بمفهومه العام ليس اجنبيا او غريبا على ثقافتنا العربية والاسلامية ماضيا وحاضرا .

***

قيس العذاري - بغداد نيوز

17 – 9-  2017

القسم الثاني من مشاركة طالبة الدكتوراه عفاف المحضي في الندوة العلمية الدوليّة حول التسامح الدينيّ و ثقافة الاختلاف - مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة، مدينة سوسة – تونس، يوم 5 – 10 – 2016م. بعنوان: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي. وقد نالت على بحثها شهادة تقدير من إدارة الندوة العالمية. 

 معالم المشروع الاصلاحي لماجد الغرباوي

إنّ أفكار الكتاب كما هو واضح من موضوعه تحمل مضامين إصلاحية، وتعكس وجهة نظر نقديّة ورؤية إستشرافية مستقبلية للعالم العربي في حاضره ومستقبله وما ينطوي بينهما من أحداث سياسيّة ودينيّة وثقافيّة. إنّ مشروع الغرباوي الإصلاحي هو معالجة عملية فكرية للمشاكل التي تحيط بالمجتمع العراقي كأنموذج والمجتمع العربي بشكل عام. مشروع يؤسس لثقافة:

- العيش داخل مجتمع تعدّدي

- الموائمة بين القيّم الدينيّة والقيّم الإنسانيّة

- نقد التراث الإجتهادي وخلق بديل مع المحافظة على الجوانب العقلية القوية منه والتي لا تتعارض وروح العصر ومتطلبات الإنسان اليوم الخميني الشيعي والإخواني السني.

- نقد العقل الإسلامي الإجتهادي الذي يكرر ذاته لسنوات والذي أفرغ النصّ القرآني من أبعاده الدينيّة وتوجيهه الوجهة الفقهيّة التقنينيّة منذ عصر الشافعي إلى اليوم العقل الإجتهادي يكرر نفسه.

- إخراج الإنسان المسلم من فهم ماضوي ضيّق للإسلام، فهم قد غدا عالة عليهم لم يعد قادرا على الإستجابة لروح العصر والحداثة وهذا ما خلق الصراع بيننا وبين العالم

- التفرقة الواعيّة بين الدين وبين الفهم الذي نشكله عنه

- الخروج من المنظور المذهبي الضيق الذي يدعي كل منها اكتساب الحقيقة وما تنجر عنه من تبعات تكفيرية واقصائية كردّ فعل مضاد حماية لتلك القشور التي شوهت مقاصد الدين العالميّة من تسامح وكونيّة وتعايش ومحبة ورحمة وعفو عند المقدرة والصفح والغفران ...عبر التاريخ. فالقرآن يحتوي آيات غاية في التسامح والمحبّة والانفتاح على الأخر ولكن التفسيرات التاريخيّة المسيّسة والخاضعة للظروف هي التي جعلت منه متقلبا بين الانفتاح والانغلاق حسب ما تقتضيه الحاجة التاريخية والمصالح السياسيّة.

- كسر قيد الوضع القاهر الذي يتحكم فينا وفي مجتمعاتنا العربيّة" إن لم تكن معي وتنضوي تحت منظومتي الفكرية فأنت ضدي واجب وحق شرعي تصفيتك الجسديّة."

لكن يبقى السؤال المتكررة في ذهنيّة كل مفكر أو مصلح أو فرد واع بالواقع اليوم هو ما مدى مشروعية البحث عن أرضيّة للتسامح في التأويل النّصي؟ ما مدى وعينا بهذا المفهوم؟ أليس من الضروري اعادة ابتكار لمفهوم التسامح وقولبته وفق متطلبات العصر المتجددة؟

"هناك فارق كبير بين قبول الآخر والاعتراف به فالحالة الأولى يفرضها الواقع والمصالح المشتركة بينما الحالة الثانية تعبّر عن وعي لا تخالطه نوازع التعالي الناشئ عن عقيدة التفوّق العنصري أو الاجتماعي أو الديني أو المذهبي أو الثقافي. ولا تلامسه مشاعر الفوقية والتفوّق. ولا تنطلي عليه أوهام صحة ونهائية وجزمية الأفكار والمعتقدات في مقابل خطأ الأخر مطلقا. كما لا تخالجه التفرّد بالدين."[10] والتأصيل لإطار وطني يستوعب التعدد القومي العربي والأصولي الديني وشيوعيّة واشتراكية عربيّة وطوائفية وشعبوية داخل شرعيته. والتأسيس للتسامح أخلاقيا ولغويا، دينيا ومدنيا.

لأن "التسامح نسق قيمي تتوقف فاعليته على وجود أرضية صالحة وأجواء سليمة تساعد على تفاعل قيّمه لذا يشترط أولا ايقاف نزيف الكراهية والحقد وقطع مصادر العنف والاحتراب وتجفيف منابع اللاتسامح والارهاب والحيلولة دون تدفقها لا على مستوى الممارسة فقط وإنما اجتثاثها كثقافة وعقل ومنهج."[11]" فلأحقاب طويلة من الزمن وقع تجاهل الكلمة، وقع تجاوزها أو على الأصح اكتفى بمجرد النظر إليها على أنها من نافل القول ... كما أن الكلمة لم تكن تعبر في الحقيقة عن شيء محسوس. بقي التسامح طوال قرون متتالية مجرد فكرة مجرد فرضية ضمنية تتحدث عن طبيعة الحياة عامة والعلاقات البشرية وقد كان مصير التسامح في الفكر الديني (الذي يجب تمييزه عن الدين) مصيرا متناقضا.

فالتصوّر الإنساني المتعلق بالدين قد أنتج مدارس ومذاهب كانت سببا في اثراء هذا الفكر ولكنها كانت سببا في فتن مزّقت أوصال المجتمعات التي تدين بالديانات السماوية على وجه الخصوص." [12] لذلك لابد من التأكيد ضرورة قصوى على أهميّة الثقافة النقديّة في "النفوذ إلى أعماق اللاوعي لتفكيك البنى المعرفيّة القديمة وتأهيلها لاستقبال نمط فكري وثقافي جديد يعمل في إطار قيّم التسامح. ويجب ان يطال الخطاب النقدي جميع المستويات وينفذ إلى كل الحقول. ولا يتوقف عند مساحة دون أخرى. فيبدأ بالفرد والأسرة لينتهي بأعلى سلطة فكرية واجتماعية مرورا بقيّم النظّم القبليّة والحزبيّة والدينية والنقابيّة والسياسية."[13]

بتفكيك سلسلة قيّما ومفاهيمها القديمة والتحرر من ربقة نمطها الاستبدادي من خلال نقد الخطاب الديني (هنا يجب أن نفهم الفرق بين النّص والخطاب الديني[14]) عند سيد قطب في قوله إن هذا الخطاب الديني لا يؤسس ولا يساعد على وجود مجتمع متسامح، بل العكس سينتج حركات إسلاميّة متطرّفة تستبيح قتل المسلمين قبل غيرهم ."[15] وهذ ا ما يشهده عالمنا العربي اليوم من قبل الجماعات المتطرّفة. لذلك لابد من تفكيك الخطاب الذي تتبناه هذه الجمعات وتحديد المرجعيات التي تمت وفقها هذه القراءات وبيان تهافتها ونقاط ضعفها لتفادي تنامي هذه القراءات ويتفاقم هذا الفهم ويتجذر داخل الفكر الديني إلى درجة يصبح فيها الفكر الأخر المضاد فكرا منحرفا وكافرا من وجهة نظره ومن زوايا فهمه وقراءاته وتفاسيره. فكيف يمكن حينها أن نتعايش مع الأفكار والأديان والعقائد المختلفة من حولنا؟

إنّ قضية الفكر ليست قضية الذّات بل هي قضية نتاجها المعنوي تماما كما هو النتاج المادي فنحن نرفض النتاج في عناصره ونحترم المنتج في انسانيته بمعنى لو أسقطنا الفكر لا نسقط صاحبه بل نحترمه كذات إنسانية نشترك معها في هذه الخاصيّة الإنسانيّة. إذ " ليس هناك صحيح مطلق وخطأ مطلق وإنما الفكر أيا كان انتماؤه انتاج بشري واجتهاد شخصي قد يصيب وقد يخطأ يتأثر بالظروف الزمانية والمكانية وتؤثر فيه القبليات المعرفية والأنماط الثقافية والاحداث السياسية والصراعات الطائفية والمستوى العلمي وأفاق الوعي السياسي والاجتماعي والديني." [16]

كما أكدّ على أهمية الدور الذي تلعبه الأسس المنهجيّة في ثقافة الحوار مع الأخر في مسائل منها الفرق بين الهداية الإنسانية والهداية الالهيّة التي "عمل الأنبياء على تجذيره وتعميقه في النفوس المؤمنة" كما أكدّ أيضا على دور القانون الذي يكمن دوره في فاعليته الكبرى في حسم النزاعات وإعادة الأمور إلى نصابها الأول وقمع الفقاعات الطائفية والمذهبية أو العنصرية أو الدينية في مهدها وحماية الصيغ التوافقية بين المواطني الشعب الواحد.

تحطيم الثوابت الغائرة والمتخفية في اللاّشعور خاصة في مفهوم الهداية رغم الحوار الذي لم يتجاوز في نظره داخل الذهنيّة العربية الإسلامية منطق التكفير والإكراه خاصة اذا ارتبطت بالأخر الخارج عن المنظومة العقائدية للأنا المؤمنة لذلك لابد للغرباوي هنا من تقديم البديل عن هذه الرؤيةباعطاء مفهوم جديد لهذا المصطلح في قوله:" الهداية هبّة ربّانيّة لا يمنحها إلاّ لمن يستحقها. وموضوعها العقيدة الإلهيّة وليست الشريعة وأحكامها، والعقيدة قناعة ذاتيّة لا تخضع لوسائل العنف والإكراه. وتحديد الهداية وضدها النوعي الذي هو الضلال مرتبط بالله تعالى ولا تتحدد بالسلوك الخارجي. فربما شخص يمارس الشعائر تحت ضغط الواقع... فالحوار معه على أساس هدايته باعتباره ضالا أمرا غير مبرر ولا مستساغ. وإنما يجب الحوار معه على أساس المثاقفة والتكامل باعتباره يمتلك رؤية وفكرا وثقافة وأدلة على أساسها اكتملت قناعته."[17]

هي " إرادة لا تعترف سوى بتبعية الذّات وامتثالها القسري والإكراهي لنموذج النسق الثقافي الذي يرهن أفق الإنسان ضمن منظور اختزالي لا يرده إلى ماهيته الجوهرية التى تؤسسها الحرية، وإنما إلى أصول ميتافيزيقية وأسس ثقافية شكلها الإنسان ذاته عبر تاريخه."[18]

كما أكدّ على ضرورة الفهم لصحيح لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو موضوع قيمي أخلاقي بالأساس وليس عقدي ديني. لإنّ مأزقنا اليوم المعاصر حسب رؤية الغرباوي النقدية للواقع المعاصر تتلخص في أن العقل العربي الإسلامي لا زال يكرّر ذاتَه باستمرار عود على بد من الألف إلى الياء وهذا ما قاله أيضا طه عبد الرحمان وأكد عليه في أنّ العالم العربي الإسلامي، لا وجود لإمكانيات البناء والتجديد عنده بل يستنسخ ما قاله السلف.

 قواعدهم وعباراتهم ومصطلحاتهم وآراءهم هي ذاتها لا تبديل ولا تحويل، وإن وجدت بعض المحاولات الخجولة التي لا تخرج عن منظومة النسَجَ على ذات المنوال إلاّ في حدود بيان بعض القواعد وشروحات لبعض العبارات، إن لم تكن شرح على شرح، وبعض الحواشي أو تعليقات عليها، ومحاولات توضيح المراد منها واستخلاص المضمون. وكأن الأول لم يترك للآخر شيئا وأضحى تفكيرنا مقيدا لا يخرج على المستوى الذي فكروا فيه.

 لا يسمح لنا بصياغة قواعد بديلة لتفكيرنا الديني نابعة من خضم مشكلات واشكاليات عصرنا ورهاناته، وتقدم العلوم والمعارف المستجدة في عصرنا. ينبغي علينا اليوم أن لاّ نفتقر للحسّ النقد التاريخي والتدقيق في دراسة موروثنا من الخطاب الديني كنصّ قابل للنقد وتجديد بنيانه الذي أصبح اليوم عاجزا عن الوفاء بمتطلبات روح العصر وحاجات العقل الإسلامي اليوم. فضلا عن ضرورة أن نتعرف على آفاق الحاضر، ونستبصر أو نستشرف متطلبات مستقبلنا.

 لقد شدد الغرباوي على ضرورة الخروج عن المناهج التقليدية في الاجتهاد والتفكير وأهمية بعث أسس وأدوات نظر معاصرة عقليّة نقديّة للموروث الخطابي الدينيّ، وتخطي تلك النظرة التقليديّة التي حرمت لقرون طويلة المساس بحرمة وقدسيّة الخطاب الديني على وصفه "نساقاً مقدسا وعميقاً" وحداً نهائياً، قادر على انتاج الأسئلة والأجوبة لكل زمان ومكان. خطابات في نظره قد ساهمت في تعطيل العقل العربي الإسلامي، عود على بدء بدايتها نهاية ونهايتها نقطة. كتاب أراد صاحبه من خلاله أن يتخطى ما هو مكرر في الكتابات الإسلاميّة المماثلة (حسن البنا، يوسف القرضاوي، محمد عبده...) وغيرهم إن من حيث عنوانه، أو مضامينه، أو عناوين مباحثه (الاستبداد العربي، الجهاد والاجتهاد في الإسلام، مشروع تحرير المرأة) وجرأة محتواه وأهدافه في الكشف عن حدود حقل فاعليات الدين وآثاره الايجابيّة البناءة. مقدما بذلك مشروعه الاصلاحي الجديد من صلب التجربة العراقية المتنوعة والمتمثل في جملة من التنبيهات والمحاولات الاصلاحية أهمها:

- صيانة قيم العدالة والمساواة في مجتمعاتنا العربيّة وتجريم الممارسات التي تفرق بين أفراد المجتمع الواحد جغرافيا أو تاريخيا أو دينيا أو ثقافيا.

- محاصرة كل أنواع الخطابات وأشكال الممارسات المتطرفة.

- ضرورة الوعي الحضاري للتاريخ وأحداثه وتطوراته الذي يؤهلنا لاستيعاب النقاط الإيجابية من تاريخنا.

- حاجة المسلم اليوم إلى رؤية دينيّة تؤهله للعيش وفق قواعد إلتزاماته الدينية المتوافقة مع مستجدات زمانه وتطوراته المتلاحقة.

- ضبط سلوك الإنسان والعمل على تهذيبه والإعلاء من شأن الاعتبارات الدينيّة والأخلاقيّة التي تسيّره.

- محاولة استئصال القيّم الجامدة واستبدالها بقيم جديدة والترويج لقيم المحبّة والسلام والتسامح بين الأنا والآخر.

- تقديم رؤية للظواهر ضمن إطارها التاريخي وأنساقها المعرفية والثقافية التي تأسست في خضمها.

- تقديم اجراءات من الواقع بعيدا عن التنظير والمثل.

- تفكيك مصادر الخطاب والإشارة إلى الوجدان المتورم وإلى العاطفة الوجدانيّة الجارفة التي حولت العقل الديني إلى عقل أزمة أو عقل مونولوج وتيار شعور ساهم في تحوّله إلى خطاب حركي خطير.

- تقديم فهمً جديدًا للحياة، للفرد وللشعب والوطن بعيدا عن العصبيّة القبلية.

- الدعوة إلى ضرورة سدّ الثغرة الراهنة في المجتمع عن طريق الإصلاح والتغيير الخطاب الديني القديم في بعض جوانبه وتكييّفه بما ينسجم مع تحديات العصر بفهم جديد ليس هو التغريب وليس هو التأويل المخل الذي يصطدم مع النصوص الشرعيّة الصريحة والذي يجعل منها ذات دورا ثانويا أمام متطلبات العصر ووقائعه وحاجاته وإنما هو التجديد الذي يعود بنا إلى النصّ الأصليّ و إلى الأصول الإسلاميّة الأولى الصحيحة. فالمجتمع المسلم مأمور بتجديد إيمانه من كل ما علق به من أسباب الضعف والبلى والخضوع والانحراف.

- صدّ كل أشكال العنف السائدة في المجتمع بالتسامح لأن أرضية التسامح هي معارك حرية التفكير والتعبير والعقيدة الدينية.

الإعتراف بالآخر الذي هو أصل التسامح وجوهره.

- لا بد من تحديد التمايز الحاصل بين الدين بصفته مصدرا والخطاب الديني بصفته تمظهرا.

- تحديد مفهوم التجديد وآلياته، كالاجتهاد ودوره في التجديد.

- تحديث الخطاب الديني وتجديده بما يتناسب ومعطيات الحضارة المعاصرة

- تخطي الحلول الجاهزة التي ارتضاها المسلمون نتيجة ظروف ومعطيات تاريخية وحضارية وسياسيّة قد تجاوزها الزمن والركب الحضاري المعاصر

- التنبيه إلى ضرورة عودة المسلم إلى القرآن ليستمد منه القواعد الصحيحة للسلوك السوي في جميع مجالات الحياة.

- ضرورة التنبه والوعي التام بالحقائق الأساسية ذات الأولوية في حياتنا كمسلمين من حقوق المواطنة وسيادة القانون وتعدد المرجعيات ومراجعة الأنساق التي تحكمنا وتسيطر على تركيباتنا الذهنية في التفكير

- الوعي بأن الحلول في هذا الميدان لا تكون إلا في نطاق الواقعية والممارسة الحرّة بعيدا عن التنظير والمثالية لأن هذا الوعي الثقافي لا يمكن أن يلامس الواقع إلا في إطار تلاقح الأفكار وخلق فضاءات أرحب للحوار بعيدا عن منطق الهدي والارشاد الذي تمتهنه بعض الجماعات والجمعيات.

 

خاتمة

وفق منظور ماجد الغرباوي تتأسس ايتيقا الأنا من خلال اللقاء المتكامل بالآخر وبهذا المعنى فهو تعبير عن تجل لوجود خاص من أجل وجود عام، لا يكتسب تحديداته الجوهرية الخاص، التي يصبح عبرها نوعا، لا امتدادا إلا في علاقته بالآخر، الذي يكون وجوده سابقا وكائنا على وجود أية ذاتية، فالأنا الذاتي لا يتحدد إلا إذا كان هناك آخر ذاتي يسبقها في الزمن داخل زمانية التفاعل الإنساني، هذا الذي يضمن شرط انفتاح الذاتيّة على الغيرية ويجعل أفق الكونية ممكن موافقة وتوافقا عبر سمّة التسامح مع الآخر.[19] فأخلاق التسامح والتفاعلية هي مبدأ اعلاء من قيمة الحياة والإبداع التي تقوم على الإلتحام بالوجود والآخر" واحترام خياراته وأسلوبه في اغناء تجربة الحياة المشتركة، وكل حياة مشتركة خلاقة."[20] رغم يقيننا بأن التسامح لابد وأن يحمل قسطا من الشّر معنى ذلك أنّ التسامح لا يمكن أن يكون قيمة مطلقة، أي أنّه مكره بفعل مشيئة كل فرد على الفعل وفق القواعد الكونيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة والقانونيّة والأعراف الإجتماعيّة والقبليّة المترسخة في ذهنيّة الفرد من الناحيتين النظريّة والعمليّة. لكن مطلب الحياة يبقى غاية الإنسان الحقّ والمؤمن بأن الله وحده هو الذي يستحق أن يحيا اللإنسان ويموت في سبيله وهذا لا يتحقق إلا في صلب مجتمع مثالي يتعايش فيه وبسماحة كل إنسان مسلم مؤمن وأناس غير مسلمين، وهذا المجتمع لا يكون غير المجتمع الإسلامي الحق الذي يقبل ان يكون بين أفراده يهودا ومسيحيين وفئات لا تؤمن بنبيّ ولا كتاب. أليس هذا هو الوجه المثالي للتسامح الحق؟

لقد رفض الغرباوي في كتابه التسامح على أساس المنة والتفضل ودعا الى قيام التسامح على أساس مشاركة الآخر لنا بالحقيقة، ولو بجزئها، وحينئذ لا توجد منه ولا يوجد تفضل، بل هو شريك حقيقي لنا.

 

عفاف المحضي: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي (1-2)

 

 عفاف المحضي – طالبة كتوراه / تونس

...............................

قائمة المصادر والمراجع

I.قائمة المصادر:

- القرآن الكريم

- ماجد الغرباوي التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات) مؤسسة العارف للمطبوعات الطبعة الأولى بيروت- لبنان 2008

II.قائمة المراجع:

- جون لوك: رسالة في التسامح: ترجمة منّة ابو سنّة، تقديم ومراجعة مراد وهبّه المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة- 1997

- عبد العزيز بو مسهولي: مبادئ فلسفة التعايش، أفريقيا الشرق- المغرب 2013

- عبد الرزاق عيد : سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي، يوسف القرضاوي بين التسامح والارهاب دار الطليعة بيروت، رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى، سبتمبر 2005

- محمد أحمد حسونة بك ومحمد خليفة التونسي التسامح في الإسلام: الأسس النفسيّة والاجتماعيّة في الإسلام مطابع دار الكتاب العربي بمصر محمد حلمي المنياوي

- ناجي البكوش : دراسات في التسامح، التسامح عماد حقوق الإنسان المعهد العربي لحقوق الإنسان والمجمع التونسي بيت الحكمة – نشريات الشمال - تونس 1995

- يوسف القرضاوي: كلمات في الوسطيّة الإسلاميّة ومعالمها، دار الشروق- القاهرة الطبعة الثالثة سنة 2008

- -----------------: الإسلام والعنف نظرات تأصيليّة دار الشروق– القاهرة 2010

 

III.قائمة المقالات الإلكترونية:

- محمد محفوظ : التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في 5/12/2015

- لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي

- فؤاد عاقل : تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا"- مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في: 31/08/2015

- موقع منظمة اليونسكو www.unesco.org

 

الهوامش

[1]- المعجم الوسيط: ج1 ابراهيم المصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر محمد علي النجار: المكتبة الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع اسطنبول- تركيا (د.ت) باب السين مادة (سمح) ص 447

[2]- انظر كتاب رسالة في التسامح: جون لوك، المجلس الأعلى للثقافة 1997

[3]- موقع منظمة اليونسكو: www.unesco.org

[4]- التسامح في الإسلام: محمد أحمد حسونة بك ومحمد خليفة التونسي: الأسس النفسية والاجتماعية في الإسلام مطابع دار الكتاب العربي بمصر محمد حلمي المنياوي ص 29

[5]- ن.م: ص 50

[6]- ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح: ص 16

[7]- عبد الرزاق عيد: سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي، يوسف القرضاوي بين التسامح والارهاب دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى، سبتمبر 2005 ص 210

8- محمد محفوظ: التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في 5/12/2015

[9]- ن.م: التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني

[10]- ماجدالغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح: ص 70

[11]- ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاّتسامح، ص 69

[12]- دراسات في التسامح: ناجي البكوش، التسامح عماد حقوق الإنسان المعهد العربي لحقوق الانسان والمجمع التونسي بيت الحكمة – نشريات الشمال - تونس 1995 ص 9-10

[13]- ن،م: ص 70

[14]- النصّ الديني والخطاب الديني: النصّ هو كل ما ثبت وروده عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلّ الله عليه وسلم، وهو فوق المحاسبة أو الإتهام، ويعتبر أصلا لا يمكن المساس به، فهو نص مقدس معجز صالح لكل زمان ومكان، مرتبط بالوحي، يأتي في مقدمة الأدلة الشرعية والحجج الدينية التي لا يمكن دحضها والمنزهة عن كل تحريف وشبهة. لهذا يشكل النص الديني الشكل الثابت الذي يمثل أساس الدين وكنهه سواء كان متعلقا بالعقائد أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق. أما الخطاب الديني هو الخطاب الذي ينطلق من الرؤية الدينية مرجعا، فهو ما يستبطنه ويفهمه ويفسره الفقهاء والعلماء من النص الديني أو مصادر الاجتهاد. وهو الواسطة بين الناس وبين القرآن والسنة والتي توضح الإسلام وما فيه من أحكام، فهو طريقة ومنهاج في التفكير والتصور وفي التعبير عن الأفكار والتصورات. وما يميز الخطاب الديني هو معيار الثابت والمتغير ويحكم هذا التمايز كيفية فهمه واعتباره سواء من قبل منتج الخطاب أم من لدن متلقيه، ذلك أنه لا يكتسب من موضوعه -الدين- قداسته وإطلاقه. لا بد من التمييز والفصل بين الدين والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضا أن تختلف من بيئة-واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد-إلى بيئة في إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بنفس القدر من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة. آنظر مقال بعنوان "تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا"لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي - فؤاد عاقل - مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في: 31/08/2015

[15]- ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاّتسامح ص 74

[16]- ماجد الغرباوي التسامح ومنابع اللاّتسامح: ص 100

[17]- ن.م: ص 109-110

[18]- عبد العزيز بو مسهولي: مبادئ فلسفة التعايش، أفريقيا الشرق- المغرب 2013 ص 66

[19]- انظر كتاب مبادئ فلسفة التعايش، لعبد العزيز بو مسهولي ص 188

[20]- ن.م: ص 190

 

 

القسم الأول من مشاركة طالبة الدكتوراه عفاف المحضي في الندوة العلمية الدوليّة حول التسامح الدينيّ وثقافة الاختلاف - مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة، مدينة سوسة – تونس، يوم 5 – 10 – 2016م. بعنوان: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي. وقد نالت على بحثها شهادة تقدير من إدارة الندوة العالمية.

 afaf1

مقدمة: الإنسان هو من يعيش فنّ الحياة. من يبتكر لنفسه قارب نجاة وطريق حياة مشتركة. الإنسان هو من يحيا ليحيا الإنسان معه وليس من يحيا لينفي غيره .. هو من يرسم فن الوجود بكل سماته ووأبعاده الإنسانية والأخلاقيّة التي تعتبر بوابة للتسامح ومبدأ فلسفة التعايش الإنساني في الكون.

 

 ماهو التسامح ؟و كيف نفهمه؟

1. تعريف التسامح لغة واصطلاحا:

لغة: تأتي كلمة التسامح من جذر (س.م.ح) سَمَحَ – سَمْحًا وسَمَاحًا وسَمَاحَةً: فلاَنَ وسَهُلَ ويقال سَمَحَ العودُ وتجرَّدَ من العُقَدِ وانقاد بعد استعصابٍ وفلان: بذل في العسر واليسر عن كرمٍ وسخاءٍ ويقال سمح له بحاجة يسَّرها له. و(سَمُحَ) سَمَاحَةً وسُمُوحَةً صار من أهل السّماحة فهو سَمْحٌ وسَمِيحٌ. وسَامَحَهُ بكذا وفيه أي وافقه على مطلوبه. [1]

مرّ التشكل المفهومي لهذا المصطلح بمرحلتين: تمثلت مرحلته الأولى في الجانب اللّغوي لهذا المفهوم ثمّ اكتسب في مرحلة ثانية بعدًا اصطلاحيا مع التنظير الفلسفي له في البيئة الغربيّة. ويمكن تحديد الفترة التاريخيّة لبروز هذا المصطلح وتشكله في الفكر الغربي منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر ففكرة التسامح الغربيّة الحديثة قد ارتبطت في بدايات تشكلها بالمسألة اللاّهوتيّة مع الفيلسوف والمفكر جون لوك "الذي كان ينظر إليها بوصفها "الحلّ العقلاني" لمشكلة الخلافات التي نشأت داخل المسيحيّة أنذاك".[2] ابان العصور الوسطى ولتفادي تلك التداعيات والصراعات المذهبية والطائفيّة والأنساق الفلسفيّة من أجل التوصل الى اتفاق وتوافق بين هذه الصيغ المختلفة والمتعارضة ورتق الفتق الحاصل بينها.

 لا بد من تشكل صيغ جديدة تضمن الوفاق والتسامح بين هذه الاتجاهات المتصارعة تضمن حقوق الإنسان وحرية التعبير لكل الأفراد على السواسيّة دون قيود أو تقديم تنازلات، إلى أن أصبح هذا المفهوم "التسامح" من المفاهيم الأساسية والمركزية في مواثيق حقوق الإنسان، مع صدورإعلان سنة 1948 والذي تَمَّ بموجبه التنصيص على حرية المعتقد والرأي والتعبير، كما بدأ العمل لتفعيله في المنظمات الدولية، إذ أصدرت منظمة اليونيسكو إعلان مبادئ التسامح لسنة 1995 وتبنَّته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بتاريخ 16 نوفمبر 1995 بباريس.[3]

 

2. موقف الأديان من التسامح:

"نسمع أصواتا قوية منذ قرن من أهل الغيرة على الإسلام في شتى أقطاره، وتنادي لنعد إلى الإسلام وهي صيحة كريمة جديرة بالاستماع، وإنها لتنتشر وتشتد على مرّ السنين من الغيورين والمتظاهرين بالغيرة على الإسلام ولعل هناك صيحة أجدر منها بالاستماع هي لِنُعِدْ إلينا الإسلام وبين الصيحتين فرق يفقهه من قدر عليه"[4] ولابراز البناء الصحيح للإسلام لابد من أن ننزع عنه الطبقة المتحجرة الخبيثة التي رنت على أسسه بنوع من التغييب للأصل وتغيير حقائقه من رفق وحلم وعفو رحمة وتعايش سلمي وتسامح وتكافل وغيرها من السمات الإنسانيّة والأخلاقيّة...

 فالخواء الروحي ليطبق على العالم في عنف والأمم تضطرب في كل مكان والنظم القديمة كلها تتصدع عن قصد وعن غير قصد وأصحابها يخربونها بأيديهم وبأيدي غيرهم ويظهر أنّ البشرية تتقارب وتتجه نحو الوحدة العامة.. فما لم تتقدم رسالة روحيّة من الرسالات القديمة لسدّ هذا الخواء متحفظة بجوهرها الصحيح الملائم للفطرة الإنسانية منسلخة من قشورها وأعراضها البالية ولن تكون هذه الرسالة إلا الإسلام – فلابد من ميلاد رسالة جديدة تلائم الوحدة العالمية المنتظرة، وإنها لعلى الأبواب فما هذه الاضطرابات من حروب ونحوها إلّا أعراض حمل الإنسانيّة لهذه الرسالة وإنّ تتبعها المحموم لأظهر أعراض المخاض وما أسرع الطلق فيخرج الوليد الموعود."[5] لتاريخنا المعاصر الذي شهد ويشهد تغيرات شتى ومستجدات عدة متسارعة النسق مضطربة ومتخبطة المسار.

 إنه إشكال التجديد، أمام ما يشهد به العالم اليوم من مظاهرَ للعنف والاحتراب الذي يستدعي منا جميعا ضرورة العودةَ إلى الذّات لمراجعتها ونقدها في أسسها وثوابتها الداخليّة، والوقوف على مواضع الخلّل فيها لتقويمها وتصحيحها ومعالجتها، ثم الارتكاز إلى قيّم جديدة تستبعد بعض مظاهر الكراهيّة والشرور النفسيّة المتفشية بين الجماعات الإنسانيّة وبين الأمم والشعوب، لتنفتح على قيّم أخرى إنسانيّة والدينيّة كونيّة. وإنّ هذا الغرض والغاية لبلوغها ونيل شرف مرتبتها وقطف طيب ثمارها قد يتطلب منا وجميعا على حد سواء الغوص في أعماق فكرنا وعقيدتنا بحثًا عن الجذور المشكلة بيننا كإنسان.

 إذ لم يعد أمام الشعوب الإسلاميّة خيارٌ للحدِّ من هذه العدوانيّة، عدوانية ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشيّة في كلِّ مكان في الأمصار العربيّة الإسلاميّة سوى خيار وحيد هو تبنِّي قيّم التسامح والعفو والتصالح والمغفرة والرحمّة والأخوّة والسلام، فعمق الحاجة إلية اليوم مع تصاعد وتيرة العنف والإرهاب أصبح مطلبا ملحا لتأخذ فيما بعد وبصفة تدريجيّة أشكال الدعوة إلية صورا مختلفة من التساوق وحوار الحضارات والثقافات وتواصل الأديان "لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم، بدل الاقتتال والتناحر. وهو عمل صعب يستدعي جهودًا يتضافر فيها الخطابُ الإعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي، ويتطلب تعاوُنَ الفرد مع المجتمع، والشعب مع القانون، والدولة مع الدستور.

 إنه عمل جذري يستهدف البُنى الفكرية والعقائديّة والثوابت والأعراف للمجتمع، لإعادة صياغتها صياغة عقليّة تضع أمامها الأولويات والوعي، وتقديم فهم عصريٍّ للدين والرسالة والهدف الأسمى تحقيقه، دونما أن تتجاهل الجانب النقدي المهم والبناء للمفاهيم والقيم والسلوك البشري، لرسم مستقبل أفضل ونوعي لفرد جديد والشعب متكافل مترابط الأوصال والوطن مزدهر ينعم بالسلام. قراءة متفهمّة للتراث ومستوعبة لأدق تفاصيل التاريخ، وعودة إلى القرآن والعقل، لتحقيق فهم آخر للحياة والعمل الإنساني

فالتسامح ليس نسقا فكريا مجتمعي بل هو نسق فكري وثقافي وعقيدي. فالتسامح ليس مجرد مفهوم يراد استنباته ضمن النسق القيّمي للمجتمع وإنما هو نسق ثقافي وعقيدي مغاير له أليته في العمل وأسلوبه في التأثير ومنهجه في التفكير وطريقته في الاشتغال فلا يمكن سيادة قيّم التسامح ما لم تكتمل جميع مقدماته.[6]

بالتركيز على الدين الإسلامي كمرجع في صياغة انساق التسامح محاولة لاستنطاق النّص المؤسس والنصوص الحواف في جهودها التفسيريّة مع مراعات المرحليّة التاريخية والظروف الحافة بها عبر التاريخ. كما أراد من خلاله ماجد الغرباوي أن يسافر عبر حقبات التاريخ مع النصّ والتفاسير التي تعاقبت عليه بنوعيها الحرفيّة منها والتجديديّة العقليّة من أجل التوّصل إلى منظومة مفاهيميّة يمكن توظيفها في صياغة النسق الفكري والعقيدي للتسامح الإنساني على إختلاف أجناسه وأطيافه المكوّنة له. فالتسامح لا يمكن أن يكون إلا قيمة دينيّة قبل أن يكون قيمة أو سمّة إنسانيّة.

 الدراسة ركز صاحبها فيها على أهم أسباب وأشكال التعصّب ومنابع اللاتسامح العقدي والسياسي والطائفي والقبلي في المجتمع وقد اعتمد العراق كنموذج للتعدد القومي والديني والمذهبي والطائفي والعِرْقِيّ. محاولة أو أملا في البحث عن صيغ جديدة وأطر جديدة للتعايش المجتمعي تستوعب تلك التناقضات وهذا التنّوع.

 إننا اليوم أمام إشكال كيف ننقي هذه القيمة الدينيّة من الشوائب الثقافيّة التي فرضتها التراكمات من المواقف الشخصيّة أحيانا عبر التاريخ من اجتهادات شخصيّة وحماية لمصالح استبداديّة سياسيّة التي تحولت مع مرور الزمن إلى أنساق عقائدية ومعرفية تمارس سلطتها على العقل وتتحكم في سلوكات الأفراد والجماعات.

لابد لنا اليوم من التركيز أساسا على أهمية دور المراجعة وإعادة قراءة تراثنا ومعارفنا لإكتشاف مراكز القوة ومواطن الضعف والخوّر بعيدا عن القراءات الأحادية للنّص المؤسس والحذر من القراءات التي تنادي بالوسطيّة ظاهرا والتعصب باطنا والمتجذرة في العقل الفقهي أساسا فهل يمكن للعقل الفقهي أن يكون وسطيا موضوعيا بالشكل السوي للمفهوم؟

"على هذا فإن الوسطيّة التي يدّعيها بعض فقهاء العصر كالقرضاوي لا صلّة لها بمفهوم التسامح والاعتدال المتداول في الحقل الدلالي لأدبيات عصرنا الراهن والحديث فكريا وثقافيا وسياسيا بل هي "وسطية" الوقوف في الوسط بين الاعتدال والتطرّف أي النوسان بينهما وفق المصلحة التكتيكية و(الأهواء والمصالح السياسيّة)، مصلحة اللّحظة الراهنة والموقع فيتخطّر بين الضفتين فإذا كان وضع الحركة الإسلاميّة لا يسمح باستخدام سيف العنف فإنه يلجأ إلى استخدام سيف التسامح وهو في كلتا الحالتين لا يتجاوز "حدّ مفهوم السيف" فكلاهما غزو في الخطاب الفقهي العنف والتسامح أو الحب والسيف بحسب حسن البنا، فإذا كان الوضع يتطلّب التسامح فإن الأمر في غاية البساطة إذ ما علينا سوى أن ننبش في كيس التراث حتى نستحضر ما تيسر لنا من محفوظات مناسبة لحالة التسامح. ففي السنّة النبويّة يواجهونك مباشرة بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد وهمّ به أصحاب النبيّ ليمنعوه فأمرهم أن لا يقطعوا عليه بولته وأن يصبوا عليه ذنوبا من ماء قائلا: "إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسرين."

 تواجهك هذه الواقعة عشرات المرات في كتب القرضاوي (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة ص 143) وآلاف المرات في كتب الفقه (ككلمات في الوسطية الإسلاميّة ومعالمها وكتابه الإسلام والعنف، نظرات تأصيليّة) التي تنقل عن بعضها لبعض حتى يكاد أن يكون هذا الأعرابي أشهر "بوّال" في التاريخ."[7] وكأن بهذه الحادثة قد مثلت أفضل أنواع التسامح وأشرفها في التاريخ الإسلامي. أمام هذه المغالطات لابد لنا اليوم من أن نعي جيد أنّ علم الأصول يستدعي الانطلاق من القرآن نحو السنة وليس العكس لتقديم وعي جديد للحقيقة الدينية وللأسس الأخلاقيّة الإسلامية.

 afaf2

3. أسس التسامح وأثرها في التعايش الإنساني:

التسامح سلم من الدرجات المتنوعة يبدأ من الديني ثم السياسي ليتشكل في مظهر اجتماعي بين الأفراد والمجموعات والأمم التي تحترم حقوق المواطنة وتضمن سيادة القانون والإعتراف بالتعددية المرجعيّة من أجل إعادة تشكيل قيم التفاضل بينها إن وجد خلل فيها حسبما تقتضيه الحاجة الإنسانيّة لمبدأ التعايش في الوجود، ولأن الوعي بسياسة العنف التي هي سبيل لخلق اللاتسامح والتعصّب القبلي أو السياسي في المجتمع ليكون العنف كعقل وخطاب وثقافة داخل مجتمع ما.

 لهذا قدّم الغرباوي طرحا جديدا للمسألة يقوم على ضرورة التحوّل في مفاهيم القيّم وطرح التفكير كبديل للتكفير، بوضع استفهامات ضرورية لتجاوز هذه الأحداث والظواهر التي فتكت بالمجتمعات الإنسانيّة. هو سؤال كيف نجتث ثقافة العنف؟ تكون بعدة أشكال منها: الولاء للوطن بمعنى الاخلاص الشامل. أما سؤال كيف يعاد تشكيل العقل الإنساني بشكل يرفض فيه العنف فإن جوابه يتطلب الحاجة إلى "منظومة قيميّة تحلّ محلّ النسق القيّمي القديم السائد". الذي ولّد خطر أن يتحول العنف إلى منهج في تفسير التاريخ وقراءة الأحداث وبذلك يتحوّل إلى عامل ضروري وأساسي في صناعة التاريخ وأسلوبا فريدا في حل الأزمات و تسوية الخلافات. وإنّ واجب المثقف النوعي وعلماء الأمة الأكفاء اليوم أن يولوا وجوههم تجاه البحث عن أصول العلاقات التي ترتبط الظواهر التاريخيّة للعنف بالتسامح وتجديد القراءات وتفسيرات لقيم الدين التي تشرع ممارسة العنف ضد الآخر.

لقد كشفت رؤية الغرباوي النقدية حجم المعاناة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية. مما استوجب في نظره تقديم قراءة متأنيّة وجذريّة لأسس التسامح السائدة في واقعنا العربي المتورّم .. قراءة مبنية متماسكة الجوانب تقوم على دراسة شاملة لتشكل قفزة نوعيّة في محاولة منه لإخراج المجتمع العربي الإسلامي من أزماته ونكباته المُتراكمة المتتاليّة. وهذه الموقف ليس بالجديد عليه إذ دعا في بحوثه ولقاءاته الصحفية المنشورة في المواقع والصحف الإلكترونية وبصفة خاصة كتابه الذي نتناوله بالشرح والتعليق في بعض مسائله إلى ضرورة فهم الظواهر التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأنساق الفكريّة المتأزمة ومربكة لإستقرار اللأرضيّة العربيّة، كاشفا من خلاله محاولاته لتفسيرها والوقوف على أهم أسبابها وظروف تشكلها في الواقع والتراث محاولا قدر المستطاع تبيّن موطن الداء وخلق الترياق المناسب لمعالجتها معالجة شاملة بوسائل ومناهج قانونيّة دستوريّة شرعيّة بالمعنى السياسي لا بالمعنى الفقهي الشرعي وبما يتلائم مع الأعراف الاجتماعيّة العامّة والخاصة، التي لا تتعارض وسماحة قيّم الإسلام، لايجاد حلول لمشكلات حياة الإنسان والمجتمع العربي وانتشاله من سقط الواقع المتأزم الذي يعيشه.

كما دعا أيضا إلى ضرورة الإستفادة من التجارب البشريّة المتنوّعة عبر التاريخ، وتحري الموضوعيّة والمصداقيّة في البحث عن وسائط وأنساق جديدة بديلة ترفع من مستواه السلوكي في مستوى الكم والنوع، وهو ما سيساعد على تطوّر فكره الاجتماعي وتنمي شعوره الديني والمذهبي نحو أفق أشمل وأوسع هو أفق الكونيّة الأرحب لتزيد من نسب التعايش كأفراد مختلفين في مجتمع ورقعة جغرافية واحدة كان التاريخ عاملا في استمرارية تلك الوحدة التي يتوق اللإنسان إلى أن تكون أكثر صلابة واصرارا على اعتناقها وكسب ملكيتها. من خلال بلورة حديثة لتلك الأسس الرخوة وإعادة بنائها بانسجام وحذر لتساهم في خلق مجتمع أكثر تناغم وتعايش، يحتقر ماضيه في زواياه المظلمة ويداوي جراحه بعقاقير ملائمة لأورام زمانه ويلملم شتاته بهمَّة وعقلانيّة، ليتطلع بثبات نحو مستقبل أفضل وإنهاء موجبات العنف والاقصاء والهيمنة والقوّة المباشرة وغير المباشرة. لخلق تصوّر صحيح عن أسباب القريبة والبعيدة لظاهرة اللاتسامح.

 "فما يعيشه العالم العربي من انفجار لهوياته الفرعيّة وتشظيه بعناوين طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية، هو نتاج طبيعي لبعض الخيارات السياسية والاجتماعية التي سادت في العالم العربي، وعملت عبر وسائل قهرية لتغييب حقيقة التعدديّة الموجودة في المنطقة العربيّة..."[8] "فالذي يفجر الكنائس في العراق أو مصر أو أي بلد عربي آخر، ليس هو الأجنبي، وإنما هو التيار العنفي – التكفيري الذي بدأ بالبروز في العالم العربي" وإن اختلفت حقيقة الأيادي التي تقف وراءه وتحركه نحو أهدافها العدوانيّة المرضيّة."[9] رغم أنّ البحث في الأسس الأولى للمناهج الثقافية والدينية التي خلقت هذه الظاهرة "الهجينة" وأقول هجينة لأنها لا ترتبط بأسس دينيّة عقيديّة صحيحة بل هي وليدة تفسيرات وتحليلات دينيّة تاريخيّة تساير السياسات التي كفلت مشروعيتها التي عملت في مشروعها على تغييب واقصاء ثنائية : "نحن وهم"

حقيقة لا مناص منها أنّ واقع المجتمعات العربيّة اليوم لا زال مفتقرا إلى المعرفة الدقيقة والواقعيّة لمصطلح أو مفردة التسامح رغم أنّها دُشِّنَت في مطلع هذا القرن في السجال الذي حصل بين فرح أنطون ومحمدعبده، في المعارك الفكريّة والسياسيّة التي تطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بفتح باب الاجتهاد، في مجال دراسة الموروث الديني والثقافي، فهل نستطيع القول اليوم إنّ هذه المعركة التي لابد منها لم تعد قابلة للتأجيل أو التأخير أو محاولات الطمس والتغييب على العقل العربي؟ مع أنّ معطيات متعددة في الواقع العربي الراهن تقتضي منّا بلورة اجتهادات جديدة تمكِّننا من إعادة استثمار الدلالة الجامدة والسطحيّة السابقة بدلالة رمزيّة ومفتوحة للمفهوم؟

لكن يبقى السؤال الأهم: هل يوجد في عالمنا تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري أم أنّ غيابه اليوم يدعونا لتنظيم ندوات علميّة للتذكير بجوهر مبادئه في بعض السطور المكتوبة لتلقى في ندواتنا ومؤتمراتنا وملتقياتنا وتنسى أو تنتهي بانتهائها أم أنّ الوعي بخطورة الوضع العالمي اليوم تحتم علينا ضرورة مراجعة ذواتنا ومعاملاتنا تجاه أنفسنا وتجاه الأخر في نطاق مبادئنا الصحيحة التي وضعها لنا الإسلام الأول وأقصد بمصطلح الإسلام الأول الإسلام الذي دعا إليه سيد الخلق سيدنا محمّد صلّ الله عليه وسلّم وليس إسلام التأويلات والقراءات الذي تعيشه بعض الفئات المتطرفة دينيا في العراق وسوريا وليبيا والتي أحدثت في الأرض فسادا عميقا نسأل الله السلامة من شرّ ما يحدثون.

التسامح ومنابع اللاتسامح، الضد النوعي للاستبداد، تحديات العنف، وغيرها، بحوث جلها إنبثقت ضمن مشروع وهدف أعمق وأبعد هناك تخطيط واضح في الأفق تلحقه محاولات للتأسيس، هناك هدف أكبر وأسمى من المفكر العراقي ماجد الغرباوي وسعي حثيث وملموس لمشروع ثقافيّ حضاريّ مؤسس. أي أن هناك شيئا لا يستطيع القارئ معرفة ماهيته تحديداً، أكثر من كونه حتى يأخذ مكانه التربوي في الساحة الإجتماعية والوطنيّة ودوره الطبيعي في مجالس العلم وساحات الفكر والمعرفة ليساهم من قريب أو بعيد إن قليلا أو كثيرا في خلق تطوّر ثقافي جديد جميع المجالات الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة.

يتبع القسم الثاني

 afaf5

boutheina bouguerraمنذ سقوط بغداد على يد التتار وما زالت الثقافة العربية في سبات كسبات أهل الكهف بعد أن فقدت قدرتها على التأثير في الثقافة العالمية منذ عهد طويل، فلم تعد في أعين العالم سوى منطقة استهلاك لنتاج الآخرين وعبئا يعيق التقدم الكوني، لذلك رموها بالتخلف والجمود.

لقد بات من الضروري التخلّص من براثن وسلبيات الوضع الثقافي الموروث الجامد، ومواصلة التجديد، باعتباره ضرورة لا ترفا، وحاجة لا غنى عنها لضخ دماء جديدة في شرايين الثقافة العربية كي تصحو من غفوتها الطويلة وتصبح فاعلة ومؤثرة في الثقافة العالمية.

في هذا الإطار يجب التمييز بين أسلمة الحداثة، التي تعني إضفاء صبغة إسلامية على مفاهيم مستوردة،يراد استنباتها داخل المجتمع الاسلامي، فأنتجت واقعا مشوّها، غير متجانس مع خصوصيته. وبين تحديث الإسلام الذي يعني فهم الدين فهما عميقا وتطويعه لخدمة الواقع كي يتماشى مع الظروف الزمانية والمكانية. فالتجديد المنشود هو تحديث الإسلام لا أسلمة الحداثة. يقول الاستاذ ماجد الغرباوي في كتابه إشكاليات التجديد: "عندما نريد النهوض علينا مراجعة ثقافتنا وتحليل مكوناتها كي تنبثق من داخل بيئتنا وتنسجم مع ما نحققه من تطور علمي وتكنولوجي، بهذه  الحالة فقط يتحقق الانسجام الأخلاقي بين المنجز العلمي وقيم المجتمع"(1).

ويجب التأكيد أن التجديد ليس حلما صعب المنال، بل ممكنا وسيغدو حقيقة واقعية بعد خوض معارك طاحنة لا مفر من خوضها ضد من يمثل عائقا أمام صحوة الثقافة الإسلامية

في هذا الإطار، جاء كتاب "إشكاليات التجديد" للأستاذ ماجد الغرباوي ليقدّم فهما جديدا لمجموعة مفاهيم ترتبط ارتباطا عضويا بمسألة التجديد ومستقبل الثقافة الإسلامية. حيث عالج ضمن هذه المفاهيم وضع المثقف الإسلامي في ظل واقع يتسم بالاستبداد وكثرة التحديات. وسأحاول في ضوء هذا الكتاب استعراض جملة قضايا طرحها مؤلفه من خلال أربعة نقاط مهمة وهي كالآتي:

1- تحديد مفهوم المثقف.

2-  ضبط الأدوات الثقافية.

3- تحليل الواقع.

4- رسم ملامح الواقع المنشود.

أولاً: تحديد مفهوم المثقف

النقطة الأولى تتعلق بتحديد مفهوم المثقف. حيث أن الإجابة عنه ليس أمرا هينا، وذلك لعدم وجود تعريف واحد ودقيق للمثقف متفق عليه، لذلك جنح الأستاذ الغرباوي عن تعريفه لضبط معاييره المتمثلة بثلاث نقاط وهي: اكتساب المعرفة الضرورية، والتمتع بالوعي الكافي، والتسلح بجرأة الموقف، يقول المؤلف: "من خلال السياق التاريخي لنشأة مصطلح (المثقف) وما يختزنه من دلالات يتضح أن مفهوم المثقف يتكون من ثلاثة عناصر (معرفة، وعي، موقف) تتشابك فيما بينها لتصوغ شخصيته، وعندما يتخلف أحدها يفقد المفهوم صدقيته، ويبقى إطلاقه على بعض الناس من باب المجاز، لتخلف الإطلاق  الحقيقي عن شرطه الموجب لتحققه وانطباقه على موضوعه".(2).

وبناء على هذه المعايير، يمكن التمييز بين المثقف وغير المثقف، أو إن صح التعبير "أشباه المثقفين".  وهناك عدة تصنيفات، بالنسبة للتصنيف الأول بالاعتماد على معيار علاقة المثقف العربي بالثقافات المختلفة، حيث يمكننا أن نميّز بين المثقف المنبهر بالثقافة الغربية لدرجة التنكر لمنبته العربي الإسلامي. وبعبارة أخرى، ما تنتابه حالة الانصهار والذوبان في الثقافة الغربية دون مراعاة خصوصية المجتمع الإسلامي، إذ يصف الكاتب حالة هذا الصنف من المتغربين بقوله: "اجتاحه شعور الانبهار بالغرب وحضارته حد الاستلاب والدونية، شعور أفضى به إلى كراهية الذات واحتقارها، بعد اتهامها بالعجز والتخلف والانحطاط. وقد مثلت شريحة واسعة من المثقفين هذا الاتجاه ودعت إلى تبني قيم الغرب والذوبان فيه. وهو توجه خطير يكرّس التبعية المطلقة، ويعمّق الشك بالقدرة على تجاوز المحنة ومعالجة أسباب تخلفها، لاسيما عندما يصطدم الفرد برفض الآخر فإنه سيعيش حالة من الاغتراب يصعب معها الاندماج الكلي أو التراجع الفعلي كما بالنسبة للجاليات المقيمة في الغرب" (3).

يقابل هذا الصنف من الناس صنف آخر يشبهه في تطرفه، وهو المثقف، الأحادي الثقافة، المنغلق على خصوصيته، والرافض لكل ما هو مغاير وجديد، يفضّل الجمود الثقافي على التنافس المثمر مع الثقافات الأخرى. وهذه حالة سلبية مرفوضة، إذ "يُفترض – كما يقول مؤلف الكتاب - أن لا يكون المثقف أحادي الثقافة، لا يرى إلا بعين واحدة، يقرأ من خلالها الأشياء، ويقيّم في ضوئها الواقع، فينحجب عنه الوجه الآخر من الحقيقة وتختلط لديه الأوراق حد الرفض لأي فكر يتقاطع مع رؤيته".

ويضيف: "الثقافة الأحادية يمكن أن تكون أشد خطر على الإنسان من الجهل، لأن الأخير سرعان ما ينقشع بالتعلم والمعرفة، في حين يكون الأول محجوبا عن رؤية التزوير والخطأ في الوسط الاجتماعي، وربما يكرس الخطأ لاعتقاده بصوابه ويدافع عن الباطل لأنه حق في نظره، وهذا الصنف من الناس أول من يشهر سيفه بوجه المشاريع الإصلاحية"  (4).

فكلا هذين الصنفين لا يقدمان إضافة للثقافة الإسلامية وإنما يسعيان إلى ترسيخ الركود الثقافي، لكن على خلافهما يوجد صنف معتدل وهو المثقف الذي يحافظ على الثقافة الإسلامية لدرجة حماية خصوصيتها وينفتح في نفس الوقت على الحضارات المختلفة للإثراء والتقدم والانفتاح.

أما بالنسبة للتصنيف الثاني بالاعتماد على معيار الجهة التي يمثلها المثقف، فهناك المثقف النخبوي المنعزل في برجه، الذي لا يمثل إلا الفئة النخبوية التي لا علاقة لها بمشاكل العامة. كذلك هناك مثقف السلطة الحاكمة، الذي يبرر ويشرعن أفعال الحاكم، حيث يصف المؤلف مثقف السلطة في كتابه: "عمله تسويغ ممارسات السلطان، وإن اقتضى ذلك تزييف الحقائق أو استخدام وسائل غير مشروعة، فهو إنسان مهزوم في داخله وأسير للإرادة السلطانية". (5).

 فهذان الصنفان مضران بالمجتمع العربي الإسلامي ولا يتميزان بالأمانة والجرأة اللازمة في التعبير عن مشاكل المجتمع، وهي السمات التي يتمتع بها مثقف الشعب، أو ما اصطلح الأستاذ ماجد الغرباوي عليه بـ "المثقف الرسالي" الذي يحمل هموم الشعب ويدافع عنها بشجاعة. ومن الصنف الأخير يمكن ذكر مثقفين كانوا منارة للحق وشوكة في وجه الظلم والاستبداد كالإمام جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني والإمام الشهيد محمد باقر الصدر والسيد الكواكبي...

ولقد ساق الأستاذ ماجد الغرباوي ملاحظة جميلة تقول: بأن صفة المثقف الرسالي ليست حكرا على أشخاص معينين تنتهي مهمتهم بوفاتهم إنما هي مشروع مستمر يمكن تمثله إذا ما توفرت شروطه.

 

ثانياً: ضبط الأدوات الثقافية

النقطة الثانية تتعلق بالأدوات والتقنيات التي يعتمدها المثقف في إحياء الثقافة الإسلامية وكيفية تجديدها لتكون فاعلة، فيقول الغرباوي في هذا الصدد: "المقصود بالتجديد تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة لإعادة النظر بجميع اليقينيات والمقولات الأساسية من أجل فهم جديد للدين ومقاصده وغاياته ومبادئه ومعارفه في ضوء تطور وعي الإنسان وقدراته العلمية والمادية، استجابة لتطورات العصر ومقتضياته، ومعرفة حدود الدين والمائز بينه وبين الفكر الديني، والتفريق بين الإلهي والبشري أو بين المقدس والمدنس"   (6)، ويؤكد الكاتب على الأسلوب النقدي، حيث يقول: "فمن يروم التجديد عليه ممارسة النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد والتشبث بالماضي خيارا مقبولا"(7). لكل ما هو وضعي وذلك بتشخيص نقاط القوة والضعف، وبالتالي التخلي عن أسلوب المسلمات الذي يعني التقبل البديهي لجميع الموروث الإسلامي دون إعمال العقل ودون مساءلة ومناقشة لمدى تجاوبه مع المشاكل الحالية لواقع المجتمع الإسلامي والوقوف على ظاهر النصوص المقدسة دون الغوص في بواطنها، "وعدة هذا اللون من الفهم - كما يقول المؤلف- ظواهر نصوص مقدسة ارتكزوا إلى إطلاقاتها بعد تجريدها من تاريخيتها لعدم إدراك ظروفها ومقاصدها وغاياتها وقياسهم الحاضر على الغائب رغم اختلاف تفصيلاته. فالحكم الشرعي بنظرهم يبقى فعليا رغم تبّدل ظروف موضوعه والأسباب الموجبة له" (8).

وكذلك ضرورة التمييز بين ما هو مقدس الذي يتجسد في القرآن وما صح من السيرة النبوية الذي يجب الالتزام بهما، وبين ما هو غير مقدس بمعنى أنه نتاج عمل بشري على غرار الاجتهادات الفقهية فهي قابلة للمناقشة وحتى للدحض. وهذا ما يجعلنا نتجاوز ما وقع فيه السلف من خطأ شرح الشروح واجترار ما وقع دراسته خوفا من الخروج عن ما هو موجود ومألوف.

بالإضافة إلى الأسلوب النقدي، يجب على المثقف أن يعتمد أسلوبا تحليليا بمعنى أنه ينطلق من الواقع فيحلل المشكلة من جميع جوانبها فيتمثلها جيدا ثم يعرضها على النص القرآني فيحاوره ويساءله حتى يجد لها حلا، ثم باستخلاص الحل يعود للواقع ويطبقه على المشكل المطروح، بهذا يكون القرآن صالحا لكل زمان ومكان.

إن محاورة القرآن ليست ممنوعة، وذلك بدليل أن القرآن في حد ذاته دعا إلى إعمال العقل في تدبر آياته، وهذا ما ذهب الأستاذ ماجد الغرباوي إلى تبينه بقوله" ولا أخال العملية ممتنعة أو غير ممكنة وإنما أُدخلت دائرة الممنوع عنوة وفق مقاييس غير علمية أو إيديولوجية تذهب إلى اختزال الشخصية الإسلامية إلى أداة معوقة لا تجيد إلا الإصغاء والاستماع ومن ثم التسليم والانقياد للغير بداعي الجهل والعجز عن كشف مضامين الآيات أو ربما تحويل القرآن المبين إلى ألغاز محيرة يصعب درك مداليلها أو التكهن بمفاداتها، ليتحول القرآن حينها إلى كتاب سماوي يناقض أهدافه وغاياته".

 

ثالثاً: تحليل الواقع

أما بالنسبة للنقطة الثالثة، فهي تتعلق بالواقع الموجود، حيث أن المثقف يعيش في واقع إسلامي رغم ترامي رقعته الجغرافية إلا أنه أضيق من أن يمثل شاطئا ترسو عليه أفكار تجددية وتحررية وذلك لأنه واقع مليء بالمغالطات وتسوده الأسطورة والخرافات والأوهام. وهذه الظروف تكون عادة ملائمة لعشعشة الاستبداد واستفحاله، فينتج عنها فهم خاطئ، يعتبر أية عملية تجديد بمثابة  تجرؤ على ما هو مألوف وبدعة ضالة، تستوجب أشد أنواع العقاب والقصاص. ويشهد التاريخ على فظاعة وشناعة الوسائل التي اعتمدها رموز الاستبداد في مواجهة رموز الإصلاح(9). ويفسّر هذه القسوة في التصدي للمثقفين بتخوف المستبدين من انتشار العلم المبني على المنطق التي هي وظيفة المثقف الذي ينير الرأي العام ويدفعه نحو المطالبة بحقه في مساءلة من يجرم في حقه، وبالتالي بدا للمستبد من الضروري إخماد صوت المثقف لأن بإخماده إخماد لصوت الحق وبالتالي المحافظة على مصالحه الشخصية الضيقة المبنية عل الباطل.

ولكن ما غفل عنه المستبد هو  أن هذا الإخماد لا يطال سوى الجسد في حين يبقى المشروع الإصلاحي حيا لا يمكن أبدا اغتياله، لذلك مهما صمد تعنت المستبد، مصيره أن يندثر فاسحا المجال لتطبيق ما ناشد المصلحون بتطبيقه.

 

رابعاً: رسم ملامح الواقع المنشود

أخيرا النقطة الرابعة تتعلق برسم ملامح الواقع المنشود، وهو ما يطمح له التجديد في نظر المثقف الذي ينادي به ألا وهو تبني مبدأ الشفافية وذلك بفضح جميع الممارسات الاستبدادية باعتباره السبب الأول للتخلف الثقافي، ذلك التخلّف الذي يشير له الغرباوي بقوله: "يتضافر أكثر من عامل في تكوين ظاهرة التخلف الحضاري، لكن  الاستبداد يبقى المسؤول الأول عن شقاء البشرية وعذابها على طول التاريخ"(10). ويضيف: "و لم يتلاش الاستبداد في العصر الحديث وإنما اتخذ أساليب مختلفة، لم تتغير حقيقته وإن توشح بشيء من الشرعية باسم الدين أو الوطنية أو الديمقراطية، لذلك كان أول عمل قام به المصلحون هو مناهضة الاستبداد وكشف ممارساته المزيفة والإصرار على تعرية حقيقته وفضح أهدافه"(11). من أجل إحلال التعددية محله وخلق مجتمع مدني يلعب فيه المواطن دورا محوريا في تسيير شؤونه العامة، وذلك بتكريس مبدأ الشورى والديمقراطية وضمان حق المعارضة وحرية الرأي واحترام سيادة القانون.

 

جميع هذه النقاط شرحها الأستاذ ماجد الغرباوي بإطناب في كتابه إشكاليات التجديد في الفصل الثالث  تحت عنوان" الموقف من الاستبداد".

في النهاية، أريد التأكيد أن مسؤولية المثقف الإسلامي ثقيلة جدا ولكن رغم ذلك فهو مجبور على تحملها، فقد آن الأوان لكي تعود الثقافة الإسلامية لتوهجها وازدهارها وإلقاء ثوب الخمود والجمود.

 

د. بثنية بوقرة - تونس

...........................

(1) الغرباوي، ماجد، إشكاليات التجديد، ط3، 2017، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار العارف، بيروت - لبنان، ص 10

 (2) المصدر نفسه، ص50

(3) المصدر نفسه، ص6.

(4) المصدر نفسه، على التوالي: ص52. وص53.

(5) المصدر نفسه، ص93.

(6) المصدر نفسه، ص24.

(7) المصدر نفسه، ص25.

(8) المصدر نفسه، ص7.

(9) ذكر الكاتب في كتابه إشكاليات التجديد شواهد عن محنة المثقف مع السلطات المستبدة، فذكر مثلا:

- المصدر نفسه، ص228: "قضى السيد جمال الدين نحبه بطريقة ما، تخفي وراءها خيانة السلطان عبد الحميد وأبي الهدى الصيادي".

- المصدر نفسه، ص228:" ولم يكن السيد الشهيد محمد باقر الصدر أفضل حالا من الأفغاني فقد تكالب عليه كلا الاستبداديين بضراوة لم يشهد التاريخ مثيلا... أخيرا وضع تحت الإقامة الجبرية وقطع عنه الغذاء والدواء والكهرباء والاتصالات الخارجية وانتهت الإقامة الجبرية باعتقاله وتعذيب استمر 48 ساعة متواصلة، فقضى حياته الشريفة مضرجا بدم الشهادة".

- المصدر نفسه، ص 229: "وعاش الإمام الخميني معاناة طويلة في ظل الاستبداد الشاهنشاهي".

- المصدر نفسه، ص230:" واجه الكواكبي الاستبداد السياسي المتمثل آنذاك بالوالي العثماني في مدينة حلب عارف باشا، فجر عليه ذلك أنواع العذاب، إذ سجن وصدرت أملاكه وفرضت عليه الغرامات الكبيرة وحكم عليه بالإعدام ثلاث مرات كانت الأولى طعنتين ليلا بخنجر خائن شهره عليه أحد جلاوزة السلطة والثانية عندما صدر ضده حكم الإعدام والثالثة وضع له السم في فنجان قهوة فمات مسموما".

- جدير بالذكر أن الأستاذ ماجد الغرباوي قد تعرّض هو الآخر بوصفه مثقفا وصاحب مشروع إصلاحي لملاحقة السلطات الاستبدادية التي دفعته للاغتراب لمدة 37  سنة عن وطنه ومسقط رأسه، بعد مسيرة حافلة بالنضال والسجن.

(10) المصدر نفسه، ص209.

(11) المصدر نفسه، ص 210.

توطئة: إن النزعات التأويلية في تجريد المفردات النصية المقدسة، عمقت أخاديد ذهنية، وراهنت على طوفانها، بمتواليات هندسية معقدة، توحي لنا بمعارف بديلة في حلية جليلة من عوالم منطق القداسة ومقاصده الأصيلة. ومن زخم تلكم المعطيات الفلسفية الميتافيزقية، وتشعب مستويات التأويل والفهم، غارت العقول الأسلامية في أدغال الأحاديث لتقويم ونجدة مدركاتها الذهنية، وتعاطت معها بذات القدسية النصية، وبالأخص إذا ما تحررت أنساقها بمضامين تصب في تيارات مرمى تأويلاتها الفلسفية، وما يخرج عنها تجتهد في تأويله تعسفياً.

من هنا أنطلقت ماكنة الأحتكار الفقهي بمدارسه المختلفة لتُفرِغَها في ساحات مريديها. وقد دأب على هذا المنهج التأويلي للنصوص المقدسة كُلٍ من فيلون وجيروم وأغسطينوس، وهؤلاء حسب إعتقادي هم الذين أحيوا منطق التأويل للنصوص المقدسة، كسفينة إنقاذ عقلية، تصلح لحمل كل أزواج النفوس المهتدية بمنهجها، وبهذا المنهج التعسفي إهتدت اليه بعض الفرق الغنوصية لحل المتناقضات الفلسفية، فرفضوا فكرة الأله العادل وأستبدلوه بالحكمة الألهية، فمن منهج الأسبيتين التعسفي نشأت فكرة الفيض أو الواسطة، أو أن الخالق لايخلق بذاته بل  (بالفيض الفعال) . وكل هذا وفق رأي أوليري* : هو محاولة فيلون لقراءة معنى إفلاطوني في العقيدة اليهودية*. وعليه سارت العقول الفقهائية على مر العصور من حيث تعلم أو لاتعلم .

 من نبع لقاح أزواج العقول ـ العقل في المقدس، وعقل النقل في الأخبار ـ في مركب التأويل التعسفي ـ وبعد أن  أفضى كل زوجٍ بعضه الى بعض ـ  تفجرت قدحات تأويل حروف القداسة في أنابيب الحديث النبوي ، لتلد في كل رحم عصرٍ وليدها بمعونة أخصائي فيض الخالق الأبدي.

 فبين رحى فتاوي وتأويلات الأرباب لكل عصر، طُحِنت الأختلافات وخبزت بدماء معايير العدل وصدق الوحي، حتى تهرأت جدر الأيمان ودب الشك في قلوب المؤمنين، فضاع رب الكل وانتحر كل نبي. فلا خبر جاء ولاوحي نزل . فعدنا الى الوراء الى حضارة الغاب، وحب الذات .

 في حوار بين أوغسطينوس وجيروم: يسأل أغوسطيونس جيروم: ما إذا كانت الحقيقة مخلوقة أم مولودة؟ فرد جيروم على إنها مخلوقة. فقال أوغسطينوس: فلماذا إذن يُعَمِّدها الرهبان؟

بعيدا عن المجردات، فالحقائق هي أفعال من صنع أفكارنا نُعمِّدُها بما يرضينا، فنحن البناؤون، ونحن من يصنع اﻷشياء ويبني في مخياله صور معانيها وقد يتعسف أحياناً كثيرة في تأويل ما يؤمن به ويخدع به نفسه، لتلد له بثوب المفاهيم التي يطمح الوصول اليها، فيظن أن الله صيرها خلقا لنعبدها ونفديها.

مضمون الحوار في كتاب الغرباوي:

56-salakbahia1هو عبارة عن تساؤلات بما تستدعيه إفرازات الواقع المتخلف الملتهب بسلوكيات إجرامية يراد لها أن تظهر انعكاسا للتراث الفقهي المبني على أحاديث وسنن نبوية، تتداخل معانيها بشكل أو بأخر مع صراحة الكثير من الآيات القرآنية، المراد لها أن تُفهم، كأيات سيف معتدية .

 يحاول الكاتب الغرباوي، أن يرسم الخط البياني لأسباب التخلف الحضاري والبناء الأنساني للمسلمين في جغرافيتهم العربية، للوصول الى مصل مفهومي يرقى الى سبل الشفاء من سرطانات نهشت بأوردة دماء العقول البشرية العربية الأسلامية بالأخص.

فمن بين أدخنة المفاهيم وثقافة الفقهاء المبنية في الأجتهاد على معايير القياس بشهادة القال والقيل كأساس. ولدت الخرافات وعنف الأحكام بما يكفي لتشويه رسالة السماء وخنق الأنفاس. زد عليها أتربة طائرات الأغاثة الجوية المشحونة بثقافة البحوث العلمية العربية والاسلامية الصبغة لأحياء وبث حرارة روح النهضة الفكرية والعلمية الأسلامية في عروق الدول الأوربية المتجمدة عقلياً.

 لذا أصبح  من الضرورة بمكان، فتح ابواب الحوار الجريء حول جذور ثقافة الحضارة العربية والأسلامية وحقيقتها بالنوع والكيف ومقدار صدق الأثر، لشد حزام الأمان ولضمان الهبوط على أرض صلبة بسلام قبل أن تطين السماء أرضنا ليبتلعنا مثلث زلازل الأمطار في أرض حضارة الأدغال.

 يصادق على آراء وردود المفكر الغرباوي في المجمل العام، صور إرث حاضر المسلم العربي والعراقي بالأخص بكلا جناحيه العلمي والتربوي الخلقي الأنساني ـ (لاندخل في حساباتنا المنطقية بلدان عربية إسلامية انقلبت حضارتها بقدرة قادر من الهوش الى الماكنتوش) ـ فالتخلف حاصل  في البناء التربوي الإنساني الذي نتج عن تعاظم  التهابات الزوائد الدودية من جراء إفرازات المأكولات التاريخية النتنة، لتحل كممارسات في سلوكيات وفقه بعض الفرق الإسلامية. بل وتتجاوز بعض الطوائف المتأسلمة بفقهها الى شرعنة تصعيد ضغط الدم لتتفجر أجساد طائفتها بصكوك فتاويها الفقهية على مخالفيها مذهبيًا ودينيا. لم يكن هذا الحاصل هو لغياب كتاب (اميل) لجان جاك روسو عراقي أو عربي إسلامي فقط، وإنما لغياب حرية النقد والتفكير وإعمال العقل وإستقلاله، خارج فلك مرجعيات فقه صحاح التربية والتعليم .

من لهيب هذه النيران الاجتماعية الإسلامية، يخرج علينا السائل سلام السماوي من جعبته أسئلة فكرية، وبماراثون الحوار وقدحات زناده الفكري، يحاول المفكر الغرباوي ان يحرق شيئا من شحوم الأحباط النفسي، والتخلف الحضاري، وما تمخض عنه من صراع مرير جوّال، يزداد عليه كل يوم حجم الأقبال. 

أهمية الكتاب بمضمونه العام:

 يعد الكتاب، محاولة هامة وجادة، لأقتلاع الخلايا المدمنة على فقه السياسة والتقليد الأعمى، من سلطةـ الوارثين عنوةً للحاضر والمستقبل ـ الى دين الأنسان المتعقل الحر، بما أمرت كتب الله المقدسة ورسله على مر الزمان.

 نلخص بعض ردود الغرباوي (وبتصرف مني بالسؤال والجواب) في إطار المعقول في هذا المقال. فمن اسئلة المحاور السماوي قال:

 هل اختلف المسلمون في تشخيص اسباب الهوة الحاصلة بين الحضارة الغربية والإسلامية، كما وما هي مردوداتها السلبية، وسبل العلاج للنهوض منها؟

يجيب الغرباوي: بالإيجاب عن وقوع  الأختلاف في التشخيص، ثم بشيء من التفصيل والتحليل، تناول مسألة الإنبهار بحضارة الغرب والشعور بالدونية وتبعية الذات. كما وشجب ثقافة الداعين الى اﻹندماج التاح حد الانسحاق وعده بالأمر الخطير: لما له من تداعيات سلوكية ونفسية، تؤدي بدورها الى حالات انفصام إجتماعية وثقافية.

 ثم يواصل الغرباوي التوضيح والتحليل بقوله:

إن المشكلة الثقافية أعمق من تبني قيم الأخر، وتداعياتها أخطر على السلوك والمشاعر، وهذا السلوك لايساعد على تجاوز عتبة التخلف، أو بناء حضارة تمثل قيمهم وهويتهم.

في هذا الكتاب  تجد الكثير من الأسئلة الرائعة والأجوبة الماتعة، والتي تعد إنفلاتا من عتمة القيود، الى مسارات الحرية الفكرية ولكن لايعني هذا أن كل الردود نتفق معها بالتفاصيل فلربما عندي أو عند غيري لاتصح أومنها ما نتوقف عندها لنقصان الأستشهاد بالدليل، لكن الأمر في التعريف عن الكتاب لا يستوجب النقد أو تصيد الأخطاء أكثر ما يدعو للتفكر والبحث والحوار مع الباحث الجميل. لذا اكفتي بما قدمته كي لا افسد متعة قراءة الكتاب بالأكثار من أمثلة ضروب الحوار. كما وأثني على مقدمة السماوي الأدبية الجميلة وثقافته الرصينة، وبالمثل على للبروفيسور الصائغ،  والدكتور صالح الرزوق.

الكتاب: إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحاضري

ماجد الغرباوي

حاوره: سلام البهية السماوي

 ***

علاء هاشم الحكيم

٢٠١٦ـ ١٢ ـ ١٦

....................

* الفكر العربي ومكانه في التاريخ. ص ٣٠ ، ٣١ .

يبدو اثر الفكر الروحي في أدب ماجد الغرباوي واضحا من خلال تأثره بالقران الكريم بخاصة ما يرسمه من لوحات فنية سواء في نصوصه المسماة " قصائد نثر" او نصوصه النثرية التي تزاوج بين القصة والسرد القريب من المقالة والخاطرة وهو مزج يدل على ان الأنواع الادبية يمكن ان تتلاقح حيث تزول الحدود بينها.

 والذي يطالع العنوان يجده ايضا مستوحى من القران الكريم فعنوان القصة جزء من اية وردت في سورة القمر " اقتربت الساعة وانشق القمر" فأجد ان الكاتب تصرف تصرفا ذكيا باختياره الجزء الثاني من الآية لان قصته او نصه الادبي اعتمد على زمنين هما زمن مباشر وهو زمن النص وزمن متتابع هو الزمن الموسيقي الكامن في النص والذي سندخل في تفصيلاته بعد قليل.

نقول ان القدامى انفسهم وقعوا في أشكال الزمن فنسبوا الى امريء القيس القول ادناه:

دنت الساعة. وانشق القمر  من غزال صد عني ونفر

من غير ان يعرفوا ان دَنا للمكان واقترب للزمان فنقول قطوفها دانية ومثل هذا الخطا لا يقع فيه شاعر جاهلي مثل امريء القيس الذي عاش قبل الاسلام بحوالي ١٥٠ عاما لذلك كله اختار السيد الغرباوي الجزء الثاني من الآية اذ ان قصته او نصه تتعامل في البدء مع لازمة مكانية فتتجه من الأعلى الى الأسفل بحركة تتوسل التطهير والتحول من الأدنى الى الأعلى.

 لتبيان الحال سأنقل آيات متتالية من سورة كريمة " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7" حتى أوضح انها تتجه من الأعلى الى الأسفل الشمس ثم النجوم ثم الجبال ثم السهول:النوق والوحوش ثم البحر لياتي دور الانسان ان السورة الكريمة بدأت بأعلى نقطة واتجهت الى الانسان لتذكره ان المكان اصبح الزمن نفسه النفوس زوجت فالحركة من الأعلى الى الأسفل تبدأ من السماء حيث الشمس مصدر النور ومنبعه لتهبط الى أدنى نقطة وهي البحر اذ الماء عماد الحياة هي عودة للسمو من هذا الفهم اعتمد كاتب النص سورة لياخذ بعضا منها فيجعله عنوانا لنصه متحاشيا لوقوع في اللبس لا سيما انا لانميز في عصرنا الحالي بين ما يتجه للمكان وما يتجه للزمان لكنه مع ذلك ينحاز المؤلف للتمييز حين يورد معنى قرآنيا اخر وذلك حين يقول في اخر القصة " ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى" مما يجعلنا على يقين من ان الكاتب حصر نصه بين معنيين قرآنيين هما " اقتربت الساعة وانشق القمر" فاكتفى بالجزء الذي هو " وانشق القمر" لدلالته على الكل و " دَنا فكان قاب قوسين او أدنى" ليلتحم الزمان والمكان عبر ثلاثة ازمنة هي زمن النص وهو الذي نجده في قراءتنا لنصه الإبداعي اي الزمن المباشر وكم يستغرق من الوقت ثم الزمن الإدراكي وهو الذي يدفعنا للتساؤل من هي ميامي وكيف انشق البطل عن نصف انسان وتأمل نفسه لنبقى نحن معه ننظر ونتأمل في زوايا النص المتعددة وبؤره وامتداداتها مع ذلك فنحن ازاء زمن متتال او زمن ملحمي يشكل لنا وفق التتابع والتماهي الموسيقي لوحة تتفرق في اكثر من مشهد وتلتم في مشهد واحد انها لوحة تبدأ بالنور ويختمها الظلام " لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته" الفكرة حقا تلتزم معنيين روحيين احدهما هبط من السماء الى الارض لينشر الحياة بعد الموت والآخر ارتفع بالانسان من الارض الى السماء فكان قاب قوسين او أدنى وبين هاتين الحركتين أصبحنا نحن المتلقين نعيش أزمان التتابع والمباشرة والإدراك ليحقق الكاتب بينها جميعها فيما بعد حركة نصه في المشهد الاخير ، " استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!"

فالكاتب اخيرا جعل نفسه مدار الإدراك في حركة يخيل إلينا انها أفقية لكنها تحمل معنى الارتفاع والعلو فأي طير هذا الذي يتشح بالسواد ويخطف من جثة كلمة يطير بها ؟

ان هناك شرطا مهما هو ان نفهم الازمنة الثلاثة : المباشر، والمتابع، والإدراك ومن خلال التلاقح والتفاعل الزمني ايضا نعود الى سورتي " القمر" و " التكوير" الكريمتين فنجد ان المؤلف وضع حدين لنصه في البداية والنهاية هما الظلمة والنور جعل النور في البدء والظلام في نهاية النص مستوعبا حركة اخرى من الفكر الروحي باطار اخر، عندنا نحن المسلمين وعند اليهود ايضا وكذلك الأسطورة ان الظلام هو الأسبق وقد عبرت التوراة عن ذلك في الآية الاولى من سفر التكوين" في البدء كان هناك ظلام" ويعلل ذلك فلاسفة المسلمين ومؤرخيهم بان الظلام هو الاعم والأشمل اذن في البدء حسب النص الذي بين يدينا ينشق القمر وتسير الاحداث من اعلى الى أسفل وعندنا بعد ذلك بطل النص وميامي معه لكنه ينشطر فيصبح نصفا حيّا ونصفا ميتا هو ميامي ليحل ظلام بعدئذ ينشطر منه غراب(لم يحدد المؤلف نوع الطير لكنه وصفه بكونه اسود ينبثق من الظلام لذلك أميل الى انه غراب) يخطف كلمة ما.

لا شك ان الغراب في المفهوم الديني الاسلامي لايعني التشاؤم كما هو الحال في موروثنا بل يدل على الحكمة لانه هو الذي علم ابن آدم كيف يدفن اخاه وهو المفهوم ذاته عند سكان شمال اوروبا حيث ان الغراب رمز للمعرفة والأخبار.

ان النص بلا شك ذو مخزون جمالي ومعرفي وقد صيغ بأسلوب فني جميل شرط ان نفهمه زمانيا بأزماته الثلاثة المباشر والمتابع وزمن النص لندرك حركته العمودية التي انبثقت عبر الزمن من روح كاتبه.

وانشق القمر / ماجد الغرباوي

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها .. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر .. وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟ هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، هي المسافة بين الحياة والموت .. اللغز الذي حير الإنسان منذ الأزل.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد .. أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، او امرأة صالحة..

لماذا يشكك الانسان بالموت، أليس هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا .. لماذا لا يردعه الموت؟

الإنسان؟ يا له من مخلوق عجيب .. كم هو بائس .. مغرور ..؟!!!

هل يخشى الإنسان ما بعد الموت؟ ربما .. لكنه عنيد، مكابر، لا ينصاع، الا حينما تسحقه الطبيعة بجبروتها.

يا للهول، أليس من حقنا ان نهرب منه؟ ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي، ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها، لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!

.........................

للاطلاع

http://almothaqaf.com/index.php/nesos2010/63486.html

salam alsamawiكانت مناسبة فكرية - عقائدية متميزة، حيث كان لقاء حافلا مع الاستاذ ماجد الغرباوي مؤسس ورئيس صحيفة المصحف الالكترونية، مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في مدينة سيدني، ورئيس تحرير مجلة التوحيد الفكرية في ثمانينات القرن الماضي، الذي احتضنته مدينة ملبورن الاسترالية قادما من سدني، ليلة الأحد 29- 10-2016 .

1109-mustafa3

ألقي الاستاذ ماجد الغرباوي على قاعة مؤسسة الحوار الانساني محاضرة  ثم أجرى حوارا فكريا – عقائديا مع الحاضرين، حول: التطرف الديني والغلو .. جذوره واثاره.

استهل اللقاء الاخ مصطفى الكاظمي رئيس مؤسسة الحوار الانساني بكلمة رحب فيها بالاستاذ الغرباوي وبالاخوة الحضور الذين مثلوا طيفا واسعا من الشخصيات الثقافية والادبية والاعلامية والمهنية في ملبورن 

 وقد استعرض خلال كلمته بعضا من مسيرة الباحث والمفكر الغرباوي وما تخللتها من ذكريات معه ابان الثمانينيات.  كما تطرق لعدد من كتاباته وابحاثه ومؤلفاته وبين نقاطا مهمة عن كل واحد منها، تزامنا مع عرض على شاشة ضوئية كبيرة.  

  ثم أحال الكلمة مباشرة إلى ضيف اللقاء الباحث الغرباوي الذي شكر الجميع على الحفاوة والتكريم اللذين لقيهما، وعبر عن سعادته بهذا اللقاء. ثم تناول خلال محاضرته  مجموعة من النقاط التي ادت الى التطرف والغلو في المذهب الشيعي والمذهب السني.  واخذ المتحدث يزداد اشراقا كلما توسع في محاضرته وتقدمه في بيان مراحل واسباب الغلو والتطرف بدءا من العصور الاسلامية الاولى حتى وقتنا الحاضروما هي اهم المخاضات التي مرت بها والاسباب التي جعلتها تاخذ بالتوسع والنمو المستمر وتجد لها مكانا رائجا بين المجتمعات، حيث ذكر ثمانية نقاط  اعتبرها الأهم في سرعة انتشار الغلو والتطرف في المجتمعات الاسلامية واسهب في بيانها وشرح كل واحدة منها مستشهدا ببعض الادلة التاريخية 

1109-mustafa1

 

وقد استمر المتحدث بعد محاضرته في الرد على اسئلة الحاضرين لاكثر من ثلاث ساعات تقريبا لكنها لم تكن كافية لاستيعاب ما تبقى منها. ورغم ضيق الوقت أجاب على أسئلتهم مفصلا بكل رحابة صدر، لذ راحو يطالبونه بالمزيد رغم انتهى الوقت المقرر .

 وبعد انتهاء اللقاء وخلال تناول وجبة عشاء خفيفة استمر بالاجابة على اسئلة الحاضرين، نزولا عند اصرارهم على استمرارية الحوار. فالتفوا حوله على شكل حلقة دائرية واستمعوا  لحديثه باعجاب، وكانوا يصغون لما يقول خاصة قدرته على اختيار الالفاظ المناسبة وحسن الاداء وسعة الذهن.  فكان موفقا بايصال ما اراد ان يوصله من فكر بكل يسر، فاستحق اللقاء ان يكون مميزا وهذا ما اكدته طلبات الحضور بتكراراللقاءات مرات اخرى ...

 ***

سلام البهية السماوي - ملبورن

 

استضافت مؤسسة الحوار الانساني في مدينة ملبورن - استراليا السبت الماضي، المفكر العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في ولاية نيوساوث ويل/ مدينة سيدني، ورئيس تحرير مجلة التوحيد الفكرية في ثمانينات القرن الماضي، في ندوة فكرية – ثقافية تهتم بالشأن العقدي حيث تناول فيها بجرأته المعهودة ابرز القضايا الهدامة الطارئة على الامة التي باتت تؤسس لمنهج عقدي ما أنزل الله به من سلطان.

 شرعت الندوة عند الساعة التاسعة ليل السبت 29-10-2016 في قاعة مؤسسة الحوار الانساني/ استراليا- ملبورن وبحضور جمع من المثقفين المهتمين بشؤون الفكر والعقيدة. تضمن برنامج الندوة:

1.كلمة ترحيبية بالاستاذ الضيف الغرباوي قدمها كامل مصطفى الكاظمي رئيس مؤسسة الحوار الانساني في استراليا، وعناوين غبر شاشة العرض الالكترونية لبعض محطات افكار الباحث ماجد الغرباوي مع سطور من حياته الفكرية ومؤلفاته وإبداعاته الثقافية.

2.محاضرة مركزة للمفكر العراقي الغرباوي حصر فيها الحديث عن الغلو واسبابه ودوافعه وآثاره الوخيمة التي شوهت صورة الدين الحقيقية.

3.فترة المداخلات ومناقشة آراء الاستاذ المحاضر من قبل الحضور الذين ثمنوا له جهوده الكبيرة له مساعيه في ترسيخ ثقافة الحوار والتعايش السلمي.

 وفي الختام عبر الاستاذ الضيف عن سروره البالغ بلقائه بالحضور المدرك لأهمية طرح المواضيع الهامة في مثل هذه الفترة العصيبة التي يمر بها الانسان وخاصة شعوب الشرق المثقل بثقافة هجينة وغريبة لا أساس لها في اصل الدين الحنيف، غزت ساحاته وروجت افكار هدامة تمددت في عقول السذج والبسطاء من الناس.

  محطات من حياة الاستاذ ماجد الغرباوي

* باحث عراقي يعيش في مدينة سيدني بأستراليا.

* مؤسس ورئيس تحرير صحيفة المثقف الإلكترونية.

* مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني/ استراليا.

* له العديد من المساهمات الفاعلة في الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية.

* مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لعدة سنوات.

* حاز على عدد من الجوائز التقديرية على أعماله العلمية.

* رئيس تحرير ومؤسسة سلسلة رواد الاصلاح.

* رئيس تحرير مجلة التوحيد (فكرية - ثقافية) الاعداد: 85-107

* عضو هيئة تحرير كتاب التوحيد.

صدر له العديد من المؤلفات (20) أبرزها:

•جدلية السياسة والوعي/ قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق.

•الحركات الاسلامية/ قراءة نقدية في تجليات الوعي.

•المرأة والقرآن/ حوار في اشكاليات التشريع (حاورته د. ماجدة غضبان)

•الشيخ محمد حسين النائيني، منظّر الحركة الدستورية. 

•الضد النوعي للاستبداد/ استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني.

•تحديات العنف.

•التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات.

•إشكاليات التجديد 

 

حديث ساخن مفتوح بلا قيود ولاخطوط حمراء ولا محاذير. حديث العقول المنفتحة وحديث الافكار الحرة.. لا ابالغ اذا قلت ان ان هذا اللقاء كان من اثمن واغزر اللقاءات الفكرية طيلة تواجدي في استراليا. شعرت وانا استمع لحديث الاستاذ الكبير المتواضع ماجد الغرباوي بطاقة ايجابية كبيرة تتسلل الى مفارق جسدي وتمدني بعزم هائل يدفعني نحو التحليق في فضاءات الفكر اللامتناهية.

طاقة عظيمة قد تحللت وانا استمع الى حديثه الذي ابتدأه بثقة عالية تدل على عمق اطلاعه وصلابة يقينه واتضاح رؤيته فيما يخص مشاكل الاسلام عامة والتشيع خاصة، وعلى رأسها التطرف.

ثقة الغرباوي وقوة طرحه وجرأته الواضحة مع هدوئه المتزن كسر ماتبقى عندي من القيود الثقافية والاجتماعية التي كبلتنا بها عادات الاباء والاجداد الذين وجدناهم على امة وسرنا على اثارهم غير مهتدين.

استدلات الغرباوي ومقارناته الواقعية واكتشافاته الحقيقية كانت بمثابة مفاتيح للمغالق الذهنية التي نمت وترعرعت بجهود الخط الغلوائي المتشدد الذي سلب حرية الفكر وحرية العقل وحرية النقد لكي يحيل عقولنا الى جمادات.

كلام الغرباوي كان مشاعلا تضيئ الطريق امام الساعين الى انقاذ العقل وتحريره من عبودية الخرافة وسلطة الطقوس و منهج التطرف والتشدد والتزمت وسحر الغلو ورفض الاخر واحتكار الحقيقة.

وبينما كان لقاء الاستاذ الغرباوي وحديثه جاذبا وممتعا، الا انه ذكرنا مرة اخرى بمسؤولية المثقف في تحمل اعباء المشروع الاصلاحي والقيام بادوارنا الفردية وعدم التراخي في تأديتها.

وبخلاف ذلك فان مشروع الخرافة والجهل والتطرف والتقديس سينتشر لانه يحصل على من يموله في اغلب الظروف.

لانفع في الفكرة الجيدة والحقيقة البينة مالم تصحبها شجاعة البوح وجرأة الطرح؛ فقد يضل الذهب حبيسا في مناجمه ويبقى الماس دفينا في مواطنه مالم تمتد اليه يد المجازفين لتقدمه كنزا يسحر عيون الناظرين اليه.

وانا اكتب هذه الكلمات، لا اشك ابدا اني واقع تحت سحر ما كشفته يد الغرباوي من اسرار كبيرة ازال عنها بجرأته غبار القرون ومسح عنها بهمته ادران الجهل والغلو.

بوركت وبورك جهدك وجهادك ايها المجاهد.

 

أحمد راضي – كاتب وأديب

 ملبورن - استراليا

...................................

وجهة نظر الكاتب بالندوة التي عقدت في مركز الحوار الانساني في مدينة ملبورن -أستراليا يوم 29 - 10 - 2016، حيث تحدث فيها الكاتب والباحث الأستاذ ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، بجرأة عالية عن أسباب العنف وخلفياته الفكرية والثقافية والعقيدية

 

 

حين طالعت قصيدة الأديب ماجد الغرباوي اكثر من مرة راودتني فكرتان دفعتنا بي الى تامل نفسي وتأمل القصيدة فتساءلت:

هل يحق للناقد ان يراهن على كلمة في النص؟

أقول نعم اذا كانت الكلمة تستحق الرهان، وقد راهنت منذ البدء على كلمة النار :

النار مصدر النور، في الفلسفة الطبيعية اليونانية  فليس الماء - وفق رأي اصحاب ذلك المذهب - ولا التراب ولا الهواء أصل النار بل هي نار خفية لطيفة لا تدرك بالحواس لكن يعتريها وهن فتصير محسوسة  ويبدو ان الوهن الذي يعتري النار يمكن ان يكون الوشاية:

ويستعيد مزمارًا

سرقته نار الوشاية

ويبدو ان النار المقصودة قد مرت بمرحلة وهن سابقة فاعترتها الوشاية التي أميل الى تعني في هذه اللقطة الشك  لتصير محسوسة. لقد بدأت من اخر النص وها انا اعود الى بداية المقطع اي انني قرأت النص بالمقلوب لاروض النار يقول الشاعر:

في مراياهم المقعرة

ذوت مصابيح الحانة

هي المرحلة الاولى من علامات الوهن والضعف اذن هي الحانة والمصابيح وهناك الحرف - شكل الكلمة البصري الذي يحولها من صوت الى بصر- الذي يتخذ شكلا مقعرا اي يمتد الى الداخل فيعني الماضي اذ يمكن ان نجعل القعر ماضيا والمحدد مستقبلا اما الذي كان مقعرا فقد تجسد صوتا داخل تلك المرايا لنبصر  النبي داوود يرتقي   الى الفجر بالمزمار نفسه:

استيقظي ايتها الرباب والعود

انا استيقظ قبيل الفجر

أحمدك بين الشعوب يارب ( المزمور ١٨٠)

ان نار الشاعر الغرباوي هي نور اعتراه ضعف التامل فأصبح يشيع البهجة والسكينة ولا يحرق ، ضعف هو مكمن القوة الإيجابية التي تحول القلق الى سكينة . كم هو قوي النبي داوود الذي لان له الحديد (والنا له الحديد) "سبا/١٠" لكنه  امام النور النار والمزمار يبدو ضعيفا مسالما رقيقا .ان نص الغرباوي يدفعنا للمراهنة مع اكثر من نص قديم وحديث في مقارنات وموازنات ياتي شاخصا في جوهرها موضوع المعاناة من خلال  السلام ونعومة العالم التي تكاد تضيع في خشونة صاخبة تستهلكنا كل يوم ، ولَك ان تتخيل ذلك مادمت في مرحلة المغامرة حيث جاءت مباشرة تتلو الرهان:

مــا جدوى ضفائر الليلِ!!

خيوط شمسٍ

ألليل حيث القتام والظلمة تكون الشمس ضفائره التناقض من خلال النعومة المتولدة عن الفجر يحل اشكالية وجوده بنفسه، الم يكن الوضع قبل ذلك وفق الشكل الذي نبه اليه حامل الآلام النبي أيوب:

يكشف الغمائم من الظلام ويخرج ظل الموت الى النور (سفر أيوب ١٢/٢٣)

ثم بعد المراهنة سالت نفسي هل يمكن ان أغامر على كلمة اخرى تعادل بمدلولها النارفاكدت لي التجربة امكان ذلك لأنني بدأت من النهاية الوقفة النقطية جعلتني استعرض النص لتقع رؤياي على اخره فانطلق منه قد تكون الخاتمة هي البداية في كثير من الأحيان حين ندخل في الرهان نرى ان المغامرة في النص تتطلب الا ننطلق من النهاية بل من اية نقطة كانت ماعدا الختام فتصدت لنا كلمة الضوء:

آلهةُ المعابدِ الرُخامية

تركوا البابَ موارباً

فتسمّرَ الضوءُ!!!!

يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..

ونبوءة المرمى الأخير

تُمزّقُ  اكفانَهُ البالية

ماذا يجد قاريء النص هنا بعد ان راهن فدخل النص من الختام يجد المعاني التالية:

الزمنكان في آلهة المعابد تلك التماثيل الجامدة هي التي تركت الباب مفتوحا ولعله باب الماضي الذي يدخله كل بطريقته الخاصة: الشاعر العربي القديم وجده في الاطلال التي هي من اثار الزمن وفعله السلبي فينا فوقف واستوقف وبكى وحن، والشاعر المعاصر مثل نزار قباني الباحث عن جذوره وجد آلهة المعبد التي تركت الباب مفتوحا وجدهم في  غرناطة :

ما اغرب التاريخ حين أعادني

لحفيده سمراء من أحفادي

اما نحن المغتربين فقد وجدناه في حضارة لخصت الزمان بتماثيل في الشوارع وحدائق في المقابر، والتراث الاوروبي الجميل الذي ينطق بالحاضر ثم اعود اسأل نفسي أليس الاولى ان نعود الى أسطورة خلق العالم الإسكندنافية التي جسدت عملية الخلق بتحرك الجنوب الدافيء  المنير نحو  الشمال البارد المظلم فكانت الحياة من انصهارهما  فيستمر الصراع ويتحطمً العالم فينبثق من جديد وفق خاتمته  وهكذا نظل مادام هناك ظلام نور!

ان الضوء نفسه يتسمر مع كل مشهد نقف  عنده لنتأمل ، فهو واقعنا الظاهر وعالمنا الخفي او الباطن الذي يبصر ما لا تبصره عيوننا.

إذن نحن بين أمرين مراهنة ومغامرة استخرجنا من خلالها النور من الظلام والماضي الى الحاضر والحياة من السكون لذلك كان لابد لي ان أبدا من نهاية قصيدة النثر تلك التي بدأت بسطر موزون:

شاهقا كان المدى

فاعلات فأعلن

ليتوزع بعد ذلك إيقاع البداية الى موسيقى داخلية هادئة تشبه تحول النار الى فجر وخروج النور من الظلمة وهدوء مزمار داوود ذلك النبي الذي يخرج من الظلمة ليلاحق الفجر وهو يتحول من نار الى مظاهر  متباينة تهب الحياة وتبحث عن سر تألقها.

حقا ان النهايات في بعض الأحيان تدلنا على البدايات مثلما راينا في قصيدة " تسمر الضوء" شرط ان نراهن ونغامر من دون ان نضل طريقنا.

 

د. قُصي الشيخ عسكر

..................................

 

تسمّرَ الضوءُ / ماجد الغرباوي

شاهقا كان المدى

يتوسّدُ ناصية َالسماءِ

غارقا في هَذيانهِ

يَتَصَفحُ  جُرحاً

تقرَّحتْ زَفَراتُهُ العاتية

****

أي ذهولٍ ينتابُ شجرةَ الغِوايةِ ..؟

.

.

سرابا ارتدى

حُلْمُ المتاهاتِ القصيةِ

راح يتلو سورةَ الماءِ

وشيئاً من آياتِ الحطامِ

يستعيدُ بقايا موبقاتٍ

وثرثرات

****

مــا جدوى ضفائر الليلِ!!

خيوط شمسٍ

تَلعَقُ تَمتَماتٍ وَلهى

وأُخرى .. تستعرُ ناراً حاميةً

****

يــــالدهشة السؤال!!

.

.

آلهةُ المعابدِ الرُخامية

تركوا البابَ موارباً

فتسمّرَ الضوءُ!!!!

يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..

ونبوءة المرمى الأخير

تُمزّقُ أكفانَهُ البالية

****

في مراياهم المُقَعَّرَةِ

ذَوَتْ مصابيحُ الحانةِ

فتلعثمَ الحرفُ

يشكو انبهار خيبته

وراحَ صفيرُ العاديات

يستبيحُ مأوى القداسةِ

ويستعيدُ مزماراً

سَرَقَتهُ نارُ الوشاية

 

...................

للاطلاع على نص: تسمّر الضوء لماجد الغرباوي

http://almothaqaf.com/index.php/nesos2014/83033.html

في كتابه الأخير  (الحركات الإسلامية .. قراءة نقدية في تجليات الوعي) الصادر عن دار العارف ومؤسسة المثقف العربي يتابع ماجد الغرباوي مشروعه الخاص بتعريف العقل الاجتماعي العربي. وإذا كانت خلفيات قراءته ذات أساس ديني فهذا لا يضعها في مجال التربية الدينية. بالعكس هو ينظر للدين على أنه جزء من الحياة. ولذلك يهتم به كحالة في الوجود. أو كمبدأ في الحضارة لتفسير غوامض آليات نشوء وتطور الأفكار.

يبدأ الغرباوي من الأزمة الحالية ليعيد صياغة التصورات السياسية لدول المنطقة. وهو يعتقد أننا لحل هذه الأزمة لا نحتاج لاستعمال القوة. وإنما للبدء ببرنامج إصلاحات على غرار أول حركة إصلاح بشرت بنهاية الإقطاع العثماني ودولته المستبدة. ويضرب أمثلة (في كتبه الاخرى) من السيرة الفكرية للأفغاني والكواكبي. ويضع بينهما جهود الشيخ النائيني. باعتبار أنه حلقة وسط بين الراديكالية في السياسة والإصلاح في التفكير. ولذك لم يكن من المستغرب أن يعيد قراءة بعض آيات من القرآن الكريم. وعلى ضوء نتائج الدراسات الدلالية لتفسير المعنى من خلال سياق العقل البشري كما فعل الكواكبي في (طبائع الاستبداد) حينما أضفى على القرآن مشروعية علمانية.

لقد ألح الغرباوي في مجمل فصول الكتاب على ضرورة نقد المنهج. ورأى أنه إجراء  ضروري لانتشال الوعي وتصحيح المسار (ص١١). وبالنقد وحده (كما أضاف لاحقا) يمكن التعرف على مبررات السلوك اللاأخلاقي والانتهازي الذي انحدر إليه المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم (ص ١١). وانتشار العنف تحت ذريعة الجهاد مع أن استعمال السيف لا يكون فعليا إلا بوجود كافر. وأحيانا لا يكفي الكفر في فعلية الجهاد ولا بد من خصوص الحرابة. فالجهاد لم يشرع ابتداء ولكنه شرع لدرء الحرابة، والنبي لم يدخل معركة إلا بعد أن استنفد كل الطرق والحيل السلمية.  و يتوقف عند مشروع سيد قطب و يرى أنه تكفيري. أو على الأقل يمهد للتكفيريين الطريق. ويسهل عليهم خلع صفة الإيمان، الواسعة والمرنة، عن المسلمين. أو يتواطأ مع الحنابلة في تشريع الموت والقتل كحل لكل الخلافات. فسيد قطب (في معالم على الطريق) مثل ابن حنبل لا يفتي بصدد واقعة مخصوصة ليتحدث عن الضرورات والإكراه. ولكنه يؤصل حكما ويشرع تشريعا له صفة الدوام. وهذا النزوع التدميري ينبني على أساس مفهوم الحاكمية المستورد من فكر الخوارج والذي أعاد المودودي توطينه في العقل الحديث.

هذه الإشكالات تستدعي منا الانتباه لما يسميه الغرباوي: الوعي الحركي (ص ١٥) الذي منبعه ظاهرة الخوف من الآخر وعدم الوثوق به (ص١٦). فقد نجمت عنه أوهام وضعت الحركات الإسلامية في إسار الماضي، وصنعت فراغا بين واقعها النفسي والحاضر (ص١٥).

لقد بدأ الاسلام من معاناة قهرية ضمن مجتمع تجاري ضعيف عسكريا ومعقد بأعرافه الاجتماعية. وكان همه الأول تحرير الروح من الاستعباد والاسترقاق الذي كفلته بنية المجتمع. وما تقليد الهجرة إلا لمعالجة هذا الفراغ. وهو البحث عن مسكن آمن للأرواح المستضعفة. ولذلك إن ما يجري اليوم يطاله إشكال شرعي ومؤاخذة أخلاقية (ص ٢١).

وكما قال الباحث: إن بعض الحركات الإسلامية تكون بأموال ومباركة من دول غير إسلامية، فطالبان تأسست بالدعم الأمريكي، وبعض هذه الحركات دخلت في تحالف أدى إلى الابتعاد عن الاستراتيجية الأساسية (ص ٦٦). فالحركات الإسلامية الراهنة هي بنت الوعي الأسطوري الملتبس (ص ٣٥) والذي يحمل كل علامات الثقافة المهيضة الجناح.

ويرى أن الأسباب وراء ذلك كثيرة وأهمها: ١- الخط الأحمر المفروض على تكتيك الخطاب الديني واحتضاره تحت ضغط التفكير الشعبي الناقص والحامل لآيات التخلف والجمود والخرافة، ٢- الاستبداد الذي وضع العقل في أدنى مستوياته وسمح للاشعور بالنمو بنسب فاحشة غطت على كل أشكال التفكير والاجتهاد،٣- عزلة النخب الثقافية وسقوطها في مشكلة التعالي، ٤- احتكار رجل الدين لحق التربية والتوجيه وحصوله على حصانة تحميه من النقد والمراجعة والتخطي، حتى تحول إلى نص مقدس أو امتداد للمحرمات والممنوعات (ص ٣٤-٣٧).

ولذلك كان التشريع للنقد أولوية في تجديد الفكر الديني (ص٤٧). وكلنا سمع بمحنة الشيخ علي عبد الرازق المتهم بالتطاول على مشروعية حروب الردة. وأعتقد أن الانحياز لمشروعية التواتر والمحاكاة يؤسس لمجتمع إقليمي من المرايا المتعاكسة. كل مرآة تعكس نفسها. حتى يحل الخيال أو الصورة محل الحقيقة بسبب غيابها واستحالة الاتصال معها.

وهذا بصورة ضمنية يعيدنا إلى نمط من التفكير والتعليل الذي يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة (بلغة صادق جلال العظم)(7).

إن الحركات الإسلامية برأي الغرباوي صناعة بشر وهي ليست جزءا من المطلق الإلهي والرباني ولا نتاج عوامل غيبية مفارقة (ص ٦٠)، وقد طرأت على الإسلام والجماعات التي نذرت نفسها له غايات وأهداف بعيدة عن الحجج الروحية. كما أنه هناك حركات استنفدت أهدافها ( كما يقول ص 61). فأدوات تنفيذ الاستراتيجيات في وقت السلم غيرها في وقت الحرب. ويضرب مثالا على ذلك بلجوء قواعد حزب الدعوة إلى البعث السوري للهرب من بطش صدام (ص ٧٣). لقد كانت الأحزاب الدينية عرضة للانشطار والتشرذم. فالجهاد وجماعة التكفير والهجرة في مصر هما تطور جانبي من حزب الإخوان المسلمين (ص ٧١) والذي شهد بدوره تنظيمات داخلية متحاربة. وهذا دليل قوي على نسبية المعرفة الدينية (ص ٨٥). فهي ليست معرفة ميتة. ولكنها قابلة للنمو كما هي قابلة للانتكاس والرجوع. ولديها قدرات هائلة على حجب النص (ص ٨٩). ويمكن القول إن القرأن الكريم ذاته هو حجاب لنصوص قبله، عمل على تفكيكها وتوجيه سهام النقد اللاذع لمكامن الضعف والأخطاء فيها (ص١٠٠). وهذا أول درس يبرر ضرورة التأويل وإعادة النظر بالمسلمات المتجمدة. فالنقد بمستوى أمر وجوب في الإسلام وهو ليس مستحبا فقط (ص ١٠٢).

ولا يمكن أن ننكر التحيز ( ص 84). فأية قراءة لا تأتي من فراغ. ولكنها تحمل في ذاتها مبررات تعريفها.

لماذا هي موجودة أصلا. ولماذا يجب أن تقارب هذه المسألة وتتصدى لمهمة حمايتها من الذوبان أو الاندثار.

إن مشكلة الحركات الإسلامية أنه تقف خلفها دوافع دينية- سياسية (ص ١٢٧). وإذا كانت السياسة هي المسؤولة عن الخلافات البينية والمواقف من الأنا والآخر والتكفير. فالدين مسؤول عن حقيقة المبايعة. والتحفيز على التضحية والمغالاة بها إلى درجة الانتحار (ص ١٢٧).

ومن هنا نشأت ظاهرة الإرهاب الدولية بأبعادها المتعددة وما أحاط بها من هالة وصلت إلى درجة تحريض المخيال الشعبي على الإضافة والمبالغة حتى نشأ منها دين جديد (بتعبير صالح الطائي)(8) أصبح بمثابة دين سماوي رابع. ظاهره الإسلام وباطنه التكفير والقتل. وغلافه شعار (الثورة المستمرة، ص ١٢٩).

إن الإسلام السياسي بالنتيجة مشروع مختلف عليه، له الحق في تطبيق أدواته، ولكن ليس لديه الحق بالمصادرة على حرية الآخر المختلف عنه. وإن خضوعه لمنطق السياسة والارتباط في نفس الوقت برجل الدين حوله إلى حركات وشراذم متمردة تؤمن بالعنف والاستبداد وتقاطع الإرادات (ص١٤٤). وهذا يفرض عليه إجراء تحولات فكرية ليتجاوز اخفاقاته وكي لا يسقط في نفس الحفرة التي أودت بالفكر القومي وأوردته موارد التهلكة.

 

مواصفات الكتاب

قع الكتاب في 160 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف أنيق، تناول فيه المؤلف التجلّيات المختلفة لوعي الحركات الاسلامية، المؤسس وفق بُنى فكرية وعقيدية لم تنتج لنا سوى العنف والتخلف الحضاري، في أسوأ مشهد عرفه التاريخ، في السلطة وخارجها. لذا كتب المؤلف على الوجه الخلفي لغلاف الكتاب:

هذه الأوراق ليست أوراقا خائفة أو مرتبكة، وإنما تروم إنزال التصورات والمفاهيم المقدسة منزلة الواقع، لفضح بشريتها، وتاريخيتها، بعد تجريدها من أبعادها الميتافيزيقية، وتقصّي حقيقتها. كما أنها تحرّش بالموروث، وتخطٍ للمحظور، وتوغّل في الممنوع، وتعرية للأنا، ونقد للذات، والإطاحة بالمسلمات، والتشكيك بالحقائق، وملاحقة تزييف الوعي، والحد من التآمر على العقل. إنها محاولة لتعطيل منطق الاستعباد والتبعية، وتنشيط العقل بدلا من الذاكرة، والاهتمام بالمستقبل وتحدياته بدلا من الماضي وتراثه. والتأكيد على منهج البحث والتقصي بدلا من التسليم والإنصياع. إنها مجازفة لزعزعة الثوابت، وتسفيه عقيدة التقليد، وملاحقة الاستبداد السياسي والديني، وتحرير الحركات الإسلامية من أبويتها، وارتكازها المرير إلى النظام البطركي المقيت، وتحجيم مركزيتها، واستعادة شخصية الفرد، واستنقاذ الدين، وملاحقة التزوير باسم الدين والإسلام والشريعة. والحد من سلطة رجل الدين، ومركزية قائد الحركة، ومنظّرها الفكري والسياسي. وتعطيل خطاب التضليل والتزوير والتستر على الأخطاء والتجاوزات.

 

د. صالح الرزوق

..........................

* الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجليات الوعي. ٢٠١٥. ١٥٨ ص

 

يقول روبرت لويس ستيفنسون: ليس هناك إلا ثلاثة طرق لكتابة القصة، فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جوا معينا ويجعل الفعل والأشخاص تعبّر عنه أو تجسده. تحتوي على العديد من الشخصيات لكل منها اختلاجاتها وتداخلاتها وانفعالاتها الخاصة، وتعتبر االكتابة بهذا المعنى من أجمل أنواع الأدب النثري. تمثل النوع الأحدث بين أنواع القصة، والأكثر تطوراً وتغييراً في الشكل والمضمون بحكم حداثته ووما لهُ صِلة بالرواية أو ما شبيه بها كفن السيرة ومن الملاحظ ان اغلب ادوات الكتابة الابداعية القصصية النثرية متواجدة في النص اعلاه (هاتف الفجر) للاستاذ ماجد الغرباوي من حيث

السرد: وهو القالب الكتابي الأكبر وقد تميز النص اعلاه بسهولة ودفق السردية السلس.

الحوار: يكشف عن نفسية الشخصيات واحياء مناخ دلالي عميق وقد اجاد الاستاذ الغرباوي في كشف الدوافع في الشخصية والاشارة الى الشخصيات وطباعهم.

ج- المناجاة: تتواجد بكثرة في السيرة الذاتية، وغيرها من المواضع التي تخاطب فيها الشخصية الرئيسية نفسها هنا ايضا كانت واضحة الملامح.

التعليق: الغاية منه ايضاح وجهة نظر الكاتب في شأن أو قضية، أو بعد إجتماعي يريد الكاتب اصاله عبر شخصيته او شخصياته الرئيسة والثانوية وهذا ايضا متوفر بشدة.من هنا يمكن القول ان كلا من الكاتب والناقد الاستاذ ماجد الغرباوي والاستاذ الدكتور الناقد قصي الشيخ عسكر قد تعاملا مع النص بحرفية ممتعة وتقنية عالية كل الشكر لهما.

***

سمر محفوض – شاعرة وكاتبة

سوريا

..................

ماجد الغرباوي: هاتف الفجر

خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً، حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته. ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي، فتبددت أحلامي، واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري. فمسّني طائف من الجن .. لم أستعذ منه إلا به، رحت أتوسّل إليه، لم يبال وتمادى يغور في أعماق قلبي .. قلبي الذي لم تخطفه السهام، يترنحُ الآن تحت وطأته، لم يكن طائشاً فطال سُهادي. فكرتُ أن أنتزعه لحظة، أتفقد جُرحي، وأمسح فوق روحي التي ترنّحت، تستغيث بعزيمتي الخاوية، فلم تستجب إرادتي.

تحركت أناملي تتلمس موضع السهم، أين استقر؟ .. هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ .. هل سيستبيح أسراري ومشاعري؟ هل سأفقد صوابي وهو يعبث في أخاديده؟ قلبي الذي استوعب الناس جميعا، كيف تتمزق أنسجته، ويمتلئ سُحباً داكنة؟ ماذا لو جفاني وحطّم مشاعري؟. رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا إلا وتدفّقت تتطاير شرراً، تُلاحق أنفاسي، وترهق لهاثي، فأتوارى أتدثّر بدثار الخيبة، ثم أفيق، أستيعد أنفاسي، أُيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي، أرى الحياة مشهد بؤس، أو حطام ألم، لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها، أو عاشق هام في أرجائها. ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين .. الحياة عتمة حينما ينطفئ نور قلبي، قاحلة يغزوها المتسوّلون. كم أرهقنا أنفسنا بحثاً عن معنى يشدنا إليها، متى ندرك أنها وَهمٌ ما لم تفض قلوبنا حباً. كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية .. ماذا سيفعل به ذلك السهم الذي باغتني؟

على غير هدى تحرّشت به، فشعرت بألم لذيذ، يراقص قلبي لتنساب نوباته المتعبة فوق أوردتي، تحمل أكداس آهات اللحظة الأخيرة، تلك اللحظة التي تحطّم فوقها غروري، فما عاد جميلا بما يكفي.

كيف أستجمع قواي لأسترد أنفاسي، وأستعيد أملي الذي تبخّر مع حرارة السهم؟ .. كيف أحتفظ بقلبي الذي تسكن إليه نجوم السماء .. أخذني الذهول حيث يشتهي فلم أعد أعرف سوى الصمت، مذهولاً تعصف بي الأوهام، فسمعت هاتفا يقول: (الصمت أبلغ من أي كلام)، فهدأت روحي، غير أن عيني لم تفارقه وهو يغور بعيداً في أحشائي، حتى إذا اختفى يأستُ مستسلماً، لولا بارقة حينما شَعرتُ به يَتَلبَسُني، ينسجُ من الفجر طيفاً ثملاً، وينثر الروح ياسميناً، ندىً فوق ذاكرتي. لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب .. عرفت كل ذلك عندما خانني قلبي وأفشى إليه بسرّي.

 ***

ماجد الغرباوي

 4 - 10 - 2015

 

هناك نصوص تضطرنا ان نتوقف عندها فنعيد قراءتها اكثر من مرة لنكتشف فيها ابعادا تشير الى انه نص متميز ذو فرادة وجدة بفكرته ومضمونه.

من تلك النصوص نص "هاتف الفجر" الذي يمكن ان نعده قصة قصيرة او قصيرة جدا، وقد استوقفني المحور الصوفي الذي يتجلى في الثنائيات. هناك في النص طرفان يتخذان موقعهما مع تطور النص وتلاقحه بالمعنى الظاهر العام: 

الثنائية الاولى: ثنائية السارد والصديق:

تبدأ الأقصوصة بالشكل التالي: خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً.

هكذا إذن. السارد وصديق، من هو هذا الصديق. كل مانعرفه ان الحديث كان وديا لكن السارد بعد الحديث خرج مسرعا، فهل هو الهدوء الذي يسبق الإعصار؟ انا أميل الى ان الصديق الذي خاض الكاتب الحديث الودي معه هو الكاتب نفسه يعكس شخصه على الاخر، تامل كثيرا فوجد نفسه في اخر جعل منه ثنائية فحاوره بكل هدوء اذ يمكن ان نغير كلمة "وديا" الى "هادئا" "حميميا" " لطيفا"انه حديث الاخر الذي يعني الانا.

الثنائية الثانية: المتتالية

وهي ثنائية الليل والنهار فإذا كانت الثنائية الاولى هي الزمنكان التي بدت عابرة فلم تأخذ الا مسحة سطر او اقل لكنها تمهد فيما بعد لزمن متسع يشمل الليل والنهار يقول بعد المطلع القصير مباشرة:حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته....  انه خرج من الزمنكان ليدرك الليل غير انه لم يقلق منه بل صور معاناته فيه طول تلك الليلة فهناك سهام كثيرة انطلقت من مكمن  ما وقت الليل باتجاهه فتشبث بالليل ليقي نفسه منها غير ان سهما واحدا اصابه، اخترق جسده فتفاعل معه وانفعل به. 

ثنائية المفرد والمتعدد:

تلك ثنائية نجدها في السهام الكثيرة التي أدت دورا واحدا وهو انها انطلقت فأخطأت، يمكن ان تشكل بمجموعها جانبا واحدا وهناك سهم اخر انطلق فأصاب، ذلك يعني ان هناك جانبين جانب انحرف عن مسيره فابتعد او وقع في مكان اخر وآخر حقق الهدف. تحت هذا التقسيم تتوسع الثنائية ونحن لا يمكن ان نتجاهل مدلولات الجانب الاخر الذي لم يَصْب هدفه فله معالم كثيرة يمكن ان نفهم انها تعني مشاكل الحياة وأمورا اقل أهمية من المعاناة، الانسان هدف لعدد من المعاني والقضايا والمشاكل انه يسعى لهدف وهو ايضا في الوقت نفسه هدف. اما عظمة ما يصيبنا وما نتحمله من معاناة فيدل على ان الموضوعات "السهام الاخرى التي أخطأتنا" عظيمة لان ما اصابنا وهو في الأساس واحد منها عظيم بدليل معاناتنا التي توحدت به وتوحد بها. 

ثنائية الاجزاء

تتمثل تلك الثنائية في النبض والقلب يقول بعد ان اصابه السهم: هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ ثم بعد هذا التساؤل يذكر: كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية ، قد لا تخطيء اذا سميت النبض نتيجة للقلب والقلب سببا فهو - القلب-  ليس تلك المضخة التي تدفع الدم الى الاوردة والشرايين بل هو العالم الواسع والكون المتحرك  لقد اصبح القلب عقلا مثلما اصبح الشعر والإحساس عقلا. نقول ليت شعري اي ليت عقلي ونقول لامس الامر شغاف قلبي بمعنى عقلي لقد احتل القلب مكان العقل فتداخلت المفاهيم. في الانكليزية نفسها بعض الأحيان يحتل العقل مكان القلب broken heart هل هو القلب المجروح ام الخاطر (مكسور الخاطر) ام العقل؟ ندرك ذلك من خلال متوازية ثنائية اخرى في النص هي متوازية الصمت والكلام (الصمت ابلغ من الكلام) والصمت لا يعني السكوت المطلق بل هو جزء الثنائية الظاهرالذي يضاد الكلام لكنه كلام بمعنى اخر كلام صامت يعني التامل والتفكر لا الصمت، ومتوازية اخرى يؤكد فيها الشاعر تو حد (أنا) و(انت) في القلب ذاته حيث يقول: ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين. 

ثنائية المراتب

العشق والحب، أيهما الاقوى وارفع درجة؟

يقول الكاتب عن ذلك السهم الذي اصابه فنسج من الفجر طيفا ومن الروح ياسمينا (لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب ..) وتعريف الحب  والعشق في القاموس الصوفي: الحب عبارة عن ميل الطبع في الشيء الملذ فان تأكد الميل وقوي يسمى عشقا والعشق مقرون بالشهوة والحب مجرد عنها، ولا شك ان كاتب النص بدا بالأقل درجة لينتهي بالأعلى مثلما بدا بالليل ليستقر عند الفجر  فيما بعد. 

الثنائية العمودية:

هي التقابل بين الأعلى والأدنى في قول الكاتب: رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا

فالسحاب في علو والبحر هو الدون وبينهما التامل الذي عبر عنه الكاتب في ثنائية الصمت والكلام بالصمت حيث التامل يرقى البحر للسحاب وبه يدنو السحاب من البحر.

الموازنة:

قلت في حديثي عن المنقلب والمتحول من الكلمات الموازنة في المصطلح المعاصر تعني ان نتحدث عن نقاط تشابه او افتراق بين كاتبين يكتبان بلغة واحدة مثل الموازنة بين ابي تمام والبحتري والجواهري والمتنبي . لقد لفتت نظري في نص "هاتف الفجر" كلمة الليل فأثارت تداعياتها في ذهني المفهوم المألوف عن الليل في أدبنا العربي، فتحققت الموازنة عندي بين أمريء القيس وكاتب نصنا المعاصر . لقد رسم امرؤ القيس صورة سلبية لليل تلقفها عنه من جاء بعده فأكدوا قتامها او زادوه عتمة وظلاما يبدأ امرؤ القيس صورته وفق الشكل الآتي:

وليل كموج البحر أرخى سدوله   علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمـــــــا تمطى بصلبه     وأردف إعجازا وناس بكلكل

الا ايها الليل الطويل الا انجلي     بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومـــــه      بكل مراس الفتل شدت بيذبل

صورة امريء القيس تلك تلقفها النابغة من بعده فقال:

كليني لهـــــــم يا اميمة ناصب   وليل اقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض   وليس الذي يرعى النجوم بايب

الليل مخيف، قاتم، وحش مفترس، وقد بقي صدى صورة أمريء القيس يتردد عند الشعراء، مع ذلك لم يلتزم بها صاحب نص "هاتف الفجر" اذ عندما أخطأته سهام انطلقت نحوه راح يتشبث بالليل يستجير بظلمته . انه ملاذه الذي أمنه واطمان اليه  ليصيبه سهم من هذه السهام حيث استجار بالليل الذي سرعان ما استوعب الاستجارة فوقع السهم في صدره وتغلغل باحشائه عندئذ احس ان النبض جرى مع الفلك . ان ضمير إلانا  / الشاعر/ السارد / بطل القصة يتحول من رمية السهم الى فلك والأنا والانت يندرج بعضها ببعض. ان ليل أمريء القيس ليل مخافة وليل السارد أمان وتأمل الى حيث راحة البال في التعاطي مع السماء. 

المقارنة

والمقارنة كما قلت بين كاتب عربي وآخر من قومية اخرى او نص عربي وثان اجنبي، فبمن يمكن ان نقارن بطل " الفجر"؟

الكثيرون  شاهدوا شريط المسيح وربما اكثر المشاهد اثارة  مانجده مصورا وفق رؤية الكتاب المقدس كما في يوحنا ٢٨/ ٣٠(بعد هذا لما عرف يسوع ان كل شيء قد تم فلكي تتم الآية قال: انا عطشان وكان إناء موضوعا هناك مملوءا خمرا حامضة فوضعوا إسفنجي مملوءة من هذه الخمر وقلبوها الى فمه فلما أخذ يسوع الخمر الحامضة قال قد تم وحنى راْسه واسلم الروح).

ان من يقرا نص "هاتف الفجر" يتمثل بسهولة السهم بمقابل الصليب، هو نفسه  الذي اصاب السارد /المتحدث / الراوي، كان الحديث عن المسيح بضمير الغيبة، والمسيح الجديد الذي اصابه سهم في قلبه يتحدث عن نفسه.

والنبيذ الذي تمثله السيد المسيح بدمه حيث اصبح الدم معادلا للتضحية بسبب العلاقة اللونية بين النبيذ والدم هو دم  يجري من شخص يتمثل المسيح، فالذي يتابع نص "هاتف الفجر" يجد ان الدم اصبح يسري من النبض باتجاه علاقة كونية تجعل الانسان ذَا المعاناة محورا لها. لقد كان المسيح يتأمل الارض في الشريط السينمائي والمتجمهرين حوله لينقذهم فيرفعهم من الارض الى السماء في حين كان بطل " هاتف الفجر" يقول واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري.

انها نفسه التي هي الاخر ..وهو ، حقا ، نص يحمل معاني نبيلة أكثرها رقيا  انفتاح  ذلك النص القصير على مدى واسع جدا وأكثرها سموا اننا كنّا نعاني مع المسيح بطريقتنا الخاصة هو على الصليب ونحن مع السهم معادل الصليب، مثلما كنّا نعاني مع أمريء القيس بطريقة اخرى خارجة عن المألوف. 

*** 

د. قصي الشيخ عسكر

عن دار نينوى بدمشق صدر حديثا للدكتور صالح الرزوق كتاب بعنوان: (جدلية العنف والتسامح: قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي) في 128ص من الحجم الوسط.

والكتاب ليس تحليلا لمشروع الغرباوي فقط بمقدار ما هو ميتا نص. بمعنى أن كتابات الغرباوي شكّلت الإطار النظري لمشكلة التنوير والنهضة في الإسلام العربي مع مقارنات من تراث رواد تفكيك الخطاب، ابتداء من هشام الشرابي وألبرت حوراني وانتهاء بطيب تيزيني وجمعة المهدي الغزاني.

اهم محاور الكتاب: الاستبداد العربي، الجهاد في الإسلام، مشروع تحرير المرأة. وهذا افترض أيضا المرور على نظريات التشيع العربي والفارسي وثورة المشروطة في العراق وإيران ودعاة وضع دستور للبلاد وتشكل حزب الإخوان المسلمين ودور سيد قطب في قيادة جناحه العسكري مع أنه في غياهب السجون.

يبني الكتاب أطروحته، مثل ماجد الغرباوي، على فكرة مفادها أن أئمة التنوير والنهضة كانوا محددين بجملة اعتبارات فرضها واقع الدولة العثمانية والدور المركزي لروحانيات الإسلام أو نص القانون الديني في المجتمع. وكلما اقترب العقل من جانب النص زادت صعوبات التخلص من التراث الأسطوري والخرافة وسقطات الأفكار الشعبية التي تحمل زادا لا نهاية له من التجهيل والأمية والاتكال على الفانتازيا. إلى أن أصبح العنف هو القانون الجديد في الإسلام المعاصر.

وترتب على ذلك خنق الروح الأصيلة للإسلام المعروف بالتسامح والتبشير بالمعرفة ونصر الضعفاء.

يقدم الكتاب في النهاية بيبلوغرافيا لأهم أعمال ماجد الغرباوي كمفكر إسلامي يعيش في المنفى.

1 salih 

جاء في مقدمة الكتاب:

لا يمكنني أن أنكر أن كتابات ماجد الغرباوي لها علاقة بالتشريعات والقوانين الإسلامية. ولكنه أساسا مفكر إصلاحي يهتم بما يفيد المجتمع.

وتركيزه على مبدأ المجتمع المدني يدل على ضعف إحساسه بالدولة كجهاز استبداد ورقابة وعلى ترجيحه لمبدأ الحوار وإطلاق الحريات العامة والخاصة. وضرورة تبني علاقات نسبية لا تسيء للدولة من خلال تحجيم دور ما هو ليس من خصوصياتها.

لقد أراد الغرباوي في كل أعماله أن يكون منفتحا على المجال الإنساني للبشرية. ولا يمكن لإنسان أن ينجز ويتطور وهو تحت رقابة صارمة ومجموعة من الأوامر والنواهي.

وميزة الإسلام، مع أنه دين موحد، يدين بالطاعة لجوهر الذات الإلهية الواحدة (الفرد الصمد) أنه أيضا تعبير لتصورات اجتماعية. تسمح للإنسان بالبحث عن ذاته كمفرد وكعضو في جماعة.

يتابع ماجد الغرباوي في كتابه (الحركات الإسلامية)(*) بناء مشروعه في قراءة الفكر الإسلامي. ليس من زاوية العمل والإيمان أو تحويل النظري إلى أقوال وأفعال، ولكن من زاوية علاقتها بالواقع.

إن مشروع الغرباوي لا يدعو للتجديد بمطلق المعنى ولكن لتجديد إيديولوجيا النهضة. فحجم الاتجاه التبريري عند محمد عبده والأفغاني أكبر بكثير من قلب المفاهيم أو الارتداد عليها. كانت دعوته أصلا بنية صادقة وعفوية تشدد على النكوص من عصر إلى الحلقة التي سبقته. وإن شئت المزيد من الدقة هي دعوة متأثرة بسياسة لا تجهيل العرب من أجل تحطيم الفهم الخرافي والأسطوري الفاسد للعثمانيين.

وعليه إن نهضة المعممين في العصر الذي برزوا فيه هي مجرد لعبة سياسية تدخل ضمن أول حرب باردة شهدها الشرق الأوسط تمهيدا لاجتياح عسكري.

ولمزيد من التوضيح: إن شيوخ النهضة لم يحاولوا تبديل حرف واحد في التفسير القياسي للنص المقدس. وإنما دعوا للعودة إليه.

ولذلك كانوا يقودون شعوبهم من استعمار احترقت أوراقه بسبب التهالك على الفساد وتشرذم أرجاء وأطراف الدولة. إلى استعمار لا يزال له بريق وجاذبية خاصة.

وكما قال هشام شرابي إن عبادة الأب هي إحدى أهم سمات الإصلاح المبكر وهو إصلاح إرجاع (1). وبرأيي زعماء الإصلاح في حلقتهم الأولى هم مجرد رأس الحربة التي استعملها الغرب لإلحاق أول جرح في جسم الدولة العثمانية.

ولا أعتقد أن شيئا تبدل منذ سياسة الأرض المحروثة وحتى سياسة الأرض المحروقة. فالعثمانيون الجدد في تركيا (كما يرى إحسان داغي) (2) يشترون صكوك الغفران من أوروبا الموحدة. وبالأكثر سيلتحقون بركب بقايا وفتات الاتحاد السوفياتي.

فإذا انحسر الإصلاح في أجزاء الإمبراطورية العثمانية القديمة فإنه يشهد يقظة لا سابقة لها في تركيا الجديدة.

ومن هنا تكتسب محاولة إعادة قراءة آيات بعينها من القرآن الكريم أهميتها في مشروع الغرباوي (و من يسير في موكبه). فهي قراءة معنى وليست قراءة نص. ولا يمكنني أن أقول عنها إنها اجتهاد في التأويل ولكنها تركيب للتأويلات. فهي تفترض لتبني النتيجة.

ومحنة رموز الإصلاح تدخل في باب التطهير العرقي والرد عليه. فهجرة الكواكبي إلى مصر. وسفريات الطهطاوي إلى باريس كانت تنويرا خارجيا. لم تؤثر على أنوار الروح. وفلسفة نور اليقين الإيمانية لم تتعرض لهذا الإمتحان.

46-majed

لقد كان الإصلاح في فجره اختيارا سياسيا بحتا. لم يمسس الحالة الدينية. بل زاد التمسك بالميتافيزيقا.

وهذا دليل أن الإنسان لم يكن موضوعهم ولكنها الدولة. وأن المجتمع لم يكن هو الهدف ولكن طريقة إدارته وتنظيمه.

وهو إصلاح غير عرفاني. وتغلب عليه الأغراض السياسية.

والمعركة لم تكن بين المحافظين والمجددين. ولكن بين أنصار الباب العالي والداعين للتخلي عنه.

فالاستلاب العرقي وصل إلى غربة روحية استدعت هذه الحلول.

وأعتقد أن بيوتر فيدوسييف حين وصم روجيه غارودي أنه تحريفي كان يعني نفس المعنى(3).

إن غارودي لم يعد يدين بالولاء لهيمنة السوفييت على الماركسية اللينينية. ويريد الاستقلال بآليته في قراءة ماركس ولينين.

لقد نعى فيدوسييف على غارودي دعوته لتعدد النماذج الاشتراكية ورفض أي تنوع نوعي. مع الموافقة الضمنية على تنوع في الأشكال. يعني التعبير اللغوي عن الظاهرة نفسها.

وهي نفس التهمة التي عانى منها الكواكبي وأطلق عليها اسم الاستبداد.

وبوجيز العبارة نحن أمام اشتباك وفض اشتباك. ولسنا في صدد تفسير روحي لظواهر دينية. وآلية عصر الأانوار عند العرب تأخرت في الواقع.

مثلما تأخرت الحداثة. وكل ما يدخل في باب التحديث نظريا هو رومنسيات إيديولوجية وقفت موقفا عدائيا من سلطة المحاكاة.

وإن شئت الاختصار: معركة ما نسميه الإصلاح تستهدف تحريض الانقسامات، والتمهيد لأجسام وكتل سياسية تستمد قدرتها على الوجود من اقتصاد غير جريح. ومن مجتمعات دخلت مرحلة الثورة.

فهي حاملة للثورة بمفهومها، وتقبله شرطيا. ولا تستطيع أن تفكر به من غير شروط.

والإصلاحيون بهذا المعنى غير عضويين. والجانب المحافظ منهم هو العضوي. ولهذا السبب نجحت البروتستانتية في تثوير الكنيسة بينما أخفق الإسلاميون في تثوير مجتمعاتهم.

وكل ما جنته أيديهم المزيد من الأشواك والدماء. فقد انتقلوا من رعاية إلى وصاية. ومن إقطاع إلى رأسمالية. ومن نكبة إلى نكسة.

وأرد ذلك بصراحة لعدم هضم معنى الثورة. ولتحميل قوالب التجديد مضامين ميتة.

لقد أتى الإسلام بثورة حرضت الروح على أن تتحول إلى سياسة. وسمحت للازدهار التجاري السلعي أن يتحول إلى اقتصاد منتج وريعي. ومؤسساتي. وهو أصلا اقتصاد بلاط. اقتصاد ملوك. يشجع على التفاوت الطبقي وتحطيم مبدأ أساسي في الإسلام هو المساواة (أسنان المشط). ومثل هذه المساواة هي جوهر مبدأ الجماعة. حيث تكرير الفروقات وإلغاؤها هو الدينامية لتحقيق التراصف والتآزر.

ولهذا السبب ألح الغرباوي على ضرورة نقد المنهج. إنه ضروري لانتشال الوعي وتصحيح المسار (كما قال في المقدمة- ص١١).

وبالنقد وحده (كما يضيف لاحقا) يمكن التعرف على مبررات السلوك اللاأخلاقي والانتهازي الذي انحدر إليه المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم (ص ١١).

وبرأيي إن الإسلام السياسي هو نتيجة فك القران الميمون بين المشاعر الدينية والقومية(4).

فالمسلمون العرب وعلى امتداد قرون لديهم ضغائن من أخوتهم الذين اعتنقوا الإسلام.

وبدأت الدعوة إلى التحرر بمزاوجة بين المشاعر القومية وبديهة ما يسمى بالنقاء الذهني لعاطفة المسلمين.

واستمرت هذه المعادلة في تحريض الشارع طوال سنوات التنوير ثم النهضة.

وساعد الاستعمار وحروب الاستقلال على تعميق الازدواجية.

حتى أن العلامة عبد الرحمن الكواكبي ورط نفسه بشرح التطورات والاكتشافات العلمية بآيات من القرأن.

وكان يجد لكل اختراع آية تتنبأ به. وقد ورد في كتابه (طبائع الاستبداد)(5) أن الذكر الحكيم هو شمس العلوم (ص٢٣). وأن الاكتشافات العلمية التي تعزى لأمريكا وأوروبا ورد أكثرها بالتلميح والتصريح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا (ص٢٤).

ولم تتوقف هذه الديناميكية في إلباس الدين لبوسا ماديا إلا بدخول العسكر إلى السلطة واستبعاد نصف الحقيقة. وهي لا شعور الثورة الإيماني.

فقد تفرد العسكر بالحكم وانحازوا للفكرة القومية على حساب المكون الآخر. الإسلام. ولا داعي للتذكير أن الإسلام السياسي كان في المنطقة العربية ضحية لفكرة اليقظة.

لقد كرر القوميون العرب التجربة البلشفية واستعبدوا الإسلاميين كما حصل مع المناشفة والتروتسكيين.

والإطاحة بالحوراني والبيطار وهذه الجماعات في سوريا. والانقلاب على محمد نجيب في مصر. لا بد أنه يدخل في سياسة تصفية الحسابات.

وطبعا أنا لا أنظر إلى الإسلاميين على أنهم ملائكة وضحية من ضحايا الصراع على السلطة فقط. ولكنهم جزء من ديناميكية تحرير الذات من ماضيها.

وأدى ذلك إلى انتشار ظاهرة العنف كأسلوب من أساليب التبشير بالمنهاج. وتحولت شعارات الاستقلال والتحرر إلى شعارات الجهاد.

وعليه إن سيكلوجيا الحركات الإسلامية تتأسس على سيكولوجيا الإيديولوجيات الجريحة مقابل سيكولوجيا الحضارة الجريحة (بتعبير ف. س. نيبول) عند القوميين.

ومثل هذه الحالة تستدعي التلازم بين جناحين يساعدانها على انتشال نفسها من التراب الذي سقطت فيه.

وهو ما يسميه ماجد الغرباوي: الوعي الحركي (ص ١٥). ومنبعه ظاهرة الخوف من الآخر وعدم الوثوق به (ص١٦).

وقد نجمت عنه أوهام وضعت الحركات الإسلامية في إسار الماضي، وصنعت فراغا بين واقعها النفسي والحاضر (ص١٥).

ولو ابتعدنا عن مفردات الغرباوي دون التضحية بمعانيه نلاحظ أنه يبني كل حججه وبراهينه على مسلمة الارتداد. فهو يرى أن الإسلام المعاصر ارتد على مبادئه الأساسية.

لقد بدأ الاسلام من معاناة قهرية ضمن مجتمع تجاري. ضعيف عسكريا. ومعقد بأعرافه الاجتماعية. وكان همه الأول تحرير الروح من الاستعباد والاسترقاق الذي كفلته بنية المجتمع. وما تقليد الهجرة إلا لمعالجة هذا الفراغ. وهو البحث عن مسكن آمن للأرواح المستضعفة.

ولذلك إن ما يجري اليوم يطاله إشكال شرعي ومؤاخذة أخلاقية (ص ٢١). فهو بعيد عن فكرة الينابيع. وشديد الأخذ بفكرة الأصول. ويوجد فرق جوهري بين البداهة والتقليد الأعمى.

والإسلام المعاصر هو إسلام متحول. فهو يبدأ من منتصف طريقه إلى الوحي. يعني لا يخاطب العدالة السماوية بقدر ما يهتم بالدولة وإشكالية الحكم.

ونقطة الضعف الاساسية فيه أنه إسلام الأطراف وليس المركز. حتى أن أقوى حركاته تنشط في الثغور التقليدية.

وهذه ثاني مفارقة أساسية.

إنه ينطلق من نقطة التأزيم مع فكرة الإسلام نفسه.

وكما قال الباحث: إن بعض الحركات الإسلامية تكون بأموال ومباركة من دول غير إسلامية، فطالبان تأسست بالدعم الأمريكي، وبعض هذه الحركات دخلت في تحالف أدى إلى الابتعاد عن الاستراتيجية الأساسية (ص ٦٦).

وفي الذهن مؤازرة حماس لسوريا حتى عام ٢٠٠٨، وتوقيف الإخوان المسلمين لنشاطهم ضد النظام السوري لمباركة هذا الإجراء.

فالجهاد أو ظاهرة فتوحات الأنظمة تختلف تماما عن جهاد فتوحات الأمصار في صدر الإسلام. والإسلام السياسي اليوم جزء لا يتجزأ من استراتيجية الحرب الباردة والصراع الدولي على مناطق النفوذ. وأخشى أنه (كما قال غريازينيفيتش- ص١١٠) غير قادر على ضبط الحياة الروحية لشعوب الشرق الأدنى وحوض المتوسط(6).

فالحركات الإسلامية الراهنة هي بنت الوعي الأسطوري الملتبس (بتعبير ماجد الغرباوي، ص ٣٥) والذي يحمل كل علامات الثقافة المهيضة الجناح.

ويرى أن الأسباب وراء ذلك كثيرة وأهمها: ١- الخط الأحمر المفروض على تكتيك الخطاب الديني واحتضاره تحت ضغط التفكير الشعبي الناقص والحامل لآيات التخلف والجمود والخرافة، ٢- الاستبداد الذي وضع العقل في أدنى مستوياته وسمح للاشعور بالنمو بنسب فاحشة غطت على كل أشكال التفكير والاجتهاد،٣- عزلة النخب الثقافية وسقوطها في مشكلة التعالي، ٤- احتكار رجل الدين لحق التربية والتوجيه وحصوله على حصانة تحميه من النقد والمراجعة والتخطي، حتى تحول إلى نص مقدس أو امتداد للمحرمات والممنوعات (ص ٣٤-٣٧).

ولذلك كان التشريع للنقد أولوية في تجديد الفكر الديني (ص٤٧). وكلنا سمع بمحنة الشيخ علي عبد الرازق المتهم بالتطاول على مشروعية حروب الردة. وأعتقد أن الانحياز لمشروعية التواتر والمحاكاة يؤسس لمجتمع إقليمي من المرايا المتعاكسة. كل مرآة تعكس نفسها. حتى يحل الخيال أو الصورة محل الحقيقة بسبب غيابها واستحالة الاتصال معها.

وهذا بصورة ضمنية يعيدنا إلى نمط من التفكير والتعليل الذي يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة (بلغة صادق جلال العظم)(7).

لذلك وضع الباحث نصب عينيه الكشف عن الخطأ الفاحش في التفسيرات الاستاتيكية لظاهرة متحولة لا تعرف السكون وأصلا هي تنطلق من استراتيجية واضحة في تحريك السواكن. وهذا يضفي عليها كل خصائص الظواهر العقلية التي تتطور مع مرور الأحقاب والعصور، وباختلاف الظروف والأسباب.

وعلى هذا الأساس يبني أهمية التحليل والنقد ومشروعيته.

فالحركات الإسلامية صناعة بشر وهي ليست جزءا من المطلق الإلهي والرباني ولا نتاج عوامل غيبية مفارقة(ص ٦٠)، والوعي بالتاريخ يفتقر للأسس التي يتطلبها الوعي بالذات. حيث أن الحدس بمفهوم برغسون متوالية أو تيار يحتاج لنظرة منفصلة عنه. فما بالك وأنها ذات معصوبة تحمل كل أعراض الحمل الكاذب. فقد طرأت على الإسلام والجماعات التي نذرت نفسها له غايات وأهداف بعيدة عن الحجج الروحية. كما أنه هناك حركات استنفدت أهدافها ( كما يقول الباحث - ص 61). فأدوات تنفيذ الاستراتيجيات في وقت السلم غيرها في وقت الحرب. ويضرب مثالا على ذلك بلجوء قواعد حزب الدعوة إلى البعث السوري للهرب من بطش صدام، وفرار كوادر الإخوان المسلمين من سوريا إلى العراق والبحث عن الحماية لدى البعث العراقي خوفا من بطش حافظ الأسد (ص ٧٣). وهذه أول مفارقة تؤكد على تعددية الحركات الإسلامية ولو اتفقت ظاهريا في بعض المبادئ والشعارات (ص ٧١). فقد كانت الأحزاب الدينية عرضة للانشطار والتشرذم. فالجهاد وجماعة التكفير والهجرة في مصر هما تطور جانبي من حزب الإخوان المسلمين (ص ٧١) والذي شهد بدوره تنظيمات داخلية متحاربة وفي مقدمتها التنظيم العسكري وموقفه الهازئ والمتهكم من التنظيم السياسي.و إن قصة تنافس الهضيبي وقطب على السلطة الداخلية الممسكة بزمام الجماعة معروفة. وتكشف عن عمق تعدد القراءات والتكتيكات. ولكنه ليس دليلا على العقوق والخروج عن الشرعية ( ص 69). و حاليا تشهد الساحة تنافسا دمويا على زعامة الحركة في سوريا بين داعش و جبهة النصرة التي تقود جيوش الفتح. و من قبل شهدت أفغانستان تنافسا مشابها بين الأوزبك و الطاجيك. وقد طالت هذه المناوشات العقائدية الأحزاب التيي كانت لها الصدارة. و بالأخص القومية منها. أو ذات التفكير التحرري المؤمن بالجيش العقائدي. و سياسة العسكرة ( أو بناء مجتمع الجيوب الشعبية المسلحة) تعرضت لهزة قوية في منعطفين حاسمين. الأول في الجزائر بعد وفاة بومدين ( اغتياله كما تذهب بعض الشائعات). و الثاني بوفاة عبدالناصر في مصر ( تسميمه كما تتناقل بعض الأخبار). فقد انتقلت ملكية الكوادر المسلحة بالوكالة إلى تنظيمات إسلامية تبنت فكرة الجهاد و تغيير سلطة الأمر بالواقع بالقوة. و هذا التحول في التفكير من وطمي عالماني أو قومي إلى دبني ينم عن اختلاط في الدوافع. و عدم وضوح في الأذهان و العودة إلى الفطرة التي تراها تربية دينية ساذجة و عاطفية. و للأسف كان ذلك يحمل شحنة عالية من الانقلابية إلى درجة نشوء قطيعة مع المنشأ السياسي. وهذا دليل قوي على نسبية المعرفة الدينية (ص ٨٥). فهي ليست معرفة ميتة. ولكنها قابلة للنمو كما هي قابلة للانتكاس والرجوع. ولديها قدرات هائلة على حجب النص (ص ٨٩). ويمكن القول إن القرأن الكريم ذاته هو حجاب لنصوص قبله، عمل على تفكيكها وتوجيه سهام النقد اللاذع لمكامن الضعف والأخطاء فيها (ص١٠٠). وهذا أول درس يبرر ضرورة التأويل وإعادة النظر بالمسلمات المتجمدة. فالنقد بمستوى أمر وجوب في الإسلام وهو ليس مستحبا فقط (ص ١٠٢).

ولا يمكن أن ننكر التحيز ( ص 84). فأية قراءة لا تأتي من فراغ. ولكنها تحمل في ذاتها مبررات تعريف الوجوب.

لماذا هي موجودة أصلا. ولماذا يجب أن تقارب هذه المسألة وتتصدى لمهمة حمايتها من الذوبان أو الاندثار.

وأعتقد أن الغيبوبة التي يعكسها فكر الغزالي في مراحله الأخيرة هي غير تمسكه المتشدد بأصول الفقه السني في بداياته. ومثل هذا التطور يحمل بصمات انعطافة على مستوى تجليات الوعي ذاته.

وتحريض الروح على العقل في مجال الفضاء الإيديولوجي نفسه يدل على انكسار وتراجع.

إن مشكلة الحركات الإسلامية أنه تقف خلفها دوافع دينية- سياسية (ص ١٢٧). وإذا كانت السياسة هي المسؤولة عن الخلافات البينية والمواقف من الأنا والآخر والتكفير. فالدين مسؤول عن حقيقة المبايعة. والتحفيز على التضحية والمغالاة بها إلى درجة الانتحار (ص ١٢٧).

ومن هنا نشأت ظاهرة الإرهاب الدولية بأبعادها المتعددة وما أحاط بها من هالة وصلت إلى درجة تحريض المخيال الشعبي على الإضافة والمبالغة حتى نشأ منها دين جديد (بتعبير صالح الطائي)(8) أصبح بمثابة دين سماوي رابع. ظاهره الإسلام وباطنه التكفير والقتل. وغلافه شعار (الثورة المستمرة، ص ١٢٩).

إن الإسلام السياسي بالنتيجة مشروع مختلف عليه، له الحق في تطبيق أدواته، ولكن ليس لديه الحق بالمصادرة على حرية الآخر المختلف عنه. وإن خضوعه لمنطق السياسة والارتباط في نفس الوقت برجل الدين حوله إلى حركات وشراذم متمردة تؤمن بالعنف والاستبداد وتقاطع الإرادات (ص١٤٤). وهذا يفرض عليه إجراء تحولات فكرية ليتجاوز اخفاقاته وكي لا يسقط في نفس الحفرة التي أودت بالفكر القومي وأوردته موارد التهلكة.

د. صالح الرزوق

.....................

* الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجليات الوعي. منشورات مؤسسة المثقف العربي، ودار العارف، بيروت. ٢٠١٥. ١٥٨ ص.

1- المثقفون العرب والغرب، دار النهار، بيروت، ط٢ ١٩٧٨. ص ٣٩.

2-

Turkey Between Militarism and Democracy .Ankara.

3- غارودي والتحريفية المعاصرة. بيوتر فيدوسييف. دار الطليعة. بيروت. ١٩٧٤.

4- أسرار سياسية عربية. عبدالهادي بكار. الخيال. القاهرة.2000.

5- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. الرحالة كاف. الكتبية في الأزهر الشريف. مصر.

6- المثاقفة بين العروبة والإسلام. ترجمة حسان إسحق. دمشق. 2000.

7- ذهنية التحريم. دار المدى. دمشق. ط2 2004.

8- دور النص المقدس في صناعة عقيدة التكفير. دار المرتضى. بيروت. 2015 .

هذه المقالة الثانية التي تستعرض كتاب: (التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الاديان والثقافات) للكاتب والباحث ماجد الغرباوي، الذي يهتم في بحوثه بالطرح العلمي والموضوعي في تناول موضوعات حساسة وملتهبة، والتي تشغل بال الكثير من المعنيين بشؤون الثقافة والفكر الاسلامي وفق رؤية معاصرة، وفي مواجهة التطورات الحديثة في العالم الاسلامي في صيغها وقيمها التسامحية وفق ما جاء في (القرآ ن الكريم والسيرة النبوية) بنظرة خالية من التحيز او التحريف او تطويع النصوص الدينية لاغراض بعيدة عن اصول الاسلام بما يخص قيم التسامح، اضافة الى هذه الميزة التي تميز الباحث النزيه عن غيره، في تشويه الحقائق او تأويلها لاغراض سياسية بعيدة عن النص الديني، فان الكاتب يمتلك ثروة لغوية عميقة دون سرد او اسهاب زائد عن الحاجة، لذا فان كل جملة لها صدى في المعنى والسياق العام ببراعة كاتب يجبرك على الغوص في ثنايا الكتاب دون ملل او شعور بالوقت، وهذه خصلة لايملكها إلا من له باع طويل وخبرة واسعة في صنع فن الكتابة، والتحري بعمق في موروثاتنا الثقافية والفكرية الاسلامية . حقا ان قيم التسامح هي بالضد من الكراهية والحقد والارهاب الاعمى والعنف بكل اشكاله في المجتمع الاسلامي، الذي يزخر بمكوناته وطوائفه الدينية والعرقية والقومية والقبلية والاجتماعية والسياسية، لذا فان قيم التسامح يجب ان تبدأ من اصغر وحدة في المجتمع وهي الاسرة او البيت الى رجل الدين ورجل السياسة ثم الى اعلى هرم في الدولة والسلطة والى المفكر الثقافي الى رجل الفكر والاجتماع، حتى تكون الحصيلة العامة بوادر مشجعة وصدى مؤثر لهذه المفاهيم، حتى تتقلص حدود الخطاب التكفري المتشدد، او النظرة المتعالية على الاديان الاخرى، التي توصف الاخرين بالكفرة او المرتدين او انهم معادين لرسالة الاسلام مثلما ما يتبجح به اعلام الجماعات المتطرفة والمتشددة والسلفية التي تبيح القتل باسم الاسلام .

 ان ركائز التسامح تشمل اربعة اقسام وهي:

1- حقوق المواطنة: ومفهوم المواطنة هو (الاعتراف بالاخر وبحقوقه او لا اقل قبوله وقبول التعايش معه سلميا وفق حقوق مشتركة لجميع المواطني). وما يتطلبه بالمساواة بالحقوق والواجبات، والتساوي في الانتماء الى الوطن الواحد . اي بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية، وحق غير المسلمين بالتمتع بهذه المزايا، كما جاء في القرآن الكريم والسيرة النبوية التي تؤكد بشكل لايقبل التأؤيل بتمتع بكافة حقوقهم كباقي الاكثرية الاسلامية، في اطار الوطن الواحد الذي يقر بالتعايش وعدم التجاوز على خصوصية الاديان الاخرى، بالاعتراف بحقوقهم والاعتراف بوجودهم ودورهم في المجتمع. 

2- سيادة القانون: ان قيم التسامح في المجتمع لا تلغي سيادة القانون وسلطته، اذا كان هذا القانون يؤدي منفعة عامة، واذا كان مستندا على الحكومات المنتخبة من الشعب ويعتمد على ارادة الشعب، بالضد من القانون الذي يحمل في طياته فقاعات عنصرية او شوفينية او طائفية او دينية متعصبة، ويجب ان تكون كل اطياف المجتمع ان يسودها الاحترام الى قوانين الدولة النابعة من (ارادة الشعب، وقد تمت الموافقة عليها في الانظمة الديموقراطية) وان تكون المرجعيات خاضعة لهذه الارادة.

3- اعادة تشكيل قيم التفاضل: تتحكم في عقلية الفرد جملة من المفردات في سلوكه وتفكيره من الدين والاخلاق والاعراف والتقاليد القبلية ومجموعة من سمات القيم الاخرى، لكن تبقى مسألة جوهرية وهامة في هذه القيم يجب ان تستند على مقولة (لا اكراه في الدين) واحترام الاخر، وما سيرة حياة الرسول الكريم، تعطي امثلة رائعة من التقوى والفضيلة وسمو الاخلاق والجهاد والعلم الذي تنتفع منه البشرية ويستحق التقدير والاحترام، (ويصلح بجدارة لان يتحول الى قيمة تفاضلية) لها صدى واسع.

4- اطلاق الحريات العامة: لاشك ان الحريات العامة تؤدي دورها الفعال في المجتمع وتساعد على ترسيخ القيم بين ابناء الوطن الواحد، وهي بالضد من انعدام الحريات، حيث يكون الشعب تحت رحمة مطرقة الاضطهاد والكبت والحرمان، التي تؤدي بروز الخوف والقلق والخشية من العواقب، وكذلك تبرز مظاهر التكتم على الحقيقة وشيوع ظاهرة النفاق والتملق . وتسيد العنف في الحياة العامة التي تسلب حق الاخرين في اختيار طريقة اسلوب الحياة، ومثل الانظمة الدكتاتورية التي تخنق بوادر الحياة الحية .وتجربة العراق غنية في هذا المجال من اضطهاد وقهر وسلب الارادة، لذا فان الحرية تكون (سلاح ماض لتحطيم قيم الكراهية والاحقاد، واداة ناجحة لترسيخ قيم التسامح).

يستعرض الكتاب نماذج عديدة في اطار المجتمع ذات الغاليبة الاسلامية .. والصفة المميزة للكاتب يتضح بالجهد الفكري والبحث العميق في ثنايا القرآن الكريم، واستخلاص منه (60) آية من آياته الكريمة التي تدعو الى قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة، وهي تتجاوز بالكثير من الآيات التي تدعو الى العنف او السيف، ولكن يجب عدم تعميمها بل مناقشة ظروفها وزمانها والحاجة التي دعت اليها في ذلك الزمان والوقت، وان لا تكون ذريعة لبعض المتشددين والمتطرفين في الدين من استخدامها في الظرف الراهن، اي في غير زمانها لتبرير نهجهم الارهابي في القتل وارتكاب الجرائم باسم الاسلام

***

جمعة عبدالله

 

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذُ الطعنات

آلامُها

***

يتكرر هذا البوح بالألم، في قصيدة الباحث الأديب ماجد الغرباوي "مديات حلم". هذا التكرارُ خلاصةُ الجرح فيه، جسداً وروحاً. إنّه بيت القصيد، الذي يدور في دوامته النصّ. هو المخاضُ الذي وُلدَ من رحمه ما يحمل مضمونه من أحاسيس، وتفاصيل، وصور:

آهاتٌ تساقطتْ،

فراحتْ تـُلملم جـُرحَها،

ولمّا اقتحمت فناءكم،

كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا

هي الآهات إذن، الآهاتُ التي تساقطتْ، وهي تلملم جرحَها. جرحٌ أمطرَ في فنائنا هذا الشدو الشجيِّ، الموغلَ في عمق النفس المبدعة، لتمطرَنا بهذا البوح. إنّه القلب المضمّخ بالألم. الألم الذي يرفع الكلمة اضاءةً لما في داخل النفسِ من كلامٍ، يحمله الكاتبُ ليمرّ علينا بقنديلهِ، معتذراً لما قد يسيلُ من أنامله ما يقتحمُ قلوبنا جُرحاً فنتألم. مع أنّهُ ألم لذيذ نحتسيه. وهو الغرباوي المتوغل عميقاً. فيمَ يا تُرى؟:

في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلِّقْ ...

فلن تجدَ سوى الريح موطئا

هو الحلم. والتوغل ليس في عمق الأسفل، إنما هو في شاسعات الأعالي .. هناك حيث أقاصي الفضاء الرحب. والتحليقُ بجناحين، فارعين شاسعين. بامكانهما الطيران الى أعلى فأعلى .. هناك الحلم السابح في نور الشمس. هو حلم الخلاص من الجرح وآلامه، للتحليق ثانيةً الى أقصى فأقصى .. حيث المدياتُ الفسيحة. واللهفة تشدّه. وقودهُ دمُه المراقُ، الذي يحرقُ جوانحهُ ألماً ورغبةً في الخلاص، وتوقاً إلى معانقة النجوم، وإلى الطيران في الهواء والفضاء الشاسع:

تشدُّكَ ازرارُ اللهفة

وقودُ حناياك دمي

هذه اللهفة في الخلاص، مشدودةٌ الى التحدي، تحدي الجراح للتخلص منها بقوة وعزيمةٍ وعمق كأنامل الشمسِ وهي تغور عميقاً لتمزّقَ الشرنقة فينطلق الغرورُ مقتحماً المدى للوصول الى الحلم المُنتظَر. لا يعني الغرورُ هنا التكبّرَ، وإنّما الثقة العارمة بالنفس وقدرتها على تحمّل صخرة الألم الثقيلة الخانقة. الانتظارُ ليس بالاستسلام للقدر، وإنّما بالسعي الحثيث، والشجاعة الارادة الصلبة والاصرار على المواجهة، وجعل اليد سلّماً للوصول إلى النيازك لافتدائها. فاليد هنا علامة القوة والعزيمة في التصدي والمقارعة، والأمل في اقتناص الحلم:

عميقاً تهادت أناملُ الشمسِ

تمزّق شرنقةَ الغرورِ

*

سُلّـمٌ يدي

تفتدي

سنا النيازك

وهذا ما يُذكّرنا بما قاله حافظ ابراهيم :

مَنْ رامَ وصلَ الشمسِ حاكَ خيوطَها

سـبباـً إلى آمـالـهِ ..... وتعـلّقـا

روحُ التحدي للآلام وجراحها النازفةِ، ومواجهتها بالشجاعة والقوة النفسية والارادة الحديد، تعيدُنا الى الميثولوجيا الأغريقية وقصة الإله برومثيوس، التي وظّفها الكثير من الشعراء في مضامين قصائدهم لخدمة ما يرمون اليه. ومنهم أبو القاسم الشابي في قصيدته "هكذا غنّى برومثيوس"، قصيدة التحدي والمصارعة، ومقارعة الألم باشدِّ القوةِ والعزم والتحمّل، وبالاصرار على مواصلة الحياة ونشيدها، وبالانشداد الى حبِّ الانسان وحلمه في نشر النور والمعرفة والدفء، مثلما ترمز اليه قصة الإله برومثيوس، ومثلما كانت حياة الشابيّ انساناً وشاعراً:

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ

كالنسرِ فوق القمّةِ الشمّاءِ

*

أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ هازئاً

بالسُحْبِ ، والأمطارِ ، والأنـواءِ

*

لا أعرفُ الشكوى الذليلةَ والبكا

وضراعـةَ الأطفالِ ، والضعفـاءِ

كانَ برومثيوس سامقاً شامخاً، وهو يقارع آلامه متحمّلاً متحدياً قوياً، حتى خلّصهُ هرقل من عذاباته. وكذا كانَ أبو القاسم الشابيّ (برومثيوس). وهكذا هو الغرباويّ:

سامقا تعاقرُ آلهةَ الحبّ

مترعةٌ جداولُ الصباح

بذلك الضباب الرومانسي

فهل الحلم بالخلاص رومانسية ضبابية، أم هي القوة والشجاعة التي تعين على الصبر حتى مجيء الخلاص؟ وهل ننسى قصة النبي أيوب (ع) مع الصبر والتحمّل؟

إننا أمام برومثيوس صابراً هازئاً بالسحب والأمطارِ والأنواءِ. وعليه فهل يمكنُ لنا أنْ نسمّيَ النصَّ هذا (برومثيوس سامقاً)، وذلك لاحتوائه على اشارات السموق والترفّع عن الشكوى الذليلة. هو في أخدود نار الألم، يعاقر آلهة الحبّ خمور الحبِّ والنور والرومانسية الحالمة.

اعتماد أديبنا الغرباويّ على التكرار لنصٍّ داخل النصّ، هو للاشارة التأكيدية على معنىً. هذه الاشارة كما أسلفنا هي بيت القصيد. فما يدور حولها هو دخول في تفاصيلها، حسّاً، ومضموناً، وصوراً. إنّ الألم هو خالق النصِّ، بما أحدثه في النفس، لتتفجّر بما باحتْ لنا. إنه الألم الناشب أظفاره ، لكنّه مع طعناته لذيذ، لأنه يخطّ العمق والسموق واليد التي تطال النيازك، ويُفجّرُ جداول الصباح المنير مترعة بالرومانسية والقوة الذاتية. وهو الذي أبدع هذا النصَّ الزاخر بالحسّ الرومانسي الرهيف، واللغة الجميلة، والصور الشعرية الرقيقة.

للثقافة العميقة محيطاً شاسعاً، أثرُها في النفس وفي الفكر وفي البصر. في النفسِ فضاءً مشرقاً مفتوحاً على نوافذ عديدة. في الفكر تحليقاً بأجنحة، لا جناحين فحسب. في البصر منفتحاً على آفاقٍ بألوانٍ مختلفة. وعندما تكون الثقافة مستندة إلى جذع شجرة الموهبة والابداع، مدعومة بالقلم والكلمة، عندها نحضى بما يطيب، وبما ينفع، وبما يدهش. وهذا ما التقطناه في مبدعنا الكبير ماجد الغرباوي، المثقف المغرم بالكلمة مكتوبةً متفجّرةً، هو هذا المثقف المتعدد فنون الكلمة، ليبرزَ بحثاً وقصّاً... ثم شعراً.

***

عبد الستار نورعلي

فجر السبت 13/7/2013

.........................

ماجد الغرباوي: مديات حلم

عميقا تهادت أناملُ الشمسِ

تمزّق شرنقة الغرورِ

*

سُلّـمٌ يدي

تفتدي

سنا النيازك

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذُ الطعنات

آلامُها

*

سامقا تعاقرُ آلهة الحب

مترعة جداول الصباح

بذلك الضباب الرومانسي

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذ الطعنات

آلامُها

*

في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلقْ .. فلن تجدَ سوى الريح موطئا

*

تشدكَ ازرارُ اللهفة

وقود حناياك دمي

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذ الطعنات

آلامُها

***

آهات تساقطت، فراحت تـُلملم جـُرحَها،

ولمّا اقتحمت فناءكم، كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا

***

ماجد الغرباوي

5 – 7 - 2013

 

رغم الغربة والمرارة والحنين واللوعة، وأنين الجسد وآلامه، وذكريات الوطن والأمنيات وشوقه ودموعه وأحلامه .. ورغم بُعد المسافات وترامي الحدود، ما زال نجمه لامعاً يتجدد كل يوم في سماء العلم والفكر والمعرفة .. لم تقف قريحته الفذة عند حد، ولم يبخل على طلابه وقرّائه من فيض عطائه. كما لم يمنعنا بُعد مهجره أن ننهل من وحي علمه وفكره المعطاء، ولم يتوان كرمه بدرس او نُصحٍ او ارشاد .. وهذا ما عهدناه من خلال متابعتنا وتواصلنا معه عبر الأثير، أنه استاذي الباحث المفكر القدير ماجد الغرباوي، الذي نبقى نتطلع لرؤيته ولقائه شخصياً، والتزود من فكره وعلمه ومواهبه وعطائه ذات يوم.

الغرباوي .. الاكتشاف

لسنا بصدد استعراض ومناقشة مشاريع الاستاذ الغرباوي وما يتمتع به من آفاق علمية وثقافة واسعة ومواهب فكرية وأدبية عالية بقدر ما نحاول إعطاء صورة ولو تقريبية من وجهة نظر "قارئ" يحاول اكتشاف معالم شخصيته، والتعرّف على ملامح فكره وعلمه،  لاننا نعتقد انه ما زال يكتنز في صدره أكثر مما ظهر في نتاجاته، وأبعد مدى مما طرحه في الساحة الثقافية. ورغم اسلوبه الواضح في مناقشاته ومعالجاته، إلا أن القارئ المتفحّص بامعان يستطيع ان يلحظ  ويلمس، ان هناك مشروعاً آخر لم ير النور. وهناك فكر، وفلسفات، وعلم، ومعارف، واخلاق. هناك أفكار ومشاريع، واشياء كثيرة لا تزال مختزلة في روحه وعقله، لم يُفصِح عنها بعد ! .

ما يشدنا أكثر الى متابعته هو:

فضلاً عن الذكاء والفطنة والبصيرة وبُعد النظر وسرعة استيعاب الرؤية وأحتوائها، هناك الشفافية وعمق التجربة الذاتية وحضور البديهة المثقفة والواعية التي يمتاز بها في رهاناته. اضافة الى قدرته الفائقة على ادارة الحوار، وهي صفة تعكس خصائصه التربوية والاجتماعية، ثم قدرته على حسم الموقف وارضاء الجميع بنفس الوقت.

ومن ذلك الحضور الواثق كدليل بسيط على مستوى فهمه ووعيه المتوقد والمُتجدِد هي ردوده على قرّائه، حيث يتجاوز فيها الصراعات التقليدية والكلاسيكية المعروفة لدى الوعي العام والسائد. وايضا فان استجاباته ومناقشاته تعد تجسيدا بارزا وحيا لاخلاقه الرائدة وفهمه المتطور الخلّاق. ففي ردوده الشفافة والرائعة على من يتعاطى بعاطفة وتشنج وعصبية وأنفعال زائد مع القراءات المخالفة لآرائهم او إعتقاداتهم او أفكارهم، تجد اجابات علمية، فكرية، ثقافية، اسلامية، واجتماعية تنطوي على عشرات الأسئلة المُختزلة "الآنيَّة والمستقبلية"، كل ذلك يطرحه باسلوبه الحضاري وروحه المتفتحه المعهودة بدقَّة وعمق وقوَّة موضوعية وشمولية عادلة وصالحة.

فمثلا، كتب مقالا حول أهمية السؤال كرد على مجموعة من التعليقات، جاء فيه:

(أسس القرآن الكريم منهجا، حالت رمزيته العالية دون ادراك ابعاده، وظل المسلم يعيد قراءة آياته، وهو لا يفقه من معانيه شيئا .

فتحدث القرآن عن حوار دار بين ابليس وبين الباري - تعالى -، ليؤكد لنا ثمة اسئلة مشروعة، من اي جهة صدرت، يجب الاجابة عليها (ولو كان الرب جل وعلا).

كما نقل لنا القرآن الكريم حوارا دار بين الخالق وملائكته، وهم كائنات صالحة دأبها الطاعة، لكن هواجس خلق الانسان استبدت بها، فكانت هناك اسئلة طرحها القرآن الكريم ورد عليها، دون اي قمع او اضطهاد او تهديد، كل ما في الامر أجّل الاجابة بالنسبة لسؤال الملائكة، لان طبيعة الجواب تحتاج الى تجربة عملية .

ثم طرح القرآن الكريم أخطر الشبهات، التي تهدد رسالته، وهي التوحيد، دون اي اكتراث، ونقل لنا اسئلة المشككين، والكافرين والملحدين، والناكرين، وناقشها علنا. قال هكذا كانت اشكالاتهم، وهذه اجوبتنا .

فهل هناك اخطر من مسألة وجود الله بالنسبة للاديان جميعا؟ وما قيمة ما عداها لو اهتز الايمان بوجود الله - سبحانه - او توحيده؟ فلماذا لا يستفز الانبياء من اسئلة المنكرين، والجاحدين؟ وكيف وضعهم القرآن وجها لوجه امام تلك التساؤلات؟ .

لماذا لم يعترض النبي ويقول له يارب، لقد اخطأت التوقيت، انها ستضعف دعوتي، وانا في بدايتها؟ لماذا تقبلها واعلنها على الملأ بكل ثقة ومسؤولية، ورد عليها، وفند حججها .

اذن المنهج القرآني يقوم على شرعية السؤال، وحق الرد، ومنهجه قائم على طرح الاسئلة بشكل شفاف علني، كي يتحمل المسلم مسؤوليته امام اي عمل يقوم به، ويكون مسؤولا تجاه اي رأي يطرحه، لاستحالة قمع الاسئلة، ولا بد من متنفس تطفو من خلاله بحثا عن اجوبة مقنعة . ولولا السؤال لما تطورت الحضارة)1.

لم أقرأ له سوى كِتابَين من مؤلَّفاته: "أشكاليات التجديد" و"التسامح ومنابع اللاتسامح". وانا بصدد إقتناء وقراءة كل نتاجاته الأخرى، وكل ما رفد به المكتبة  الثقافية والاسلامية ان شاء الله تعالى.  لكني تابعت وإطلعت على كتاباته ونقاشاته ومعالجاته وحواراته من خلال مقالاته في أرشيف صحيفة المثقف الألكترونية2 وغيرها من المواقع والصحف.

بكل تجرد وإنصاف: يجد القارئ نفسه وهو يطلع على تراث هذا الرجل امام امكانيات معرفية ثرّة، ومكنونات فكرية اسلامية واجتماعية وأدبية غزيرة تتجدد على الدوام، ويلحظ سيطرته التامة على المطالب المتناولة فكريا وعلميا مع مواكبة متطورة وعصرية. يُلحَظ ذلك في مقالاته وبحوثه ومعالجاته الفكرية والثقافية، بل وغيرها مما يتناوله في نقاشاته او التي يحللها بكتاباته ..

وبحوث الغرباوي تتصف ايضا بالاستقراء الموضوعي الصحيح، وتعدد القراءات لكل حادثة وواقعة يتناولها، والاستيعاب المدرك، والفهم المعرفي الدقيق ضمن ثقافته التخصصية والعامة. وحيادية واخلاقية وموضوعية تامة، وقدرة على بحث ودراسة اي قضية من جيمع جوانبها ومداخلاتها واستنطاقها، وثم المفاضلة في تقييم التنوّع والاشكال وحل الملابسات ودفع السلبيات والمؤاخذات وملاحقة الايجابيات وبلورتها وتبسيطها بصور تتماهى جذرياً او تأسيسياً مع متطلبات المرحلة "الآنية" برؤية مستقبلية، فضلا عن ثقافته التي تتصف بسلاسة الاسلوب، ومرونة في دراسة الحالة او الظاهرة مهما كانت ابعادها شائكة، وتذليلها بدلالات واسعة لايضيق على القارئ أستيعابها وفهمها. فمثلا في بحوثه الاسلامية عندما يقدم الاسلام كنظام يجمع بين التأصيل الشرعي والوعي الواقعي والثقافي بتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، يدرس الغرباوي منهج الإسلام من حيث هو كلي مترابط في القيم والنظم والفكر.

ثم روعة الارتكاز العلمي المؤسس وأدواته المنطقية في الأستقراء والسلوك والفهم تتجلى بوضوح في كل عمليات المعالجة والتشريح المعرفي على طاولة المُفكر الاسلامي المتمرس والاجتماعي المتبحِّر والخبير . كما ان الأسس المنطقية والأدوات الفنيّة والعقلية المنفتحة التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومعالجاته الثقافية والفكرية، تُعد من أهم ركائز وأوليات الاستنتاج "المُبدع والمُبتكر".

الوطن في روح الغرباوي وإيمانه:

ان شعور الانتماء للوطن يتجلى في افكار الاستاذ ماجد الغرباوي  وهو يناقش حالات القلق الحاصل على ارض الوطن. وكان حب الوطن حافزه، من واقع المسؤولية الثقافية والوطنية، في التعاطي بمرونة في نتاجه الفكري. فمن اسهاماته الوطنية الكثيرة التي رفد بها الساحة السياسية والأجتماعية، ثقافة الوعي للجماهير وما تحتاجه لاعادة النظر في سلوكياتها وقيمها الكلاسيكية ومورثاتها المؤججة. وهو يدعو دائما لعدم الانجرار وراء صراعات قبلية وسياسية واجتماعية لاطائل منها سوى زيادة الشحناء والمأساة. ويرى أن هناك دائما ثمة حوار واخلاق وسلوكيات بديلة اكثر قيمة مدنية وحضارية كفيلة باحلال السلام بين الجميع، تعزز لغة الأنسجام واعادة النظر في الصراعات القائمة برمتها. كل ذلك من أجل العمل على ايجاد تسوية دائمة وشاملة تحقق الأمن والسلام، وهي دعوة توكد على حرص وتمسك الغرباوي بالسلام الوطني والاجتماعي كخيار استراتيجى ومنطلق اساسي للتعايش السلمي بين كل اديان واطياف المجتمع على ارض الوطن .

ويحس القارئ ان الخبرة الحياتية والعلمية والاجتماعية موظَّفة بصورة واضحة في طاقات الغرباوي وبرامجه وعطاءاته الفكرية والانتاجية. يتجسد ذلك من خلال دعوته لتوفير ارضية سليمة للتواصل مع هموم المجتمع وأزماته المتراكمة. ودعوته لايجاد حلول قِيَمية مُثلى، من خلال:

- دراسة الواقع السياسي والاجتماعي والديني بصورة جذرية.

- الاسهام في ترجمة الموروث الديني والاجتماعي وفق رؤية اكثر تطورا وانفتاحا.

- البحث عن كل الخيارات المتاحة من اجل توفير فرص للتعايش السلمي والحضاري بين الثقافات والأديان.

وليس من صورة واضحة لتلك المشاعر الوطنية اكثر من خطابه في كتابه "التسامح ومنابع اللاتسامح". حيث يتميّز هذا الخطاب بصلاحيته لكل المجتمعات التي تمر بنفس ما يمر به مجتمعنا العراقي من أزمات. ووفقا لهذا الخطاب، كما يرى الغرباوي، يجب البحث عن سُبل بديلة وخلق وأبتكار أجواء تسامحيَّة جديدة، وبرمجتها معرفياً وحركياً في فضاءات المجتمع، من أجل البقاء وديمومة التعايش السلمي ضمن حياتنا المجتمعية.

الغرباوي مفكرا:

في كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات .. يقول الغرباوي:

(ان ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح او غيابه، فهو في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة اخلاقية تتحكم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية، وهو في رأيها منّة وتفضيل مشروط . قد ينقلب الى ضده اذا فقد رصيده الاخلاقي، وما نحتاجه فعلاً لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهوم يرتكز الى أسس متينة، تتفادى الأحتكاك على خطوط التماس .. لتكريس مفهوم التسامح وفق حاجاته الاجتماعية بعيداً عن المنّة والتفضل والتكرم، فالتسامح هنا حق لجميع الافراد على أساس الاعتراف بالآخر، وحماية لحقوقه، حق تفرضه الحقوق المشروعة لكل انسان في الحرية الشخصية، وحرية الأعتقاد، وحرية التعبير)3.

اذا فهو يدعو الى زرع وبث روح التعايش السلمي بين الأفراد والمكونات، وفق قراءات وأسس متينة جديدة، خلافاً لما هو سائد في الوضع الجاري، كي تتفاعل من خلالها جميع مكونات المجتمع بصورة حضارية اكثر انفتاحا واكثر ديمقراطية.

كما يدعو في خطابه الى غرس حس ثقافي يهدف إلى وعي أمني شامل في نفس وفكر جميع مكونات المجتمع على حد سواء. أي يهدف الى تكوين قاعدة بشرية كبرى من التعاون المدني والاجتماعي، بحيث يسهم ذلك بشكل ايجابي وفعال في تحقيق العملية الأمنية والتعايش السلمي المستقبلي بين الأفراد والمكونات والأديان. وفي هذا المشروع محاولات دؤوبة لانقاذ المجتمع من العزلة والمصير المجهول .

لقد كشف الغرباوي بنظرته حجم المعاناة التي ما زالت تعيشها وترزح تحتها مجتمعاتنا العربية. لذا فالامر بنظره يستدعي تقديم قراءة متأنية لأسس التسامح السائدة في واقعنا المُزري .. قراءة مبنية على دراسة نوعية تشكل قفزة في اخراج المجتمع من أزماته المُتراكمة.

ان بلورة جديدة لتلك الأسس الرخوة وبنائها بانسجام وحذر ستساهم في خلق مجتمع متناغم بمكوناته ونسيجه، يحتقر ماضيه المُخجل ويداوي جروحه بحماس ويلملم شتاته بهمَّة، ويتطلع نحو مستقبل أفضل .

راحت البحوث العلمية والسياسية للغرباوي تسبر الأدبيات والقيم الاجتماعية وتفرزها بموضوعية وتحدد عناصر الأهمية والخطورة والفائدة لهذا الجانب من ذاك في حياة الإنسان والمجتمع . وكان يحذر المجتمعات التي تعيش سباقا محموما في لا وعيها كي لا تجازف في خلق ازمات جديدة، تسلب المجتمع راحته ورفاهيته وقوته ونفوذه.

كما دأب الغرباوي في  بحوثه على تقصي الحقائق التي تعين الإنسان والمجتمع في التغلب على مشاكله، التي هي كالأمراض فتكا بالشعوب، ودعا في بحوثه الى ضرورة فهم الظواهر المتأزمة والمرتبكة ومحاولة تفسيرها ومعالجتها من خلال التعميمات والقوانين الكلية الشرعية والاجتماعية العامة، وايجاد حلول لمشكلات حياة الإنسان والمجتمع وانتشالهما من هذا الواقع الذي يعيشان فيه. والاستفادة من التجارب البشرية، وتحري الموضوعية التي ترفع من مستواه السلوكي نوعاً وكماً، وهو ما يساعد على تطور فكر الأفراد، وتزيد من نسب النجاح التي يتوخاها المجتمع .

لقد أولى الغرباوي البحوث العلمية اهتماماً بالغاً، واعتبرها عاملا استراتيجيا لضمان وديمومة قوة المجتمع والدولة وبقائها فاعلة بين غيرها من الدول. إن الأمثلة على اهتمامات الغرباوي وباقي الشريحة المثقفة والواعية بالتقدم العلمي والبحثي أكثر من أن تحصى، ولكن منذ أن ساءت الظروف وغُيِّب الفكر والمفكرين عن ساحة المجتمع بدأ التراجع في مختلف المجالات وأصبحت الهوَّة بعيدة والفجوة عميقة بين الناس ومجتمعهم .

مشروع الغرباوي الحركي والتجديدي:

التسامح ومنابع اللاتسمح، الضد النوعي للاستبداد، تحديات العنف، و.. ألخ، ليست مجرد مؤلفات شاء تخصص الكاتب تأليفها بدوافع مادية او شخصية او دعائية، وإن كان ذلك من حقه .. ولكن بقدر ما يراها القارئ هي بحوث إنبثقت ضمن مشروع وهدف أعمق وأبعد من مجرد الكتابة. فهناك تأسيس .. وهناك تخطيط .. وهناك برنامج موضوع مُسبق .. وهناك هدف اكبر وأسمى من الآن .. هناك سعي حثيث ملموس . أي أن ما يلمسه القارئ أن هناك شيئا لايستطيع القارئ معرفة ماهيته تحديداً، اكثر من كونه مشروعا ثقافيا حضاريا مؤسسا حتى يأخذ مكانه التربوي في الساحة الاجتماعية والوطنية ودوره الطبيعي في ساحات العلم والفكر والمعرفة، وتساهم في خلق تطور ثقافي جديد بكل المجالات الوطنية والاجتماعية والدينية.

فضلاً عما تقدم يجب ان ننوه بكتاب: "الشيخ محمد حسين النائيني منظِّر الحركة الدستورية " والذي صدر بطبعته الثانية حديثا، حيث اطلعت على توطئته. ففي هذا الكتاب يبين الغرباوي معالم مشروعه الأصلاحي ضمن سلسلة "رواد الأصلاح". وهي سلسلة دورية تعنى بدراسة مشاريع الاصلاح التي نهض بها الروّاد المسلمون، والتي كان الاستاذ الغرباوي يرأس تحريرها وأصدر منها خمسة كتب على نفقته الخاصة، إلا أن هجرته من الشرق الاوسط الى الشرق الأقصى – كما يقول- حالت دون الأستمرار بصدورها. لكن بدأ وهو في مهجره باعادة اصدار ما صدر منها مجددا، حيث صدر منها لحد الان كتابان، نأمل ان يوفق في اعادة اصدار ما تبقى منها.

وقد درس الباحث في هذا الكتاب حياة الشيخ محمد حسين النائيني باعتباره اول فقيه ينظّر للحركة الدستورية والديمقراطية، وينتقد الاستبداد السياسي والديني بعنف. وبما ان حياة النائيني زاخرة بالاحداث والمواقف، لذا اهتم الاستاذ ماجد الغرباوي بشخصيته ومواقفه وفكره فكان هذا الكتاب، الذي قدم رؤية مغايره لما كتب عن الشيخ النائيني، وهي رؤية نقدية صارمة، من أجل الوقوف على الحقيقة في خضم الاحداث التي رافقت النائيني.

نأمل ان يشكل هذا الكتاب رافدا وباعثا حركيا للأصلاح والاستفادة من معينه الفكري. وان يكون مصدرا  للطلاب والباحثين على السواء، أسوة بباقي بحوث ونتاجات الاستاذ الغرباوي التي أغنى بها الساحة الثقافية والاجتماعية والاسلامية والسياسية .

ان افكار الكتاب كما هو واضح من موضوعه وعنوانه وما قرأت عنه، تعد افكارا اصلاحية، وتعكس وجهة نظره ورؤيته بالحاضر والمستقبل وما بينهما من احداث. ان مشروع الغرباوي الاصلاحي اذا ما كتب له النجاح سيساهم في رفد الساحة الثقافية والفكرية، ويقدم معالجات عملية للمشاكل التي تحيط بالمجتمع بسبب الثقافة والفكر والمواقف الخاطئة، خاصة مواقف بعض رجال الدين.

وقبل ان اختم مقالي لا بد ان انوه بجهد الاستاذ ماجد الغرباوي الاعلامي من خلال صحيفة المثقف، التي تركت صدى اعلاميا واسعا بفضل ما ينشر فيها من بحوث ودراسات ومقالات فكرية واجتماعية ونفسية وادبية وسياسية وثقافية. وايضا يجب ان انوه بمؤسسة المثقف، التي كانت رائدة في تكريم الاحياء من الرموز الفكرية والادبية، والرائدة في تكريم كتّابها وكاتباتها. كما لا ننسى مساهمات المؤسسة في طباعة ونشر الكتب، ولعلها المؤسسة الاولى التي نجحت في هذا المجال بفضل جهود الاستاذ الغرباوي حتى اصدرت لحد الان ما يقارب 30 كتابا.

 ***

صفاء الهندي – كاتبة عراقية

....................

1- الرد مقتبس من مشاركة للاستاذ الغرباوي في صحيفة المثقف بعنوان: المثقف وتحديات السؤال

http://almothaqaf.com/index.php/araaa/41398.html

2- http://almothaqaf.com/

3- التسامح واللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، دار العارف، بيروت لبنان، ط 2008، ص11

 

الغرباوي- نحتاج الى ثقافة نقدية صادمة تهز المتراكم في اللاوعي، وتستفز دائرة المقدسات، من اجل استنشاق مفاهيم جديدة تساهم في تطوير الفرد والمجتمع.

- يبقى الاعلام مسؤولية، وعلى من يتصدى لهذه المهنة ان يعي دوره، وخطورة ما يقوم به، على مستقبل الثقافة.

- ماجد الغرباوي: كاتب وباحث عراقي / استراليا، رئيس مؤسسة المثقف العربي، ورئيس تحرير صحيفة المثقف، له 17 عملا مطبوعا، اضافة الى عدد كبير من المقالات والدراسات المنشورة في الدوريات الفكرية والثقافية والمواقع الالكترونية.

التقته بانوراما على هامش الزيارة التي قام بها الاستاذ الغرباوي لمكتب الصحيفة في سيدني، وكان هذا الحوار الذي اجرته معه الاستاذة الاديبة وداد فرحان رئيسة التحرير:

س1: بانوراما: الشرق الأوسط، والعالم العربي يموج بأشكال من التحركات... ثورات شبابية، تمرد، ما الذي يجري؟ هل هذا كله خطوات على طريق التجديد أم خطوات على طريق التغيير، الذي يحتمل التغيير نحو الأحسن أو الارتداد نحو الأسوأ، وما تأثير هذين التغييرين على عالمنا اليوم؟

ج1: ماجد الغرباوي: ما يجري في العالم العربي بشكل خاص والشرق الاوسط بشكل عام، تراكمات انفجرت على شكل مظاهرات واحتجاجات اجتاحت مواقع السلطة في تونس ومصر، وما زالت تزحف لتقض مضاجع حكومات اخرى. لقد سئم المواطن العربي الاستبداد، والدكتاتورية، والانظمة الشمولية. ومل من القهر والتعسف والحرمان والبطالة، ومصادرة الحقوق والحريات ... يريد ان ينعتق، يستنشق الحرية، يتحرر، فغامر بحياته ومستقبله، لكنه ربح الجولة، لا اقل في تونس ومصر، وربما يحقق نجاحات في دول اخرى. كان اصرار الشباب العربي مذهلا، اطاح بعروش محصنة، وبعث الحياة في شعوب المنطقة كلها، وباتت الحكومات تحسب لشعوبها حسابات اخرى.

اما عن اتجاه هذه الحركة الشعبية، هل هي من اجل التجديد ام التغير؟ فواضح ان الجماهير كانت تنادي بالتغيير، وتطمح ان يكون التغيير نحو الاحسن، من خلال اعتماد نظام حكم جديد، يستوعب الساحة السياسية في بلدانهم بكل تناقضاتها، بعيدا عن التهميش والاقصاء، نظام حكم يتمتع فيه الفرد بحرياته، ويؤكد ذاته، وتكون له مشاركة حقيقية، ويشعر بقيمته، ودوره. لقد رفضت الشعوب كل الحكومات الدكتاتورية والشمولية وتنتظر تجارب ديمقراطية تحقق ما تصبو له من مساواة وعدالة وتداول سلمي للسلطة.

اما عن السؤال: هل التغيير نحو الاحسن او الاسوء؟ فهذا يعتمد عما تتمخض عنه التحركات السياسية في البلد، فاذا تحققت اهداف المنتفضين بوجه السلطات الجاثمة على صدورهم، فهو تغيير نحو الاحسن، واذا سرقت الثورة، وعادت الى زبانية النظام باسلوب اخر، فهي انتكاسة، وتراجع.

اما ما هي تأثيرات هذه الحركات، كما جاء في السؤال اعلاه؟ فتأثيراتها كبيرة وواسعة، امتدت الى عمق الساحة العربية عموما، ويكفي مطالعة الاخبار اليومية لتحصي عدد المظاهرات في الدول العربية، وحجم المصادمات بين قوى الشعب وقوى الامن. ولا شك ستشهد الساحة العربية متغيرات كثيرة مستقبلا بفعل ما حصل مؤخرا في تونس ومصر. وحتى العراق البلد الديمقراطي، تحرك الشعب مطالبا بحقوقه، داعيا الى تحسين الحالة المعاشية والخدمات، والمطالبة بمحاسبة المفسدين، وردم الهوة الساحقة بين المسؤولين وغيرهم من ابناء الشعب، ويمكن ان نسمي هذا تجديدا لا تغيرا، كما جاء في السؤال.

س2: بانوراما: في كتابك "تحديات العنف" دعوت الى إكتشاف البنية المعرفية لممارسة العنف من قبل المتطرفين الاسلاميين، والخطاب الديني التكفيري. ونحن نرى مجتمعنا العراقي والعربي والشرقي عموما يشهد عنف وتطرف ديني ومذهبي واضح.. كيف ترى واقع ومستقبل هذه الحركات التكفيرية والممارسات الإرهابية الصادرة عنها؟

ج2: ماجد الغرباوي: مستقبل الحركات التكفيرية يتوقف على مدى وعي الفرد المسلم، وقدرته على تشخيص الواقع. فالفهم التكفيري مرده الى قراءات خاطئة للدين، والنصوص الدينية. وهي قراءات مشحونة بالتأليب ضد الاخر المختلف، وتدعو الى نبذه واستبعاده، والتخلص منه. وهذا النمط من القراءات يتنافى مع سماحة الدين، ومفاهيم الحب والاخاء التي تزخر بها الايات والنصوص الدينية المختلفة.

من هنا نحن ندعو دائما الى تقديم قراءة اخرى للنص الديني، قراءة تأخذ بنظر الاعتبار السياقات التاريخية، واسباب النزول، ومعرفة شروط فعلية النص، والقيود المشخّصة لموضوعه، باعتبار ان فعلية كل حكم يتوقف على فعلية موضوعه، واذا ثبت عدم فعلية الموضوع لاي سبب كان، لا يكون الحكم فعليا، وبهذا المنهج يمكننا فهم ايات الجهاد والقتال، بل وتحيدها، وعدم الاحتكام لها راهنا. وتعطيل مرجعيتها لفهم الواقع كما تفعل الحركات التكفيرية، التي راحت تستند لتلك الايات للحكم على كل من يخالفهم الرأي، عقيديا او مذهبيا، فاستباحوا دماء الناس الابرياء، واباحوا قتلهم، ومصادرة اموالهم. وللاسف كل ذلك يجري باسم الدين، وباسم شريعة سيد المرسلين. وسببه كما تقدم، المنهجية الخاطئة في قراءة النصوص الدينية، والابقاء على اطلاقاتها، وعدم لحاظ المتغيرات الزمكانية والسياقات التاريخية. بينما موضوع تلك الايات، اعني ايات الجهاد والقتال قضايا خارجية محددة، وهم من ناصبوا العداء للرسالة السماوية، واستخدموا القوة والسيف ضدها، فشرعت ايات الجهاد للدفاع عن النفس. ولما انطفأت تلك القوى وانتصر الاسلام بعد انتشاره في ربوع العالم، فليس هناك ما يبرر لاستخدام القوى والعنف ضد الاخر، سيما اذا كان الاخر داخلية، فيكون الخلاف معه اجتهاديا، ليس اكثر. غير ان الارهابيين والتكفيريين، ضربوا كل المبادئ والقيم، وتجاوزوا كل الخطوط الحمراء، سيما قتل النفس المحترمة، التي ردعت الايات الكريمة عن قتلها لبراءتها، واعتبرت قلتها قتلا للناس جميعا، (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً).

مستقبل هذه الحركات، هو الاهمال، والمحاصرة من قبل جميع الشعوب، بعد اكتشاف حقيقتهم. والملاحظ تراجع تلك الحركات وانحسارها، بعد الاعمال الاجرامية التي ارتكبتها في كثير من البلدان، سيما العراق وافغانستان، والدول الاوربية.

يبقى الرهان على وعي الامة، وادراكها لواقع تلك الحركات، وفهم خلفيتها الثقافية والعقيدية.

س3: باوراما: إذا رجعنا ثلاثين سنة الى الوراء كان المشهد مختلفا، كيف "تطورت" الأمور لتصل الى حد يأتي شاب صغير يفجر نفسه بأمر أو بإيحاء من افكار جبال تورابورا؟

ج3: ماجد الغرباوي: يتعرض شبابنا الى غسيل دماغ من قبل بعض رجال الدين، فيندفع شباب بعمر الورود ليفجر نفسه وسط الناس الابرياء، وهو يعتقد جازما، انه على حق، وان عمله سيقربه الى الله زلفى.

المشكلة الاساس ان غالبية الناس تتخلى عن عقولها حينما تصغي لخطيب ديني، والسبب:

قدسية رجل الدين في المجتمعات الشرقية بشكل خاص، وقدسية الخطاب الديني، لانه ينتسب الى الخالق سبحانه.

مصادر الخطاب الديني اما الغيب او التاريخ، والاول قوامه التسليم والايمان، ولا يمكن للعقل البت في كثير من القضايا الغيبية. واما التاريخ، فيحتاج الى منهج مقارن، لادراك حقائه، والغالبية المطلقة من الناس ذات ثقافة متواضع، فتصغي لرجل الدين بتسليم مطلق.

مساحة اشتغال الخطيب الديني هي المشاعر، ومخاطبة الاحاسيس، فتلهب مشاعر الشباب، وتتأجج احاسيسهم، عندما يستعرض الخطيب مستقبل الانسان في اخر وعلاقته بالدنيا.

يقدم الخطيب الديني صورة مجحفه عن الخالق فيصفه باشد اوصاف التكبر والكبرياء والجبروت، وانه رب غير متسامح لايعرف الرحمه، ولا الرأفة، وادواته النار والعذاب، وينتظر مجيئ الانسان ليعذبه، وهي صورة بعيدة عن الحقيقة، تخالف الصورة القرآنية التي تصف الخالق بالرحمن الرحيم، الغفور، الودود.. ثم يجعل المستمع ييأس من كل عمل يقوم به، مهما كانت قيمته الدينية والاجتماعية، لكن يفتح له نافذة واحده تنجيه من عذاب يوم القيامه، وهي الشهادة في سبيل الله، حيث يدخل الشهيد الجنة بغير حساب، اما موضوع الشهادة، فيتحكم في تحديده رجل الدين، وبهذه الطريقه يندفع الشاب لتفجير نفسه، دون التفكير بحيثيات الحكم الشرعي وموضوعه، مستلما لارادة رجال دين، دفعتهم اطماعهم السياسية لتوظيف الدين لخدمة اهدافهم ومصالحهم.

ثم حالة الياس المستبدة بشبابنا بسبب الاوضاع الاقتصادية والسياسية، يعد عاملا اخر يساهم في تورط الشباب، واستلامهم. فالشاب اليائس من الحياة يتمنى الموت، ويمني نفسه بحياة اخرى تعوضه عما فقده في هذه الحياة، فيعتقد ان الشهادة ستعوضه كل ما فقده في هذه الحياة. لهذا يندفع بلا تفكير ارتكاز على هذه المقدمات، التي لا يمكن قبولها بهذا الطلاق.

س4: بانوراما: في كتابك " التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الاديان والثقافات" طرحت مفهوما في غاية الاهمية وهو الاعتراف بالاخر، ولكنك قلت أيضا " لو ترُك الاسلام حرا مع الأقوام والمجتمعات العربية لتمكن بجدارة من تحقيق أهدافه دون اللجوء للقوة". ترى لماذا تراجع الإسلام المتسامح عن أهمية قبول الآخر في الحياة كضرورة ؟

ج4: ماجد الغرباوي: الاسلام لم يتراجع عن التسامح، وانما تراجع المسلمون عن قيم الاسلام. ففي نفس هذا الكتاب اكدنا بالدليل ان لا عقوبة دنيوية على المرتد، وهو الذي يترك دينه ويتجه الى دين اخر، واثبتنا بالدليل القرآني ان العقوبة اخروية، وان عقوبة القتل بالنسبة للمرتد، والتي يتشبث بها رجال الدين لا دليل عليها. وانما هناك روايات لا تصمد امام المنهج النقدي. ثم لنا في كثير من النصوص القرآنية، وغيرها ما يدل على مركزية التسامح في الاسلام، كما في قول الامام علي في وصفه علاقة الانسان باخيه: الناس صنفان، اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق. وفي نهاية كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، عقدنا بابا للايات التي تدعو للتسامح، وتشكل منظومة القيم الدينية نحو الاخر المختلف، وقد عنونا الباب: آيات غيبها النسخ، ادرجنا فيه 61 اية من الكتاب الكريم كنموذج على ذلك. اذن الاسلام لم يتراجع عن التسامح. وانما تآمر بعض المسلمين عليه.

المسلمون تراجعوا عن التسامح، بعد ان اصبحوا فرقا ومذاهب، فصار كل مذهب او فرقة تدعي انها على حق وغيرها على باطل. وصار الجميع يتشبث بحديث الفرقة الناجية، (وهو حديث تتشبث به جميع الديانات، مع اختلاف العدد). والغريب ان المسألة لم تنته بنبذ الاخر المختلف، وانما السماح باستباحة دمه، بعد تكفيره، وهذه نقطة الخطر في حديث الفرقه الناجية، الذي يقول: (تفترق امة 73 فرقة، واحدة هي الناجية ..)، وهو حديث اثبتنا بالادلة عدم صحته في كتابي التسامح، وايضا كتاب تحديات العنف.

س5: بانوراما: الثقافة، كلمة أو مصطلح أصبح له معانٍ كثيرة ويستعمل بصورة شاملة. أين الثقافة ودور المثقف من الذي نراه اليوم على السطح، سيما وانت طرحت في كتابك " الضد النوعي للإستبداد" فكرة الانساق الثقافية والفكرية ودور المثقف في المجتمع؟

ج5: ماجد الغرباوي: محنة المثقف في نفسه ومحيطه، فالمثقف ما زال شخصا نرجسيا، يعيش في عالمه الخاص، وينظّر للواقع من عليائه، فتجد خطابه لوحه متشائمة، تحريضية، ناقمة. المثقف عندنا يؤمن بالنقد والمراجعة، لكنه يأبى ذلك لنفسه، وتنثار حفيظته لادنى نقد، مهما كان موضوعيا. يؤمن بالتغيير لكنه غير مستعد لمعالجة الواقع بنفسه، ويفترض لنفسه مقاما اعلى، من هنا كانت الفجوة عميقة بينه وبين المجتمع. كم يكتب ويتحدث المثقف عن الاستبداد ومظلومية الشعوب لكنه غير مستعد للتوقيع على بيان تضامن مع تلك الشعوب المضهدة.

اما محنته مع محيطه، فان مجتمعاتنا للاسف الشديد لا تفهم دور المثقف، وهو بالنسبة لها شخص متهم بالكسل، والثرثرة، والنفاق، من هنا لم يعد للمثقف دور حقيقي. وهذا لا يعني ان تلك التهم بلا رصيد، وانما مواقف المثقفين سيما من الدكتاتوريات والحكام الطغاة مواقف عكست صورة سلبية عن المثقف. للاسف دائما كان المثقف الى جانب السلطان، يصفق له، يؤيده، يؤلبه، يبرر اخطاءه، يتستر على جرائمه، يدعم سلطته.

دخل المثقفون المبدئيون السجون، عذبوا، قتلوا، ارتقوا المشانق، لكن الشعب لم يثأر لهم، ولم يكتثرت لما حل بهم، والسبب لان نظرة المجتمع للمثقف نظرة سلبية اساسا، ساهم المثقف نفسه فيها.

الان ونحن امام واقع جديد، اقصد في بلدي العراق، كان يفترض ان يكون للمثقف دور فاعل في ترشيد الوعي، سيما وان الشعب بحاجه ماسه له، غير ان فراغ الساحة جعل الشعب يرتمي في احضان رجال الدين، والسياسين، حتى حلت بهم كارثة الفساد، وتضخم الطبقة الحاكمة، وسرقة ثروات الشعب. ولو ان المثقف مارس دوره في اثارة الوعي، والوقوف مع الشعب في ميادين الحياة، لكن الوضع شكلا اخر.

ليس هنا تجني على احد، انظري الى عدد المثقفين العراقين في الخارج، كم مثقف عاد الى وطنه ومارس دوره؟؟ وحتى من عاد، لم يمارس دوره، وانما ظل سجين وظيفته وتملقه لمسؤوله من اجل الحفاظ على منصبه.

اريد ان اخلص الى نتيجه، يجب على المثقف ان يعيد النظر بنفسه، ومكانته، ودوره، وان يتخلى عن النظرة السوداوية، ويتخلى عن دور المعارضه، لينخرط بالحياة العامه، ويمارس دوره في ترشيد الوعي، وانتشال الشعب من ايدي السياسي والديني. واول الخطوات ان تكون كتاباته وابداعاته في شتى المجالات من صميم الواقع، وليس من عليائه، وبرجه العاجي. يجب ان يفهم ان لكل مرحله ظروفها، وآلياتها، وان الديمقراطية التي نتشدق بها لها ادوات، يجب ان نؤمن بها، ولا نتمرد عليها. للاسف ما زال كثير من المثقفين، كما السياسيين، مسكون بالمعارضة، والثورية، بينما في مرحلة الديمقراطية تكون للمثقف وظيفه اخرى، مختلفه تماما.

اما عن ثقافة المجتمع كما جاء في السؤال، فما زالت ثقافتنا، وستبقى لسنوات طويلة، ثقافة طقوسية، مرهونة لارادة رجل الدين والسياسي، ثقافة غير متحرره، من قيودها، ثقافة تحكمها سلسلة مقدسات، تعيق تفكير الانسان، وتشل وعيه واردته.

نحن بحاجه الى ثقافة نقدية، ثقافة تتجاوز الخطوط الحمراء، بعلم ومعرفه واحترام، وتتوغل عميقا في قلب المقولات والثوابت التي تحدد مسار تفكير الانسان. نحتاج الى ثقافة نقدية صادمة تهز المتراكم في اللاوعي، وتستفز دائرة المقدسات، من اجل استنشاق مفاهيم جديدة تساهم في تطوير الفرد والمجتمع.

س6: بانوراما: في الماضي غير البعيد كان هناك مصطلح "أدباء أو شعراء المهجر" كيف حال المصطلح الآن بعد ان كاد يكون أدباء الداخل هم أدباء المهجر، وبعد ان ملأنا القارات بالملايين ومازالوا يتدفقون وبينهم نسبة كبيرة جدا من العلماء والأدباء و..المثقفين؟

ج6: ماجد الغرباوي: دلالات المصطلح سابقا تعني لونا خاصا من الادب، ونمطا محددا من الادباء، وهم مجموع الشعراء الذي يعيشون بعيدا عن بيئتهم الثقافية والادبية، ويستلهمون ابداعاتهم من محيطهم الجديد وغربتهم. وهذا النمط من الادباء سابقا يتصف بعدم الثراء اللغوي (كما يقول النقاد) بسبب الانقطاع عن البيئة الثقافية العربية، وبسب حاجز اللغة مع المحيط الجديد. بل حتى مع اتقان اللغة، لان لكل بيئة طبيعتها وثقافتها المؤثر في الشاعر والاديب.

اما في ظل وسائل الاتصال الحديث، التي صيرت العالم قرية صغيرة، فقد فقد المصطلح دلالاته السابقة، ولم يبق منه الا الاستيطان في بيئة اخرى. لكن ثقافيا ومعرفيا، لم يعد هناك انقطاع، بل ان التواصل كاملا، من خلال القنوات الفضائية، وشبكة الانترنيت، والمواقع الالكترونية، التي تستعرض كل جديد بشكل مذهل، وسرعة التنقل بين بلدان العالم.

ودليلي ان افضل ما نقرأ من الشعر هو لشعراء المنافي، بلغة رصينة، وبلاغة عالية، وصور شعرية متالقة، وبات قراء شعراء المهجر اكثر من قراء شعراء بلداننا العربية، سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار هامش الحرية الذي يتمتع به شاعر المهجر، وقدرته على رسم صورة ادبية بعيدا عن كل التحديات التي تواجه شاعر الداخل.

س7: بانوراما: هل ثمة جدوى من كل هذا الذي نفعله عبر المحيطات في صحفنا المحلية ومواقعنا الالكترونية ومحطاتنا الفضائية؟ هل القراءة تغير ما نراه؟

ج7: ماجد الغرباوي: ما نفعله مهم جدا، وسيتحدث التاريخ عن ذلك، اما بالنسبة الى دول المهجر، فما نقوم به هو رفد للثقافة العربية، والحفاظ على قيمها وتقاليدها، وشد المواطن العربي بثقافته وتاريخه وبلده. كما اننا حلقة وصل بين القراء العرب اينما كانوا، ومن خلال صحفنا ومواقعنا استعاد الكثير علاقتهم باصدقائهم وابناء جلدتهم. كما ان لاعلامنا العربي في المهجر دور اخر، وهو توفير المعلومة للقارئ العربي، كي لا يعيش بلا هوية، او بلا تاريخ، وهذه قضية نفسيه وثقافية، قد لا نشعر بها، لكنها مؤثرة.

واما على مستوى الخارج، فما نقوم به له دور كبير في تعريف القارئ العربي في بلاده بما يدور من حوله. تعلمون ان المواطن العربي يعيش تعتيما اعلاميا، بسبب سيطرة مجموعة من الحكام المستبدين، الذين يخشون الثقافة والمعرفة، ويهمهم ولاء المواطن، حتى لو كان ذلك على حساب مستقبله، ولكي يبقى المواطن على نلائه، فليبقى اميا جاهلا، فقيرا محتاجا.

ما حصل من ثورات شعبيه، كان حصيلة عمل دؤوب لمواطنين عرب يعيشون خارج بلدانهم، لكنهم استغلوا وسائل الاتصال الحديث لبث الوعي، وايصال المعومات، مما شجع ابناء الداخل على التواصل معهم، فكانت ثورات شعبية حققت الكثير على طريق الحرية، ونأمل ان تحصد الشعوب ثمرة تضحياتها.

س8: بانوراما:  أستاذي العزيز أريد تفاصيل أكثر...لماذا ضاقت بنا الدنيا؟

ج8: ماجد الغرباوي: انما تضيق الدنيا الاستاذة وداد العزيزة عندما يعم الظلم، والاستبداد، وبلداننا من اغنى دول العالم من حيث الثروات، لكن شعوبنا تعيش الفقر والعوز، والظلم، والقهر... قارني بيينا في استراليا وبينا اهلنا في العراق:

اي البلدين اثرى؟ العراق بحر من الخيرات...

اي الشعبين أسعد؟؟؟ الشعب الاسترالي، حتى اظهرت بعض استطلاعات الرأي العالمية، ان الشعب الاسترالي اسعد شعوب العالم.

لماذا؟؟ من حقنا ان نسأل دائما لماذا؟

اولا: ان جميع افراد الشعب مكفول اجتماعيا وصحيا، والعاطل عن العمل يتقاضى راتبا يسد حاجته ولو كفافا، الى حين يحصل على فرصة عمل.

ثانيا: نظام ديمقراطي، ليبرالي، وانت تفهمين ما اقصد عملا، لا مفهوما، يعني: تداول سلمي للسلطة، حرية مطلقة، لا حدود لها سوى حرية الاخر، واحترام القانون.

ثالثا: تسامح حقيقي، على مستوى الدين والثقافة، حتى نقل ان في منطقة اوربن في سيدني فقط، توجد 40 لغة!!! يعني 40 دينا، و40 ثقافة، لكن لا احد يكفر الاخر، ولا احد يتأثر بالاخر، بينما تجد شعوبنا احدهم يكفر الاخر، ويستبيح دمه، لذا حلت كوارث بالشعب العراقي لم تحل بشعب اخر، لان المجرمين القتلة التكفيرين اسبتاحوا دماءهم، فراحوا بمساعدة اعوان النظام السابق يقتلون الناس بالجملة.

رابعا: مستوى الخدمات، تحلم به دولنا العربية كلها، مع ان استراليا ليست نموذجا في ذلك، غير ان اصرار الحكومة، على مواصلة العمل لتطوير البلد، له مصداقية عالية. بينما تجد العراق مثلا منذ 8 سنوات، وما زال يعاني من ابسط الخدمات، واهمها وهي الماء والكهرباء، ولم تستطع الحكومة توفير الحد الادنى حتى انتفض الشعب بوجهها.

خامسا: الشفافية التي تحكم الاوساط السياسية والثقافية، فلا يمكن لاي حزب ان يطرح شعارات غير قابلة للتطبيق، وعندما يطرح شعارا يعلم ان الشعب سينتخب لاجل هذا الشعار ويحاسب عليه مستقبلا، فمالم يكن قادرا على تطبيقه عملا، لا يتبناه، بينما تجد السياسي عندنا يضحك على الشعب.. لو تذكرين البرامج التي طرحتها الاحزاب السياسية في ابان الانتخابات، وتتذكرين كيف كانوا يسطرون الوعود، حتى ان احدهم قال انه مستعد لتوفير الكهرباء لجميع انحاء العراق خلال سنتين!!!

الشعب هنا يحاسب الاحزاب السياسية والمسؤولين، وليست هناك مجاملة، هفوة بسيطة لرئيس الورزاء (كفين راد) وهو شاب في مقتبل العمر، وحصل على نسبة عالية من الاصوات الا ان حزبه عزله فورا، حتى انه لم يعلم بالعزل مباشرة. بينما المسؤول عندنا يقاتل من اجل البقاء، مهما كان حجم الاخطاء التي يرتكبها، لانه لا يحترم نفسه ولا يحترم شعبه، بل يخاف الشعب. غير ان الانتفاضة الاخيرة سوف تجعلهم يعيدون النظر بكل شي، ويحسبون للشعب حساب اخر.

س9: بانوراما: أنت صاحب صحيفة "المثقف" الالكترونية، هل تعتقد أولا ان الصحف الالكترونية أخذت تهدد الصحافة الورقية؟

ج9: ماجد الغرباوي: الصحف الالكترونية اثرت كثيرا، لذا لا تجد صحيفة ورقية الا والى جانبها صفحة الكترونية. لانها اسرع انتشارا، الا ما ندر.

اما ان الصحف الالكترونية تهدد الصحف الورقية؟ انا لا اعتقد ذلك، رغم انها حجمت الصحف الورقية، لسبب بسيط، ان درجة التوثيق في الصحف الورقية كاملا، بينما لا يمكن توثيق الصحف الالكترونية، ومهما كانت الاجراءات الاحترازية، هناك برامج تفتح الصفحة، ويمكن التلاعب بها، الا بالتصوير، وهي عملية صعبة. وهذا الشيء لا يحصل في الصحافة الورقية، وما ينشر بها يبقى ثابة ما بقى الورق

س10: بانوراما: هناك اتهام قائم للصحف الالكترونية بكونها ساهمت في إشاعة نمط الثقافة الاستهلاكية والسطحية، وتسويق الاسماء الهابطة التي وجدت في مجانية النشر في مواقعكم طريق سهل للبروز والانتشار؟

ج10: ماجد الغرباوي: هذا الكلام لا يخلو من الصحة، لكن يبقى لكل صحيفة ضوابها بالنشر، كما ان لمهنية القائمين على الصفحة اثر كبير على مستواها ثقافيا وادبيا. تشاهدين احيانا ان بعض الصحف لا تفهم اي شيء من المهنة، وتنشر كل شيء. وبعضها يتقصد تسويق الاسماء الهابطة، والثقافة الرديئة.

يبقى الاعلام مسؤولية، وعلى من يتصدى لهذه المهنة ان يعي دوره، وخطورة ما يقوم به، على مستقبل الثقافة. لذا نحن مع الصحافة المتزنه، التي تراعي ضوابط النشر، وتحترم الرأي الاخر، وتتيح هامشا كبيرا من الحرية، لكن بلا تجاوز واعتداء، وانما تتحول الى فضاء معرفي تتلاقح فيه الافكار.

س11: بانوراما: كيف تٌقّيم التعددية الثقافية في استراليا؟ هل فعلا كانت الأداة الفاعلة للنظام الديمقراطي الاسترالي في بناء مجتمع متوازن ومتناغم؟ ولماذا فشل العالم العربي في ان يفهم ويحترم التعددية الثقافية خصوصا في البلاد العربية التي فيها قوميات وألوان عرقية أخرى؟

ج11: بانوراما: لا اخفيك سيدتي الكريمة، اني مندهش بالتعددية الثقافية في استراليا؟ طالما تأملتها، وكلما اتأملها اتذكر قوله الرسول ص اختلاف امتي رحمة، بالفعل، ان الاختلاف في استراليا كان اداة للتكامل، وتطور المجتمع، ورقيه، فهو مجتمع انساني، لا يتعامل على اساس قومي او ديني او مذهبي. والدين يتوارى خلف ستار من القيم الانسانية. بينما الاختلاف في بلداننا كان سببا لاستباحة دماء الناس، بعد تفكيرهم.

الحياة هنا تقوم على اسس انسانية، والحياة في بلداننا تقوم على اسس دينية، او مذهبية، او قومية. والدين بفهمه المبتسر دينا مفرّقا، دينا لا يلامس حقيقة دين الله، وانما هو دين عصبة من رجال الدين، وفهما بشريا، يمارس الاقصاء والتهميش.

واضح التوازن في المجتمع الاسترالي، عكس ما تشاهده في مجتماعاتنا، التي تلهج بذكر الفوارق القومية والدينية.

والتوازن في استراليا يعود لسببين او ثلاثة، اولا ثقافة التسامح، وعي المجتمع، ورقابة السلطة.

القانون هنا صارم مع اي شخص يمارس تفرقة عنصرية او دينية، وجزاءه عقوبة قاسية جدا. وايضا لثقافة الشعب دور اساس في تبني تلك القيم، وعدم التفريط بها. احب اذكر قصة على التسامح الديني هنا. صديق ولدي حيدر، استرالي كاثوليكي، وابوه احد موظفي الكنيسة، وبالتالي فهي عائلة متشددة دينيا، ومحافظة. غير ان الابن تزوج من مسلمه ماليزية، واشترطت عليه ان يسلم، فاقتنع الشاب، واسلم وذهب الى ماليزيا وحيدر كان حاضرا في جميع المراسم هناك، التي تمت بالمسجد الماليزي، وعندما عادوا الى استراليا استقبلهم الاب والام بالترحاب والاحضان، فأي روح شفافه متسامحه هذه؟؟؟؟ ونحن لا نطيق الجلوس مع ابن ديننا، المخالف لنا مذهبا، على مائدة واحده خوفا من سريان نجاسته الينا!!!. بل ونحذر ابناءنا منه.!!!!!

***

حاوره: الأستاذة وداد فرحان

رئيسة تحرير صحيفة بانوراما الورقية في سيدني - أستراليا

12 – 12 – 2012م

 

قراءة في كتابه: (التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات)

عانى المسلمون والفكر الاسلامي ومنذ بدايات التأسيس في  القرن الاول الهجري من إشكالية الفهم الشكلاني للنص المقدس... ومنذ بواكير تشكل الفكر الاسلامي أنتبه الإمام علي عليه السلام الى هذه الاشكالية في قوله ان القرآن الكريم حمال أوجه .. وفي صراعه (الفكري) مع الخوارج قال قولته الشهيرة (كلمة حق يراد بها باطل) ردا على قول الخوارج (إنما الحكم لله لا لك ياعلي..) في إشارة الى  إن النص المقدس قد يؤخذ في غير مظانه ومقاصده..

فكل الايات الكريمة نزلت ضمن سياقات تاريخية معينة وانطلاقا من حاجات ملحة فرضتها ظروف تلك المرحلة (مرحلة البعثة والوحي..) .. وإذا كانت آيات السيف والقتال تترى في السور المدنية. فإن آيات الرحمة والسلام والتسامح والقبول بالآخر المختلف تؤطر كل السور المكية.. بل أن  الكثير من السور المدنية نزلت ايضا  لتنظم الشؤون الادارية والاجتماعية للمجتمع الاسلامي الجديد.. وإذا عرفنا ان البسملة في كل سورة تعتبر آية من آيات الذكر الحكيم. لوجدنا ان توكيد الرحمة تأتي في مقدمة كل سورة (الله الرحمن الرحيم..) لكن منابع اللاتسامح انما تأتي من التفسير الشكلاني لآيات السيف وعدم وضعها في سياقاتها التاريخية ..

كتاب الاستاذ الباحث ماجد الغرباوي (التسامح ومنابع اللاتسامح،، فرص التعايش بين الاديان والثقافات) والصادر في طبعته الأولى عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.. يبحر عميقا في استكناه جذور إشكالية ضمور البعد التصالحي والتسامح بين معتنقي الديانات المختلفة في العالم المعاصر. والاثار المدمرة على الانسانية جمعاء في تكريس فلسفة التناشز بين معتنقي تلك الديانات.. وإنطلاقا من حقيقة ان المؤلف احد دعاة التنوير من المفكرين الاسلاميين فقد ركز في كتابه على ما يمكن ان نسميه بالنقد الذاتي . ليضرب المثال للآخرين في نقد الذات قبل تحميل كل طرف مسؤولية ما يحدث على الطرف لآخر.

فيقول (لسنا في صدد خطاب ايديولوجي تبريري يمارس التضليل بإقصاء الحقائق ليلقي بتبعية الاخطاء التاريخية على الاشخاص دون الافكار، او يتهم المسلمين لتبرئة العقيدة والدين، وايضا لانتهرب من الاشكاليات النصية او الممارسات السلوكية، انما قررنا مواجهتها بجميع تفصيلاتها...)..

ان شجاعة المواجهة والمكاشفة مع الذات قبل المواجهة مع الاخر تشكل حجر الزاوية في مؤلف الاستاذ الغرباوي الذي يعد من الكتب نادرة المثال في النقد الذاتي الاسلامي وصولا الى تنقية الفكر الاسلامي ذاته وإعادته الى اصول مقاصد الشريعة. لا التخريجات المخربة التي الصقت بالمسلمين قسرا لاسباب متعددة من بينها قصور المسلمين انفسهم في فهم المقدمات الصحيحة التي انتهت الى نتائج غير صحيحة فقدمتهم الى العالم على غير صورتهم والصقت بهم تهم الارهاب والكراهية ونبذ الآخر المختلف في عصر دخلت فيه البشرية الى مراحل متقدمة من تكريس قيم المحبة والتسامح والقبول بالآخر المختلف مهما كانت عقيدته ورؤاه..

ان الفكر المعاصر ينتهج نهج الحرية الشاملة في حرية الاعتقاد، لكن هذه الحرية مشروطة بعدم التجاوز على حرية الاخر في فهمه وتصوراته عن الوجود.. فمن باب اولى ان يكون المسلمون سباقين الى تبني هذه الرؤية المتقدمة على غيرهم لا العكس..

في الفصل الاول يجري الباحث مقاربات تمهيدية كثيرة ليؤصل فكرته في انسانية الفكر المحمدي.. وغربة المفاهيم التكفيرية عن روح النص المقدس انطلاقا من الاعتراف بوجود الاختلاف بين البشر وحتى بين اتباع الدين الواحد وانطلق من المجتمع العراقي كمثال.. ولكن.. (ثقافة التسامح واشاعة قيم التعايش والتعددية تطمح الى خلق اجواء لاتسمح بإنقلاب الإختلاف الى معارك دامية وانما تبقى وجهات نظر محترمة في إطار القانون وحرية الرأي والتعبير) ــ صفحة 15ــ..

tasamoh2

يقول الاستاذ ماجد ( التسامح لغة: مشتق من السماحة أي الجود والمسامحة المساهلة..).. ثم يقول ( ويراد بالتسامح اصطلاحا موقفا ايجابيا متفهما من العقائد والافكار يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الاحتراب والاقصاء، على اساس شرعية الاخر المختلف دينيا وسياسيا) صفحة 17

ويؤكد ان التسامح لايعني التنازل عن قناعاتك الفكرية والعقيدية نزولا عند رغبة الاخر . ولا هو انصياع للآخر ولا تبعية ولا رضوخ.. بل هو الاعتراف بحقوق الاخر مثلما اطلب منه ان يعترف بحقوقي. لاتكرما ولامنة.. وانما حق باعتبار تعدد الطرق الى الحقيقة (لانسبية الحقيقة وهذا رأي آخر..)

. مادامت الحقيقة موجودة (بمعنى محتملة) لدى لجميع.. فمن الاولى التعايش ..بينهم لا الإحتراب ..

ويستعير من المفكر الايراني الدكتور عبد الكريم سروش قوله (لا التشيع هو الاسلام الخالص والحق المحض ولا التسنن، على الرغم من ان اتباع هاتين الفرقتين لايرون هذا الرأي فيما يخص حقيقتهم، لا الاشعرية حق مطلق ولا الاعتزال... لاكافة المسلمين منزهون ولا جميع النصارى.. الدنيا غاصة بالهويات غير النقية، وليس فيها حق صراح في جانب، وفي الجانب الاخر باطل محض).. من هنا ان التعصب لاينتج الا تعصبا مقابلا.

لاموجب بعدئذ للتعصب او الشعور بالمنة والكرم والفوقية حين يقبل التعايش. وانما يجب عليه ذلك..

تخطر في بالي وانا  أمعن النظر في رؤى الاستاذ الغرباوي المتقدمة العميقة بهذا الشأن  أمثولة ضربها عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في قصور الفهم الانساني لمقاصد التشريع المقدس...

تتلخص الامثولة بقصة رجل مفترض عمل كمساعد لطبيب.. لاحظ المساعد ان هناك تناقضات في وصفات الطبيب الماهر. منها انه يحذر احد المرضى من اكل اللحوم الحمراء. في حين يشجع مريضا آخرا على الاكثار منها...

ان رؤية المساعد القاصرة قادته الى الظن ان الطبيب يخدع مراجعيه. دون ان ينتبه ان مرض فقر الدم مثلا يتطلب الاكثار من تناول الكبدة وان داء الملوك مثلا يتطلب الامتناع عن تناولها..  يقول الدكتور الوردي إن الايات القرآنية نزلت في وقتها تعالج كل حالة وفق ظروفها وإن الاصرار على الأخذ بها في غير موضعها يشبه اصرار المساعد على  سوء الظن بالطبيب.

إن مقاصد الدين الاسلامي كلها تصب في صالح التسامح والمحبة والاعتراف بالاخر المختلف واحترام حقوق غير المسلمين وان وردت آيات كريمة لا تنحو هذا النحو. وتحض على القتال فلأسباب تتعلق بظروف مرحلة عاشها المسلمون الاوائل تتعلق بتهديد حقيقي اكتنف كل غزوة..ولها تخريجاتها ومقدماتها ونتائجها الصحيحة. وإن الأخذ بها في غير موضعها ينقلب وبالا على المسلمين قبل غيرهم..

في الفصل الاخير يورد الاستاذ ماجد الغرباوي. تحت باب نصوص خالدة. عشرات الايات الكريمة والاحاديث الشريفة التي تتضمن الرحمة والتسامح والعفة عن الايغال في الكراهية والتباغض منها على سبيل المثال..

(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم..)

(وقولوا للناس قولا حسنا...)

(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله أمره..)

(لا إكراه في الدين..)

(ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله..)ــ لاحظ.. فعل الامر. لا تسبوا. هنا نهي عن الشتم... فكيف بالقتال.؟؟ والتنزيل الحكيم هنا يتحدث عن الكفار لا اصحاب الديانات السماوية..(سلام..)..

(فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب)..

(ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)

(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن..)

(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

(لكم دينكم ولي دين..)

هذه شذرات مختارة من بين مئات الايآت الكريمة التي تحض على التسامح والتفهم والصبر اقتبسناها من اقتباسات الاستاذ الغرباوي في كتابه القيم..

ومن بين اهم مصادر اللبس في فهم مقاصد التنزيل المقدس الفهم المتطرف لموضوعة النسخ والتي غالى الفقهاء على مر العصور في الخوض فيها حتى اخروجها عن غاياتها . فقد درس الاستاذ الغرباوي بعناية تلك الملابسات في فهم النسخ في القرآن الكريم وضرب مثلا في نصوص غيبها النسخ وفق منظور مجموعة من الفقهاء توسعوا في فهم النسخ كأبن حزم الاندلسي على سبيل المثال في اعتبار ان آيات السيف نسخت آيات الرحمة . وتلك اشكالية خطيرة وقف عندها كتاب الاستاذ ماجد الغرباوي طويلا ليخلص الى حقيقة مؤداها ان النسخ شل حركة نخبة من أرقى الايآت إنسانية وتقدما ورحمة. وإن الوقوف عند آيات السيف دون آيات الرحمة إجحاف بحق النص المقدس وينبغي احياء الايات التي جمد فاعليتها الفهم المبتسر للنسخ لتساهم في خلق مناخات تساعد على سيادة ثقافة التسامح والاخاء والوئام والعفو والرحمة والمغفرة لا العكس.. وليس  كما يفعل متطرفوهذا العصر من تكفيريين وجهلة يسيئون الى الاسلام والمسلمين بعلم وبغير علم..في تقديم الكراهية على قيم المحبة ..

إن نسخ مئات النصوص بسبب نص واحد نزل بعدها ينفي عن القرآن الكريم صفة الشمولية في فهم الحياة وسبل إدارتها صوب الارتقاء.. والكيل بمكيال عصور كان  بعض الفقهاء فيها تبع لحكام مغامرين  اغرتهم الفتوحات في زمن غادرناه وانتهى وصار في ذمة التاريخ... فقدموا السيف على الرحمة..انتهاك خطير لمنظومة القيم الانسانية الراقية في الفكر الاسلامي..

لقد ثبت الكتاب اربع قيم اساسية في الاسلام كما وردت في نصوص ثابتة معتبرة

هي، الرفق، الحلم، العفو، والرحمة..

في الختام نحيي الاستاذ الباحث ماجد الغرباوي على هذا البحث القيم الجليل ولا نملك الا القول ان النصوص القرآنية تتطلب تمحيصا دقيقا لأنها لا تسلم معناها الا وفق مفاتيحها. ومفاتيحها الحدس السليم والفطرة الانسانية الطيبة. (الاسلام دين الفطرة..) والفطرة سمة الحياة لاسمة  الموت. والحياة لا تنمو الا بالمحبة ..

وإذا كان قلب (حدس) المؤمن دليله. فإن حدسنا يقول ان الرؤى التي أتى بها الكتاب تصلح ان تكون دليل عمل لبناء عالم جميل خال من الحروب..

*** 

سلام كاظم فرج - العراق

أديب وناقد

قليلون هم في عالم اليوم من يدخل الى قلبك المسرة والبهجة .. ونحن ما احوجنا الى هؤلاء القليلين، الذين يضحون بساعات راحتهم وصحتهم وصرف ما هم بحاجة اليه من مال انتصاراً الى الثقافة والمثقفين على اختلاف رؤاهم مشاربهم لإدخال البهجة والسرور على قلوبهم لجعلهم يشعرون بأهمية الحرف وفعله المؤثر، والأخ الاستاذ ماجد الغرباوي مؤسس ومدير مؤسسة المثقف هو واحد من بين هؤلاء القليلين الذين يستحقون ان نقول لهم شكرا يا رجال ..فعمله الدؤوب على حساب صحته في هذا الصرح الثقافي المميز ذي السمعة الطيبة بين مختلف المثقفين يتطلب منا وبصوت عال واضح ان نقول له شكرا انك ادخلت السرور الى قلوبنا وهذا لا يحتاج الى دليل او براهين على مصداقية قولي هذا ..

فهو الاديب الواعي وصاحب القلم الحر الشريف الذي رعى وما زال يرعى كل المثقفين من خلال نشر كل الكتابات التي لا تخالف ضوابط النشر على صفحات المثقف من غير تأخير أو محاباة وتكريمهم التكريم الذي يستحقون ......

إن تكريمي بجائزة المثقف 2012 بمناسبة يوم المثقف 6 – 6 كان بحق عملا جعلني في غاية الامتنان والعرفان للسيد الغرباوي وجعلني امام مسؤولية الحفاظ على اسباب منح هذه الجائزة ....... قلت أن هذا التكريم أدخل السرور في نفسي لكن عندما تلقيت الدعوة لحضور الحفل المقام لهذا الغرض في قاعة الجواهري في اتحاد الادباء في بغداد يوم الاثنين 8-10-2012 حيث اتاح لنا هذا لقاء احبة ترتاح وتطيب النفس لرؤياهم كانت الفرحة لا توصف :

23

موسى فرج الشخصية المعروفة بالصراحة وقول الحقيقة يتصل من السماوة انه قادم صباح الاحد 7-10 وان الغداء سيكون عند الاخ سلام كاظم فرج في المسيب

الاديب حميد الحريزي هو الاخر كان برفقة الاخ موسى فرج .... سلام كاظم فرج كان ينتظر وصولنا وعينه على الساعة

في الواحدة من بعد الظهر من يوم الاثنين 8-10-2012 وصلنا الى قاعة الجواهري في اتحاد الادباء في بغداد القاعة التي ازدانت بالاخوة الحاضرين .. التقينا كل الاخوة المكرمين والاخوة الذين حضروا للحفل، اعضاء اتحاد الادباء علت وجوههم الفرحة وهم يساهمون في احتضان هذا الحفل الذي بدأ بكلمة الاديب الفريد سمعان الذي رحب بالحاضرين متمنيا للعراق العزة والمنعة وللحاضرين التألق ودوام الصحة ...بعد ذلك قرأتُ على مسامع الحاضرين كلمة السيد ماجد الغرباوي مدير مؤسسة المثقف ثم توالت الكلمات وقرأ الدكتور ناصر الأسدي قصيدة جميلة صفق لها الحاضرون ...الاغاني العراقية التراثية هي الاخرى شنفت اسماع الحاضرين

كم كنت سعيدا وانا ارى هؤلاء الاحبة ..... كل هذا لم يحصل لو لم يكن هناك شخص الاخ الكريم ماجد الغرباوي الذي اتاح لنا المساحة الواسعة لكي نتعرف على بعضنا البعض رغم بعد المسافات ....

كل الشكر والتقدير والاحترام لأخينا ماجد الغرباوي متمنين له دوام الصحة والعافية وان يأخذ الله بيده لما فيه المنفعة والخير ......

 *** 

حمودي الكناني - أديب وكاتب

لعل اختياري لهذا الكتاب مبرره ما نعيشه من تحولات اجتماعية وسياسية، بعد الثورة وظهور عنف جديد، يتمثل في بروز الفكر الجهادي، وبعض نواتات الإرهاب. وهو في الحقيقة نتاج دكتاتورية استبدادية. لذلك ارتأى الباحث أن الخطوة الأولى تقتصر على ضخ سيل من الثقافة النقدية القادرة على النفاذ إلى أعماق اللاوعي لتفكيك البنى المعرفية القديمة وتأهيلها لاستقبال نمط فكري وثقافي جديد يعمل في إطار قيم التسامح. وأن يطال الخطاب النقدي جميع البنى الاجتماعية وعلى كافة المستويات.

فالنقد يتوجه نحو تفكيك مفاهيم اللاتسامح والاستبداد المتجذر في اللاوعي، بدءا من تفكيك مفهوم الأب لكي لا يبقى أب الأسرة / رجل الدين/ المفكر / السياسي / المثقف يفترض لنفسه سلطات اجتماعية وأخلاقية غالبا ما تكون قمعية استبدادية. فالخطاب النقدي مدعو للتوغل داخل هذه المفاهيم لتفكيكها بعد تحديد الأسس التي قامت عليها ومعرفة المرجعيات التي استندت اليها. هل مصدرها بشري أم الاهي ؟ اجتماعية أم سياسية؟ أعراف وتقاليد أم مصاديق دينية أو غير ذلك. وذك لكي لا يقبع النظام الأبوي في كل زاوية وكل مكان. كما أن تلك السلطات تفاقمت حتى أصبح المجتمع وفق بعض الرؤى الأبوية أفرادا قاصرين بحاجة إلى الرعاية والأبوة، ويجب إدارتهم وتدبيرهم، ويفرض عليهم الأمر والطاعة والامتثال، وإلا فالعقاب في الدنيا واللعنة في الآخرة لكل من يتمرد على سلطة الأب.. وبالتالي يجب العمل على استتباب قيم تقوم أساسا على رفض القمع والاستبداد والاعتراف بالآخر وإن كان مختلفا..

كيف نتصور قيام مجتمع متسامح في ظل خطاب تكفيري يعتبر المجتمع الإسلامي الراهن مجتمعا جاهليا تجري عليه أحكام الجاهلية؟ هذا النمط من الخطاب ينتج حركات إسلامية متطرفة تبيح قتل المسلمين. لنفهم أن كل خطوات قيام مجتمع متسامح تبدأ من العقل، تبدأ من نقد الأنساق المعرفية، تبدأ من نقد العقيدة، والفكر، والثقافة ليصار إلى فهم بديل للدين والحياة والمجتمع يساعد على استتباب قيم التسامح. إذ السلوك والأفعال الخارجية والمواقف لا تصدر إلا عن فكر مؤسس داخل العقل، ولا تنطلق إلا في ضوء المفاهيم ومقولات متجذرة في اللاوعي.

ويرى الباحث بأن إرساء أسس التسامح يؤهل المجتمع لاحتضان قيم التسامح وتبدأ من حقوق المواطنة، قإذا كان المجتمع غير مهيء نفسيا وفكريا وثقافيا للاعتراف بالآخرين لأي سبب كان، فإن قبول الآخر وقبول التعايش معه تفرضه وحدة الوطن، من أجل استتباب الأوضاع واستقرار الأمن والسلام. من هنا تكون حقوق المواطنة إحدى الأسس الكفيلة بإرساء ثقافة التسامح داخل المجتمع ولو بشكل مرحلي. ولكن كيف يقع استخلاص بين الولاءات بحيث يبقى الولاء للوطن متقدما للحفاظ على وحدته وانسجامه وتجانسه في إطار المواطنة. 

ولاء الوطن، بمعنى الولاء إلى قوانين البلد إذا كانت قوانين تعبر عن إرادة الشعب وتضمن حقوق الجميع بشكل متساو. كما تستطيع النخب السياسية والدينية التوافر على قواعد شعبية تصل من خلالها إلى فرض إرادتها بشكل قانوني، لكن لا يحق لأي أحد التمرد على القانون واستخدام العنف للوصول إلى أهدافه، لأنه كما هو مفترض قادر على تحقيق ذلك بالطرق السلمية دون اللجوء للقوة والعنف. ولتكريس قيم التسامح لا بد إذن من سيادة القانون فهو الأساس الثاني لقيم التسامح بعد المواطنة.

وإذا اقتضت مصلحة الوطن تشريع قدر من الحرية الشخصية يتنافى مع قيم الدين الحنيف فما هو العمل؟ وهل يبقى وفيا لقرارات الدولة أم يتخلى عنها لصالح الدين وأحكامه الشرعية؟ ..إذا كان الحكم منتخبا فإن القانون هو الذي يوجه حركة المجتمع والسلطة وينظم الحريات ويوفر الأمن ويحمي المواطنين على تنوعهم واختلافهم. وحينما يسمح القانون بهذا الحجم من الحرية، يسمح بها وفقا صلاحيات ممضاة من قبل الشعب نفسه، فيكون هو المسؤول عن ذلك وعليه أن يتحمل تداعيات اختياره.

*** 

هيام الفرشيشي - تونس

 قاصة وكاتبة

 

سأبدأ من عتبة العنوان:

 (وانشقّ القمر):

يعتبر العنوان بوابة يدخل منها القارىء الى جسد النص القصصي وعلى الناقد تناول عتبة العنوان قبل الغوص والابحار في بحر الكلمات لكن عليه الحذر كي لا يسقط في فخ القاص ومضمراته من اطلاع وبحث، وقد يتيه أحيانا اذا لم " يضبط ايقاع العنوان فتنفلت من بين يديه فيكون ظالما للقاص وللعمل القصصي لأنه سيضطر الى تقويل النص أشياء لا يريد قولها " (1) ولا يفهم من كلامي أنّ العنوان يجب أن يكون مباشرا يعرّف بالنص ويكشف جوانبه من أول وهلة، لكن أهميته لتوضيح العلاقة التي تجمع العنوان بالنص بوظائف مشتركة بينهما، منها وظيفة العنوان السيكولوجية، حين نعتبره محفّزا يستنهض القارىء ويثير تساؤله وانتباهه وأحيانا يستميله اليه، ومن وجهة أخرى هناك الوظيفة السوسيولوجية حين تحدث المفارقة ويصدم العنوان القارىء حين لا يتوافق مع معتقداته وأيديولوجياته

" جيرار جينيت "يعتبر العنوان علامة تميّز الكتّاب وتبيّن مجال اختصاصه، وما دام العنوان كذلك فيمكن ربطه بمجال الاشهار والتسويق فالكاتب يختار عناوين براقة أو مؤثرة تسترعي اهتمام القارىء وتشدّ انتباهه وتحرك فيه المضمرات الكامنة في اللاوعي " (2) . والعنوان قد يثير في المتلقي رغبة  التأويل والبحث الجاد عن الخيط الذي يربطه بالنص وتختلف طبعا القراءات وتوجهات القراء ..!

انشق القمر: وانشقاق القمر من المعجزات التي أيّد الله بها نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، معجزة انشقاق القمر الى شقّين، حين رأى بعض الصحابة جبل حراء بينهما، وقوع هذه المعجزة كان قبل الهجرة النبوية عندما طلب كفّار مكة آية تدلّ على صدق دعوته ففي الحديث " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما "وهو متفق عليه وعن " ابن مسعود " رضي الله عنه قال: "انشق القمر على عهد رسول الله فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله اشهدوا " متفق عليه وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لقد رأيت جبل حراء من بين فلقيّ قمر" .

انشق القمر كعنوان للقصة: دال على منجز القصة ورمز لمعجزة انشقاق القمر وهي احدى علامات الساعة التي حدثت ففي الحديث الصحيح: " خمس قد مضين، الدخان، والقمر، والروم والبطشة واللزام " * اللزام: أي القحط، وقبل التصاق القتلى بعضهم ببعض يوم بدر، * والبطشة: القتل الذي وقع يوم بدر ...وقد ورد ذكر هذه الحادثة في القرآن الكريم مقرونا باقتراب الساعة قال تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر": ( القمر1) ولما كان من عادة قريش التعنّت والتكذيب فقد أعرضوا عن هذا ووصفوا ما رأوه بأنّه سحر ساحر، وقد حكى القرآن لسان حالهم فقال تعالى: " وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر(القمر: 1-2) وقد نقل عن أبي اسحاق الزجاجي في معاني القرآن أنّه قال: " أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفين الملّة انشقاق القمر، ولا انكار للعقل فيه لأنّ القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء، كما يكوّره يوم البعث ويفنيه ".وكان احتجاجا للبعض: أنه لو وقع ذلك الانشقاق لجاء متواترا ولأشرك أهل الأرض في معرفته، ولما اختصّ به أهل مكة " والجواب أنه وقع ليلا وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة وقد يقع أن يخسف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها الاّ الآحاد من الناس، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا وتعنّتوا، فلم يروا غيرهم ومن المحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون غيرهم كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم .نقل عن الخطابي قوله: " انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعد لها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليس مما يطمع في الوصول اليه بحيلة، فذلك صار لبرهان به أظهر ".

أما الدراسات الحديثة التي اعتنت بدراسة سطح القمر أنه يوجد به آثار لانشقاق وانقسام كان له الأثر في اسلام البعض لما علم أن القرآن تكلّم عن ذلك قبل قرون، فسبحان الذي أظهر الدلائل والآيات الدالة على ألوهيته وعظيم خلقه، قال تعالى:" سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيدا "، (فصلت: 53)، ودلائل هذه الحادثة: تدلّل على قدرة الباري عزّ وجل المطلقة في تغيير النظام الكوني وعلى صدق دعوة رسول الله، صلى الله عليه وسلّم لنبوّته وأيضا تدل على اضطراب النظام الكوني في المستقبل، فانشقاق القمر هو نموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تستبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض، أي قيام عالم جديد آخر ومختلف تماما .

* النص الذي أمامنا للأديب الباحث ماجد الغرباوي، رحلة السواقي والأنهار والطبيعة الساحرة ورحلة النفس والغوص داخلها، ان أستاذنا الغرباوي وصف مراحل هذه الرحلة بعاصفتها الهوجاء، ومباغتة الموت واحتراق نصف جسده الأيسر و" التشبث بالنصف الثاني، الخروج من المكان، من واقع الى العالم الآخر،وما فوق الطبيعة من تخيّل وربما الوهم يلعب دورا هاما في نفس السارد  (كيف يعيش بنصف جسد لوقدّر له أن يعيش ونصفه الأيمن سليم) ونصفه الأيسر الذي يرمز الى القلب والنبض والحياة من جديد وهو الذي أقبل عليه الموت بعاصفة هوجاء.

** التقاء عالمين (العالم الثاني) والعالم الآخر الحياة ما بعد الموت، " الشمس أذّنت بالمغيب " وصف مدهش لانتقال الروح الى العالم الآخر" لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض، لا يرى سوى أحشائه المتدلية".حيرة وتساؤل " ماذا يحصل حين نموت هل نتحول رمادا؟"، هذا الانسان دائم البحث المتطلّع الى المجهول بين شك ويقين، هل حقا تموت أعضاء الجسد، وبعد موت الجسد ماذا عن القلب والرئة والأحشاء،، تساؤلات تدعو للبحث والتأمّل، يتخيّل فاجعة الانسان وما يحصل بعد موته " هل هناك حياة بعد الموت؟" الدخول الى عالم الغيب، المجهول الآتي الذي لا نفكر فيه .هكذا هي المسافة بينه وبين نصفه الثاني، كيف يتقرب بنصف جسد خائر القوى (هي المسافة بين الضوء والظل)  المسافة بين الحياة والموت، هو اللغز اذن (الحياة بعد الموت) وكبرياء الانسان وغروره .

مز القلب في النص بجهته الى اليسار له علاقة بالانشقاق (الشق واضح على شكل أفقي من اليسار لليمين، هذا اذا تمعّنا بصور الانشقاق التي أحدثتها التكنولوجية الحديثة للتأكيد من العلاقة بين انشقاق القمر واقتراب الساعة وهي علامات تعتبر ليوم الميعاد) كفار مكة قالوا للرسول: " ان كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالايمان ان فعل، وكانت ليلة بدر فسأل الرسول ربّه أن يهبه ما طلبوا، فانشق القمر نصفين على (جبل الصفا) ونصف على (جبل قيقعان) المقابل له، حتى رأوا حرّاء بينهما وقالوا: " سحرنا محمد ثم قالوا: " ان كان سحرنا فانّه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فقال أبو جهل: " اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فان أخبروا بالانشقاق فهو صحيح والا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل  والمشركون: "هذا سحر مستمر، أي دائم فأنزل الله: " اقتربت الساعة وانشق القمر وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا وتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر فتول عنهم " .

* الحديث عن جدلية الموت فلسفة قائمة بذاتها، الصراع بين الجسد والروح في لحظات الاحتضار الأخيرة وانفصال الروح عن الجسد، والسؤال الذي قد يخشى منه سائل: الجسد يفنى وماذا عن الروح، وقد آمن الهنود أن الروح تحل في شخص آخر ومن الممكن أن تكون انسانا أو حيوانا، وبهذا تتجدّد وتتناسل بينما هناك قبائل تحرق الجسد بعد الموت كي لا يبقى منها أيّ أثر وينثر رماده في أرجاء الأرض وفي البحار، وهذا ما يدّعونه بحياة أخرى متجددة وما يسمى بتناسخ الأرواح، أما قلق الكاتب في القصة فهو قلق ينمّ عن كون الشخصية الساردة في النص تتفاعل مع نموذج الشخصية الايجابية والتي بدورها تتأقلم مع مجريات الأحداث وترفض أن تقذف خارج دائرة الصراع وتحت أي مبرر، هذه الشخصية تراهن على تطوير الذات واقتناص فرص التحول الايجابية التي تخصب شخصية تمنحها وعيا دقيقا بخصوصية اللحظة التاريخية التي يجتازها وايجابية هذه الشخصية في النص تنهض أساسا على قوة ارادة ورغبة في المواكبة الحداثية .

بالنسبة للجسد ولو قدّر له أن يعيش هل يستطيع بنصف جسد؟ وماذا عن الحلم في النص؟ وكيف ننظر الى الجسد حين تنفصل عنه الروح؟

نحن للأسف ما زلنا" نحتفظ بذاكرتنا الجمعية للجسد بايحاءات سالبة لأنه مراوغ فهو في الغالب يدخل في علاقات ضدية مع الروح المقدسة، وهذا يرجع لطبيعته التي تسمى بالزوال والتلاشي فضلا عن انشداده الى اللذة الزائلة والمتع اللحظوية علما أن هذا التقسيم الثنائي للروح والجسد الطاهر والمدنس أنتج منظومة قيمية بقدر ما بخست من شأن الجسد أعلت من الروح وهذا قد يرجعه البعض لزمن البدايات الأولى للخلق منذ طرد آدم من جنة عدن بسبب ضعف مقاومته للغواية، هو مسار تاريخي طويل ترتبت عنه مفاضلة انتقصت من حظوة الجسد وهو ما لا ينسجم والثقافة الاسلامية التي تعد المؤمن بفردوس من اللذات في الدار الآخرة كجزاء على ايمانه " (193) ..هذا هو القلق في القصة اذ أنّ تراكم ثقافي جعل رؤية الجسد مشوشة ولماذا؟ هل لأن السعادة الحسية مخيفة فلا تتحقق بالحياة الواقعية فنبحث عن عالم آخر نرى فيه ضالتنا التي فقدناها فنلجأ الى الحلم والتأمّل والرغبة ونفصل أنفسنا عن عالمنا الواقعي .

ما المسافة بين الانسان وبين نصفه الثاني الا المسافة بين الموت والحياة، بين سكون الجسد عن حركته وبين الروح الثائرة المتوثبة التي تبحث لها عن جسد آخر تحلّ فيه، انها قضية فلسفية في ولادة الانسان وبعثه من جديد ومشاهدة نفسه في لحظاته الأخيرة لينظر الى نفسه يسألها هل هي التي ما تزال تحيا؟

في قصة الأديب ماجد الغرباوي نلحظ أسلوبه الذي يلجأ من خلاله الى القصص الغرائبية والتي تعتمد في مجملها على التاريخ والتناص الديني بآيات وسور من القرآن الكريم، والبحث عن حقيقة الكون واختراق العالم الكوني الى ما وراء الطبيعة، وهذا الانشقاق للقمر بقدر ما يبدو أنه ظاهرة طبيعية بقدر ما كاتبنا أثبت علاقة هذا الانشقاق بمعجزة ربانية أشير اليها في الآيات القرآنية وفي التاريخ الاسلامي وحين يأتي بقوله: " ضاقت به الأرض بما رحبت " (التوبة)،فأديبنا الذي شعر بضيق الأرض وهي علامة دالة على التهيّء للحدث قبل وقوعه،وهنا في النص يصوّر الذي يحدث وكأنه مشهد حقيقي يراه أمامه وربما لا يراه غيره، وقد استعان بتوظيفه للمفردات التي لها علاقة بالظاهر الطبيعية التي لا سلطة للانسان عليها: "دمدم الرعد/ سنا البرق / أضرمت غضبها / تلبّدت السماء/ زمجرت وأبرقت / أحرقت ... ... " وقد يدخل هذا الأسلوب في الوصف للجدث حالة من الفزع في نفس القارىء فيربكه هو أيضا .

في النص توجّه للصراع الداخلي للانسان والذي من المحتمل أن يأتيه بالصدمة حين لا يتوافق مع ايمانه أو الأيدولوجية التي يحملها فمن منطلق فلسفي فقد ترك لنا الكاتب النهاية مفتوحة للتأمّل في حيثيات ومراحل تطور القصة الملازمة للحدث حيث الايقاع السريع المتقن، والخروج عن رتابة اللغة من ناحية سردية قد تتوافق مع عمل تاريخي وبحثي جميل قد يحقق هدفا لكن الكاتب في هذه القضية بالذات وعنوانه وانشق القمر يمنح للمتلقي العبور من مكان الى آخر والوصول الى اللاشيء أو اللامحدود ..!

أحييك الكاتب والباحث المبدع ماجد الغرباوي وأتمنى أن أكون قد قرأتك جيدا.

هيام مصطفى قبلان /

الكرمل -  فلسطين 

...................

ملاحظة: يمكنك العودة الى الاشارات في القراءة:

1 - مضمرات القصة القصيرة، للناقد محمد يوب سلسلة دفاتر الاختلاف ص 20 /22 .

2 - أسئلة القصة القصيرة بالمغرب، مقاربات موضوعاتية،للناقد محمد رمصيص ص193 .

- آيات معتمدة من القرآن الكريم.

..........................

وانشق القمر!! / ماجد الغرباوي

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها

.. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر .. وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟ هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، هي المسافة بين الحياة والموت .. اللغز الذي حير الإنسان منذ الأزل.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد .. أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، او امرأة صالحة..

لماذا يشكك الانسان بالموت، أليس هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا .. لماذا لا يردعه الموت؟

الإنسان؟ يا له من مخلوق عجيب .. كم هو بائس .. مغرور ..؟!!!

هل يخشى الإنسان ما بعد الموت؟ ربما .. لكنه عنيد، مكابر، لا ينصاع، الا حينما تسحقه الطبيعة بجبروتها.

يا للهول، أليس من حقنا ان نهرب منه؟ ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي، ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها، لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

 

سر نجاتك!!

الإنسان بطبيعتهِ يخشى الموت، لأنه نهاية لما يسمى بالحياة، والتــي بالنسبة له ديمومة البقاء على هذه الأرض.

فبمجرد التفكير بالمــوت يجعل الإنسان فريسة للقلق ويعكّر صفو حياته. وأحيانا يولّد عنـــــده فكرة اللامعنى واللاجدوى في نظرته الى الحياة والوجود. وهـذا ما رآه أونامونو حين قال: " وأنا حين أجد نفسي مستغرقا فـي دوّامــة الحياة ــ مع ما يقترن بها من هموم ومشاغل ــ أو حينما أجـد نفسي منهمكا في حديث مشوّق أو في حفلة مسليـــّة، فإننــــي لا ألبــث أن أن أكتشف ــ على حين فجأة ــ أنّ الموت يحوم حولي، ويحلّق فوق رأسي! أستغفر الله، لا الموت نفسه، بل شئ اسوأ مــن الموت: ألا وهو الإحساس بالفناء، وهو ذلك القلق الأسمى الذي مابعده قلق" (1).

أمّا الفيلسوف الفرنسي الفرنسي باسكال   pascal  فهــو يتجاهــــل التفكير في الموت او يتناساه، كما يفعل غالبية الناس فيقول: " إنّه لما كان الناس لم يهتدوا إلى علاج للموت والشقاء والجهل، فقـــــد وجدوا انّ خير الطرق للتنعّم بالسعادة هي ألاّ يفكروا في هذه الأمـور على الإطلاق (2).

وقريب من هذا المعنى ما قاله لاروشفوكوla  Rochefoucauld  :" إنّ ثمّة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت " !في أ دبنا العربي يفسّرلنا الشاعر المتنبي ظاهرة الخوف من المـوت في البيتين التاليين:

إلفُ هــذا الهواءِ أوقع في الأنـ       فسِ أنَ الحمــام َ مرُّ المــذاقِ

والأسى قبلَ فرقة الروحِ عجزٌ       والأسى لا يكونُ بعـدَ الفراقِ 

فحسب رأي المتنبي يعود خوفنا من الموت الى اعتيادنا على الحياة، أمّا الموت نفسه فهو ظاهـــــرة، شأنه شأن الحياة، سواء بسواء، لا تستدعي الخوف. 

الشاعر الانكليزي المعروف جون ملتن يصف لنا في ملحمتـــــــهالشعرية (الفردوس المفقود) مشاعر الإنسان وانطباعاته تجــــاه ظاهرة الموت، عندما يتعرف عليها لأول مرّة، وذلك على لسان قابيل، الذي قتل أخاه هابيل في بيتي الشعر التاليين : 

سكنتَ وأبطلَ فيك الحراك         وهل ماتَ حيٌ اذا ما سَكَـــــــنْ

ألا لمْ تمُــتْ رغم اني رأيتُ        بوجهك معنى يثيــــرُ الشجَـــنْ 

نستنتج من البيتين السابقين أنه لا وجود للموت إلاّ في تصوراتنا، فبطلان حركة الجسم، لا تعني الموت إطلاقا،  وقد أدرك قابيــــل ذلك بفطرته. وقد أكّد هذه الحقيقة الأستاذ الغرباوي فــي معرض ردّه على تعليقي على نصّه، الذي نحن بصدده الآن حيث أفــــاد:

" كما تفضلت لا وجود للموت إلاّ في تصوّرنا، فهو كما يــــــرى بعض فلاسفة المسلمين انتقال من حالة الى حالة، وهذا الكلام وفقا للنظرية الاسلامية تام وصحيح. أمّا في الفلسفات غير الإسلاميـة، فالموت هو العدم المطلق. وهنا يظهر الفارق،ومدى تأثيره علـى سلوك الإنســان في الدنيا . فمن يعتقد (ويؤمن حقيقة) بوجود يوم آخر، يتوفر على وازع داخلي، يردعه عن ارتكــاب المعاصي، ويدفعه الى عمل الخير والإحسان.. ومهما كان رأينا حــــول هذه الظاهرة، لكنها تبقى هاجسا، تهز مشاعر الإنسان متى تذكرها "اذا ً يرى الغرباوي انّ الموت ما هو إلاّ عملية انتقال من حالـــــة الى أخرى . لكن ما طبيعة  هذا الانتقال والتحول؟ تضاربـــت الآراء وتنوعت الفلسفات بخصوص هذا الموضوع. ففلسفة الكارما الهندية تعتقد بتناسخ الأرواح، التي تعود الى الحياة من جديد وتحل في كائنات تحمل صفات مقاربة لصفاتها. امّا مسألة الثواب والعقاب بعد الموت فهي تؤكد على أنّ الإنسان يصنع مستقبله على ضــــوء طبيعة عمله . فالحياة مستمرة وهي لن تنتهي اذاما غادر الجسد هذا العالم إلى عالم آخر، وما الموت إلا جسر نعبر عليه الى الشاطئ الآخر. وقد  لمّح جبران خليل جبران بشكل رمزي الى معنــــــى الثواب والعقاب، المرتبطين بسلوكنا وأعمالنا فقال في بيت رائع: 

والموتُ كالبحرِ من خفّت عناصره

يجتازهُ وأخو الأثقالِ ينحدرُ 

الأديب الأستاذ الغرباوي حين يدلي برأيه في مسألتي الحيـــــــــــاة والموت من خلال حوار أو مناظرة فهو مباشر وواضح، لكنّه حين يعالج هاتين المسالتين أدبيا وفنيا، فهو يقودنا عبر غابات كثيفــــــة ويحثنّا أن نتسلّق قمما سامقة ثم يدعونا أن نهبط معه الى وديــــــان عميقة. إنّها رحلة الإثارة والإستغراب ! .. فهو يثير في نصّـــــــــه القصصي (وانشقّ القمر) مسألة الموت باسلوب، يّتّسم بالغرائبية وينحو منحى رمزيّا، لا يخلو أحيانا من بوح مكشوف عن المشـــاعر والأحاسيس، التي تنطلق من أعماق الإنسان، وهو يقف وجها لوجه أمام الموت.

في القصة يهاجم الموت الشخصيّة الرئيسية ويتسبب في مــــــوت النصف الأيسر منها، فيستمـــــرّ النصف الآخـــر يتفحــــص بيـن المحروقات أملا أن يعثر على النصف المفقود. وفي غمرة الذهـول والذعر، تتناهى الى سمعه كلمات مصدرها النصف الآخر. وهنــا ينقلنا الكاتب بخياله الى النقطة، التي يتداخل فيها الموت مع الحياة .فالمعروف انّ القلب يقع في الجانب الأيسر من جسم الإنسان، وهـو مصدر الحكمة والمعرفة، والكلمات، التي انبعثت من بين ركـــــام المحروقات، هي دليل على استمرار الحياة بعد الموت. إلاّ انّ الكاتب يتركنا فـــــــي دهشتنا و دون أن يعطينا جوابا مباشرا يقطــع الشكّ باليقين وهـــذا جزء مـــن الآليّة الفنيّة، التي اعتمدها في هندســــة نصوصه القصصية، والتي لمسناها في قصص سابقة.

الغرباوي كما ذكرت في مقالاتي النقديّة السابقة حول بعض قصصه، يمثّل منهجا جديدا في فنّ القصة الحديث، يتضمن عناصر مبتكرة من بنات أفكاره، وهي تحمل بصمات شخصيته الأدبيّة المتميّـــــزة في هذا المجال.

 *** 

جميل الساعدي - شاعر وناقد

......................

وانشق القمر ..!! / ماجد الغرباوي

  ...............................

(1)     Alain Guy “ Unammume „ ;Paris Seghers،

P.U.F.1964،pp. 30- 31

 (2)  د. زكريا ابراهيم:"تأملات وجودية" دار الآداب، بيروت،1962

الطبعة الأولى . العبارات المحصورة بين أقواس من ترجمة د.زكريا

  

الكاتب ماجد الغرباوي من القلائل الذين قدموا خطاباً حكائياً متميزاً، يقصي تكرار النمطية التقليدية.

فقد رسم للسرد فضاء واسعاً غنياً بعطاء الحداثة و التجريب، ينفتح على مساحات ومطبات تخيلية أصيلة غير مألوفة. بالإضافة إلى إعتماده خطابا يعكس  أفعالا غرائبية متميزة، يمنح النص أبعاداً دلالية ورمزية وتأولية لا حصر لها.

وصف المكان في قصة "حافات قلقة" يحتل موقعاً هاماً في بناء السرد و توجيهه  وجهتها الخاصة، مساهماً وبشكل فعال في الربط بين المكان كواقع وكحالة عجائبية مانحاً النص أبعاداً واقعية سحرية فريدة وخاصة.

يتحول المكان في النص من حالة الثبات والسكون والحيادية، إلى حالة المشاركة الفاعلة والمؤثرة في تشكيل الصورة والقيمة اللتين يريد الكاتب بواسطتهما الوصول إلى تجسيم وإبراز فكرة القصة الاساسية، ويصبح ملتحماً بالسرد وبالفكرة الأساس التي ينهض عليها هذا العمل القصصي الفريد، إذ يصبح "المكان" هنا عنصراً فاعلاً وشخصية خفية لها التأثير القوي على مسار تشكيل القصة. هذه الفقرة تقوم برسم حدود المكان (الساحة):

"وقفت في ساحة العرض"

المكان الذي سيحوي كل الجهات والاقطاب مجتمعة ومسرح الصراع والمجابهات المختلفة النابعة من تطلعات وإرادات خاصة تحملها هذه الاقطاب.

"نظرت الى جميع الاتجاهات "

وبتقديم لوحة (مشهد) طوبوغرافية لأبعاد المكان وحيثياتها وتشكيلاتها الملحقة به:

" من أي جهة سيدخل ...  كي يعلن عن شيئ مهم؟

هناك جهتان متقابلتان محفوفتان بآلياتها الخاصة والدور المنوط بكل منهما؛ "الكوة"  والمكان المقابل أو المكان الضد"الساحة".

"اختارت نقطة الوسط تماما"

اختارت قلب المكان لأنها حاسمة في التلقي الدقيق للقرار المصيري الصادر من "المكان" المقابل "الكوة" وحاسمة كنقطة انطلاق لرد فعلها تبعا للقرار.

تشير تفصيلات المكان الى الخوف والتوجس وتوقع الخطر بل توقع ما يشبه الكارثة:

"لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .."

. فالوصف هنا يوحي بخلجلات الترقب واللهفة والقلق التي تشعر بها البطلة. ف"الكوة" أصبحت تمثل هنا وفي لحظة معينة من حياة البطلة مكانا وجودياً مصيرياً تاريخياً مكثفاً.

لذا:

"خطت خطوة الى الامام"

باتجاه الكوة لا شعوريا مستعجلة انهاء حالة الترقب.

ثمَّ:

"تراجعت"

مبتعدة عن "الكوة" نظراً لإضطرابها وقلقها وخوفها متفاعلة  بشدة مع المكان"البؤرة" أو مقرر المصير.

لم يقتصر الترقب على البطلة فقط , فقد شاركها الآخرون وجل تركيزهم على "الكوة" "المكان" المركزي الذي يحدد المصائر كلها والذي اصبح يقترب من الاسطورية:

".. الكل ينتظر، يترقب"

"اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين"

لقد شدد الكاتب على وصف المكان الذي منه يصدر القرار النهائي ليخلق أعلى درجة توتر وترقب ممكنين.

عندما ظهر عميد القرية في"المكان الكوة" ليعلن أسماء الفائزين بدا "المكان" هذا كأنه نقطة الإنعطاف التاريخية الكبرى:

"اتخذ مكانا مرتفعا .."

"المكان" المرتفع دليل على السلطة والهيمنة ومركز القرار و"المكان" المنخض"الساحة"

هو الضعيف المتلقي.

لقد اهتم الكاتب  بالتصوير الدقيق لحيثيات المكان لاهمتيها كدلالات لتفسير الحدث او ابرازه وتعميقه واثراء السرد ذاته.لقد شكل الارتباط الوثيق بين وصف المكان والحدث السر الخفي لقوة هذه القصة قرائياً من جهة وارتباطه الوثيق بمشاعر البطلة من جهة أخرى. فالوصف هنا يوحي بخلجلات الترقب واللهفة والقلق التي تشعر بها البطلة. لقد نجح الكاتب "ماجد الغرباوي" هنا وبامتياز في إشعار القارئ بحضور المكان كعنصر اساسي مهيمن ومحرك في القصة بحميمية وغرائبية.

وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت الى جميع الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .. انتشت قليلا، خطت خطوة الى الامام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، ثم تراجعت، جفلت واغمضت عينيها .. قالت: وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ ان أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وانا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟

هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة

ثم اردفت:

لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما اخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.

***

حينما اقتربت الساعة الرابعة عصرا، تجمع ابناء القرية .. الكل ينتظر، يترقب، سمعتهم يتهامسون .. فلان هو الفائز الاول، وآخر يقول فلان، وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم  نظرات مريبة، فكاد ان يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته، وبيده اوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته.

نظر الى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الاسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى اذا همّ باعلان الاسم التالي قالت: انا، انا (س ع ا د.(..

لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر ..  هذه هي الحقيقة ..

***

عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.

آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:

سانتقم ..

سانتقم ..

سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم 

ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ ان اكون اكثر حنكة، الامر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الاولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته .. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ..

لنجرب ..

استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، واخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر احشائها، واضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها.

ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت اليه، وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟

وهذا ما سأفعله، ساجعلهم يغيّرون قناعاتهم، ويعترفون بابداعاته وإن كانت مزيفة. لذا ارتدت أفخر ثيابها، ووضعت أبهى زينتها، ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين، يرتلوّن كلاما منافقا، أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة.. وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:

سترى .. سترى.

ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.

ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...

صعقها خواء حلمها.

 *** 

جلال جاف - شاعر وناقد

 

باللغتين العربية والفرنسية
1- توظيف الخطاب التصويري:

 إن "الارتجالية" كمعنى تعكس صيرورة متوترة تواجهها الشخصية:

 ''فاجأه المكان .. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة،''

 التشبيهات والاستعارات تقدم الخارق وتغذيه فنذكر بعضا من الاستعارات في

 '' كاد أن يختطفه قطار المسافات الطويلة، استفزته الحيرة.''

 يصبح ذلك القطار استعارة للمسافة التي تباعد بين حياة التمدن وحياة البداوة.

إن قصة ''قرار ارتجالي'' تقترح تساؤلا فلسلفيا'' العبور الضروري بين حياة التمدن وحياة البداوة، هل هو حتمية أو كما يسميه الكاتب "مصيري"؟.

 هل بإمكان الشخصية الوثوق بـ "ذلك القطار" الذي كاد أن يخطفها؟  

2- المستوى اللفظي:

 يستخدم الكاتب ضمير الغائب ''هو'' لتصوير فضاء ومقام السرد الذي يسير بإيقاع خاص موسوم بإشارات نصية لـ ''نمط النص الخيالي'' وكذا بألفاظ قصيرة وأكثر إيجازا تقحم الراوي، مما يسمح بتحقق أفضل من ذات الشخصية في فضائها حيث تحرز تقدما. إذاً الكاتب يدخل الشك الملازم للخيالي: هل يقول الراوي الحقيقة؟ هل هو شاهد؟ في هذا المد من الألفاظ المقتضبة التي تسرد أفعال الشخصية الوحيدة في فضائها الضيق وتفتح القصة باتجاه الخيالي - الغريب والفلسفي عندما يرافع بأسئلة ماهية وجوده وهويته:

 '' ظل يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

 بماذا أختلف عن تلك المرأة،

 او ذلك الرجل الطويل.

 تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،

 اذن لماذا اراوح في مكاني.

 إن إشارات الخوارق تمت ملاحظتها بفضل راوٍ فيلسوف وجدير بالثقة، مشبع بحقائق البدو وأمنياتهم البسيطة.

 ''عاد ثانية الى داره، أسرف في زينتها، في تنوع غذائها،'' 

 3-التركيب:

 نلاحظ تدرجا في الخطاب الخيالي الذي يتميز بأهمية التأثير النهائي، فنُحمل على التفكير في قول الراوي:

 '' اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء''

 بدت البغلة حاملةً لأثر الرجعة إلى المنشأ، شيئا فشيئا بدا "ظاهريا" توسع أفق هذا الرجل ''البدوي'' لمدينة بمظهر الحياة

 ''ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء. . توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة، ''

 '' كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت. . منظر لم يألفه، بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر. ''

 بعدها يؤكد الراوي :

 ''تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،

 اذن لماذا اراوح في مكاني. ''

 هل نحن بصدد معايشة أزمة هوية أم أنها أزمة وعي في عالم متسارع لا يستطيع البعض فيه اللحاق بالمسيرة الحضارية؟

 وكما قال الشاعر الكبير والناقد جلال جاف يبقى نص الكاتب الكبير ماجد الغرباوي نصا جدليا بامتياز لما يحمله من المساس الحي بالتطور الفكري للإنسان وجدليته حضاريا. انه نص يتجلى فيه "الوجود والعدم" بامتياز كواقع إنساني وفلسفي.

 إذا صح أن نظرية التدرج تمتلك خاصيتها في عدد من قصص ''ادغار بو'' وكذا بالنسبة لـ ''مريميه''، فهي لا تمتد حتى ''موباسون'' مثلا حيث التجلي الأول هو في غالب الأحيان ذروة للقصة.

4- موضوعات الخيالي:

 موضوعات الخيالي تعرف كادراك خاص لأحداث غريبة تنتج تأثيرا خاصا على القارئ: خوف، رعب، أو ببساطة فضول. هذا النوع يعني التشويق ووجود عناصر خارقة يرعى هذا التوتر.

''تودوروف'' يعيد طرح النقد ألموضوعاتي، ومن ابرز ممثليه '' ج-ب ريشارد''. فيواصل تودوروف تدليله لبعض المنظرين للأدب الخيالي، مثلا ''بينزولد'' أو ''روجير كايواس'' اللذان ينضدان الموضوعات دون إعطائها تماسكا داخليا. يذكر ''كايواس'' وتصنيفاته الموضوعاتية: الميثاق مع الشيطان (فوست)، الشبح المحكوم بركض غير منتظم (ميلموته )، ال''شيئ'' المتعذر تحديده والمتواري، لكن له وزن وموجود في (الهورلا)، مصاصي الدماء (أمثلة كثيرة)، التمثال، الدمية، درع، إذ فجأة تنتعش هذه الموضوعات لتحوز على حرية مرعبة (فينوس الجزيرة). . .

يعرض ''تودوروف'' عملا لم يقم به الآخرون قبله، سيصنف الموضوعات التي من الممكن أن تتجلى مجموعة، بفضل خاصية ''التعايش''.

 سنختار موضوعة ''الحبل'' التي تمكننا من ولوج فضاء نزاعي بين التنوع الحضاري والهوية.  

 5-موضوعة ''الحبل'':

 في القصة، حكاية البدوي وبغلته تبين موضوعات عدة، أولها المتعلقة بأسطورة منشئة لأسطورة ''الحبل'' :''حيلة الحبل الهندوسي هي من أقدم الأساطير الهندية. الدلالات الأولى لممارسة هذا التأثير تأتي من الرحالة العربي في الصين 1355، ابن بطوطة. ساحر بلاط أمير''هانغزهو'' قذف باتجاه السماء كرةً من جلد معلقا فيها شرائط. الكرة اختفت وسط الغيوم. قام الساحر ببعث شاب من بين مساعديه وذلك للتسلق عبر تلك الشرائط من جلد ولكن الشاب رفض النزول، صعد الساحر مقتفيا أثره وبيده سلاح. قطع من الشاب تساقطت من السماء، الساحر رجع مخضبا بالدماء، قبّل الأرض أمام الأمير، جمع أعضاء الشاب، بعث الحياة في الغلام

 لنصل إلى التأثير النهائي للدابة التي تحولت إلى "فاعل" فبعثت البدوي إلى قدر محتوم وأرجعت الأمور إلى نظامها الأول، ربما ذلك الساحر الذي يتقن حيلة الحبل قد استنسخ ليُذّكرَ البدوي بان قدره هنا فوق ''أرضه الأصلية"؟

 الموضوعة الثانية تمتد إلى وجود كائنات وفضاءات خارقة ووهمية :

 ''بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر.''

 سلطة على مصير الإنسان. هذه الأخيرة لديها دلالة، عموما في استبدال بسببية واهية إنها تقوم مقام ما نسميه عادة :الصدفة، الحظ. هذا النوع من السرد الحكائي يمنح امتيازا للحتمية فيما معناه أن كل شيء لا بد وأن يكتسب سببا فاللجوء إلى الخيالي عادة هو وسيلة جيدة لشرح كل شيء.

 نلاحظ تواجد توافق بين موضوعات الخيالي وتصنيفاته التي تُعرٍّف عالم الجاهل المقطوع من أي شرط محفز لحياة التمدن، لذلك موضوعة الحبل تم إرسائها كلعبة ساحر الذي قذف الشاب نحو السماء للحاق به وقطع الحبل بعدها حتى يبعث فيه الحياة من جديد.

 البدوي تقاسمته أمنيات ..  والرغبة أن'' حبل'' دابته ينقطع بغاية الانطلاق نحو سماء العجائب في حياة التمدن لكنه يرجع إلى الواقع في وقت ''الارتجالية'':

 اتخذ قرارا آخر

 قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولما خطى مسرعا،

 الدابة التي تمثل عنصرا قديما فاعلا في حياة البدو وتتلبس بوجه الساحر الذي يمتلك قدرة عليا لنشور الأموات والخوارق، وعليه استطاعت الدابة من خلال منطق النص بعث البدوي وإرجاعه إلى عالمه الواقعي وبيته وأخيرا فهو لم يحز علما يقده في محاولة الهروب نحو سماء أخرى لولوج تلك الحياة المتحضرة التي أربكته وحيرته:

 ''اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش. . . . . . . . ؟؟؟؟؟؟!!!!!!''

*** 

أروى الشريف

..................

Les caractéristiques du discours fantastique :

Dans la nouvelle  "décision improvisée"  de Majed El-Gharabaoui »

Arwa  Charif

1-Emploi du discours figuré :

    Improvisation n'est autre que le développement au sens propre d'une expression figurée d’une tension à laquelle s’affronte le personnage :

" le lieu l’a surpris..des rues encombrées, des lanternes luisent, des charrettes  roulent vite .

 Les comparaisons et les métaphores introduisent le surnaturel et le nourrissent. On cite  certaines de ces  comparaisons, dans :

  «le train des longues distances faillit l’enlever , l’inquiétude l’énerve .’’

 Ainsi ce train est la métaphore de cette distance  qui dissocie  la vie citadine   et la vie nomade.

      Une décision improvisée suggère  une question philosophique ‘’ ce passage obligatoire'' entre la vie citadine et la vie nomade est-il fatal ou comme l’auteur le nomme « fatidique ».

 Le personnage peut-il se fier à « ce train » qui faillit l’enlever . !

 2-L'énonciation :

     L’auteur   utilise   la 3éme  personne pour imager l’espace et le ton de la narration qui suit un rythme particulier caractérisé par les indices textuels du « genre fantastique » et  par des énoncés plus courts qui impliquent le narrateur , cela permet une meilleure identification du personnage dans son espace où il progresse ainsi l’auteur   introduit le doute inhérent au fantastique: ce narrateur  dit-il la vérité? ? Est-il témoin ?. Dans  ce flux d’énoncés courts qui relatent les actions du personnage unique dans l’espace étroit  ouvre la nouvelle vers  un fantastique-étrange et philosophique du moment où il plaide des questionnements existentiels et identitaires :

 Il continuait à murmurer, se comparant à ceux qui l’entourent..

 En  quoi suis- je distinct  de cette femme,

  Ou cet homme élancé.

 Il fixa les passants, l’un après l’autre, il se fixa au bout du chemin, tous ,ils se ressemblent, comme moi exactement, je ne trouve aucune différence entre nous,

 Donc pourquoi je me pointe sur ma place.

   C'est précisément parce que les indices du surnaturel sont observés par un narrateur  philosophe  et digne de confiance, tout pénétré des certitudes de la  vie des nomades et de leur vœux modestes :

  « Il revient une autre fois à sa maison, il excelle dans sa décoration, dans la diversité de sa nutrition. »

3-La composition :

  On  observe une gradation dans le discours fantastique qui se caractérise par l'importance de l'effet final. Pensons à :

 " Il prit une décision  fatidique, il a changé sa mule par un cheval, il a choisi un étalon, il s’est  assuré la vitesse de la marche, je vais rattraper cette charrette  blanche "

     La mule qui semble avoir un effet de retour vers les origines est amenée peu à peu à élargir l’horizon de cet homme "nomade". La ville  a d'abord un air vivant :

 "Dès qu’il l’aperçue aussitôt une autre, noire, passa une deuxième fois ..elle outrepassa par ses couleurs et ses formes splendides ,ces charrettes hypocrites,

 Il était perturbé à en maudire, se retournait ..une vue à laquelle ne s’y était jamais habituée, après avoir vécu toute sa vie dans les maisons humides, il ne  se déplaçait que dans l’obscurité, ou entre les cimetières."

 Le narrateur  affirme ensuite :

"Il fixa les passants, l’un après l’autre, il se fixa au bout du chemin, tous ,ils se ressemblent, comme moi exactement, je ne trouve aucune différence entre nous,

Donc pourquoi je me pointe sur ma place."

     Sommes-nous en présence d'une crise identitaire ou crise de conscience dans un monde hallucinant ou le désir de poursuivre le chemin de la civilisation s'est réellement animé ?

 Dans cette optique le grand poète et critique « Jalal Jaf » voit que  le texte du grand écrivain « Maged El-Gharabaoui »  est un texte dialectique qui  porte ce  privilège des traces du rapprochement vif de l’évolution intellectuelle de l’homme et sa dialectique  de la civilisation . C’est un texte dont apparaissent l’existence et le néant en concession telle une occurrence humaine et philosophique.     

 Si cette théorie de la gradation fonctionne pour bon nombre de nouvelles de Poe et pour celle de Mérimée, elle n'est pas généralisable à Maupassant par exemple où la première apparition est souvent le point culminant de la nouvelle.

4-Les thèmes du fantastique :

 Les thèmes du fantastique se définissent comme une perception particulière d'événements étranges qui produisent un effet particulier sur le lecteur : peur, horreur ou simplement curiosité. Ce genre entretient le suspense, la présence d'éléments fantastiques favorise cette tension.

 Todorov remet en question la critique thématique, dont le meilleur représentant est J-P Richard. Il poursuit son argumentation en mettant en cause certains théoriciens de la littérature fantastique, tels que Penzoldt ou Roger Caillois qui superposent les thèmes sans leur donner une cohérence interne. Il cite Caillois et ses classes thématiques: le pacte avec le démon (Faust), le spectre condamné à une course désordonnée (Melmoth), la "chose" indéfinissable et invisible, mais qui pèse et qui est présente (Le Horla), les vampires (nombreux exemples), la statue, le mannequin, l'armure, l'automate qui soudain s'animent et acquièrent une redoutable indépendance (La Vénus d'Ille)...

 Todorov s'oppose à cette méthode qui vise à classer des thèmes indépendamment les uns des autres. Il explique qu'on ne peut isoler un thème de l'histoire. Les deux sont corrélativement liés. Pour lui, les critiques se sont contentés de dresser des listes d'éléments surnaturels sans réussir à en faire ressortir l'organisation.

 Todorov se propose donc de faire ce que les autres avant lui n'ont pas fait. Il va classer les thèmes qui peuvent apparaître ensemble, en fonction de leur co-présence.

 On va choisir le thème de" la corde" qui peut nous introduire dans un espace conflictuel entre diversité et identité

 Le thème de la "corde" :

 Dans la nouvelle , l'histoire du nomade et sa mule  fait ressortir plusieurs thèmes. Le premier est celui de la légende fondatrice de la corde.

 " Le tour de la corde hindoue est un des plus vieux mythes de l’Inde. Les premiers témoignages de la pratique de cet effet vienne d’un voyageur arabe en Chine en 1355, Ibn Batouta . Le magicien de la cour d’Amir à Hangzhou, lança vers le ciel, une balle en cuir à laquelle pendait des lanières. La balle disparut dans les nuages. Il fit grimper un de ses jeunes assistants sur la lanière de cuir et, comme celui-ci refusait de descendre, il monta à sa suite armé d’un couteau. Des morceaux du jeune garçon tombèrent du ciel. Le magicien revint, ses vêtements imprégnés de sang, il embrassa le sol devant Amir puis, réunissant les membres épars, redonna la vie au garçon. "

   Le nomade se transforme en philosophe en introduisant la voix de la raison :

 "Il commença à réviser ses idées, les examina"

 Tandis que ses premiers idées étaient confuses même de distinguer entre les les véhicules comme figure de la vie citadine et le trafic routier :

 "Dès qu’il l’aperçue aussitôt une autre, noire, passa une deuxième fois ..elle outrepassa par ses couleurs et ses formes splendides ,ces charrettes hypocrites"

 Arrivons à cet effet final dont la bête se  métamorphose en « actant » et ressuscite en  destin fatidique qui remet les choses en ordre .peut-elle être ce magicien et jongle avec la corde pour rappeler le nomade que son destin est là  sur « sa terre d’origine » ? 

 L'autre thème tient à l'existence même d'êtres surnaturels, tels que :

 "après avoir vécu toute sa vie dans les maisons humides, il ne  se déplaçait que dans l’obscurité, ou entre les cimetières."

 Pouvoir sur la destinée humaine. Ces derniers ont pour fonction, en général, de suppléer à une causalité déficiente. Ils remplacent ce que nous appelons communément: le hasard, la chance. Ce type de récit privilégie le pan-déterminisme, c'est-à-dire que tout doit avoir une cause; le recours au surnaturel est habituellement un bon moyen de pouvoir tout expliquer.

  On remarque qu'il existe une correspondance entre les thèmes fantastiques et les catégories qui servent à définir le monde  de l’ignorant coupé de toute condition favorable de la vie citadine, du psychotique ou du jeune enfant (théorie de Piaget), c'est pourquoi le titre "thème de la corde  a été retenu comme le jeu du magicien qui a lancé le jeune homme au ciel pour rattraper…..  et lui coupa la corde ensuite il le ressuscite.

Le nomade se départage entre vœux et désir  que  la corde de sa bête puisse se couper ainsi se lancer au ciel des merveilles de la vie citadine mais il revient à la réalité au moment d’improvisation :

 ‘’ Il prit une autre décision..

 Il se dit : au début de la route je dois délaisser ma bête pour que je rejoigne    le cortège de la nouvelle rue, et lorsqu’il se précipita en vitesse’’

 La bête qui représente un actant antique de la vie bédouine et s’habit par la figure mythique du magicien qui possède le pouvoir suprême de la résurrection  et du surnaturel a pu selon la logique du texte ressuscitera le nomade et le ramener au monde réel son monde et chez lui et que finalement s’il ne possède nullement un savoir qui le guide  dans sa fuite vers un autre ciel et la pénétration de cette vie citadine qui l’ a rendu perplexe et inquiet :

 ‘’ son enclave cabotée  sur sa tête l’a reconduit  jusqu’ où il vivait ……...???????

العلاقات التي تربط الإنسان بالمكان، هي علاقات من نوع خاص، تتخطى بطبيعتها الحيّز المكاني الى ما هو أبعد، وتضرب بجذورها بعيدا في أصقــاع أخرى،

فتتداخل الأبعاد ويتعذر الفصل بين ما هو مكاني وما هو غيرمكاني. عندها تصبح أيّة محاولة لتتغيير المكان مشروطة بتغييرات في عناصر لا مكانية، وهنا يبرز الجانب السيكولوجي كعامل مهمّ في أيّة محاولة للخروج من الدائرة المكانية واستبدالها بأخرى. في هذه الحالة يتشكل المكان في دائرتين: واحدة شاخصة للبصر يمكن رؤيتها وتحسسها، واخرى خارج ادراك حواسنا الخمس.

في (قرار ارتجالي) للأديب ماجد الغرباوي تبدو محاولات الشخصية الرئيسية في النصّ في تخطّي المكان عديمة الجدوى وتنتهي في كل مرّة الى الفشل.

...خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان.. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد أن يلحق بالاولى، عثرت بغلته، اوشكت أن تسقطه أرضا ...

هذه هي افتتاحية النص، فمنذ الوهلة الاولى بدا تخطّي الدائرة المكانية صعبا إن لم

يكن مستحيلا. فالشخصية المعنية في النص (صاحب البغلة) لا يمتلك الوسائل الضرورية ، الموصلة الى الدائرة المكانية الاخرى. فما يملكه هو وسائل تنتمي الى زمن سابق، وتيرة الحركة فيه بطيئة، وتشكيلة بنيته بسيطة، فهي لا تتماشى والزمن الجديد، الذي بلغت فيه وتيرة التسارع والتسابق حدّا لم يدع مجالا للوسائل المتوارثة عن زمن سابق أن تنافسه أو أن يكون لها دور يذكر في عملية التحوّل المستمرّة .

المكان لم يعد منفصلا عن الزمان.. تداخل المكان والزمان فأصبحا واحدا. هذه هي الفكرة المحورية في النص، فالمكان لا يفهم كوحدة منفصلة عمّا حوله، وهذا ما غاب عن ذهن (صاحب البغلة)، الذي تصورالعالم على مقاس تفكيره، واعتقد انه بما لديه من وسائل، وهي أقرب الى أن تكون بدائية أن يتخطى دائرة المكان.

حينها حدث ما لم يكن في حسبانه، حيث وجد نفسه وجها لوجه أمام واقع تجاوزه . وهنا شعر بالفزع فانسحب قبل أن تصاب وسيلة تنقله وحركته بالعطب التام. فكر أن يعاود الكرّة ثانية ، فلجأ الى ادخال تحسينات .. في الواقع هي تحسينات شكلية، فوسيلة تنقله بقيت كما هي وقد رمز اليها الكاتب ب (البغلة) و لم يحدث هناك أي تغير جوهري نوعي. بدأت المرحلة الثانية من مغامرته، التي انتهت به الى الحيرة مما دفعته أن يلجأ الى وسيلة تنقل اخرى، وهي ما رمز اليها الكاتب بالحصان هنا يلحظ القارئ ان تغييرا نوعيا قد حدث، حين استبدلت الوسيلة القديمة بوسيلة جديدة أكثر متانة وسرعة و لكنّ هذا التغير النوعي ما زال ضمن دائرة المكان الاولى خاضعا لشروطها ومنضبطا بروح تقاليدها المتوارثة . المرحلة الثالثة من مغامرة تخطي المكان، دفعت بصاحبها الى حالة من السخط، حيث انّ المستجدات في الحياة من حولة أشعرته بعدم جدوى وسائله، أثارت في داخله الشكوك ودفعته الى حالة هي أقرب الى الاغتراب الروحي، وهذا ما عبر عنه الكاتب في الجمل الآتية ...كان مرتبكا حدّ اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد أن قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل إلا في الظلام، أو بين المقابر...

لقد كانت صدمته كبيرة حين اكتشف انه لا يختلف عن الآخرين بشئ لكنه يشعر انه غريب عنهم .. هنالك جدار فاصل لا يمكن تخطيه، الآخرون وهم بشر مثله اندمجوا في مسيرة الحياة وراحوا يحثون الخطى بسرعة ناظرين الى الامام دون أن يعيروه اهتماما او يلتفتوا إليه . في هذه اللحظة شعر بعجز وسائله وحيله فقرر التوقف.

...كيف يواصل الطريق؟

ظلّ يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

بماذا أختلف عن تلك المرأة،

أو ذلك الرجل الطويل .....

هنا تتجسد حالة الاغتراب الروحي بكل وضوح، لااختلاف ما بيني وبين الآخرين، لكننا رغم ذلك مختلفون. هذا الاحساس يحدث عادة نتيجة صدمة يتعرض لها الفرد في حياته كما يقول علماء النفس.

في ختام النص القصصي يتعرض الكاتب الى نقطة مهمة وهي: انّ الانسان لا يستطيع أن يدخل تغييرا جذريا في حياته إلا اذا استطاع ان يغيّر تفكيره، وبدون

ذلك تبقى كل الوسائل عاجزة عن تحقيق ذلك التغيير، وقد رمز الى هذا المعنى بشكل جميل وذكيّ في العبارات التالية:

قال: أول الطريق أن أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولمّا خطى مسرعا، أعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش...

فالرباط الملفوف على الرأس هو نمط التفكير، الذي لم يفارق رأس صاحبه، رغم ما مرّ به من أحداث في مغامرته لتخطي المكان .

 من خلال قراءتي لهذا النص القصصي استخلصت النتائج التالية: اولها انّ للمكان ملامح جعرافية واخرى لامرئية انطباعية تصورية، وثانيها انّ للمكان دلالة زمنية.. بمعنى ان سكان مكان معين يحملون في رؤوسهم قدرا من معارف فترة معينة ينعكس تأثيرها على المكان، الذي يتواجدون فيه، وثالثها انّ تغيير المكان والعيش في مكان آخر يستدعي تغييرا في نمط التفكير.

*** 

جميل الساعدي - شاعر وناقد

................... 

قرار ارتجالي / ماجد الغرباوي

عندما قرر اجتياز المكان، أعدّ بغلته جيدا، سمح لها بتناول ما تبقى من طعام.

خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان .. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد ان يلحق بالأولى، عثرت بغلته، أوشكت أن تسقطه ارضا.

عاد ثانية الى داره، أسرف في زينتها، في تنوع غذائها، غامر من جديد، كاد ان يختطفه قطار المسافات الطويلة، استفزته الحيرة.

فقد صوابه

اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء، ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء.. توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة،

كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر.

كيف يواصل الطريق؟

ظل يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

بماذا أختلف عن تلك المرأة،

او ذلك الرجل الطويل.

تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،

اذن لماذا اراوح في مكاني.

بدأ يراجع أفكاره، يتفحصها

اتخذ قرارا آخر

قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولما خطى مسرعا، اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش

........؟؟؟؟؟؟

!!!!!!

استنساخ أوجه الشبه بين الضحية والجلاد

إنّ مصطلح القصة الذي ورد في "معجم الدراسات الأدبية": "القصة مركزة عموما حول حادثة واحدة

وتدرس انعكاساتها النفسانية وشخوصها محدودة ولكن على عكس الحكاية لا تمثل الشخوص رموزا أو كائنات غير حقيقية لكن تمتلك حقيقة نفسية،بينما باختلاف مع الرواية،نفسية الشخوص ليست مدروسة بالكامل لكن تؤخذ من جانب جزئي . القصة تبحث لإنتاج انطباع الحياة الحقيقة".

في قصة الأديب ماجد الغرباوي أتناول بالدراسة خصائص هذه القصة وتحديدا خصائص "القصة الخيالية " .

في قصة الكاتب "حافات قلقة" تظهر جليا عملية تنظيم تقنية القصة الخيالية فماهي خصائصها في النص؟

في القراءة الأولية يتبين لنا اختلاف في تقنية القصة العادية حين اتجه منحى القصة الخيالية إلى تصوير فضاء القصة على انه فارغ من تقنيات "الزمكنة" حين قررت الشخصية "سعاد" وهي "الشخصية الأساسية" فرض لعبة "الاتجاهات والأبعاد" منذ البداية:

وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت إلى جميع

الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة،.. انتشت قليلا، خطت خطوة إلى الأمام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة،

ان تعميق منظور الفضاء" المجهول" اسهم في إبراز حركة ملامح "القرية" التي يمكن أن تتكرر في كل "المجتمعات" وفي هذا الصدد يعرض "غلودمان" في (من اجل علم الاجتماع في الرواية) أن: "كل تصرف إنساني هو تجربة لإعطاء إجابة ذات دلالة في وضعية خاصة" أما في القصة "حافات قلقة "فالوضعية الخاصة هي واقعية وعادية لا غرابة فيها إذ تبدو سعاد فاعلة في الأحداث حين تقول:

قالت: إذن هنا سيعلن عميد القرية عن أسماء المتفوقين..

و تصبو هذه التجربة التي س"تعيشها" سعاد إلى خلق توازن بين ذاتها الفاعلة وبيئتها فهل تتمكن سعاد من بلوغ أمنيتها بالفوز وأن تكون كما وصفها الراوي في لحظة نشوة ومغمورة بالسعادة؟:

انتشت قليلا، خطت خطوة إلى الأمام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، "

ويمكن القول أن من أهم شروط تحقيق نمطية "القصة الخيالية " هي:" الكتابة التي تستوجب حسا حادا جدا في اقتصاد النص ولزومية ذلك "فنلاحظ ترتيب أحداث القصة على أساس ذهني منطقي حيث يتفاعل السرد مع لحظات قلقة متوترة تشهدها دواخل سعاد:

آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ أن أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وأنا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟

القصة الخيالية تتمتع بخصائص سردية تترك القارئ مشدود الذهن منتبه الإدراك في كل لحظات القصة بهدف أدبي يتماشى مع تقنية الكتابة والسرد لتطوير العناصر الأساسية لإبداع وإقحام القارئ في مساحة ضيقة تشغلها نفسية سعاد بتراكم سريع للأسئلة و الأوهام.

هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة

ثم أردفت:

لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما أخشاه، حقا سيسحق غروري إذا تجاهلني.

وسرعة تحول الشخصية في حركة مشاعرها أدت إلى تراكم عناصر عالم خاص بـ "سعاد" يتواجه فيه غرورها ضد سلطة "عميد القرية" وسلطة العنصر ألذكوري..

فهل يتأكد الجميع أن سعاد ليست في مرتبة تنافس فيها:

... فلان هو الفائز الأول، وآخر يقول فلان،

صراع

وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم نظرات مريبة، فكاد أن يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته،

فهل تحقق سعاد التوازن بين بيئتها وذاتها الحائرة والتائهة؟ واستطاع الكاتب، بفضل تحكمه في تقنية الكتابة في "القصة الخيالية"، من خلق أحداث أقلقت ودفعت سعاد إلى الانهيار:

(وبيده أوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته).. الشخصية السلطة ... الحاشية .. صراع

(نظر إلى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الأسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى إذا همّ بإعلان الاسم التالي قالت: أنا، أنا (س ع ا د)..

لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر .. هذه هي الحقيقة ..)

**

ومن خلال تركيب عناصر سرعة السرد ودقة التفاصيل التي تتعلق بإشارات نفسية ساهمت في بعث تداول الأفكار والخيالات في عقل سعاد:

عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.

آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:

سانتقم ..

سانتقم ..

سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم ..

الجمل الأخيرة لسعاد وجّهت القارئ إلى طرح أسئلة تسحبه إلى عالم الغرابة فهل النهاية تتحدد بين "غرابة أو واقعية "الغرور الذي يشحنه الانتقام " من ثم تتعرى شخصية "سعاد" من مجرد ذات تريد حيازة جائزة إلى ذات مهتزة وقلقة ومسكونة بتحطيم "عميد القرية" الذي يمثل السلطة المطلقة في التحكيم بين "أعمال المتنافسين والمتنافسة سعاد".

وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟

طفت في هذه المرحلة المتقدمة على مستوى الكتابة أمور واقعية وغير واقعية واتجه الصراع بين الظاهري والمتواري في نفس مركبة هي تربة خصبة لادراكات خاطئة في شخصية "الأنثى "التي اختلط عليها الأمر بين سحر وشعوذة ووبين صورة ''المرأة التي تشحذ خيالها الشيطاني لتكسب الجائزة".

ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ أن أكون أكثر حنكة، الأمر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الأولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته ....

لنجرب ..

تأكد القارئ أن افتعال تناقضات وأوجه الصراع بتركيب "نفسي وإدراكي"، مكنته من استكشاف وجه آخر لنمطية  تفكير"سعاد" بطرح سؤال فلسفي عويص وشائك وهو:

لكن هل بمقدورنا أن نصنع إنسانا كما نريد؟؟

التساؤل منطقي بالنسبة لـ "سعاد" وأي محاولة للتكهن ما إذا كانت سعاد تعاني من أعراض الجنون أو هي مسكونة بعبودية الشيطان الذي يصور خيالات الشر وتمكن الراوي من بث الشك بين القارئ وسعاد بفعل ترتكبه حين تقدم على تطبيق فكرة سحر "الدمى" إذ تسمى في السحر الأسود ب "قيري- قيري":

استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، وأخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر أحشائها، وأضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب أربعة، يمكنها التحكّم بها.

اثر السحر وإيهام القارئ بعدم وضوح أي رؤية أوعز للكاتب بضرورة اختفاء كل الدلالات في عمق "القصة الخيالية الوهمية "لسبب منطقي أن كاتب القصة لا يعطي أي شرح ولا أي تفسير.

ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت إليه،

عنصر الإثارة وعناصر اللغز قفزت دفعة واحدة وأحدثت ارتباكا مقلقل في "فعل القراءة "عند المتلقي فيطرح الأسئلة على نفسه:

كيف تنفخ فيه من روحها ..لكن يجيبه الراوي بسرعة:

وقالت: ما علينا إلا أن نصّدق أوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟

يتحكم الكاتب بأهم شروط كتابة هذا النمط من القصة التي يتعايش فيها الواقع،الغرابة والخوارق بتقنية أخرى خاصة في القصة الخيالية وهي التنظيم،الوضوح في طرح الأفكار والأهداف مما اكسب القصة قوة ولذة.

وما تحديث المونولوج عند سعاد لأكثر من مرة إلا تأكيد على دراماتيكية المشهد حيث تكون سعاد الفاعلة الوحيدة فتكلم نفسها وتسكت ضميرها وشرحها لآلية الظلم الذي وقع عليها وعايشته . وتنفيذ طرق الانتقام تبدي للقارئ وجها شيطانيا حين يوظف الكاتب أسطورة النماذج النسائية التي تعاقبت على مر التاريخ لـ "وجه المرأة" الشيطان حين تقرر سلخ إنسانيتها فتتحول إلى "آلهة الشر" وترسخ مبدأ الخلق حين "نفخت من روحها الشريرة".

وصل الراوي بالقارئ إلى طريق مسدود ومجهول ومن الضروري ان يتوقع انفراج يجبر المتلقي على إعادة التأويلات أكثر من مرة ليفهم "ما الذي حدث؟".

أخيرا فان ترسيخ وجه أسطورة المرأة الشيطانية كشفت جدلية المرأة الضحية والجلاد في صورة "سعاد" هو نجاح القصة على مستوى السرد وعلى مستوى تركيب فكر الشخصية الأساسية بتعاطيها "الخاص" مع بيئتها فأعاد الكاتب التوازن إلى نفسية سعاد المهتزة الهسترية التي تحالفت مع الشيطان:

ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت إلى نقطة بعيدة، تطوي الأفق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا أجابت بثقة عالية.

من ثم نشهد إعادة تنظيم فضاء القصة وإخراج القارئ من دوامة الحيرة والقلق التي رافقته طيلة رحلة القراءة:

ولما حان وقت التحدي، أرادت أن تحمله، لكن ...

باقتراب النهاية يفتح الكاتب القصة بخلق سلسة كبيرة من التأويلات المبنية على نظريات الطموح والحلم حين تتوهم النفس البشرية سبل النجاح فتكون طرق الحيلة والغوص في مستنقع الشر.

لكن أفاقت سعاد بحقيقة:

صعقها خواء حلمها.

فمهما بلغت طموحات الإنسان لا بد من عقل راجح وتفكير نير يعزز إرادته في بلوغ قمم النجاح والسعادة.

 *** 

أروى الشريف - كاتبة وناقدة من الجزائر

 

مقدمة: كانت الرواية والقصة الكلاسيكية تأخذ المنحى الواقعي متكأ أساسيًا لها، حتى صار للقصة نموذج تقليدي تسير عليه

 ولا شك أن للكلاسيكيات موقعها من الأدب العربي والذي لا يختلف أحد على أصالته وإبداعه، إلا أنّ ظهور النظريات الحديثة والتي لم يفلت منها الأدب شأنه كشأن أي موضوع آخر، فقد تعرض الأدب لما يعرف بــ "العلمنة"، فخضع للاستقراءات والاستنباطات بشكل أشبه ما يكون بالبحث العلمي، فكان على القصة مواجهة هذه التيارات النقدية المحدثة بالتحديث في تقنياتها وأدبيتها، بحيث صار الاهتمام منصبًّا على العمل الأدبي نفسه مستبعدًا المؤلف، وركّز على دور القارئ كمنتج أكثر منه كمستهلك. ويعد الحدث من المنظور السردي من أكثر ما اشتغل عليه، فهو ليس منفصلاً عن بقية أجزاء العمل الأدبي (فإنه في القصة الجديدة، لم يعد مفصولاً عن البنية الفنية التي تسهم في الهرم الجمالي للخطاب القصصي بحيث غدا الحدث يتفاعل بشكل انزياحي مع بقية العناصر الفنية التي تشكل فضاء النص)[1]، فصار التركيز على تقنيات السرد والتقنيات الزمانية المختلفة والمكانية ودورها في الحد ث كجزء لا يتجزأ عنها وإنما تربطها به علاقات لا تفتأ تتحرك ديناميكياً مما يدخل القارئ في جدلية التأويل، (فقارئ هذه القصص لا يتمكن بسهولة من الوقوف على مضمونها إلا بعد جهد فكري وتأويلي)[2]، وهنا تكمن لذة القراءة، فالحدث في النهاية لا يفصح عن ذاته بل يدع القارئ أمام نهاية ذات فضاء جمالي مفتوح، قابلة لتأويلات عدة تنشد الاختزال .

و(حافات قلقة) للكاتب ماجد الغرباوي، رغم يسر اللغة وسهولة تناول الأسطر بشكل أشبه ما يكون بالالتهام في سرعة قراءتها، إلا أنّ النص موغلٌ في رمزيته وحداثته، فالحدث الرئيس يتراوح بين نقطتين رئيستين: الواقع والوهم، إلا أنّ المتلقي تجذبه كثرة وتلاحق الأحداث بالنص والتي يظن للوهلة الأولى أنها واقعية رغم مفارقاتها ليكتشف عند (القفلة) أنّ النصف الثاني من القصة كان واقعاً في نقطة الوهم والحلم، ليفتح التأويلات المختلفة على مصراعيها أمام المتلقي، وهذا ما سيتم تناوله في هذا المقال .

على حافة قلقة:

يعتمد الخطاب الروائي خاصة والخطاب الأدبي عامة على الواقع كمرجعية أساسية، إلا أنه يتفاوت من كاتب لآخر حسب رؤيته التي ينسج بها عمله الأدبي، فيتراوح الخطاب الروائي بين الواقع والمتخيل، إذ (يفترض في العمل الأدبي الذي يطرح رؤية أيديولوجية أن يظل متسقاً مع رؤيته بطرح متخيله الروائي ممكن الحدوث بمعنى أن يطرح متخيلاً واقعياً)[3]، فكما قال الفلاسفة قديما أنّ الفن ينبغي أن يصور ما هو ممكن الوقوع لا ما هو واقع، وذلك لأن جُل الأعمال الأدبية غالبا ما تحمل مرامي وظيفية متفاوتة، (ودائماً تغلب الصبغة الأيديولوجية وتسيطر على وظيفة الأدبي، ولكن دون إغفال الوظائف الأخرى التي تعتني بالنزوع نحو فنية الإبداع)[4]، والنزوع إلى تخليق واقع تخييلي إلى جانب الواقعي بل والبحث عن وسائل الخروج من مآزق العالم الواقعي .

وفي (حافات قلقة) يتناول الكاتب إحدى المشكلات الاجتماعية والتي قد تظهر للعيان منذ الوهلة الأولى على اعتبار كونها عدم التقدير اللائق لأصحاب المواهب المتمثلة في البطلة، فكان اضطرارها إلى سلوك الدروب الملتوية أوتكتل أصحاب المكائد ومجابهتهم للمؤسسات المنظمة، إلا أنني أرى أن أهم ما يناقشه النص هي تلك (الحافات القلقة) في النفس الإنسانية والتي تؤدي لقلقلة الإنسان وتخبطه بين الواقع والوهم في محاولة للتخلص من وطأة الكبت الذي تعرضت إليه البطلة والشعور بالنقص فلجأت لما يشبه التعويض في عالم خيالها، وهذا ما يشير إليه إدلر بما يسميه ("القوّة الخلاقة" Creative Power وهو يعني بذلك أنّ البشر قادرون على صنع مصائرهم وتحديد معالم شخصياتهم)[5]، وهذا يظهر جليّاً في قول البطلة: "هذه هي الخطوة الأولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته .. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ .. لنجرب .."

رغم عدم الرضا عن الحل الذي لجأت إليه البطلة، إلا أنّ أحداً لا ينكر أنّها قامت بإبداع شيء جديد والمتمثل في صنعها التمثال " فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها... ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟"

هناك حافة أشبه بحد السيف بين الخير والشر وانقلاب الإنسان من الضد إلى الضد الآخر، فالنفس الإنسانية تحمل الأضداد في دواخلها وقد عزز الكاتب هذه النقطة بالتحديد بحيث لا يدفع المتلقي إلى الحكم على البطلة حكمًا فاصلاً، وإنما يقع في جدلية هذه التناقضات ليجد نفسه في النهاية عاجزاً عن البت فيها بصورة نهائية وهذا يحسب للكاتب إذ ترك المجال منفتحاً للتأويلات، وكذلك الحد الفاصل بين الواقع والوهم أشبه ما يكون بالشعرة الدقيقة والذي أوضحه الكاتب من خلال اللعب على نقطتي الواقع والوهم المكاني في النص .

بين نقطتين وكوّة صغيرة:

يسير الحدث الرئيس بالنص بين نقطتين: إحداهما في أول النص "وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت الى جميع الاتجاهات"، والثانية في آخر النص: "ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟ .. نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها"

ويلاحظ المتلقي من هذين المكانين البون الشاسع بينهما، فالنقطة الأولى تقف فيها البطلة، قد اختارت مركز الدائرة "ساحة العرض" مستشرفة حصدها المركز الأول ونوالها الجائزة الأولى . إنّ هذه النقطة، هي نقطة واقعية حقيقية الوجود تلمسها بقدميها تجعلها في بؤرة الاهتمام، حيث تنكشف لها جميع الأركان والخفايا، تشبه في دورانها حول نفسها، كالكاميرا السريعة التي تدور تلتقط صور الزوايا .. إلا أنّ هذا المكان على ما يمثل للبطلة من مكان أحلامها حيث الفوز والنجاح ومكان تحقيق الذات ونيل الإطراء بلا حدود بل وغيظ الحاقدين عليها وأعدائها إلا أنّه محدود مهما اتسع !، فتحدّه زوايا الساحة وجدرانها والتي يستدل عليها المتلقي بذكر الكاتب "الكوّة الصغيرة" التي على بعد نصف قطر من البطلة .

وقد لجأ الكاتب للانزياح بفنية عالية، فتلك الكوّة الصغيرة تكشف عن الفضاء الروائي للنص والذي (يشير إلى المسرح الرّوائي بأكمله، ويكون المكان داخله جزءاً منه)[6]، فالفضاء النصي هو القرية، تلك التي أشار إليها الكاتب عابرا في غير موضع "اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟"

رغم واقعية الأحداث في النصف الأول من النص إلا أنّ المتلقي يلاحظ بعض المفارقات، بدءاً من استغرابه لنوعية تلك المنافسة بين هذه البطلة الأنثى و(أبناء القرية)، كذلك يلاحظ تلك الشخصية العجيبة للبطلة والتي قد تحدت العادات والتقاليد الريفية وأرادت المنافسة في الإبداع أمام الرجال واثقة من نفسها، تلك البطلة المتمردة والتي لم تحدها فقط جدران الساحة وإنما كذلك الفضاء الروائي (القرية) الذي تراءى من (الكوّة الصغيرة) متحدياً طموحات تلك البطلة في صراعها مع مجتمعها الذكوري (البطريركي)، فقد تعرضت البطلة إلى ما يعرف بالأنوثة المصادرة، و(تقترن هذه المسألة دائماً بالمباح الذكوري، فكل ما يباح للذكر يُصادر وتُمنع الأنثى منه، وتصور الرواية الذكورة (فعلاً) والأنوثة (قولاً) وهنا تظهر قوة الواقع على بطلة الرواية) [7] " عادت .. منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا."، فمثّل ذلك انكسار الحلم الواقعي (الطموح) لدى البطلة وانهيار أحلامها بالفوز رغم ظهور بوادر هذا الانهيار منذ الأسطر الأولى: "لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما اخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني."

الكوة الصغيرة ذلك الواقع بشخوصه في تصويره المختزل المتقازم ليقهر ساحات من حلم البطلة بل ويقهرها بناره، ففي النصف الأول يسود ذلك التراوح بين (طرفين .. الطرف الأول الحُلم والطرف الثاني الواقع الذي يعني الانكسار- الحلم - الانكسار (الواقع). إذ يتحول العالم الذي يصوغه الحلم من ارتباط وثيق وعلاقة شبق وشغف بالعالم إلى انفصال كلي عنه وتذوب جميع الصلات القديمة بين الذات والعالم)[8]، " تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا."، فكان لجوء الشخصية إلى التقوقع والانفصال عن العالم حولها واللجوء إلى بيتها بغية تحقيق الانتقام من أجل حلمها المفقود (عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين... آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب: سانتقم .. سانتقم ..)

فدخلت البطلة في طور أشبه ما يكون بالاغتراب (إن المقولات السابقة هي مقدمات طبيعية للوصول إلى حالة الغربة، أولاً عن المجتمع بقيمه ورؤاه ومن ثم الوصول إلى الاغتراب الداخلي ونفي العالم كله وفصله والتعامل معه ومع مكوناته كحالة غير منتمية، وكمصدر للخوف والقتل والموت)[9] فكان العزم على الانتقام والتفكير بالحيل المختلفة لها كامرأة (لذا ارتدت أفخر ثيابها، ووضعت أبهى زينتها، ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين)

وأيضا كمبدعة فنانة لا يمكن التهاون بموهبتها وقدراتها (فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر احشائها، واضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها.)

 وكان لابد من لجوء الكاتب لهذا المكان المنغلق (البيت)، حيث (يلعب البيت دوراً مهماً، وهو ظاهرة بارزة في تشكيل عالم الرواية، لذلك ركز الأدباء كثيراً على إنتاج هذا البيت، الذي يعد ركن الإنسان الأول في العالم، على حد تعبير باشلار)[10]، فالبيت رغم عدم التطرق لوصفه كمكان يعكس الكثير من شخصية صاحبته بدلالاته المحتملة، إلا أن صورة الانعزال والانفصال داخله وكأنه عالم البطلة الخاص حيث تبدع هي، مما يعطي للمتلقي ومضة غير مباشرة حول ماهية دور المرأة في مجتمعها، فكان العمل داخل البيت على هذا التمثال بشكله الغرائبي وطريقة صنعه ما يعكس حالة الحلم الذي لا يفتر عن مراودة صاحبته بل ودفعها إلى تجنيد كل وسيلة ممكنة لمساعدتها في مهمتها " ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين، يرتلوّن كلاما منافقا، .. ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة.. "

إنه تمثال الخواء لا شيء داخله سوى الهواء، يوهم من يسمعه كأنه يتكلم ويغني، أشبه بعجل بني إسرائيل في صناعته وصوته وإغوائه، يتحرك الخواء في هذا الحلم والوهم ليلتقي عند آخر نقطة في النص (نقطة الوهم) "نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها...ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ... صعقها خواء حلمها."، تلك النقطة الأخيرة تختلف كثيرا عن النقطة الأولى والتي كانت هي مركزها وسط دائرة حلمها، أما هنا فالنظرة إلى اللاشيء، نظرة بعيدة تفقد مرماها وملامحها على عكس النظرة الأولى، إنه ذلك الوهم الذي تلهث وراءه روحها أشبه بالسراب .

ويتضح من النص دور (الواقع الاجتماعي بالسيطرة الكاملة ومدّ سلطته على آفاق المرأة جميعها، هذا في طرف أوّل، وفي طرف ثان قام الواقع بقدرة فائقة على تحويل هذه المرأة من الحلم إلى الانكسار.. من التمرد إلى اليأس والخضوع والخنوع)[11]، ربما كان حلماً بالشكل الحقيقي المعروف، وربما هو حلم يقظة يتراءى للبطلة، وإنما في كلتا الحالتين كان نصيب البطلة الانكسار والخسار وليس السعادة كمفارقة لاسمها (سعاد) تلك السعادة المتقطعة (قالت: انا، انا (س ع ا د).. لكنه وهم .. وهم)، فكانت سعادة لا تكتمل .

خاتمة:

رغم سهولة لغة النص وتلاحق الأحداث والتي يتتبعها المتلقي بلا مشقة إلا أنه مليء بالانزياحات والدلالات والتي تفتحه على تأويلات مختلفة، فتكون كل قراءة بمثابة إضافة قيّمة للنص، فكثرة القراءات دليل على غنى النص، وهذا قمة الإبداع ... تحياتي لصاحب اليراع .

 ***

دينا نبيل

 24 - 1- 2012

..........................

المراجع:

1- مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد: عبد القادر بن سالم، اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001 ص 66

2-المصدر ذاته ص 67

3- الطريق إلى النص مقالات في الرواية العربية: سليمان حسين، اتحاد الكتاب العرب، 1997 ص 98

4- المصدر ذاته ص 96

5- مناهج النقد الأدبي الحديث: أ.د. إبراهيم السعافين، د. خليل الشيخ، الشركة العربية المتحدة للتسويق والتوريدات، ط1 2010 ص 133

6- مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد ص 273

7- الطريق إلى النص ص 10

8- المصدر ذاته ص 11

9- المصدر ذاته ص 11

10- سيميائية البنية المكانية في رواية " كراف الخطايا ": د.صالح ولعة ـــ الجزائر – مجلة الموقف الأدبي عدد تموز-آب 447-448 اتحاد الكتاب العرب، دمشق

11- الطريق إلى النص ص 14

بطل القصة هو الإنسان المنخرط في المكان و المنغلق فيه وعليه وهو "محميته" التي خلقت عنده أوهام التوازن، إنه يتوجه إلى وعيه بالمركزية والعزلة المركزة،: 

"بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر" 
بمجرد مغادرته منظومة المكان والزمان الخاصة به يصبحُ في مهب ريح مكان اخر وزمان اخر أو عالم آخر:
"كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه،"
استفزته الحيرة"
" كيف يواصل الطريق؟" 
حيثُ الحقائق تختلف تماما والمكان مكان آخر والزمن زمن آخر على الرغم من وهم التشابه الظاهري: 
"بماذا أختلف عن تلك المرأة،
او ذلك الرجل الطويل".
وحيث يحاول استخدام نفس وسائل اتصاله وتفاعله مع واقعه الخاص جدا في المكان الجديد:
"عندما قرر اجتياز المكان، أعدّ بغلته جيدا، سمح لها بتناول ما تبقى من طعام."
وعلى الرغم من محاولته تجديد الوسيلة ولكن هيهات لان وسائله مهما تنوعت هي نفسها وتعود لنفس (الزمكانية) المتحكمة فيه والتي سوف لن تسعفه: 
"اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء،" 
هنا يحدث تصادم (الازمنة والامكنة) المختلفة والمتناقضة وتتجلى حالة الصدمة:
"ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء.. توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة،"
"كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه،"
"تسمّر في نهاية الطريق،" 
أن التساؤل ينبعث من كل الأشياء عندما تتجمع التناقضات بما فيها ذهن بطل القصة الذي يخيل الى القارئ أول وهلة ان الصدمة المتولدة من التقاء (زمكانين) مختلفين ستولد حالة تطورية ارتقائية تبعا لنظرية "التحدي والاستجابة" التي هي اساس التطور الحضاري حسب" توينبي":
"كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،
اذن لماذا اراوح في مكاني.
بدأ يراجع أفكاره، يتفحصها"
" قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد،" 
لكن الصدمة هي العودة الى نقطة الصفر:
"ولما خطى مسرعا، اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش":
اذ لم يستطع البطل الاستجابة الملائمة للتحدي؛ فالمنظومة الفكرية التي ركبت رأسه المعتق في زمن سابق ومكان آخر غير قادرة على الاستجابة لزمن جديد ومكان جديد. 
ويطبق المؤرخ البريطاني (توينبي) هذا القانون على قيام الحضارات؛ فظروف التحدي هي التي تدفع البشر للانخراط في مغامرة بناء الحضارة، ولكن فضائل المشقة يجب أن تؤدي دفعها ضمن الوسيلة المناسبة التي تجعل من بعض المبتلين ب"الجمود" ايا كان "نوعه" رموزاً لصدمة تاريخية تحجرية لا أمل في حلحلتها زمنيا طالما كانت المنظومة الفكرية والوسيلية مؤطرة بزمن ومكان خارجين عن المعاصرة .
يبقى نص الكاتب الكبير ماجد الغرباوي نصا جدليا بامتياز لما يحمله من المساس الحي بالتطور الفكري للانسان وجدليته حضاريا.انه نص يتجلى فيه "الوجود والعدم" بامتياز كواقع انساني وفلسفة .
*** 
جلال جاف 
....................... 
قرار ارتجالي / ماجد الغرباوي
  
عندما قرر اجتياز المكان، أعدّ بغلته جيدا، سمح لها بتناول ما تبقى من طعام. 
خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان .. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد ان يلحق بالأولى، عثرت بغلته، أوشكت أن تسقطه ارضا. 
عاد ثانية الى داره، أسرف في زينتها، في تنوع غذائها، غامر من جديد، كاد ان يختطفه قطار المسافات الطويلة، استفزته الحيرة.
فقد صوابه 
اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء، ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء.. توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة،
كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر.
كيف يواصل الطريق؟
ظل يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله
بماذا أختلف عن تلك المرأة،
او ذلك الرجل الطويل.
تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،
اذن لماذا اراوح في مكاني.
بدأ يراجع أفكاره، يتفحصها
اتخذ قرارا آخر
قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولما خطى مسرعا، اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش
........؟؟؟؟؟؟
!!!!!!
  
 

ليس لديها متسع من وقت كزمن نصي أو قصصي فهي لا تريد أن تقف بالوسط - سعاد - بطلة النص والشخص الوحيد المؤكد والأكثر محورية و حضورا، في نص حافات قلقة للأستاذ ماجد الغرباوي..

في فن القص للسرد أولوية، ومكانة في العمل، لامجرد وجوده بل القصد إليه بحيث تبقى هناك حكاية، اي تطور حداثي وتشكيل للوقائع. ومن الواضح هنا ان الحدث مستخفي، يدور بذهن سعاد ويبرز مؤكدا ذاته. وان الوقائع المتخيلة يمكن ان تكون محورا للفعل ..

كثيرا ما تهمل القراءات النقدية المنطق الداخلي للقص، وتنشغل بجماليات بناء النص عن حيثيات حركته وولادته.. ولان أي إبداع لا يمكن أن ينفصل، عن منطقه الحيوي الداخلي .. فالمنطق الحيوي لحافات قلقة كان خارج عن القصد في تجربته، وفي فجيعته في تحقيق حلمه، باعتبار ان العمل الخاضع للقراءة النقدية يحمل مقاييسه النقدية بين طياته، وهو عمل ينظر إليه من الداخل. الكاتب هنا أيضا ينظر اليه من الداخل ويحاول ان يحلل عناصره .. يجرب أن يعيد ترتيب تلك المفككات. فالعمل السردي بالمحصلة هو معمار وتركيب هندسي لغوي، وهذا هو التحدي الأكثر صدمة في العمل الكتابي القصصي، حيث عليه أن يرصد البقعة القاتمة في ذات كل منا ...

في حافات قلقة نلاحظ حضور الواقعية النصية بكثافة (لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما أخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.) هنا الزمن الخطي، الميتي التيولوجي يقتضي الإضاءة على الانا المسرودة بجدية، فهي تفتح التصدير / النص وهي ايضا الخواتيم التي تنغلق عليها نهاية النص من انا موغلة (ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.)

في تأكيد على ضرورة أن يقرأ العمل أي عمل إبداعي بعناية، وبكثير من الإكبار دون إقحام زائف، قد لا تتوفر السردية على الواقعية الهادئة بل تتدفق كما لو كانت شكلا من أشكال التداعي، أو تيار الوعي في الروايات النفسية..

(وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:

سترى .. سترى.)

تتميز حافات قلقة بالإضافة لعناصر السرد بوجود الحدث - (عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين،) الذي يعني قليلا او كثيرا، القيام بمجموعة أفعال متتالية او مجموعة أحداث ووقائع تكون شبكة النص الأساسية، وتقوم بها مجموعة شخوص او فرد ذات سياقات محددة (وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟). في مقتبل التعاطي لا بد من الإلمام والربط بين أواصرها، والتي يهضمها النص ببساطة لصالح التغيب، وذلك مدعاة إلى طرح سؤال التسمية حافات قلقة فان ما يلفت الانتباه انه تماما واقعية نصية ... في الوصف الواقعية النصية تحتاج الى وظيفة أو ذريعة هي بمثابة المنشط لدخولها النص – (.. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ). هنا الحافات والقلق إشارة مضاعفة تضعك من أول النص بأجواء الترقب .. انه الطيف الباحث عن حريته او مأوى لروحه وجسده، وهو الوتر المشدود بين صراع الأضداد ليقيم التوازن راصدا مأساته الوجودية ومؤسسا ذاتا فاعلة عن طريق الوعي المكثف للمخيلة، أي الحلم او طابع الحلم الذي تفيق منه فيفاجئك تحول الكون من حولك (ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...

صعقها خواء حلمها.)

في حالة توهج بين الانا والعالم يتبدى ما يدعى أزمة النص .. (أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة..).

أما التحدي الأخر في حافات قلقة فهو ينتمي إلى بنية النص ذاته، من حيث تقشف الشخصيات المسرودة،، السارد هنا فرد وطيفه – سعاد - في شدة ودقة تفصيلاتها وبالاستناد الى الفهم الفردي وتأويل الشخصية الأساسية للنص أباحت للقارئ حرية استيلاد الأفكار وتنوع الصيغ أي ابتكار - أجمل - الموضوع بالأساس لم تضف جديدا فهو يندرج، ضمن عاديات السرد الكلاسيكي محادثة عبر الذات، لكن الرؤية ضمن الشخصية هي من يتجدد ليخلق أشكالا جديدة مختلفة وهذا برأيي مهم، لأنه تأكيد على مفهوم الكشف وقيمته. وثانيا كلما توغلت الشخصية بكشف دواخلها أمامنا عبر السارد البطل الذي هو استمرار في التأكيد على أهمية الجدل

(وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية)

يتفق القول السابق مع استخدام الخطاب السردي بمستوى تداول لغوي هو السياق الزمني الذي تنمو فيه الحكاية، والذي ينتمي بالطبع الى فضاء تاريخي محدد وهو هنا تعاقبي، تداخلي أحيانا ومتوازي ببعض مناطقه ودائري او متقطع يربط الأفعال والشخصيات بسلسلة من الأفعال الواقعية بمضمون السرد، أي ساحة الحكاية والحيز المكاني وتداخل سياقاته السردية محكومة أبدا بتاريخ وقوع الفعل هنا. وهواي الكاتب غير مدرك انها الحالة التي تصلح لهذا السياق ..

الطابع العام لكتابات الأستاذ الغرباوي على الرغم من أنها تحتوي على حيوية لا تخلو من كلاسيكية سردية لا يعيب النص بل هو نمط كتابي يتسم بمولدات كثيرة .. هذا طبيعي .. ومن التعسف أن نعتبره شكا بقيمة النص، بل هو يندرج ربما أكثر تحت بند الأدب التمثيلي الواقعي حتى الفهم والتشخيص.

وتأكيدا لثنائية الخير والشر، فلا بطولة مطلقة بل لحظة تجعل من الكائن بطلا، ولا شر مطلق بل جملة أسباب تخلق كائنا مشوها وشريرا - من حاجات الروح لا من حاجات المحيط، لكنها انعكاس له بالتأكيد مهما كانت أشكال حضورها أحلاما، رؤى، مسارات تأمل، او مساحات من الوصف السردي، بشكل ما يوائم بين مرور الفكرة وفكرة الكتابة عنها.

ولكن بطبيعة الحال يجب ان يقع كل ذلك في جوهر العمل ... لا على هامشه. بل ينصهر، في صميم نسيجه ولا يأتي من خارجه بالمعنى الخالص لو جاز التركيب اللغوي لصالح إنضاج الكائن الإبداعي المفترض.

هنا تتجلى حقيقة الكشف الذي يميط اللثام عن حقائق الوجود كخطوة في طريق طويل يحتاج إلى الشجاعة ويحتاج إلى قوة التحدي. عمل يقرأ بتأني وبشفافية مع الذكاء بالأسلوب .. يعري السراب الذي يتعب الساعين خلفه من حيث المقدرة على التعبير عن النفس.

في حافات قلقة مقولة النص تتلخص بان الانتقام ليس حقا من حقوق البشر، وهو طبق لا يفضل تناوله لا ساخنا ولا باردا بل لا يجب بالأصل أن يدخل في مفردات البشر، انما ينبغي استئصاله من قيمة البيئة الإنسانية، وجعله بلا ذاكرة مجتمعية او مكانية.. فلا كائن كامل، ولا خير مطلق، ولا شر منجز، بل هناك ظروف تؤهل لفعل الشر او فعل الخير والمحيط المجتمع بكل مكوناته هو المسؤول أولا وأخيرا عن جميع أفراده.

حافات قلقة نص ينفذ الى داخل القضية الإنسانية والنفس البشرية بكل مناقضاتها ليصور وجها من وجوهها المختلفة، قد يلغي احد الأوجه وجه أخر لكنهم في النهاية يمثلون الحياة كما هي وأحيانا كما يجب لها ان تكون نافذة بسعة الحلم.

 *** 

سمر محفوض - شاعرة وناقدة سورية

من السهل الادلاء بشهادة نقدية بسيطة كالقول .. ان هذا النص رائع .. وذاك النص عميق .. فهذا الحكم وصفي بحت وليس فيه اية رؤية للتقويم.. ان وظيفة الناقد الحقيقية هي كوظيفة الدليل السياحي .. لابد ان يكون الدليل على دراية بكل المثابات التي توصله الى اكثر الاماكن المثيرة للإبهار. فالقاريء العابر قد لايلتفت الى مطبات النص ومناطقه الممتعة والمخيفة معا. دون الاستعانة بدليل حاذق يرشده الى تلك المناطق ..

والنص الحديث قد يحمل إنزياحات مركبة. ودلالات وإحالات متنوعة .. ولكي تصل كلها الى المتلقي .. لابد لها من كاشف مستكشف .. حاذق ونبيل. لا لكي يصحح مسارات الكاتب كما هو شائع او الاقتصار على الإشادة او الذم .. او المدح او القدح .. . بل للأخذ بيد المتلقي لاستكشاف الجديد والمثمر معا.إن كان في الأساليب السردية او المضامين الفكرية ..

يثير نص الاستاذ ماجد الغرباوي مسألة قلما يجري الالتفات اليها من قبل كتاب القصة القصيرة الباحثين عن الجدة والابتكار. فتراهم يلوذون أحيانا بالغموض والتغريب حتى يستعصي فك ترميزات نصوصهم على كبار النقاد. ناهيك عن القاريء العابر .. وترى فئة غيرهم ما زالت تراوح في مضمار السرد التقليدي الذي تجاوزه كبار كتاب فن القصة في العالم ..

نص الاستاذ ماجد واقولها بدون مجاملة .. حاول ان يضرب المثال لعبور هذه الاشكالية في طرائق السرد .. فلم يركن الى الاسلوب التقليدي التعليمي الذي تجاوزه الزمن. ورغم حمولة النص باكثر من قيمة اخلاقية. لم ينسحب الى مطب الوعظ الاخلاقي الصريح والذي تحفل به بعض النصوص فيخرجها من دائرة الفن الى دائرة الكلام السائد .. وهو بالمقابل . لم يقع تحت إغراءات التغريب الغامض العويص. ولم يجعل تأويلات نصه ممتنعة .. عصية ..

أن جهدا نقديا بسيطا يمكن له ان يستكشف رسالة النص .. إن في المضمون. أو السرد .. .يمكن لما يسميه الناقد درايدن .. شهامة النقد .. (نقد الظاهرة) لا نقد النص او (شخوص النص ..) الأستاذ ماجد هنا .. لم يفكر بإدانة بطلة نصه سعاد. رغم الصورة التراجكوميدي التي رسمها لها .. بل هو يضرب في عمق الظاهرة التي افرزت وتفرز عشرات الابطال السلبيين مثل سعاد. ظاهرة تحشيد الاتباع وإن بالمكر والخيانة والدسيسة والايقاع بالآخر .. كذلك نقد ظاهرة صناعة الاصنام في المؤسسة السياسية و الدينية والاجتماعية .. فهناك الاف الاشباه الذين يصنعون ما صنعته سعاد من خلال الزيف والتزييف لتوكيد سطوتهم. وتأثيث خرابنا ..

قد تكون سعاد موهوبة وقد تستحق جائزة ما. وقد يكون المجتمع قد فرط بتقييمها .. لكن اساليبها اللاحقة. قد تتحول الى وبال عليها .. قبل ان تكون وبالا على غيرها. عندها سيغادرها حتى هؤلاء الأتباع الذين انتفعوا مؤقتا من هداياها وإغراءها .. .

النص وفق رؤيتي .. ابعد ما يكون عن الشخصنة. بل هو يعالج ظاهرة. اجتماعية سياسية .. موغلة في العمق تخومها .. .

 *** 

سلام كاظم فرج - أديب وناقد

قبل أن أخوض في إشكاليات النص القصصي (حافات قلقة) للأستاذ الأديــــب ماجد الغرباوي، رأيت أن أسلط الضوء أولا على ملامح أساسية في النــــص استوقفتني قبل كلّ شئ.  أولها ذلك الإيجاز الموحي الذي امتاز به النص، فقــــد تحاشى الكاتب السرد الطويل، الذي يلجأ اليه عادة الكثير من كتّاب القصـــــة والروائيين بما فيهم بعض المشهورين منهم. كان إيصال الفكرة عبـــــر أقصر الطرق هو الهمّ الشاغل للكاتب، الذي حاول بأقل ما يمكن من السطور أن يلحم المضامين ويضعها في إطارها الأخيرمع الحفاظ على عنصر التشويق، الذي يشدّ القارئ الى النص.

الجانب الثاني الذي استأثر باهتمامي هو رمزيّة النص، هذه الرمزيّة فتحت الباب على مصراعيه لتآويل كثيرة وتفسيرات شتّى، وبقيت رغم كلّ تلك التآويل والتفسيرات المحتملة تحتفظ بملمح أساسي لها وهو تنبيه وتحفيز القارئ للبحث عن العوالم والحالات، التي تتقارب من بعضها البعض على قدر نسبة التشابه القائمة بينها، ممّا اعطى للنص تلك الدفقة الحيويّة، التي تستثير مخيّلة القارئ .. بل تستفزّه بشكل هادئ وذكي، فالقارئ ونقصد به القارئ المثقف أمام أمرين لا ثالث لهما: إمّــا أن يرمي بشباك مخيلته على قدر ما يستطيع ليقتنص تأويلا من التآويل وهي كثيرة، وإمّــا أن يلجـأ الى التقييم العام مكتفيا بكشف الجانب الاستطيقي(الجمالي) للنص.

بعد أن اشرت الى هذين الجانبين المهمّين أحاول ان أوضح ما استنتجته من الدلالات بعد أن قرأت النص أكثر من مرّة. من بين تلك الدلالات ذلك الصراع المحتدم بين الوهم والواقع، والذي يظهر جليّا في النص وهو يرمز من ضمن ما يرمز الى التوتر القائم على مرّ العصور بين المبدع والمؤسسة، التي تمتلك النفوذ والقدرات الماديّة. فسعاد بطلة الرواية تمثل الإبداع، فهي تأمل من خلال اعتراف المؤسسة بها أن تحقق ذاتها وبهــذا تكون قد أرضت نفسها وأرضت الآخرين وحققت هدفها المنشود. فهي تطرح نفسها كفاعلة للخير تحرص على الحفاظ على قيم الحق. والحقّ هنا يعني بالنسبة لها أحقيتها بالفوز بالجائزة .

الكاتب يطرح علينا سؤالا مهمّا ولكن دون أن يفصح عنه... فهو يتساءل ضمنيا..

ما هو الخيــر؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الخير والشرّ؟ هل ما نعمله نحن ونعتقد انّه خير هو خير في الحقيقة؟ يحاول الغرباوي أن يستثير القارئ من خلال التحوّل المفاجئ في سلوك (سعاد)، فهو يطرح علينا لغزا ويتركنا نفكّر ونراجع تصوراتنا الى الحدّ الذي يجعلنا نشكّ ونقف مشدوهين حائرين حين نواجه قناعاتنا. تبدو شخصيّة سعاد للكثير من القراء على أنها ضحيّة سلوك المؤسسة التعسفي، وانّها لجأت الى اساليب الغدر والمكر والسحر مضطرة لمواجهة المؤسسة، التي هي أقوى منها.

لكن الأمر في الحقيقة غير ذلك... فهي لما فقدت الأمل في الحصول على الجائزة، شعرت بخيبة مريرة و وبدلا من ان تستمرّ في خدمة الإبداع بتجرّد لكي تستطيع أن تستمرّ في الحياة أطول، صرعها وهمها، رغم الطرق والأساليب العديدة (أساليب الإبداع)، التي ابتكرتها لردّ اعتبارها، والتي كانت سببا في نهايتها.

بطلة الحكاية لم يكن عندها الصبر الكافي ولم يكن لها هدف غير تحقيق نوازعها الإنانية، فكان إبداعها سلاحا ذا حدين انقلب عليها فعجّل في نهايتها. لقد كانت متهوّرة ولم تكن شجاعة، فالشجاعة كما يقول الحكماء وسط بين الجبن والتهوّر.

وهي لم تكن فطنة، حيث انّها لم تتبيّن الحدود الفاصلة بين المناصرين والمنافقين، فقد أعماها الحقد والتعطّش للثأر، فاستعانت برجال الخصم، محاولة منها تغيير قواعد اللعبة. لقد حاولت أن تقفز على الواقع فغاصت في وحل المؤسسة، وبدلا من أن يلعلع صيتها، انكفأت على وجهها وأصبحت نسياً منسيا.

في الحكاية عبر ودروس، على القارئ أن يستخلصها بنفسه، وهي فضلا عن ذلك رحلة استكشافية سريّة في أعماق النفس البشريّة تستخدم لغة الرمز وكأنها لوحة من لوحات الرسام السريالي الشهير سلفادور دالي.

 ***

جميل حسين الساعدي - شاعر وروائي

من نافلة القول جميع الشرائع السماوية، وكل التقنينات والتشريعات الوضعية القانونيه تدعو لثقافة التعايش والتسامح بين الاديان والشعوب، ..بالطبع عالمنا المعاصر وبعد الازمات العاصفة بالارهاب في مناطق عدة من العالم يرنو إلى عالمٍ يخلو من العنفِ.. وثقافة القتل.. وتقارب الافكار بالحوار، وإذابة جليد العقد المستعصية بين الاثنيات ..والطوائف.. والاديان في العالم..فهناك مساحات مشتركة بين الانسانية بالايمان بخالق الكون وبعثة الانبياء والعمل الصالح لمنفعة البشرية بكل الاتجاهات الثقافية.. العلمية..الصناعية..الزراعية.. إلخ من الجوانب التي تستوجب التعاون الدولي..

إن ديننا الاسلامي ومن خلال دعوة القرآن الكريم والنبي العظيم محمد –صلى الله عليه وآله- وأئمتنا المعصومين وصحابة المصطفى الابرار قدموا دروساً في الحضارة الانسانية تدعونا للتمسك بتلك القيم، والمثل، والمباديء التي هي نبراس يهتدى بها، ..

فالدعوة الحقة هي السلام، الوئام، التعايش، التعاون، التآخي.. لكن ثقافة القتل هي صناعة الطغاة بأمتياز شرعها ابو سفيان ومعاوية ويزيد والحجاج والسفاح وصدام وبن لادن وجميع من إتخذ الارهاب وسيلة لقمع الحريات..

ففي كتابيه (التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات) وكتابه الآخر( الضد النّوعي للإستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني) وجدت إن الرؤية الثاقبة لتحليل القضايا بشقيها- الماضوية والآنية- تتسم بالعمق، الشمول، التحليل المنطقي للأحداث مع معالجات لنزع فتيل الأزمات، وإستبدالها مفاهيم الحرية الفردية العقائدية وحقوق الانسان وهذا لعمري صميم الاطروحة الالهية في العقائد السماوية..

الشللية التي أصيبت بها الامة من الافكار المنحرفة عن مباديء الرسالة والقيم المحمدية والعلوية والحسينية أحد ابرز انتكاسات العقل المتحرر وبالتالي النكوص والتراجع الحضاري، فيما الامم تخطو سريعاً نحو البناء الحضاري بالتكنلوجيا والعلم والثقافة الحقيقية، فحققت الازدهار والتقدم، أما الضمور الحضاري الذي نشهده بالعودة الى إعتناق أفكار السلف التي تنبع من عقد إقصاء وتهميش المنهج المحمدي الاصيل بإقصاء من يحاول إتباع الحق وعدم مهادنة الباطل والانصياع للطغاة وهذا ماسار عليه أئمتنا الاطهار من إمام المتقين علي بن ابي طالب وسيد الشهداء الامام الحسين –عليهما السلام- والعترة الطاهرة والصحب الابرار بمحاولاتهم إتباع المنهج القرآني بإقامة دولة العدل وإنصاف الفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية ونبذ العنف ..

يطرح الباحث ماجد الغرباوي في المقدمة من كتابه الاول ص11 (لم يبق أمام الشعوب الاسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والاقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر، وهو عمل صعب يستدعي جهودا يتضافر فيها الخطاب الاعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي......) إن أزمة العقل التفخيخي المدمر التي تمليء عالمنا المعاصر من خلال فتاوى التكفير، ونشر ثقافة الكراهية والاستهانة بجماليات الحياة التي وهبت للأنسان ليحيى بالفكر والعلم والادب والفن تستدعي من طبقة الانتجليستا من نخب ثقافية واكاديمية وعلمائية اشاعتها واقتلاع تلك الروح الشريرة الهدامة التي تزرع الرعب في حياتنا وتحيلها الى جحيم ومأساة وأنين وثكالى وأيتام، بدلا من البسمة على شفاه الاطفال، وخضرة الحقول، وتطور التعليم، وبناء الامة.... في ص22 يكتب الباحث الرائع الغرباوي منابع التسامح (... ان التسامح نسق قيمي وأخلاقي يراد إحلاله محل النسق القيمي والاخلاقي الذي مازال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، ...)

كذلك يتناول الباحث إن العنف الذي أصبح سمة العصر، وكبت الحريات، والتذلل للحكام الطغاة الذي يقمعون شعوبهم ويحكمون بالتوريث السياسي غير الشرعي، ودون الاحتكام لصناديق الاقتراع..، او من ينصبهم الاستكبار العالمي ويمدهم بمصادر القوة الامنية.. والمخابراتية الاخطبوطية.. لتمكنهم من شعوبهم، وقمع، واخراس كل صوت مناهض لسياساتهم هو ديدن حكام العالم الثالث، ومنطقتنا العربية، فنادرا مانرى ويكاد يستحيل أن يأت حاكم عن طريق الانتخاب ويسلم السلطة ديموقراطياً ودستورياً..

أن يعي المجتمع ونخبه كما أسلفت أهمية ثقافة السلام والبناء يمكن تأسيس دولة حضارية ودولة الانسان وخلاف ذلك لايتم بل تزداد الامور تعقيدا، وتشرذماً وتصبح دولة الطوائف والاحزاب والقوميات هي المرتكز والمحور كما شهدت ساحات كثيرة فعل التقاتل الطائفي كما في لبنان قبل عقود والصومال واليمن ومصر والجزائر والعراق والباكستان والهند وعلى مدار التاريخ البشري حدثت مذابح للارمن والمسلمين والكاثوليك والبروتستانت وحروب دموية خلف ملايين الضحايا في بقاع الارض.. لقد استفادت شعوب الارض من التجارب المرة وخراب الحروب لتحولها الى دفع حضاري نحو العلم والفكر والثقافة والبناء وضد ثقافة العنف والاستبداد السياسي والديني...

في هذا السفر الجميل بالافكار الناضجة والآراء المعرفية التي تساهم بتعزيز أنساق ثقافية في جسد الامة قد كافح من أجلها علماء كمحمد باقر الصدر- ومالك بن نبي- ومحمود شلتوت- ومحمد مهدي شمس الدين -ومحمد الشيرازي - وحسن الصفار - ومحمد صادق الصدر وعشرات من الراحلين الافذاذ ...ولازال المئات من علمائنا ينادون بها لإيقاض الامة من هذا الغول الكاسح بالكراهية، والعنف ضد الآخر شاهدها العالم بأسره وآخرها وليس هو العمل الاجرامي الاخير قتل المسيحيين في العراق بكنيسة النجاة وماسبقها من اضطهداء وظلم وعنف طيلة 35 عاما من الدكتاتورية والجرائم اللاحقة ضد شعبنا بجميع مدنه،

نأمل من تلك المؤلفات القيمة ترسخ مباديء التسامح وثقافة السلام ..

***

صباح محسن كاظم - باحث

 

"تحدّيات العنف" كتاب في التصدّي، ليس بعنف مضاد. الكاتب ماجد الغرباوي الذي له أيضاً "التسامح ومنابع اللاتسامح"، هو عراقي الهويّة والهوى. وعى على محيط كلّه في المظلوميّة. الفرد، تنهال عليه، بكلّ القسوة، هراوات السلطات المتعاقبة المتصلة بالإفراط والتفريط، خصوصاً بالأمن، حتى وقع العراق كلّه، بشراً وشجراً وحجراً، فريسةً تمزّقُ بها أنياب ومخالب، ولا شفقة ولا رحمة. نظرَ بهذه المأساة المتتالية فصولاً وويلات، ولاحظ، أخيراً أيضاً، أنّالعنف لا يُجبه بالردع، وإنما بعنف همجي من الطينة ذاتها أو الثوب إيّاه، أي لا بصيرة، لا زمام، بل وحشٌ كاسر لا يُبقي ولا يُذر. 

من جهات العنف حركات متطرّفة، إنها فيما تدفع الأذى عن ذاتها من عنف مظلم واقع عليها، لا تقيم حرمة لطفل، ولا لامرأة، ولا لعجوز. حركاتُ إعصارٍ ينفجر في الأحياء السكنية، أو في الأسواق العامّة، أو في دور العبادة، فيما لو عقلتْ، كان أولى بها أن تدّخر غضبها لمنازلة جلودة، واعية، مدركة، بصيرة، مع العدوّ المجرم، المستبدّ، الغازي، الحقيقي، لا مع المدنيين، والعزّل، والأبرياء، أو العدوّ المفترَض بسذاجة وغباء، وربّما بشبهة، أسوةً بسيرة الرسول الصادق الأمين في صراعه مع قريش، وكيف نظرَ الرسول في هذا الصراع، وكيف انتهى إليه الفوز حتماً، لتقدّمه فيه بأخلاقه وعظيم بصره وبصيرته. 

القوّة عند الغرباوي هي غير العنف، بما هي مجال أيضاً للإقتصاد والسياسة والثقافة والفن والعمران، فيما العنف هو اتجاه واحد، محدود. القرآن الكريم في عنوان رئيسي له يحضّ على هذه القوّة الحضاريّة، الخلاّقة، ولا يحضّ على العنف العدواني. الشريعة الإسلاميّة، بتأكيد الكاتب أيضاً ودائماً، لا تقرّ المبادأة ظلماً وعدواناً. هي سمحاء، وفيها القاعدة وفيها الإستثناء. القاعدة هي آيات القربى والمودّة والحسنى، فيما الإستثناء هو آية السيف، خصوصاً ما دام القرآن المبين هو مصدر التشريع الأوّل. وعلى رغم ذلك فإن للسيف ضوابط،  حدوداً، قوانين، وإلاّ صار قتلاً وفساداً وإفساداً في الأرض. 

جوهر "تحديات العنف" هو الردّ على متمسكين بالدين، إنما على نحو مجتزأ، مبتور. إنهم يستسهلون حتى مبادأة أبناء جلدتهم ودينهم، وحتى مذهبهم، بالإجرام. يستسهلون التكفير، وليس من ذلك الإسلامُ. 

كتاب "تحديات العنف" وبمنطق يحاول أن يردّ على منطق لا منطق فيه، يردّ مهتدياً أيضاً بأئمّة، منهم مثالاً لا حصراً: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، والسيّد محمّد حسين فضل الله، حيث العقل كثير. 

نأمل ألاّ تكون صرخة ماجد الغرباوي في "تحديات العنف" صرخة في أرض مأهولة كلّها بالرمل.

 ***

شوقي مسلماني  - شاكر وكاتب - استراليا    

أيها الأنسان: لن تستطع الأنتصارعلى نفسك إلا بالتسامح، فهو قادر على دفعك إلى أمام، وإضاءة طريقك، ولفت نظرك إلى مالم تكن ملتفتاً إليه .

التسامح مصطلح غير قابل لأن نتخذ منه مسطرة نقيس به مايقع تحت إطاره من خلافات، فهو أن يصلح في مكان قد لايصلح لغيره، من هنا تأتي أهمية كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، للباحث الأستاذ ماجد الغرباوي، حيت تناول في كتابه هذان المصطلحان من الجانب المعرفي الذي له مساس مباشر بعقائد الناس، وهذا الأشتغال من أصعب وأخطر الأشتغالات على الأطلاق، حيث يحاول الباحثون عدم الأقتراب منه، بإعتبار له مساس مباشر بإعادة صياغة الخطاب الديني، وإخضاعه لفحص ينسجم وتطور العصر والأنسان، وهذا الفحص لايتم، إلا بالمرور على آيات القرآن الكريم، والتي ترى بعض الواجهات الدينية أن المرور بها من غير طريق الفقهاء، غيرمسموح به، ولذلك يتجنب الكثير من الباحثين تسليط الضوء عليها، لما يشكله هذا الضوء من خطورة في كشف حقائق غير معلنة .

لقد حسم الكتاب منذُ البداية، في كشفه، من أن مصطلح التسامح، يعني الأنفتاح على الآخر، معرفياً، وعلمياً، وثقافياً، وعقائدياً، وهذا لايتحقق، مالم نتخلى عن الكثير من الأعتقادات الخاطئة التي تقلص فرص التعايش السلمي

مثلما يدعونا، لإعادة النظر، في تفسيرالآيات القرآنية، على ضوء الكشوفات العلمية الهائلة، والثورة المعرفية المعاصرة، لكشف وجهها المخبوء الذي يدعو للرحمة، ليدعم الباحث فيها فرضياته، ويعزز بها فرص قبول كشوفاته .

يقول الغرباوي : لم يبق أمام الشعوب الأسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والأحتراب والعداء والأقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح

والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام لنزع فتيل التوتر .، وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم ــ .

أنها دعوة لدراسة علوم الأديان، والأطلاع عليها، ومقاربتها مع مانؤمن به، لإستخلاص نتائج من مفرداتها، وطروحاتها، ورؤاها، والتي تلتقي في نهاية الأمر، بذات الطروحات، والمفاهيم، والرؤى، التي نؤمن بها، والتي تشكل عامل مشترك لجميع الأديان، حد وصول التطابق في الطقوس الدينية، في الكثير من الممارسات .

وعليه يجب أن نعترف أننا لسنا الوحيدين الذين نعيش على هذا الكوكب، وإنما هناك بشرٌ آخرون يشاركوننا هذا المشترك، وليس من بدٍ للتعايش السلمي ألا بخلق ظروف طبيعية تنظر بإحترام لرؤاهم، وبهذا الأنفتاح وحده، نستطيع أن نقلص نقاط الإختلاف .

أن دعوة الباحث الأستاذ ماجد الغرباوي : لمراجعة الذات ونقدها، والوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها ــ نابعة من إيمانه المطلق بقدرة الإنسان على خلق المستجدات التي من شأنها أن تعيد تأسيسه، وتحذف الكثير من المصطلحات القديمة الموروثة بعد أن يكتشف، أن المفاهيم القديمة بدأت تحد من قدراته، وطاقاته، سواء الفكرية منها أو الجسدية، مثلما يكتشف أنها بدأت تقلص فرص إستفادته من العلوم والمعارف التي تنتجها الحضارات الأخرى المنتمية لدين غير دينه .

ألم يدعو القرآن الكريم الأنسان، إلى النصح، والمعرفة، والعلم، وتقصي الحقائق في الكثير من آياته ؟ .

لقد وقف الغرباوي طويلاً أمام قيم اللاتسامح بأعتبارها ركيزة بحثه المهم، فهو يرى أن لافكاك من العنف الذي يتولد عن اللاتسامح إلا بتفكيك مفاقسه، إبتداءً من البيت إلى المدرسة ومن ثمة العشيرة وإنتهاء بالمنظومات الدينية التي تمجد العنف وتدعو إليه وصولاً للتخلي عن العادات والتقاليد المتعارضة وقيم المدنية .

لابد من الإشارة الى أن العنف لايشمل الدين الأسلامي فحسب وأنما لعبت الأديان الأخرى دوراً مهماً في تبني ورعاية مفاهيمه إبتداءً من محاكم التفتيش في أسبانيا والتي كانت تطارد المسلمين واليهود من أجل تغيير دياناتهم وليس أنتهاءً بالحملات التبشرية التي رافقت الحملات العسكرية ناهيك عن العنف العرقي إبتداءً من فلسطين وليس أنتهاءً بالبوسنة والهرسك .

وهذا عامل آخر قام بتأصل العنف الدموي لدى المتطرفين في الأسلام فيما بعد .

يقول الأستاذ الغرباوي في كتابه القيّم : يعتبر التطرف الديني أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــ .

هل يعني الجهاد في المفهوم الإسلامي إشعال حروب في المدن، والشوارع، وبيوت الله ؟ .

فإذا كان الجهاد لإصلاح الخطأ، فالخطأ موجود في كل مكان، حتى في نفوس أولئك الذين يدعون إليه، ليس هناك أحد معصوم من الخطأ سوى الله .

أليس هناك لغة أخرى للجهاد إذا كانت النية لإصلاح الخطأ وإشاعة العدالة، كلغة الحوار، المكاتبات، النصح، الإرشاد، المناظرة ـ وإلى آخره من الجهادات التي تعبر عن نصاعة وجه المجاهد وليس قبحه ؟ .

أليس من أولويات الجهاد الوقوف على الشرائع السماوية التي جاءت بها الأديان الأخرى، لتفحص خطابها وتقليبه من أوجه عدة، والتعامل على المشتركات التي تضع المجاهد أمام إختبار قدراته العقلية، وعلى إستيعابه تلك المشتركات والأيمان بها، بأعتبارها صادرة من سراج واحد كما جاء في القرآن الكريم ؟ .

أن المحنة تكمن كما أشار الباحث في رجل الدين الذي يعطي غطاءً شرعياً لممارسة العنف، من خلال إصدار فتاوي التكفير، والتصغير، والإلغاء .

لقد حاول الكثير من الباحثين فصل كلمة أصولي عن كلمة متطرف وحذروا من جمعهما بإعتبار أن للأصولي دور فقهي خالص لايمت للإرهاب بصلة، فيما المتطرف يشكل خطر على غيره وعلى الإسلام الذي ينتمي إليه .

أن هذا الغطاء الشرعي وبمرور الزمن حول التطرف من رغبة إلى غاية جهادية تمثل ركناً مهماً من أركان الإسلام، وطبعاً هذا إعتقادٌ خاطيء لايمت للدين الإسلامي بصلة، بعد أن تحول إلى تهديد إجتماعي، وإنساني، ومعرفي،ثم تحول من ملاحقة دم إلى ملاحقة فكرة ودم .

إذا كانت حجة المجاهد تعرض الإسلام إلى ضغوطات وملاحقات وإلغاء، فالجهاد لايأخذ برجليه الأخضر واليابس بل يقع على المعتدي، ولكن الذي يحدث الآن أن الناس تقتل في الشوارع والأسواق ومكانات التبضع وفي مجالس الأعراس، ومجالس الفواتح، في السيارة، في الطريق، فأي جهاد هذا ؟ وضد من ؟ إذا كان جميع الضحايا من الأبرياء المسلمين وغير المسلمين.

هناك في كتاب الباحث المجتهد الأستاذ ماجد الغرباوي محطات مهمة تناولت إضطهاد المرأة والسعي لإلغاء دورها الحضاري والمعرفي .

القبيلة ومساهماتها السلبية في تفعيل ونمو العنف لدى أبناء القبيلة، ولم يغفل الباحث الفلسفات الدخيلة ودور الكتب التربوية المستوردة من بيئات غريبة ومدى تأثيرها وأثارتها للنعرات والتطرف، وأشار بوضوح إلى المجموعات المرتدة في الإسلام،. ومن أخطر النقاط التي أشار إليها الباحث هي آيات التسامح وآيات القتال وكأنه أراد أن يؤكد ماذهب إلية هيجل حين قسم الآيات إلى مدنية ومكية، معتبراً أن الآيات المكية آيات تدعو لمحاورة الأنسان وأثارة دايلوك معرفة نفسه والكون وتحفيزه على إعادة النظر في مبادىء القسوة والعنف التي كانت تطبق في الصحراء، فيما الآيات المدنية إتصفت بالعنف ومحاولة إلغاء الأخر .

وعرج الباحث على تعدد المرجعيات وتباين القراءات والفهم بحسب الفقهاء وقابلياتهم وثقافاتهم وفهمهم للأحداث والقضايا الساخنة والمصيرية، ومدى إستجاباتهم لضرورات الزمان والمكان .

الكتاب غني ومليء بالموضوعات المهمة، وليس من صالحه وأنصافه قراءة بهذا الحجم القصير، فهو يستحق تأمله والوقوف أمامه طويلاً، وتحليله تحليلاً علمياً ومعرفياً .

مكي الربيعي

سيدني / إستراليا

من اشد ما واجهه الفلاسفة والمصلحون والمفكرون ومن قبلهم الانبياء والرسل، هو تغيير عادات وتقاليد المجتمعات وقيمها الموروثة واحلال قيم جديدة بدلا منها، خصوصا اذاكانت هذه العادات قد ترسخت عبر قرون من الزمن، فعسير جدا ان تنتزع الانسان من موروثه وما الفه من عادات وتقاليد وقيم تشكلت عبر الزمن ثم تستنبت قيما اخرى جديدة وتحلها محلها، ولهذا كان عمل المصلحين والمفكرين شاقا والعبء الذي تحملوه في سبيل ذلك كبيرا والتضحيات التىقدموها جساما، فقد لاقوا من مجتمعاتهم العنت والقسوة والحرمان والسجن بل والتنكيل بهم كما نرى ذلك جليا في تاريخ المجتمع البشري، لقد كانوا يتحاشون وضع اسمائهم على مؤلفاتهم في زمن حياتهم خوفا من بطش السلطة الدينية والسياسية آنذاك ؛

ومفهوم التسامح بما يحمل من معنى  قيمي هو جديد على ساحتنا العربية والاسلامية  التي تعج بالتعصب بكل ابعاده والعنف والاستبداد السياسي والديني واقصاء الاخر المختلف دينيا اومذهبيا او عرقيا بل محاولة الغائه تماما، وهو جديد على مجتمعاتنا  التي تسيطر عليها جماعات التطرف الديني نتيجة لتوظيفها للنصوص الدينية بما يخدم مصالحها، لان التسامح بمفهومه الجديد يعبر عن حق اصيل من حقوق الانسان، حقه في اختيار العقيدة والفكر والتعبير عن آرائه بكل حرية ويعني فيما يعني قبول الآخر المختلف دينيا او مذهبيا او عرقيا اوفكريا  وعدم اقصائه  او الغائه يعني التعايش السلمي بين  مختلف الديانات والملل والاعراق ، وبعبارة اخرى يعني نبذ التعصب بكل مظاهره وابعاده ولا يخفى على احد مدى الحاجة الماسة لمجتمعاتنا العربية والاسلامية للتسامح وخصوصا في ظل الظروف الراهنة  التي ادت فيها سيطرة الفكرالاحادي الالغائي على ساحتنا العربية والاسلامية الى ما نراه من  تقاتل وتطاحن طائفي مؤلم ومن ثم اشاعة  الثنائيات البغيضة عبر فضائيات الكراهية فهناك دار شرك ودار ايمان ودار كفر ودار اسلام فسطاط كفر وفسطاط ايمان الى ان اصبح القتل على الهوية وما يجري في العراق وافغانستان وباكستان دليل صارخ على سيادة منطق التعصب والعنف والاقصاء بل الاستئصال والالغاء.104 tasamoh2

من هنا تأتي اهمية كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الاديان والثقافات"  لللباحث والكاتب القدير الاستاذ ماجد الغرباوي  كتاصيل لهذا المفهوم ومحاولة لتبيئته، اي نقله من بيئته التي ولد فيها  واستنباته في بيئة اخرى، وهي مسألة ليست هينة بل تحتاج الى تظافر جهود وعمل توعوي وثقافي متواصل لغرس هذه النبتة الجديدة  وتعاهدها  حتى تؤتي ثمارها، ونحن عندما نقول ان هذا المفهوم بما يحمل من مضامين حديثة تعتبر جديدة على  بيئتنا الفكرية العربية لا ننفي  وجوده بمعناه الاخر الذي يتضمن المنة والتفضل،لان التسامح كمفهوم يحمل قيمة اخلاقية تتناسب مع مضمون الكلمة لغة لان التسامح في اللغة هو التساهل  والجود يقال فلان سمح اي جواد فالتسامح كان يدل على  تنازل الشخص عن حقه تكرما ومنة،  لكن هذه الدلالة – كما يقول المؤلف- "تطورت بفعل التنظير الفلسفي لتتحول الى جزء من واجب تفرضه الحرية الشخصية التي يراد لها ان تكون متساوية بين الجميع، فلكل فرد حقه في الاعتقاد وحقه في التعبير عن رأيه، وليس هناك ما يبرر احتكار هذا الحق لجهة دون اخرى، فقبول الآخر وفقا لهذا الرأي ليس منة وانما واجب تفرضه الحرية الشخصية "

وقد ولد مفهوم التسامح في العالم الغربي نتيجة  حاجة ملحة كما هي حاجتنا في مجتمعاتنا الى اشاعة هذا المفهوم  وهي حاجة كان يفرضها الواقع المؤلم الذي كان يعيشه آنذاك ش من صراعات سياسية وحروب دينية وعرقية  وتعصب ديني وطائفية ،  وقد كتب الفيلسوف الانجليزي جون لوك في اواخر القرن السابع عشر عندما كان هاربا الى هولندا   "رسالة في التسامح"  ضمنها المعاني الجديدة لهذا المفهوم، والعجيب انه لم يجرؤ أن يضع اسمه على هذه الرسالة خوفا من بطش السلطة الدينية والسياسية الا قبل وفاته بمدة قصيرة  ؛ثم استمر التاصيل لهذا المفهوم الى ان أصبح قيمة مهمة كما نراها اليوم في المجتمعات الغربية ؛

واضافة للحديث عن التسامح بمعنا ه المعاصر من حيث دلالاته ومساحاته التي يشملها  تحدث المؤلف عن الاسباب التي تحول دون اشاعة هذا المفهوم في مجتمعاتنا الاسلامية وقد عبر عنها بمنابع اللا تسامح وهي سيادة منطق العنف والاحتكام اليه لا الى القانون فقد  اعتبر في كثير من مجتمعاتنا  قيمة اساسية فالقوي يهاب ويبجل ويحترم لقوته وهوقوة فاعلة ومؤثرة في وسطه الاجتماعي بل  تحول العنف الى منهج في تفسير التاريخ وقراءة الاحداث،ومن هذه المنابع الولاء القبلي وما يسببه من صراعات عشائرية واحتكام لقيم القبيلة،وعدم الولاء للقانون والدولة،ومنها سيطرة القيم الموروثة والعادات والتقاليدوما تلعبه من دور في تشكيل وعي الفرد ثم المجتمع؛ ومنها الاستبداد السياسي الذي يعتبرالخصم الرئيس للتسامح لان الاستبداد السياسي يعني رفض الاخر وتهميشه لذا لا يمكن التوفيق بينهما،ومنها التطرف الديني الذي يعده المؤلف اخطر منابع اللاتسامح على الاطلاق وذلك لانه يوظف فيه النص الديني  فهو يمارس تحت غطاء شرعي كالجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من العناوين الشرعية ؛

وبالرغم من تاكيد الديانات والشرائع السماوية على المحبة والعفو والرفق والمواساة وما اليها من اخلاق، الا  ان اغلب الحروب  والصراعات عبر التاريخ كان طابعها دينيا،فلا نعدم ان نجد  نصوصا في الديانة اليهودية والمسيحية  والاسلام  تتحدث عن محبة الاخر واحترامه والمساواة بين الناس والعدل والرحمة  بل هذه النصوص ليست قليلة في الشريعة الاسلامية الا اننا نرى ان الحروب في الغالب قامت باسم الدين  وبحجة الدفاع عنه، وهذا يعني توظيفا سيئا للنص الديني وتغييبا متعمدا لنصوص العدل و الرحمة والمحبة والمساواة والصفح ومقابلة الاساءة بالاحسان وغيرها، وهذا ما اشار اليه المؤلف عند الحديث عن بعض النصوص الموضوعة كحديث الفرقة الناجية وكيف وظف توظيفا سيئا عبر التاريخ وهو من الاحاديث الضعيفة جدا، في المقابل تم تغييب كم هائل من نصوص التسامح والعدل والرحمة والعفو بحجة النسخ وهي حجة واهية لاتصمد امام النقد ؛

ان مفهوم التسامح بما يتضمن من حمولة دلالية جديدة ليس آبيا على التطبيق لاننا نعيش بين ظهراني مجتمع- المجتمع الاسترالي - بالرغم من تعدد الاديان فيه والثقافات والتجمعات الاثنية الا ان الجميع يعيشون في ظل هذا المفهوم فلا اقصاء للآخر ولا تمييز عنصري او ديني،الكل يستطيع ان يعبر عن رايه  ويعتنق العقيدة التي يقتنع بها بكل حرية ولا عبرة بالشاذ النادر .

***

عاشور البدري

.....................

* بمناسبة حفل توقيع كتابي التسامح ومنابع اللاتسامح وتحديات العنف لماجد الغرباوي، في سيدني – أستراليا.

30-9-2010

جوهر الردّ على إسلام يأكل كبد إسلام حاضر يمكن العثور عليه بيُسر في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الذين يكرهون الآخر ولا يقرّون وجوداً له لا طائفيّاً ولا مذهبيّاً يرون لمسافة محدودة أنّ آية القتال،  ولا يجوز تسميتها بآية الجهاد باعتبار أنّ "الجهاد" أوسع وأشمل وأبعد وأعمق من "القتال"، يرون أنّ آية القتال موافقة لكلّ زمان ومكان. أو الصورة هي أنّ القرآن الكريم أصله في الرحمة والعفو والغفران والتسامح والمحبّة والإعتراف بالآخر، وأكثر ما يتجلّى هذا الأصل في السور المكيّة التي استغرق نزولها ثلاث عشرة سنة، فيما العابر هو ما استجدّ حيث أغلظ الشرك للإيمان الناشىء واعتزم أن يستأصل شأفته. وما الواقع الممزّق الذي تُزهق فيه الأرواح في معظم العرب والمسلمين ومنهم العراقيين إلاّ لأنّ الفهم المعاكس هو السائد.

ولكي تعود المياه إلى جداولها ويعمّ الخير لا بدّ من تفكيك خطاب الفهم المعاكس وإثبات أنّه متهافت، وهذا بالضبط ما يطمح إليه ماجد الغرباوي في كتابه "التسامح واللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات" الذي صدر في بغداد عن مركز دراسات فلسفة الدين ضمن سلسلة "ثقافة التسامح".

ويتعمّق الكاتب في مفهوم التسامح مقِرّاً أنّ التسامح يفترض يداً أعلى من يد لكنّه في آن مقيّد بالفهم المعاصر لناحية قبول الآخر كما هو وعلى ما هو ومن يكون وأينما يكون وعدم الإنقطاع في الحوار من مدخل التكامل وليس من مدخل الهداية التي تفترض أن الواقف على الضفّة الثانية هو كافر، وليس إذا اهتدى فله وإذا لم يخلع عنه الضلال فليس هو على ما لم يخلع وحسابه هو في العالم الآخر كما جوهر الكتاب، بل يجب أن يستعدّ لحرب ضروس تسيل فيها النفوس.

ويطلّ الكاتب على مفهوم المواطنة الذي يليق بالوطن الحقّ حيث الناس كأسنان المشط في الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن أي هويّة أخرى بالوراثة أو بالإختيار، أي على عكس القبيلة مثالاً لا حصراً التي لا تقيم وزناً للكفاءة وتُقدِّم اعتبارات لا سلطان فيها لكي يتصدّر المتصدِّرون ومنها اللون والعرق أو الدم أو النسب.

ويقف الكاتب من حديث الفرقة الناجية موقفاً، فهو لا يراه إلاّ موضوعاً ولا سويّة فيه ويؤسّس لاحتراب ظالم لا نهائي وهو الحديث الذي لم يرد لا في خزنة صحيح الإمام البخاري ولا في خزنة صحيح الإمام مسلم ويتطيّر منه العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله الذي يقول في معرض التطرّق إليه: "لم يثبت عندنا صحّة هذا الحديث من جهة السند فلا مجال للإعتماد عليه كما أنّ دلالته قد تخلق بعض المشاكل المعقّدة باعتبار كلّ فرقة ذاتها بأنّها الإسلام وغيرها الكفر أو أنّها الهدى فيما الآخرون هم الضلال".

وزبدة كتاب "التسامح واللاتسامح .." هي نبذ العنف بكلّ أشكاله وأخصّه الدموي. والحقّ أنّ الكاتب راسخ في ثقافته الإسلاميّة التسامحيّة حتى أبعد آفاقها ولا يخشى معها ومع الإسلام الحضاري ومع الله تعالى لومة لائم ويقارب موضوعه بجلاء من أكثر من ناحية ولا تعوزه كفاءة الإستشهادات من الكتاب الكريم والسنّة النبويّة الشريفة والصحابة رضي الله عنهم والتاريخ والوقائع ومنطق العقل المعاصر. إنّما تبقى ركائز: هل النزاع حول النصّ المقدّس أم في ما يمكن أن توضع اليد عليه؟ هل هو في التفسير والتأويل أم في تضادّ المصالح؟ ماذا عن واقع أنّ مصلحة الحكّام في اختلاف المحكومين؟ ما هو دور الإحتلال في تأجيج الفتن وانقلاب الحال إلى أسوأ منقلَب؟ وأسئلة أخرى يكون الجهد معها أيضاً في المحلّ العالي.

    ***

شوقي مسلماني - استراليا

...................

كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح ... فرص التعايش بين الاديان والثقافات، صدر بطبعتين، الاولى عن مركز دراسات فلسفة الدين / بغداد .. والطبعة الثانية عن مركز الحضارة في بغداد ودار العارف في بيروت.

في‌ ضوء القراءات‌ المتعددة‌ للواقع‌ الراهن‌، يبقي‌ الوعي‌ هو الاسّ في‌ معادلة‌ الصراع‌ القيمي‌ الحاضر، والذي‌ يجب‌ علي‌ كل‌ باحث‌ اسلامي‌ ان‌ يستلهم‌ اشعاعاته‌ ويتمثل‌ أبعاده‌ ويعيد صياغته‌ من‌ أجل‌ القضية‌ الاساسية‌ التي‌ يواجهها في‌ مهمته‌ الشاقّة‌،  وهي‌ مهمة‌ التجديد والاصلاح‌ والنهوض‌ بالواقع‌ الذي‌ يعيشه‌  الشرق‌ والعالم‌ الاسلامي‌ ازاء مقولات‌ كابحة‌ وتقليعات‌ مدّمرة‌ لا زالت‌ في‌ توالد مستمر تكرّس‌ نزعة‌ الهيمنة‌ وتستعين‌ بتطورها المادي‌ الهائل‌  من‌ أجل‌ استعباد الشعوب‌ وتغليب‌  الاحادية‌ والفردانية‌ في‌ التفكير  والمنهج‌ السياسي‌.

 وبهذا الصدد يجي‌ كتاب‌ الاستاذ الباحث‌ ماجد الغرباوي‌: اشكاليات‌ التجديد، كدراسة‌ تتوغل‌ في‌ عمق‌ المشكلة‌ وتغوص‌ في‌ القاع‌ لتكتشف‌ وتثير وتحاور من‌ أجل‌ تحليل‌ داخلي‌ معرفي‌ للاسس‌ النظرية‌ التي‌ تتعكز عليها كل‌ من‌ الرؤية‌ الاخري‌ النازعة‌ للهيمنة‌ والتفرد، والرؤية‌ المقاومة‌ المتمثلة‌ للوعي‌ وعقلنته‌ لاثبات‌ الوجود والهوية‌ المعاصرة‌.

 تتوزع‌ الكتاب‌ فصول‌ ثلاثة‌:

 الوعي‌ الراهن‌.

 احياء الفكر الديني‌.

 الموقف‌ من‌ الاستبداد.  

 الوعي‌ بالتجديد

 يتطرق‌ المؤلف‌ في‌ الفصل‌ الاول‌ الى‌ محورية‌ دور الوعي‌ في‌ التجديد مشخصاً الواقع‌ الراهن‌ علي‌ ضوء تداعياته‌ الخطيرة‌ المماثلة‌ لتداعيات‌ الواقع‌ التأريخي‌ السابق‌ على‌ عصرنا، فيكتشف‌ المؤلف‌ المماثلة‌ في‌ ارهاصات‌ ذلك‌ التداعي‌ وعلله‌ الاساسية‌ والمتمثلة‌ في‌ غياب‌ حالة‌ الوعي‌ تجاه‌ الفكر والعقيدة‌ والحكم‌ الشرعي‌ والمنبسطة‌ سلباً في‌ اتجاهين‌ رئيسيين‌: عدم‌ التمييز بين‌ ماهو الهي‌ وما هو بشري‌، وعدم‌ التمييز بين‌ ماهو مقدّس‌ وماهو غير مقدّس‌. وهو بذلك‌ يتوخى‌ طريقه‌ لرسم‌ آلية‌ منهجية‌ بعيدة‌ عن‌ افرازات‌ الذهن‌ البشري‌ المحدود او الملغوم‌ بظروفه‌ الخاصة‌ وصولاً الي‌ (اسلوب‌ الامام‌ علي‌ (ع‌) في‌ تعميق‌ الحس‌ النقدي‌ لدي‌ آحاد الامة‌، الذي‌ بعث‌ فيها الحياة‌ وأعاد لها شخصيتها حتي‌ قال‌ معاوية‌ بن‌ ابي‌ سفيان‌ في‌ وصف‌ هذه‌ الحالة‌. مخاطباً أهل‌ العراق‌: (لقد لمظكم‌ علي‌ بن‌ أبي‌ طالب‌ الجرأة‌ علي‌ السلطان‌ وبطي‌ ما تفطمون‌).

 وهذا عند المؤلف‌ هو الكفيل‌ بالارتقاء الفكري‌ للفرد بعد ان‌ تتجسّر  العلاقة‌ بين‌ الامة‌ ومصادرها الفكرية‌ والعقيدية‌ من‌ الكتاب‌ والسنّة‌ ليتشكل‌ بعد ذلك‌ تيار ضاغط‌ يهدد النزعات‌ الشخصيّة‌ ويرسم‌ اتجاه‌ حركة‌ الدولة‌ والقيادة‌.

 ثم‌ يدخل‌ في‌ صلب‌ موضوعة‌ الكتاب‌ (التجديد) ويتوجس‌ من‌ مخاطرها لانها عبارة‌ عن‌ تقويم‌ الواقع‌ و(اعادة‌ صياغة‌ بنية‌ الفرد المعرفية‌ وفقاً لمتطلّبات‌ الحاضر وضرورات‌ المستقبل‌، وفي‌ اطار الثابت‌ والمتغير من‌ الدين‌)  .

 وهو ـ مع‌ هذا ـ يحثّ المفكر الخبير لخوض‌ غمار المعترك‌ وايقاد شعلة‌ الهّم‌ التجديدي‌ في‌ دواخل‌ ضمير الامة‌، لانه‌ ـ التجديد ـ حاجة‌ يتطلبها طبيعة‌ الظرف‌ الراهن‌ وهو يحوي‌ هذا التحول‌ المعرفي‌ الهائل‌ الذي‌ كلما تقدم‌ يوضح‌ بصورة‌ أكبر معركة‌ متبنيات‌ وآليات‌ التجديد والنهوض‌ لدى‌ الشرق‌ حيث‌ ينقسم‌ الى‌ متغرّبين‌ وسلفيين‌ واصلاحيين‌، وهنا تلتقي‌ مقولة‌ التجديد بالثقافة‌، فيعرّج‌ المؤلف‌ لمصطلح‌ المثقف‌ ويحدد عناصره‌ بثلاث‌:

 1 ـ المعرفة‌: وهو الخزين‌ الثقافي‌ الضروري‌ لنقد الواقع‌ واصلاحه‌ يمكنّه‌ من‌ قراءة‌ التراث‌ الاسلامي‌ والنص‌ القرآني‌ قراءة‌ كاشفة‌ عن‌ الابعاد والمداليل‌ والايحاءات‌ والفروقات‌ بين‌ ثوابته‌ ومتغيراته‌.

 2 ـ الوعي‌: وهو غير المعرفة‌ المتراكمة‌، بل‌ اضاءة‌ لفضائه‌ المعرفي‌ تحركّه‌ لنبذ المظاهر المتخلّفة‌ والمفاهيم‌ المقلوبة‌ وبكلمة‌ هو ادراك‌ الواقع‌ ومحاكمته‌، وبدون‌ الوعي‌ ـ كما يقول‌ ـ لا تتحرك‌ في‌ المثقف‌ دواعي‌ التجديد وهموم‌ الاصلاح‌. ثم‌ يذكر الامام‌ الخميني‌ كنموذج‌ انتج‌ وعيه‌ ادخال‌ عنصري‌ الزمان‌ والمكان‌ في‌ العملية‌ الاجتهادية‌ ارتقت‌ به‌ الي‌ مستوي‌ عصري‌ راقٍ.

 3ـ الموقف‌: وهو العنصر الاساس‌ في‌ بلورة‌ مفهوم‌ المثقف‌ في‌ العصر الحديث‌، وهنا يتساءل‌ المؤلف‌ بشجاعة‌: ماذا يترتب‌ على‌ المعرفة‌ والوعي‌ اذا لم‌ يتحولا الى‌ موقف‌ شجاع‌ يعلن‌ علي‌ رؤوس‌ الاشهاد، وينفع‌ في‌ اصلاح‌ واقع‌ الامة‌؟

 ويخلص‌ من‌ ذلك‌ كله‌ الي‌ ربط‌ المسألتين‌ معاً (التجديد والثقافة‌)  ربطاً جدلياً منتجاً، يتجه‌ نحو اصلاح‌ الانساق‌ الثقافية‌ بعد تفكيك‌ مكوناتها ثم‌ مراجعتها بغية‌ تقويمها وفق‌ صياغة‌ تخدم‌ مصالح‌ الدين‌ والامة‌ معاً.

 وكنموذج‌ للتجديد يتطرّق‌ المؤلف‌ لمدي‌ اهمية‌ الصياغة‌ الجديدة‌ لعلم‌ اصول‌ الدين‌ الذي‌ تطوّر نتيجة‌ بعض‌ السجالات‌ الفكرية‌ حول‌ العقيدة‌ الى‌ علم‌ كلام‌، والذي‌ أفرز جملة‌ من‌ السلبيات‌ اختزلتها مقولة‌ عزلة‌ الانسان‌ وعقيدته‌ عن‌ حياته‌ ومنهجه‌ السلوكي‌ في‌ المجتمع‌، فصار الانسان‌ بفعل‌ هذه‌ العزلة‌ غريباً عن‌ منهجه‌ القرآني‌ وفطرته‌ وصارت‌ العقيدة‌ تدور حول‌ مجموعة‌ من‌ المفردات‌ والابحاث‌ الكلامية‌ التي‌ انتجت‌ شرخاً كبيراً في‌ ما بين‌ اصحاب‌ العقيدة‌ الواحدة‌ فتشكّلت‌ الفرق‌ وتقاطعت‌ الافكار، وادّى‌ ذلك‌ كله‌ الي‌ رفد بوتقة‌ السياسات‌ المستبدة‌ واعانة‌ اصحاب‌ الاهواء والمصالح‌.

 ويناغم‌ الكاتب‌ بطريقة‌ ايحائية‌ اطروحة‌ علم‌ الكلام‌ الجديد الذي‌ يهدف‌ الي‌ اكتشاف‌ جوهر العقيدة‌ الاسلامية‌ وحقيقتهاالمتمثلة‌ بالعودة‌ الي‌ المنهج‌ القرآني‌ الذي‌ يمنح‌ الانسان‌ دوره‌ الفاعل‌ في‌ بناء الحياة‌ ومواكبة‌ التطوّر الحضاري‌ لتبقي‌ العقيدة‌ واقعاً متحركاً مبدعاً يواجه‌ التحدّيات‌ ويواكب‌ المستجدّات‌ ويشبع‌ التطلعات‌ ويسمح‌ بالاجتهاد وتبادل‌ وجهات‌ النظر وفق‌ منهج‌ علمي‌ منتج‌ ومبشّر بكل‌ ماهو جديد.

 وفي‌ ذات‌ الفصل‌ يستعرض‌ الاستاذ الغرباوي‌ الجذر التأريخي‌ لاشكالية‌ الحوار مع‌ الا´خر كمرحلة‌ اولي‌ تهي‌ الوسط‌ الناقل‌ للفكر  والفكرة‌، فيقول‌: ولم‌ يواجه‌  الحوار الحضاري‌ الاسلامي‌ في‌ مراحله‌ الاولي‌ تحدّياً الا من‌ قبل‌ شعوب‌ كانت‌ تحتفظ‌ بانساق‌ فلسفية‌ وسياقات‌ فكرية‌ تتحكم‌ باداء العقل‌ وتمنع‌ اي‌ مراجعة‌ من‌ شأنها تقويض‌ البني‌ الفكرية‌ له‌ .

 ولكن‌ هذه‌ الشعوب‌ في‌ الحقيقة‌ بقيت‌ تعاني‌ من‌ افرازات‌ انتماءاتها الخاصة‌ علي‌ فهم‌ النص‌ الديني‌ نفسه‌، الا ان‌ المسلمين‌ تمكنوا من‌ خلال‌ الحوار الجاد والمثمر من‌ التواصل‌ معهم‌ والتأثير بهم‌ وبناء الدول‌ الاسلامية‌ في‌ اماكن‌ متناثرة‌ من‌  العالم‌ الاسلامي‌ حتى‌ حقق‌ الاسلام‌ رفع‌ شقّي‌ الاشكالية‌ المتقدمة‌، الاعتراف‌ بالا´خر، والقدرة‌ علي‌ الانفتاح‌ والتفاعل‌ الثقافي‌ معه‌. وعن‌ الشق‌ الاول‌ تحدثت‌ التجربة‌ الاسلامية‌ وفتوحاتها، واما عن‌ الشق‌ الثاني‌ فيقول‌ المؤلف‌ أنه‌ مبدأ قرآني‌ رسخه‌ جمله‌ من‌ الآيات‌.

 وحول‌ مدى‌ حجم‌ الاشكالية‌ المتقدمة‌ في‌ الحوار الحضاري‌ الراهن‌، فاننا نؤيد الاستاذ الكاتب‌ في‌ ابتلائه‌ بالاشكاليتين‌ المتقدمتين‌ (شقّي‌ الاشكالية‌، (فليس‌ وعي‌ الغرب‌ للاسلام‌ يساعد علي‌ الحوار وليس‌ الانفتاح‌ الثقافي‌ لواقع‌ المسلمين‌ يؤيده‌)، فالاسلام‌ في‌ وعي‌ الغرب‌ هو المنافس‌ الآيديولوجي‌ الاول‌ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي‌ للاطروحة‌ الغربية‌ المعاصرة‌ التي‌ تشير مصادر دراستها (نهاية‌ التأريخ‌ لفوكوياما وصدام‌ الحضارات‌ لهانتغتون‌) لانها هي‌ خلاص‌ البشرية‌ ونهاية‌ جهدها الفكري‌ وحركتها الابداعية‌، وسعي‌ الغرب‌ لعولمة‌ هذه‌ الفكرة‌ مهمّشاً بها ايديولوجيات‌ العالم‌ وانساقه‌ الفكرية‌ الخاصة‌، ومادام‌ الغرب‌ لم‌ يعترف‌ بالآخر فسوف‌ لن‌ يتم‌ اشباع‌ هاجس‌ الحوار معه‌، وهذا يفرض‌ علينا ـ كما يذهب‌ المؤلف‌ ـ امتلاك‌ اللغة‌ التي‌ يفهمها الغرب‌ وهي‌ ـ عنده‌ ـ (لغة‌ القوة‌ والتطور التقني‌ والتعددية‌ والديموقراطية‌ في‌ الحكم‌ والحرية‌ في‌ ابداء الرأي‌ والصراحة‌ في‌ التعبير عن‌ قناعاته‌) كما (علينا نحن‌ أيضاً ان‌ لا ننغلق‌ على‌ الذات‌ الى حدّ نرفض‌ فيه‌ كل‌ مالدي‌ الغرب‌ من‌ ثقافة‌، لان‌ الآخر المختلف‌ من‌ شأنه‌ ان‌ يطوّر الثقافة‌ من‌ خلال‌ اشكالياته‌ واستفهاماته‌ التي‌ يثيرها باستمرار .

 وفي‌ نهاية الفصل‌ الاول‌ يتعرّض‌ المؤلف‌ لبعض‌ هموم‌ المجتمع‌ الاسلامي‌ ودور المثقف‌ في‌ الدولة‌ الاسلامية‌، فتراه‌ لا يستعرض‌ النشأة‌ التأريخية‌ لمقولة‌ المجتمع‌ المدني‌ بقدر ما يشغله‌ تسليط‌ الضوء على‌ مفهومها وفرزها بشكل‌ دقيق‌ عن‌ ملابساتها من‌ الطروحات‌ الوضعية‌ والتقليعات‌ المستجدّة،‌ اذ يركّز على‌ هدفية‌ الطرح‌ الذي‌ يتوائم‌ مع‌ المبادي‌ الاسلامية‌ والقيم‌ الدينية‌، فليس‌ هذا الطرح‌ بمتقاطع‌ مع‌ وجود الدولة‌ الاسلامية‌ او يمتد مقابلاً لحقوق‌ المجتمع‌ المرسومة‌ شرعاً، بل‌ يهدف‌ هذا الطرح‌ الى‌ اعطاء الفرد في‌ الدولة‌ الاسلامية‌ فضائية‌ ومساحة‌ اكبر لممارسة‌ دوره‌ في‌ النقد والدفاع‌ عن‌ حقوقه‌ من‌ خلال‌ طوعية‌ الانتماء واستقلال‌ الشخصية‌ وحريّة‌ الرأي‌.

 واما عن‌ دور المثقف‌ في‌ الدولة‌ الاسلامية‌ وتكوين‌ البنية‌ الفكرية‌ للمجتمع‌ والمساهمة‌ في‌ تجديد هويته‌ الثقافية‌، فيعقد الحديث‌ اولاً عن‌ الاشكاليات‌ التي‌ تواجه‌ دور المثقف‌ غير الاسلامي‌، فيقول‌: فالمثقف‌ غير الاسلامي‌ أما ان‌ يتخلّي‌ عن‌ كل‌ شي‌ء ليلتحق‌ بالآخر (الغرب‌) بدواعٍ (حداثوية‌) وحينئذ يعيش‌ غربة‌ حقيقية‌. او يحاول‌ ان‌ يجد صيغاً توافقية‌. بين‌ الاسلام‌ والآيديولوجيات‌ الآخري‌، فينتج‌ لنا اسلاماً مشوّهاً، وحينها سيعيش‌ هذا الفرد تناقضاً مريراً في‌ مجتمعه‌  .

 اما المثقف‌ الاسلامي‌ ـ وهذه‌ التفاتة‌ جوهرية‌ رائعة‌ من‌ المؤلف‌ ـ فانه‌ فرغ‌ من‌ مسألة‌ المرجعية‌ الثقافية‌، فلا غربة‌ ولا تكاسل‌، لان‌ مرجعيته‌ الثقافية‌ تشع‌ له‌ بالرؤي‌ والافكار والطموحات‌ التي‌ ليس‌ لها حدّ. وهذه‌ المصادر الاشعاعية‌ تزودّه‌ بطاقة‌ حركية‌ تجعله‌ في‌ عمل‌ متواصل‌ لانجاز مهامه‌ التي‌ يلخصها المؤلف‌ بـ: بث‌ الوعي‌، النقد،  تبني‌ قضايا الامة‌ .   

 احياء الفكر الديني‌:

 وفي‌ الفصل‌ الثاني‌ يتناول‌ المؤلف‌ جذور فكرة‌ الاحياء الديني‌ بالبحث‌ والكشف‌ والتحليل‌ مستفيداً من‌ التجربة‌ الاسلامية‌ التي‌ كانت‌ حيّة‌ في‌ مبدأ أمرها بفعل‌ العبقرية‌ الفكرية‌ والسياسية‌ للرسول‌ الاعظم‌ (ص‌) وعدم‌ ظهور تيارات‌ تخريب‌ قوية‌ في‌ عهده‌، فأرسى‌ ملامح‌ الفاصلة‌ الضرورية‌ بين‌ الدين‌ والحياة‌، ثم‌ اجتاحت‌ الامة‌ الاسلامية‌ موجة‌ من‌ التخريب‌ الفكري‌ والسياسي‌، ووجدت‌ لها صدىً في‌ ثلاث‌ حروب‌ ثارت‌ الاولى‌ علي‌ العدل‌ والثانية‌ علي‌ الشورى‌ والثالثة‌ على‌ العقل‌.

 وجر الدين‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ لمصلحة‌ معاوية‌ وغيره‌ من‌ المتفعين‌، وانفصل‌ عن‌ السياسة‌ بل‌ تبعها، فكان‌ ذلك‌ من‌ اكبر حملات‌ التخريب‌ الديني‌ .. وهكذا يستعرض‌ المؤلف‌ تلك‌ الحملات‌ المتوالية‌ والممتدة‌ (13) قرناً حتى‌ جاءت‌ مرحلة‌ ما بعد الاحياء والمتمثلة‌ باشكالية‌ النأي‌ عن‌ مقاصد الشريعة‌ فتحمل‌ الاصلاحيون‌ الدينيون‌ مهمتهم‌ ابتداءً من‌ السيد جمال‌ الدين‌ الافغاني‌ الي‌ حين‌ قيام‌ الجمهورية‌ الاسلامية‌ في‌ ايران‌ .. ومرّ المؤلف‌ بمناسبة‌ الحديث‌ عن‌ التيار الاصلاحي‌ برموز الاصلاح‌ في‌ العالم‌ الاسلامي‌، السيد جمال‌ الدين‌ ودوره‌ في‌ مناهضة‌ الاستبداد واشاعة‌ تركيز الوعي‌ ومحاربة‌ الاستعمار ومشروع‌ الجامعة‌ الاسلامية‌ وتنقية‌ الفكر الاسلامي‌ من‌ الشوائب‌، والشهيد محمد باقر الصدر واسهاماته‌ الفريدة‌ والمتنوعة‌ في‌ الاصلاح‌، فكرياً وحركياً ومرجعياً، والامام‌ الخميني‌ واصلاحاته‌ الحوزوية‌ والسياسية‌ والاجتهادية‌ التي‌ أكدّت‌ دور العلماء وحجّمت‌  فقهاء السلاطين‌ وأتت‌ على‌ شاهنشاهات‌ ايران‌ وأذّنت‌ بانتهاء التبعية‌ للدول‌ الاستعمارية‌ وأعادت‌ للامة‌ دورها المغيّب‌ وانتهت‌ باقامة‌ دولة‌ اسلامية‌ على‌ أرض‌ الواقع‌ محققة‌ حلم‌ الانبياء والمصلحين‌.

 والمؤلف‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ يركّز على‌ مفاتيح‌ العبقرية‌ الاصلاحية‌ واسرار التحرّك‌ الاصلاحي‌ الواعي‌ مدّللاً بذلك‌ على‌ امكانية‌ اعادة‌  دراسة‌ وتمثّل‌ تلك‌ المشاريع‌ وضرورة‌ استكمالها نهوضاً بالواقع‌ الراهن‌ الي‌ أقصي‌ مديً ممكن‌، وكل‌ ذلك‌ عبر لغة‌ معاصرة‌ كان‌ يلوّح‌ بها المؤلف‌ من‌ خلال‌ ثنايا الكتاب‌ وطبيعة‌ توجه‌ بحثه‌ ودراسته‌.   

 الموقف‌ من‌ الاستبداد

 ويدرس‌ المؤلف‌ الاستبداد في‌ الفصل‌ الثالث‌ ويبيّن‌ ماهيته‌ ومناوئيه‌ من‌ الاصلاحيين‌ كما يدرس‌ بشكل‌ مقتضب‌ جذره‌ التأريخي‌ ومعاناة‌ الامة‌ منه‌ ومن‌ اشكاله‌ التي‌ تتحدد بثلاثة‌: رضوخ‌ الفرد لتحدّيات‌ المستبدّ، الاستجابة‌ الطوعية‌ للمستبد وتسخير رجل‌ الدين‌ للشرعنة‌ وتطويع‌ الناس‌، الرفض‌ والتمرد وعدم‌ الاستجابة‌ لارادة‌ المستبد.

 والحقيقة‌ ان‌ الاستبداد هو العقبة‌ الكؤود امام‌ التجديد والنهضة‌، اذ يقضي‌ الاستبداد سواء كان‌ سياسياً ام‌ دينياً علي‌ دور الا´خر الفرد او الامة‌، ويعطّل‌ قدرته‌ الذاتية‌ على‌ التحرك‌ الرسالى‌، وينتج‌ نسخاً مستنسخة‌ عن‌ المستبدّ ورأيه‌، ولكن‌ مع‌ المستبد دائماً يوجد أسّ آخر في‌ معادلة‌ الصراع‌ وهو المصلح‌، (فلا يمكن‌ للاستبداد ان‌ يستمر مادام‌ هنالك‌ دعاة‌ مصلحون‌، ولا يسود الاصلاح‌ وهناك‌ جذر للاستبداد).

 ومن‌ هنا شرع‌ المؤلف‌ بدراسة‌ الخطوات‌ التي‌ اتبعها المصلحون‌ في‌ محاربة‌ الاستبداد:

 1 ـ فضح‌ الممارسات‌ الاستبدادية‌ ومثل‌ لذلك‌ بالسيد جمال‌ الدين‌ والشهيد الصدر وعبد الرحمن‌ الكواكبي‌ وغيرهم‌، وما لاقوه‌ في‌ سبيل‌ ذلك‌ من‌ محن‌ وابتلاءات‌ وصور شتّي‌ من‌ الاضطهاد والتنكيل‌.

 2 ـ تبني‌ مبدأ الشوري‌ والديموقراطية‌ كطرفي‌ النقيض‌ للاستبداد، وتطرّق‌ لآراء الكواكبي‌ ومحمد عبده‌ ومحمد حسين‌ النائيني‌ منظّر الحركة‌ الدستورية‌ في‌ ايران‌ والامام‌ الخميني‌.

 وفي‌ هذه‌ النقطة‌ جعل‌ المؤلف‌ المعارضة‌ وحرية‌ الرأي‌ علامة‌ صحّة‌ تكشف‌ عن‌ قوة‌ النظام‌ وجدارته‌ واقصاء المعارضة‌ دليلاً علي‌ الاستبداد والقمع‌ لارادة‌ الجماهير  ودّلل‌ علي‌ ذلك‌ بأقوال‌ للامام‌ الخميني‌ وهو ينظّر للدولة‌ الاسلامية‌ وعلاقتها بالامة‌.

 3 ـ سيادة‌ القانون‌، القانون‌ الذي‌ يبدأ الاستبداد بانتهائه‌ واحتقاره‌ من‌ قبل‌ المستبد، وراح‌ المؤلف‌ هنا يتتبع‌ كلمات‌ الامام‌ الخميني‌ وهو يمنح‌ القانون‌ السيادة‌ العليا على‌ الجميع‌ كخطوة‌ اساسية‌ لمحاربة‌ الاستبداد، ويوضّح‌ العلاقة‌ بين‌ ولاية‌ الفقيه‌ واحترام‌ القانون‌ او مناهضة‌ الاستبداد وانه‌ لا تضاد بينهما بل‌ توافق‌ وانسجام‌ لان‌ هدف‌ ولاية‌ الفقيه‌ هو احترام‌ القانون‌ ومنح‌ الامة‌ دورها وحجمها الطبيعيين‌ كما فعل‌ النبي‌ والائمة‌  حينما تصدّوا لقيادة‌ الامة‌ وبناء الدولة‌.

 واخيراً فكتاب‌ "اشكاليات‌ التجديد" الذي‌ بين‌ ايدينا هو نافذة‌ تقرأ من‌ خلالها وعي‌ المؤلف‌ المستمدّ من‌ وعيه‌ للواقع‌ على‌ صورته‌ التي‌ ينبغي‌ لكل‌ باحث‌ ودارس‌ ومثقف‌ أن‌ يعيه‌ ويعي‌ أسس‌ تشكّله‌ واشكالياته‌، تطلّعاً لنهضة‌ اسلامية‌ تعيد الرؤية‌ الاسلامية‌ الي‌ نصابها الواقعي‌ في‌ خضم‌ حملات‌ التشويه‌ والتهميش‌ وتمنحها مساحتها المرجّوة‌ من‌ لغة‌ العصر وشكله‌ الحاضر.

***

د. محمد سعيد الأمجد - العراق

....................

الغرباوي، ماجد، اشكاليات التجديد، ط2، 2001م،  بيروت، لبنان، دار الهادي.

 

تابعت ماكتبه الاستاذ الباحث ماجد الغرباوي تحت عنوان التسامح نظرة اولية للمفهوم بشغف وتلهف وذلك لعدة اسباب، الاول هو في الحقيقة انني اردت ان اتعرف على الشخص الذي فتح  افاقا كبيرة للكثير من المطلعين والمثقفين كي يكتبوا ما يجول في افكارهم وهم يعرفون ان مايضعوه على الورق يجد طريقه الى النشر ومن ثم الى المهتمين في عالم الثقافة، الثاني هو الموضوع وعنوانه بالذات فانه يؤثر على مسار الحياة في العالم عموما وفي عالمنا العربي والاسلامي على وجه الخصوص فانه اكثر المعنيين بمؤثرات معاني التسامح من عدمه، وبامر ذي صلة بما سبق فان هذا الموضوع اصبح في صلب اهتمام المفكرين والمثقفين على حد سواء وحسب اعتقادي بدأ هذا الاهتمام بعيد انتهاء الحرب الباردة، اثر سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن العشرين، واعني بهذا القول بداية تطبيق نظرية صراع الحضارات (لهينغنتون) اي بصريح العبارة انه موضوع يخص الدين عموما، والدين الاسلامي خصوصا، اما الامر الاخر هو ماذكره الباحث الغرباوي حول ماتناوله كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح حيث يقول (فاطار البحث الاديان والثقافات، وقد يتعدى الى مساحات اخرى كالسياسة مثلا) وهنا اود ان اقول ان الدين والثقافة مفهومان قد تداخلا فيما بينهما، فمن الصعب ان لم يكن من المستحيل ايجاد صيغة تفكك بها مفاهيم ثقافية لبلد ما وتجردها عن المفاهيم والموروثات الدينية، وبذلك تكون المؤثرات على الباحث والمفكر هي ثقافية ممزوجة بتعاليم دينية مهما حاول ان يتجرد عنها وقد اصبحت هذه المؤثرات محركات اساسية للسياسيين في الغرب على وجه الخصوص، وهنا للتذكير اقول عندما جاء اوباما صيف 2009 الى القاهرة ليوجه رسالة الى المسلمين عبرها فهو لم يأت بجديد الاقوله ان العلاقة بين امريكا واسرائيل غير قابلة للكسر فالروابط بينهما هي روابط ثقافية وتاريخية، ولو عدنا الى الوراء نجد ان الطرفين لايمكن ان يوصفا بالبلدان بكل المقاييس الزمنية والحضارية وغير ذلك، لكن مايربطهما هو شيء اعمق من هذه واعني الرابطة الدينية فكلاهما يرتبط بالتعاليم التوراتية، فاساس امريكا ديني يؤمن بالمذهب البروتستانتي [1] وحتى رحلة كريستوفر كولمبس (هي في واقع الامر رحلة دينية تبشيرية ففي الواقع التاريخي اذا رجعنا الى ماقبل ذلك، لوجدنا لرحلة كريستوفر كولمبس اساسا دينيا، فضلا عن الاسباب التجارية التي تتمثل في اقتصاد الذهب والفضة لمحاربة المسلمين وتخليص بيت المقدس من ايديهم مع نشر المسيحية الكاثوليكية في اسيا) [2]وعن تبرير المهاجرين الاوائل لحربهم ضد السكان الاصليين في امريكا كان التبرير دينيا فـ (عندما قاتل المهاجرون الهنود الحمر اعتبروا انفسهم بني اسرائيل يقاتلون من حولهم من الاغيار) [3] وحتى (عندما ثار الامريكيون على الحكومة البريطانية في سبعينات القرن الثامن عشر، اعتبروا انفسهم مجددا بني اسرائيل والحكومة البريطانية هي فرعون موسى) [4]. اذن التأسيس على اساس ديني وتحرير الارض على اساس ديني فكيف يكون الحراك الثقافي لو صح التعبير وهل يستطيع الباحث او المفكر ان يفكك المفاهيم الثقافية عن الدينية، وهناك مفاهيم يشترك فيها الامريكي المسيحي البروتستانتي مع اليهودي عموما واليهودي الصهيوني على الاخص وهي مفاهيم شعب الله المختار، وارض الميعاد وغير ذلك، فلما تكون الهجرة على اساس ديني واقامة الكيان السياسي على المباديء الدينية فهل نستطيع ان نجرد الثقافة عن الدين، وايضا سؤال هل يستطيع احد ان ينكر ان اسرائيل قامت بحجج دينية، وانها استولت على ارض فلسطين بدعاوى تاريخية دينية، وشردت ساكنيها بحجة ان هذه الارض هي لشعب الله المختار، وانها ارض الميعاد لهم، واستولت على بيت المقدس بحجة وجود هيكل سليمان هناك واجرت عدة تنقيبات وحفريات هناك مما عرض الحرم القدسي الشريف الى خطر الانهيار، وادعت ان حائط البراق الذي يقدسه المسلمون هو حائط المبكى، ان هذه الادعاءات ليس من حاخامات اليهود بل هي من رجال السياسة الاسرائيليين. هذا من الجانب الامريكي الاسرائيلي، اما الجانب الاوربي نجد ان فرنسا اخذت على عاتقها مع المانيا ولو بصورة اخف معارضة انضمام تركيا المسلمة الى الاتحاد الاوربي المسيحي وتركيا هي عضو فاعل في حلف شمال الاطلسي، كذلك ان في فرنسا جدل اصبح شبه دائم ومن سنين حول النقاب في المدارس من قبل الطالبات المسلمات ويجهد الرئيس الفرنسي نفسه في هذا الوقت من اجل استصدار تشريع من البرلمان يمنع بموجبه ارتداء النقاب في الاماكن العامة وايضا يجري في بلجيكا مايجري في فرنسا. والسؤال السياسة هل هي من صلب الحراك الثقافي الديني ام تنفصل عنهما، فاذا اخذنا بقول الباحث الغرباوي بان اطار البحث هو الاديان والثقافات، وقد يتعدى الى مساحات اخرى كالسياسة مثلا، اقرأ من هذا النص ان التأثير معدوم وحتى لو وجد فهو قليل، لكنني اجد من الصعب الفصل بينها واقرب الى المستحيل ان يتجرد الكاتب او الباحث عن مفاهيمه او حتى الموروث الثقافي الديني الجمعي لو صح التعبير، وكذلك السياسي، وان الكاتب يكتب للسياسي وكلاهما في منظومة متكاملة، فمثلا عندما كتب المستشرق بروكلمان كتابه تاريخ الشعوب الاسلامية ماذا اراد ؟ الجواب من نفس المستشرق حيث قال (لاتزال كتابة تاريخ الشعوب والدول الاسلامية منذ نشأتها حتى الوقت الحاضر ضربا من المحاولة الخطرة، لان مصادر مثل هذا التاريخ لم تصبح بعد متناول البحث، ولم تخضع بعد للتحليل النقدي. وليس يجرؤ فرد واحد على النهوض بهذا العبء. ومع ذلك فمن الخير، في ما يبدو. ان نقدم للمعنيين بمسائل السياسة الدولية نظرة طائر عن مصاير المسلمين التي تتشابك اليوم بأحداث العالم على العموم بأكثر مم تشابكت في وقت مضى) [5] ويمضي بروكلمان بالقول (ولقد حاولت ان اقدم الى قراء هذا الكتاب، بالاضافة الى التاريخ السياسي، لمحة عن الحياة الثقافية والفكرية بقدر مايسمح مجال هذه الصفحات المحدودة) [6]. وهذا يؤكد القول انك عندما تدرس التاريخ السياسي او السياسة والحياة السياسية لابد لك ان تدرس الاسس والمنطلقات الثقافية والفكرية فلا استغناء مفهوم عن مفهوم، ويؤكد بروكلمان صعوبة ان يتحمل كاتب بمفرده او مستشرق يريد ان يدرس الشرق عبء هذا المشروع، وقد صدرت هذه الملاحظة عن بروكلمان فلأن المانيا لاتمتلك منظومة تتكون من السياسي والمستشرق والكنيسة للتحمل هذا العبء، (فالمانيا ساحة صراعها ليس البلاد العربية والاسلامية بل ساحة صراعها اوربا فهي مثلا لها اطماع في النمسا، وبعض اجزاء من يوغسلافيا السابقة وحتى في الحرب العالمية الاولى حدث تحالف بين المانيا والدولة العثمانية وفي الحرب العالمية الثانية لم يظهر هتلر اهتماما بالمنطقة العربية مثلما اهتم في وسط اوربا وشرقها وحتى الاتحاد السوفيتي) [7] لكن بروكلمان يدعي انه من الخير ان يتقدم بخطوة تفيد المعنيين العاملين بالسياسة، وعندما يأتي بروكلمان على ذكر البعثة النبوية الشريفة فانه لايشكك بل ينفي اي وجود للوحي السماوي، كذلك انه يصر على ان الرسول الاكرم صلوات الله عليه وعلى اله وسلم انه يبدل الايات القرانية الكريمة حسب مقتضيات الحالة الراهنة التي تجر عليه بالفائدة في نشر دعوته، ويصر على وجود ايات لاوجود لها اصلا في القران الكريم مثل اية الغرانيق، وللايضاح اكثر نقتبس هذه النصوص من بروكلمان وكتابه تاريخ الشعوب الاسلامية، فمثلا يذكر بروكلمان عن حياة الرسول الاولى وشبابه ومن ثم بدء الرسالة بكلام يعبر عن كل مايريده عن نفيه للوحي الالهي فيقول (شعرت خديجة نحوه بتعلق شديد، على الرغم من انها كانت تكبره بخمس عشرة سنة تقريبا، فعرضت عليه الزواج منها فقبل. والذي يبدو ان هذا الزواج لم يضمن له حاجاته المادية فحسب. بل حمل اليه الارتياح من نواح اخرى ايضا. ولقد ولد لمحمد من خديجة اربع بنات، وصبيان لم يلبثا ان توفيا في سن الطفولة. وليس من شك في انه انصرف بعيد زواجه الى تحقيق مشروعات زوجه التجارية في حماسة وعزم، كما لم ينكر في مراحل حياته التالية، انه كان تاجرا. وكان مولعا في حديثه المجازي بالصور والاستعارات التجارية) [8] واعتقد ان هذا علام خطير جاء به بركلمان في سياق فقرة تتحدث عن زواج الرسول من الصديقة خديجة الكبرى (عليها السلام) وعن رحلته التجارية في بضاعة للسيدة خديجة ليصور الرسول الاكرم بالتاجر ومارسالته السماوية الا تجارة مادية والدليل احاديثه المجازية.

ويمضي بروكلمان في محاولته تفنيد الهية الشريعة الاسلامية وسماويتها فيقول (ولكنه على مايظهر اعترف في السنوات الاولى من بعثته بالهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله. ولقد اشار اليهن في احدى الايات الموحاة اليه بقوله (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن ترضى). اما بعد ذلك حين قوي شعور الني بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله، وجاءت السورة الثالثة والخمسين وفيها انكار لان تكون الالهة الثلاث بنات الله. ولم يستطع التقليد المتاخر ان يعتبر ذلك التسليم الا تحولا اغرى به الشيطان، ولذلك ارجئت حوادثه الى اشد اوقات النبي ضيقا في مكة، ثم مالبث ان انكره وتبرأ منه في اليوم التالي) [9]، وقد يقول قائل انك هنا تحاجج بكتاب عنوانه تاريخي ولابد من ذكر هذه الاحداث، والجواب على هذا التساؤل هو ان بركلمان لا يذكر حوادث تاريخية فيما اقتبسناه، بل هي فقرات تفند وتحطم العقيدة فهو يتكلم صلب العقيدة ويضعها في اطار تاريخي، وكأنه يسرد واقعة وليس تفنيدا لعقيدة، ورسالة سماوية، وما محمد الا شخصا قد هيأ له انه يستمع الى الوحي جبرئيل حيث نقرأ (ولكن بينما كان بعض معاصري النبي، كأمية بن ابي الصلت شاعر الطائف، وهي بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل في تأملاته حول خلاصه الروحي، ليالي، ليالي بطولها في غار حراء، قرب مكة. لقد تحقق عنده ان عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة. فارغة، فكان يضج في اعماق نفسه هذا السؤال: لماذا يمدهم الله في ظلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى، اخر الامر، للشعوب الاخرى بواسطة انبيائه؟ وهكذا نضجت في نفسه الفكرة انه مدعو الى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطري حال بينه وبين اعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبدد شكوكه ألا بعد أن خضع لأحدى الخبرات الخارقة في غار حراء. ذلك بأن طائفا تجلى له هناك يوما، هو الملك جبريل، على ماتمثله محمد في ما بعد، فاوحى اليه ان الله قد اختاره لهداية الامة. وامنت زوجه، في الحال، برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من اخر شكوكه بعد ان تكررت الحالات التي ناداه فيها الصوت الالهي وتكاثرت. ولم تكد هذه الحالات تنقضي حتى اعلن ماظن انه قد سمعه، كوحي من عند الله) [1. ]. في هذا الكتاب يلاحظ القاريء العادي فضلا عن الباحث بأنه يمثل في متنه المنظومة الدينية – الثقافية – السياسية، وهذا مادرج عليه المستشرقون في ابحاثهم والسياسيون في تنفيذهم (لأجندتهم) وهذا يبين (ان السياسي والكاتب لا يستطيع ان يتجرد عن تراكماته الثقافية وهو ما يحصل للمستشرقين في دراستهم لنا، والامر الاخر هو الايمان بأن الدين محرك اساس في السياسة الدولية خصوصا لامريكا) [11] وامامنا نموذج اخر يبين تلازم الثقافة مع العقيدة وهو المستشرق نيكلسون الذي ألف كتابا بعنوان (تاريخ الادب العباسي)، والحقيقة وقبل ان نسترسل مع نيكلسون اقول (أن المستشرقين اهتموا بالغا بدراسة الادب العربي، لا لدراسة انماطه الفنية، بل لدراسة التاريخ العربي من خلاله، وعلى وجه الخصوص دراسة العقائد التي وجدت في العصور الاولى في التاريخ الاسلامي، وكذلك دراسة الوضع الاجتماعي والحالة السياسية في ذلك الوقت ليبني عليها موقفا فكريا، ومن ثم سياسيا) [12]. وعليه فان رينولد نيكلسون يبدأ كتابه (وفي مدخل كتابه، في اول سطر نجد هذا القول (ان لاعتقاد المسلمين في ظهور مسيح منقذ خرق على تاريخهم الديني والسياسي، فلا عجب أن ينغمر الاف الناس المتذمرين تمام التذمر من الحياة كما في الفترة الشقية من حكم الامويين في احلام <زمان طيب مقبل > توقعوه مطابقا لنهاية القرن الاول للهجرة، وطافت التنبؤات الغامضة والاقوال المنسوبة الى محمد نفسه ونبؤات الحرب والخلاص جائية ذاهبة هنا وهناك، وعكف الناس على كتب الغيبيات وتساءلوا ما اذا لم تكن فترة التشويش والهرج التي تسبق –كما هو معلوم – ظهور المهدي قد بدأت فعلا) طبعا هو يعرف ان المسلمين وخصوصا الشيعة يعتقدون بظهور الامام المهدي، وان السيد المسيح سيصلي خلفه اعترافا بامامته، طبعا هو استخدم مفردة (مسيح) بدون الف ولام حتى لايقال انه يقصد المسيح لكن مجرد انه ذكرها اراد ان يهدم شيئا ويبني شيئا اخر، ثم انه يعزو استمرارية الظلم وعدم التغيير السياسي الى انتظار الناس الى الفرج دون فعل شيء، اي ان المسلمين شعب سلبي لايبادر بالقيام بعمل اي امر ضروري)، [13] ثم ينتقل الى التاريخ ويصل الى حركة الشيعة قبل الاطاحة بالحكم الاموي وكذلك حركة العباسيين التي ترمي الاستئثار بالسلطة قبل ان تستولي عليها، وذلك باستمالة الشيعة الى حركتهم ومن ثم الانقلاب عليهم حيث يقول (بينما كان دعاة الشيعة مشغولين بصورة فعالة في كسب التأييد لحزبهم الذي في علي وذريته، كما رأينا، الخلفاء الشرعيين الوحيدين لمحمد (ص) فان فرعا اخر من النبي (ص)- وهم العباسيين – دخل الميدان وهو يضمر قلب اعمال العلويين لصالحه، وقد ورثوا من جدهم الاعلى، العباس عم النبي (ص)، صفات الحذر والظهور بمظهرين والحكمة الدنيوية، وهي الصفات التي تضمن النجاح في التامر السياسي) [14] كذلك ان نكلسون كان لابد له وهو يتناول الادب العباسي والتاريخ السياسي، ان يدرس العقائد التي او الفرق التي وجدت بعد استلام العباسيين للحكم بعد ان قضى على حكومة بني امية ففي الفصل الثالث الذي اسماه (السنة والزندقة والتصوف) فانه درس فيه (المعتزلة) وافكارهم، وخصومهم، وكذلك نهايتهم وكيف (حولت اسلحتهم المنطقية والديالكتيكية ضدهم بنجاح ظافر) [15] لكنه يقول ان افكار المعتزلة ومبادئهم قد (مهدت الطريق لحركات حرة اخرى كحركة اخوان الصفا التي حولت ان توفق بين السلطة والعقل وبناء نظام عام لفلسفة دينية). [16]وكزميله سعى نكلسن الى ان يجعل كل فعل تقوم بها اي فرقة اسلامية مهما كان النظر اليها من قبل الشريعة نفسها فانه سعى ان يجعلها مستوحاة من تعاليم المسيحية، هنا يقتبس نكلسن عن دي غويه مايلي (اعتقد قبل كل شيء ان من الصواب التاكيد على ان المباديء الفلسفية للاسماعيلية متضمنة برمتها في رسائل اخوان الصفا ؛ وهذا مايفسر الاغراء الخارق الذي مارسه المبدأ بين صفوف الجديين من الرجال وباضافتها عقيدة (الامام المستور) الذي يجب ان يظهر يوما ما ليملأ الارض عدلا <كما ملئت جورا> حققت انصهار كافة المباديء المثالية للمسيحية والافلاطونية) [17]اما عن التصوف يقول نكلسن (لقد تتبعنا تاريخ التصوف في الاسلام من حركة التنسك في القرن الاول، تلك التي انبثقت معها الاجتياز الى خارج نطاق التاثير الاسلامي وتدخل طريقا غريبا لم يحلم به النبي) [18] بطبيعة الحال هو يبغي من هذه الفقرة نتيجة مؤداها ان التصوف ليس مبدئا محض اسلاميا وانما دخلت عليه المؤثرات الخارجية من الاديان الاخرى او كما ينقل عن فون كريمر الى تطفل عنصر اجنبي غير اسلامي، [19] ويلخص نكلسن مايراه البروفسور براون عن الصوفية مايلي، أ-التصوف مدين بوحيه الى الفلسفة الهندية ولاسيما الفيدانتا. [2. ]

ب-ان اكثر الافكار المميزة للصوفية ذات اصل فارسي. [21]

ج-ان هذه الافكار مستنبطة من الافلاطونية الجديدة [22].

وفي الصفحات التالية يحاول نكلسن ان يبين انه لايؤمن بان التصوف من هذه الاصول، لكنه يخلص الى النتيجة ذاتها وقوله هو (ليس من شك في ان اصل التصوف ونموه في الاسلام يعتمد في النهاية كما في سائر الاديان على اسباب وشروط عامة وليس على ظروف خارجية، فمثلا ان الفوضى السياسية في العصر الاموي، واتجاه الشك لصدر الدولة العباسية ولاسيما المراسيم الجافة للفقه الاسلامي لم تخفق في اثارة حركات مضادة تجاه المسكنة والسلطة الروحانية والايمان العاطفي ؛ولكن رغم ان التصوف لم يخلقه اي دافع خارجي (وهذا اوضح من ان يحتاج الى نقاش) فان التاثيرات التي انا على وشك التحدث عنها قد اسهمت اسهاما كبيرا في جعله على ما هو عليه وتلوينه تلوينا عميقا بحيث لايسع اي دارس لتاريخ التصوف اهمالها) [23]، لم يستطع نكلسن الا ان يكون هو فعاد وقرن التصوف بمؤثرات خارجية من خلال اشارته الى ائمة هذا المذهب مثل معروف الكرخي وذلك بقوله (لقد ولد في اطراف واسط احدى مدن بلاد الرافدين العظيمة ويدلنا اسم والده (فيروز) او (فيروزان) على ان فيه دما فارسيا وكان معروف مولى لامام الشيعة عي بن موسى الرضا وقد اسلم على يده لانه نشأ مسيحيا (هكذا تقول الروايات) او ربما صابئيا) [24]، مايهمني في هذا النص فقرة "على ان فيه دما فارسيا " ان نكلسن يريد ان يحاكي المشاعر القومية، وانه يعرف ان الاسلام مبدأه الاساس هو "لافرق بين عربي واعحمي الا بالتقوى " فالتقوى والعمل الصالح هي التي ترفع من شأن الفرد في الاسلام دون لونه، او طائفته، او قوميته، وحتى ماله ووجاهته، وكم من فقير رفعه الاسلام الى درجات عليا من خلال علمه وتقواه، وكذلك يريد ان يبين ان التأثيرات الفارسية موجودة في تصوف معروف الكرخي.

اما عندما يأتي على ذكر ابو سليمان الداراني وعلى بعض من تعاليمه نجده يعلق في هامشه بالقول (من المستحيل ألا نعترف بتأثير الفلسفة الاغريقية في هذا الادراك للحقيقة كجمال) [25] ولم يشذ نكلسن عن باقي المستشرقين في هذه الخاصية فاذا عدنا الى برو كلمان نجده يقول ان الرسول الاكرم (يكثر من الاشارة الى قصص هؤلاء الانبياء، والى قصة موسى بخاصة. وليس من شك في ان معرفته بمادة الكتاب المقدس كانت سطحية الى ابعد الحدود، وحافلة بالاخطاء وقد يكون مدينا ببعض هذه الاخطاء للاساطير اليهودية التي يحفل بها القصص التلمودي، ولكنه مدين بذلك دينا اكبرللمعلمين المسيحيين الذين عرفوه بانجيل الطفولة، وحديث اهل الكهف السبعة، وحديث الاسكندر، وغيرها من الموضوعات التي تتواتر في كتب العصر الوسيط) [26]، وقد وجدنا ان بروكلمان يكتب عن تاريخ الشعوب الاسلامية تصل الى حقبة فيصل الاول في العراق مثلا وتنصيبه ملكا على العراق بعد ان احتلت بريطانيا هذا البلد في 1917م، بعد ثورة العشرين وبعد ان وجدت بريطانيا ان الحكم المباشر يكلف الميزانية البريطانية ويرهقها. وهو قد بحث من وجهة نظره طبعا كل مايتعلق بالموضوع من اصل العرب وسلالاتهم، ودويلات الغساسنة والمناذرة قبل الاسلام، الى التاريخ الاسلامي، والعقيدة الاسلامية الذي تناولها كتاريخ وكحادثة تاريخية، لا كعقيدة وهذا بطبيعة الحال ذكاء من قبله، واسلوب عالي المستوى في الطرح والاسترسال في جمله التي يظن انها لا تصرح ولا تنطق الا بالحوادث ليس الا. كذلك ان نكلسن لايستطيع الا ان يكون مستشرقا له منهجه الواضح، فهو في الحقيقة يبحث ومن المفترض في الادب العباسي وتاريخه، لكنه في الحقيقة يدرس التاريخ السياسي انذاك والعقائد الاسلامية والمؤثرات الخارجية حسب رأيه التي دخلت وساهمت في بلورة هذه العقائد، وايضا هو لم يكتف بدراسة الواقع الاسلامي المنضوي تحت السيطرة العباسية، بل بحث في واقع الحكم الاموي الذي نشأ في الاندلس بعد سقوطه في الشام، اذن لافكاك بين الثقافة والدين ولا ابتعاد او انفكاك بينهما وبين السياسة، بل كل صلب الاخر.

وفي الحقيقة ان نموذج كارل بروكلمان ورنيولد. ا. نكلسن لم يأتيا بشي جديد بخصوص البحث فواقع الامور والمنطق يقولان ان الاندكاك بين هذه المعارف شيء بديهي واقصد (الثقافة، الدين، والسياسة) وبطبيعة الحال مفردة الثقافة شاملة وجامعة لشتى المعارف والفنون [27].

ونصل الان الى صورة اندكاك الدين في السياسة والعكس هو الصحيح وخصوصا في مركز القرار الدولي واعني بها امريكا ويتمثل في الصورة كل من "بات روبنسون " و"جيري فالويل "و"فرانكلين بيل غراهام ".

اما بات رونسون وهو (من رجال الدين المسيحيين الذين استغلوا التلفزيون والذي يقدم عبر شاشته (نادي السبعمائة) ويبلغ عدد مشاهديه الى (16، 3) مليون شهريا، "وهوالمؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة (التحالف المسيحي) اكثر الحركات القاعدية نفوذا وسطوة في السياسة الامريكية المعاصرة " ويعتبر هذا المبشر الوجه البارز او قل هو واجهة التحالف المسيحي مع الحزب الجمهوري الامريكي، كذلك يملك مع زميله (فالويل) سطوة على السياسيين الامريكان). [28]

واما جيري فالويل فهو القس والمبشر الشهير او من اشهر الذين استخدموا التلفزيون وبشكل واسع جدا [29] (وهو الذي استخدم الاعلام منذ العام 1956حيث ابتدأ في الاذاعة ببث برنامجه الذي سرعان ما تحول الى برنامج تلفزيوني عنوانه (ساعة الانجيل القديم)بلغ عدد مشاهديه (5، 6) مليون مشاهد والبرنامج الثاني هو (جيري فالويل لايف) بلغ عدد مشاهديه (34) مليون مشاهد شهريا) [3. ] ويعتبر فالويل مناصرا شديدا لاسرائيل وقد انتقد بشدة موقف بيل كلنتون لانه ضغط على اسرائيل من اجل توقيع معاهدات سلام مع الفلسطينيين [31] وهو (الذي يقول في موعظة من مواضعه التلفزيونية "ان كل من يشير بأصبعه اشارة الى اليهودي، فكأنما يضع اصبعه في عين الله ولان اليهودي هو بؤبؤ الله) [32] وهو الذي يذكر ل(ميريل سايمون الذي الف كتابه الموسوم (جيري فالويل واليهود) يقول :اكدت مرارا ان وجود مجتمع يهودي عالمي مزدهر لايمكن تفسيره الا بالرجوع الى وعود ونبؤات العهد القديم بان الله سيحفظ اسرائيل الى الابد) [33]ونستمر مع فالويل رجل الدين والمبشر المسيحي في اندكاكه كرجل له صفة روحية عند الملايين او قل عشرات الملايين في السياسة واتخاذه خطا يجعل من نصرته امرا مقدسا، فهو يقول (في نفس الكتاب :الشيطان عدو الله، والله قد اختار الشعب اليهودي وباركه لانه عائلته المختارة لذلك فان الشيطان يحاب الله في الشعب اليهودي) [34]، وهذا زخم روحي بطبيعة الحال واعطاء قدسية لكل ماتقوم به اسرائيل، وكذلك اشارة الى الامريكان الساسة منهم ودافعي الضرائب على حد سواء بأن اسرائيل ورعايتها بكافة المجالات واجب له قدسية في امريكا، وان عكس ذلك محرم لا بل غير مسموح به. ويعتقد فالويل ان الله يوكل لمخلوقاته ويستعملهم كوسائل لتحقيق برنامجه لهذا الكون [35]، ولهذا يقول (انا شخصيا اشعر بمسؤلية كبيرة في تثقيف الشعب الامريكي حول اهمية دعم اسرائيل والشعب اليهودي في كل مكان، وانا ادرب الاف الدعاة والوعاظ الدينيين لحمل المسؤلية نفسها ففي كلية ليبرتي المعمدانية وفي مدارسها نتولى تعليم (6ألاف)طالب على هذه القضية) [36] وبطبيعة الحال ان هذا لايشمل مفصلا واحدا في المشهد السياسي الامريكي كالحزب الجمهوري واليمين المسيحي بل يشمل حتى قادة الحزب الديمقراطي.

اما العنصر الاخر في مشهد اندكاك الدين في السياسة الامريكية هو فرانكلين بيل غراهام وهو القس الذي يعتبر المرجعية الدينية بالنسبة الى الساسة الامريكان وخصوصا الرؤساء منهم، وهو (الذي جعله جورج دبليو بوش واعظا خاصا لوزارة الدفاع (البنتاغون)وكذلك له شخصيا) [37] وهو رجل ينظر الى الدين الاسلامي مثلا باستعلاء وعنصرية شديدة ونظرة فوقانية حتى على الله ان صح التعبير [38] فهو يقول ان الله الذي يؤمن به هوليس الله الذي يؤمن به السلمون، بطبيعة الحال ان فرانكلين غراهام قد جاء من فراغ سياسي اوديني حتى حط في اسرة الرئيس بوش، (فقد كان والده واعظا بل الواعظ الاول الخاص بالرؤساء الامريكان الجمهوريين) [39] مثل ايزنهاور ونيكسون وفورد وريغان وبوش.

اما اندكاك الساسة الامريكان في الدين فمشهده وصورته لاتقل اثارة عن المشهد والصورة في انكاك رجال الدين في السياسة، بل تفوقه اثارة، وحتى تطبيقا، وتفويضا للدين في كل حركة سياسية تروم الادارات الامريكية على المدى الزمني الكامل لعمر القارة الامريكية، والمعروفة باسم الولايات المتحدة الامريكية منذ الاكتشاف كما مر سابقا، والتأسيس، وحتى الان. ولو بدأنا بالوقت الحاضر ومن الرئيس جورج دبليو بوش الذي يقول وبنبرة استعلائية [4.] تشبه الى حد بعيد نبرة عرابه فرانكلين غراهام حيث يذكر بوش (ان الارهابيين يمقتوننا، لاننا نعبد الرب بالطريقة التي نراها مناسبة) [41] وكذلك ان بوش يعتبر نفسه رسول من الرب حيث يقول (لقد ارسلني الرب لانقاذ العالم، وان ذهاب الجيش الامريكي للعراق هو لحماية المسيح من الارهاب الاسلامي عندما ينزل الى الارض) [42] وهذا شيء فيه من الخطورة الشيء الكبير لان جورج دبليو بوش يتحدث كرسول الهي، وتارة يتحدث كظل الله في الارض، وان معتقداته واجبة التطبيق لانها في اخر المطاف تعاليم الهية [43] وكان جورج بوش قد بين عن توجهاته الدينية وبشكل عملي من خلال التعيينات في ادارته وخاصة عندما اختار جون اشكروفت كوزير للعدل وهو احد اكبر رموز التيار الكنيسي، و قد قال الوزير اشكروفت عن فلسفته الدينية والسياسية بان (لا رئيس لنا سوى المسيح، وهذا الجدار الفاصل بين الكنيسة والدولة ينبغي هدمه لانه جدار ظالم) [44] وكما تم غزو العراق بأمر الهي فان غزو امريكا اواخر القرن التاسع عشر لكوبا بزعم تخليصها من الاحتلال الاسباني كانت عملية الغزو ايضا باوامر الهية [45] ومن خلال استعراض السياسة الامريكية، وكذلك ممارسات الادارات الامريكية المتعاقبة يتبين لنا ان (الولايات المتحدة تتبنى سياسة تطويعية واستيلائية لاسياسة مشاركة، وانها سياسة تحقيق المصلحة الامريكية وليست سياسة المصالح المشتركة، ودائما الله هو القاسم المشترك في حركة الامريكان نحو تنظيمهم للعالم كما يريدون) [46] وعلى ذلك يقول احد الساسة الامريكان وعضو سابق في مجلس الشيوخ الامريكي هو البرت بفريدج (ان الله لم يعد خلال الف عام الشعوب الاوربية والشعوب الناطقة بالانكليزية كي تتامل نفسها بكسل ودون طائل حيث تسيطر الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من ادارة الشعوب البربرية والهرمة، وبدون هذه القوة ستعم العالم ثانية البربرية وقد اختار الله الشعب الامريكي دون سائر الاجناس كشعب مختار لكي يقود العالم اخيرا الى تجديد ذاته) [47] ومثله اكد المبشر البروتستانتي (جوزيا سترونغ عام 1886)بان العنصر الانكلو – سكسوني قد تم اختياره من قبل الله لتحضير العالم [48] واذا للمتتبع يجد (ومع جوزيا سترونغ المبشر تقدم الجندي والتاجر وحرثا من اجلهما الاراضي التي لم يبق سوى الاستيلاء عليها) [49]وهنا ننقل نصا في الاستشراق والتبشير عن صموئيل هنغنتون عن توكفيل يقول فيه (الدين في الولايات المتحدة.. متظافر مع عادات الامة والمشاعر الوطنية التي تستمد منه قوة غريبة وتضافر الدين والوطنية جلي في دين امريكا المدني، كتب روبرت بيلا في عقد 196. يعرف الدين المدني "هو في افضل احواله فهم حقيقي للكون، والحقيقة الدينية المجردة كما شوهدت، او غالبا ما يمكن القول كما اوحت تجربة الشعب الامريكي فالدين المدني يمكن الامريكيين من التوفيق بين سياستهم العلمانية ومجتمعهم الديني والجمع بين الله والوطن ليضيفوا القدسية الدينية على وطنيتهم، والشرعية القومية على معتقداتهم الدينية، وهكذا فهم يدمجون ما كان ولاءات متنازعة محتملة في الاخلاص لوطن موقوف دينيا) [5. ]، ونمضي مع الاستشراق والتبشير الذي بدوره يمضي مع همغنتون في تقسيمه للعناصر الاساسية للدين الامريكي كما يعبر هو والاقسام الاول "هو الفرضية المركزية :ان نظام الحكومة الامريكية يقوم على اساس ديني وينطلق على اساس ديني وينطلق من فرضية وجود كائن اعلى " [51]، واما الثاني "هو اعتقاد الامريكيين بانهم شعب الله المختار او كما عبر لنكولن من ذلك الشعب المختار تقريبا، وان امريكا هي اسرائيل الجديدة. ذات رسالة مقدسة ان تعمل الخير في العالم " [52] يعني هذا ان كل ماتقوم به امريكا هو خير وهو مشروع ايضا لانه صادر من شعب قد اختاره الله.

واما العنصر الثالث "هو سيادة الاوهام والرموز الدينية في البلاغة والطقوس والشعائر الامريكية العامة، فالرؤساء الامريكان يؤدون القسم عند استلام المنصب على الكتاب المقدس " [53] واما الرابع قيخلص هنغنتون الى "تبدأ المراسم والنشاطات الوطنية نفسها بصلاة دينية جلية وتؤدي وظائف دينية وتاريخية " وهكذا يجد المتتبع لاحوال امريكا ان الدين متداخل مع الحياة السياسية والاجتماعية [54] في هذا البلد الذي يعتبر مركز القرار السياسي الدولي اعتبارا من منتصف القرن العشرين، وايضا مركز او عصب الاقتصاد العالمي وقد شاهد العالم ان ازمة مالية ضربت امريكا اواخر 2.. 8 تأثرت بها وبشكل واسع جميع دول العالم تقريبا، غنيها وفقيرها. لم يقتصر الامر على الساسة ورجال الدين في الولايات المتحدة الامريكية، فحتى دول الامبريالية الاوربية انتجت هذا النهج وبمثال او مثالين عما انتجت لنا فرنسا مثل (لويس ماسينون)فهو مبشر، ومستشرق، وعسكري، وسياسي ودبلوماسي، ومنقب عن الاثار بنفس الوقت و بالاضافة الى انه كان في خدمة الاطماع الفرنسية والاحتلال الفرنسي للبلدان الاسلامية (وظيفة) و(فكرا) [55] وهو الرجل الذي عمل مع جورج بيكو الشريك الفرنسي في معاهدة سايكس بيكو، وهو على الجانب الفرنسي يعتبر ك(لورنس العرب) عند البريطانيين، وهو الضليع باللغات العربية والفارسية والتركية، ان من (اهم دعوات ماسينون هي دعوته الكتابة بالعامية، وان يترك الحرف العربي والبدء بالكتابة بالحرف اللاتيني، وقد اطلق دعوته بالكتابة والنطق بالعامية في مصر) [56] وهذا غير مستغرب من رجل يعمل في وزارة المستعمرات الفرنسية، وبنفس الوقت هو رئيس الجمعيات الارسالية التبشيرية، ومن الامثلة الاخرى هو المستشرق الفرنسي (ارنست رينان) الذي يدعو ان يحكم الشرق من قبل الغرب لان الشرق غير مؤهل لحكم نفسه، وايضا هو ينكر ان يكون للعرب او المسلمين علما او تراثا علميا حيث يقول ان الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بحروف عربية)وهو هنا لايختلف عن بروكلمان او نكلسن

اما على الجانب البريطاني او الانكليزي لو صح التعبير فالامر لايختلف بل يتطابق كثيرا مع نفس المنهج الذي نحن بصدده وقد مر بنا المستشرق نكلسن في دراسته لتاريخ الادب العباسي، وهناك نماذج كثيرة، لعبت دورا فكريا، وسياسيا، واستخباراتيا، ومن هذه النماذج (الميجر سن) المبشر، والجاسوس، والرحالة، والحاكم العسكري في شمال العراق، وقد وضع كتابا اسماه (رحلة متنكر الى بلاد مابين النهرين وكردستان) وقد اتخذ من رحلاته واجهة للتجسس، وتسجيل نقاط الضعف في مناطق المسلمين، وهو من اخطر وابرع الناس الذين مارسوا هذا العمل، وقد برع في تعلم اللغة الكردية حتى بز في ذلك بعض من علماء الكرد في لغتهم.

ومن النماذج الانكليزية الفعالة هو غلوب باشا او (ابو حنيك) والذي عين قائدا للجيش الاردني من عام 1939 الى 1956، ان هذا القائد العسكري لم يكتف بان يكون عسكريا فقط، بل ومن خلال اهتمامه بالمنطقة، وتجواله في الصحراء العربية، ودراساته للتاريخ الاسلامي فقد الف كتاب (امبراطورية العرب) وكذلك كتاب (حرب الصحراء)، ولألقاء اكثر على دور هذا الرجل وطريقة عمله نقرأ هذه النصوص حيث يبدأ كاتبها ب (قلت لجون جلوب باشا، قائد الجيش الاردني في مكتبه بعمان :-يقولون انك قد (استعربت).. واسلمت.. واصبح جواز سفرك اردنيا ؟!

قال وابتسامته تسبق جوابه :

-   نحن اليوم في الخامس من مارس من عام 1955وحتى هذه الدقيقة لم استعرب.. ولم اعلن اسلامي.. ولم احصل على جواز سفر اردني ! والحقيقة التي لامجال للتشكك فيها ان جلوب باشا قد عاش الاربعين سنة الاخيرة من حياته، بشخصيتين وحياتين :شخصية العربي.. المستشرق.. المسلم.. البدوي.. من شروق الشمس حتى غروبها. وشخصية البريطاني المتعصب.. البروتستانت.. الانجليكي.. من غروب الشمس حتى شروقها !) [57]، ويمضي كاتب هذه النصوص ويصل بنا الى الجيش الاردني او مايسمى الجيش العربي ومزاياه حيث يقول (الجيش العربي اشبه بالجيش الانكشاري ! فيه اليوناني والارمني والشركسي والقبلي !فمن الارمن هناك الضابط (كريم اوهان) الذي اصبح فيما بعد قائدا للامن العام في الاردن !ومن اليونانيين هناك (قولا سمرايوتي) مدير العمليات الحربية !ومن الشركس، عزت حسن، وفواز ماهر، وكلاهما وصل الى رتبة (امير لواء).. ومن الشيشان هناك (عبدالله بهاء الدين) وجماعة من الضباط الصغار.. وكذلك هناك عدد من ابناء القبائل من خارج الاردن الذين يفرون من بلادهم ويلتجأون وظيفة الى الاردن هربا من جرائم كانوا يرتكبوها او جريا وراء وظيفة يتعيشون منها وفي ايديهم رسائل (توصية) من شيوخ قبائلهم الى صديقهم (ابي حنيك) قائد الجيش الاردني الذي يعرفونه جيدا) [58] ومن المفارقات في هذا المجال ان يطلب من هكذا جيش ان يدافع عن فلسطين ويقف بوجه المنظمات الصهيونية في عام 1948(فهو الذي اعترف بكل صراحة ووضوح وفي الصفحة 96 من مذكراته انه كان (مقررا للجيش العربي في حالة دخول ارض فلسطين، ألا يخوض الحرب.. وانما لكي يحتل الجزء العربي في فلسطين ضمن الحدود المقررة للعرب بموجب قرار التقسيم عام 1947) [59] ولم يقتصر الامر على هذا القرار بل كان القرار اخطر وهو انه(عندما صدر اليه الامر من حكومة فلسطين بالانسحاب من ارض فلسطين قبل نهاية الانتداب البريطاني وجلاء الانكليز، لم يأخذ مراكز للجيش في اقرب نقطة حدود.. على نهر الاردن مثلا.. وانما حمل (جيشه) ومضى الى قلب الاردن.. الى مابعد الحدود، والسلط، وعمان.. الى معسكر (الزرقاء)، على مسافة ساعتين من حدود النهر !..) [6. ]، ان اي فرد متخصص ام غير متخصص في الامور العسكرية يعرف انما الجيش هو للدفاع عن البلد " اي بلد " هو على الحدود وحتى في بعض الاحيان خارجها وليس داخل العمق، وكأنه يدعو الخصم للتقدم. ويمضي كاتب النصوص بالقول (وما من مرة وقع نظري فيها على سيارة (جلوب) الا ورأيت كتاب (اعمدة الحكمة السبعة)، للمستشرق لورنس، بجانبه. فاذا ما سأله احدهم عن الكتاب وقصته، اجاب جلوب :والله أنا احب المطالعة.. واحب بصورة خاصة هذا الكتاب !

فقد كان جلوب – في قرارة نفسه – يتمنى ان يلعب الدور الكبير الذي لعبه من قبله ت. ي. لورنس، صاحب الاعمدة السبعة) [61] ولااعرف هل الدور الذي لعبه جلوب في حرب فلسطين ومساهمته الفعالة في استيلاء المنظمات الصهيونية على هذه الارض هو دور اقل شانا من دور لورنس العرب، ومن هو لورنس العرب؟.

توماس ادوارد لورنس او لورنس العرب المولود عام 1888العسكري والجاسوس، والرحالة، والمنقب عن الاثار، والمتخصص بالقلاع الصليبية في الشرق، وخريج مدرسة الارسالية الامريكية في جبيل لبنان، وضابط استخبارات القوة الجوية البريطانية، وفوق كل هذا وذاك هو عراب اسرة الشريف حسين في الحجاز، وبالخصوص عراب الملك فيصل الاول ومربيه السياسي لو صح التعبير وقد كان له الدور الكبير في مناهضة الشريف حسين للدولة العثماني حتي قيل (انه وحده هو الذي قضى على الامبراطورية ا العثمانية) [62] ولكي نتعرف على ان لورنس وغيره من رجال بريطانيا لايعملون الا لها نقرأ هذا النص عنه (لو لم اكن مجنونا لاستطعت ان اتبين، انه اذا ربحنا الحرب، فلن تكون الوعود التي بذلناها للعرب لم تكن الا حبرا على ورق) [63]، انه هنا ينفي علمه بالخطط البريطانية، لكن الظروف والممارسات هي التي تحكم لا اقوال لورنس العرب، وهو من الشخصيات التي اثرت في الملك فيصل الاول وهم كثر واخذت خطواته تسير على هداهم [64](وكان اول من تاثر بهم هو والده الشريف حسين امير مكة، او كما يحب ان يطلق عليه قائد الثورة العربية الكبرى التي قامت بتحريض من بريطانيا واداتها لورنس وقد كان ( عراب الثورة العربية الكبرى كما هو عراب مراسلات حسين – مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر وكلا الدلالتين تمثلان هزيمة في ذهنية العربي انذاك تواصلت اثارها الى عقد او اكثر مابعد القرن العشرين) [65]، وعن رأي لورنس العرب في نهاية المطاف بالشريف حسين وبعد ان ارادت بريطانيا ان تعقد معاهدة معه، فهي تشعر بانها صاحبة فضل عليه ويجب ان يرد هذا الفضل حيث توجت فيصل ملكا على العراق، وعبد الله اميرا على شرق الاردن، فكلفت عراب الاسرة لورنس الى الشريف حسين مفاوضا :وبعد عدة مماطلات عدة ابرق لورنس الى وزير الخارجية كرزن بقوله (اجتمعت بالملك عدة مرات وقد اعلن لي عن تخليه عن موقفه المبني على اساس رسائل مكماهون. ولكنه يثير افكارا عظيمة جديدة انه عجوز احمق لاحدود لغروره واطماعه ولكنه يبدي الكثير من التعاون ويؤكد انه صديق مخلص لنا) [66] وفي هذه المفاوضات مارس لورنس ضغطا نفسيا وتهديدا مكشوفا للشريف حسين الذي وضع كل ثقته بهم، واضعا مصلحة بريطانيا فوق كل الاعتبارات.

المس بيل: هي من اشهر النساء التي عملن في السياسة في العراق، والمنطقة العربية عموما، بل هي الاشهر، هي بصريح العبارة صانعة الملك وعرشه، اسمها الكامل (غيرترود بيل) وشهرتها المس بيل، الرحالة التي جابت الصحراء العربية في نجد والعراق وسوريا، خريجة جامعة اكسفورد، اتقنت اللغة العربية من خلال شغفها بالترحال في الوطن العربي [67]، وهي (من الشخصيات المهمة التي لعبت دورا مهما في حياة فيصل الاول، وبالاخص في اختياره ملكا على عرش العراق وسيطرتها على مجريات الامور في هذه البلاد الى درجة انها لقبت بملكة العراق بين الاوساط السياسية والشعبية، ولها خاصية اخرى انها تشترك مع لورنس العرب بعدة مشتركات، منخا الجاسوسية واتقان رسم الخرائط والبحث والتنقيب عن الاثار خصوصا في الشرق، واتقانها اللغة العربية، وبعض اللغات الشرقية، وعملها مع فيصل الاول كأمير وكملك، لكن المس بيل كان عملها ابرز مع فيصل الملك على العراق حيث مارست دور المتوج للملك، ومارست دور الملك، ودور المراقب على الملك) [68]، والحقيقة انها في سنينها الاخيرة مارست دورا يوحي انها معجبة بالملك فيصل الاول كأنسان مستغلة فراغه العاطفي نتيجة لابتعاد اسرته عنه، ان المس بيل لاتختلف عن اقرانها من الساسة البريطانيين في ممارساتهم لادوارهم خدمة للمصلحة البريطانية، الاان خاصيتها كأمرأة اعطاها زخما اعلى من غيرها، في زمن كان فيه رؤية امرأة في السوق من المحرمات، واذا بالمس بيل او الخاتون تتجول في بغداد ممتطية حصانها وهي تزور هذا الشيخ العشائري، او الوجيه وهلم جرا. ان المس بيل هي من ابرز المنادين بتقسيم العارقيين الى طائفة حاكمة بعينها، وطائفة محكومة، كما انها تغذي بعض الاراء التي تساعد على الفرقة مثل (يتركز الشيعة، كما ذكرنا سلفا في وسط وجنوب العراق، ومن مدنهم المشهورة المقدسة كربلاء والنجف وسامراء والكاظمين وان النجف وكربلاء (والنجف على وجه الخصوص) كانتا في جميع الاوقات مركزي التعصب الديني ذي الصبغة الفارسية، وكذلك مركزي العداء للسلطة القائمة، وستبقيان كذلك مهما كان نوع الحكومة التي تحكم بقية العراق) [69] والحقيقة ان كل مفردة من هذه المفردات تحتاج الى مناقشة وتفنيد لكن لايسع المجال الى ذلك.

وعلينا ان لاننسى الساسة البريطانيين صناع القرار في لندن، كلويد جورج رئيس الوزراء الذي صدر في عهده وعد بلفور عام 1917والذي يقول (نشأت في مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود اكثر من تاريخ بلادي)وهو الذي تربى على يد خاله الواعظ في احدى الكنائس المعمدانية المعروفة بتعصبها وايمانها الشديد بضرورة عودة اليهود الى ارض فلسطين. وفي الختام استعير فقرة من كتابي الاستشراق والتبشير فأقول "نستخلص من هذا ان كل الوقائع السياسية او اغلبها لايمكن الا ان ترتبط بالمنابع والاصول الثقافية، والتي اساسها على الاغلب ديني يوظف لاجل السياسة، وانا هنا وان ذكرت جانبا سياسيا بحتا فمن اجل ان اؤكد ان الوقائع هي وليدة العقائد والثقافات، ولاانفصال بين الحاكم والمفكر وان ارادوا التجرد، وان زعما الاستقلالية، وان قال المفكر انما يكتب لاجل البحث المجرد، لكنه ينطلق من اسسه التراكمية، وكذلك الحاكم لا يستطيع التجرد عن تراكماته الثقافية وان انتمى الى حركة او حزب يدعي العلمانية، اذ نجد ان الاسس التي بنت المجتمع لا يمكن الانفصال او الانفصام عنها مهما حاول ان يوحي بذلك......

للكلام بقية.

 ***

رائد عبد الحسين السوداني

..............................

هوامش

1- رائد السوداني: الاستشراق والتبشير تاملات في دورهما السياسي ص22

2- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص24

3- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه نقلا عن عادل المعلم في مقدمة في الاصولية المسيحية الامريكية ص25

4- المصدر السابق نفسه ص25

5-كارل بركلمان: تاريخ الشعوب الاسلامية ص 8

6- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه

7- رائد السوداني: الاستشراق والتبشير ص 125

8- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه ص33

9- كارل بركلمان: المصدر السابق نفسه ص34 و35

10- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه ص36

11- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص11

12- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص49

13- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص49و50

14- رنيولد 0ا0نكلسن: تاريخ الادب العباسي ص 17

15- رنيولد0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص170

16- رنيولد0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص170

17- رنييولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص 172

18- رنيولد0ا0 نكلسن: المصدر السابق نفسه ص186

19- رنيولد0ا0 نكلسن: المصدر السابق نفسه ص186

20- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص187

21- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص 187

22- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص187

23- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص189

24- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص 189

25- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص190

26- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه ص 39

27- ان الخلاف يقع في مقاصد البحث ليس في تبويبه0

28- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص73

29- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص72

30- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص72

31- : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه نقلا عن صبحي حديدي: بات روبنسون ومراة تنظير اليمين الامريكي المعاصر

32-- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 72

33- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص74

34 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص74

35 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه عن عزمي خميس في نبؤات العهد القديم في صلب الثقافة الامريكية

36 : رائد السوداني: الاحتلال الامريكي للعراق 2002 مقدمات واسباب ص 247

37 : رائد السوداني المصدر السابق نفسه ص 246

38 : رائد السوداني المصدر السابق نفسه ص247

39 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 248

40 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 248

41 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 248

42 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص248

43 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص246

44 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص175

45 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص176

46 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسهص176 نقلا عن كلود جوليان في الامبراطورية الامريكية

47 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 175

48 : رائد السوداني المصدر السابق نفسه ص175

49 : رائد السوداني: الاستشراق والتبشير تاملات في دورهما السياسي ص92 نقلا عن صموئيل هنغنتون في (من نحن)

50 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص92

51 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 92

52 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 92

53 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص92

54 : رائد السوداني: الاستشراق والتبشير ص54

55 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص57

56 : ناصر الدين النشاشيبي: ماذا جرى في الشرق الاوسط ص128

57 : ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص 129

58 : ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص 144

59 : ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص144

60- ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص130

61- انتوني ناتنغ ولويل ثوماس: لورنس لغز الجزيرة العربية ص252

62- انتوني ناتنغ ولويل ثوماس: لورنس لغز الجزيرة العربية

63- رائد السوداني: حكم الازمة العراق بين الاحتلالين البريطاني والامريكي: مخطوطة

64- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه

65- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه نقلا عن علي الوردي في لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث

66- جعفر الخياط من مقدمة مذكرات المس بيل

67- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه

68- المس بيل في مذكرات المس بيل

الصفحة 4 من 5